المدارس القانونية وتأثيرها في تطبيق قانون العقوبات
تمهيد:
إن المتأمل للمذاهب الفكرية في محيط قانون العقوبات يجد أنها يمكن إدراجها تحت طائفتين كبيرتين هما: مدرسة الفكر الطبيعي ومدرسة الفكر الوضعي. وهاتان الطائفتان بدورهما تعكسان الفلسفة الخاصة بأصل القانون في المجتمعات، وهل هو تعبير عن ظاهرة عامة وجدت مع الوجود الإنساني؟ أم أنه تعبير عن إرادة القوى المسيرة للمجتمع الإنساني؟ مع ما يترتب عن ذلك من التفرقة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.
إن المدارس القانونية هي خلفيات للتشريعات لا يمكن فهم هذه الأخيرة إلا بمعرفة تلك المدارس، وفي هذه الدراسة الموجزة نريد تبيين كيف كان لاختلاف الخلفيات الفكرية للتشريعات العقابية أثر على اختلاف أحكامها في عديد المسائل وفي نظرتها للجريمة والمجرم.
سندرس في مبحث أول مدرسة الفكر الطبيعي وانعكاساتها على قوانين العقوبات، ثم ندرس في مبحث ثان تأثير الفكر الوضعي.
المبحث الأول: مدارس الفكر الطبيعي وانعكاساتها على قوانين العقوبات
إذا كان الفكر الطبيعي قد ازدهر حقبة من الزمن وأخذ نصيبه من السيطرة على الفكر القانوني مدة طويلة، فقد أخذ ينحسر شيئا فشيئا خاصة منذ أواخر القرن الثامن عشر ليحتل مكانه الفكر الوضعي الذي نشأ نتيجة لظهور نظرية داروين.
و إذا نظرنا في هذا الفكر وجدناه يتمثل في عديد الاتجاهات التي تصل أحيانا إلى التباين لكنها تلتقي في كثير من نتائجها مع ما انتهى إليه الفكر الوضعي، و تتمثل هذه الاتجاهات أساسا في مدرسة القانون الحر، ومدرسة القضاء الاجتماعي، ومدرسة الواقعية القانونية، وسندرس كلا منها في مطلب مستقل.
المطلب الأول: مدرسة القانون الحر ( أو الفكر القانوني الحر)
يقوم هذا الفكر على أساس أن الفرد هو محور القواعد القانونية، غير أن التركيز على الفرد اختلف أيضا النظر إليه بين اتجاهات مختلفة داخل نطاق الفكر الحر.
فهناك تيار أول هو تيار الفردية العقدية، و هي فردية تستند إلى فكرة العقد الاجتماعي وتركز على الفرد في معناه المجرد، هذا الفرد تقدم بإرادته مع قرنائه من خلال هذا العقد تحقيقا للمنفعة المتبادلة، و نتيجة لذلك فقانون العقوبات حسب هذا التيار له وظيفة محددة و هي حفظ هذا التعاقد و المحافظة على مصالح الفرد ومنافعه، والدولة تتدخل بالعقاب فقط حيث يضر السلوك بمنفعة الفرد، أما القيم الاجتماعية فلا يعد المساس بها جريمة.
والحقيقة أن العقوبة لا يمكن الوصول بها إلى هذه الدرجة من المنفعية، فهناك الكثير من السلوكات التي تضر الطبيعة الإنسانية ذاتها، بل إن العقوبة في ذاتها يجب أن ترضي شعور الناس بالعدالة، كما أن الدولة عندما تباشر العقاب فهذا يبدو لنا أكبر تعارض مع مبدأ المنفعية.
أما التيار الثاني الذي حل محل الفردية العقدية فهو تيار الفردية الطبيعية، والذي حاول أن يعطي لقانون العقوبات تفسيرا منطقيا و ليس عقديا، وهذا التيار يحمل لواءه الفكر الحر اليميني الذي يرى الدولة ضرورة طبيعية متواجدة إلى جانب الفرد وليست من خلفه، ومن هنا نفهم كيف أن الفرد يصل إلى حد الفناء الكلي المتمثل في قبول تسليط عقوبة الإعدام.
فالدولة حسب هذا التيار متواجدة إلى جانب الفرد لخدمته في مصالحه المادية والمعنوية، ومن هنا فهي تضمن عن طريق قانون العقوبات حماية مصالح الناس وتجريم الأفعال التي تهدد النظام الاجتماعي والأخلاقي، وهي تراعي في هذا التجريم مصلحة الفرد أيضا، وذلك عن طريق وضع حدود لسلطة التجريم فيما يسمى مبدأ الشرعية، فهذا الأخير هو حد على سلطة الدولة في العقاب مراعاة لمصلحة الفرد في العلم مسبقا بتجريم الأفعال وكذلك العقوبات.
ومن هنا جاء القول بأن الدولة ليست لها سلطة في العقاب بل حق في العقاب، ويبدو لنا مبدأ الشرعية هنا منطقيا وليس في حاجة إلى تبرير، فتحديد الأفعال المجرمة والعقوبات سوف يباشر أثره على إرادة الفرد عن طريق ردعه عن إتيان السلوك المجرم.
ومن أهم النتائج التي ترتبت على أفكار هذا التيار في محيط قانون العقوبات:
· تحريم القياس والذي نصت عليه القوانين العقابية المتأثرة بهذا الفكر صراحة.
· وظهور فكرة الواقعة النموذجية التي يكتفي القضاة فيها بعملية المطابقة بين الواقعة المادية وبينها.
· كما أن أي تفسير لقانون العقوبات يعتبر ضارا بالمصالح الفردية وبالتالي يجب استبعاده والاكتفاء بعملية المطابقة دون تقييم، أي دون أي سلطة تقديرية، هذه الأخيرة تشكل حسب هذا الفكر خطورة بالغة على الحرية الفردية.
· وتقتضي عملية المطابقة التركيز على الركن المادي، والذي تميزت به المدرسة التقليدية في قانون العقوبات التي تأثرت بتيار الفردية الطبيعية في تفسير أصل القانون، أما الركن المعنوي فيستخلص من الركن المعنوي مباشرة دون أي تقييم من قبل القاضي أي دون استعمال أي سلطة تقديرية.
· ونتيجة لذلك أيضا فهذا الفكر يركز على النتيجة المادية وليس الإرادة، فهذه الأخيرة مهما كانت خطورتها لا تسمح بتدخل الدولة إلا حينما تتجسد في شكل أفعال تتطابق مع واقعة مجرمة.
· وعلى صعيد العقوبة فوظيفتها ليست القصاص بل الردع العام أي الوقاية، عن طريق منع الفرد من ارتكاب الجريمة.
· وهذه الشرعية الضيقة التي رأيناها تعني من بين ما تعني أن القانون (حسب هذا الفكر) كامل لا يوجد به أي نقص، وعلى القاضي أن يبحث عن قصد المشرع من القانون ذاته أي من النص، دون أن يلجأ إلى الخلفيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للقاعدة، أو يضع في اعتباره أية مفاهيم أخرى لم ترد صراحة في القاعدة الجنائية.
· فالقاضي يكتشف القانون ولا ينشئه، إذ أن القانون لا يمكن أن يكون ناقصا، فالتفسير هو عملية معرفة يكرر فيها القاضي في ذهنه ما تواجد في ذهن المشرع الوضعي وقت النص على القاعدة، وهو في هذه العملية يجب أن يستبعد أي تقييم للقاعدة على ضوء ما استجد من ظروف اجتماعية أو اجتماعية لم تكون قائمة وقت التشريع حتى لا يخلط بين وظيفته في التطبيق ووظيفة المشرع في التشريع.
· ونذكر في هذا الصدد أن إلغاء السلطة التقديرية ترتب عليه من بين ما ترتب وضع عقوبة واحدة لكل جريمة غير قابلة للتغيير أو التعديل ضمانا للمساواة أمام القانون.
المطلب الثاني: مدرسة الفكر الحر اليساري
إن الفكر الحر اليساري ينطلق من فكرة القيم، فالقانون يجب النظر إليه باعتباره قيمة، وليس معنى ذلك إنكار المقدمات العقلية له، إذ أنه يعتبر مكملا لها، ذلك أن القيمة تتضمن بالضرورة الإشارة إلى معيار أو ضابط معين، وهذا المعيار ذو طبيعة عقلية، ويرتكز الفكر الحر اليساري على الفرد باعتباره المركز الذي تستمد منه القيم الأخرى سبب وجودها.
فالعلاقة بين الدولة والقانون ليست علاقة إنشاء وإنما علاقة إيجاد، فالدولة ليست هي التي تخلق القانون وإنما هي تبحث عنه حتى تجده، وعدالة القانون هي تعبير عن القيم الواقعية ولست تعبيرا عن قيم مجردة، أي هي مستمدة من الضرورات الاجتماعية، ومن أجل ذلك فعدالة القانون يجب أن تراعي الجوانب الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية للمجتمع.
فالسلوك الإنساني حسب هذا الفكر أصبح ينظر إليه لا كقوة من قوى الطبيعة وإنما كظاهرة اجتماعية يتم تكييفه في إطار القيم الاجتماعية.
وترتب على هذا الفكر في محيط قانون العقوبات مجموعة من النتائج:
· أن القاضي في تفسيره للقاعدة الجنائية عليه أن يفعل ذلك في إطار التغيرات المتعلقة بالظروف الاجتماعية، وهذا ما كان ينكره الاتجاه الحر.
· بالنسبة لمبدأ الشرعية فيجب التخفيف من حدته إن لم يكن من اللازم إلغاؤه كلية، وذلك بإعطاء القاضي سلطة تقديرية واسعة في تطبيق القاعدة التجريمية.
· مفهوم المطابقة المادية لم يعد مجرد مطابقة آلية، وإنما اللازم هو القيام بتقييم الواقعة ومدى إضرارها بالمصالح الاجتماعية المحمية، وهذا ما يطلق عليه عدم المشروعية الموضوعية أو البغي، فالفعل غير المشروع ليس هو الذي جاء به النص بل هو الذي يخالف الغرض من التجريم المستوحى من النص، وتأسيسا لذلك فإتيان الفاعل للسلوك المادي مع انعدام الإضرار بالمصالح التي جاء النص لغاية حمايتها ينفي عن الفعل الصفة غير المشروعة.
· ويستخلص مما سبق أنه لا مبرر للعقاب على الجريمة المستحيلة مثلا.
· وكذلك الشأن بالنسبة لوجود أسباب الإباحة فهي تنفي عن الفعل عدم المشروعية الموضوعية رغم توفر عدم المشروعية الشكلية.
· وطالما أن عدم المشروعية لها هذه الصفة الموضوعية وليس الشكلية فالقاضي لا يأخذ في الحسبان الحالة النفسية للجاني، بل فقط ماديات الواقعة وعلاقة هذه الأخيرة بالغاية من وراء القاعدة الجنائية، ولكن هذا الموقف لم يدم طويلا، فتطورت عدم المشروعية من المادية المجردة إلى المادية النفسية في الوقت ذاته، وظهرت نظريات تصنف المجرمين حسب الركن المعنوي، وبدأ الانشغال بالمجرم وليس فقط بالجريمة، وتم النظر إلى الركن المعنوي نظرة معيارية ( في مقابل النظرة النفسية ) أي أن الركن المعنوي سواء في صورة القصد أو الخطأ هو ركن في الجريمة هو عبارة عن توفر عنصر الإذناب الذي به تكتمل أركانها.
· ويترتب على هذا أيضا الاعتداد بفكرة الباعث بما أن هذا الأخير يترتب عليه انقطاع علاقة السببية بين الفعل والنتيجة.
· كما يترتب على هذه النظرة أن العقوبة ينبغي أن يكون لها هدف خاص وهو إصلاح الجاني وإعادة تقويمه نفسيا واجتماعيا ( ودخلت أفكار مثل وقف التنفيذ والإفراج المشروط والعفو القضائي والعمل داخل السجون والمعاملة الخاصة بالأحداث وغير ذلك من الأنظمة التي مازالت معروفة لحد الآن).
· ونتيجة كل ما سبق بالنسبة للتفسير هي أن القاضي الجنائي ينبغي أن يمنح سلطة واسعة في تفسير القاعدة الجنائية وتطبيقها وهو ما يمكن أن نطلق عليه شرعية مرنة لا تتعامل بحذر مع القياس والتفسير الواسع.
المطلب الثالث: مدرسة الفكر المطلق
يقوم هذا الفكر على أساس أن الفرد ملك للدولة كلية، والفرد لا يملك أية حقوق طبيعية في الحرية يمكنه الاحتجاج بها في مواجهة الدولة، فهو يتمتع فقط بالحقوق التي تمنحها له، بل إنها ليست حقوقا بالمعنى الدقيق بل هي واجبات، وهذه الواجبات تلقي على الفرد واجب أن تكون إرادته مخلصة للدولة، وليست هناك أخلاق أو قيم يلتزم بها الفرد سوى ما تودعه الدولة في قوانينها (يعبر عن ذلك بأن الدولة هي مستودع الأخلاق العامة).
ويترتب على هذا الفكر أيضا مجموعة من النتائج الهامة:
· أن الجريمة من حيث مضمونها لا تمثل اعتداء على المصالح المحمية بنصوص التجريم بقدر ما هي مخالفة لواجب الفرد في الإخلاص للدولة.
· ومن هنا التركيز على الركن المعنوي باعتبار أن فيه تتجسد الإرادة المخالفة تلك، فيتم البحث عن الإرادة ومدى اتجاهها إلى مخالفة أمر المشرع وذلك هو الركن المعنوي.
· وهكذا فالجريمة المستحيلة معاقب عليها في القوانين التي تأثرت بهذا الفكر، لأن الإرادة المذنبة متوفرة في هذه الجريمة.
· وتفاديا لبعض النتائج غير المرضية التي قد يؤدي إليها هذا الفكر، فقد أصر أصحابه على تطلب العلم بعدم المشروعية من أجل العقاب على الفعل، أي أنه يعذر الإنسان بجهله بقانون العقوبات لأنه في هذه الحالة لا تتجه إرادته إلى عصيان أوامر المشرع.
· والقاضي الجنائي تأسيسا على هذا الفكر حين يفسر القانون ويطبقه ينبغي أن يلتزم بالضرورات الاجتماعية، ولو وصل به الأمر إلى إعمال القياس وحتى العقاب على أفعال لم تحدث في ظل القانون ساري المفعول ولو على حساب مصلحة المتهم.
· أما العقوبة فتجد مبررها في حرمان الفرد من وضعه الاجتماعي والقانوني الذي منحته له الدولة، واعتبارها وسيلة لتنقية المجتمع من الإرادات غير المخلصة لأهداف الدولة، وبالتالي فهي لا تهدف إلى الوقاية، والأشخاص الذين لا تسمح الظروف بتوقيع العقوبة عليهم لا يعفون من التدابير الاحترازية التي تتصدى لحالة الخطورة التي يوجدون عليها.
المبحث الثاني: ظهور الفكر الوضعي وانعكاساته على قوانين العقوبات
أخذت الوضعية القانونية ثلاثة مفاهيم، فهي نظرية عامة للقانون مؤداها أن صلاحية القاعدة القانونية تسمد فقط من كونها من وضع سلطة مختصة وفقا للنظام القانوني (عكس الفكر الطبيعي الذي يؤسس صلاحية القانون على تطابقه مع العدالة وطبيعة الأشياء)، وهي أيضا نظرية للقيم تهتم بما يجب أن يكون فقط وهذا يرجع إلى الدولة التي هي مستودع القيم، وأخيرا فهي نظرية لتفسير القانون تؤسس على فكرة الثبات القانوني ومعنى ذلك خضوع المفسر لإرادة المشرع واستبعاد تأثر التفسير بالخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
والوضعية القانونية وإن اختلفت مع الفكر الطبيعي في كثير من المبادئ فهي لا تختلف عنه كثيرا في النتائج كما سنرى من خلال دراسة المدارس الوضعية الآتية:
المطلب الأول: الفكر التقدمي
حسب هذا الفكر فقانون العقوبات يجد مبرراته في كونه وسيلة لحماية الجماعة في مصالحها المتجددة والمتطورة، ويترتب على هذا مجموعة من النتائج نلخصها في الآتي:
· أن أساس التجريم ليس النص التشريعي بل هو الخطورة الاجتماعية للفعل (وهذا يتعارض بشكل كبير مع مبدأ الشرعية).
· ويترتب على ذلك أن القاضي لا ينبغي أن يقف مكتوف الأيدي في مواجهة الأفعال المتصفة بالخطورة الاجتماعية إذا لم تندرج تحت نصوص مجرمة، وإنما عليه أن يعمل القياس لتحقيق الحماية الفعالة المنوطة بقانون العقوبات.
· من ناحية أخرى، ينبغي الاعتداد بخطورة الفاعل أو ما يسمى الخطورة الإجرامية.
· ويلاحظ أن التشريعات التي تأثرت بهذا الفكر لا تتطلب في معظم الجرائم المنصوص عليها تحقق نتيجة معينة، وإنما تكتفي بجرائم السلوك المجرد.
· أما الركن المعنوي في صورة القصد والخطأ فيفقد أهميته القانونية، ذلك أن الركن المعنوي معروف أكثر في محيط الفكر الطبيعي الذي يعتد بالإرادة ويعاقب على مروقها طبقا لقواعد العدالة، أما الفكر الوضعي فهو يعاقب على مخالفة القانون الوضعي وبذلك تقوم الجريمة بمجرد قيام الخطورة حتى أنه لا يعتد بالتفرقة بين الجريمة التامة والمحاولة.
· والجريمة المستحيلة وفقا لهذا الفكر معاقب عليها لتوافرها على الخطورة.
· والأهلية الجنائية لا تعني عدم توقيع تدابير على الأحداث المنحرفين وغيرهم من ذوي الخطورة.
· وهذا كله يفتح المجال واسعا أمام القياس، وأيضا تفادي النقص التشريعي طالما أن المصالح تتجدد، والقانون لا يواكب ذلك التجدد، وحتى عدم مراعاة مصلحة المتهم بما أن القانون يطبق حتى بأثر رجعي.
المطلب الثاني: الفكر الديمقراطي
يقوم هذا الفكر كما نعلم على أساس الشرعية والمساواة أمام القانون، ومبدأ الشرعية يعني باختصار تحديد الأفعال المجرمة سلفا، وهذا التحديد يجد أساسه في الحد من التحكم الذي يصل إلى حد الإرهاب الجنائي، ويترتب على هذا مجموعة من النتائج الهامة نوجزها في الآتي:
· أن أساس المسؤولية هو الإرادة الحرة الواعية وليس الخطورة، فهذه الأخيرة إذا وجدت تعالج عن طريق تدابير وليس عقوبات.
· أن العقوبة وظيفتها الأولى هي الزجر والردع أما الإصلاح فيأتي في المرتبة الثانية.
· إن استبعاد تحكم القضاة عن طريق تحديد الأفعال المجرمة لا يعني منع السلطة التقديرية مطلقا حتى لا يصل الأمر إلى الآلية القضائية الروتينية.
· إن الاعتداد بالعلم بقانون العقوبات هو من ضرورات هذا الفكر، فالجهل ينفي الركن المعنوي للجريمة.
· أما مبدأ المساواة فلا يعني ردع الجميع بنفس العقوبة، وإنما ينبغي توقيع العقوبة المناسبة للجاني والمتلائمة مع الظروف التي أحاطت بارتكاب الجريمة، أي اعتماد السلطة التقديرية وعدم إلغائها.
· إن السلطة التقديرية تكون في حدود أهداف المشرع ولا يمكن أن تصل إلى حد القياس أو سد النقص التشريعي.
المطلب الثالث: الفكر الواقعي
يقوم هذا الفكر على أساس أن النشاط الاجتماعي للدولة يتزايد في وقتنا المعاصر باستمرار، وبالتالي يتعين أن يكون لقانون العقوبات دور إيجابي في هذا التطور، فهو لا يقف عاجزا عن حماية المصالح المستجدة، ولذلك فالمنهج الشكلي الذي كان مسيطرا على قانون العقوبات مرفوض، فالمشرع الوضعي عند وضعه للقواعد القانونية لا يتجه إلى جعل تلك القواعد نظاما كاملا لا نقص فيه، بل إلى تحقيق أهداف وأغراض معينة تتكشف شيئا فشيئا، فالمشرع الوضعي مهما أوتي من حسن التقدير فلن يستطيع الإحاطة بكل الفروض والصور التي تهدد المصالح المراد حمايتها، فتطور الحياة بطبيعته يفرض تجددا في الأشكال والنماذج للتصرفات الجديرة بالتجريم.
إن القانون حسب الفكر الواقعي ليس من وضع المشرع حقيقة، فالمشرع فكرة مجردة، ومشرع من لحم ودم لا وجود له، والقاضي ليس مجرد آلة لتطبيق القانون، فحتى يكون لقانون العقوبات دوره الفعال في المجتمع لا بد من استبعاد المنهج الشكلي في تفسير القانون واعتماد منهج واقعي والاعتراف للقاضي بدوره في تكملة النقص التشريعي عن طريق التفسير.
إن هذا الفكر تترتب عليه العديد من النتائج التي نوجزها في الآتي:
· إن القاضي ليس من اختصاصه خلق القانون وإنشائه، ولكن ينبغي الاعتراف له على الأقل بالمساهمة في هذا الإنشاء عن طريق تطوير القاعدة القانونية (الجنائية) بما يتلاءم وتطور الواقع الاجتماعي الذي تنظمه القاعدة.
· إن إنكار القياس مطلقا كما فعلت بعض القوانين أو التفرقة بين القياس في قواعد الإباحة وقواعد التجريم كلاهما على خطأ، وإنما يتعين ربط ذلك بالسياسة الجنائية، فمن الثابت أن الضرورات الاجتماعية هي التي تحدد سياسة المشرع الجنائية، ومبدأ الشرعية في صورته التقليدية لن يفيد سوى الأفراد الذين يعرفون كيف يتصرفون على هامش القانون، وكذلك فمن الغريب أن يتمسك المتمسكون بمبدأ الشرعية بهذا المبدأ في الوقت الذي يعترفون فيه بالعذر بجهل قانون العقوبات.
· وبالنتيجة لكل ما سبق فمبدأ الشرعية بشكله التقليدي المرتبط بحظر القياس وما إلى ذلك من النتائج أصبح عبئا على العدالة الاجتماعية التي يجب أن تؤسس على شرعية موضوعية مناطها الضرورات الاجتماعية، فإذا اقتضت تلك الضرورات إعمال القياس يجب إعماله، وكذلك عدم سريان القانون الأصلح فهذه كلها ليست لازمة لاحترام الشرعية، والمشرع هو الذي يضع للقاضي ضوابط معينة يستعين بها من أجل مراعاة التطور وحماية المصالح الجوهرية المتجددة.
خاتمـــــــــــــــــــــــة
لم يكن تطور قانون العقوبات ووصوله إلى المستوى الذي هو عليه الآن خبط عشواء، فقد تأثر واضعوه بالعديد من الأفكار الفلسفية التي تفسر ظاهرة القانون ووظيفته وأصله وغايته، ولعل فهم أي تشريع عقابي لا بد أن يمر من دراسة الخلفيات التي استند إليها المشرع في وضعه، لاسيما وقد اتضح لنا جزء غير قليل من تأثير الاتجاهات المذهبية والفكرية على التشريع.
ولاشك أن المذهبين الطبيعي والوضعي الذين اعتنيا بدراسة ظاهرة القانون قد وصلا إلى العديد من النتائج التي نراها اليوم جلية في كثير من التشريعات العقابية، وما لاحظناه هو أنه رغم اختلافهما في المنطلقات فإنها في كثير من الأحيان وصلا إلى نفس النتائج، ولا غرابة في ذلك، حتى أن أحد فلاسفة القانون وهو الإيطالي بوبيو Bobbio أطلق على الخلاف بين المدرسة الطبيعية والمدرسة الوضعية أنه عداء بين أخوين .