رقابة المجلس الدستوري على تقسيم الدوائر الانتخابية
الأستاذ: بوصيدة فيصل
أستاذ مساعد "أ" بكلية الحقوق والعلوم السياسية
جامعة 20 أوت 1955 – سكيكدة
ملخص:
يضطلع المجلس الدستوري الجزائري بكثير من المهام الخاصة بالرقابة على الانتخابات، وتعتبر القوانين الانتخابية الحلقة الأقوى والأكثر تأثيرا على سير العملية الانتخابية ونزاهتها، وحيث أن المجلس الدستوري من مهامه الأساسية مراقبة دستورية القوانين فرقابته على العملية الانتخابية تشمل بلا شك الرقابة على القوانين الانتخابية، ومن بينها القانون الذي يحدد تقسيم الدوائر الانتخابية.
وعلى الرغم من أهمية التقطيع الانتخابي كما يطلق عليه في فرنسا وبعض الدول الأخرى في العملية الانتخابية إلا أن المجلس الدستوري الجزائري عامل القانون الذي يحدد هذا الأمر دائما كأنه أمر عادي أو مجرد أمر تنظيمي تقني وخاصة حين أصبح مكلفا بمراقبة مطابقة القوانين العضوية، ومن بينها النظام الانتخابي، كما أن اقتصار الحق في إخطار المجلس الدستوري على بعض الهيئات المحددة في الدستور ذاته جعل إمكانية بسط رقابته على مدى عدالة تقسيم الدوائر الانتخابية أمرا جد مستبعد، وذلك مهما كان هذا التقسيم شاذا وغير عادل ولا يعكس حقيقة حجم الصوت الانتخابي لكل نائب عن الشعب.
مقدمة
يعتبر تقسيم الدوائر الانتخابية جزءا من النظام الانتخابي بصفة عامة، وهو الجزء الأهم الذي تلحقه العناصر الأخرى الخاصة بكيفية الحصول على مقعد نيابي أو تمثيلي، وقد كان ولا يزال موضوعا أساسيا للنقاش القانوني والسياسي، ذلك لأن هذا التقسيم قد استغل منذ أمد بعيد لتشويه المشاركة الانتخابية وإبعادها عن الترجمة الحقيقية لأصوات الناخبين واستبعاد فئات معينة يكون لها ثقل انتخابي[1].
والانتخابات وشفافيتها كمعيار للعملية الديمقراطية تخضع لما يسمى بالضمانات، وأهم ضمانات الانتخابات هي خضوعها للرقابة بمختلف أنواعها، وعلى رأسها الرقابة القضائية والدستورية، وبهذا الصدد فهل يخضع تقسيم الدوائر الانتخابية في الجزائر كمحدد أساسي للنظام الانتخابي للرقابة من قبل المجلس الدستوري؟ وما هو أساس تلك الرقابة قانونا؟ وكيف قام المجلس الدستوري الجزائري بدوره في هذا المجال من خلال تجربته الفعلية؟
لابد أولا من توضيح أساس تلك الرقابة (مبحث أول) ثم الحديث عن تجربة المجلس الدستوري في هذا الشأن (مبحث ثان)
المبحث الأول
أساس رقابة المجلس الدستوري الجزائري على تقسيم الدوائر الانتخابية
إن العملية الانتخابية برمتها تخضع للمراقبة من قبل المجلس الدستوري بدءا من النصوص القانونية نفسها التي تنظم تلك العملية إلى مختلف مراحل سريانها عمليا[2]، بالإضافة إلى الرقابة القضائية بطبيعة الحال، وهذا بمثابة ضمان قانوني على اعتبار أن الانتخابات هي شأن دستوري يمس كل أركان النظام الدستوري من حقوق وحريات وسلطات ووسائل رقابة.
فالأساس القانوني لرقابة المجلس الدستوري الجزائري على تقسيم الدوائر الانتخابية يتأتى أولا من اضطلاع المجلس الدستوري في الجملة بمراقبة العملية الانتخابية والتي يشكل تقسيم الدوائر الانتخابية جزءا منها (المطلب الأول)، ومن جهة أخرى أن النظام الانتخابي يخضع لشكليات القوانين العضوية ومن بينها الرقابة من طرف المجلس الدستوري (المطلب الثاني)
المطلب الأول
تقسيم الدوائر الانتخابية جزء من العملية الانتخابية
تحرص أغلب الدساتير الحديثة على تبيان الهيئة التي تتولى الرقابة على صحة الانتخابات كحتمية سياسية وقانونية من أجل الوصول إلى شرعية الحاكمين والسلطات المنتخبة[3]، ولئن كان من الواضح أن إسناد هذه الرقابة إلى الحكومة مستبعد، وأن القضاء هو الجهة الأكثر صلاحية لتولي هذه المهمة، فإن المؤسس الدستوري الجزائري أوكل مهمة مراقبة الانتخابات الرئاسية والتشريعية وعمليات الاستفتاء إلى هيئة المجلس الدستوري[4]، بينما ترك الرقابة على الانتخابات المحلية للقضاء[5].
والرقابة على صحة الانتخابات تعني الفصل في المنازعات الانتخابية[6]، ذلك أن هذه الأخيرة لا تقتصر على الطعون في صحة النتائج بل تتعداها إلى كل مراحل العملية الانتخابية بما فيها المراحل السابقة لعملية الانتخاب ذاتها[7]، غير أن وجود طعن يتعلق بتقسيم الدوائر الانتخابية يبقى مجرد تصور محتمل، وهنا يطرح التساؤل حول مدى اختصاص المجلس الدستوري الجزائري بالفصل في هذا النزاع.
على هذا فلا بد من بيان موقع تقسيم الدوائر الانتخابية من النظام الانتخابي (الفرع الأول) ثم تحليل المسلك الذي اتبعه المشرع الجزائري في عملية تقسيم الدوائر الانتخابية (الفرع الثاني)
الفرع الأول
موقع تقسيم الدوائر الانتخابية من النظام الانتخابي
إن مصطلح النظم الانتخابية هو مصطلح شائع يضم تحته العديد من المفاهيم والتقسيمات، وقد يختلط بمفهوم نظم التصويت[8]، فنظم التصويت يقصد بها كيفية إعطاء الناخبين أصواتهم للمرشحين، فهي بالتالي تتعلق بتعداد المرشحين، وما إذا كانت الصوت سيعطى لمترشح فرد (التصويت الفردي) أو لقائمة من الأفراد دفعة واحدة سواء كانت قوائم مغلقة أو مفتوحة، أما النظم الانتخابية بالمعنى الدقيق فهي تتعلق بكيفية تحديد المرشحين الفائزين وتوزيع المقاعد النيابية بينهم عن طريق قوانين الانتخاب.
تنقسم الخريطة الانتخابية إلى ثلاثة عناصر رئيسية هي: الدوائر الانتخابية والمرشحون والناخبون، وهو تقسيم ضروري، ذلك أن أي انتخابات لا بد أن تتوافر فيها هذه المقومات الأساسية، وأول هذه المقومات هو الدوائر الانتخابية، فهي التي ترسم حدود وتقسيمات البلد سواء على أساس جغرافي أو ديمغرافي أو على أسس أخرى لتحدد نصيب كل دائرة من المناصب أو المقاعد الانتخابية للمجلس الذي تجرى الانتخابات لاختيار أعضائه[9].
يشكل تقسيم الدوائر الانتخابية عاملا أساسيا في الديمقراطية التمثيلية، ويمكن أن تفوق أهميته أحيانا الصيغة الانتخابية ذاتها، وقد أثبتت الانتخابات في مختلف الدول أن تغييرا في ترسيم الدوائر يمكنه تغيير هوية الفائزين دون أن تتغير مواقف المقترعين[10].
إن الدائرة الانتخابية هي الوحدة التي تسمح بترجمة الأصوات إلى مقاعد[11]، وبالتالي فهي التي ستحدد نتائج الانتخابات التشريعية وكذا الانتخابات المحلية[12]، ولا يخفى حينئذ أن كثافة الدائرة الانتخابية من الناحية الحسابية للناخبين عن مثيلاتها من الدوائر سيؤدي إلى زيادة ثقل الصوت الانتخابي المتنافس عليه أو نقصانه[13]، بل إن هذا اللاتناسب واللاتساوي يؤدي إلى عدم تساوي الوزن الصوتي لنائب عن نائب آخر، أي أن الوزن الصوتي للنائب ذاته يتغير حسب حجم الدائرة الانتخابية وعدد مقاعدها.
لا يخفى أن الوصول إلى تقسيم للدوائر الانتخابية تكون متساوية تماما في عدد سكانها وناخبيها وممثليها يكاد يكون مستحيلا، إلا أن الفارق كبير بين الإخلال بالمساواة المتسامح فيه والذي لا بد منه ولا حرج فيه بسبب طبيعة التقسيم الإداري للبلاد، وبين التقسيم الذي يعتمد معايير غير متناسبة تماما[14].
يعتبر تحديد الدوائر الانتخابية من الإجراءات الممهدة للعملية الانتخابية، أي التي تسبق إجراء الانتخابات، أو تكون في إطار السعي للتحضير لها، مثلها مثل مراجعة القوائم الانتخابية، فتح باب الترشح ، صدور مرسوم دعوة الهيئة الناخبة، انطلاق نشاط الحملة الانتخابية[15].
وتكمن أهمية موضوع تقسيم الدوائر في نقطتين: معرفة عدد الأعضاء اللازمين للمجلس النيابي، ومعرفة عدد الناخبين في كل دائرة حتى تتم العملية الانتخابية بسهولة ودقة، غير أن هذا لا ينفي الطابع السياسي لعملية تحديد الدوائر الانتخابية، ذلك أن هذه العملية هي آلية سياسية قبل أن تكون آلية تقنية أو فنية[16].
تأسيسا على ما سبق فلا يتصور وجود نظام انتخابي لا يولي أهمية لتقسيم الدوائر الانتخابية بجعله محل اهتمام دستوري وكذلك إعطائه مختلف الضمانات التي تمنع التلاعب به، فكيف كان مسلك المشرع الجزائري في هذا الشأن، هذا ما يتناوله الفرع الموالي.
الفرع الثاني
مسلك المشرع الجزائري في تقنين تقسيم الدوائر الانتخابية
يمكن التفرقة بين الوضعية في ظل دستور 1989 وتعديله سنة 1996.
أولا: في ظل دستور 1989
بالرجوع إلى القانون رقم 89-13 المؤرخ 7/08/1989 الذي يتضمن قانون الانتخابات[17] نجد المادة 24 منه تنص على أنه:" تحدد الدائرة الانتخابية عن طريق القانون"[18]، وهو ما حدث لاحقا بصدور القانون رقم 91-07، وما يمكن قوله في هذا الصدد أن المشرع بإحالته على قانون آخر لتنظيم مسألة الدوائر الانتخابية لم يخرج عن القواعد الدستورية، إلا أن القانون الذي صدر لم يرض المعارضة إلى حد كبير، مما دفعها إلى الاحتجاج والدعوة إلى إضراب سياسي، الأمر الذي أرغم السلطة والبرلمان على تعديل القانون المذكور بموجب القانون رقم 91-18، ولكن هذا الأخير لم يكن عادلا كذلك بحسب تقييمات[19]، ورغم ذلك فقد فازت على ضوئه هذه المعارضة ممثلة في الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأغلبية المقاعد في الدور الأول من الانتخابات التشريعية التي تبعت بتوقيف المسار الانتخابي.
ثانيا: في ظل التعديل الدستوري لسنة 1996
ينص الدستور الحالي في المادة 123 على أنه:"إضافة إلى المجالات المخصصة للقوانين العضوية بموجب الدستور، يشرع البرلمان بقوانين عضوية في المجالات الآتية:
- تنظيم السلطات العمومية، وعملها،
- نظام الانتخابات،...."
هذا يعني أن الاختصاص بتحديد الدوائر الانتخابية معهود به إلى السلطة التشريعية وعن طريق آلية محددة هي القوانين العضوية على اعتبار أن عبارة "نظام الانتخابات" هي عبارة شاملة لكل أطوار العملية الانتخابية[20]، غير أن هذا التحديد الدستوري لم يمنع المشرع الجزائري من إخراج موضوع الدوائر الانتخابية من القانون العضوي المتضمن نظام الانتخابات.
بداية مع الأمر رقم 97-07 المؤرخ في 6/3/1997 المتضمن القانون العضوي المتعلق بنظام الانتخابات الذي أحال في المادة 30 منه المطابقة للمادة 24 المذكورة آنفا على القانون لتحديد الدوائر الانتخابية، وهذه الإحالة غير موفقة لأنها توحي بأن الدوائر الانتخابية مسألة هامشية أو تقنية بحتة وهو ما لا يتفق مع ما ذكرناه من أهمية جسيمة وخطيرة لهذا التقسيم، ورغم أن الإحالة كانت إلى القانون وليس إلى التنظيم فهي لا تتفق مع كون مسألة القوانين الناظمة للانتخابات هي من مجالات القانون العضوي وليس القانون العادي.
ثم عند تعديل الأمر رقم 97-07 بداية في 2004 عن طريق القانون العضوي رقم 04-01 المؤرخ في 07/02/2004 بقيت المادة 30 على حالها، واستمرت كذلك في ظل القانون العضوي رقم 12-02 المؤرخ في 12/01/2012 يتعلق بنظام الانتخابات، وذلك من خلال المادة 26.
الملاحظ هنا بصورة لافتة أن القانون المحال إليه لتنظيم مسألة تقسيم الدوائر الانتخابية جاء في مناسبتين في شكل أمرين رئاسيين، هما: الأمر رقم 97-08 وكذا الأمر رقم 02-04 المعدل والمتمم له، والمتعلقان بتحديد الدوائر الانتخابية، وعدد المقاعد المطلوب شغلها في البرلمان[21]، وهذا يقود إلى عدة تأويلات من الناحية القانونية:
1- إن تقسيم الدوائر الانتخابية جاء عن طريق أوامر دون أن تتعلق بقانون ولا بقانون عضوي، فالأوامر التي تصدر عن رئيس الجمهورية تمس وتطال إما مجالات القانون العضوي أو مجالات القانون العادي مما يجعل هذه الأوامر وسيلة لتنظيم المجالات نفسها العائدة للسلطة التشريعية[22]، أما المجالات التي لا تعود للسلطة التشريعية فإن رئيس الجمهورية ينظمها بواسطة ما يطلق عليه السلطة التنظيمية التي تستند إلى المادة 125 من الدستور الحالي، غير أن الأمر الخاص بتحديد الدوائر الانتخابية لم يكن أمرا بقانون عضوي ولا أمرا بقانون عادي، مما يجعل هذا الأمر مخالفا للدستور.
2- يرى الفقه أن الوظيفية التشريعية بالأساس وزعها الدستور بين ثلاث جهات بما يتماشى مع المفهوم الحديث للسيادة، وهذه الجهات هي: الشعب، والبرلمان، ورئيس الجمهورية[23]، غير أن الوضعية التي نحن بصددها تتعلق بممارسة سلطة التشريع بأوامر بطريقة مخالفة لأحكام الدستور، وهذا يذكرنا بحالة دستورية أخرى، فقد أجاز المؤسس الدستوري لرئيس الجمهورية التشريع بأوامر فقط في بعض المواضيع المحددة، أي بأوامر رئاسية، وهي حالة إصدار قانون المالية في حالة عدم قيام البرلمان بوظيفته في المصادقة عليه في مدة أقصاها خمسة وسبعون يوما(75) من تاريخ إيداعه وفقا للقانون[24]، وهو ما فعله في عدة مناسبات[25]، وقد فعل ذلك بالنسبة لتقسيم الدوائر الانتخابية بنفس الطريقة دون سند دستوري، فهل يرجع ذلك إلى تشابه المبررات والأسباب، أي طابع الاستعجال والضرورة الملحة التي يتميز بها القانون الانتخابي وكذا القانون المالي؟
3- هناك تأويل آخر يتعلق بفكرة التفويض التشريعي، فرئيس الجمهورية كان يشرع بأوامر وفقا لدستور 1963 بناء على تفويض من البرلمان في المادة 58 بالتحديد[26]، واستمر العمل بها في دستور 1976 (المادة 26) وأهملها دستور 1989، لكن دستور 1996 وإن أهمل فكرة التفويض التشريعي فقد أسند بصورة صريحة سلطة إصدار الأوامر إلى رئيس الجمهورية دون حاجة إلى أي تفويض من البرلمان (المادة 124)، وفي هذا الإطار فرئيس الجمهورية مخول بإصدار الأوامر.
المطلب الثاني
خضوع القانون العضوي المنظم للانتخابات لرقابة المجلس الدستوري
يقوم المجلس الدستوري الجزائري وفقا لما جاء به الدستور بوظائف عديدة يأتي على رأسها مراقبة دستورية القوانين، ويتعلق الأمر بنوعين من الرقابة، رقابة سابقة احتياطية بالنسبة للقوانين العضوية (رقابة المطابقة) ورقابة لاحقة بعدية بالنسبة للقوانين العادية (رقابة الدستورية).
الفرع الأول
رقابة المجلس الدستوري على القوانين العضوية
استنادا إلى نص المادة 123من دستور سنة 1996 فإن القوانين العضوية التي أتى بها هذا الدستور دون الدساتير السابقة تخضع لعدة شروط، هي: أن تكون ضمن المجالات التي حددها الدستور للقوانين العضوية[27]، وأن تخضع لنسب تصويت معينة تختلف عن نسب التصويت على القوانين العادية، وأن تخضع لمراقبة المطابقة من قبل المجلس الدستوري وجوبا قبل صدورها.
إن رأي المجلس الدستوري هنا في غاية الأهمية، فإذا صرح المجلس بأن القانون المعروض لمراقبة المطابقة يتضمن حكما غير مطابق للدستور ولا يمكن فصله عن باقي أحكام القانون لا يتم إصدار هذا القانون طبقا للمادة 2 من النظام المحدد لقواعد عمل المجلس الدستوري، وإذا صرح بأن القانون المعروض يتضمن حكما غير مطابق للدستور دون أن يلاحظ في نفس الوقت بأن الحكم المعني لا يمكن فصله عن باقي الأحكام يمكن لرئيس الجمهورية أن يصدر هذا القانون باستثناء الحكم المخالف للدستور، أو أن يطلب قراءة ثانية للنص، وفي هذه الحالة يعرض الحكم المعدل مرة أخرى على المجلس الدستوري لمراقبة مطابقته من جديد، وهذا ما جاء في فحوى المادة 3 من نفس النظام السابق ذكره[28].
أما في حالة عدم المطابقة الكلية فلا يمكن لرئيس الجمهورية القيام بالمصادقة على النص[29]، وهو ما حدث بمناسبة القانون الأساسي للقضاء، حيث أصدر رأيه رقم 13 سنة 2011 والذي خلص فيه إلى مطابقة القانون المعروض عليه للدستور[30].
تبقى الرقابة اللاحقة أيضا اختيارية، وهي الرقابة الرئيسية والأصلية للمجلس الدستوري الجزائري[31]، وتكون الآلية هي الإخطار من طرف الجهات الثلاث التي حددها الدستور، وحتى بالنسبة للرقابة السابقة فالآلية دائما هي الإخطار من طرف رئيس الجمهورية دون غيره حتى لو كان الأمر يتعلق برقابة قبلية وإلزامية[32]، فالإخطار الذي يكون بواسطة رسالة موجهة إلى رئيس المجلس مرفقة بالنص المراد هو ما يسمح للمجلس الدستوري بوضع يده على النصوص القانونية المختلفة[33].
الفرع الثاني
رقابة المجلس الدستوري على دستورية القوانين
وهي رقابة تشمل جميع أنواع القوانين، من قوانين عادية وفرعية وأوامر تشريعية وكذلك المعاهدات والتعديلات الدستورية.
أولا: بالنسبة للقوانين العادية: إن رقابة الدستورية تكون إما سابقة أو لاحقة، والرقابة السابقة تكون برأي، أما اللاحقة فتكون بقرار، وطبقا للمادة 169 من الدستور فإن قرار المجلس الدستوري بعدم مطابقة نص للدستور فإنه يفقد أثره ابتداء من يوم قرار المجلس، أي أن يتمتع بحجية الشيء المقضي به[34]، فهو يعدم القرار غير الدستوري[35].
أما آراء المجلس، والتي سبق الذكر أنها تكون في الرقابة السابقة، فهي تتمتع بنفس حجية القرار كما صرح به المادة 49 من النظام المحدد لقواعد عمل المجلس الدستوري التي جاءت كالتالي:"آراء وقرارات المجلس الدستوري ملزمة لكافة السلطات العمومية والقضائية وغير قابل لأي طعن".
ثانيا: بالنسبة للقوانين الفرعية (التنظيمات)، إن التنظيم يعود للسلطة التنفيذية، وهو يخضع لما تخضع له القوانين العادية، فيمكن أن يكون محل رقابة سابقة أو لاحقة، عن طريق الإخطار من طرف الجهات التي حددها الدستور، والمجلس الدستوري وإن لم يسبق له أن تلقى إخطارات بشأن نصوص تنظيمية إلا أنه مارس رقابة من نوع آخر حيث قرر مثلا بصدد نظام التعويضات والتقاعد لعضو البرلمان أن المادة 11/1 منه تعود لمجال التنظيم ولا مجال لذكرها في ذلك النص التشريعي.
ثالثا: بالنسبة للأوامر التشريعية لرئيس التشريعية: وهي كما سبق البيان تكون إما عائدة لمجالات القوانين العادية فتخضع لما تخضع له القوانين العادية، أو تكون عائدة لمجالات القوانين العضوية فتخضع لنفس قواعدها، طبعا بعد أن يوافق عليها البرلمان، لأن عدم موافقة البرلمان عليها يجعلها لاغية، أي أن صدور القوانين العضوية مثلا في شكل أوامر لا يغير من طبيعتها وتظل خاضعة لمراقبة المطابقة من طرف المجلس الدستوري كغيرها من القوانين العضوية التي يسنها البرلمان.
وباعتبار أن القوانين الناظمة للانتخابات وللدوائر الانتخابية في الجزائر قد أخذت العديد من الأشكال، فجاءت في شكل قوانين عضوية وفي شكل قوانين عادية وفي شكل أوامر فترى كيف قام المجلس الدستوري بدوره في مراقبتها، وهو موضوع المبحث الثاني.
المبحث الثاني
واقع رقابة المجلس الدستوري الجزائري على تقسيم الدوائر الانتخابية
يتعين في البداية معرفة تجرية المجلس الدستوري في الرقابة على تقسيم الدوائر الانتخابية (المطلب الأول) ثم محاولة تقييم هذه التجرية في ضوء المبادئ القانونية وكذا بعض التجارب المقارنة (المطلب الثاني)
المطلب الأول
تجربة المجلس الدستوري الجزائري في الرقابة على تقسيم الدوائر الانتخابية
في واقع الأمر أن العملية الانتخابية تحتاج إلى زخم من النصوص التشريعية والتنظيمية، ما يتعلق منها بالإدارة الانتخابية، وما يتعلق بالكيفيات والطرق التي تسير عليها، وما يتعلق بالرقابة والمنازعات، وإذا كان القانون الانتخابي أو ما صار يسمى نظام الانتخابات يتولى تنظيم جزء كبير من العملية الانتخابية فإن هناك العديد من المسائل التقنية والفنية والتنظيمية تركها المشرع لجهات أخرى أحال إليها مهمة تفصيلها.
الفرع الأول
رقابة المجلس الدستوري الجزائري على القانون الانتخابي ككل
طيلة الفترة التي وجد فيها المجلس الدستوري في النظام الدستوري الجزائري أي منذ سنة 1989 لم يراقب دستورية النصوص القانونية الناظمة للانتخابات إلا في مناسبات قليلة جدا، حيث أخطر من طرف رئيس الجمهورية من أجل مراقبة دستورية المواد 61،62،82،84،85،86،91،108،110، و111 من قانون الانتخابات الصادر بالقانون رقم 89-13 المؤرخ في 07 /08/1989، وأصدر قراره رقم 1/ق.ق/مد المؤرخ في 20/08/1989[36]، وكانت هذه رقابة مباشرة، ولكنها لم تسلط على تقسيم الدوائر الانتخابية، باعتبار أن الإخطار لم يتناولها، ومن ثم لم تكن مناسبة أبدا لطرح الموضوع للنقاش الدستوري، ولو أنها كانت موضوعا لنقاش سياسي معروف.
وبعد التعديل الدستوري لسنة 1996 أصبح نظام الانتخابات من المجالات المخصصة لما سمي بالقوانين العضوية، وهي قوانين ذات بعد دستوري، وهكذا أصبحت الرقابة على النظام الانتخابي تمر وجوبا على المجلس الدستوري ليراقب القانون برمته، تطبيقا للمادة 165 من الدستور التي تنص على أنه:"يبدي المجلس الدستوري وجوبا بعد أن يخطره رئيس الجمهورية في دستورية القوانين العضوية بعد أن يصادق عليها البرلمان"، وتطبيقا لذلك كانت هناك مراقبة للقوانين المتعاقبة في هذا الشأن بالشكل التالي:
أولا: الأمر رقم 97-07:
أخطر رئيس الجمهورية المجلس الدستوري بموجب رسالة مؤرخة في 24/02/1997 لمراقبة مطابقة الأمر 97-07 المتضمن القانون العضوي المتعلق بنظام الانتخابات للدستور فأصدر رأيه رقم 02/ر.أ.ق.عض/ م.د المؤرخ في 06/03/1997 يتعلق بمطابقة الأمر المتضمن القانون العضوي المتعلق بالانتخابات للدستور[37].
ثانيا: القانون العضوي رقم 04-01
أخطر المجلس الدستوري بموجب رسالة مؤرخة في 21/01/2004 قصد مراقبة القانون العضوي رقم 04-01 المؤرخ في 02/07/2004 المعدل للأمر رقم 97-07 المتضمن القانون العضوي المتعلق بالانتخابات ومدى مطابقته للدستور، فأصدر رأيه رقم 01/ر.ق.ع/ م.د المؤرخ في 05/02/2004.[38]
ثالثا: القانون العضوي رقم 07-08
حيث أخطر المجلس الدستوري بموجب رسالة مؤرخة في 18/06/2007 قصد مراقبة مطابقة القانون العضوي المعدل والمتمم للأمر رقم 97-07 المؤرخ في 06/03/1997 للدستور، وأصدر رأيه رقم 02 / ر. م د/ 07 مؤرخ في 8 رجب عام 1428 الموافق 23 يوليو سنة 2007[39].
رابعا: القانون العضوي رقم 12-01
أخطر المجلس الدستوري بموجب رسالة مؤرخة في 29/11/2011 قصد مراقبة مطابقة القانون العضوي المتعلق بنظام الانتخابات للدستور، وكان رد المجلس الدستوري متضمنا في الرأي رقم 03/ر.ق.ع/م.د المؤرخ في 22/12/2011[40].
بجميع المناسبات السابقة لم يلتفت المجلس الدستوري إطلاقا لإحالة القانون الانتخابي مسألة تحديد الدوائر الانتخابية للقانون، على الرغم من أن العديد من المسائل الأخرى المرتبطة بالقانون الانتخابي أصدرها المشرع محترما النصوص الدستورية التي جعلت نظام الانتخابات من المسائل التي يجب أن تخضع لآلية القوانين العضوية وليس العادية، ونذكر منها:
- القانون العضوي رقم 07-07 المتضمن تأجيل الانتخابات لتجديد المجالس المحلية المنبثقة من انتخابات 10 أكتوبر 2002 والانتخابات الجزئية ليوم 24 نوفمبر 2005[41].
- القانون العضوي رقم 12-02 الذي يحدد حالات التنافي مع العهدة البرلمانية.
- القانون العضوي رقم 12-03 الذي يحدد كيفيات توسيع تمثيل المرأة في المجالس المنتخبة.
نخلص من ذلك إلى أن المجلس الدستوري لا يعير أهمية كبيرة لمسألة تحديد الدوائر الانتخابية، أو أنه يراها مسألة تقنية فنية، والحقيقة أنه لا هذا ولا ذاك فالمسألة أكبر من أن تكون مسألة قانونية، لأنها تعتبر قضية سياسية يرفع المجلس الدستوري يده عنها تاركا إياها في يد السلطة التنفيذية.
الفرع الثاني
رقابة المجلس الدستوري الجزائري على القانون الخاص بتقسيم الدوائر الانتخابية
إن تقسيم الدوائر الانتخابية هو عمل تشريعي جد مهم للانتخابات بصفة عامة وللانتخابات التشريعية بالخصوص[42]، ورغم أن القانون الانتخابي حافظ بشكل حرفي على مضمون المادة 24 من أول قانون انتخابات تعددي بصيغتها الآتية:"يمكن أن تتشكل الدائرة الانتخابية من شطر بلدية أو من بلدية أو من عدة بلديات. وتحدد الدائرة الانتخابية عن طريق القانون"، أي أنه عهد بها إلى السلطة التشريعية بالمعنى الضيق، لكن الملاحظ أنه لم يحدث إلا مرة واحدة أن احترم هذا التوجه، والحقيقة ماثلة أمامنا في ثلاثة أوامر رئاسية، هي الأمر رقم 97-08 والأمر رقم 02-04 وأخيرا الأمر رقم 12-01 المحددة للدوائر الانتخابية وعدد المقاعد المطلوب شغلها في انتخابات البرلمان.
وبناء على ما سبق فالمرة الوحيدة التي احترم فيها رغبة المشرع في أن يتم تحديد الدوائر الانتخابية بموجب قانون هي تلك المتعلقة بالقانون رقم 91-18 والذي كان سببا في أزمة سياسية وتعرض للتعديل على إثرها.
هذا من ناحية الآلية القانونية التي جعلت المجلس الدستوري في منأى عن مراقبة تقسيم الدوائر الانتخابية على أساس أنه لا يتحرك للممارسة هذه الرقابة إلا بموجب إخطار، وهو إخطار جد ضيق من ناحية المجال، ولكن من ناحية أخرى فالمجلس الدستوري لو أتيح له فعلا مراقبة هذا التقسيم فيما لو كان بقانون عضوي مثلا فإن هناك معايير معينة وضوابط ينبغي أن تحكم تقسيم الدوائر الانتخابية يمكن أن نشير إليها في عنصر تقييم تجربة المجلس الدستوري.
المطلب الثاني
تقييم تجربة المجلس الدستوري الجزائري في الرقابة على تقسيم الدوائر الانتخابية
من الصعب الحكم على تجربة المجلس الدستوري في رقابة الدوائر الانتخابية في ظل منظومة دستورية تعتمد آليات تنحاز لرجحان السلطة التنفيذية بطريقة واضحة، ولكن المجلس الدستوري لا يعدم أساسا دستوريا لو أراد مراقبة دستورية تقسيم الدوائر الانتخابية (فرع أول) إلا أنه من الناحية السياسية ومن ناحية تطبيق مبادئ الديمقراطية كنظام يعتمد الانتخابات أساسا له ويمكن قياسها عن طريق معيار النزاهة الانتخابية يمكن التطرق إلى هذه التجربة من وجهة نظر أخرى مثالية (فرع ثان).
الفرع الأول
تقييم تجربة المجلس الدستوري الجزائري في الرقابة على تقسيم الدوائر
الانتخابية من الناحية الدستورية
إن المبررات الدستورية والقانونية التي تجعل موضوعا كتقسيم الدوائر الانتخابية من المواضيع التي يجب أن تحظى برقابة المجلس الدستوري بشكل دقيق باعتباره حاميا للمبادئ والمؤسسات الدستورية لا تتلاءم أبدا مع كل هذا الموقف السلبي الذي طبع به المجلس الدستوري الجزائري موقفه من فكرة الإحالة الخاطئة التي أدت فيما بعد إلى نتائج أخرى، فالإحالة نفسها لم تحترم، والطريق إلى رقابة الدوائر الانتخابية صار مسدودا لأنه متوقف على إخطار من طرف رئيس الجمهورية أو رئيس المجلس الشعبي الوطني أو رئيس مجلس الأمة.
لقد أصبحت المناداة بضرورة توسيع الإخطار أكثر من مجرد اقتراح فهي حتمية لتطور المجلس الدستوري أولا ولقدرته على حماية الأسس الدستورية للدولة ثانيا[43].
إن الأساس الدستوري لرقابة الدوائر الانتخابية موجود، ويتمثل في كون المجلس الدستوري هو الموكل بمراقبة العملية الانتخابية في مختلف أطوارها بدءا من النصوص القانونية التي تنظمها، وأن القانون الانتخابي يجب أن يضمن المساواة بين المواطنين كما ينص عليه الدستور، ويتحقق ذلك عن طريق تقسيم للدوائر الانتخابية يراعي هذه المساواة، وفي هذا الشأن لقد سار المجلس الدستوري الفرنسي في منحى جيد عندما أسس رقابته للدوائر الانتخابية في البداية على مبدأ أن "كل ناخب يمثل نفس عدد الناخبين"، ولكنه بالنظر إلى استحالة الوصول إلى تقسيم مثالي في هذا الشأن فقد تراجع ليكرس مبدأ جديدا تضمنه قراره بتاريخ 10/11/1986 الذي جاء فيه أنه:"لا يبحث المجلس الدستوري فيما إذا كان تقسيم الدوائر الانتخابية تم على أكثر مساواة ممكنة"[44]، وهذا يعني لا ينبغي أن يكون هناك تجاوز صارخ كأن لا يتجاوز 20 بالمائة ما بين الدوائر الانتخابية[45].
الفرع الثاني
تقييم تجربة المجلس الدستوري الجزائري في الرقابة على تقسيم الدوائر
الانتخابية من حيث قياس الديمقراطية
بصفة عامة إن الحكم على طريقة توزيع الدوائر الانتخابية مربوط بحلقات أخرى في النظام الانتخابي لاسيما نوع التمثيل المأخوذ به، وطريقة احتساب الأصوات، أي أن العلاقة بين النظام الانتخابي والدوائر الانتخابية هي علاقة تكامل لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، ثم تأتي بعدها عناصر أخرى تؤثر على العملية الانتخابية برمتها حتى ولو كانت الدوائر الانتخابية قد قسمت على نحو عادل، وأن النظام الانتخابي راعى جميع أطياف الأحزاب والمجتمع، فإن الإدارة الانتخابية وكذا وسائل الرقابة وحل المنازعات ذات تأثير أكبر على نزاهة العملية الانتخابية ونجاحها في تحقيق دورها ووظيفتها الديمقراطية.
إن النظام الانتخابي وكذا تقسيم الدوائر الانتخابية يهدفان إلى تحقيق المساواة بين المواطنين، وإخلالهما بهذا الهدف يجعلهما مطية لتمرير الانتخابات بطريقة صورية تكرس الوضع القائم وتقزم المعارضة وتنتهك مبدأ التمثيل الشعبي.
وبالرجوع إلى الطريقة التي اتبعها المشرع الجزائري في تقسيم الدوائر الانتخابية تبعا لتغير النظام الانتخابي نجده قد سار على المنوال التالي:
- في ظل قانون الانتخاب رقم 89-13 الذي ألغى أحكام القانون رقم 80-08 المؤرخ في 25/10/1980، وبعد أن كان هذا الأخير يأخذ بنظام الأغلبية التي تتناسب مع الأخذ بنظام الحزب الواحد، جاء القانون الانتخابي التعددي ليتبنى نظاما يزاوج بين الاقتراع بالأغلبية والاقتراع النسبي[46]، أي أنه تبنى نظاما مختلطا يجمع بين الاقتراع النسبي على القائمة مع أفضلية الأغلبية في دورة واحدة، طبقا للمادة 62/01 من القانون المذكور بالنسبة للانتخابات المحلية والمادة 84 بالنسبة للانتخابات التشريعية، وهو نظام يحرم المعارضة الناشئة من الفوز بالانتخابات من الناحية النظرية، ويمنح الأولوية للأحزاب الكبيرة على حساب الأحزاب الصغيرة.[47]
- في ظل القانون رقم 90-06 تراجع المشرع عن النظام المختلط ليتجه نحو نظام الانتخاب الفردي بالأغلبية النسبية، إلا أن هذا القانون لم يطبق.
- ثم جاء القانون رقم 91-18 الذي عاد ليكرس نظاما انتخابيا أساسه مبدأ الأغلبية المطلقة، وهو القانون الذي تمت فيه الانتخابات التشريعية لديسمبر 1991، والذي تبع بإلغاء المسار الانتخابي، ثم حل المجلس الشعبي الوطني واستقالة رئيس الجمهورية.
- جاء بعدها الإصلاح الانتخابي انطلاقا من أرضية الوفاق الوطني ليصدر قانون انتخابي عن طريق الأمر رقم 97-07 الذي كرس مبدأ التمثيل النسبي، وهو النظام الذي يسمح بتمثيل كل التيارات بما فيها الصغيرة، غير أنه تم إقصاء الأقليات التي لا تحصل على 5% من الأصوات المعبر عنها، واحتساب الباقي الأقوى، إن الغرض من هذا النظام هو الحرص على تكريس التعددية الحزبية والديمقراطية في تسيير الشأن العام، وهذا النظام يتميز على صعيد الدوائر الانتخابية بأنها تكون أكبر نسبيا.
ودون الخوض في باقي التفاصيل الخاصة بكل القوانين التي حددت الدوائر الانتخابية وخلفياتها السياسية ونتائجها التقنية وتأثيرها على وزن الصوت الانتخابي فإن العالم وصل إلى بعض معايير النزاهة الخاصة بالدوائر الانتخابية يمكن للمشرع الجزائري والمؤسس الدستوري أن يلتزما بها في تعديلات قادمة تتلخص في الآتي:
- إسناد مهمة تقسيم الدوائر الانتخابية إلى جهة أكثر حيادا، في هذا الصدد يمكن أن تكون هيئة دستورية معينة مثلا ينص عليها الدستور، بحيث تكون تشكيلة مختلطة تضم قضاة وممثلين للأحزاب والحكومة[48].
- أن يتم دسترة معايير التقسيم من أجل تطبيق الرقابة تلقائيا على أي تقسيم يخالف تلك المعايير.
- إن العدالة المطلوبة في تقسيم الدوائر هي العدالة النسبية أي التي لا يكون فيها تفاوت كبير بين أوزان الأصوات بين دائرة وأخرى وفق أسس إحصائية معينة.
- إن المراجعة الدورية للدوائر الانتخابية ضروري بمكان من فترة لأخرى بسبب زيادة عدد السكان الطبيعي، وهو ما قرره المجلس الدستوري الفرنسي.
خاتمة
شكل موضوع الدوائر الانتخابية النقطة الأكثر حساسية في القانون الانتخابي الذي فتحت به الجزائر عهد التعددية بعد أحداث أكتوبر 1988، وقد كان مصيره التعديل تحت تأثير الضغط السياسي، إلا أن التعويل فقط على الاحتجاج الحزبي لتعديل قانون الدوائر الانتخابية غير منطقي ولا عملي، إذ لا بد من وجود آليات إما لمشاركة الطيف السياسي في صياغة القانون بشكل توافقي أو لمراقبة القانون عن طريق الهيئات القضائية أو السياسية، ولئن كان المجلس الدستوري أولى من غيره بحماية المبادئ الدستورية فمن باب أولى سياسيا وقانونيا أن يتوسع حق إخطاره لا إلى الأحزاب والطبقة السياسية فحسب بل إلى المواطنين أيضا، والتجارب تبين أن دولا عديدة تتجه نحن مبدأ الرقابة على الدستورية من قبل هيئة قضائية.
انطبع موقف المجلس الدستوري الجزائري بسلبية شديدة إزاء موضوع تقسيم الدوائر الانتخابية لأنه تغاضى عن الإحالة الموجودة في قانون الانتخابات التي أحالت بصورة شكلية إلى القانون أي إلى البرلمان لكن البرلمان لم يقم أبدا بهذا الدور الخطير وتركه لرئيس الجمهورية للتشريع عن طريق الأوامر بشكل يمنع رقابة المجلس الدستوري الذي يقف عاجزا مكتوف الأيدي في كثير من الحالات التي يجب أن يتدخل فيها لحماية الأسس الدستورية وعلى رأسها مبدأ المساواة الذي يطوح به تقسيم الدوائر الانتخابية بشكل كبير.
إن الرقابة على دستورية القوانين يجب أن تطال جميع القوانين وحتى التنظيمات وليس القوانين ذات القيمة القانونية الأكبر فحسب، والرقابة اللاحقة هي رقابة ضرورية أيضا، وهي تختلف عن الرقابة السابقة، فإذا كانت الرقابة السابقة يمكن أن تتولاها هيئة سياسية كالمجلس الدستوري فإن الرقابة اللاحقة من الأفضل أن تسند إلى هيئة قضائية، إنه وكما يقول الأستاذ بوزيد لزهاري:" إنه وبانعدام الرقابة يعني أنه يمكن للمشرع أن لا يأخذ بعين الاعتبار ما ورد في الدستور"[49].
من جهة أخرى فإن الرقابة التي يقوم بها المجلس الدستوري ينبغي أن لا تتوقف فقط عند شرعية النصوص وقانونيتها، بل يجب أن تنتقل الرقابة إلى رقابة الملاءمة، أي وضع معايير وأطر واضحة لكيفيات تقسيم الدوائر الانتخابية بما يحقق مبدأ المساواة المكرس دستوريا.
الهوامش
[1] في هذا الإطار توجد العديد من الطرق التي يتم بها التحكم في نتائج الانتخابات عن طريق التغيير في حجم الدوائر الانتخابية، انظر: سعد مظلوم العبدلي، الانتخابات ضمانات حريتها ونزاهتها: دراسة مقارنة، دار دجلة، عمان، ط1، 2009، ص.115
[2] حول تعريف العملية الانتخابية انظر: سعد مظلوم العبدلي، المرجع السابق، ص.23 وما يليها
[3] انظر: بغلول عباس، المجلس الدستوري ودوره في الرقابة على الانتخابات الرئاسية والتشريعية وعمليات الاستفتاء: دراسة مقارنة، دار الكتاب الحديث، القاهرة، ط1، 2014، ص. 12
[4] يعود تاريخ إنشاء المجلس الدستوري في الجزائر إلى دستور سنة 1963 الذي خصص له مادة واحدة (المادة 63)، أما دستور سنة 1976 فقد تراجع عن فكرة الرقابة على دستورية القوانين من أساسها، بينما عاد المؤسس الدستوري سنة 1989 لينظم هيئة المجلس الدستوري من جديد، وكان من صلاحياته مراقبة صحة الانتخابات الرئاسية والتشريعية والاستفتاءات،وحافظ التعديل الدستوري لسنة 1996 على هذا الاختيار حيث نصت المادة 163 منه على ما يلي:" المادة 163 : يؤسس مجلس دستوري يكلف بالسهر على احترام الدستور.كما يسهر المجلس الدستوري على صحة عمليات الاستفتاء، وانتخاب رئيس الجمهورية، والانتخابات التشريعية، ويعلن نتائج هذه العمليات"
[5] انظر: بغلول عباس، المرجع السابق، ص. 12؛ انظر كذلك: مسعود شيهوب، المجلس الدستوري: قاضي انتخابات، مجلة المجلس الدستوري، عدد1، 2013، صادرة عن المجلس الدستوري الجزائري، ص. 95
[6] انظر: مسعود شيهوب، المرجع السابق، ص. 88
[7] انظر: العوفي ربيع، المنازعات الانتخابية، رسالة ماجستير، جامعة أبو بكر بلقايد تلمسان، سنة 2007-2008، ص. 6 وما يليها
[8] وهناك نوع ثالث من النظم وهو ونظم احتساب الأصوات، ويتعلق فقط بالعمليات الحسابية المعتمدة لحساب الأصوات، للتمييز بينها انظر: سعد مظلوم العبدلي، المرجع السابق، ص.60
[9] انظر: مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية الأهرام، انتخاب مجلس الشعب (1990): دراسة وتحليل، 1992، ص.12
[10] انظر: فغالي كمال، الموسوعة الانتخابية النيابية: النتائج العامة واتجاهات التصويت، ج1، مختارات، لبنان، ط1، 2010، ص. 31
[11] انظر: بلغول عباس، المرجع السابق، ص. 166
[12] انظر: بلغول عباس، نفس المرجع، نفس الصفحة
[13] انظر: خالد الحمزة، الدعاية للفن والدعاية الانتخابية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2009، ص. 59
[14] انظر: غندور ضاهر، النظم الانتخابية مقارنة لأهم القوانين الانتخابية في العالم، المركز الوطني للمعلومات والدراسات، بيروت، 1992، ص. 33
[15] انظر: شوقي يعيش تمام، الطعون في انتخابات المجالس النيابية في دول المغرب العربي (الجزائر، تونس، المغرب)، أطروحة دكتوراه، جامعة محمد خيضر بسكرة، سنة 2013/2014، ص. 12
[16] انظر: شوقي يعيش تمام، المرجع السابق، ص. 15
[17] انظر: القانون رقم 89-13 المؤرخ في 5 محرم عام 1410 ه الموافق 7 غشت سنة 1989 الذي يتضمن قانون الانتخابات، ج ر عدد 32 مؤرخة يوم الاثنين 5 محرم عام 1410 ه الموافق 7 غشت سنة 1989، ص. 848
[18] وقد أجريت في ظل هذا القانون الانتخابات البلدية والولائية لسنة 1990 قبل صدر القانون الخاص بتحديد الدوائر الانتخابية ليتم تعديل قانون الانتخابات نفسه بموجب القانون رقم 90-06 المؤرخ في 27/03/1990، والذي أبقى على المادة 24 المذكورة بدون تغيير ليصدر على إثرها القانون رقم 91-07 المؤرخ في 03/04/1991 الذي يحدد الدوائر الانتخابية وعدد المقاعد المطلوب شغلها لتجديد المجلس الشعبي الوطني، هذا الأخير بدوره تم تعديله بموجب القانون رقم 91-18 المؤرخ في 15/10/1991 ، ثم أخيرا وتحضيرا للانتخابات الرئاسية لسنة 1995 تم إصدار الأمر رقم 95-21 المؤرخ في 23/07/1995 المعدل والمتمم لقانون الانتخابات رقم 89-13.
[19] انظر: شوقي يعيش تمام، المرجع السابق، ص. 140
[20] انظر: شوقي يعيش تمام، المرجع السابق، ص. 32
[21] الأمر رقم 97-08 المؤرخ في 27 شوال عام 1417 هـ الموافق 6 مارس 1997م الذي يحدد الدوائر الانتخابية وعدد المقاعد المطلوب شغلها في انتخابات البرلمان، ج.ر عدد 12 مؤرخة في 27 شوال عام 1417 هـ الموافق 6 مارس 1997؛ الأمر رقم 12-01 مؤرخ في 20 ربيع الأول عام 1433ه الموافق 13 فبراير سنة 2012م، يحدد الدوائر الانتخابية وعدد المقاعد المطلوب شغلها في البرلمان، ج.ر عدد رقم 8 مؤرخة في 22 ربيع الأول عام 1433 هـ الموافق 15 فبراير سنة 2012 م.
[22] انظر: رداد نور الدين، التشريع عن طريق الأوامر وأثره على السلطة التشريعية في ظل دستور 1996، رسالة ماجستير، جامعة قسنطينة، سنة 2005-2006، ص. 16
[23] انظر: رداد نور الدين، نفس المرجع، ص. 19
[24] المادة 120 من الدستور الحالي (التعديل الدستوري لسنة 1996).
[25] انظر: الأمر رقم 02-01 المؤرخ في 13 ذي الحجة عام 1422 ه الموافق 25 فيفري 2002 والمتضمن قانون المالية التكميلي لسنة 2002؛ وكذلك: الأمر رقم 05-05 المؤرخ في 18 جمادى الثانية عام 1426 ه الموافق 18 يونيو سنة 2005 والمتضمن قانون المالية التكميلي لسنة 2005.
[26] تنص المادة 58 على ما يأتي:"لرئيس الجمهورية أن يطلب من المجلس الوطني التفويض له لمدة محدودة حق اتخاذ تدابير ذات صبغة تشريعية عن طريق أوامر تشريعية تتخذ في مجلس الوزراء، وتعرض على مصادقة المجلس الوطني في أجل أقصاه ثلاثة أشهر"، انظر في تحليل فكرة التفويض التشريعي في الدساتير الجزائرية المتعاقبة: رداد نور الدين، المرجع السابق، ص. 37 وما يليها.
[27] إن تلك المجالات تصل إلى 16 مجالا، سبعة (7) منها مذكورة بالمادة 123 نفسها، بالإضافة إلى مجالات أخرى منصوص عليها في المواد 89، 92، 103، 12، 115، 120، 153، 157، 158 من الدستور، انظر: شريط وليد، إصلاح الأحكام الدستورية الناظمة لممارسة العمل التشريعي للبرلمان كأولوية لإصلاح دستوري وسياسي في الجزائر(دراسة على ضوء التطور الدستوري الجزائري)، مجلة المجلس الدستوري، تصدر عن المجلس الدستوري، العدد 3-2014، ص. 89
[28] انظر: بوسالم رابح، المجلس الدستوري تنظيمه وطبيعته، رسالة ماجستير، جامعة قسنطينة، سنة 2004-2005، ص. 60
[29] انظر: العام رشيدة، المجلس الدستوري: تشكيل وصلاحيات، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة محمد خيضر بسكرة، العدد 7، فيفري 2005، ص.4
[30] رأي رقم 13/ر.ق.ع/م د ب 02 مؤرخ في 11 رمضان عام 1423 ه الموافق 16 نوفمبر سنة 2011 يتعلق بمطابقة القانون العضوي المتضمن القانون الأساسي للقضاء للدستور، انظر: بوسالم رابح، المرجع السابق، ص. 61
[31] انظر: الأمين شريط، مكانة البرلمان الجزائري في اجتهاد المجلس الدستوري، مجلة المجلس الدستوري، تصدر عن المجلس الدستوري، العدد1-2013، ص. 11
[32] انظر: قرانة عادل، النظم السياسية، دار العلوم للنشر والتوزيع، عنابة، ص. 171
[33] تجدر الإشارة إلى أن كل هذه المعاملة التي تحظى بها القوانين العضوية هي اجتهاد من المجلس الدستوري الذي قام بنفسه بوضع نظام عمله، اننظر: بوزيد لزهاري، مداخلة في ندورة "استقلالية القضاء"، دراسات ووثائق صادرة عن مجلس الأمة، جوان 1999، ص. 36
[34] انظر: الأمين شريط، المرجع السابق، ص. 11
[35] انظر: بوسالم رابح، المرجع السابق، ص.62
[36] انظر: ج ر عدد 36 مؤرخة في 20/08/1989، ص. 1049-1052
[37] انظر: ج ر عدد 12 مؤرخة في 06/08/1997، ص. 42-43
[38] انظر: ج ر عدد 09 مؤرخة في 11/02/2004، ص. 16-21
[39] انظر: ج ر عدد 48 مؤرخة في 29/06/2007، ص. 06-09
[40] انظر: ج ر عدد 48 مؤرخة في 29/06/2007، ص. 09-10
[41] انظر: ج ر عدد 48 مؤرخة في 29/06/2007، ص. 04-06
[42] انظر: بلغول عباس، المرجع السابق، ص. 162
[43] انظر على سبيل المثال: عمار عباس، دور المجلس الدستوري الجزائري في ضمان مبدأ سمو الدستور، مجلة المجلس الدستوري، تصدر عن المجلس الدستوري، العدد 1-2013، ص. 71 و 86؛ كذلك:
[44] انظر: بلغول عباس، المرجع السابق، ص. 169
[45] انظر: ندوة بعنوان: تعديل الدوائر الانتخابية هل هو ضروررة سياسية أم ضرورة قانونية، مجلة الحقوق الكويتية، تصدر عن جامعة الكويت، العدد 1، السنة 22، مارس 1998، ص. 340
[46] انظر تفصيلا: لرقم رشيد، االنظم الانتخابية وأثرها على الأحزاب السياسية في الجزائر، مذكرة ماجستير، جامعة قسنطينة، سنة 2005-2006، ص. 77
[47] انظر: لرقم رشيد، نفس المرجع، ص. 80
[48] انظر بعض الآراء والاقتراحات في هذا الصدد في: بنيني أحمد، الإجراءات الممهدة للعملية الانتخابية في الجزائر، أطروحة دكتوراه، جامعة باتنة، 2005-2006، ص. 128 وما يليها.
[49] انظر: بوزيد لزهاري، المرجع السابق، ص. 32