ملخص محاضرات المنهجية القانونية
لطلبة السنة الأولى ماستر
تخصص: قانون الأعمال
السنة الجامعية: 2017-2018
إعداد: أ. بوصيدة فيصل
3- المنهج التاريخي:
ذكرنا في المحاضرة التي قدمت في الحصة أن استخدام المنهج التاريخي في الدراسات القانونية يختلف عن الدراسات التاريخية البحتة، إذ يتم التركيز في الدراسات القانونية على الوثائق القانونية التي رافقت الإنسان في مختلف العصور، وهي وثائق معروفة ومشهورة، يبقى على الطالب أن يعرفها وأن يحصل عليها من مصادرها ومظانها، ويعرف مختلف الصيغ والترجمات التي وجدت لتلك النصوص، ويقوم بالبحث فيها عما يهمه، مع ملاحظة أن تقسيم العصور التاريخية يختلف من مرجع إلى آخر، فيجب الاطلاع على مختلف الكتب التي ألفت في مجال تاريخ النظم والمؤسسات القانونية والاجتماعية لمعرفة تلك التقسيمات، وسوف نتناول في هذه المحاضرة أحد تلك التقسيمات، وأهم ما ميز كل عصر من العصور من ناحية الوثائق القانونية:
المبحث الأول
الأنظمة القانونية القديمة
إن الإنسان من الناحية التاريخية قد عاش في البداية ما يطلق عليه حياة النشأة الأولى، التي اعتمدت مبدأ الجمع والقنص (المطلب الأول) أما المرحلة الثانية فهي ما يطلق عليه الطفرة الثانية أو حالة المجتمع القبلي، أي مجتمع القبيلة (المطلب الثاني) لتأتي بعد ذلك مرحلة الدولة، أي ظهور الدولة كشكل نهائي للمجتمعات، والذي عرف في العديد من الحضارات القديمة (المطلب الثالث).
المطلب الأول
التجمعات البدائية
حسب باحثين في علم الأنتربولوجيا الثقافية فإن مصطلح "البدائية" إذا كان يرتبط بكل ما هو دوني: شعوب لا تكتب، بسيطة، غير متمدنة، صغيرة ومعزولة، شعبية، كل الشعوب خارج المدينة الغربية، أقل مدنية، فاقدة للوثائق التاريخية، مستواها من التحصيل التكنولوجي متدن، غير حضارية وقبلية، ذات صبغة دينية تشمل كل مناحي حياتها، تشتغل بالفلاحة، تقليدية ... إلخ من النعوت، فهناك اتفاق عام بين خبراء الأنتروبولوجيا –الذين ألفوا كتابا عن- البدائية- على أن كلمة بدائية كلمة خاطئة وليست من العلم بشيء، بل تصب في إطار من العدائية المستتر أحيانا والعلني أحيانا أخرى، فلم يعد هناك أي سبب مقبول لاستمرار المصطلح، إذ أن هذا المصطلح لا يتصف بالصحة التجريبية ولا بالفائدة النظرية.
إن الإنسان عاش عصورا طويلة دون أن يترك مخلفات أو آثارا تبين للدارس كيف كان أسلوب حياته، وجل ما هو موجود يشير فقط إلى أنه كان يعيش في جماعات صغيرة في الكهوف والمغارات الجبلية وفي مناطق معزولة عن بعضها البعض.
تجدر الإشارة إلى أن دراسة حياة الشعوب لا يمكن أن تخضع للتسلسل الزمني لظهورها بصورة دقيقة، فما زالت بعض القبائل إلى اليوم في أماكن من العالم في مرتبة من البدائية تخطتها الشعوب الأخرى منذ آلاف السنين، فحسب المختصين فإن منهج البحث التاريخي ينبغي أن يعتمد على المقومات الجوهرية للمجتمعات البشرية، فإذا كان نمو المجتمعات يعتمد على "الطعام" كوسيلة للعيش فالمراحل الرئيسية تكون كالتالي: الالقتاط، والصيد، والرعي، والزراعة، وما تلاها من تجارة وصناعة، ثم الإقطاع فالرأسمالية والاشتراكية، وصولا إلى الاقتصاد الحديث.
في هذا الطور الأول من حياة البشرية اعتمد الإنسان في الحصول على قوته على القوة الجسدية بصورة شبه كلية، والذي يحصل عليه مما تنتجه الطبيعة، ووفقا لكثير من الفلاسفة والمفكرين والمؤرخين فإن هذه المرحلة تميزت بالمسالمة والتضامن، وكذلك ندرة المشاحنات والخلافات، بالإضافة إلى التمتع بكافة الحقوق، وهي مدرسة القانون الطبيعي، ومن الطبيعي أن يوجد مثل هذا الرأي، ففكرة المال لم توجد بعد، والأرض ملكية جماعية، والطعام لا يختزن، وما دام لا يوجد مال فلا يسعى أحد إلى السلطة، ومن ثم فلا ينقسم المجتمع إلى حكام ومحكومين، وإن كان هذا الأمر لا يلقى موافقة مفكرين آخرين.
المطلب الثاني
المجتمعات القبلية
إن القبيلة هي تجمع لجماعة كبيرة من الناس تجمعهم لغة وثقافة وإقليم مشترك، وتجمعهم روح التضامن، وقد عرف مجتمع القبيلة نوعا من الأنظمة القانونية الخاصة بالفصل في المنازعات، وفي بعض القبائل يوجد قضاة يتوارثون مهنة الفصل بين الأفراد، فمجتمع القبيلة كان يعرف بصورة أساسية نظام طرد الجاني ومقاطعته، فمن يخرق النظام يخرج من السلام، وينفصل عن القبيلة، ويبقى في حالة فقد سلام.
المطلب الثالث
مجتمعات الدولة
لا تتوافر معلومات دقيقة تمكن المؤرخين من تحديد على وجه اليقين أو حتى على وجه التقريب أصل نشأة المجتمع المنظم، حتى في صورة العشيرة أو القبيلة، ولذلك وجدت نظريات عديدة حول أصل نشأة المجتمع المنظم، وأصل نشأة الدولة، وبعض هذه النظريات قائم فقط على الافتراض والتخمين، بينما البعض الآخر قائم على الاستعانة بالدراسات الحديثة في علم الاجتماع حول بعض الجماعات الهمجية البدائية التي ما زالت تعيش في وقتنا الحاضر، في أستراليا وأمريكا الشمالية، ومن أهم تلك النظريات: نظرية القوة (الفقيه دوجي)، نظرية تطور الأسرة (أرسطو)، ونظرية العشيرة الطوطمية.
إن الميزة التي تميز بها مجتمع الدولة هي احتكار القوة من طرف ممثل السلطة (رئيس الدولة) عن طريق السلطات المختلفة التي يؤسسها لتدعيم حكمه، من ضباط ووزراء وجنود.
وتجدر الإشارة إلى أن ما يسمى بمجتمعات الدولة في الحقيقة هي مجتمعات سياسية تقترب من فكرة الدولة بمعناها الحديث، وكانت تأخذ إحدى صورتين: المملكة royaume، والمدينة cité، والفرق بينهما هو في مساحة الأرض التي تمد عليها سلطانها وشكل الحكم المطبق فيها.
فالمملكة أكبر مساحة من المدينة، ويرأسها الملك، الذي بيده الحكم، بل هم ممثل الله في الأرض، أما المدينة فهي مجموعة من السكان يستغلون مساحة ضئيلة من الأرض، ويديرون الشؤون الخاصة بالمدينة بكل حرية وديمقراطية ومشاركة بلا تركيز للسلطة، ووفقا للصالح العام.
إن مجتمعات الدولة أو الدولة-المدينة قد عرفت تشريعات خاصة ونظما قانونية، ومن أهمها: القانون اليوناني (فرع أول) والقانون الفرعوني (فرع أول) وتشريعات بلاد ما بين النهرين (فرع ثان) وبعض الشرائع الدينية (فرع ثالث) ولاسيما القانون الروماني (فرع رابع).
الفرع الأول
القانون اليوناني
إن الحضارة اليونانية أو الإغريقية هي حضارة صناعية تجارية، عكس الحضارات الشرقية التي كانت زراعية، وهو ما جعل الإنسان الإغريقي يميل إلى البحث وتحليل الأمور وهو ما تجلى في الفكر الفلسفي، وقد عرفت هذه الحضارة مزاوجة بين القانون المكتوب والقانون الشفوي، حيث كانوا ينحتون القانون على صخور ويعرضونها في الأماكن العامة، إلا أن الإجراءات القضائية ظلت حتى عهد هوميروس l’âge d’Homère شفوية، حيث تطور القانون اليوناني عبر مرحلتين: مرحلة عدم التدوين، ثم مرحلة التدوين، وكان اليونانيون قد عرفوا الكتابة في القرن الثامن قبل الميلاد وكتبوا القانون في القرن السابع قبل الميلاد.
الفرع الثاني
القانون الفرعوني
لقد عرف الفراعنة القوانين قديما جدا، وبخاصة في عهد الملك مينا عام 3200 ق.م، وتجدر الإشارة إلى أن تاريخ القانون المصري عرف عهدين مميزين على جسر تطوره من العصر الفرعوني إلى العصر الحديث، وهما: العصر بالبطلمي (الإغريقي) والعصر الروماني، ومن أشهر القوانين التي سجلت حضورها في تاريخ القانون قانون بوخوريس (أو بوكوريس).
الفرع الثاني
تشريعات بلاد ما بين النهرين
إن تشريعات بلاد ما بين النهرين، أو التشريعات الموبوزوتامية، أو ما يطلق عليه أيضا تشريعات وادي الرافدين، تعتبر رائدة بالنسبة لمجتمعات الدولة بوصفها من أقدم المجتمعات التي عرفت القانون كأداة لتنظيم حياتها، بل هي أصل القوانين كلها، وتتمثل أساسا في شريعة "لبت عشتر" وشريعة حمورابي، بالإضافة إلى قانون "إشنونا" الذي أصدره الملك بلالاما في 1930 ق.م، وهو أول شريعة سامية قديمة فبل قانون حمورابي:
أولا: شريعة "لبت عشتر": لبت عشتر lipit istar هو خامس ملوك سلالة إيسن، حكم سومر ما بين 1934-1924 ق.م، وصل من شريعته إلينا 38 نصا.
ثانيا: مجموعة قوانين حمورابي:تم اكتشاف قانون حمورابي في إيران عام 1902، وهو منقوش على عامود من حجر الديوريت gravé sur une stèle، ارتفاعه ثمانية أقدام تقريبا، وجموع الكتابة عليه 300 سطر، وهو محفوظ إلى الآن بمتحف اللوفر بفرنسا، تعتبر شريعة حمورابي (1728-1686 ق.م) أكمل قانون مدون تم الكشف عنه في العالم حتى اليوم، ويتضمن 282 فرضية، لا تمثل موادا قانونية بالمعنى الدقيق لكنها أحكام قضاء صادرة في حالات فردية طبقا لقانون العين بالعين la loi du talion، وقد تضمنت حزمة هامة من الضمانات الخاصة بالمحاكمة، ومن أبرزها أن عبء الإثبات يقع على المدعي، مع العلم أن هذه الشريعة كانت مختلطة، أي مدنية وجنائية في نفس الوقت، وغير مرتبة ولا منظمة ولا مبوبة.
الفرع الثالث
الشرائع الدينية
إن الشرائع الدينية القديمة كثيرة جدا، ومن أهم الشرائع المشهورة بثرائها: الشرائع الهندية، واليهودية (الموسوية).
أولا: الشرائع الهندية:
إن قانون مانو أو شريعة مانو manova-dharma-sastra هي أشهر شريعة هندية، وتتكون من اثنتي عشر فصلا وتحتوي على 2694 من المقاطع الشعرية، وكانت معروفة قبل البوذية، هذه الأخيرة التي أدخلت عليها إصلاحات باعتبارها شريعة مثالية.
ترجع هذه الشريعة إلى 1200 سنة قبل الميلاد، بينما بدأت الإصلاحات البوذية حوالي 1000 سنة قبل الميلاد، وبلغت الإصلاحات ذروتها في القرن السادس قبل الحقبة المسيحية من طرف البوذا ساجيا موني le bouddha Sajiya-Mouny.
ثانيا: الشريعة اليهودية (الموسوية):
يستخلص من دراسة الشريعة الموسوية أن لها مصدرين: شريعة مكتوبة تتمثل في أسفار العهد القديم، وعددها خمسة، والتي يطلق عليها "التوراة"، وشريعة شفوية تتمثل في "المشنا" أو "التلمود"، وهو ليس شريعة شفوية بمعنى الكلمة، وإنما هو إشارة إلى تطور التلمود، والمشنا هي الجزء الأول والرئيسي للتلمود كله، وكان الغرض من المشنا هو تحقيق معاني التوراة، واستنباط القوانين منه، ووضع قوانين جديدة عن طريق القياس، أما التلمود فهو نتيجة شروح المشنا والجيمارة.
الفرع الرابع
القانون الروماني
القانون الروماني هو مجموعة القواعد القانونية التي رعت المجتمع الروماني منذ نشأة روما في 21 أفريل عام 754 ق.م حتى وفاة الإمبراطور جوستينيانوس عام 565 للميلاد، وقد تضمنته الموسوعات المسماة باسم جوستينيانوس التي تشكل ذروة حركة تقنين القانون الروماني، وقد استمر العمل به في بعض البلدان الأوروبية حتى أواخر القرن التاسع عشر، وكذلك في الإمبراطورية الرومانية الشرقية حتى سقوطها في يد الأتراك عام 1453 م.
إن أهم تشريع روماني مشهور صدر في العهد الجمهوري سنة 451 ق.م، وهو قانون الألواح الإثني عشر la loi des douze tables (lex duodecim tabularum) ، وقد سمي بذلك لأن أحكامه نقشت على ألواح من البرونز أو العاج، والتي وجدت حوالي 450 قبل الميلاد، لكن هذه الألواح اندثرت في حريق روما عام 390 ق.م، وقد أعيد جمعها بلغة عصرية بعد ذلك لأنها كانت محفوظة، وكانت مادة لتعليقات الشراح في أواخر العصر الجمهوري وأوائل الإمبراطورية.
أما التشريع الآخر الذي اشتهر أيضا فهو تشريع جوستينيانوس نفسه، يعتبر جوستينيانوس أو جوستنيان كما يترجم اسمه أيضا حاكم بيزنطةbysance ، هي مدينة إغريقية قديمة كانت تقع علي مضيق البوسفور بتركيا، حيث حكمها في الفترة من 525 إلى 565 للميلاد، وتتمثل موسوعاته المذكورة في أربعة موسوعات: أولا: المدونة le Codex (repetitae praelectionis) أو مدونة جوستينيان، وهي موسوعة القرارات أو ما يسمى الدساتير الإمبراطورية recueil des décisions que l’on appelle constitutions، وهي إجابات عن الأسئلة التي تطرح على الإمبراطور impériales, c'est-à-dire des réponses aux questions posées à l’empreur، ثانيا: قانون جونستينيان le digeste (Corpus iuris civilis), encore appelé pendectes, c’est-à-dire compilation.، وهي موسوعة ضخمة تشمل آلاف الشروحات jurisconsultes من طرف الفقهاء منذ بداية الإمبراطورية، ثالثا: المعاهد les institutes، وهي عبارة عن دليل قانوني manuel de droit، والتي وضعت من طرف لجنة مؤلفة من ثلاثة أعضاء، وتعرف بـ Institutes de Gaïus، وأخيرا الدساتير أو المراسيم الجديدة وهي الدساتير اللاحقة لمدونة جوستينيان.
فتراث جوستينيان من مدونات وموسوعات ودساتير هو الذي شكل منطلق النهضة الفقهية القانونية الأولى في أوروبا، وهي التي يطلق عليها مدرسة الشراح، أو مدرسة الشرح على المتون، وما يميز تشريعات جوستنيانوس هو تأثرها بالتشريعات الشرقية نتيجة الاحتكاك مع الأعراف السائدة هناك على إثر الغزو الذي أقام ما يسمى الإمبراطورية الشرقية التي كان هو حاكمها، حيث لم يلق القانون الروماني قبولا في تلك المناطق ما حذا بجوستنيانوس إلى العمل على القيام بعمل تشريعي ضخم توج بالعديد من المجموعات القانونية، كان يهدف من ورائها إلى توحيد الإمبراطورية وإرضاء طموحه السياسي.
خاتمة وخلاصة:
بالنسبة للشريعة الإسلامية هي تصلح في الدراسات المقارنة، ولا يمكن دراستها بطريقة المنهج التاريخي، أي مقارنتها بالشرائع الدينية مثلا، وهناك عدة تقسيمات للقوانين القديمة، وطبعا دائما في الحالة التي لا يوجد فيها أي معلومات عن الموضوع الذي يراد دراساته في أحد تلك القوانين فإنه يستغنى عن تلك المرحلة أو عن ذلك القانون.
مثال تطبيقي:
ادرس تاريخ ظهور قانون الأعمال.