تقديم للبحث
من المعلوم لكل من دارس كتب المتقدمين في علم نقد الرجال ألا وهو علم الجرح والتعديل أن الرواة منقسمون إلي ثلاث أقسام :
ـ قسم متفق علي الاحتجاج بهم في الرواية .
ـ قسم متفق علي عدم الاحتجاج بهم في الرواية .
ـ قسم مختلف فيهم بين النقاد ، فالبعض يجعلهم في مرتبة الاحتجاج ، والبعض الآخر يخرجهم من منزلة الاحتجاج .
ـ فالقسم الأول : هم الذين أجمع أهل العلم بالحديث علي الاحتجاج بهم ، ولم يختلفوا فيهم جرحاً وتعديلاً ، بل كلهم علي كون هؤلاء ثقات أثبات عدول ، ولم يطعن فيهم واحد ممن يعتد بقوله في الرجال ، وهؤلاء علي درجات متفاوتة من الحفظ والعلم ، ومنهم علي سبيل المثال : شعبة بن الحجاج ، وسفيان الثوري ، ومحمد بن مسلم الزهري ، ومالك بن أنس ، ومحمد بن سيرين ، وعبيد الله بن عمر العمري ، وسليمان بن مهران الأعمش ( إلا ما لم يُصرح فيه بسماع من شيخه ) ، وغيرهم بالمئات من الثقات الأثبات ، رحمهم الله تعالي ورضي عنهم .
وهؤلاء لا خلاف في كونهم حجة بين نقاد الحديث الشريف علي مر الدهور .
ـ والقسم الثاني : يشمل كل راوٍ اتفق كل المتقدمون علي ترك الاحتجاج بهم في الروايات ، وهؤلاء هم كل من نزل عن رتبة الثقة ، سواء كان ثقة لا يحتمل التفرد ، أو شيخ من أهل الصدق ، أو تعرف منه وتُنكر ، أو ضعيف ، أو شديد الضعف ، أو متروك أو متهم ، أو غير هؤلاء ممن اتفق النقاد علي عدم الاحتجاج بهم إذا تفردوا أو مطلقاً .
ـ والقسم الثالث : هم الذين اختلف فيهم أهل الجرح والتعديل فيهم فمنهم من يضعهم في مرتبة الاحتجاج ، ومنهم من لا يضعهم في مرتبة الاحتجاج .
وهؤلاء كفليح بن سليمان ، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني ، ومحمد بن إسحاق ، وعكرمة مولي بن عباس رضي الله عنه ، وغيرهم من رواة الحديث الشريف ،
وهؤلاء وإن كان يتم حسم أمر الاحتجاج بهم عن طريق جمع مروياتهم والنظر فيها ، إلا أن الشاهد هاهنا أن النقاد المتقدمون رحمهم الله تعالي ظهر لهم منهم وخفي عليهم ، كل ناقد علي قدر ما بلغه من مروياتهم ، ولذا اختلفوا في الحكم عليهم جرحاً وتعديلاً .
والقسم الثالث هذا هو الذي أخرج لعالم الحديث هذه التقسيمة المشهورة والتي قسموا بها أهل النقد إلي ثلاث مراتب :
1) ـ متشددين متعنتين : ومنهم يحيي بن سعيد القطان ، ويحيي بن معين ، وأبو حاتم الرازي ، والنسائى ، والجوزجاني ، والعقيلي ، وابن حبان .
2) ـ متوسطين : ومنهم أحمد ، والبخاري ، ومسلم .
3) ـ متساهلين : ومنهم العجلي ، وابن سعد ( ومنهم من يصنف ابن حبان من المتساهلين أيضاً ) .
وهذه القسمة المذكورة إنما بُنِيَت علي الاستقراء ممن قررها ودونها .
وبعدها صارت هذه القسمة قاعدة حديثية مدونة في كتب المشتغلين بالحديث ، ويتعاطاها مدعو العلم علي أنها من التراث الذي تركه السلف الصالح !!
والسلف الصالح الذين هم أهل الحديث المتقدمون _ لا غيرهم _ من هذه القواعد والتقسيمات براء !!
وهذه القسمة المذكورة فيها نظر شديد عندي ، وسوف يظهر خلاف هذا في المبحث القادم إن شاء الله .
نماذج من أقوال المتأخرين حول هذه القسمة
في هذا المبحث القصير سوف أقوم بإيراد عدد من أقوال أهل العلم بالحديث من المتأخرين ، والتي يستدلون بها علي أن هذا الناقد أو ذاك ينتمي إلي هذه الطائفة أو تلك من حيث التشدد والتوسط والتساهل في نقد الرجال .
قال صاحب فتح المغيث ج:3 ص:358 :
وقد قسم الذهبي من تكلم في الرجال أقساماً ،
_ فقسم تكلموا في سائر الرواة كابن معين وأبي حاتم ،
_ وقسم تكلموا في كثير من الرواة كمالك وشعبة ،
_ وقسم تكلموا في الرجل بعد الرجل كابن عيينة والشافعي .
قال :
وهم الكل على ثلاثة أقسام أيضاً :
_ قسم منهم متعنت في التوثيق متثبت في التعديل يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث ، فهذا إذا وثق شخصاً فعض على قوله بنواجذك وتمسك بتوثيقه ،
وإذا ضعف رجال فانظر هل وافقه غيره على تضعيفه فإن وافقه ولم يوثق ذاك الرجل أحد من الحذاق فهو ضعيف ، وإن وثقه أحد فهذا هو الذي قالوا لا يقبل فيه الجرح إلا مفسراً ( انتهي مختصراً ) .
أقول :
وهنا كما هو واضح فإن الذهبي رحمه الله يصف نوعاً من نقاد رواة الحديث الشريف بالتعنت ، وينصح كل طالب لهذا العلم بأن يدع قول هذا المتعنت إن لم يوافقه عليه غيره من الذين سيصفهم بعد ذلك بأنهم من المعتدلين .
وأيسر ما يُرَدُ به كلام الذهبي رحمه الله تعالي أن يسأله مخالفه : هل كل نقد من ناقد هو عندك في قسم المتشددين ولم يوافقه فيه غيره ممن تسميهم متوسطين أو متساهلين لابد وأن يكون هذا المتشدد عندك قد أخطأ أو تعنت فيه ، أم يُحتمل العكس ؟؟
والشاهد هاهنا هو ثبوت قسمة النقاد المتقدمين إلي متشددين ومتوسطين ومتساهلين عند المتأخرين .
وقال صاحب تحفة الأحوذي ج2/ص141
285 ـ قوله هذا حديث غريب تفرد به كامل أبو العلاء ، ولم يحكم عليه الترمذي بشيء من الصحة والضعف ، ورواه الحاكم وصححه ، وسكت عنه أبو داود ، وقال المنذري في تلخيص السنن : وأخرجه الترمذي وبن ماجه ونقل قول الترمذي هذا حديث غريب إلخ ، ثم قال : وكامل هو أبو العلاء ويقال أبو عبيد الله كامل بن العلاء التميمي السعدي الكوفي وثقه يحيى بن معين وتكلم فيه غيره ، انتهى كلام المنذري .
قلت وقال بن عدي لم أر للمتقدمين فيه كلاماً وفي بعض رواياته أشياء أنكرتها ومع هذا أرجو أنه لا بأس به ، وقال النسائي ليس بالقوي ، وقال مرة ليس به بأس .
وقال ابن حبان : كان ممن يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل كذا في الميزان وغيره من كتب الرجال .
فقول النسائي ليس بالقوي جرح مبهم ثم هو معارض بقوله ليس به بأس .
وأما قول ابن حبان كان ممن يقلب الأسانيد إلخ غير قادح فإنه متعنت ومسرف كما تقرر في مقره فحديثه هذا إن لم يكن صحيحاً فلا ينزل عن درجة الحسن والله تعالى أعلم .
أقول:
أما قوله : قول النسائي ليس بالقوي جرح مبهم ثم هو معارض بقوله ليس به بأس ، فليس بالقوي ليست كلمة جرح مبهم كما قال ، وإنما تعني عند من اهتم بدراسة كتب المتقدمين وعلم أنهم لا يطلقون الأحكام خبط عشواء ، هذه الكلمة تعني أن هذا الراوي لا يحتج بحديثه الذي لا يتابع عليه من الثقات وأن له أخطاء عدها عليه هذا الناقد الذي وصفه بهذا الوصف ، وقوله : ليس به بأس هو نفس المعني تماماً ، ومعناه أن هذا الراوي يكتب حديثه ولا يُطرح ، أما الاحتجاج به فلا .
ولمن أراد التوسع قليلاً في هذه النقطة فليرجع إلي بحثي ( الحديث الحسن بين الحد والحجية ) وهو موجود بخزانة الكتب والأبحاث في هذا الملتقي الطيب .
وأما قوله :
وأما قول ابن حبان كان ممن يقلب الأسانيد إلخ ، غير قادح فإنه متعنت ومسرف كما تقرر في مقره فحديثه هذا إن لم يكن صحيحاً فلا ينزل عن درجة الحسن والله تعالى أعلم .
فإن كان هذا ليس جرحاً مفسراً ، فما هو الجرح المفسر إذن ؟؟
وناقد كابن حبان جمع حديث هذا الراوي وقارنه بحديث غيره من الرواة الثقات ، ثم حكم عليه بأنه يقلب الأسانيد ، فهل يُعدُ هذا تشدداً ؟؟
ونسأل : هل حكم عليه ابن حبان رحمه الله تعالي هذا الحكم بأنه يقلب الأسانيد لأن اسم هذا الراوي لا يعجبه مثلاً ؟؟
والشاهد هاهنا هو ثبوت قسمة النقاد المتقدمين إلي متشددين ومتوسطين ومتساهلين عند المتأخرين .
وقال أيضاً في تحفة الأحوذي ج1/ص405 :
أن قول أحمد في رجل روى مناكير لا يستلزم ضعفه ، فقد قال في محمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي في حديثه شيء يروي أحاديث مناكير ، وقد احتج به الجماعة ، وكذا قال في بريد بن عبد الله بن أبي بردة : روى مناكير ، وقد احتج به الأئمة كلهم كذا في مقدمة فتح الباري .
وأما قول يحيى القطان ترك حديثه بآخره فغير قادح فإنه متعنت جداً في الرجال كما صرح به الذهبي في الميزان في ترجمة سفيان بن عيينة .
وقال الحافظ الزيلعي في نصب الراية ص : 437 ج1 في توثيق معاوية بن صالح : احتج به مسلم في صحيحه وكون يحيى بن سعيد لا يرضاه غير قادح ، فإن يحيى شرطه شديد في الرجال . انتهى .
أما قول أبي حاتم لا يحتج به من غير بيان السبب فغير قادح أيضاً ، قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية في توثيق معاوية بن صالح : وقول أبي حاتم لا يحتج به غير قادح فإنه لم يذكر السبب ، وقد تكررت هذه اللفظة منه في رجال كثيرين من أصحاب الصحيح الثقات الأثبات من غير بيان السبب كخالد الحذاء وغيره . انتهى كلام الزيلعي .
وأما قول النسائي ليس بالقوي فغير قادح أيضاً فإنه مجمل مع أنه متعنت وتعنته مشهور ، فالحق أن أسامة بن زيد الليثي ثقة صالح للاحتجاج وزيادته المذكورة مقبولة كما صرح به الحافظ الحازمي .
أقول :
والحاصل هاهنا من غير حتي أن ننظر لإسم هذا الراوي أن أحمد والنسائي وأبو حاتم ويحيي بن سعيد القطان تكلموا فيه ، والذي رد علي هؤلاء الجبال الأفذاذ هم الذهبي والزيلعي والحازمي .
أليس من العجيب أن يدخل أحمد بن حنبل في زمرة المتشددين هؤلاء ويصف هذا الراوي بأن له مناكير ؟؟
والشاهد هاهنا هو ثبوت قسمة النقاد المتقدمين إلي متشددين ومتوسطين ومتساهلين عند المتأخرين .
الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم للذهبي ج1/ص 112 :
45 ـ عباد بن عباد المهلبي وثقوه وحديثه في الكتب وقال أبو حاتم : لا يحتج به ، قلت : أبو حاتم متعنت في الرجال .
أقول :
والشاهد هاهنا هو ثبوت قسمة النقاد المتقدمين إلي متشددين ومتوسطين ومتساهلين عند المتأخرين .
سير أعلام النبلاء ج13/ص260 :
إذا وثق أبو حاتم رجلاً فتمسك بقوله ، فإنه لا يوثق إلا رجلاً صحيح الحديث ، وإذا لين رجلاً أو قال فيه لا يحتج به فتوقف حتى ترى ما قال غيره فيه ، فإن وثقه أحد فلا تبن على تجريح أبي حاتم ، فإنه متعنت في الرجال ، قد قال في طائفة من رجال الصحاح ليس بحجة ليس بقوي أو نحو ذلك .
أقول :
( فإن وثقه أحد فلا تبن على تجريح أبي حاتم ، فإنه متعنت في الرجال ) ، هكذا بكل يسر ؟؟؟!!
والشاهد هاهنا هو ثبوت قسمة النقاد المتقدمين إلي متشددين ومتوسطين ومتساهلين عند المتأخرين .
سير أعلام النبلاء ج15/ص18
وابن جوصا إمام حافظ له غلط كغيره في الإسناد لا في المتن وما يضعفه بمثل ذلك إلا متعنت .
أقول :
والشاهد هاهنا هو ثبوت قسمة النقاد المتقدمين إلي متشددين ومتوسطين ومتساهلين عند المتأخرين .
فهذه الشواهد ومئات غيرها في كتب المتأخرين لا تدع مجالاً للشك أن المتأخرين عامتهم علي هذه القسمة .
نظرة في أقوال نقاد الحديث
في هذا المبحث سنقوم باستعراض نماذج من أقوال أهل النقد في عدد من الرجال جرحاً وتعديلاً ونربط بين التقسيمة السابقة الذكر وبين تلك الأقوال .
ـ محمد بن إسحاق بن يسار:
ـ أحوال الرجال للجوزجاني ج1/ص136 :
230 ـ محمد بن إسحاق : الناس يشتهون حديثه وكان يرمى بغير نوع من البدع .
أقول :
فالجوزجاني عندهم متشدد ، فمن المنطقي أن يتكلم في من يستاهل النقد ومن لا يستاهل !!!
ـ الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ج1/ص152 :
68 ـ محمد بن إسحاق : حدثنا عبد الرحمن نا أبى إبراهيم بن المنذر الحزامى وإبراهيم بن مهدى قالا : سمعنا إسماعيل بن علية قال : سمعت شعبة يقول : محمد بن إسحاق صدوق في الحديث ،
حدثنا عبد الرحمن نا أبى نا عبيد بن يعيش قال : سمعت يونس بن بكير يذكر عن شعبة قال : محمد بن إسحاق أمير المحدثين .
أقول :
لاحظ أن الإسناد لشعبة صحيح .
حدثنا عبد الرحمن نا أبى نا مجاهد بن موسى نا يحيى بن آدم نا أبو شهاب قال : قال لي شعبة : عليك بمحمد بن إسحاق واكتم على عند البصريين .
حدثنا عبد الرحمن نا محمد بن محمد بن رجاء بن السندي ثنا إسحاق بن إبراهيم يعنى بن راهويه نا يحيى بن آدم قال : نا أبو شهاب الحناط قال : قال لي شعبة : عليك بمحمد بن إسحاق والحجاج بن أرطاة واكتم على في البصريين في هشام بن حسان وخالد الحذاء .
حدثنا عبد الرحمن نا أبى قال سمعت النفيلي يقول عن عبد الله قال : قال شعبة : إن كان أحد يستأهل أن يسود في الحديث فمحمد بن إسحاق .
أقول :
وشعبة هذا هو رأس المتشددين عند أصحاب هذه القسمة التي عليها جمهور المتأخرين ، وهاهوذا شعبة يصف محمداً بن إسحاق بأنه أمير المؤمنين في الحديث ، وليس مجرد ثقة من الثقات !!!
فلماذا ناقض شعبة نفسه وتساهل هاهنا ؟؟ ، والتشدد سجيته وطبيعته كما يجزم جمهور المتأخرين ؟؟
نا عبد الرحمن نا صالح بن احمد نا على يعنى بن المديني قال : قلت لسفيان : كان بن إسحاق جالس فاطمة بنت المنذر ؟ فقال سفيان : أخبرني بن إسحاق أنها حدثته وأنه دخل عليها .
نا عبد الرحمن نا أبى حدثني مقاتل بن محمد الرازي عن أبى داود يعنى الطيالسي قال : نا عمر بن حبيب قال : قلت لهشام بن عروة : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ذاك كذاب .
نا عبد الرحمن قال نا إسماعيل بن أبى الحارث نا أحمد بن محمد بن حنبل عن يحيى بن سعيد يعنى القطان قال : قال هشام بن عروة : هو كان يدخل على امرأتي ؟؟!! يعنى محمد بن إسحاق كالمنكر .
أقول :
وهذا سند صحيح إلي هشام بن عروة يتهم فيه محمد بن إسحاق الذي هو أمير المؤمنين في الحديث عند شعبة بالكذب !!
وهشام بن عروة ليس من المتعنتين فيما أعلم ، وسبب اتهامه لمحمد بن إسحاق بالكذب أن محمداً يُحدِثُ عن فاطمة بنت المنذر زوج هشام بن عروة ويدعي أنه دخل عليها وسمع منها ، وهذا ثابت بالسند الصحيح الذي سبق قبل عشرة أسطر لا غير .
وبغض النظر عن ما قيل في تبرير ادعاء محمد بن إسحاق أنه سمع من فاطمة بنت المنذر والرد علي هذه التبريرات ، فلا أعلم راوٍ واحد يروي عن فاطمة بنت المنذر بسند صحيح غير هشام بن عروة !!
وفي تفرد ابن إسحاق عنها بأسانيد صحاح تُثبت ما ادعاه من أنه سمع من فاطمة بنت المنذر بقوله : حدثتني فاطمة بنت المنذر ، دليل عند من تدبر علي صحة قول هشام بن عروة ومن تبعه علي قوله .
خاصة أنها لو خرجت وحدثت في المسجد كما قيل لسمعها غير محمد بن إسحاق وهذا ما لم يحدث .
نا عبد الرحمن نا صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل نا على يعنى بن المديني قال : سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول : قلت لهشام بن عروة : إن بن إسحاق يحدث عن فاطمة بنت المنذر ؟!! ، فقال : أهو كان يصل إليها ؟!! ، فقلت ليحيى : كان محمد بن إسحاق بالكوفة وأنت بها ؟ ، قال : نعم ، قلت : تركته متعمداً ؟؟ ، قال : نعم تركته متعمداً ولم اكتب عنه حديثاً قط .
نا عبد الرحمن نا أبى قال : سمعت أبا حفص الفلاس قال : كنا عند وهب بن جرير فانصرفنا من عنده فمررنا بيحيى بن سعيد القطان فقال : أين كنتم ؟؟ ، قلنا : كنا عند وهب بن جرير يعنى يقرأ علينا كتاب المغازي عن أبيه عن بن إسحاق ، قال : تنصرفون من عنده بكذب كثير .
أقول :
فيحيي القطان رضي الله عنه هاهنا هل ترك محمد بن إسحاق لأنه أخطأ في رواية أو اثنتين أو ثلاثة ؟؟
هم يقولون : فلان متشدد يغمز الراوي بالخطأ والخطأين ، وشعبة ويحيي القطان مدرسة واحدة .
فلم اختلفوا هاهنا ؟؟
بيسر شديد لأنهم لم تكن عندهم تلك القواعد المقيتة ولا هذه التقسيمات البغيضة ، بل كان كل منهم يجتهد في الرواي قدر طاقته وعلمه وحفظه وما بلغه عنه ، فأصابوا كثيراً ، وجانبهم الصواب أحياناً ، رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين .
نا عبد الرحمن نا أبو سعيد نا بن إدريس قال : قلت لمالك بن أنس وذكر المغازي فقلت : قال بن إسحاق أنا بيطارها ، فقال : قال لك أنا بيطارها ؟؟! ، نحن نفيناه عن المدينة .
نا عبد الرحمن نا مسلم بن الحجاج النيسابوري قال : حدثني إسحاق بن راهويه قال : نا يحيى بن آدم قال : نا بن إدريس قال : كنت عن مالك بن أنس وقال له رجل : يا أبا عبد الله إنى كنت بالري عند أبى عبيد الله وثم محمد بن إسحاق فقال محمد بن إسحاق : اعرضوا على علم مالك فإنى أنا بيطاره ، فقال مالك : دجال من الدجاجلة يقول اعرضوا على علمي !!
أقول :
ومالك هاهنا رحمه الله تعالي ورضي عنه يحمل أشد الحمل علي محمد بن إسحاق ، ومالك ليس عندهم من المتعنتين !!
ومن ادعي أن قول مالك هذا غيرة من محمد بن إسحاق كما زعم بعض المتأخرين ، أو هو كلام الأقران في بعضهم ، فليأتنا بكلام مالك في أقرانه الذين عاصروه وكانوا أكثر حفظاً وعلماً من محمد بن إسحاق إن كان من الصادقين .
وإلا سنسأل بدورنا : ما الذي جعل مالك رحمه الله تعالي يختص محمد بن إسحاق بهذا النقد اللاذع من دون كل أقرانه ومن عاصروه من أهل الحديث بالمدينة ؟؟
ثنا عبد الرحمن نا أبى حدثني مقاتل بن محمد الرازي حدثنا أبو داود نا حماد بن سلمة قال : لولا الاضطرار ما حدثت عن محمد بن إسحاق .
أقول :
وحماد بن سلمة ليس من المتعنتين !!
نا عبد الرحمن قال : قرئ على العباس بن محمد الدوري قال : سئل يحيى بن معين عن محمد بن إسحاق أحب إليك أو موسى بن عبيدة ؟؟ ، فقال : محمد بن إسحاق ، محمد بن إسحاق صدوق ولكنه ليس بحجة .
نا عبد الرحمن نا محمد بن هارون الفلاس المخرمي قال سألت يحيى بن معين عن محمد بن إسحاق فقال ما أحب أن احتج به في الفرائض .
نا عبد الرحمن انا أبو بكر بن أبى خيثمة فيما كتب إلىَّ قال : سمعت يحيى بن معين وقيل له : أيما أحب إليك موسى بن عبيدة الربذي أو محمد بن إسحاق ؟ ، فقال : محمد بن إسحاق ، قال وسمعت يحيى يقول : لم يزل الناس يتقون حديث محمد بن إسحاق ، وسمعته مرة أخرى يقول : ليس بذاك هو ضعيف .
أقول :
يحيي بن معين عند أصحاب هذه التقسيمة من طبقة المتشددين ، ومع هذا لم يتشدد هاهنا ، والتشدد أن يقول مثلاً : متروك ، أو كذاب ، خاصة وأن هناك من سبقه إلي اتهام محمد بن إسحاق بالكذب ، وإنما اكتفي بقوله : ليس بذاك ، أو هو ضعيف ، أو ما أحب أن أحتج به في الفرائض .
نا عبد الرحمن قال : سمعت أبى يقول : محمد بن إسحاق ليس عندي في الحديث بالقوي ، ضعيف الحديث ، وهو أحب إلىَّ من أفلح بن سعيد ، يكتب حديثه .
نا عبد الرحمن قال : سئل أبى عن محمد بن إسحاق ؟ ، فقال : يكتب حديثه .
أقول :
وأبو حاتم المتعنت كما يصنفونه لم يتهم محمداً بن إسحاق بالكذب ، ولم يتهمه بسرقة الحديث ، بل قال : يُكتب حديثه .
أما من كذبه أو اتهمه بسرقة الحديث فهذا معناه طرح حديثه كله عنده ، ( لمزيد من التفصيل في الفرق بين الكتابة والاحتجاج والألفاظ المستخدمة في كل منهما راجع : الحديث الحسن بين الحد والحجية مبحث تحقيق معني لفظة الحسن عند المتقدمين ، ومبحث نماذج من الاصطلاحات المستخدمة عند المتقدمين ) .
فأبو حاتم الرازي هاهنا متوسط ليس بمتعنت !!
نا عبد الرحمن نا عباس بن محمد الدوري قال : سمعت أحمد بن حنبل وذكر محمد بن إسحاق فقال : أما في المغازي وأشباهه فيكتب وأما في الحلال والحرام فيحتاج إلى مثل هذا ومد يده وضم أصابعه .
نا عبد الرحمن انا على بن أبى طاهر فيما كتب إلىَّ قال : نا الأثرم قال : قلت لأبي عبد الله : ما تقول في محمد بن إسحاق ؟ ، قال : هو كثير التدليس جداً ، فكان أحسن حديثه عندي ما قال : أخبرني وسمعت .
سؤالات أبي داود ج1/ص214 :
سمعت أحمد ذكر محمد بن إسحاق فقال : كان رجلاً يشتهي الحديث فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه .
سمعت أحمد قيل له : حدث ابن إسحاق نا نافع عن ابن عمر يزكى عن العبد النصراني ، فقال : هذا أشر على ابن إسحاق .
أقول :
وأحمد بن حنبل هاهنا يتهم ابن إسحاق بسرقة الحديث ، وأحمد رحمه الله تعالي ورضي عنه من المتوسطين المعتدلين كما يصنفونه ، وقوله : هذا أشر علي ابن إسحاق فيه اتهام له .
الضعفاء والمتروكين للنسائي ج1/ص90 :
513 محمد بن إسحاق ليس بالقوي .
أقول :
والنسائي المتعنت عندهم هاهنا من المتوسطين ، لم يتهم محمداً بن إسحاق بالكذب ولا بسرقة الحديث ، وإنما قال : ليس بالقوي !!
ولو جعلنا محمداً بن إسحاق معياراً لقياس حال نقاد الحديث من حيث التعنت والتوسط والتساهل ، لرأينا خلاف ما يدعيه أصحاب هذه القسمة ، ولكان مالكاً من المتعنتين ورفيقه في هذه الطبقة هو هشام بن عروة ، وكذا يحيي بن سعيد القطان ، ومعهم الجوزجاني !!
ولصار يحيي بن معين من المعتدلين المتوسطين ، وبرفقته النسائي وأبو حاتم الرازي وأحمد بن حنبل !!!
وأحمد بن حنبل رحمه الله تعالي ورضي عنه مثلاً قد تكلم في الكثيرين من رجال الصحيح وضعفهم ، ووصف العديد منهم بأن له مناكير ، أو يروي أحاديث منكرة :
ومن هذا قول أحمد في محمد بن إبراهيم التيمي ،
وكذا قوله في بريد بن عبد الله بن أبي بردة ،
والأوزاعي من رجال الصحيح ، وقد تكلم فيه أحمد ،
وخالد بن مخلد القطواني من رجال الصحيح وقد تكلم فيه أحمد ،
وعبد الرحمان بن أبي الموالي من رجال الصحيح وقد تكلم فيه أحمد .
فكلام أحمد في هؤلاء ألا يجعله من المتعنتين ؟؟!!
فإذا بلغكم جرح أحمد لأحد رواة الحديث فقولوا : أحمد تعنته معروف ، فقد تكلم في محمد بن إبراهيم التيمي وبريد بن عبد الله بن أبي بردة ، والأوزاعي ، وخالد بن مخلد القطواني ، وعبد الرحمان بن أبي الموالي ، وغيرهم من رجال الصحيح !!!
وهكذا وبتكرار الأمر مع كل ناقد من نقاد الرجال يسقط علم الجرح والتعديل ويتهاوي !!
ويضيع علم الحديث بين عقول جهابذة المتأخرين ، الذين هم عند كل مقلد أفهم لكلام المتقدمين من غيرهم !!!
ولا تظن أن هذه الحالة _ أعني محمداً بن إسحاق _ حالة فردية لا تتكرر ، بل اختلاف أهل النقد للرجال اختلافهم أشهر من أن نؤكد وجوده ، بل ربما يختلف قول الواحد منهم في نفس الرجل علي قولين أو أكثر حسبما يظهر للناقد من حال هذا الراوي في حينه .
فوصف فلان بأنه متشدد فلا يقبل جرحه إذا لم يوافقه غيره ،
أو أن فلاناً متوسط فيقبل جرحه وتوثيقه وإن انفرد ،
أو أن فلاناً من المتساهلين فلا يُعتد بتوثيقه ،
هذا الوصف أو ذاك أمر نسبي ، وكما تعلمنا من شيوخنا الأفاضل أن هذا الناقد نفسه الذي تخلع عليه وصفاً من هذه الأوصاف حال تفقدك قوله في راوٍ بعينه ، ربما خلعت عليه ضده من الأوصاف إذا رأيت قوله في غيره !!
وإذا نظرت إلي راوٍ آخر كجابر بن يزيد الجعفي مثلاً ، ستجد أن شعبة وسفيان تساهلا جداً فيه ، وكذا وكيع !!
وستجد أن أبا حاتم توسط في جابر ، فقال : يُكتب حديثه !!
وستجد أن يحيي بن سعيد القطان والنسائي وابن حبان وابن مهدي قد تشددوا مع جابر !!
وهكذا ، ومع تكرار البحث في الرواة كقيس بن الربيع ، وداود بن فراهيج ، وواصل بن عبد الرحمان ، ومحمد بن ذكوان ، وغيرهم ستجد أن شعبة المتعنت المتشدد يتساهل !!
وإذا انتقينا مجموعة أخري من الرواة ونظرنا فيهم سنجد أن الذي تساهل أو توسط هذه المرة هو أبو حاتم الرازي مثلاً .
فإذا نظرنا إلي مجموعة ثالثة سنجد أن البخاري رحمه الله تعالي ورضي عنه يتشدد !!
وهكذا ليس هناك تصنيف ثابت لأي من نقاد الحديث الشريف من ناحية التشدد والتساهل في نقد الرواة ، بل كل منهم يحكم بما ظهر وبدا له من الراوي .
وسأتبع هذا المبحث بمبحث آخر أنقله حرفياً من رسالتي ( الحديث الحسن بين الحد والحجية ) ، وهو مبحث : ( كيف تُضعف الرواة وتُوثق ) ، وسبب إيرادي لهذا المبحث هاهنا أن يتضح للقارىء الفاضل كيف تكلم هؤلاء الأفذاذ بهذه الأحكام علي الرجال ؟؟