مقدمـة:
المعيار القانوني يعتمد على فكرة تجريدية، مثل القانون الذي يعتمد على التجريد، وقد أثار العديد من الإشكالات حول مدى مقبوليته، ولكنه يبقى كأحد أهم تقنيات الصياغة القانونية، فلا زال القانون المدني الجزائري مثلا يعرف معيار الرجل المعتاد في أكثر من موضوع وأكثر من مجال، ورغم التطور الهائل في علم القانون فلا يزال المعيار القانوني ساري المفعول، وهذا يدل على أهميته، ونحاول في هذا الدرس تقديم لمحة موجزة عن فكرة المعيار القانوني من خلال ما يلي:
مدخل فلسفي:
القانون هو مجموعة متشابكة مترابطة من القواعد التي تحكم سلوك الأفراد في المجتمع، ودون شك أنه ليس من السهولة بمكان التحكم في سلوك الأفراد بكل يسر وسهولة عن طريق قواعد ما، فالشر أقوى من أن يضبط ويتحكم فيه، وربما الطريق إلى مكافحة الشر يكون بطرق أخرى كالدين والأخلاق والتعليم، أما القانون فهو مجرد أداة للجزاء وللإنصاف، ومن جهة أخرى قد يختلط الخير بالشر اختلاطا بحيث لا يمكن فصلهما إلا باعتماد معايير معينة، وإذا كان الدين أو الأخلاق يفصلان بسهولة بين الخير والشر فالقانون ليس كذلك، فهو يحتاج إلى معايير أكثر وضوحا، خاصة وأن المشكلة فيه لا تتعلق بما هو خير وشر فقط، بل تتعلق بما هو حق لك، وما ليس حقا لك، كما أن الضوابط والمعايير في ميدان القانون لا يجب أن تكون مثالية بقدر ما يجب أن تكون واقعية ومعقولة وقادرة فعلا على الفصل بين المراكز القانونية المختلفة، وعلى تحقيق العدالة التي يثق فيه الجميع ويقبل بها الجميع.
الإشكالية التي تتضمنها المعايير القانونية كانت ولا تزال في اعتمادها المطلق على الحدس باعتبارها أدوات معنوية وفكرية وعقلية تُوجه المشرع وهو بصدد صياغة القواعد القانونية، وتوجه القاضي أيضا في عمله القضائي حينما ينزل حكم القانون على الوقائع المعروضة أمامه وبالذات حين يُقوم سلوك الافراد،وهي توجه أخيرا رجل الادارة حينما يتصدى للحالات الواقعية وحاجات الناس فيصدر قرارارته الادارية تنظيمية كانت أم فردية مهتدياً بمعايير القانون والعدل والانصاف.
المبحث الأول: الإطار المفاهيمي
المطلب الأول: ماهية المعيار القانوني
الفرع الاول : في معنى المعيار
معيار كل شيء ومقياسه هو الذي يعرف به الشيء معرفة مزيلة للبس والابهام؛ ولكل علم غايته ومعياره، فغاية علم المنطق التفكير السليم ومعياره الحق والصواب ، وغاية علم الجمال تربية الشعور على تذوق الجمال وتمثله ومعياره الذوق السليم، وغاية علم الأخلاق ضبط سلوك الانسان ومعياره العدالة والخير والفضيلة، وغاية القانون تحقيق العدل وضبط سلوك الافراد وربط ذلك بأمن واستقرار ومصلحة الجماعة ومعياره القاعدة القانونية سواء كانت وضعية أو عرفية، وأيا كان مصدرها التشريع أو المباديء العامة للقانون أو القانون الطبيعي أو قواعد العدالة أو أحكام القضاء أو آراء الفقهاء.
وفي ضوء ما تقدم وصفت تلك العلوم بأنها علوم انسانية معيارية، تمييزا لها عن العلوم الطبيعية التقريرية الوصفية، كالفيزياء أوالكيمياء التي تبحث في ما هو كائن، باكتشاف قوانين الطبيعة التي تعمل وفقا لمبدأ السببية، فكل سبب يحقق حتماً نتيجة معينة، ولذلك فإن قوانين الطبيعة لا يمكن أن تخرق، ومن ثم لم تكن حاجة فيها لمعيار يقوم نتائجها وفقاً لما ينبغي أن يكون، لأننا لا نستطيع أن نجعل مما هو كائن ما لا يكون، وجزاء مخالفتها يتحقق آلياً دون تدخل أحد، فالذي يلقي بنفسه في النار لابد أن يحترق. أما العلوم المعيارية فتبحث فيما يجب أن يكون، ويحكمها مبدأ الإسناد لا السببية الطبيعية، أي علاقة بين قاعدة اجتماعية وجزاء ينبغي أن يوقع عند مخالفتها، فالقواعد المعيارية يمكن أن تخرق، مما وجب أن يوضع جزاء لذلك الخرق، لأن الجزاء هنا لا يتحقق آالياً بمجرد المخالفة، فالقاتل والسارق والمهمل لا تنزل عليهم العقوبة بفضل الطبيعة، والمعيار هو الفيصل في تحديد وجود الخرق من عدمه، ومن هنا كانت أهمية وجود معايير للتقييم في كل علم من هذه العلوم، ولذلك سميت أيضاً علوماً تقويمية.
والقانون بهذا الوصف هو علم معياري، ويفيد لفظ القانون في العربية معنى المعيار والمقياس، يقول الفيروز ابادي في قاموسه المحيط ( القانون مقياس كل شيء )؛ فالقانون هو المعيار الذي يقاس به السلوك والأفعال بغية التحقق من عوارضها آاثارها، والتمييز بين صحيحها وباطلها وما إلى ذلك من أحوالها، ولهذا عرف القانون بانه ( مجموعة قواعد معيارية تبين ما هو جائز وماهو غير جائز ).
والمعيار القانوني وسيلة استمدتها التقنية التشريعية الحديثة من القانون الانكلوسكسوني، وكانت معروفة لدى البريتور الروماني واول من وضع يده عليها أرسطو.
الفرع الثاني: تعريف المعيار
يعرف المعيار بأنه أداة لتقويم السلوك الفردي بصفة عامة، أو أنه مجموعة القواعد التي يضعها المجتمع أيا كان مصدرها ويتحدد في ضوئها السلوك الذي يتوقعه المجتمع من أفراده في المواقف المختلفة، وفي ضوء المعنى المتقدم فإنه يقصد بالنمط المعياري وصف الشيء أو الموقف بأنه ما ينبغي ان يحتذى به، بمعنى ما يجب أن يكون لا ما هو كائن بالفعل، وهذا نوع من الحكم التقويمي لا التقريري، وتلك في الواقع هي الخاصية الذاتية للمفهوم، حيث يراد به تلك المقاييس أو القواعد الاجتماعية أو الأخلاقية أو الدينية التي تحددها جماعة معينة كي يمتثلها أفرادها بوصفها غايات أو نماذج للفعل والسلوك، بحيث تؤثر في سلوكهم وتجعله يتميز بالتطابق والتشابه مما يساعد على وحدة الجماعة.
وفي مجال علم القانون وفلسفته فإنه يراد بالمعيار القانوني معنى أخص مما تقدم، الا وهو تقويم السلوك الفردي وفقاً لنموذج قانوني يُنشأ على أساس معطيات اجتماعية وتاريخية وأخلاقية محددة، على اعتبار أن القيم الاجتماعية والاخلاقية أوسع من نطاق القيم القانونية، مع الأخذ في الاعتبار عوامل الاستقرار والملاءمة والمرونة كخصائص يتميز بها المعيار القانوني عن أدوات التقنية القانونية اأاخرى، وهي القاعدة القانونية والمبدأ القانوني والمفهوم القانوني.
فالمعايير القانونية تحدد أنماطاً نموذجية للسلوك القانوني في ضوء المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية المتغيرة دوماً، وتواجه معياراً نموذجياً متوسطاً، له صفة العمومية، لكنه خالٍ من التجريد لتأكيد اعتبارات الملاءمة التي تقوم عليها فكرة المعايير، ويعرف الأستاذ السنهوري المعيار القانوني بقوله:"المعيار القانوني هو عبارة عن اتجاه عام لا يقيد القاضي، يهتدي به عند الحكم، ويعطيه فكرة عن غرض القانون وغايته"، أما العلامة هوريو فيرى أن المعيار القانوني هو وسيلة تحضيرية للتنظيم القانوني تتيح للقاضي معرفة وتنظيم كل المعطيات الخاصة بالمسألة المطلوب حلها ووضعها بثقة وتأكيد في أماكنها، ويجب أن نفرق تفرقة تامة بين المعيار القانوني والتكييف القانوني، فهذا الأخير هو تحديد طبيعة الواقعة القانونية ونسبتها الى نظام قانوني يحكمها، والمعيار القانوني هو محدد معين لتطبيق بعض القواعد القانونية فقط حتى بعد القيام بالتكييف.
أما العلامة العميد روسكو باوند، وهو أمريكي يكتب باللغة الانكليزية، فيعرف المعيار القانوني بأنه:" مقياس للسلوك موصوف في القانون من خلاله يتجنب الشخص مخاطرة المساءلة عن إحداث ضرر أو خسارة"، ويرى باوند أن هناك عنصراً موصوفاً للعدل والمعقولية في المعايير تجعلها نقطة اتصال بين القانون والأخلاق، وهذا هو مصدر صعوبة تعريفهما، فكما يقول ليس هناك مبدأ يعرف ما هو معقول وما هو ليس بمعقول، فضلا عن ذلك فالمعيار يرتكز على أفكار عامة متعلقة بالآداب وبأصول التعامل المدني والتجاري الجاري، وهذه غير محدودة ويصعب حصرها وتعريفها عن طريق الأساليب الدقيقة والمؤكدة للمنطق القانوني.
ويستعرض العميد باوند نماذج للمعايير في القضاء الانكليزي مثل معيار السلوك العادل ومعيار الرجل المعقول ومعيار الخدمة المعقولة، ثم يقرر أن القاعدة في هذه الحالات جميعاً هو أن السلوك الذي يجب أن يقوم بالعمل يجب أن يفي بمتطلبات المعيار، ومع ذلك كما يقول العميد باوند، فالأمر المهم هنا ليس المعيار الثابت بل مجال التقدير الذي يتضمنه المعيار واعتبار ظروف كل حالة على حدة.
ويرى الأستاذ مارسيل ستاتي أن المعيار القانوني من وجهة نظر التقنية المعاصرة للقانون هو:"الأسلوب الذي يفرض على القاضي أن يأخذ في اعتباره النوع المتوسط من السلوك الاجتماعي الصحيح بالنسبة لفئة التصرفات التي يراد الحكم عليها)، ويرى د.محمد شريف أن المعايير القانونية هي عبارة عن:"صيغ غامضة يقتضيها فن الصياغة التشريعية لحكم حالات معينة ولكي تؤدي مهمتها بشكل سليم لابد من الرجوع في تفسيرها ألى المنهج الاجتماعي السائد والى روح القانون وهدفه لا إلى قواعد اللغة والمنطق فحسب"، ولعل أوضح صورة للمعيار القانوني هي تلك التي رسمها أرسطو، تلك الصورة المعلقة فوق رؤوس القضاة في دور العدل في مختلف أرجاء المعمورة ، أنها صورة الفتاة المعصوبة العينين وهي تحمل بيدها الميزان أي المعيار.
فأرسطو يريأان العدالة لكي تكون صادقة وغير متحيزة يجب أن تكون عمياء، وكأنه أراد أن يقول ليكن كل من القريب والغريب والصديق والعدو في ميزان واحد.
الفرع الثالث: خصائص المعيار القانوني
خصائص المعيار القانوني هي مجمل عناصر تكوينه وصفاته التي تميزه عن غيره من أدوات التقنية التشريعية كالآتي:
أولاً: تتضمن جميع المعايير القانونية شيئاً من الحكم الأخلاقي على السلوك الشخصي ونهجه في التصرفات القانونية أو الأعمال المادية، وفقاً للملابسات والظروف المكانية والزمانية، فهي تستلزم تارة أن يكون الشخص معقولا في تصرفه أو اميناً أو حكيماً، ولذلك قيل أن المعيار يمثل الصلة بين القانون والأخلاق.
ثانياً: لا يستلزم تطبيق المعايير القانونية معرفة قانونية دقيقة، ولكنها تستوجب إدراكاً سليماً بالأمور العامة يرتكز على التجربة المسبقة لكل شخص، أو تقديراً حاذقاً للأمور في المواقف المختلفة المتجددة مع مراعاة القيم الخلقية السائدة في المجتمع.
ثالثاً: لا يُعبر عن المعايير القانونية بصورة مطلقة أو قاطعة، وليس لها مضمون محدد مسبقاً، في القانون أو القرارات القضائية، فهي نسبية يتغير مضمونها بتغير الأحوال والأزمان، ويجب أن يتم تطبيقها طبقاً لوقائع القضية المطروحة أمام القضاء، وتعترف هذه المعايير بأن كل قضية تعد ضمن حدود معينة فريدة إلى حد ما في نوعها.
يتضح مما تقدم أن المعيار القانوني لا يعبر بالضرورة عن مقدمات منطقية تؤدي إلى نتائج موحدة كما هو حال القاعدة القانونية، إنه يتخذ شكل الحياة التي هي ليست منطقية دائماً، إنه متغير ونسبي كما هي مفردات الحياة، فيأخذ حيناً شكل الأوضاع المستقرة كالعرف ومجريات التعامل، وحينا آخر شكل الأوضاع المستجدة، وحيناً آخر شكل الظروف الطارئة. ومعيار اليوم ليس هو بالضرورة معيار الغد، ومثلما تتغير المعايير الاجتماعية والتربوية والاقتصادية تتغير المعايير القانونية لتلائم بين القانون الثابت والحياة المستمرة في تطوراتها ومفاجآتها فيكون عاملا من عوامل تطوير القانون وملاءمته مع الواقع.
الفرع الرابع: نقد المعيار القانوني
رغم ما قيل عن مزايا المعيار القانوني كأداة من أدوات التقنية التشريعية ودوره الإيجابي في التوفيق بين القانون والواقع إلا أن وسيلة المعايير القانونية لا تخلو من خصوم هاجموا فكرتها واعترضوا عليها، وأهم تلك الاعتراضات هي مايلي:
1ـ الاعتداء على مبدأ الفصل بين السلطات، فقد قيل أن الإباحة للقاضي في تطبيق المعايير القانونية، معناها إعطاؤه سلطة تشريعية، وبالتالي تجتمع بيديه السلطتان التشريعية والقضائية، وفي هذا مخاطرة كبيرة بحقوق وحريات المواطنين.
2ـ أنه يؤدي الى تحكم القضاة: فقد وصفت السلطة التقديرية التي تنطوي على استخدام المعايير بأنها بمثابة قانون الطغاة، وبأنها هوائية تختلف من شخص إلى اخر وبأنها متقلبة ومتوقفة على المزاج.
3ـ أنه يؤدي الى انعدام الانتظام والانسجام اللازمين في الحياة القانونية، حيث يؤدي إلى حلول كلها خاصة بأحوال معينة بالذات وبعيدة بعضها عن البعض وتتأثر كل منها بظروف كل حال على حدة، ونتيجة لذلك فإن الافراد لن يستطيعوا التعرف على مدى سلامة تصرفاتهم مقدماً، فهذا يتوقف على قرار القاضي.
4ـ أنه وسيلة معقولة في البلاد ذات القانون غير المكتوب، لأن القاضي فيها يتولى إدارة القضاء والقانون، وهي غير مناسبة في البلاد ذات القانون المكتوب لأن مهمة القاضي فيها هي تطبيق القانون، واختلاف طبيعة العملين يستتبع حتماً اختلافهما في الوسائل التي يعتمد عليها كل منهما في تقرير العدالة.
5ـ وصفت المعايير القانونية بأنها غامضة ومرنة وقابلة لتفاسير متعددة.
ولكن هذه الانتقادات العلمية تبقى قابلة للرد عليها وفق المنطق التالي:
1ـ إن هذه الانتقادات لم تكن حاسمة في الخيار بين اعتماد المعايير القانونية كأداة من أدوات التقنية التشريعية من عدمه، فقد انتشرت ظاهرة الأخذ بالمعايير القانونية في أغلب القوانين المقارنة الحديثة، كما اعتمدها القضاء في حالات عديدة دونما نص يقررها باعتبارها وسيلة عقلية لتقدير القيم السائدة، فالقاضي ورجل الإدارة إنما يستخدمان المنطق السليم وموجبات العقل دون حاجة إلى أمر من المشرع بهذا الصدد.
2ـ إن المعايير القانونية إنما هي مستمدة من قواعد الأخلاق وقيم التعامل المدني والتجاري، فالأشخاص على علم مسبق بها خاصة فيما يتعلق بالمعايير الموضوعية، وقد يتم النص عليها في العقود المختلفة التي تصاغ وفقا لأحكامها في القانون، كما أن القاضي إنما يأتمر بأوامر المشرع، ولا يقوم بمهام المشرع إلا إذا أرادت الإرادة التشريعية ذاتها في أحوال دقيقة ومحسوبة سلفاً من المشرع، في حالة أن أحال المشرع القاضي إلى معيار معين، فالمعيار في مثل هذه الأحوال إنما هو من خلق المشرع، سواء كان المشرع قد أحال القاضي إلى معايير مرنة عامة كقواعد العدالة أو القانون الطبيعي، أو كان معياراً محدداً على وجه العموم كمعيار المعقولية أو معيار الرجل المعتاد، وفي كلتا الحالتين فإن المشرع قد منح القاضي سلطة تقديرية في الأحوال التي يقدر عندها أن ذلك أفضل لتحقيق العدالة.
3ـ إن الغموض والمرونة وقابلية التفسير، كما يؤكد أغلب فقهاء القانون، ليست عيوباً تؤخذ على أسلوب المعيار، لأن الصياغة المرنة الغامضة تستجيب لحلول متنوعة، وتترك المجال مفتوحاً لاستجابة القانون لظروف الواقع وملابساته، فيتنوع الحكم وفقاً لكل حالة وما يحيط بها من ظروف، فليس الوضوح ودقة العبارة مقياساً للصياغة الناجحة في كل الأحوال، لأن الصياغة الجامدة التفصيلية قد تؤدي الى التضحية بالنية الحقيقية للمشرع وبالتطور العقلي للقانون بسبب استبداد الكلمات وطغيانها.
المطلب الثاني: فصل المعيار القانوني عما يتصل به من أوضاع قانونية
لتحديد طبيعة المعيار القانوني بصورة واضحة ينبغي تمييزه عما يتصل به من أوضاع قانونية تشتبه به أو تتداخل معه أو تشكل جزءاً من عناصره دون أن تتحد معه في المفهوم.
الفرع الأول:المعيار والقاعدة القانونية
هناك عدد من الفروق الجوهرية بين القاعدة القانونية والمعيار القانوني، من حيث الفكرة الفلسفية التي يرتكزان عليها، ومن حيث طبيعة كل منهما ومجال تطبيق كل منهما، وذلك على النحو الاتي:
أولاً:من الناحية الفلسفية، يرتكز تطبيق القاعدة القانونية على الذكاء ( العقل )، بينما ترتكز سلطة التقدير التي تنطوي على تطبيق المعايير على حسن الإدراك ( الحدس )، وعلى حد قول الفيلسوف برجسون:" يناسب الذكاء أكثر ما يناسب المجردات، رياضيات، معادلات، منطق …، بينما يكون حسن الإدراك أكثر مناسبة للحياة".
حيث يتميز الذكاء بقدرته على فهم العامل العام في وضع من الأوضاع وربطه بالأوضاع السابقة، فالذكاء يقدم لنا معرفة بأعم صفات الاشياء، وهو يجرد موضوعاته من مضمونها الحي الملموس لكي يحولها إلى صيغ وأرقام ومعادلات تتسم بالتجريد الشديد، وتنطوي هذه القدرة على فقدان القابلية على معرفة الحالات الخاصة معرفة تامة، إن مثل هذه المعرفة يتحكم فيها حسن الإدراك أو الحدس لأنه ينفذ بنا الى العمق الباطن للاشياء لنعرف بذلك ما هو فريد منها.
ثانيا: من حيث الطبيعة، تتسم القاعدة القانونية بالتحديد والثبات لأنها تنطوي على فرض محدد يتضمن واقعة يفترض أنها ستقع في الحياة الاجتماعية وحل أو حكم هو عبارة عن الأثر المترتب على حدوث الواقعة، وبفضل هذا التحديد فإن القاضي حينما يطبق القاعدة القانونية يقوم بعمل منطقي يكاد يكون آلياً، إذ ما عليه سوى التحقق من أن الوقائع المطابقة لفرض القاعدة قد حدثت فعلاً في الحياة الاجتماعية ليطبق عليها الحكم الذي وضعته القاعدة، وهذا ما ينطبق على القاعدة القانونية الجامدة بصفة خاصة؛ أما المعيار فهوخاص بأحوال حقيقية متفردة، فهو موجه عام يضع الخطوط العريضة التي توجه سلوك القاضي ويتيح له سلطة تقديرية واسعة عند إعمال القاعدة القانونية.
وعلى هذا النحو فإنه ليس للمعيار نفس تحديد القاعدة، إذ يكتفي المشرع في تقريره بالإحالة إلى أصل خارج عن القانون يسترشد به عند الحكم، مثل سلوك الرجل المعتادأاو النظام العام والآداب العامة أو العدالة، كما هو الأمر في التعويض العادل أو المألوف في مضار الجوار، وعليه فإن المعيار لا يمنح القاضي سوى عامل مساعد للوصول إلى الحكم الواجب بالنسبة لفرض القاعدة القانونية وهو في هذا الوضع يعتمد على ظروف كل حالة على حدة.
ثالثاً: من حيث المجال القانوني، حيث تكون الإجراءات آلية وحيث تتغلب دواعي الاستقرار والثبات للمراكز القانونية عن طريق توحيد الحلول فإنه يلجأ الى القاعدة القانونية العامة المجردة التي تطبق إلى حد ما تطبيقاً آلياً منطقياً فتعطي حلاً موحداً لحالات غير متناهية متى ما انطبقت عليها شروط القاعدة، مما يفضي إلى تحقيق عدالة مجردة، أو كما يقال عدالة بالجملة، بمعنى آاخر أنها تعطي حلاً موحداً بالنسبة لكل الأشخاص والظروف في مركز قانوني معين مثل حقوق المالك والحصص الإرثية وسن الرشد والـوراق التجارية …
أما تطبيق المعايير فيعتمد على التجربة وينحو نحو تفريد العدالة التي عن طريق مرونة مصطلحاتها وتنوع حلولها تسمح بتلطيف القانون وتَضمن قابليته الكاملة على التكيف مع الأـوضاع المتبدلة دائماً للحياة الاجتماعية والحالات الخاصة الفريدة من نوعها والتي تتطلب حلاً يكون مختلفاً مع النوع ومتحركاً مع الظروف.
إن عمل القاعدة القانونية مثل عمل الآلات والمكائن، نموذج صناعي متكرر، فكل سفتجة هي كأي سفتجة أخرى وكل سند ملكية هو كأي سند ملكية آخر من حيث حقوق المالك، ونجد في توزيع الحصص الإرثية تكراراً للأوضاع والظروف منذ أن وجد قانون الميراث (ضمن قانون الأسرة)، أما عمل المعيار فهو مثل عمل الأيدي يد العامل الحاذق، وفي القانون تتطلب بعض الحالات عمل الأيدي وليس نتاج المكائن والآلات، ذلك أن عمل الأيدي لا ينطوي على تكرار بل على أمور فريدة ودقيقة تكون الأهمية فيها للظروف الخاصة، لأنه في إطار السلوك الفردي لم تتماثل حالة إهمال مع حالة إهمال أخرى ولن تتماثل ابداً.
الفرع الثاني:المعيار والعدالة
هناك صلة وثيقة بين فكرة المعيار وفكرة العدالة، فالمعيار وسيلة من وسائل تحصيل العدالة، وتاريخ فلسفة القانون يؤكد ذلك، فقد اَمن الفلاسفة الإغريق عموما بوجود نظام عقلاني للكون تحكمه قوانين تسير على نسق واحد يمكن إدراكها بالبحث العقلاني، تتكشف لذوي العقول النيرة، وبأن هذه القوانين الأبدية الخالدة هي معيار صلاحية أو فساد أي فعل إنساني، ومنها القوانين الوضعية والأحكام القضائية والعلاقات الاجتماعية.
ولم تشغل رواد الفلسفة اليونانية الأوائل المسائل القانونية إلا أن مفهوم القانون فلسفياً بدأ يتبلور لدى المدرسة الفيثاغوري، وتقوم العدالة عندهم على أساس معيار عددي حسابي، فهي علاقة حسابية ومساواة ومن ثم لزم الثواب والعقاب على أساس التعادل التبادلي والتناسب بين الفعل والمعاملة التي يلقاها، وهذه فكرة تعود بجذورها إلى البابليين.
أما السفسطائيون فقد عنوا بمسألة المعرفة والأخلاق وتبنوا معايير ذاتية في الحكم على الأشياء والظواهر، ويرون أن لكل انسان نظرة خاصة للحقيقة ويقول (بروثاغوس) وهو سفسطائي في عبارة شهيرة:"أن الإنسان معيار كل شيء"، ومن ثم أنكروا كل حقيقة موضوعية، ونفوا وجود عدالة مطلقة بل هي نسبية ومتغيرة، وكذلك القانون، ويعرف (ثراسماخوس) وهو سفسطائي آخر العدالة بأنها "هي في صالح الأقوى"، بينما قال كانط فيما بعد"أن العقل البشري معيار الأشياء".
ويعد سقراط أول من حول إيجاد معيار ثابت تقاس به خيرية الأفعال أو شريتها عندما حاول رد الأحكام الإنسانية إلى مباديء عامة موضوعية تصدق في كل مكان وزمان مستمدة من الطبيعة، ويمكن الوصول إليها اهتداء بالعقل، وبحسب وجهة نظر سقراط فإن القوانين العادلة إنما تصدر من العقل ومطابقة للطبيعة الحقة، فكانت حقائق ثابتة مطلقة، وهي صورة من قوانين غير مكتوبة نقشها الإله على قلوب البشر، طاعتها واجبة لأنها رمز للعقل الذي ينبغي ان تكون له السيادة.
أما أرسطو فقد أناط بالقاعدة القانونية علاج أدران المجتمع، ويسمو القانون عنده على إرادة الأفراد والحكام، ويؤكد أن نصوص القانون يجب أن تكون عامة لا توضع لحالات خاصة ولا تنطبق حصراً على أفراد معينين، ليكون العدل للجميع، فقد تناول أرسطو فكرة العدالة بالتحليل، وهو يرى أن مضمون القوانين هو العدالة، وأن أساس العدالة هو المساواة، وميز أرسطو بين صورتين أساسيتين للعدالة، الأولى هي العدالة التوزيعية، وتتمثل في العدل الذي يسود علاقة الجماعة بالأفراد باعتبارهم أعضاء في جماعة سياسية هي الدولة، وتطبق على الأموال والحقوق والواجبات العامة، وتهدف إلى إن يحصل كل عضو من إعضاء الجماعة على قدر مناسب لاستحقاقه بحسب كفاءته أو قابلياته أو ماقدمه من تضحيات.
فما دامت العدالة هي المساواة والظلم هو عدم المساواة، فإن العدالة التوزيعية تقتضي أن تعالج الحالات المتساوية معالجة متساوية، ويترتب على ذلك أنه إذا وجد شخصان غير متساويين وجب أن لا يحصلا على ما هو متساو، وهذا الحكم هو تأكيد لمبدأ المساواة، ومنبع الشكوى والشجار حسب أرسطو أن تعطي المتساويين حصص غير متساوية، أو أن تمنح غير المتساويين حصص متساوية، ويلاحظ أرسطو أن الناس جميعاً يتفقون على ان العدالة في التوزيع يجب أن تجري وفقاً للاستحقاق، إلا أنهم يختلفون في فهم المقصود من الاستحقاق، وعبر الرومان عن هذه الصورة من العدالة كما وردت في مدونة جستنيان بالقول أن:"مساواة غير المتساويين ظلم"، ويعبر عنها في الفقه القانوني المعاصر بفكرة المراكز القانونية التي تقوم على أساس التمييز بين المساواة القانونية، وهي المقصودة في هذا المقام ، والمساواة الفعلية.
وطبقاً للمساواة القانونية فإنه ليس كل الناس متساوين أمام التعيين في الوظيفة العامة مثلاً، بل يتساوى منهم فقط من يحمل نفس الشروط والمؤهلات، وباختلاف المؤهلات تختلف الرتب والمزايا الوظيفية، وتعود فكرة معيار التمييز بين الناس على اساس التعليم إلى سقراط، ومن جانب آخر فإن العدالة التوزيعية تمثل وجها من اوجه حقوق الإنسان في العصر الحديث كما وردت في الإعلان العالمي لحقوق الانسان.
وسمي هذا العدل توزيعياً لأنه يتولى توزيع خيرات الجماعة والواجبات تجاه الجماعة بين أفراد تلك الجماعة، وحين يطالب الفرد بحصته العادلة من خيرات الجماعة فإنه يطالب بما هو مستحق له بوصفه عضواً في تلك الجماعة مع مراعاة كفءئته العلمية والفنية أو مقدار ما يقدم أو ما قدم من خدمات للجماعة.
أما الصورة الثانية للعدالة بحسب تصوير أرسطو فهي العدالة التبادلية أو التعويضية، فهو العدل الذي يسود علاقات الأفراد فيما بينهم، فيوازن بين المنافع أو الأداءات المتبادلة، وهي تخضع لمبدأ المساواة أيضاً، ولكن المساواة هنا فعلية وليست قانونية، فتقدر الأفعال أو الأشياء بالنسبة إلى قيمتها الموضوعية طبقاً لمعادلة حسابية بغية وضع كل طرف في مركز مساو تجاه الآخر، ولايعتد هنا بالاعتبارات الخاصة بكل فرد كما هو الحال في العدل التوزيعي، وتطبق في حالات العقد والفعل الضار وأية رابطة خاصة أخرى، فمركز المتعاقدين مثلا متساو من ناحية العدل التبادلي، فإذا استلم أحد الطرفين المتعاقدين أكثر مما يستحق أو أقل وجب الرد وإيجاد التوازن لتحقيق العدل، وإذا ألحق أحدهم بآخر ضرراً وجب عليه التعويض أيا كان مركز كل منهم الاجتماعي أو العلمي.
ولا شك في أن الحاجة إلى معايير للتقييم تبدو في العدل التوزيعي من خلال الحاجة إلى المفاضلة بين كفاءة أو أداء شخص وآخ، بينما تبدو في العدل التبادلي من خلال الحاجة إلى تقييم أداء المدين سواء كان ذلك في نطاق العقد أو الفعل الضار إلا أن أرسطو وضع يده على فكرة المعيار عندما اهتم بصعوبة تطبيق التشريعات المجردة على الحالات الواقعية المستعصية، وهي تلك الحالات التي يؤدي تطبيق القاعدة العامة إليها إلى نتائج ظالمة كتطبيق عقوبة السرقة على أم تسرق من أجل إطعام أطفالها الذين كادوا أن يموتوا جوعا، فنبه إلى مصحح لجمود العدل القانوني ألا وهو العدل الخاص.
والقانون المدني لا يزال ينص على مبادئ العدالة والإنصاف وهي تعني إيجاد التوازن، أي المعاملة المتساوية للأشياء والعلاقات المتساوية، فهي معيار يفرض الاعتراف بما هو واحد في جوهر الأشياء بصرف النظر عما هو عرضي ومتغير، فغذا ما عرضت حالة خاصة استعصى تطبيق القانون عليها تعين على القاضي حين عدم كفاية النص أو حين وجود غلط فيه أن يصحح ذلك الغلط أو يسد ذلك النقص فيقضي بما كان لينص عليه المشرع لو كانت الحالة أمامه حين وضع التشريع.
ويميز الفقه القانوني الحديث كذلك بين العدل الشكلي "القانوني" والعدالة "العدل الجوهري أو الإنصاف"،فالعدل يفيد معنى المساواة، وهي مساواة مرتبطة بالدور الاجتماعي للقانون، فالمفروض ان يطبق القانون بمساواة جميع الأشخاص والحالات التي يتناولها في مركز قانوني معين ولغرض معين بالذات وللهدف الذي يرمي إليه، وهذا هو مفهوم المساواة القانونية التي قد لا تكون مساواة فعلية، فالمثل يعامل كمثله، وغير المتساويين لا يلقون معاملة متساوية، وقد عبر جستنيان عن ذلك قديما في مدونته بالقول"مساواة غير المتساويين ظلم كبير"، ويتحقق ذلك من خلال قواعد قانونية عامة ومجردة تطبق على الجميع بنزاهة ودون محاباة، ويقتصر دور العدل الشكلي هنا على بيان أن الاجراءات كانت عادلة لأن أحدا لم يستثن أو يستبعد بشكل غير عادل من تطبيق القانون، لا فرق بين أم تسرق لإطعام أطفالها الجياع، وبين من يسرق لإرضاء ملذاته وشهواته، مثلا: لأن العدل القانوني يعتد بالوضع الغالب الظاهر لا بالوضع الداخلي الخاص للمخاطبين بحكمه، ولذلك شكك فلاسفة القانون في اعتبار العدل الشكلي وسيلة للحكم العادل بين إنسان وآخر لأن الطبيعة العامة والمجردة للقاعدة القانونية تعني أنه لايمكن إدراك كل حالة فردية بخصوصياتها، ولهذا فإن العدل الشكلي بما يحققه من مساواة شكلية قد يضغط على الحالة الفردية فتكون ضحية من ضحايا ذلك العدل الشكلي، أما العدالـــــة فتفيد معنى الإنصاف، وهو شعور كامن في النفس يوحي به الضمير النقي، ويكشف عنه العقل السليم، وتستلهم منها مجموعة من القواعد تعرف باسم قواعد العدالة مرجعها مثل عليا تهدف إلى خير الإنسانية بما توحي به من حلول منصفة ومساواة واقعية تقوم على مراعاة دقائق ظروف الناس وحاجاتهم.
ويقتصر هدف القانون على تحقيق العدل وليس تحقيق العدالة، فالعدل والعدالة كلاهما يقوم على المساواة بين الناس، إلا أن المساواة التي تقوم عليها فكرة العدل هي مساواة مجردة تعتد بالوضع الغالب دون اكتراث بتفاوت الظروف الخاصة بالناس، أما العدالة ( الإنصاف ) فتقوم على مساواة واقعية على أساس التماثل في الأحكام المنصرفة للحالات المتماثلة شروطها، أو الأشخاص المتشابهة ظروفهم مع مراعاة البواعث الخاصة وتفاصيل الظروف.
وعلى هذا النحو يذهب أغلب فلاسفة القانون إلى أنه غذا اعتبر العدل كتجسيد لقاعدة المساواة الشكلية الصرفة فإنه يعبر عن حكم منطقي يقوم على المساواة المجردة، وهذا ما يلائم القاعدة القانونية العامة المجردة، وإذا ما طبق بانتظام فإنه لا يمكن أن يتناقض مع نفسه، أما العدالة فتناسبها فكرة المعايير لأنها لا تعمل بصفتها تعبيرا عن حكم منطقي بل بتشكيل ذاتها في صورة القضية الفردية ونظرا لعدم وجود شكل محدد لها فإنها تشبه العمل الاخلاقي الذي هو عفوي وغير محسوب له بعناية، ويهدف الى غغاثة شخص يتألم دون اعتبار لقواعد محددة، ويمكن أن ينظر إلى العدل الشكلي كأمر غير عادل إذا ما استجاب لمقتضيات، ولكنه يفشل في اتخاذ قراراته بروح العدالة فيكون تجسيدا لظلم فادح، ومن هنا لا يكفي أن يتفق نظام قانوني مع خصائص العدل الشكلية، وإن كان هذا القانون يطبق بمساواة وبروح النزاهة، ذلك أن القانون يحتاج أن يكون محتواه عادلا، أي أن يعبر عن روح العدالة.
إن التمييز بين فكرتي العــدل والعدالــة هو السبب في أن كل الأنظمة القانونية شعرت بالحاجة إلى إصلاح صرامة القانون من خلال اعتماد المعايير القانونية والدعوة إلى تفسير القانون بروح العدالة بدلا من التركيز على حرفية النصوص عندما يشعر القاضي أن الظلم بعينه يتحقق لو طبق القانون بحذافيره، وهذه الحالة نجد تعبيرها في القول المأثور" الرحمة فوق القانون" الذي لا يعني إلا أن على القاضي أن يطبق القانون بروح العدالة.
الفرع الثالث:المعيار القانوني ومعايير أخرى
أولا: المعيار القانوني والمعيار الأخلاقي
من الثابت أن فكرة المعيار القانوني تمثل الصلة بين القانون وعلم الأخلاق، ومن الثابت أيضاً أن الكثير من المعايير القانونية قد استمدت من قواعد الأخلاق وقيم التعامل المهني المدني والتجاري، كمعيار التعويض العادل ومعيار حسن النية في تنفيذ الإلتزامات ومعيار الخطأ وسوء النية وقصد الاضرا، ومعايير التعسف في استعمال الحق، ومعايير الغلط والإكراه والتدليس، وغير ذلك من معايير أخلاقية تحولت بعد التعديل إلى معايير قانونية، فما هو مدى الصلة بينهما وأين يلتقيان وأين يفترقان؟
إنهما يلتقيان في النواحي التالية:
1ـ يشترك كل من المعيار القانوني والمعيار الأخلاقي في أن محل كل منهما هو تقويم السلوك الفردي استناداً إلى قيم وقواعد اجتماعية معترف بها من قبل جماعة معينة في زمن معين، تؤثر فيهم ويشعرون ذاتياً بإلزاميتها، وتوجههم نحو الامتثال للمعايير السائدة، وهذا هو معنى القول أن تطبيق المعايير القانونية لا يستلزم معرفة قانونية دقيقة، ولكنه يستلزم معرفة بقواعد الأخلاق وقيم التعامل.
2ـ كلاهما معايير نسبية ومتغيرة يتغير مضمونها بتغير المكان والزمان، فالامتثال لمعايير لم تعد سائدة في المجتمع أو الامتثال لمعايير جماعة أجنبية داخل الجماعة الأم يشكل انحرافاً عن مستوى المعيار القائم، وعلى هذا النحو فإن معايير القيم والأخلاق في المجتمع العربي هي غيرها في المجتمع الغربي، ومضمون معيار الرجل المعتاد أو الحريص في فرنسا هو غير معيار الرجل المعتاد في الجزائر.
3ـ إن أساس كل منهما هو فكرة ما يجب أن يكون لا تقرير ما هو كائن، وعلى هذا الحال فإنهما يمثلان معايير هدفية لا حتمية تتسم بقابليتها على التخلف والمخالفة دون أن تفقد أهميتها أو صحتها، ذلك أن هذه المعايير إنما تُقوم إرادة الإنسان، وهذه الإرادة حرة وليست مقيدة حسب الأصل، وكقاعدة أخلاقية وقانونية يجب على الفرد أن لا يسرق مثلا، إلا أن البعض يفعل السرقة، وهذه القواعد والمعايير لا تحمل في ذاتها إيقاع الجزاء على مخالفتها بخلاف القواعد الطبيعية، بل يأتيها الجزاء من الخارج من المجتمع أو السلطة العامة.
إن المعيار القانوني والمعيار الأخلاقي يفترقان عن بعضهما في النواحي التالية:
1ـ من حيث النمط النموذجي: المعيار الاخلاقي يتخذ من الإنسان الكامل المثالي نموذجاً للتقييم،أما المعيار القانوني فيضع تقييمه كأصل على أساس صفات الشخص العادي المتوسط القدرات.
2ـ من حيث النطاق: مجال عمال المعيار الأخلاقي أوسع نطاقاً، لأن مجال عمله يشمل نوعين من العلاقات: علاقة الشخص بنفسه وعلاقة الشخص بغيره، أما مجال المعيار القانوني فيتحدد بالمجال الأخير فقط.
3ـ من حيث الطبيعة: المعيار الأخلاقي تغلب فيه العوامل الذاتية والنفسية على العوامل الموضوعية، وللنية دور بارز في نتيجة التقييم، ولذا كان في الغالب معياراً ذاتياً، إذ يعتبر القصد أو الباعث على السلوك معياراً أساسياً للحسن والقبح طبقاً لأغلب النظريات الأخلاقية، أما المعيار القانوني فتغلب فيه العوامل الموضوعية على العوامل الذاتية، ويعتد بالوضع الظاهر لمسلك الشخص الذي برز للعالم الخارجي، ولذا كان في الغالب معياراً موضوعياً، وتبقى هذه الأحكام نسبية وليست مطلقة، فالمعيار الأخلاقي يمكن أن يبرز للعالم الخارجي لتقييم السلوك الخارجي الظاهري لبيان كيفية تنفيذ النية، ويمكن أن ينزل المعيار القانوني إلى الدواخل لبيان أثر النية المترتب على المظهر الخارجي للإدارة كحسن النية أو سوء النية أو نية الإضرار أو سبب العقد وباعثه.
إن المعيار القانوني حين يعول على القصد أو الباعث يكون معياراً ذاتياً لكن طبيعة القانون تأبى إلا أن يضبط المعيار والنزعات الذاتية بضوابط موضوعية في الغالب، فالكذب لا يكون تدليساً إلا إذا دعم بمظاهر خارجية تلونه بلون الحقيقة حسب الأصل مثلاً كأن يدعي شخص أنه مهندس ويبرز وثائق مزورة لتأييد ذلك.
4ـ من حيث الحماية: المعيار القانوني تحميه السلطة العامة وتفرض تطبيقه بالقهر والإرغام كإيقاع العقوبة إو فرض التعويض عن الضرر أما المعيار الأخلاقي فيحميه ضمير الفرد وتأنيب الجماعة.
ثانياً: المعيار القانوني وعلم المنطق
تعود جذور علم المنطق إلى أرسطو حيث اعتبره فنا وأداة في خدمة المعرفة، وفي ضوء ذلك عرفه الفارابي بأنه:"مجموعة قوانين تستخدم لقياس المعقولات كما تستخدم الموازين والمكاييل في قياس الأجسام"، بينما عرفه الغزالي على أنه:"القانون الذي يميز الحد والقياس من غيره كأنه الميزان أو المعيار للعلوم كلها، وكل ما لم يوزن بالميزان لا يتميز فيه الرجحان من النقصان ولا الربح من الخسران"، وعلى النحو يشتبه كل من المنطق والمعيار القانوني من الناحية الشكلية، فكلاهما بمثابة ميزان معنوي وفكري لقياس المعنويات، كالصواب والخطأ، إلا أنهما يختلفان في أن محل القياس والنتائج المترتبة على كل منهما.
ويتكون القياس المنطقي من ثلاث مقاطع: مقدمتين كبرى وصغرى، أي عبارتين تؤكدان أو تنفيان شيئا ما، ثم نتيجة تتكون من رفع (حذف) العبارات المشتركة (الحد الأوسط)، ومن ثم إعطاء الحكم للمقدمة الصغرى لاتحاد العلة، وتطبيق القياس في مجال القانون يقتضي اعتبار القاعدة أو المبدأ القانوني مقدمة كبرى، واعتبار الواقعة محل الدعوى مقدمة صغرى، لنحصل على الحكم متمثلا بالنتيجة.
فالقياس المنطقي يبحث عن علة الحكم لإنزال حكمه على حالات تتشابه فيها علة الحكم، فالخمر يذهب بالعقل" مقدمة كبرى تتضمن علة الحكم" فهو حرام "حكم"، والمخدرات تذهب بالعقل "مقدمة صغرى تتضمن علة الحكم"، فتأخذ المخدرات حكم الخمر لاتحاد العلة، لأن الشارع الحكيم نص على تجنب الخمر ولم يرد نص بشأن المخدرات.
ومن التطبيقات القديمة أنه إذا اشتكى المدين بأن تنفيذ الالتزام العقدي مرهقا له، وعند استخدام القاضي القياس المنطقي تكون النتيجة كالآتي: "المقدمة الكبرى التي تمثل المبدأ العام وهي العقد شريعة المتعاقدين:"."المقدمة الصغرى التي تمثل الواقعة المطلوب الفصل فيها وهي الالتزام المرهق الناتج عن عقد" نحصل على النتيجة برفع العبارة المشتركة "الحد الأوسط"، وهي كلمة (عقد) التي تكررت في العبارتين فتكون النتيجة المنطقية هي:"الالتزام المرهق شريعة المتعاقين"، وفي ضوء هذه النتيجة المنطقية يَجبر المدين على تنفيذ التزامه ولوكان مرهقا.
ويُعطي استخدام القياس المنطقي في مجال علم القانون بطريقة آلية نتائج جامدة وحلولا منسقة ثابتة متكررة قابلة للتوقع مسبقا، كما أن إعمال القياس في حد ذاته محفوف بالمخاطر وفي مقدمتها التسليم بإطلاق المقدمة الكبرى وافتراض صلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان في حين أن الحقائق نسبية، ويذهب الفيلسوف برتراند رسل إلى أنه لا يمكن الوثوق بالنتيجة التي يؤول إليها القياس، إلا إذا كنا واثقين تماماً من صحة المقدمات، وبالتأكيد يجب التأكد من علة الحكم لأنها لا تذكر في النص، ولهذا يعطي هذا الفيلسوف مثالا عن خطورة القياس بالقول:" البشر عقلاء – مقدمة كبرى -، الأطفال بشر – مقدمة صغرى -، النتيجة بعد رفع الحد الاوسط تكون (الأطفال عقلاء).
ويعد استخدام القياس المنطقي في علم القانون من أهم تعليمات مدرسة الشرح على المتون أو ما يسمى مدرسة تقديس النصوص، حيث رأت هذه المدرسة في تقنين نابليون المدني أنه قد جمع فأوعى وأحاط بكل شيء، فهو بناء منطقي متكامل، وما على القاضي إلا ان يلجأ للقياس المنطقي لتطبيقه سواء كانت النتيجة عادلة أوغير عادلة، فالقاضي ينبغي أن يخضع للمشرع ويتقيد بالنص، وهكذا استبعد أنصار هذه المدرسة عامل التقدير القضائي تماما كعامل من عوامل الحكم القضائي وجُرد القانون من مضمونه الإنساني.
خاتمة