حمل جميع المحاضرات
مخطط الدراسة:
- نظرية المعرفة.
- نظرية المنهجية.
- منهجية البحث العلمي.
- المناهج الخاصة بالعلوم القانونية.
المراجع:
- إبراهيم (مروان عبد المجيد)، أسس البحث العلمي لإعداد الرسائل الجامعية، مؤسسة الوراق، عمان، ط1، 2000. (متوفر على النت)
- أبو ريان (محمد علي)، العلوم الإنسانية ومناهجها، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2001. (متوفر على النت)
- أبو سليمان (عبد الوهاب إبراهيم)، كتابة البحث العلمي صياغة جديدة، مكتبة الرشد، الرياض، ط9، 2005. (متوفر على النت)
- آث ملويا (لحسين بن شيخ)، حوليات القانون، دار الهدى، عين مليلة، ط2012.
- الدغيمي (محمد راكان)، أساليب البحث العلمي ومصادر الدراسات الإسلامية، مكتبة الرسالة، عمان، ط2، 1997. (متوفر على النت)
- السبحاني (الشيخ جعفر)، المدخل إلى العلم والفلسفة والإلهيات: نظرية المعرفة، الدار الإسلامية، بيروت، ط1، 1990. (متوفر على النت)
- الشريف (عبد الله محمد)، مناهج البحث العلمي دليل الطالب في كتابة الأبحاث والرسائل العلمية، مكتبة الإشعاع للطباعة والنشر والتوزيع، ط1996. (متوفر على النت)
- الشنيطي (محمد فتحي)، المعرفة، دار الثقافة للطباعة والنشر، ط1981. (متوفر على النت)
- الشيخلي (عبد القادر)، البحث العلمي بين الحرية والمؤسسة، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2001. (متوفر على النت)
- الصيرفي (محمد عبد الفتاح)، البحث العلمي الدليل التطبيقي للباحثين، دار وائل للنشر، عمان، ط1، 2002. (متوفر على النت)
- العيسوي (عبد الرحمن)، مناهج البحث العلمي في الفكر الإسلامي والفكر الحديث، دار الراتب الجامعية، ط1997. (متوفر على النت)
- النشار (سامي)، نظرية العلم الآرسطية، دراسة في منطق المعرفة العلمية عند أرسطو، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1995. (متوفر على النت)
- النشار (سامي)، نظرية المعرفة عند أرسطو، دار المعارف، القاهرة، ط3، 1995. (متوفر على النت)
- بدوي (عبد الرحمان)، مناهج البحث العلمي، وكالة المطبوعات، الكويت، ط3، 1977. (متوفر على النت)
- بوبر (كارل)، نظرية المعرفة في ضوء المنهج العلمي، ترجمة: قاسم (محمد محمد)، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ط1986. (متوفر على النت)
- بوحوش (عمار)، الذنيبات (محمد محمود)، مناهج وطرق إعداد البحوث، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، ط4، 2007.
- تشيزهولم (رودرك م)، نظرية المعرفة، ترجمة: الحصادي (نجيب)، الدار الدولية للنشر والتوزيع، مصر، ط1، 1995. (متوفر على النت)
- جارودي (روجيه)، النظرية المادية في المعرفة، دار دمشق، دمشق، د ت، (متوفر على النت)
- جعلوك (محمد علي شارف)، أصول التأليف والإبداع، دار الراتب الجامعية، بيروت، ط1، 2000. (متوفر على النت)
- حامد (خالد)، منهج البحث العلمي، دار ريحانة، القبة، ط1، 2003.
- حجاب (محمد منير)، الأسس العلمية لكتابة الرسائل الجامعية، دار الفجر للنشر والتوزيع، القاهرة، 2000. (متوفر على النت)
- حسن (أحمد عبد المنعم)، أصول البحث العلمي، ج1 و ج2، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، ط1، 1996. (متوفران على النت)
- حمدان (محمد زياد)، البحث العلمي كنظام، دار التربية الحديثة، عمان، ط1989. (متوفر على النت)
- خروع (أحمد)، المناهج العلمية وفلسفة القانون، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، ط3، 2005.
- خضر (عبد الفتاح)، أزمة البحث العلمي في العالم العربي، د م ط، ط3، 1992. (متوفر على النت)
- دويدري (رجاء وحيد)، البحث العلمي أساسياته النظرية وممارسته العملية، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 2000. (متوفر على النت)
- ديكارت (رينيه)، مقال عن المنهج، ترجمة: الخضيري (محمود محمد)، الهيئة العامة المصرية للكتاب، مصر، ط1985. (متوفر على النت)
- زكريا (فؤاد)، نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان، دار مصر للطباعة، مصر، ط1991. (متوفر على النت)
- زيدان (محمد فهمي)، الاستقراء والمنهج العلمي، دار الجامعات المصرية، الإسكندرية، ط1977. (متوفر على النت)
- ساعاتي (أمين)، تبسيط كتابة البحث العلمي،المركز السعودي للدراسات الاستراتيجية، مصر، ط1، 1999. (متوفر على النت)
- شالمرز (آلان)، نظريات العلم، ترجمة: الحسين (سحبان)، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 1990. (متوفر على النت)
- شروخ (صلاح الدين)، منهجية البحث العلمي للجامعيين، دار العلوم، عنابة، 2003.
- شلبي (أحمد)، كيف تكتب بحثا أو رسالة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط21، 1992. (متوفر على النت)
- شميشم (عبد الوهاب)، مناهج العلوم القانونية، دار الخلدونية، الجزائر، ط2006.
- صابر (فاطمة عوض) و خفاجة (ميرڤت علي)، أسس ومبادئ البحث العلمي، مكتبة ومطبعة الإشعاع الفنية، الإسكندرية، ط1، 2002. (متوفر على النت)
- عبيدات (محمد) وآخرون، منهجية البحث العلمي القواعد والمراحل والتطبيقات، دار وائل للنشر، عمان، ط2، 1999. (متوفر على النت)
- عروة (أحمد) وآخرون، قضايا المنهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، ط1، 1996. (متوفر على النت)
- عقيل (عقيل حسين)، فلسفة مناهج البحث العلمي، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1999. (متوفر على النت)
- عليان (ربحي مصطفى) وغنيم (عثمان محمد)، مناهج وأساليب البحث العلمي النظرية والتطبيق، دار صفاء للنشر والتوزيع، ط1، 2000. (متوفر على النت)
- عليوان (اسعيد)، مطبعة موجهة للسنة الثالثة LMD مقياس: تقنيات البحث العلمي وتحقيق المخطوطات، جامعة الأمير عبد القادر قسنطينة، 2009-2010.
- عوابدي (عمار)، مناهج البحث العلمي وتطبيقاتها في ميدان العلوم القانونية والإدارية، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، ط5، 2005.
- غراويتز (مادلين)، مناهج العلوم الاجتماعية، الكتاب الثاني، منطق البحث في العلوم الاجتماعية، ترجمة: عمار (سام)، مطبعة طربين، دمشق، ط1993. (متوفر على النت)
- غناي (زكية)، منهجية الأعمال الموجهة في القانون المدني، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، ط2، 2008.
- فرانيير (جان-بيار)، كيف تنجح في كتابة بحثك، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 1994. (متوفر على النت)
- قاسم (محمود)، المنطق الحديث ومناهج البحث، مكتبة الأنجلومصرية، مصر، ط2، 1953. (متوفر على النت)
- قندليجي (عامر)، البحث العلمي واستخدام مصادر المعلومات، دار اليازوري العلمية، عمان، ط1، 1999. (متوفر على النت)
- ليبنتز (ج.ف)، أبحاث جديدة في الفهم الإنساني: نظرية المعرفة، ترجمة: كامل (أحمد فؤاد)، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ط1983. (متوفر على النت)
- مبارك (محمد الصاوي محمد)، البحث العلمي أسسه وطريقة كتابته، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، ط1، 1992. (متوفر على النت)
- محمد (علي عبد المعطي)، المنطق ومناهج البحث العلمي في العلوم الرياضية والطبيعية، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ط2، 2004. (متوفر على النت)
- محمود (محي محمد مسعد)، كيفية كتابة الأبحاث والإعداد للمحاضرات، المكتب العربي الحديث، ط 2، 2000. (متوفر على النت)
- محيرق (مبروكة عمر)، دراسات في المعلومات والبحث العلمي والتأهيل والتكوين، عصمي للنشر والتوزيع، القاهرة، ط 1996. (متوفر على النت)
- مراح (علي)، منهجية التفكير القانوني نظريا وعمليا، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، ط3، 2007.
- نجم (أحمد حافظ) وآخرون، دليل الباحث، دار المريخ، الرياض، ط1988. (متوفر على النت)
- نعمان (منصور) والنمري (غسان ذيب)، البحث العلمي حرفة وفن، دار الكندي للنشر والتوزيع، الأردن، ط1، 1998. (متوفر على النت)
- هيكل (محمد حسين)، الإيمان والمعرفة والفلسفة، دار المعارف، القاهرة، ط2. (متوفر على النت)
ملاحظة فيما يخص المراجع: تبقى هناك العديد من المراجع التي لم تذكر أغلبها متوفر على النت.
الباب الأول: نظرية المعرفة
هذه النظرية الفلسفية تبحث في مشكلة المعرفة، وتحاول الإجابة عن مختلف التساؤلات المرتبطة بها، مثل: هل المعرفة فطرية أم مكتسبة (كيف نعرف ما نعرفه؟)، ما هو مدى المعرفة الإنسانية وحدودها ووسائلها وإمكانياتها (ما هي إمكانية الإنسان في بلوغ اليقين في المعرفة؟).
إن المعرفة اليوم تنقسم إلى معرفة علمية ومعرفة غير علمية، فالأولى هي العلم، وهي تتميز بالمنهجية، أي بسلوك طرق محددة للوصول إلى النتيجة، أما المعرفة الثانية فهي معرفة لكنها ليست علما، لأنها لا تصل إلى قوانين ثابتة أو نظريات، بل هي مجرد تجارب وخبرات وأفكار وخيالات وتخمينات.
لقد كان الاهتمام بنظرية المعرفة موجودا منذ بداية الفلسفة، أي منذ سقراط وهيراقليطس وبارمنيدس والسوفسطائيين وأفلاطون، وقد خصص هذا الأخير جزءا من محاورات "مينون" و"الجمهورية" لهذا الموضوع، أما أرسطو فتناولها في كثير من الكتب، مثل: النفس، والميتافيزيقا، والأخلاق.
ومما كتبه أرسطو:"كل معرفة، فهي في نظرنا شيء حسن جليل، ومع ذلك فنحن نؤثر معرفة على أخرى، إما لدقتها، وإما لأنها تبحث عما هو أشرف وأكرم". وقد حاول أرسطو تخليص العلم من كثير من الخرافات والأساطير التي سيطرت عليه، كما في كتابه أجزاء الحيوان، وقد أدى شغف أرسطو بالعلم والمعرفة أن خصص جزءا كبيرا من تفكيره لوسائل المعرفة الإنسانية، فأسس علم المنطق، واعتبره بمثابة ميزان للعقل، وذلك حين لاحظ أن الناس يعتمدون في المعرفة على الحواس فقط، فأكد محدودية تلك الحواس وقصورها، ووجد أن العقل هو القادر على تحليل ما تعطيه الحواس، وهو القادر بالتالي على بناء المعرفة الإنسانية.
من هنا، فسنتاول في نظرية المعرفة العلمية ما يلي:
الفصل الأول: المعرفة والعلم
المبحث الأول: العلم
المطلب الأول: تعريف العلم
العلم هو أهم مدخل للمعرفة، فهو معرفة موثوقة حول الأمور المتعلقة بالخبرة الإنسانية، هو يطلق على كل العلوم، كما يطلق على كل علم مستقل أيضا، فيقال: العلم أساس التطور، أي كل العلوم، ويقال: علم الفلك، علم الاجتماع ... إلخ
وليس كل دراسة لظاهرة ما يعتبر علما، فلو حاول المحاولون أن يجعلوا من التنجيم علما، على أساس أنه دراسة لظواهر معينة تربط بين النجوم وسلوكات الأفراد في حاضرهم ومستقبلهم، وأسسوا له جامعات ما أصبح مؤهلا ليكون فرعا من فروع العلم، والسبب في رفض التنجيم كعلم ليس لطبيعته، وإنما لأنه لا يقوم على منهجية علمية، ولهذا أصبح العلم يختلط بالمنهجية العلمية.
فكل معرفة يرفضها العلم فإنه يرفضها لاعتبارات منهجية، كما أن المعرفة العلمية قد تصبح غير علمية، وفقا للأبحاث المنهجية التي تجرى، فالعلم ليس منظومة معرفية بقدر ما هو نتيجة دراسة منهجية محددة، لذلك نرى أن أفضل تعريف للعلم أنه المعرفة التي يتم الوصول إليها بمنهجية علمية.
المطلب الثاني: المسلمات (الافتراضات) التي يقوم عليها العلم
وفقا لنظرية المعرفة فهناك مسلمات يقوم عليها العلم، وتتمثل أساسا في:
أولا: انتظام الطبيعة
الأحداث لا تحدث بشكل عشوائي، حتى في البيئات المتغيرة باستمرار هناك نوع من الانتظام، مثال ذلك: انتظام قدوم الفصول الأربعة.
ثانيا: إمكانية دراسة الطبيعة
الإنسان هو جزء من الطبيعة، وهو قابل للدراسة مثل الطبيعة تماما، سواء في نواحيه المادية أو غير المادية، ولكن الدراسات المادية سواء التي تدرس الطبيعة أو الإنسان أكثر دقة من العلوم التي تدرس الإنسان في جوانبه غير المادية (العلوم الإنسانية أو الاجتماعية).
ثالثا: السببية في الطبيعة (كل الظواهر الطبيعية لها مسببات)
هذا يعني رفض التفسيرات الدينية والروحية والسحرية للظواهر، فمسببات الظواهر موجودة في الطبيعة وليس خارج الطبيعة، وقد كان لهذه السببية دور كبير في الثورة العلمية.
ثالثا: النسبية في المعرفة
الحقائق العملية يجب البرهنة عليها بشكل علمي وموضوعي، ويبقى احتمال الخطأ ورادا دوما، وهذا يقودنا أيضا إلى البحث دائما عن تحسين معارفنا طبقا لقاعدة: المعرفة أفضل من الجهل.
رابعا: المعرفة وليدة الخبرة (التجربة) وكذلك العقل
سبق أن ذكرنا أن المعرفة هي بالأساس وليدة التجربة أي التي تنطلق من الحواس، ولكن العقل النظري أيضا له دور في استخلاص المعارف.
ملاحظة: هناك بعض الباحثين يذكرون المسلمات التي يقوم عليها العلم بطريقة أخرى أو بإضافة عناصر أخرى، مثل الرأي الذي يرى أن المسلمات التي يقوم عليها العلم هي: افتراض وحدة الطبيعة (وجود حالات متشابهة في الطبيعة وما يحدث في حالة في الماضي مثلا يحدث في حالات أخرى في الحاضر والمستقبل)، مسلمة الأنواع الطبيعية (عوامل مشتركة بين الأشياء)، افتراضات خاصة بالعمليات العقلية (مسلمة صحة الإدراك، مسلمة صحة التذكر، مسلمة صحة التفكير أو الاستدلال)، مسلمة الوضعية أو الحسية، مسلمة الاطراد، مسلمة الحتمية، مسلمة الثبات.
المطلب الثالث: أهداف العلم
إن الهدف الأساسي للعلم هو النظرية، والقانون، والقانون أكثر ثباتا من النظرية، فالنظرية هي بمثابة تفسير مؤقت، ويمكن تلخيص أهداف العلم في ثلاثة:
الفرع الأول: التفسير
يسعى العلم بالدرجة الأولى إلى التفسير، أي الإجابة عن سؤال: لماذا، ويكون التفسير عن طريق ربط الظاهرة بسبب ما، أو بظاهرة أخرى، وذلك من خلال قانون عام، وهناك نوعان من التفسير:
أولا: تفسير استناطي : يستند إلى المنطق الأرسطي، أي صحة النتائج بناء على صدق المقدمات، فطالما المقدمات صادقة فالنتائج صحيحة، فكل جسم يرمى في الهواء يعود للسقوط على الأرض وذلك بسبب الجاذبية، فهذا قانون عام.
ثانيا: تفسير احتمالي (أو استقرائي): في هذه الحالة حيث لا يكون التعميم ممكنا، يكون التفسير احتماليا، مثل الحالة في العلوم الإنسانية، وكأن العالم يضع تفسيرا يقول فيه هناك احتمال قوي أن يكون سبب الظاهرة (الاجتماعية) هو كذا، فلو كان حزب ما دائما يفوز في الانتخابات بنسبة 70 بالمائة لمدة خمسين سنة فلا يمكن القول أنه في المرة القادمة سيفوز بهذه النسبة.
الفرع الثاني: التنبؤ
تعتبر إمكانية إنشاء تنبؤات صحيحة الميزة الأساسية للعلم، وبقدر ما تكون المعرفة ضئيلة حول ظاهرة ما يكون التنبؤ ضعيفا، أما حيث يكون التفسير ممكنا، ويكون هناك قانون واضح فالتنبؤ يغدو سهلا، فعندما تعلم أن الماء يتجمد في الصفر فإنه يمكن التنبؤ بما يحدث لسيارتك إذا لم تزودها بمانع للتجمد.
يمكن القول أن التنبؤ هو عملية معاكسة للتفسير، فإذا كان التفسير هو أن x هو سبب حصول z فإن التنبؤ هو بما أن x موجود فإن z سيحصل.
الفرع الثالث: الفهم
يشكل الفهم الركن الثالث في المعرفة العلمية، ويعني فهم الظواهر وكشف العلاقات بينها، سواء منها الظواهر الطبيعية أو الإنسانية (الاجتماعية)، ووصفها وصفا دقيقا.
ويمكن إضافة هدف رابع وهو حل المشكلات والضبط والتحكم في الظواهر وصنع القرارات إلخ.
المبحث الثاني: المعرفة
المعرفة أعم وأوسع من العلم،
المطلب الأول: صور (أساليب) الحصول على المعرفة
يمكن التمييز بين ثلاثة أساليب أخرى غير العلم (الأسلوب العملي) استخدمت عبر التاريخ للوصول إلى المعرفة:
1- الأسلوب السلطوي:
يعتمد على الثقة في أشخاص يعتقد أنهم مصدر المعرفة بسبب مكانتهم السياسية أو الاجتماعية، كشيخ القبيلة، أو الكاهن، أو رجل الدين، أو الملك، وغيرهم، وقد لا يقبل الناس بهذه المعارف فيلقون الزجر والعقاب على ذلك.
2- الأسلوب الروحي:
يعتمد على أشخاص لهم سلطة روحية كالأنبياء والوسطاء والعرافين، وقد يصبح الناس تحت تأثير الحالة النفسية (الإحباط واليأس وحتى الجهل) أكثر ميلا لقبول المعرفة المنتجة بهذا الأسلوب.
3- الأسلوب الفلسفي العقلاني:
يتم الحصول على المعرفة باعتماد مبادئ المنطق (من استنتاج وقياس واستقراء)، وكذلك الحدس، فتقوم الفلسفة العقلانية على أساسين: أولهما أنه يمكن للعقل أن يفهم العالم بشكل مستقل عن مجرد الظواهر التي تقع تحت الحواس، وثانيهما: أن المعرفة موجودة بشكل مستقل عن التجربة والخبرة الشخصية.
ويتم إنتاج المعرفة بهذا الأسلوب عن طريق التفكير المجرد المضبوط بقواعد علمية تجعل من نتائجه علمية، وقد أسس لهذا الأسلوب أرسطو كما ذكرنا، وأنصار هذا الاتجاه يبرهنون على نظريتهم بأن الرياضيات تتضمن حقائق عالمية، وفي الحقيقة أن علم المنطق هو جزء ضروري من المنهجية العملية وهو مطلوب في جميع العلوم.
ملاحظة: هناك تقسيمات عديدة لهذه الأساليب منها:
تقسيم أول: أسلوب أهل الرأي والتقليد والعرف – أسلوب الخبرة والتجربة – أسلوب القياس المنطقي والاستدلال – الأسلوب الاستقرائي أو التجريبي.
تقسيم ثان: الطريقة الخضوعية – الطريقة الروحية – الطريقة المنطقية – الطريقة العلمية.
تقسيم ثالث: الصدفة – المحاولة والخطأ، السلطة والتقليد – الخبرة – التكهن والجدل – الاستنباط والاستقراء – الطريقة العلمية في البحث
المطلب الثاني: مراحل المعرفة (مراحل التفكير البشري)
مر التفكير البشري (والذي حصيلته المعرفة) بثلاث مراحل كالتالي:
أولا: المرحلة الحسية (المعرفة الحسية):
في هذه المرحلة استخدم الإنسان حواسه المجردة لفهم وتفسير الأشياء (مرحلة الوصف).
ثانيا: المرحلة الفلسفية التأملية (المعرفة الفلسفية):
في هذه المرحلة استخدم الإنسان عقله للتفكير في كثير من الأمور والبحث فيها مثل الموت والحياة والوجود والخلق والخالق.
ثالثا: المرحلة العلمية التجريبية (المعرفة العلمية):
في هذه المرحلة استطاع الإنسان ربط الأسباب بمسبباتها ربطا موضوعيا، عن طريق البحث العلمي المحكوم بمنهجية دقيقة، وصولا إلى نظريات وقوانين وتعميمات مفيدة.
المطلب الثالث: الخصائص التي تميز العلم عن المعرفة
العلم مرتبط بالاستدلال الفكري أي بالمنهجية العلمية، ومن أهم خصائص العلم نذكر ما يلي:
1- الموضوعية أوالتجرد: فالبحث العلمي يجب أن يكون منزها عن الهوى الذاتي، وأن تكون الغاية عند الباحث هي الدخول إلى الحقيقة واكتشافها، سواء اتقفت مع ميول الباحث أم لم تتفق، والباحث لا يستطيع التخلي عن الذاتية بصفة مطلقة وإلا اختفى الإبداع، ولكن الموضوعية تتجلى في تطبيق الوسائل العلمية في الاستدلال، من منطق أو تجربة، مرفقة بالتحليل والموازنة والنقد والأسانيد، ثم بعد ذلك أن يبتعد عن الذاتية والتحيز واحترام الأمانة العلمية والوثوقية.
2- المنهجية، أي اتباع الطريقة العلمية في البحث من صياغة الإشكالية إلى جمع البيانات وفرض الفروض وتحليل المعلومات وصولا إلى صياغة النتيجة، ويمكننا تعريف المنهجية مؤقتا بأنها:"نظام من القواعد الصريحة الواضحة والإجراءات التي يبنى عليها البحث وتقيم ادعاءات المعرفة بناء عليها".
3- الشمولية والتعميم، وما يعرف بالاستقصاء العلمي، أي تعميم النتيجة على مجتمع كبير من الحالات، لا على حالات قليلة معزولة، فالعلم يجب أن يتسم بالتعميم، وقابلية التكرار.
4- المصداقية والوثوقية، يتصف البحث بالمصداقية عندما يصل إلى استنتاجات صحيحة
5- التنظيم والدقة، أي تنظيم التفكير، فالإنسان في العادة يفكر بطريقة عفوية، ولكن العلم لا يقبل التفكير العفوي التلقائي، بل يعتمد الفكر المنظم.
6- التراكمية، فالطريقة التي يتطور بها العلم تبين أنه يأخذ من النظريات السابقة نقطة انطلاق لنظريات جديدة، وقد يلغي تلك النظريات، أو يعدلها ويوسعها، فيصبح العلم كأنه بناء يتكون من طوابق، على عكس المعارف الأخرى التي لا تلغي بعضها، مثل الفن، فاللوحات الفنية، والقطع الموسيقية، والأشعار الجميلة لا تلغي اللوحات والقطع والأشعار القديمة، أما العلم فهو في تطور، وهو يتطور بشكل عمودي أي أنه يعود لمناقشة نفس الظواهر ليكتشف نظريات جديدة، كما يتطور بشكل أفقي، فلا يبحث دائما نفس الظواهر بل يبحث عن ظواهر جديدة.
7- الإمبريقية، تعني دراسة العالم المحسوس فقط، أما الدراسات التي تتعلق بالميتافيزيقا فهي تبقى ملتصقة بالفلسفة وحدها، ونحن نعلم أنه قد حدث انفصال بين العلم والفلسفة إن صح التعبير، لأن الحقيقة أنه حدث انقلاب فلسفي لصالح الفلسفة التجريبية على حساب الفلسفة المثالية.
8- السببية، إن الظواهر ترد إلى أسباب، وليس إلى الصدفة والخرافة، فهذان الأخيران هما أكبر معوق للتفكير العلمي، وهما سبب جمود العقل البشري.
الفصل الثاني
التفكير والبحث العلمي
المبحث الأول: التفكير العلمي
المطلب الأول: خصائص التفكير العلمي
- التخلي عن المعلومات السابقة، أي أن يقف الباحث من بحثه موقف الجاهل، ويتجاهل كل ما يعرفه، فلا يتأثر أثناء بحثه بمعلوماته السابقة، وهو ما يسمى بالشك المنهجي، أي أنه يتعمد الشك ليصل إلى الحقيقة، وذلك إمعانا في النزاهة والموضوعية.
- الملاحظة الحسية هي أساس ومصدر الحقائق، أما التجربة فهي تبقى تجربة، وذلك أن الذي يتدخل في سيرها هو الباحث، وفي بعض العلوم لا يمكن القيام بتجارب، لذلك فالملاحظة تبقى أقوى من أي تجربة.
- نزوح العلم إلى القياس الكمي (التكميم)، وقد استتبع الخاصية السابقة أن اعتقد بعض العلماء أن العلم هو التجربة فأخضعوا جميع الظواهر حتى الإنسانية منها للتجربة، وليس الأمر كذلك، وليس بالضرورة أن يتم التعبير عن الحقيقة دائما بطريقة كمية (أعداد وإحصاءات ورموز رياضية)، وإن كانت التفسيرات الكمية من أهم التفسيرات وأدقها.
- النزاهة والموضوعية والأمانة العلمية، هي صفات عديدة في الباحث وفي البحث تتعلق بالتجرد والحياد والابتعاد عن الأهواء الذاتية والرغبات الشخصية، والتحرر من أي سلطة، والإخلاص للحقيقة وحدها الابتعاد عن التعصب والمغالاة، وباختصار شديد احترام أخلاقيات البحث العلمي.
- الاعتقاد بمبدأي الحتمية والسببية الذين هما أساس العلوم، عكس الخرافة والصدفة والأسطورة التي هي سبب لانتكاسة العقل والفكر وتأخر العلم.
- الولع بالتخصص الدقيق، لقد اتسع العلم، وتعددت فروعه، حتى أصبح العلماء يجعلون في العلم تخصصات دقيقة جدا، وذلك بعد أن غلبت النزعة المادية في العلم.
المطلب الثاني: أطوار أو مراحل التفكير العلمي
منذ نشأ الإنسان على الأرض وهو يحاول معرفة الحقائق بأدوات مختلفة، أولها الحواس، وثانيها العقل، وقد تطورت قدرة الإنسان على إدراك ما حوله، أما الخرافة فقد سيطرت في مرحلة الإنسان البدائي فشكلت مع الأساطير عائقا حقيقيا أمام التفكير البشري.
وفي الفلسفة نعرف المذهب العقلي الذي يقول: أن الحقائق العلمية إنما تكون عن طريق الاستدلال العقلي الخالص، فهو يقوم على الإيمان بالعقل وحده، ولذلك فحتى الأمور اللاهوتية (الدينية) أخضعوها للعقل، وابتعدوا بها عن التفسيرات الخارقة للطبيعة.
ثم جاء المذهب التجريبي الذي يقول إن المعرفة تكون عن طريق الخبرة الحسية، في صورة ما تعطيه الحواس أو ما تعطيه التجربة.
إن بداية البحث العلمي الدقيق في التاريخ الإنساني غير معروفة على وجه اليقين، ويؤكد الباحثون أن الشعوب الشرقية (الهنود، البابليون، المصريون) أسبق من غيرهم في المعرفة والبحث العلمي.
وقد ظهرت خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين حاجة جماهيرية واسعة لطلب المعرفة وخاصة التقنية منها، وأطلق على ذلك الثورة العلمية، ويرى بعض الفلاسفة أن العلم هو طور جديد في المعرفة، حيث أوجد اتجاها جديدا ومناهج مبتكرة، حتى أن البعض راحوا يتساءلون عن السر الكامن وراء كل هذه المبتكرات، وعن سر تميز علماء تلك الفترة الذين قاموا بهذه الثورة العلمية (عصر النهضة)، ومهما كانت الأسباب فإن المنهج العلمي الرصين قد تكون مع عصر النهضة وكان له الأثر الكبير على الثورة العلمية التي حصلت بعد ذلك.
المبحث الثاني: البحث العلمي
المطلب الأول: تعريف البحث العلمي
من تعاريف البحث العلمي المتداولة أنه عملية الاستقصاء الذي يتميز بالتنظيم الدقيق لمحاولة التوصل إلى معلومات أو معارف أو علاقات جيدة، والتحقق من هذه المعلومات والمعارف الموجودة وتطويرها باستخدام طرائق أو مناهج موثوق في مصداقيتها.
كما يعرف البحث العلمي بأنه "عملية فكرية منظمة يقوم بها شخص يسمى الباحث، من أجل تقصي الحقائق في شأن مسألة أو مشكلة معينة تسمى موضوع البحث، باتباع طريقة علمية تسمى منهج البحث، بغية الوصول إلى نتائج صالحة للتعميم أو علاج لمشكلة ما بطريقة أيضا قابلة للتعميم على المشاكل المماثلة تسمى نتائج البحث.
فيما يخص الباحث ففي عصرنا الحالي أصبح البحث كما يضطلع به باحثون أفراد تقوم به كذلك مجموعات بحث تسمى فرق أو وحدات أو مراكز أو مخابر بحث أو دراسات.
فيما يخص موضوع البحث هناك دوافع عديدة للبحث منها: حب المعرفة، التحضير لدرجة علمية، الحصول على جائزة، الحصول على ترقية، الوفاء بمطالب الوظيفة (مؤسسة معينة تطلب من موظف لديها القيام ببحث معين للتغلب على مشكلة معينة تواجهها)، الرغبة في تحقيق فكرة، عدم الرضا برأي معين، حب الشهرة والظهور، الاهتمام الشخصي بمشكلة ما... إلخ وهذه دوافع ذاتية، أما الدوافع الموضوعية للبحث فهي ترجع إلى وجود إشكالية حقيقية أو ظهور حاجات جديدة أو العمل على إيجاد بدائل جديدة والرغبة في تحسين الإنتاج أو الرغبة في زيادة الدخل القومي أو الرغبة في التنبؤ ... إلخ
أما فيما يخص منهج البحث، فهو يتمثل فيما يسمى الطريقة العلمية فهذه الأخيرة هي أسلوب التفكير العلمي الذي على الباحث أن يتبعه فهي تعتمد على المنطق والاستدلال والموضوعية وصولا إلى نتائج منطقية أيضا، فاكتشاف حلول المشاكل قد يقع أحيانا بالصدفة، لكن الطريقة العلمية لا تصل إلى حل المشاكل بالصدفة إنما باتباع خطوات دقيقة تسمى المنهج العلمي، وهي تتميز بمايلي: الانطلاق من تساؤل واضح وليس من أفكار مسبقة، الوصول إلى نتائج موثوقة لكنها غير قطعية ولا مطلقة، الاعتماد على منهج قابل للتكرار وقابل التأكد والتحقق منه واختباره وصولا إلى نتائج وتعميمات قابلة هي أيضا للاختبار، وليس إلى مسلمات غير قابلة للتأكيد.
إن نتائج البحث هي عبارة عن تعميمات في صورة نظريات أو قوانين، وهي تتصف بالثبات (أي الاتساق وقابلية الاختبار)، والصدق (أي صحة أدوات القياس وصحة التجارب)، والموضوعية (التحرر من التحيز والتعصب والذاتيات)، وأخيرا العلمية أي تلك المعرفة التي تضيف جديدا إلى العلم بخصائصه المعروفة.
المطلب الثاني: أنواع البحوث العلمية
هناك العديد من التقسمات لأنواع البحوث العلمية حسب الزوايا لتي يتم التقسيم انطلاقا منها:
حسب المنهج: بحوث نظرية (رياضية، فيزيائية وطبيعية، إنسانية) – بحوث تجريبية (طبيعية، إنسانية) – بحوث ميدانية – بحوث تطبيقية
حسب الهدف: بحوث استطلاعية – بحوث وصفية – بحوث تفسيرية أو برهانية
يمكن تقسيم أنواع البحوث العلمية وفق الفروع التالية:
الفرع الأول: البحوث التنقيبية
أي التنقيب عن حقائق معينة، دون محاولة التعميم، أو حتى استخدام هذه الحقائق في حل مشاكل معينة، كالبحث في تاريخ نشأة كليات الحقوق عبر العالم.
الفرع الثاني: البحوث التفسيرية النقدية
هي بحوث فكرية، أي مشكلتها الأساسية تنتمي إلى عالم الأفكار، أكثر من تعلقها بالحقائق، حيث يتم طرح الآراء المختلفة وتحليلها وتصنيفها وتفسيرها ثم نقدها، وذلك باعتماد المبادئ المعروفة في حقل التخصص، وتكون المناقشة معقولة أي وفق قواعد المنطق، ويصل البحث إلى نتائج.
الفرع الثالث: البحوث الكاملة
هي تهدف إلى حل المشكلات ووضع التعميمات عن طريق التنقيب عن الحقائق وطرح الآراء المختلفة ونقدها فهو يجمع بين النوعين السابقين.
الفرع الرابع: البحوث الوصفية
هي بحوث تهدف إلى وصف الظواهر والأحداث والعلاقات والأشياء وتشخيصها عن طريق جمع المعلومات والحقائق والملاحظات عنها، دون تحليلها أو تفسيرها أو نقدها، وإنما تقديمها على حالتها، مثل الدرسات المسحية ودراسات الحالة ودراسات النمو (الدراسات التطورية).
الفرع الخامس: البحوث التجريبية
هي بحوث تتناول ظواهر معينة عن طريق معرفة العوامل التي تؤثر فيها، وذلك باستخدام المنهج التجريبي حيث يتم فرض فروض معينة ثم قياسها واختبارها عن طريق تجارب دقيقة مضبوطة وصولا إلى نتائج معينة، وقد أصبح هذا المنهج مستخدما في العلوم الإنسانية بينما ميدانه الأساسي هو العلوم الطبيعية.
الفرع السادس: أنواع البحوث الأكاديمية
إن البحوث الأكاديمية تجرى في الجامعات من طرف الطلاب والأساتذة والباحثين، فمنها: البحوث الصفية التي يجريها الطلاب أثناء الدراسة، وبحوث الدراسات العليا ويجريها الطلبة أيضا في مراحل الدراسة العالية التي تسمى عندنا بما بعد التدرج، وهناك البحوث التي يقوم بها الأساتذة وهو يشمل الكتب التي ينتجونها والمقالات العلمية التي ينشرونها والمداخلات العلمية التي تقدم في ملتقيات علمية أو ندوات دراسية، كلها تخضع لمنهجية البحث العلمي، وإن اختلفت أحجامها ومسمياتها وأهدافها.
المطلب الثالث: أخطاء البحث العلمي
تتعدد مصادر الأخطاء في الأبحاث العلمية، منها ما يرجع إلى أخطاء الحواس كالخطأ في تدوين الملاحظات أو تصنيف البيانات المحصل عليها، ومنها ما يرجع إلى أخطاء الذاكرة حين يعتمد عليها الباحث أحيانا، ومنها أخطاء المنطق وترجع إلى عدم الاستدلال بشكل جيد على ادعاءات الباحث وتحليلاته، ومنها الأخطاء التقنية التي تسجلها الآلات إلى غير ذلك من الأخطاء التي ترجع إلى الإنسان أو إلى الأدوات المستخدمة.
وعلى كل حال فإذا كانت هذه الأخطاء تعد مقبولة وبعضها يكون غير قابل للتفادي، فإن غير المقبول هو الأخطاء المنهجية التي ترجع إلى عدم استخدام المنهجية بطريقة سليمة في مختلف أطوار البحث، وهو ما يقودنا للبحث في نظرية المنهجية.
الباب الثاني: نظرية المنهجية
الفصل الأول: حول المناهح والمنهجية
المبحث الأول: تعاريف
المطلب الأول: تعريف المنهجية
المنهج يعني مجموعة من القواعد التي يتم وضعها بقصد الوصول إلى الحقيقة في العلم، إنه الطريقة التي يتبعها الباحث في دراسته للمشكلة لاكتشاف الحقيقة.
والمناهج أو طرق البحث عن الحقيقة تختلف باختلاف المواضيع، ولهذا توجد عدة أنواع من المناهج العلمية، سندرسها لاحقا، ومن أهم تعاريف المنهج العلمي تعريف الدكتور عبد الرحمان بدوي الذي وصفه بأنه"فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة، إما من أجل الكشف عن الحقيقة حين نكون بها جاهلين، وإما من أجل البرهنة عليها للآخرين حين نكون بها عارفين".
في الواقع لا توجد طريقة علمية واحدة يمكن الاعتماد عليها بمفردها للكشف عن الحقيقة، لأن العلوم تختلف، ومن ثمة تختلف طرق البحث فيها، وتختلف وسائل البحث وأواته أيضا، فبعض العلوم تعتمد الاستنتاج الذي ينطلق من الملاحظة، وبعضها تعتمد المعادلات الرياضية، وبعضها تعتمد التجارب العلمية في المخابر، وبعضها تعتمد الاستقراء والتأمل والتحليل، ولكن اختلاف المناهج لا يعني تعارضها فهي تكمل بعضها.
من جهة أخرى إذا كانت المناهج تكمل بعضها، فهي أيضا مناهج صحيحة تم اعتمادها من قبل، على عكس المناهج الخاطئة التي يوصى بعدم اعتمادها، فالمنهج هو عبارة عن طائفة من القواعد العامة المصوغة من أجل الوصول إلى الحقيقة في العمل، فالمناهج العلمية جاءت عن طريق دراسات متخصصة من طرف علماء المناهج، وهناك قواعد مشتركة بين جميع العلوم تجعلنا نعتبر كل تلك المناهج هي تابعة لمسمى واحد هو المنهج العلمي.
وقد أثار كلود برنارد مشكلة: هل المنهج يوضع من طرف فلاسفة وعلماء مناهج مسبقا ثم يتعين على الباحثين اتباعه، أم هو موضوع من طرف علماء متخصصين؟
يرى البعض أن المنهج يوضع من طرف فلاسفة لأنه عملية فلسفية قبل كل شيء، لكن كلود برنارد يرى عكس ذلك، وأن المنهج يولد في المعمل الذي هو معبد العلم الحقيقي، فكل عالم في ميدانه هو الذي يضع المنهج، أما آراء الفلاسفة وتوجيهاتهم فهي لم تساهم في تطور المناهج بل الذي ساهم في ذلك هو جهود المتخصصين.
والحقيقة أن المناهج وإن اختلفت من تخصص إلى آخر فهي تنطلق من منطقات فلسفية واحدة، ويجب أن يكون هناك تكامل بين الفلاسفة المختصين في المناهج والعلماء المتخصصين، ويمكن القول أن المناهج كلها يمكن ردها إلى ثلاث فروع كبرى هي: الاستدلال والتجريب والاسترداد (المنهج التاريخي).
المطلب الثاني: الفرضية والنظرية والقانون
هي مستويات ثلاثة تتدخل في المنهج العلمي، فالمنهج العلمي يقتضي الانطلاق من فرضيات، ويطلق عليها أيضا النظريات الافتراضية، والنظرية الافتراضية هي عبارة عن افتراض مؤقت، أو بالأحرى تفسير مؤقت يضعه الباحث بهدف الوصول إلى تأكيده أو نفيه، فإذا استطاع تأكيده عن طريق خطة علمية متكونة من خطوات دقيقة وصلنا إلى ما يسمى النظرية، فالنظرية هي تفسير أو هي نسق من التفسيرات ومن الرؤى حول ظاهرة معينة، أو هي مبدأ عام وضع لتفسير حقيقة ما.
إن النظرية قد تصبح قانونا إذا وصلت إلى قدر معين من الدقة، ولكن النظرية أقل من القانون في درجة اليقينية، أو بالأصح فالنظرية تقع في مرتبة وسط بين الفرضية التي هي تفسير مؤقت والقانون الذي هو تفسير دقيق مترجم في قواعد واضحة يكفي تطبيقها للوصول إلى تفسير الظاهرة (مثل قانون الجاذبية وقوانين مندل والقوانين الفيزيائية والرياضية).
لكن النظرية مثل القانون تبقى كلها لا تعبر عن حقائق يقينية، وقد تخضع النظريات إلى تعديلات معينة من زمن لآخر مثلما حدث للكثير من النظريات دون أن تصبح قوانين، فهي تبقى في إطارها النظري وهي تساعد على الفهم وتكون منطلقا للبحوث العلمية.
بالإضافة إلى مصطلح الفرضية والنظرية والقانون هناك العديد من المصطلحات المهمة التي يعطيها لنا علم المنهجية ولها أهميتها الخاصة لاستعمال هذا العلم مثل: المفاهيم التي ينطلق منها الباحث والتي تعبر عن لغة البحث التي يتعين عليه شرحها فهي أساس التواصل بين الباحث والآخرين، وكذلك التعاريف سواء منها التعاريف المفاهيمية أو الإجرائية، وسنتعرف عليها لاحقا.
المبحث الثاني: المنهج التاريخي
مفهومه – خطواته – تقييمه
المطلب الأول: مفهومه
المنهج التاريخي أو الاستردادي يعتمد على استرداد ما وقع في الماضي لمحاولة تفسيره وربطه بالحاضر، فيحاول استرجاع البيانات والمعلومات ذات الطابع المعرفي، ويطلق عليها الوثائق، ويطلق على المنهج أيضا المنهج الوثائقي، ففي الحقيقة أن ما يتم استرجاعه هنا لا يقع تحت الملاحظة مباشرة، ولكن ما يقع تحت الملاحظة هو آثار ودلائل من خلالها وعن طريق خطوات المنهج يتم تفسير وتحليل الأحداث والظواهر التي حصلت، ولهذا فهو يتطلب الكثير من الحيطة والحذر.
وكما هو واضح فهذا المنهج يستخدم أكثر في علم التاريخ، ويعرف بأنه التدوين الموثق للأحداث الماضية، لكنه ليس حكرا على علم التاريخ، بل يمكن استعماله في أي علم آخر يحتاج إليه من أجل تفسير أي ظاهرة، ففي العلوم القانونية يتم البحث في تاريخ الأنظمة القانونية المختلفة سواء منها المدنية أو التجارية أو الإدارية أو الدستورية أو الجنائية، كالزواج والطلاق والجريمة والعقاب وغيرها، فهو منهج ضروري للباحث القانوني.
المطلب الثاني: خطواته
إن خطوات هذا المنهج هي خطوات أي منهج دراسة والتي تتلخص في خمسة نقاط أساسية: تحديد المشكلة (اختيار الموضوع)– جمع البيانات (الوثائق والمصادر والحقائق) – النقد (التحليل) – صياغة الفرضيات واختبارها (التركيب) – تفسير النتائج (إنشاء الموضوع).
الفرع الأول: اختيار المشكلة
إن أصول اخيار المشكلة في جميع المناهج واحدة تتمثل في الضوابط التالية:
- في البحث التاريخي تكون المشكلة متعلقة بالماضي، ويجب أن تكون لها أهمية واقعية وقيمة وجودية.
- المشكلة أو بالأحرى الإشكالية تنطلق من المبادرة الذاتية للباحث، وتنبثق من فضوله العلمي، ويجب أن تكون جديدة في مضمونها وعنوانها، وتضيف جديدا إلى المعرفة التاريخية، وقد تكون من بين الموضوعات المطروحة سابقا لكن يتم التطرق لها من زوايا جديدة (هذا يحتم بداهة الاطلاع على الدراسات السابقة)، فعثور الباحث على مشكلة صالحة لبحثه هو ثمرة الاطلاع الدائب والقراءة المستمرة الواعية.
- عند تعيين الباحث للمشكلة فقد تتضح هذه الأخيرة في ذهنه وضوحا كافيا فينطلق في الخطوات الموالية، أو تكون غير واضحة ويكتنفها بعض الغموض فيلجأ حينئذ إلى مزيد من القراءة والمطالعة والتأمل والتفكير ليصل إلى إشكالية صالحة للبحث.
- إن المشكلة هي أساس البحث العلمي، والبحث الذي يبدأ من فراغ ينتهي إلى فراغ، وعلى الباحث أن يراعي فيها مجموعة من المعطيات قبل الانطلاق في دراستها (هل حددت تحديدا دقيقا ؟ هل هي تعبر عن أهداف الدراسة ؟ هل صيغت بعبارات وأسئلة دقيقة ؟ هل الظروف مواتية لدراستها من مراجع وإمكانيات مادية والزمن المتاح؟)
الفرع الثاني: جمع البيانات
البيانات من حقائق ووثائق هي وسيلة الإجابة عن الإشكالية، وهي حسب بعض الباحثين قسمان: روايات مأثورة ومخلفات محسوسة، وحسب البعض هي مصادر أساسية وأخرى ثانوية، ويمكننا تقسيمها إلى ثلاثة: وثائق مكتوبة وروايات ووثائق أخرى.
أولا: الوثائق المكتوبة والمطبوعة والمخطوطة، تشمل وثائق الأرشيفات، وثائق المنظمات المجتمعية المختلفة، المدونات الإعلامية من صحف ونشريات ودوريات، التقارير السرية الحكومية والخاصة، المؤلفات في مختلف التخصصات، وهذه كلها قد توجد في المكتبات والتي تحتوي أيضا أمورا أخرى كالنقود والمعاجم والموسوعات والمخطوطات والأطالس والخرائط والأدلة... إلخ
ثانيا: الروايات الشفوية المباشرة: من أشخاص شهدوا الحادث التاريخي بأنفسهم، أو سمعوا عنه، أو قرؤوا عنه في مصادر نادرة ... إلخ
ثالثا: الوثائق الأخرى: تشمل المخلفات المحسوسة (مباني-جسور-مدن-قلاع-بقايا إنسانية-صور-سجاد-فنون)، والوسائل الناطقة الأخرى (المسجلة)، والمخلفات الأثرية التي تزخر بها المتاحف بأنواعها (متاحف الفن والتاريخ والعلم).
الفرع الثالث: نقد الوثائق
هو عملية فكرية تراجعية، لأنها ترجع إلى حقائق ماضية والتحقق من صحتها عن طريق استدلالات فكرية، فروايات الأشخاص معرضة للتحريف والكذب والنسيان، والمخلفات المختلفة عرضة للتلف والتغير والتزوير، زمن هنا فالنقد يتجه إلى الوثيقة من الناحية الخارجية للتأكد من صدقيتها وصحتها أولا، ثم يتم نقدها داخليا من خلال معرفة الحقائق التي تتضمنها.
أولا: النقد الخارجي، يتناول هوية الوثيقة وأصالتها (إثبات صحة الأصل)، وتحديد مصدرها (زمانها ومكانها وهل هي أصلية أم منسوخة، كتبت بخط صاحبها أم بخط شخص آخر، بلغة عصرها أم بغير ذلك، هوية صاحبها أو ناسخها ... إلخ).
ثانيا: النقد الداخلي، يتناول تقييم الوثيقة من حيث المادة الموجودة في الوثيقة وصدقها، مدى صحة ودقة الحقائق الموجودة فيها، وذلك بناء على معطيات كثيرة، مما يتطلب من الباحث شخصية قوية وخيالا مبدعا وثقافة واسعة وذكاء وقوة ملاحظة، فهذه العملية شديدة التعقيد. مثلا: قد يستنتج الباحث أخطاء في الوثيقة من خلال تناقض في أقوال الشهود، تناقض في الروايات الرسمية وغير الرسمية، تناقض في نفس الرواية، تناقض بين المصادر ... إلخ
الفرع الرابع: التركيب التاريخي
إذا كانت عملية النقد من شأنها أن تعطي للباحث حقائق التاريخ بصورة مبعثرة ومنفصلة، فإن عملية التركيب تتعلق بتفسير الحقائق التاريخية، عن طريق ربطها ببعضها البعض، أو بأسباب معينة، وذلك بناء على فرضيات يقوم الباحث بصياغتها، ثم يقوم بالتحقق منها، فالحادث التاريخي ليس حدثا معزولا بل هو حدث مربوط بأسباب وعلل، وهذا ما تهدف إليه هذه المرحلة.
إذا كانت الفرضيات موجودة في ذهن الباحث حتى قبل أن يقوم بجمع البيانات ونقدها، فإنه بعد ذلك يقوم بإعادة صياغة تلك الفرضيات، ويعدل فيها، ويلجأ المؤرخ خلال هذه المرحلة إلى القيام بعملية المحاكمة، أي ملء الفجوات والثغرات، فقد تكون المحاكمة سلبية بالتأكيد على أن الحادث الناقص الذي يتم البحث عنه لم يقع أبدا، وقد تكون إيجابية إذا كان العكس أي استنتاج حقيقة تاريخية لم يتم إثباتها من قبل.
إن التعليل هو هدف التركيب، وهو ذروة العملية التركيبية، فهو يقود إلى إلى بحث العلاقة بين الحقائق، وقد أكد الاتجاه الحديث في التاريخ إلى أن هذا الأخير هو دراسة أسباب، أما سرد الأحداث التاريخية المتسلسلة فليس غرضا للبحث التاريخي مهما بلغ من الدقة والموضوعية، فهو لم يعد يمثل في نظر المؤرخين المعاصرين سوى تقويم كرونولوجي لا يفسر واقع الإنسان وفعالياته المختلفة.
الفرع الخامس: إنشاء الموضوع
أي تدوين البحث ونتائجه عن طريق صياغته صياغة تاريخية، ولا بد أن يركز على المهم من الأحداث والحقائق التاريخية، كما يركز على تفسير الظواهر تفسيرا يستفيد منه في المستقبل، وعلى الباحث أن يتحرى الموضوعية في بحثه، وإن كان هناك تشكيك كبير في الموضوعية في البحوث التاريخية.
وعلى كل حال فالصياغة النهائية للبحث تتم وفق طريقة إعداد البحث العلمي التي سنشرحها في وقتها.
المطلب الثالث: تقويم المنهج التاريخي في البحث
أنكر بعض العلماء الطبيعيين والمناطقة على المعرفة التاريخية علميتها، بحجة عدم إمكان إخضاع نتائجها للتجريب، وهذا يقال على كثير من العلوم الاجتماعية.
ويرى البعض أن التاريخ هو نوع ممتع من الأدب، يتضمن أقاصيص صادقة وكاذبة، وغير صحيح أن التاريخ يعيد نفسه، وهذا عكس ما نقوله نحن من أن التاريخ يجب أن يفرز بين الكذب والصدق.
وهناك من يرى أن الباحث التاريخي يصل إلى بعض الحقائق لكنه لا يصل إلى كل الحقائق، فالمعرفة التي ينتجها ناقصة غير كاملة، ناهيك عن التزوير الذي يلحق كثيرا منها.
كل هذه الانتقادات وغيرها لا تمس المنهج التاريخي في البحث من حيث أنه يحاول تلافي كل هذه النقائص والعيوب، من خلال الابتعاد به عن التزوير والكذب، وعدم جعله مجرد جمع للحقائق بل تفسير لها، ودون شك فهو لا يخضع للتجريب لكنه يخضع لمنهج علمي رصين يصل به إلى نتائج علمية تصل إلى حد التنبؤ مع تحفظ بالنسبة لكل الأخطاء المحتملة.
المبحث الثالث: المنهج الاستدلالي
مفهومه – مبادئه – أدواته
المطلب الأول: مفهوم الاستدلال
من أجل فهم جيد لمصطلح الاستدلال يحسن بنا العودة إلى علم المنطق الأرسطي.
علم المنطق التقليدي الذي وضعه أرسطو فصار ينسب إليه، واسمه المنطق الصوري لأنه منطق مجرد لا يتلق بأشياء بذواتها بل بأي شيء، فهو منهج للتفكير مطلقا، عن طريق تمييز معرفة الخطأ والصواب في الفكر، ومن الجدير بالذكر هنا أن المنطق ضروري في كل العلوم لأنه شامل لكل صور الفكر (لذلك عرفوه بأنه علم قوانين الفكر)، فهو علم معياري أي ضابط لكل العلوم.
إن أبسط تحليل للفكر يبدأ مما يسمى في علم المنطق القضية، فقولنا السماء تمطر أو هذا كتاب كل منهما قضية، فالقضية هي وحدة التفكير، ولكنها تحلل أيضا إلى حدود، فالحد هو لفظة أو تركيبة من ألفاظ (مثل قولنا رئيس الجمهورية الجزائرية الحالي)، أحد حدي القضية اسمه الموضوع والآخر المحمول، وتربط بينهما رابطة، كما أن كل حد سواء الموضوع أو المحمول ينطلق من تصور (في الذهن).
ثم هناك حدود كلية (كقولنا إنسان) وحدود جزئية (كالجزائر لأن هناك جزائر واحدة)، وهناك حدود عينية تشير إلى شيء معين (كرجل) حدود مجردة (كالإنسانية)، وهناك حدود سالبة (كغير ذكي) وحدود موجبة (كذكي)، وهناك حدود نسبية أو متضايفة (كزوج وأب وأستاذ إذ لا بد من زوجة وولد وتلميذ) وحدود مطلقة (كمعدن).
ويجدر بنا أيضا أن نعرف أن هناك للفظة الواحدة مفهوم وما صدق، فقولنا إنسان له مفهومه هو مجموع ما يتميز به من خصائص كأن نقول هو حيوان ناطق أو منطقي، أما ماصدقه فهو كل الأفراد الذين يمكن أن يطلق عليهم لفظ إنسان.
فإذا جئنا إلى القضايا التي هي الحد الأدنى من الكلام المفهوم الذي يعبر عن فكرة، والتي تحتمل الصدق أو الكذب، فهي عبارة إخبارية.
مثلا: إذا قلت عدد سكان القاهرة 10 ملايين، هي قضية لأنها تحتمل الصدق أو الكذب، أما لو قلت: افتح الباب، أو ليت الشباب يعود يوما فهي ليست قضية لأنها لا تحتمل الصدق والكذب.
أما الاستدلال الذي هو موضوعنا، فهو يتألف من هذه القضايا، حيث يتم الانتقال من قضية إلى أخرى عن طريق عملية ذهنية تسمى الاستدلال، فإذا قال لك أحدهم أن بعض الطلبة فقط حاضرون اليوم، يمكنك أن تستدل بطريقة مباشرة على أن بعض الطلبة غائبون.
فيمكن القول أن الاستدلال مرادف للاستنباط، ولكن في علم المنطق يعتبرون الاستنباط نوعا من الاستدلال، وهو الاستدلال الصوري، وقد يكون الاستدلال استقرائيا إذا كان حسيا وليس صوريا.
وينقسم الاستدلال المباشر إلى نوعين: استدلال عن طريق التقابل بين القضايا، واستدلال عن طريق التكافؤ (التعادل) بين القضايا.
فالأول: يتعلق بقضايا متعارضة لا تصدق معا ولا تكذب معا، مثالها:
كل الطلبة حاضرون ك م (كلية موجبة)
لا واحد من الطلبة حاضر ك س (كلية سالبة)
بعض الطلبة حاضرون ج م (جزئية موجبة)
بعض الطلبة ليسوا حاضرين ج س (جزئية سالبة)
هذه القضايا الأربعة (وتسمى قضايا حملية) تشترك في الموضوع والمحمول، لكنها تختلف في الكم والكيف، وهناك علاقات منطقية تربط بينها، أولها: التقابل بالتضاد (بين ك م و ك س، لا تصدقان معا وقد تكذبان معا)، وثانيها: التقابل بالتناقض ( بين القضيتين المختلفتين في الكم والكيف أي بين ك م و ج س وبين ك س و ج م، القضيتان المتناقضتان لا تصدقان معا ولا تكذبان معا، فإذا صدقت إحداهما كذبت الأخرى، وإذا كذبت صدقت الأخرى)، وثالثها: التقابل بالدخول تحت التضاد (بين الجزئيتين المختلفتين في الكيف أي بين ج م و ج س، لا تكذبان معا ولكن قد تصدقان معا)، ورابعها: التقابل بالتداخل (بين القضيتين المتفقتين في الكيف والمختلفتين في الكم، أي بين ك م و ج م، وبين ك س و ج س، إذا صدقت الكلية صدقت الجزئية المتفقة معها، والعكس غير صحيح، ولكن إذا كذبت الجزئية كذبت الكلية المتداخلة معها، والعكس أيضا غير صحيح).
أما الثاني: أي الاستدلال المباشر عن طريق التعادل بين القضايا، فهو انتقال من قضية معلومة إلى قضية أخرى تختلف معها في الموضوع أو المحمول أو فيهما معا، وتكون كل من القضيتين الأولى والثانية من نفس درجة الصدق أو الكذب، وهو أنواع: العكس المستوي، نقض المحمول، نقيض العكس، وعكس النقيض، ونقض الموضوع. (تراجع في الكتب المتخصصة)
هذا عن الاستدلال المباشر، أما الاستدلال غير المباشر، والذي يطلق عليه القياس، وهو أهم ما جاء به المنطق الأرسطي، ويتم فيه الانتقال من المعلوم (مقدمات القياس) إلى المجهول (نتيجة القياس) بواسطة معينة (حد ثالث يربط بين الحدين)، وهو أنواع: القياس الحملي، والقياس الشرطي المتصل، والقياس الشرطي المنفصل، والقياس المختلط.
خلاصة:
خلاصة ما سبق أن المنهج الاستدلالي يعتمد على الاستدلال أي على علم المنطق الذي يدور بين الاستدلال المباشر والاستدلال غير المباشر، وهما يشكلان المنطق الأرسطي أو الصوري، ومن جهة أخرى هناك الاستقراء وهو يشكل المنطق الحديث الذي يختلف تماما عن المنطق الأرسطي في أنه بالأساس يتنقل من الجزئيات إلى الكليات والعموميات، وهو أيضا استدلال لكنه استدلال قضية من أكثر من قضيتين (استدلال قضية من قضيتين فقط هو استدلال غير مباشر).
مخطط توضيحي:
المطلب الثاني: مبادئ الاستدلال
عرف الدكتور عبد الرحمان بدوي الاستدلال بأنه:" البرهان الذي يبدأ من قضايا يسلم بها إلى قضايا أخرى تنتج عنها بالضرورة دون التجاء إلى التجربة، وهذا السير إما بواسطة القول أو الحساب". ويجدر بنا تحليل هذا التعريف لفهم الاستدلال؛
فهو أولا: برهان، أو هو بالأحرى استنتاج، ثم هناك فرق بين الاستدلال والبرهنة، فالاستدلال هو عملية نظرية أو صورية إذ هي لا تهتم بصدق المقدمات بقدر ما تهتم بصحة النتائج بناء على التسليم بصحة المقدمات، فنقول مثلا: كل مسلم أمين، وفريد مسلم، إذن ففريد أمين، هو استدلال صحيح، ولكنه يحتاج إلى برهنة، والبرهنة تأتي من إثبات أولا أن كل مسلم أمين، فإذا صدقت هذه المقدمة كانت النتيجة أيضا صادقة وصحيحة.
وثانيا: هو يبدأ من قضايا يسلم بها إلى قضايا أخرى تنتج عنها بالضرورة، فالاستدلال كما رأينا يتألف من قضايا، أو أن مجاله وميدانه هو القضايا.
وثالثا: الاستدلال يقوم على عمليات عقلية منطقية وليس على التجربة التي هي أساس لمنهج آخر مخالف هو المنهج التجريبي، الذي هو بالأساس منهج مادي وليس عقليا إذ يتناول المحسوسات وليس الأفكار.
ورابعا وأخيرا: أن هذا الاستدلال يكون بواسطة القول أو الحساب، فالأول هو علم المنطق الذي يتعلق بما نقوله من أقوال وأفكار،و الثاني هو الاستدلال الرياضي، فالرياضيات تعتمد كلية على الاستدلال.
فإذا جئنا إلى القضايا التي ينطلق منها الاستدلال لوجدنا أنها عند التدقيق فيها مستنتجة أصلا من قضايا سابقة لها، عن طريق الاستدلال أيضا، ولكن لا بد أن هذه العملية ليست لانهائية حيث توجد قضايا بلا شك غير مستنتجة من قضايا سابقة، وهذه القضايا تسمى مبادئ أو تصورات أو قضايا أولية، وهي مبادئ الاستدلال الأولى، والتي تتلخص في ثلاثة: البديهيات، والمصادرات، والتعريفات.
1- البديهيات:
عرف الدكتور عبد الرحمان بدوي البديهية بأنها:"قضية بينة بنفسها، وليس من الممكن أن يبرهن عليها، وتعد صادقة بلا برهان عند كل من يفهم معناها".
يستخلص من التعريف ثلاث خصائص للبديهية:
- البينة الذاتية، أي وضوحها للنفس بلا برهان.
- الأولية المنطقية، أي أنها غير مستخلصة من غيرها.
- الصورية، أي انطباقها على الأفكار الخاصة بكل العلوم.
ومثالها: من يملك الأكثر يملك الأقل، والكل أكبر من الجزء
فهي من جهة مسلمة عند كل العقول، ومن جهة أخرى مقبولة في كل العلوم.
2- المصادرات:
المصادرة أقل درجة من البديهية، فهي ليست بينة بذاتها، ولكن يتفق على صحتها ويسلم بصحتها مع عدم وضوحها للعقل (أو بتعبير أدق: يصادر على صحتها)، وذلك نظرا لفائدتها طالما أنها لا تنطوي على تناقض، لكن دون إمكانية البرهنة عليها.
والمصادرات تختلف حسب كل علم، وليست عامة لكل العلوم، وتساهم في استنتاج نتائج جد هامة، وتلك النتائج الصحيحة هي بالتالي البرهان أيضا على صحة المصادرة، كما يمكن إنكار مصادرة ما والانطلاق من مصادرة أخرى مختلفة عنها دون إشكال.
ومثالها: من نقطة خارج المستقيم يمكننا رسم مستقيم واحد فقط يمر بهذه النقطة ويوازي المستقيم الأول، ومثالها: فكرة المماس التي لا أساس لها في الحقيقة لكننا نصادر على صحتها، وأيضا نصادر على أن المستقيم ليس له سمك لكن الحقيقة هي أن لكل مستقيم سمك.
3- التعريفات:
لكل علم تعريفاته، ويقال عن التعريف أنه يعبر عن ماهية المعرف وعنه وحده وعنه كله، أي جامعا مانعا، وقد تعدد التعريفات لكن أحدها فقط هو الذي تتحقق فيه هذه الخاصية، مثل تعريف المثلث بأنه شكل هندسي متكون من ثلاثة مستقيمات متقاطعة مثنى مثنى في مستوي، ويطلق عليه التعريف التكويني أو الرياضي.
وهناك التعريف التجريبي، وهو لا يتشكل دفعة واحدة بل قد يحتاج إلى تجارب، مثل تعريف الإنسان بأنه حيوان ثديي، فهذا التعريف احتاج إلى تجارب كثيرة، كما يحتاج أيضا إلى تجارب جديدة كلما ظهر جديد بالنسبة للإنسان أو بالنسبة للثديي.
ويرى بعض الفلاسفة أن التعريفات هي بمثابة فروض لكنها ليست بحاجة إلى تجربة.
ومن الجدير بالذكر أن التعريف ليس قضية (بحسب مفهوم القضية في علم المنطق)، فلا يقال عنه صادق وكاذب، فهو عمل اصطلاحي.
خلاصة: لقد اعتدنا في بحوثنا العلمية أن نستخدم هذه المبادئ الثلاثة معا، فنذكر البديهيات والمصادرات والتعريفات، ثم نشرع في الاستدلال، أي في الربط بين القضايا المختلفة للوصول إلى نتائج جديدة.
المطلب الثالث: أدوات الاستدلال
للاستدلال أدوات عدة أهمها: القياس، التجريب العقلي، التركيب
الفرع الأول: القياس
إن النتيجة في القياس هي نتيجة افتراضية، لأن القياس لا يضمن لنا الصحة الخارجية (الواقعية) للنتيجة، بل كل ما يقوله هو أن النتيجة يجب أن نسلم بها إذا سلمنا بالمقدمات، ولذلك فهو غير مجد بقوة في الرياضيات التي تعتمد البرهنة لأنها يجب أن تضمن صحة المقدمات، ولذلك فالقياس هو تحصيل حاصل عكس البرهنة التي تنتقل إلى حقائق جديدة.
بالإضافة إلى ذلك فالبرهنة في الحقيقة تتضمن سلسلة مركزة من الأقيسة (الشرطية)، فالقياس هو بمثابة فقرة من فقرات البرهنة.
ومن هنا صح القول أن أهمية القياس كبيرة جدا بالنظر إلى كل هذا الدور الخفي الذي يقوم به في الرياضيات، أما في غير الرياضيات فالقياس أيضا لا غنى عنه، وله أهمية كبيرة تعادل دوره في الرياضيات.
الفرع الثاني: التجريب العقلي
معناه أن يقوم الإنسان داخل عقله بكل الفروض والتحقيقات (التجارب والبراهين) التي قد ييأس أو لا يتيسر له أن يقوم بها في الخارج.
فالعالم قبل أن يقوم بالتجارب العلمية يتخيل في ذهنه كل العمليات العقلية التي سيقوم بها، فالتجريب العقلي يشبه التجربة، لكنه يجري بلا أدوات بل في الذهن، كما يشبه البرهنة أيضا، فالبرهنة هي عملية تجريب عقلي في النهاية.
ولهذا التجريب فوائد كثيرة، فهو يوفر الوقت والمال والمكان، وكل ما تحتاجه التجربة، بل يقال أن جاليليو قام بكل التجارب في عقله واقتنع بها قبل أن يقوم بها في الواقع، ولذلك فالتجريب العقلي يعلم الجرأة على التفكير، إذ يمكنه أن يفرض فروضا لا يمكن فرضها لو كان العالم قد شرع في التجربة ميدانيا قبل أن يقوم بالتفكير والتجريب العقلي.
ويقول ديكارت أنه يستطيع أن يستغني عن أي تجربة فيزيائية لأنه يستطيع ان يقوم بكل العمليات الممكنة في ذهنه.
الفرع الثالث: التركيب
التركيب ما هو إلا عملية استنتاج من مقدمات معينة، حيث يأتي الباحث بمقدمة معينة يفترض صحتها، ثم يستخلص منها كل النتائج الممكنة، ولا يرتد إلى الوراء كما في التحليل، فالرياضيات كما تعتمد التحليل فهي تعتمد التركيب بشكل أكبر، ولولا ذلك لكانت الرياضيات كلها تحصيل حاصل.
المبحث الرابع: المنهج التجريبي
مفهوماته – خطواته – أنواع التصاميم التجريبية – ميزاته وعيوبه
المطلب الأول: مفهوماته
عادة ما يعتبر المنهج التجريبي هو الطريقة العلمية نفسها، لأنه يسمح بإعادة اختبار النتائج، عن طريق إعادة التجربة التي هي أساس هذا المنهج، ولذلك يعد أدق المناهج، وهو يعتمد الاستقراء بدلا من الاستنتاج، ولذلك فأساسه الأول هو الملاحظة.
التجربة: هي ملاحظة مقصودة تحت ظروف متحكم فيها، أو مفتعلة، يقوم بها الباحث لاختبار الفروض العلمية، للكشف عن العلاقة بين نوعين من العوامل: العامل السببي، والنتيجة (أو المتغير التابع).
العامل (المتغير) المستقل: هو العامل الذي نريد أن نقيس مدى تأثيره في الموقف، لذلك يسمى العامل التجريبي أو المتغير التجريبي.
العامل التابع: ويسمى أيضا العامل الناتج،وهو العامل الناتج عن تأثير العامل المستقل.
المجموعة التجريبية: هي المجموعة التي يتم إدخال المتغيرات المستقلة عليها وملاحظة التغيرات التي تحصل تدريجيا.
المجموعة الضابطة: هي مجموعة يحتفظ بها تحت ظروف عادية للمقارنة بينها وبين المجموعة التجريبية بعد إدخال المتغيرات عليها.
ضبط إجراءات التجربة: يتم دائما عند إجراء التجارب إعادة ضبطها لتفادي تأثير عوامل أخرى غير التي أدخلها المجرب بنفسه، وتؤدي إلى نتائج غير سليمة بسبب تأثير العوامل غير المرغوب فيها، أو التي لم يحسب لها حساب.
الملاحظة: هي أساس الاستقراء العلمي عموما، وتنصب في الأعم على مجموعة الظواهر التي اتخذها ذلك العلم موضوعا لدراسته، والملاحظة قد تكون ملاحظة بسيطة غير مقصودة أي تلقائية (مثل نيوتن والتفاحة)، وقد تكون ملاحظة علمية مقصودة أي مستثارة (رصد حركة الكواكب).
الفروض: هي حلقة وسطى بين الملاحظة والتجربة، فكل ملاحظة لا توجه نظر الباحث إلى فكرة يمكن التحقق من حقيقتها بالتجربة ليست ملاحظة علمية، وكل تجربة لا تنطلق من فروض علمية دقيقة هي تجربة عقيمة.
والفروض من الممارسات الشائعة جدا في حياة الإنسان، ولا سيما حينما تحوم به مشكلة ما، فإن كانت الإشكالية هي الخطوة الأولى في البحث العلمي فإن الفروض هي الخطوة الثانية مباشرة، فقد يرسب الطالب في الامتحان (ملاحظة)، فيتساءل عن الأسباب (إشكالية) ثم يطرح عدة فروض (عدم فهم الأسئلة، كان مرهقا بسبب السهر، لم يعط الإجابة حظها من العناية ...)، فهذه فروض عفوية.
أما الفروض العلمية فهي ليست بهذه البساطة لأنها تقوم على أسس منهجية، حيث تكون عبارة عن تفسيرات مؤقتة للعلاقة بين المتغيرات، في انتظار التحقق منها بواسطة التجربة أو التجارب.
تأخذ الفرضية إما صيغة الإثبات (فرضية مباشرة)، أي إثبات وجود علاقة سلبية أو إيجابية بين المتغيرين، أو صيغة النفي، أي نفي وجود أي علاقة (الفرضية الصفرية).
المطلب الثاني: خطواته
تبعا للمفاهيم السابق بيانها فإن المنهج التجريبي كمنهج للبحث يكاد يقوم على ذات الخطوات الخاصة بالبحث، وهي كالتالي:
الملاحظة - تحديد المشكلة – وضع الفرضية أو الفروض التي تكون خصيصا للتجريب – اختبار الفروض عن طريق التجريب وفق أحد التصميمات التي سيتأتي بيانها – الوصول إلى النتيجة في شكل تعميمات أو نظريات – تدوين البحث أو التقرير النهائي.
والتجريب ليس خاصا بالعلوم الطبيعية فقط بل يستخدم أيضا في العلوم الإنسانية والاجتماعية (انظر المراجع).
المطلب الثالث: أنواع التصاميم التجريبية
- منهج المجموعة الواحدة : له نوعان
مع قياس بعدي فقط: تدرس مجموعة واحدة تحت تأثير متغيرين مستقلين بدون استخدام مجموعة ضابطة، مثلا: تجريب طريقة تدريب رياضة على مجموعة معينة ثم تجريب طريقة أخرى، والمقارنة بين نتائج الطريقتين لمعرفة أيهما أنجع.
ملاحظة: في الحقيقة تكون المجموعة الواحدة تجريبية وضابطة في نفس الوقت، فتكون ضابطة قبل إدخال المتغيرات، وتجريبية بعد إدخالها.
مع قياس قبلي وبعدي، في هذه الحالة يتم أخذ مجموعة واحدة لكن تعرض لقياس قبلي قبل إدخال المتغير المستقل، مثلا: قياس درجة لياقة فئة من المعوقين، ثم تعريضهم لتمرين لياقة عن طريق الكرة الطائرة، ثم القياس مرة أخرى بعد إدخال هذا العامل.
- منهج المجموعتين (التصميم المقارن): تكون إحداهما تجريبية والأخرى ضابطة، أي لا تجرى عليها التجربة ويقارن بينها وبين المجموعة التي أدخلت عليها المتغيرات، وهو أيضا نوعان:
مع قياس بعدي فقط: تؤخذ من العينة مجموعتان عشوائيا أو على أساس التكافؤ، وتدخل التغييرات على أحد المجموعتين، وتقارن بالمجموعة الضابطة.
مع قياس قبلي وبعدي، للمجموعة المختارة عشوائيا أو على أساس التكافؤ، ومقارنتها بالأخرى الضابطة.
- منهج التجريب لأكثر من مجموعة تجريبية، مع مجموعة واحدة ضابطة، مثلا مجموعتان تجريبيتان والثالثة ضابطة.
المطلب الرابع: مزايا وعيوب المنهج التجريبي
لعل أهم ميزة للمنهج التجريبي هي إمكانية إعادة التجربة والتحقق منها، كما أن شرعية الفرضية التي يتم وضعها من أجل التجربة، ثم إجراء التجربة، يجعل هذا المنهج يمتاز بالواقعية، كما أنه من ناحية أخيرة يستطيع أن يصل إلى تفسير العلاقات بين الظواهر وليس مجرد وصفها.
أما ما يؤخذ عليه فهو أن التجربة تجري في ظروف صناعية (أي مصطنعة) تخضع لأهواء واختيارات المجرب (التحيز)، وفي ضوء إمكانياته، كما أن البحث التجريبي يتطلب أحيانا إجراءات إدارية معقدة، وفي بعض مجالات البحوث توجد صعوبة في الحصول على تعاون أفراد الدراسة.
وكذلك من أهم الانتقادات التي وجهت إلى المنهج التجريبي هي صعوبة التحكم في التجربة، والوصول إلى ما يسمى بالضبط التجريبي، أي تحييد كل العوامل الأخرى التي تتدخل في الظاهرة دون أن يتم أخذها بعين الاعتبار، كما أن المجموعات خاصة الإنسانية شديدة التباين ويصعب إيجاد مجموعات تجربيبة متكافئة حقا.
المبحث الخامس: المنهج الجدلي
مفهومه –الفرق بينه وبين الميتافيزيقي – صفاته – قوانينه - تقييمه
ملاحظة هامة جدا: تم التعويل في هذه المحاضرة بشكل كبير على الجدلية الماركسية بالتحديد، وليس على كل أنواع الجدلية، وقد يظهر ذلك بصورة واضحة في الأمثلة المقدمة.
المطلب الأول: مفهومه
الجدل هو أسلوب للمناقشة والتعليم، نشأ عن الأسلوب اليوناني في فن الحوار، لذلك يقال أن الجدل بمثابة منهج للحوار، وهو أيضا نوع من المنطق لأنه يستعمل فيه الاستدلال، وبالفعل فقد كان شيشرون يسمي المنطق علم الجدل.
والمعنى اللغوي للجدل (ديالكتيك) يشير إلى "الكلام" و"الخطاب والحجة" و"المقايضة"، فمعناه إذن هو تبادل الكلام والحجج، أو على المحادثة والمناقشة.
أما في الاصطلاح فالجدل هو منهج للدحض بواسطة فحص النتائج المنطقية، أو هو استدلال منطقي أو مناقشة تستخدم مقدمات منطقية، وعرفه هيجل (رائد هذا المنهج) بأنه:"نقد منطق الخداع بإظهار التناقضات التي يقع فيها العقل".
تاريخيا يرى أرسطو أن زينون الإيلي أول من استخدم الجدل، فهو يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وقد جاء السوفسطائيون فجعلوا من الجدل منهجا للسفسطة، أي مجرد إرضاء مآربهم عن طريقه، فقد يقوم السوفسطائي بالبرهنة على صحة القضية بعد أن يكون قد برهن على نقيضها، وذلك باستعمال حجج خادعة في الغالب، فلم يكن هدفهم الحقيقة، ولذلك جاء سقراط ورد عليهم، واعتبر أن الجدل منهج للحوار والوصول إلى الحقيقة عن طريق السؤال والجواب.
ويخلف الجدل الأفلاطوني عن الجدل السقراطي، فأفلاطون يعتبر الجدل المنهج الفلسفي الأعلى، وهو حجر الزاوية الذي تقوم عليه العلوم.
أما في الفلسفة الحديثة فقد اختفت كلمة الجدل فيها وحل محلها كلمة المنطق فقط، ولكن ما لبث أن عاد الجدل للظهور من جديد على يد بعض الفلاسفة أبرزهم إيمانويل كانط، وكذلك ديكارت وإن كان سابقا على كانط، ثم هيجل الذي هو أبو الجدل.
وقد نظر هيجل إلى المنطق نظرة جديدة، وذلك في صورة المثلث، أو الخطوات الثلاث، أي الفكرة thèse ونقيضها antithèse والمركب synthèse، حيث تنتقل التصورات أو الأفكار إلى نقائضها، وكان من أهم ما تولد على الجدل الهيجل جدل آخر هو الجدل الماركسي.
المطلب الثاني: الفرق بين الجدلي والميتافيزيقي
حتى نفهم المنهج المتافيزيقي لا بأس أن نعطي المثال التالي: اشترينا زوجا من الأحذية الصفراء. وبعد مدة من الزمن تبلى فنصلحها ومع ذلك نقول بأننا نلبس أحذية صفراء دون أن ندرك أنها لم تعد نفس الأحذية التي اشتريناها سابقا ، ولكننا نهمل الإشارة إلى ما أصابها من تغيير فنعتبرها وكأنها لا تزال على حالها.
سيساعدنا هذا المثال على فهم ماهية المنهج الميتافيزيقي، فيعتبر مثل هذا المنهج، حسب قول إنجلز، الأشياء "وكأنها تامة الصن لا تتغير، ولا تتأثر بأسباب التغير.
فكلمة "ميتافيزيقية" مشتقة من "ميتا" اليونانية وهي تعني "ماوراء" و "فيزيقيا" وهي تعني علم الطبيعة. وموضوع الميتافيزيقيا (ولا سيما عند أرسطو) هو دراسة الكائن الذي يوجد وراء الطبيعة. وبينما الطبيعة متغيرة، فأن الكائن الذي يوجد وراء الطبيعة أبدي لا يتغير. يسميه البعض الله، ويسميه الآخرون المطلق.. الخ.
ويعتقد الماديون، الذين لا يعتمدون على العلم فقط، أ ن هذا الكائن خيالي، ولما كان قدماء الأغريق لم يصلوا إلى تفسير الحركة فقد اضطر بعض فلاسفتهم أن يقيموا، وراء الطبيعة المتغيرة، مبدأ أبديا. فإذا ما تحدثنا عن منهج ميتافيزيقي أردنا بذلك منهجا يجهل حقيقة الحركة والتغير. ولهذا كان عدم رؤيتي لتغير حذائي موقفا ميتافيزيقيا.
تجهل الميتافيزيقيا الحركة وتقول بالسكون والتماثل وشعارها "لا جديد تحت الشمس". كما أن القول بأن الرأسمالية أبدية وأن مصائب الرأسمالية وعيوبها (من فساد وأنانية وقسوة) التي تولدها في الناس مخلدة ضرب من التفكير الميتافيزيقي. لأن الميتافيزيقي يتمثل في خاطره إنسانا أبديا لا يتغير. لماذا ؟ لأنه يفصل الإنسان عن بيئته وعن مجتمعه. فهو يقول: "يوجد من جهة الإنسان، ومن جهة ثانية المجتمع. فإذا ما قضينا على المجتمع الرأسمالي ليحل محله مجتمع اشتراكي ظل الإنسان مع ذلك إنسانا".
نقع هنا على صفة ثانية من صفات الميتافيزيقيا: فهي تفصل بصورة اعتباطية بين ما هو في الواقع لا انفصال بينه. فالإنسان ثمرة لتاريخ المجتمعات. وهو ليس كذلك خارج المجتمع بل بتأثيره. وهكذا يفصل المنهج الميتافيزيقي ما هو متصل في الواقع. ويقوم بتصنيف جميع الأشياء تصنيفا نهائيا. فهو يقول مثلا: "السياسة من جهة والنقابة من جهة". ولا شك أن السياسة والنقابة شيئان، غير أن التجربة والحياة تبرهن لنا على أنه لا يمكن فصل السياسة عن النقابة، لأن ما يحدث في النقابة يؤثر في السياسة، كما أن النشاط السياسي (كالدولة، والأحزاب، والانتخابا ت) يؤثر في النقابة.
تؤدي هذه التجزئة بالميتافيزيقي إلى أن يفكر في كل مناسبة بهذا الشكل: يكون الشيء هذا أو ذاك، فهو لا يمكنه أن يكون في نفس الوقت هذا أو ذاك"، مثال: ليست الديمقراطية هي الدكتاتورية، وليست الدكتاتورية هي الديمقراطية، فالدولة إذن إما أن تكون ديمقراطية وإما أن تكون دكتاتورية. ولكن ما الذي تعلمنا إياه الحياة ؟ تعلمنا الحياة أن الدولة يمكن أن تكون، في نفس الوقت، دكتاتورية وديمقراطية. فالدولة البرجوازية، في الولايات المتحدة مثلا، ديمقراطية بالنسبة لأقلية من كبار الممولين الذين يتمتعون بجميع الحقوق وكل السلطات. وهي دكتاتورية بالنسبة للأغلبية الساحقة من أوساط الناس الذين لا يتمتعون إلا بحقوق وهمية. أما الدولة الشعبية، في الصين مثلا، فهي دكتاتورية بالنسبة لأعداء الشعب وبالنسبة للأقلية المستغلة التي طردتها الثورة من الحكم، وهي ديمقراطية بالنسبة للأغلبية المطلقة من العمال الذين تحرروا من الاضطهاد.
ولما كان الميتافيزيقي يحدد الأشياء تحديدًا نهائيًا ويحرص على أن يعزلها بعضها عن بعض، فإنه مضطر إلى أن يناقض بعضها بالبعض على أنها متنافرة لا يمكن التوحيد بينها. فهو يعتقد أنه لا يمكن أن يوجد متناقضان في نفس الوقت، فهو يقول إن الكائن إما أن يكون حيا وإما أن يكون ميتا، ولا يمكن أن يتصور أن كائنا ما يمكن أن يكون حيا وميتا في نفس الوقت. ومع ذلك تحل في الجسد الإنساني في كل لحظة خلايا جديدة محل الخلايا الميتة. وتقوم حياة الجسم على هذا النضال المستمر بين الأضداد.
يمتاز المنهج الميتافيزيقي إذن برفضه للتغير وفصله بين ما لا يمكن فصله وإهماله للأضداد. ولذلك يمكننا منذ الآن أن نحس بالأخطار التي يمكن أن يؤدي إليها المنهج الميتافيزيقي في البحث عن الحقيقة والتأثير في العالم. لأن الميتافيزيقيا يفوتها جوهر الواقع الذي هو تغير مستمر وتحول دائم: فهي لا تريد أن ترى إلا جانبا واحدا من هذا الواقع الغني وأن ترد الكل إلى أحد أجزائه فترد الغابة بأكملها إلى إحدى شجراتها. فهي لا تتخذ صورة الواقع كما تفعل الجدلية بل تريد أن تحمل الواقع الحي على أن يتخذ صورة قوالبها الميتة. وهي مهمة مصيرها إلى الفشل.
تروي خرافة يونانية قديمة مساوئ قاطع الطريق بروكست الذي كان يرقد ضحاياه على سرير ضيق. فإذا كانت الضحية أضخم من السرير قطع رجليها، وإذا كانت ضئيلة مدد أعضاءها... وهكذا تفعل الميتافيزيقا بالوقائع غير أن الوقائع عنيدة لا تستسلم.
خلاصة: المنهج الميتافزيقي هو على النقيض تماما من المنهج الجدلي، والغريب أننا في أيام الجامعة درسنا أن المنهج الميتافيزيقي هو نفسه المنهج الجدلي.
المطلب الثالث: صفات الجدلية
تنظر الجدلية إلى الأشياء والمعاني في ترابطها بعضها بالبعض وما يقوم بينها من علاقة متبادلة، وتأثير كل منها في الآخر، وما ينتج عن ذلك من تغيير، كما تنظر إليها عند ولادتها ونموها وانحطاطها، وهكذا تتعارض الجدلية في كل ناحية مع الميتافيزيقا، وليس ذلك لأن الجدلية لا تقبل أي سكون أو فصل بين مختلف جوانب الواقع بل هي ترى في السكون جانبا نسبيا من الواقع. بينما الحركة مطلقة، وهي تعتبر أيضًا أن كل فصل أو تمييز هو نسبي لأن كل شيء يحدث في الواقع بطريقة أو أخر ى، وأن كل شيء يؤثر في الآخر.
وهكذا لما كانت الجدلية تهتم بالحركة في كل أشكالها وليس فقط بالتغيير المكاني بل بتغييرات الحالات كتحول الماء السائل إلى بخار فإنها تفسر الحركة عن طريق نضال الأضداد. ذلك أهم قانون في الجدلية (ندرسه بعد قليل).
إذا كان الميتافيزيقي يقوم بعزل الأضداد بعضها عن بعض، وينظر إليها على أنها متنافرة بصورة منظمة فإن الجدلي يكتشف بأنه لا يمكن أن يوجد بعضها دون البعض، وأن كل حركة وكل تحول إنما يفسره ما ينشأ بينها من نضال. ولقد أشرنا، لى أن حياة الجسد هي نتيجة نضال مستمر بين قوى الحياة وقوى الموت، وأنها انتصار تنتزعه الحياة من براثن الموت، إذ أن كل كائن عضوي هو في كل لحظة، ذاته وليس بذاته، فهو، في كل لحظة. يتمثل مواد غريبة ويفرز مواد أخرى، تموت في كل لحظة، خلايا من جسده بينما تتكون أخرى، فإذا بماهية هذا الجسد تتجدد في مدة قصيرة، وقد حل محلها ذرات مادية أخرى، بمعنى أن كل كائن عضوي هو دائما ذاته وليس بذاته.
حتى إذا ما تأملنا الأشياء جيدا وجدنا أن قطبي التناقض لا يمكن الفصل بينهما بالرغم من تناقضهما، وأن كلا منهما يتداخل في الآخر، وهكذا فإن السبب والنتيجة هما تصوران لا قيمة لهما إلا إذا طبقناهما على حالة معينة، حتى إذا ما اعتبرنا هذه الحالة المعينة في علاقتها بمجموع العالم انحلا في نظرتنا إلى التفاعل الشامل المتبادل حيث تتبدل الأسباب والنتائج باستمرار فيصبح ما كان نتيجة هنا سببا هناك وهكذا دواليك.
وهكذا شأن المجتمع أيضا، فنضال الأضداد يظهر في المجتمع في صورة نضال الطبقات، كما أن نضال الأضداد يثير الفكر.
المطلب الرابع: قوانين الجدلية
هناك قوانين رئيسية وأخرى ثانوية، ولكنها أهمها بلا شك ثلاثة: تحول الكمي إلى كيفي، وحدة وصراع الأضداد، ونفي النفي، وسندرس فيما يلي أهم تلك القوانين.
الفرع الأول: قانون التفاعل والترابط الشامل
يشارك أحدهم في النضال من أجل السلام، ويجمع التواقيع ويقوم بتعليق الإعلانات، ويأخذ بالنقاش مع صديقه في العمل أو مع شخص غريب ... إلخ، وسوف يقول البعض: "وماذا يعتقد هذا المسكين أنه يفعل ؟" إنه لا شك يضيعوقته وجهده". يبدو عمل هذا الرجل، لأول وهلة، عبثا لا طائل تحته، فهو ليس وزيرا، ولا نائبا ولا قائدا في الجيش ولا صاحب مصرف أو سياسيا. إذن؟ وهو مع ذلك محق في عمله. لماذا؟ لأنه ليس وحيدا، ومهما كان شخصه متواضعا فإن لمحاولاته هذه قيمتها وتأثيرها لأنها ليست محاولات فريدة، بل عمله جزء من عمل كبير هو نضال الشعوب العالمي من أجل السلا م إذ هناك ملايين الرجال الذين يعملون مثله، في نفس الاتجاه ضد نفس القوى، فهناك ارتباط شامل بين جميع هذه المحاولات التي تكون حلقات صغيرة في نفس السلسلة، كما أن هناك تفاعلا متبادلا بين جميع هذه المحاولات، لأن كلا منها تساعد الأخرى بما تضربه من مثل و ما تكسبه من خبرة أثناء فشلها وانتصارها، حتى إذا قام جميع هؤلاء الرجال بالمقارنة بين محاولاتهم اكتشفوا أنهم لم يكونوا فيها فريدين بالرغم من اعتقادهم ذلك. كل شيء إذن مرتبط بالآخر.
هذا مثال بسيط استقيناه من الواقع، وهكذا نرى أن قانون (Tout se tient) هو قانون الجدلية الأول هو الذي يسمح، لوحده، بتأويل هذا المثال بصورة صحيحة.
وبهذا تتعارض الجدلية مع الميتافيزيقا تعارضا أساسيا. ولن يفكر الميتافيزيقي مثل هذا التفكير فيقول: "ما الفائدة من كل هذا الجهد، من صعود الطوابق ومناقشة الناس؟ لأن مصير السلم ليس بأيدي الناس العاديين" لأن الميتافيزيقي يفصل ما هو في الواقع غير منفصل.
وهذا موقف شائع جدا. وهو مثلا موقف الرياضي الذي يردد في كل مناسبة "الرياضة هي الرياضة، والسياسة هي السياسة، أنا لا أتدخل في السياسة" ولا شك أن الرياضة والسياسة شيئان منفصلان. ولكن من الخطأ القول بأن ليس بينهما أية علاقة إذ كيف يمكن للرياضي أن يشتري أدواته الرياضية إذا انخفضت قدرته الشرائية، أو توقف عن العمل؟ وكيف يمكن بناء الملاعب وأحواض السباحة إذا التهمت ميزانية الحرب الاعتمادات الضرورية للرياضة؟ وهكذا ترى أن الرياضة ترتبط ببعض الشروط التي يجهلها الميتافيزيقي ويكتشفها الجدلي، لأنه لا رياضة بدون اعتمادات، ولا اعتمادات بدون سياسة سلمية، فلا تنفصل الرياضة إذن عن السياسة. ولا يخدم الرياضي، الذي يجهل هذا الارتباط، قضية الرياضة بل هو يحرم نفسه من ا لوسائل للدفاع عنها. لماذا؟ لأنه إذا ما جهل أن كل شيء مرتبط بالآخر فإنه لن يناضل ضد سياسة الحرب، حتى يحين الوقت الذي يفقد فيه الرياضة وذلك إما لأن خراب البلاد قد قضى على معدات الرياضة وإما لأن الحرب قد وقعت.
خلاصة: ميزة الجدلية الأولى هي خاصة الارتباط، فلا تنظر الجدلية، على عكس الميتافيزيقا، إلى الطبيعة على أنها عبارة عن مجموعة من الأشياء والظواهر المنفصل بعضها عن البعض بل على أنها كل موحد منسجم حيث تتصل الأشياء والظواهر اتصالا عضويا ويرتبط كل منهابالآخر، لهذا يرى المنهج الجدلي أنه لا يمكن تفسير أية ظاهرة طبيعية إذا نظرنا إليها على حدة خارج الظواهر المحيطة بها، لأنه يمكن تحويل أية ظاهرة في أي مجال من الطبيعة إلى شيء لا معنى له إذا ما نظرنا إليها في منأى عن الظروف المحيطة بها وفصلناها عن هذه الظروف ، كما أنه، على العكس، يمكن فهم أية ظاهرة وتفسيرها إذا نظرنا إليها من خلال علاقتها بالظواهر المحيطة التي ترتبط بها.
تدل هذه الميزة الأولى للجدلية على طابعها العام، وتتحقق هذه الميزة بصورة شاملة في الطبيعة وفي المجتمع.
الفرع الثاني: قانون التحول الشامل أو النمو المستمر
"كل شيء يتحول"
يروي الفيلسوف فونتونيل قصة وردة كانت تعتقد بأن البستاني مخلد. لماذا؟ لأن الوردة لا تذكر أنها رأت غيره في البستان، وهكذا يفكر الميتافيزيقي فهو ينكر التغي،. ومع ذلك تعلمنا التجربة أن كل بستاني هالك كما تهلك الورود، ولا شك أن هناك أشياء تتغير بصورة أبطأ من الوردة، فيستنتج الميتافيزيقي من ذلك أنها خالدة لا تتغير، فيجعل من ثباتها الظاهري شيئا مطلقا، فهو لا يرى من الأشياء إلا جانبها الذي تبدو فيه أنها لا تتغير، فتظل الوردة وردة ويظل البستاني بستانيا، أما الجدلية فهي لا تكتفي بالظاهر بل تدرك الأشياء في حركتها، فلقد كانت الوردة برعما قبل أن تصبح وردة فإذا ما نمت تغيرت من ساعة لأخرى بالرغم من أن العين لا ترى شيئا من هذا التغيير، كما أنها ستفقد أوراقها حتما وستتولد وردات أخرى محلها تتفتح بدورها هي أيضًا.
نستطيع أن نجد في حياتنا اليومية ألف مثال على أن كل شيء يتحرك ويتحول، فمثلا تبدو هذه التفاحة ثابتة لا تتحرك فوق الطاولة، ومع ذلك سيقول الجدلي: "مع أن هذه التفاحة تبدو ثابتة فهي متحركة وهي لن تكون في عشرة أيام ما هي عليه الآن، كانت زهرة قبل أن تصبح تفاحة خضراء، كما أنها ستتحلل مع الزمن وتتساقط بذورها التي إذا ما زرعها البستاني نشأت منها شجرة تحمل عدة تفاحات، كان لدينا في البدء تفاحة واحدة ولدينا الآن العديد من التفاحات".
وهكذا يصح القول بأن الكون لا يعيد نفسه بالرغم من جميع المظاهر، ومع ذلك يتكلم الكثير من الناس كما تكلمت وردة فونتونيل فيقولون "ليس من جديد تحت الشمس"، ولسوف يكون هناك دائما أغنياء وفقراء"، "كما سيكون هناك دائما مستغِلون ومسَتغلون" "وأن الحرب أبدية" الخ... ولا شيء أمر إلى الإضلال من هذه الحكمة الواهية، ولا شيء أشد خطر منها، فهي تدعو إلى السلبية والعجز والاستسلام. أما الجدلية فهي تعلم، على العكس، أن التغير صفة لازمة للأشياء.
خلاصة: تلك هي الميزة الثانية للجدلية التي تقول بأن التغير يشمل الكون وأن النمو مستمر، فلا تنظر الجدلية، على عكس الميتافيزيقا، إلى الطبيعة على أنها حالة من الهدوء والثبات، والركود وعدم التغير، بل تنظر إليها على أنها حالة من الحركة والتغير الدائمين، والتجدد والنمو المستمرين، حيث يولد كل شيء بينما ينحل شيء آخر ويزول.
الفرع الثالث: قانون التحول الشامل أو النمو المستمر
"كل شيء يتحول"
إذا غليت الماء أخذت حرارته بالارتفاع درجة بعد درجة حتى إذا ما بلغت درجة معينة جعل الماء يتبخر ويتحول إلى بخار ماء، نحن هنا أمام نوعين من التغير إذ أن تغير الحرارة التدريجي هو تغير كمي أي أن كمية الحرارة التي يحتوي عليها الماء تزداد، غير أن الماء في وقت ما يفقد صفته كسائل ويصبح غازًا دون أن يغير من طبيعته الكيمائية.
وهكذا نسمي تحولا كميا مجرد ازدياد الكمية أو نقصانها، كما نسمي تحولا نوعيا الانتقال من صفة إلى صفة أخرى أو من حال إلى حال كالانتقال من حالة السيولة إلى حالة الغازية.
فقد دلت دراسة الميزة الثانية للجدلية على أن الواقع في تحول مستمر، أما هذه الميزة الثالثة للجدلية فهي تدل على أن هناك صلة بين التحولات الكمية والتحولات النوعية، ذلك لأن التحول النوعي (كتحول الماء إلى بخار ماء) ليس من قبيل الصدفة بل هو نتيجة حتمية للتحول الكمي أي لازدياد الحرارة التدريجي. حتى إذا ما بلغت الحرارة درجة معينة ( ١٠٠ درجة) أخذ الماء بالغليان في ظروف الضغط الجوي الطبيعي، فإذا ما تغير الضغط الجوي تغيرت درجة حرارة الغليان حسب ما تقول الميزة الأولى للجدلية بأن كل شيء مرتبط بالآخر، ولكن درجة الغليان تظل واحدة بالنسبة لجسم معين، تحت ضغط جوي معين. ويعني هذا أن التحول الكمي ليس وهمًا بل هو حادث موضوعي مادي يتفق والقانون الطبيعي، ولهذا كان حادثا يمكن التنبؤ بوقوعه فيقوم العلم بالبحث عن التحولات الكمية الضرورية لحدوث تحول كمي معين.
ونرى الصلة بين نوعي التحول واضحة في حالة غليان الماء، وتعتبر الجدلية أن هذه الصلة بين التحول الكمي والتحول الكيفي قانون شامل في الطبيعة والمجتمع.
فالجدلية لا تدهش ولا تتولاها الحيرة من ظهور الجديد، لأن هذا الجديد ثمرة ضرورية للكثير من التغيرات الكمية الصغيرة التدريجية التي لا مغزى لها في الظاهر، وهكذا تخلق المادة بحركتها الخاصة الشيء الجديد.
خلاصة: ميزة الجدلية الثالثة أنها لا تعتبر عملية النمو مجرد عملية نماء لا تؤدي بها التحولات الكمية إلى تحولات كيفية بل على أنها عملية نمو ينتقل من التحولات الكمية الضئيلة الكامنة إلى تحولات ظاهرة أساسية هي التحولات الكيفية، وليست هذه التحولات الكيفية تدريجية بل هي تحولات سريعة مباغتة، تحدث بواسطة قفزات من حالة لأخرى، وليست هذه التحولات عارضة، بل هي ضرورية لأنها ثمرة تحولات كمية تدريجية لا نشعر بها.
الفرع الرابع: نضال الأضداد هو الدافع لكل تغير
رأينا أن الواقع متحرك، وأن هذه الحركة الشاملة ترتدي صورتين: كمية وكيفية، مرتبطة كل منهما بالأخرى ارتباطا ضروريا، ولكن لماذا توجد الحركة؟ وما الدافع للتغيير وتحول الكمية إلى كيفية والانتقال من صفة إلى صفة جديدة؟ يحمل الجواب على هذا السؤال الميزة الرابعة للجدلية، وهي قانون الجدلية الأساسي الذي يفسر لنا سبب الحركة.
فأنا أتعلم، ولا أستطيع أن أفعل إلا إذا كنت مدركا لجهلي، وأريد أن أ تغلب على هذا الجهل وأن أكسب المعرفة، فالدافع لدرسي والشرط الأساسي لتقدمي في الدرس هو النضال بين جهلي وبين رغبتي في التغلب على هذا الجهل، وهو التناقض بين إدراكي لجهلي ورغبتي في التخلص من هذا الجهل، وليس هذا النضال بين الأضداد، وهذا التناقض، بخارجين عن الدرس، فإذا كنت أتقدم في درسي فبقدر استمرار هذا التناقض، ولا شك أن كل كسب جديد يتخلل درسي هو حل لهذا التناقض (أعلم اليوم ما كنت أجهله بالأمس).
ولكن يطرأ بعد هذا الكسب تناقض جديد بين ما أعرفه وما أدرك أني أجهله، ينشأ عنه جهد جديد في الدرس وحل جديد يتبعه تقدم جديد، ومن يعتقد أنه يعرف كل شيء لن يتقدم قط لأنه لن يحاول التغلب على جهله، ومبدأ هذه الحركة التي هي الدرس، كما أن الدافع للانتقال التدريجي من معرفة ضيقة إلى معرفة أوسع، هو النضال بين الأضداد، النضال بين جهلي (من جهة) وبين إدراكي لوجوب التغلب على جهلي (من جهة ثانية).
خلاصة: ميزة الجدلية الرابعة هي القول بأن أشياء الطبيعة وظواهرها تحتوي على تناقضات داخلية، لأنها تحتوي جميعها على جانب سلبي وجانب إيجابي فلها ماض ولها مستقبل؛ وفيها جميعا عناصر تزول أو تنمو، وأن النضال بين هذه ا لأضداد، بين القديم والحديث، بين ما يموت وما يولد، بين ما يزول وما ينمو ويتطور هو المحتوي الداخلي لعملية التطور وتحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية.
الفرع الخامس: شمول التناقض
يتميز التناقض الذي هو الدافع لكل حركة بالشمول، ويفهم الفلاسفة المثاليون حين نتحدث عن "التناقض" مجرد "نضال بين الأفكار" فهم لا يمكنهم أن يتصوروا التناقض إلا بين أفكار متناقضة، وهم بذلك يفهمون من الكلمة معناها العادي ("قول العكس") غير أن تناقض الأفكار ليس سوى صورة من صور التناقض، وذلك لأن التناقض حقيقة موضوعية موجودة في العالم فإننا نجده أيضا في "الذات" أي في الإنسان الذي هو جزء من العالم.
يمكن تفسير كل تطور (طبيعي أو اجتماع ي) عن طريق التناقض، ويستمر هذا التناقض استمرار عملية التطور، وإن كان لا يظهر للعيان.
فكل اختلاف يرتكز على تناقض، والاختلاف نفسه تناقض، إذ ما كادت البرجوازية والبروليتاريا يظهران حتى ظهر معهما التناقض بين العمل ورأس المال؛ ولم يكن هذا التناقض قد بلغ درجة خطيرة آنذاك، ولو أن التناقض لم يكن موجودا منذ بداية التطور لوجب تفسير هذا التطور بتدخل قوة خارجية عجيبة. غير أن التناقضات قد تكون خارجية وهي لا تقل أهمية عن التناقضات، فالتناقض الداخلي مستمر دائم وإن نما وتطور. ولهذا لا يمكن دراسة تطور طبيعي أو اجتماعي إلا بعد نمو تناقضاته الداخلية نموا كافيا، وهكذا استحالت دراسة الرأسمالية عام 1820 بصورة علمية لأنها لم تكن بعد قد نمت في جوهرها، فلم يكن بالإمكان أدراك سوى جوانبها الجزئية، وكذلك لا يمكن دراسة النبتة الا بعد أن تكون قد تقدمت في النمو.
بعض الأمثلة الملموسة
فلننظر الآن إلى عربة تسير (أو إلى رجل يمشي)، لا يمكن للعربة الانتقال من أ إلى ب ومن ثم من ب إلى ج. إلخ. إلا شريطة أن تناضل باستمرار ضد الوضع الذي كانت تحتله سابقا، حتى إذا ما كف هذا النضال كف معه السير.
يقول المنطقيون أنه كي تؤكد ب يجب إزالة أ، ولكي تؤكد ج يجب إزالة ب وهكذا تخرج ب من النضال ضد أ؛ كما تخرج ج من النضال ضد ب. وهكذا دواليك.
وهكذا فأن ظاهرة بسيطة كالصدأ الذي يعلو الشوكة هو ثمرة نضال بين الحديد والأوكسجين، وصورة الحركة الأساسية في الطبيعة هي النضال بين الجذب والدفع، حدوث التطور والاستقرار والتحول والفناء في جميع التجمعات المادية سواء كانت التجمعات الكونية البعيدة في النجوم أو النظام الشمسي وكذلك تجمعات المواد الصلبة وقطرات الماء أو الغازات وكذلك تجمعات الجزيئات والذرات أو تجمع قلب هذه الذرات ولنمثل على ذلك بالنظام الشمسي: لا يمكن أن نفهم حركة الكواكب حول الشمس بدون نضال هذين الضدين وهما: حركة الدوران التي تنزع إلى السقوط بالكوكب على الشمس، وجمود الكوكب الذي ينزع إلى إبعاده عنه.
الفرع السادس: قانون نفي النفي
كل ما يعنيه ظهور الجديد هو نفي القديم، أي تجاوزه وليس إعدامه، فالقديم يبقى بشكل ما، ويستمر في الجديد، وهذا معنى نفي النفي، أي أن الظاهرة الجديدة تنتصر على الظاهرة القديمة مع بقاء بعض عناصرها.
في عالم الأفكار تتحول المحسوسات إلى مفاهيم، فنحن نحس أولا بالشيء ثم نحاول أن نفهمه، فيتحول إلى مفهوم مع بقاء الإحساس، ولذلك فنحن حين نعرف شيئا ما فنحن لا نعرف بنفسه بل بالتناقضات التي فيه، فهذه طبيعة الفكر الجدلي، فنحن نقول أن الوردة نبتة أو زهرة، فنحن عرفنا الوردة بشيء غير نفسها، فصنفناها في طائفة الأزهار، وهذه بداية تفكير جدلي، لأننا سوف نصل، عن طريق هذه الوردة، إلى الكون أجمع (وذلك لأننا نفهم أن كل شيء مرتبط بالآخر)، ولسوف يكتفي الفكر غير الجدلي بالقول: "الوردة هي الوردة" وهذا لا يطلعنا على شيء من طبيعة صفات الوردة.
المطلب الخامس: تقييمه
يرى أفلاطون أن الديالكتيك هو قمة العلوم وتاجها، وأنه لا يوجد علم آخر يستحق مكانة أرفع منه.
إن الشيء الجوهري في الجدل ليس تعريفه، بل هو الرسالة التي يؤديها، فالجدل لا يحتاج إلى تصنيف إلى لاهوتي وماركسي وهيجلي وغيرها فهو نظرة انقلابية إلى كل شيء، ويقول فويرباخ: الجدل ليس مونولوجا لمفكر وحيد مع نفسه بل هو حوار بين الأنا والأنت.
والجدل هو حوار بين عقلين يجب أن يكفا عن الاتفاق كساعتين معلقتين على الحائط، وأن يخلقا منافسة عقلية واختلافا.
لذلك فالجدل يكون في ظل الحرية، وهو يساهم في صحوة العقل، والقضاء على جموده، وهذه هي ميزته.
والجدل هو علم وفن معا، فلو قلنا أنه علم فقط أو فن فقط لكنا غير جدليين، وهدف الجدل هو خلق الإنسان الكامل عن طريق الوصول دائما إلى ما يسمى الفكرة الشاملة، ولذلك فهو اتجاه نحو المستقبل، وليس تحليلا جامدا أو باهتا للماضي أو الحاضر، فالجدل مكرس من أجل المستقبل لأنه يدرس التطور من أجل السيطرة عليه مستقبلا.
وقد اتهم الجدل بأنه مجرد شقشقة لفظية وأنه أدنى مرتبة من القياس، ولكن الواقع أن الجدل أكبر من ذلك، فقد احتوى المنهج الجدلي المناهج بأكملها بما فيها المنهج التجريبي، ولكنه أكثر صلاحية للبحوث النظرية منه إلى التطبيقية.
الباب الثالث: منهجية إعداد البحث العلمي
الفصل الأول: اختيار الموضوع وجمع المعلومات
المبحث الأول: اختيار موضوع البحث
المطلب الأول: دوافع اختيار الموضوع
المطلب الثاني: تحديد العنوان
المطلب الثالث: تحديد الإشكالية
المطلب الرابع: رسم الخطة
المطلب الأول: دوافع اختيار الموضوع
طبقا للمرسوم التنفيذي رقم 98-254 (الجريدة الرسمية عدد 60، ص. 18) فإن بحث الماجستير ليس مطلوبا فيه الابتكار ولكن هو" تنفيذ المناهج المطابقة لمقتضيات الموضوعية والدقة، وعلى الباحث تبيان قدراته في الملاحظة والتحليل والتلخيص بعمل ينجزه بالصرامة العلمية اللازمة"، أما بحث الدكتوراه فهو عمل جديد على الأقل في الحلول المقدمة حيث تنص المادة 52 من المرسوم السابق: "تهدف الأطروحة لنيل الدكتوراه إلى تكريس العلمية والتكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية يجب أن تقدم الأطروحة بالضرورة مساهمة في تطوير المعارف أو يؤدي إلى تطبيقات جديدة"، حيث يتوصل الباحث إلى حلول مبتكرة للمشكلة التي عالجها بأسلوب علمي سليم.
الأصل في اختيار الموضوع هو اختيار مشكلة، والمشكلة يتوصل إليها الباحث نتيجة ظروف معينة، فقد يلاقيها خلال دراسته، أو خلال مطالعته، أو خلال مشاهدته وملاحظته، أو خلال تأمله، أو من خلال دراسات سابقة، ولا يمكن القول أن الباحث قد توصل إلى موضوع بحثه إلا حين يضع يده على الإشكالية.
إن اختيار الطالب لموضوع بحثه بنفسه لهو دليل على إحساس الطالب بالمشكلة التي سوف يثيرها، وبالتالي يتيح له أن يكون أكثر قربا من تفاصيل بحثه، لكنه لا يستغني أبدا عن توجيه المشرف الذي يعتبر أكثر إحاطة بالمخاطر والصعوبات التي قد تعترض البحث، أما في حالة الاختيار من مواضيع مطروحة أو مقدمة من طرف الأساتذة فينبغي اختيار البحث الأقرب إلى اهتمام الطالب، أو الحقل البحثي الذي يحب أن يبحث فيه، فهناك طلبة يحبون الخوض في المواضيع الفلسفية والتأصيلية، وهناك من يميلون إلى الموضوع التقنية التطبيقية.
يمكن القول عموما أن دوافع اختيار الموضوع قد تكون ذاتية أو موضوعية، فمن الدوافع الذاتية: حب المعرفة، أو مجرد الحصول على الشهادة أو الدرجة العلمية، أو الحصول على جائزة ما، أو ترقية في الوظيفة، أو للوفاء بمطالب الوظيفة، أو الرغبة في تحقيق فكرة وطموح، أو عدم الرضا بوجهة نظر معينة؛ أما الدوافع الموضوعية التي يجب أن ينبرى للبحث من أجلها فهي وجود مشاكل تستدعي البحث عن حلول (بدائل، مبتكرات ..)، أو لتحقيق أهداف قومية (تحسين الإنتاج، زيادة الدخل القومي، التنبؤ بالمستقبل، السيطرة على الأزمات ..)
المطلب الثاني: تحديد العنوان
إن العنوان يجب أن يكون دقيقا، فتارة ندرس موضوعا في إطار التشريع، فيقصد به مجموعة قوانين كلها تناولت الموضوع بدءا من الدستور وصولا إلى النصوص التشريعية والتنفيذية، وتارة ندرس في إطار قانون معين كالقانون التجاري أو قانون العقوبات الجزائري، وتارة ندرس في إطار الفقه والقضاء فنشير إلى ذلك بالقانون الجزائري (لأن القضاء هو مصدر تفسيري للقانون)، وهكذا، وتارة تكون الدراسة مقارنة، ففي كل هذه الحالات وغيرها ينبغي اخيار التعبير المناسب، بالإضافة إلى اختيار مصطلحات سارية المفعول ومعتمدة من طرف المشرع مثلا، فلا نقول الحبس الاحتياطي طالما أن المشرع عدل عن المصطلح إلى مصطلح آخر هو الحبس المؤقت، فدائما يجب مراعاة الدقة في المصطلح وعدم التشعب في العنوان، وأن لا يكون العنوان معبرا عن موقف مسبق، مثل الدراسة المعنونة: انعدام الاستقلال الوظيفي للقضاة في الجزائر، فكأن الباحث لا يستطيع الخلوص بنتيجة أنه لا يوجد استقلال إذا جعل العنوان هو: الاستقلال الوظيفي للقضاة في الجزائر، فكان حريا به أن يجعل العنوان خاليا من هذه الموقف المسبق الذي اتخذه حتى قبل أن يطرح الإشكالية !
المطلب الثالث: تحديد الإشكالية
لعل طرح الإشكالية هو عملية أصعب من إيجاد الحلول لها، فالإشكاليات العلمية ليست كأي تساؤل آخر، فهي تطرح فقط عندما يكون في مقدور الباحث دراستها والإجابة عنها، سواء كانت مقدرة مادية أو علمية، وتكون الإجابة متضمنة لإضافة ما (تكتسي أهمية علمية أو عملية)، ويجب على الباحث أن يتقن صياغة المشكلة ليفهمها الجميع، فلا تكون إشكالية في نظر الباحث فقط، كما أن الإشكالية لا يجب أن تتضمن إجابات ضمنية أبدا، بل يكون البحث هو البرهان على النتائج التي يتم التوصل إليها.
فلنأخذ مثالا بالتساؤل التالي: هل يوجد قانون إداري في الجزائر؟ سيكون هذا التساؤل استشكالا لما لا يستشكل، ولا يكون مجديا إضاعة الوقت في البرهان على وجود هذا القانون، أما لو طرح السؤال كالتالي: ما هو مصدر القانون الإداري في الجزائر؟ وبالأصح: ما هي مصادره؟ فهو يكون تساؤلا قابلا للدراسة.
وعلى كل حال فالإشكالية تتطلب العديد من العناصر الضرورية أثناء صياغتها: صياغة دقيقة، صياغة علمية، صياغة موضوعية، صياغة شاملة للخطة التي سيقسم على أساسها الموضوع، وصياغة متوافقة مع العنوان. فالعلاقة بين هذه الثلاثة وثيقة جدا: العنوان والإشكالية والخطة، فالعنوان يحتم طرح الإشكالية بطريقة معينة، والإشكالية ترسم الخطة التي ستتبع، والخطة لا تكون متطابقة مع العنوان كما هو معلوم لكنها تشمل أطوار الموضوع بالشكل الذي يجيب عن الإشكالية.
المطلب الرابع: رسم الخطة
لقد أصبح وضع الخطة بصورة مسبقة قبل الشروع في البحث منهجا متبعا في الجامعة الحديثة، وإن كان من المتفق عليه أن الخطة تكون مبدئية وتكون قابلة للتغيير بحسب ما يتكشف أثناء البحث من معطيات لم تكن متاحة بكل تأكيد عند الشروع في البحث، وبلا شك فإن وضع الخطة لا يتضمن فقط عناوين الفصول والمباحث بقدر ما يتضمن خطة العمل التي سيتبعها الباحث بأن يحدد: عنوان البحث، خطة البحث، مدة البحث، أدوات البحث، منهج البحث، تكاليف البحث ... إلخ
وخطة البحث في دراستنا في قسم الحقوق تعتمد مجموعة مبادئ كالتالي:
- أفضل الخطط هي الخطط الثنائية، فتقسم دراسات الدكتوراه عادة إلى جزءين أو قسمين أو بابين، ودراسات الماجستير إلى فصلين، والفصل بدوره إلى مبحثين أو مباحث، والمبحث إلى مطلبين أو مطالب، والمطلب إلى فروع، والفروع يمكن أيضا تقسيمها بحسب أنواع الدراسة، فالموسوعات تقسم الفروع إلى أغصان، والأغصان إلى أفنان، أما دراسات الدكتوراه والماجستير فهي تستعمل الفقرات.
- الخطة يجب أن تكون متوازنة، توازنا كميا لا حسابيا، أي توازنا في أقسام البحث، فالفصلان يجب أن يكونا متوازنين، والمباحث يجب أن تكون متوازنة، وكذلك المطالب، والفروع، فلا يقبل أن يكون فصل من ثمانين صفحة بينما الفصل الآخر من ثلاثين، وهكذا.
- الخطة يجب أن تكون متسلسلة منطقيا بالنسبة لأطوار الموضوع، فالمبادئ قبل التطبيقات، والقواعد قبل الاستثناءات، والأسباب قبل النتائج، والشروط قبل الآثار، وهكذا.
والخلاصة: أن الباحث يختار الموضوع ويصوغ العنوان ويطرح الإشكالية ويرسم الخطة وفق المحددات الآتية: هل يستحق الموضوع البحث؟ هل من الممكن دراسته؟ هل هناك دوافع كافية للقيام بالبحث؟ هل مراجعه متاحة ويمكن الحصول عليها؟ هل يمكن إنجازه في الوقت المحدد؟ هل سبق تناوله بالدراسة؟ ما هي الجوانب الجديدة التي سأدرسها؟ وما الإضافات التي سأضيفها؟ وهل الإشكالية المراد دراستها واضحة محددة المعالم؟
المبحث الثاني: جمع معلومات البحث
المطلب الثاني: أنواع المراجع
المطلب الثالث: مرحلة القراءة
المطلب الرابع: نسل وتنظيم المعلومات
المطلب الأول: البيبليوغرافيا
إن عملية الاشتغال على جمع مادة البحث تتطلب أولا التنقيب على مجموع ما يطلق عليه بيبليوغرافيا الموضوع، أي مجموع المراجع التي سيعتمد عليها في البحث، وهذه العملية تتطلب مهارة معينة في جمعها، فأول ما يجب أن يعرفه الطالب هو الكلمات المفتاحية لبحثه والتي تسمح له بمعرفة المراجع من خلال العناوين، مع إلمامه بمصطلحات العلم الذي يدرسه، ذلك أن بعض الكتب تستعمل في عناوينها مصطلحات أخرى لا يعرفها الباحث، وهي تتحدث عن نفس موضوع بحثه.
فقد يكون موضوع بحث الطالب حول موضوع الالتزامات، بينما بعض القوانين تطلق على الالتزامات الموجبات، أو يكون موضوعه هو التلبس بالجريمة، بينما بعض القوانين تطلق عليه الجريمة المشهودة، وهكذا ...
من جهة أخرى فموضوع الالتزام ينتمي إلى القانون المدني، فالقانون المدني هو كلمة مفتاحية مهمة، كما أنه ينتمي تقسيمات الحق، وبالتحديد الحق الشخصي، فكلمة الحق وكذلك الحق الشخصي هما من الكلمات المفتاحية للموضوع.
إن إعداد بيبليوغرافيا موضوع معين وقبل الانطلاق في البحث عنها ممكن، فتبحث في فهارس المكتبات المختلفة، أو عن طريق الأنترنت، أو في رفوف المكتبات نفسها، سواء المكتبات العامة التي تعير الكتب أو تسمح بالاطلاع في المكان، أو التي تبيعها، وهذا يتطلب البحث في فهارس تلك الكتب أيضا حتى يتم التأكد من دراسة المؤلف للموضوع المبحوث عنه، وقد يبحث الطالب في قائمة المراجع لتك المؤلفات التي تدرس نفس الموضوع لمعرفة ما إذا كان المؤلف قد ذكرا كتابا مفيدا أو كتابا جديدا أو قديما أو كتابا نادرا وغير متوفر، وكل هذه الطرق تفيد في النهاية في إعداد قائمة البيبليوغرافيا التي يتم بعد ذلك محاولة الحصول عليها بالإعارة أو التصوير أو الشراء ... إلخ
والبحث في المكتبات له تقنياته ذلك أن المكتبات لها علم خاص بها، فينبغي معرفة الرموز المختلفة الخاصة بحقل التخصص، فالقانون مثلا في تصنيف العالم الأمريكي ملفل ديوي يقع ضمن فئة العلوم الاجتماعية التي تأخذ الترقيم من 300 إلى 399، والرقم الذي أعطي لعلم القانون هو 340، فعند البحث في المكتبات ينبغي التوجه مباشرة إلى الكتب التي تحتوي هذا الرمز، ثم هناك رموز أخرى لكل فرع من فروع القانون كالتالي:
341 – القانون الدولي، 342 – القانون الدستوري، 343 – القانون العام، 344 – القانون الاجتماعي، 345 – القانون الجزائي، 346 – القانون الخاص، 347 – الإجراءات المدنية، 348 – أنظمة ودعاوي، ثم هناك تقسيمات فرعية أخرى لا داعي لذكرها.
والنسبة للمقالات التي تنشر في المجلات فالبحث فيها صعب نوع ما، وهناك كشافات خاصة لمواضيع المجلات، قد تنشر في الأنترنت، أو يجتهد بعض الناس في جمعها وتوفيرها مثلما فعل رضوان عيسات بالنسبة لكثير من المجلات في تخصص الحقوق.
المطلب الثاني: أنواع المراجع
1- الموسوعات والمعاجم، مثل الموسوعة الجنائية لجندي عبد الملك، أو الموسوعة الجنائية للقاضي فريد الزغبي.
2- المطولات، مثل المطول في القانون الدستوري، والكامل في القانون التجاري
3- المتوسطات، مثل الوسيط في القانون الدستوري، والوسيط في القانون الإداري للدكتور سليمان الطماوي، والوسيط في الإجراءات الجنائية للدكتور أحمد فتحي سرور.
4- الموجزات، مثل الوجيز في القانون الدستوري الدكتور الأمين شريط.
5- الكتب العامة التي تشرح قانونا معينا مثلا، مثل شرح قانون العقوبات الجزائري للدكتور عبد الله سليمان.
6- الكتب المتخصصة، التي تدرس جزئية معينة بتفصيل، مثل مصادر القانون أو عقد البيع.
7- المطبوعات الجامعية، هي دروس أو محاضرات قدمت في الجامعة من طرف أساتذة وأعدوها على شكل مطبوعات مختلفة سواء كانت محاضرات متفرقة أو مجموعة في مطبوعة معينة.
8- الأطروحات والرسائل والمذكرات، أطروحات الدكتوراه، ورسائل الماجستير، ومذكرات التخرج المختلفة.
9- مقالات المجلات المهنية والقضائية (المجلة القضائية للمحكمة العليا، مجلة مجلس الدولة، نشرة القضاة، مجلة الموثق، مجلة المحضر القضائي، مجلة المحامي، مجلة النائب، مجلة الفكر البرلماني ... إلخ)
10- المجلات العلمية المحكمة، مقالاتها تخضع للقراءة والتحكيم من طرف خبراء متعددين، (مثل مجلة الحقوق الكويتية، ومجلة الفقه والقضاء السورية، مجلة القانون والاقتصاد المصرية، مجلة العلوم القانونية والإدارية الجزائرية ... إلخ)
11- مقالات الملتقيات العلمية، تنشر على شكل كتب، أو تنشر في الأنترنت، أو تسلم في شكل أقراص مضغوطة.
12- النصوص القانونية المختلفة: الدستور، الاتفاقيات والمعاهدات، القوانين العضوية، الأوامر، القوانين، المراسيم الرئاسية، المراسيم التنفيذية، المراسيم الوزارية، القرارات الإدارية واللوائح والمنشورات والتعليمات ...)
13- المجلات والصحف بما فيها بعض المجلات الخاصة ببعض الأسلاك والإدارات، كمجلة الشرطة والجمارك والجيش.
14- المواقع الالكترونية، تذكر باسم النطاق فقط، وليس بالضرورة عنوان صفحة الويب نفسها.
15- الأحكام والقرارات القضائية المنشورة منها وغير المنشورة، بعض منها ينشر في مجلات خاصة كمجلة المحكمة العليا، وبعضها في الكتب والدراسات، أو في مجموعات أو موسوعات.
16- القواميس ودوائر المعارف والأطالس والمعاجم وغيرها من أجل التعريفات والمفاهيم وغيرها.
17- الكتب المنشورة في أقراص مضغوطة.
أين توجد هذه المراجع، وكيف يتم الوصول إليها:
في المكتبات المختلفة: مكتبات بلدية، وطنية، جامعية، مكتبات المعاهد المختلفة، الأرشيفات الوطنية ... إلخ
يتم البحث عن بيبليوغرافيا موضوع معين عن طريق الفهارس الورقية والالكترونية، وكذلك عن طريق الأنترنت، مثل:
http://scholar.google.com/schhp?hl=ar
المطلب الثالث: مرحلة القراءة
إن إمساك الكتاب والقراءة فيه ليس مهمة الجميع، فهناك من يتقن القراءة ويستفيد منها، وهناك من يمسك الكتاب كمن يمسك لوحة جامدة، أو كمن يمسك متاهة لا يجد له أولا ولا آخرا، فالكتاب له طرق لقراءته، فهناك القراءة السريعة التي تبدأ بالذهاب إلى نقاط محددة مركزة يتم الاطلاع عليها بلمح البصر، كقراءة الجزء من المقدمة الذي يتضمن الإشكالية، ثم المرور إلى الفهرس لمعرفة فصول البحث وتقسيماته، ثم الاطلاع على الخاتمة وكيف كانت وهل تضمنت نتائج حقيقية أم كانت خاتمة فقيرة من أي إضافات، ثم الاطلاع على قائمة المراجع للتحقق من مدى اطلاع المؤلف.
ثم هناك القراءة العادية والتي تعني أن يقرأ الكتاب من أوله إلى آخره معتمدا على كراسة وقلم حيث يدون المعلومات التي تهمه أو رؤوسها حتى يستطيع العودة إليها.
وأخيرا هناك القراءة الناقدة الفاحصة والتي تقرأ وتكتب تعليقات على كل جزئية، وتنتقد، وتراجع المؤلف فيما كتب نقطة نقطة.
والقراءة الأولى ضرورية عند الاطلاع على أي كتاب جديد، أما الثانية فهي تكون في حالة الكتب المفيدة جدا للبحث لأن الباحث لا ينبغي أن يقرأ ما لا يفيده، ويضيع وقته فيه، أما القراءة الثالثة فهي تكون في حالة المقالات غير المطولة، والتي تتضمن بعض الآراء الشخصية لأصحابها، فتحتاج إلى التأني في الأخذ منها بدون تمحيص وتدقيق.
المطلب الرابع: نسل وتنظيم المعلومات
إن أخذ المعلومات من الكتب دون تنظيم سوف يوقع الباحث في تعب كبير لا طائل منه، وهناك طرق كثيرة لنسل وتدوين وتنظيم الملعومات التي تؤخذ من الكتب:
- من تلك الطرق طريقة البطاقات، وهي أوراق من نوع الورق المقوى التي تخصص منها كل بطاقة لتدوين فكرة ما مقتطعة من كتاب ما مع تدوين كل معلومات ذلك الكتاب والصفحة ... إلخ، ولكن سلبيتها تتمثل في كثرتها وصعوبة تنظيمها.
- ومنها طرقة الملفات أو الدوسيهات، فيجعل الباحث لكل فصل أو مبحث ملفا خاصا يضع فيه ما قام بنقله من المراجع، فكلما نقل معلومة في ورقة معينة مثلا بحث عن الملف المناسب لتلك المعلومة ووضعها فيه.
- أما الطريقة المثلى في وقتنا الحالي فهي استعمال الحاسوب، فيخصص لكل مبحث أو فصل ملف معين بنفس الطريقة التي ذكرناها في طريقة الملفات، ولكن هذه المرة بطريقة إلكترونية وليس ورقية، ومميزات هذه الطريقة كثيرة جدا، وخاصة من حيث سهولة التعديل والتغيير في الحاسوب، وليس هناك من سلبيات أبدا إلا لمن لا يتقن التعامل مع الحاسوب، فقد سهل هذا الأخير كل عسير، وخاصة في عصر الأنترنت أين يمكن تخزين المعلومات في مراكز رفع أو في منتديات أو مواقع أو في الإيميل مثلا.
المبحث الثالث: التقرير النهائي (مرحلة الكتابة)
المطلب الأول: تعريف التقرير النهائي
التقرير النهائي هو البحث ذاته الذي سيقدم إلى لجنة الفاحصين، فهو يتضمن كل ما قام به الباحث من خطوات حيث يبين كيفية تحديده للمشكلة وكيفية بحثه عن المراجع وكيفية تصميمه للموضوع وما توصل إليه من معلومات وتحاليل ونتائج، فالبحث يكون قد تم في مرحلة سابقة على تدوين التقرير النهائي، وتكون أجزاؤه متضمنة في المسودات أو في البطاقات أو في غيرها من الأوعية، ويتم إعداد هذا التقرير ليكون جاهزا للطباعة والنسخ في شكل رسالة أو مذكرة، وهو يتضمن العديد من العناصر الشكلية والموضوعية، وعليه فالتقرير النهائي تلحقه كل الانتقادات التي ستوجه إلى البحث، فقد يوصف بأنه ركيك، أو مليء بالأخطاء، أو بعدم وضوح المنهجية، أو المفتقر إلى النتائج الملموسة والمؤسسة، أو غير الأصيل الذي لا يعتمد على مراجع حديثة، أو الفقير في الجانب المعرفي والمعلوماتي، أو المفتقر إلى التحليل السليم، أو المعقد الأسلوب.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الخطوة من البحث هي أهم خطوة، ذلك أن المراجع نفسها قد تكون عند طالبين أحدهما أشطر من الآخر، فتظهر شطارة الباحث في الاستفادة من المراجع، بشكل جيد كالفرق بين طباخ وطباخ أو بين نسيج ونسيج فالمادة الأولية من قطن وصوف هي نفسها لكن قد يصنع منه لباس رقيق أو لباس خشن، وهنا تظهر شخصية الباحث وقدرته، وليس كل ما تم جمعه سيتم إثباته في البحث بل ستبدأ عملية التصفية والاختيار والتمحيص، والباحث الجيد يجعل بحثه بمثابة عملية تحصيل فهو يستزيد من المعرفة، ويجعل عقله مصفاة لكل ما قرأه، ذلك أنه حين بدأ الموضوع كان خالي الذهن تماما من أي فكرة عنه ثم بدأ فيه وبدأت تتضح ملامحه شيئا فشيئا، ومن تمام الاعتماد على النفس والقريحة في البحث أن الباحث لا يجعل اعتماده على المراجع معفيا له من المسؤولية عن الأخطاء التي وقع فيها غيره، بل يضع المراجع نفسها موضع النقد والتمحيص.
فالتقرير النهائي كنوع من التقارير هو وسيلة للاتصال بين الباحث وبين قارئيه من مشرفين وفاحصين وباحثين آخرين، ولذلك فيجب أن يراعي فيه التنسيق وحسن عرض الأفكار بأسانيدها وأدلتها وصولا إلى التوصيات ذات القيمة والأهمية، ويجب أن يراعى فيها الدقة والاختصار وليس الحشو الممل، والاستطراد المخل، وبطبيعة الحال فإن أسلوب الباحث يفرض نفسه على البحث حيث يبين قدراته على البحث، ولكن هذا الأسلوب لا يغطي على المنهجية العلمية المتبعة التي هي منهجية واحدة، ويؤكد هنا على أهمية استعمال اللغة العلمية التي هي عندنا اللغة القانونية بمصطلحاتها وصياغتها والابتعاد عن صور الإنشاء الأدبي الذي هو اختلال كبير يصيب البحث في الصميم.
المطلب الثاني: قواعد التهميش وطرق الاقتباس
إن البحث الذي نقوم به لا نستغني فيه عن الاقتباس مادام أننا نعتمد فيه على المراجع، فأخذنا من المراجع هو اقتباس منها، ولكن طريقة الاقتباس تختلف، فقد يكون الاقتباس حرفيا، فحينئذ ينبغي وضع إشارة تدل على الاقتباس، وهي غالبا تضمين الكلام المقتبس بين شولتين أو مزدوجتين " ..."، فإن كان الاقتباس فيه كلام محذوف عوض الكلام المحذوف داخل النص المقتبس بثلاث نقاط متتابعة، أما الاقتباس الضمني أي أخذ الفكرة من صاحبها وصياغتها بالأسلوب الخاص فهو لا يستدعي أي إشارة مادام أن التهميش سيقوم بدور نسبة القول إلى قائله، وأهم قواعد الاقتباس هو عدم الإكثار منه، وعدم التطويل فيه، فلا يسوغ أن يتم اقتباس صفحة كاملة أو صفحات، وإنما فقط جملة أو جمل عديدة، ويجب في كل الأحوال مراعاة التهميش، فتنسب كل فكرة إلى صاحبها بكل أمانة، وليس كما يفعل الكثيرون، فيختارون تهميش بعض الأفكار وترك بعضها دون تهميش، وكأنها غير معنية به، بينما هي من صميم الأفكار المقتبسة.
أما التهميش فهو الإشارة في هامش الصفحة إلى بيانات المرجع المقتبس أو المأخوذ منه، وعلى كل حال فالتهميش ليس دائما غرضه ذكر المراجع، فقد يكون للتوضيح والبيان والتعقيب والتعليق والنقد والمقارنة وعديد الأغراض التي يمكن مشاهدتها في أي كتاب، وأما طريقة تهميش الكتب فهي على النحو التالي:
أولا: القرآن الكريم
بالنسبة للقرآن: سورة كذا، الآية رقم 21 مثلا
ثانيا: الكتب
طريقة أولى
(1) عبارة انظر (بلا همزة لأنها للوصل): لقب المؤلف (ثم اسمه بين مزدوجتين)، وبنفس الطريقة مؤلف آخر مثلا، أو وآخرون إذا كانوا كثرا، ثم ترجمة: فلان (لقبه ثم اسمه بين قوسين إن كان الكتاب مترجما)، ثم عنوان الكتاب: العنوان الفرعي إذا وجد يفصل بنقطتين، ثم الجزء إن وجد، ثم الطبعة إن وجدت، ثم مكان النشر، ثم دار النشر، ثم سنة النشر، ثم البند إن وجد (هي طريقة مشرقية)، ثم الصفحة (يرمز لها برمز ص متبوع بنقطة هكذا: ص. 21 مثلا)
ملاحظة: لا تذكر الألقاب كأستاذ ودكتور ومحام ومستشار وقاض ورئيس ووزير.
مثلا: (مثال افتراضي فقط)
(1) انظر: المرصفاوي (حسن صادق)، المرصفاوي في قانون العقوبات: شرح القسم العام لقانون العقوبات، ج 3، ط10، القاهرة، دار النهضة العربية، 1999، ص.21
طريقة ثانية
(1) اسم المؤلف ولقبه، عنوان الكتاب، الجزء (إن وجد)، دار النشر، مكان النشر، الطبعة، سنة النشر، الصفحة (ص. 21 مثلا)
مثلا: (مثال افتراضي أيضا)
(1) حسن صادق المرصفاوي، المرصفاوي في قانون العقوبات: شرح القسم العام لقانون العقوبات، ج 3، دار النهضة العربية، القاهرة، ط10، 1999، ص.21
طرق أخرى
يجب على الطالب عند الأخذ بطريقة معينة أن يستمر على الأخذ بها إلى نهاية البحث، وهناك عدة طرق أخرى تتضمن اختلافات يسيرة، مثل:
- ذكر الألقاب، ويكون ذلك بالاكتفاء بكلمة د. (لكل الدكاترة، أما لقب الأستاذ الدكتور فلا يكتب ويكتفى بالدكتور، مع العلم أن القانون الجزائري لم يعد يأخذ بهذه التسمية، واكتفى بكلمة أستاذ فقط).
- ذكر بلد النشر بعد دار النشر لا قبله.
- ذكر رقم الطبعة قبل تاريخها، مثل: ط1، 1999...
- بعض المؤلفين يجعلون تحت عنوان الكتاب سطرا، وبعضهم يجعلون سطرا تحت عناوين المقالات العلمية فقط دون غيرها.
الطريقة المفضلة:
هي الطريقة الأولى، دائما تكتب كلمة انظر، لا تذكر الألقاب، لا تسطر العناوين
ملاحظات: عند التفتيش والتنقيب في صفحات الكتاب من أوله إلى آخره قد لا نجد أحد البيانات، فماذا نفعل؟
- إذا لم تذكر الطبعة فلا بأس بذلك، ويحذف هذا البيان.
- إذا كان الكتاب صادرا بلا تاريخ يكتب: بدون تاريخ نشر في المكان المخصص.
- إذا لم يكن للكتاب ناشر يكتب، دون دار نشر.
- إذا لم يذكر بلد دار النشر فيستغنى عن هذا البيان.
ثالثا: المقالات العلمية:
(1) انظر: لقب الباحث (اسمه بين قوسين)، عنوان المقال، اسم المجلة، عدد 4 مثلا، سنة 2000 مثلا، ص. 21 مثلا.
رابعا: الرسائل العلمية:
(1) انظر: اسم الباحث، عنوان الأطروحة أو الرسالة أو المذكرة، نوعها (مثلا: رسالة ماجستير)، الجامعة أو الكلية التي نوقشت فيها (جامعة الجزائر مثلا)، سنة المناقشة، ص. 21 مثلا
خامسا: النصوص القانونية
(1) نوع القانون (أمر، قانون، مرسوم رئاسي ..) رقم كذا (الترقيم يكون بهذا الشكل: 90-11 حيث 90 هو السنة و 11 هو رقم ترتيبي للقانون بين القوانين من نفس نوعه في نفس السنة)، ج ر (اختصار جريدة رسمية) عدد 10 مثلا، صادر بتاريخ: التاريخ الهجري وموافقه من التاريخ الميلادي أو الاكتفاء بالتاريخ الميلادي فقط، ص. 21 مثلا
سادسا: الأحكام والقرارات القضائية
قد تكون منشورة في مجلات أو مذكورة في كتب ومراجع عامة أو غير منشورة، فيكون التهميش حسب الحالات المذكورة بالكيفيات الآتية:
(1) قرار أو حكم (جنائي، مدني، إداري ...)، اسم الجهة التي أصدرته (الغرفة الجنائية الثالثة للمحكمة العليا مثلا)، ملف رقم 100 مثلا، بتاريخ: 01/01/2000 مثلا، منشور في: المجلة القضائية للمحكمة العليا مثلا، عدد 10 مثلا، سنة 2000 مثلا، ص. 21 مثلا.
(1) قرار أو حكم (جنائي، مدني، إداري ...)، اسم الجهة التي أصدرته (الغرفة الجنائية الثالثة للمحكمة العليا مثلا)، ملف رقم 100 مثلا، بتاريخ: 01/01/2000 مثلا، مذكور في: تهميش الكتاب بالطريقة المذكورة أعلاه في طريقة تهميش الكتب وكذلك الرسائل العلمية.
(1) قرار أو حكم (جنائي، مدني، إداري ...)، اسم الجهة التي أصدرته (الغرفة الجنائية الثالثة للمحكمة العليا مثلا)، ملف رقم 100 مثلا، بتاريخ: 01/01/2000 مثلا، غير منشور.
سادسا: المطبوعات
(1) انظر: لقب واسم الأستاذ، عنوان المطبوعة أو عبارة محاضرات في مقياس كذا، الجهة التي أصدرتها إن وجدت، السنة الجامعية أو تاريخ الطبع، ص. 21 مثلا
الآن هناك حالات للتهميش، فعندما يذكر المرجع لأول مرة يهمش كاملا بالطريقة المذكورة أعلاه، لكن لو ذكر نفس المرجع في نفس الصفحة وفي الهامش الموالي مباشرة قمنا بتهميشه كالتالي: اسم المؤلف، ثم عبارة المرجع نفسه أو نفس المرجع، ثم الصفحة، أو عبارة نفس الصفحة إن كانت من نفس الصفحة، وإن كان ذكر المرجع بعد هامش آخر لمرجع آخر يهمش كالتالي: اسم المؤلف، ثم عبارة المرجع السابق، ثم الصفحة، ولكن لو كان للمؤلف أكثر من كتاب اعتمد عليه الباحث في بحثه فيقوم بتهميشه بذكر اسم المؤلف ثم عنوان الكتاب أو جزء منه كاف للتعريف به، ثم عبارة المرجع السابق، وهكذا مع جميع أنواع المراجع بنفس الطريقة.
وبالنسبة للغة الفرنسية فتعتمد نفس طريقة التهميش من حيث ترتيب البيانات، أما في حالة تكرار المرجع فهناك مختصرات معينة معروفة في هذا المجال، مثل: ibid (نفس المرجع)، op.cit (المرجع السابق) loc.cit (نفس المرجع ونفس الصفحة).
المطلب الثالث: الجانب الشكلي
تتضمن القواعد الخاصة بالشكل أمرين، ما يتعلق بترتيب أجزاء البحث، وما يتعلق بشكليات الكتابة على الحاسوب، فندرسهما في فرعين مستقلين.
الفرع الأول: ترتيب أجزاء البحث
يجب أن يراعى في التقرير النهائي احترام ترتيب أجزاء البحث المعتمدة والتي قد تختلف من كلية إلى أخرى ومن قسم إلى آخر ومن جامعة إلى أخرى ومن تخصص إلى آخر، وهي تتضمن ما يلي:
صفحات تمهيدية: وتتضمن: صفحة العنوان، صفحة الإهداء، صفحة الشكر، قائمة المختصرات إن وجدت.
صفحة العنوان: هي نفس الغلاف الخارجي للمذكرة، وتتضمن: اسم الجامعة والكلية والقسم، وعنوان البحث الذي يفضل أن لا يزيد عن 15 كلمة، وعبارة تحت العنوان تفيد نوع الدرجة التي قدم البحث لاستكمالها، وأسفل منها: اسم الطالب الباحث واسم المشرف، وأسفل منه لجنة الفاحصين أو لجنة المناقشة وفي الأسفل من كل ذلك السنة الجامعية.
صفحة الإهداء: وقد تكون الإهداء لشخص عزيز أو أشخاص أعزاء أو لجهات اعتبارية كالوطن وأجهزة الدولة والجامعة، وقد تكون للمتوفين، وهي جوازية وليست إجبارية، ومع ذلك فلا يجب أن تتضمن عبارات الغرام أو الهيام أو الدلع، وإنما فقط الإعزاز والإجلال.
صفحة الشكر: الشكر والامتنان هو للذين ساعدوا الباحث ووجهوه وأعانوه بأي شكل من الأشكال.
ملخص البحث: بعض الأبحاث يتطلب أن تتضمن في أولها ملخصا للبحث بلغة أجنبية بالإضافة إلى ملخص بلغة البحث.
قائمة المختصرات: قد تعن الحاجة لمثل هذه المختصرات عندما تكون كثيرة في البحث.
المقدمة: يجب أن تكون المقدمة مختصرة، فليس المطلوب فيها تركيز المعلومات، وأن تتضمن بعض العناصر المهمة التي تذكر عادة في المقدمة دون حاجة إلى تخصيصها بعنوان كما يفعل في كثير من التخصصات، ومنها: سبب اختيار الموضوع، والهدف من البحث، والصعوبات والعقبات التي قابلت الباحث، وكذلك الحدود والمجالات التي وضعها الباحث لبحثه كأن يكون قد اختار فترة زمنية محددة، أو قانونا معينا أو مجموعة قوانين لمجموعة دول محددة، كذلك يذكر في المقدمة بالطبع الإشكالية التي سيجيب عنها البحث والفروض المحتملة للإجابة إن كان قد حدد فروضا معينة، والمنهج المتبع في التحليل والدراسة والعرض والمناقشة، والخطة الموضوعة التي يراد اتباعها.
وقد تتضمن المقدمة فحصا للمراجع السابقة بتقدير ما إذا كانت قد تناولت الموضوع بشكل جيد أو أهملت بعض أجزائه أو لم تتطرق إلى المشكلة التي يطرحها الباحث.
الفصول:
بداهة أن البحث سيقسم إلى فصول والفصول إلى مباحث، والمباحث إلى مطالب والمطالب إلى فروع، وتتوالى التفريعات بعد ذلك إلى : فقرات و إلى غصون وأفنان، أو إلى ترقيمات بهذا الشكل: (أولا، ثانيا، ثالثا ...)، ثم (1، 2، 3...)، ثم (أ، ب، ج ...).
يجب أن يراعى في الفصول مجموعة نقاط مهمة: وأولاها التوازن ( الذي هو توازن منهجي وليس توازنا حسابيا، فلا يمكن أن يطول فصل ليصل إلى 40 صفحة بينما يكون فصل آخر في 7 أو 10 صفحات مثلا ) وثانيها: حسن اختيار العناوين الفرعية التي يجب أن تكون كاملة (لا يسوغ الاختصار) ودالة على المحتوى، ومتقنة غير ركيكة الصياغة، وتكون الفروع والمطالب ضرورية وغير متكلفة ومتسلسلة في عرض الأفكار حسب محتوى العنوان الرئيسي).
ويمكن للباحث أن يبدأ كل فصل ومبحث بتمهيد صغير يكون مدخلا للموضوع ومبينا لسبب تقسيمه له بالطريقة التي قسمه بها، ويحافظ على هذا المنهج إلى نهاية البحث، كذلك يمكن للباحث ولغاية الربط بين فصل وفصل أن يختم الفصل بخلاصة موجزة تتضمن النتائج الجزئية التي توصل إليها ويدخل بها إلى الفصل الموالي.
الخاتمة: وهي تعبر عن الخلاصة والاستنتاجات والتوصيات المتوصل إليها، والتي تعتبر إثباتا للمعلومات بالأدلة المعروضة على التحليل ثم التركيب في شكل نتيجة وقاعدة نهائية، وتتضمن دون شك الإجابة عن الإشكالية المطروحة في مقدمة البحث.
الملاحق: يمكن في بعض الأحيان إدراج ملاحق معينة حسب حاجة البحث كجداول أو مقتبسات أو جزء من نصوص غير متوفرة في مراجع أخرى ... إلخ، فيكون مكانها بعد الخاتمة وقبل قائمة المراجع
قائمة المراجع: بنفس الطريقة التي رأيناها في ذكر التهميش تكون المراجع مع مراعاة قواعد معينة تتعلق أساسا بـ : تصنيف المراجع إلى مراجع باللغة العربية ومراجع باللغة الأجنبية، ويبدأ بالمراجع باللغة العربية، وفيها يبدأ بالمراجع العامة ثم المراجع المتخصصة ثم الرسائل والأطروحات ثم المقالات ثم النصوص القانونية وأخيرا الأحكام القضائية، ويراعى في المراجع العامة والمتخصصة والمقالات والرسائل ترتيبها أبجديا لألقاب المؤلفين، والنصوص القانونية يراعى فيها تدرجها التشريعي فالدستور أولا ثم الاتفاقيات ثم القوانين العضوية ثم القوانين والأوامر ثم المراسيم الرئاسية والمراسيم التنفيذية، ويراعى في الأحكام القضائية إن كانت قليلة ذكرها بنفس ترتيبها الذي وردت به في الرسالة وإن كانت متضمنة في مجلات قضائية ترتب حسب أعدادها.
الفهرس: يراعى فيه ذكر الفصول والمباحث والمطالب والفروع فقط دون باقي التفريعات ويشير إلى صفحات تلك الأجزاء، ولذلك فهو يوضع بعد الانتهاء التام من البحث وكتابة كل أجزائه.
المطلب الثالث: الشكليات الخاصة بالكتابة على الحاسوب
يبدأ بإعداد الصفحة للكتابة بالحاسوب، وتجدر الإشارة أن هناك برامج خاصة يتم تنصيبها مع برنامج وورد wordخصيصا لكتابة البحوث، وخاصة هوامش الصفحة التي تكون 2 سم للهامش الأعلى والأسفل والأيسر بينما الهامش الأيمن يكون أكثر من ذلك (3 سم) نظرا لوضع القوابض أو النوابض في تلك الجهة.
بالنسبة للخط فيكون من نوع simplified arabic حجم 16، و12 بالنسبة للهوامش، وعناوين الفصول والمباحث والمطالب وغيرها تكون في الوسط ومن غير نقاط وبخط غامق gras، بالشكل التالي:
الفصل الأول
الجانب الموضوعي مثلا
والكتابة كلها يجب أن تكون مصفوفة justifier والفارق بين الأسطر simple، ويستحسن أن يكون بين كل عنوان وفقرة وبين فقرة وفقرة وبين فقرة والعنوان الموالي فاصل بحجم 8 من أجل مزيد من الوضوح والجمال في النص.
أما التهميش فيكون تلقائيا automatique، ويبدأ من 1 في كل صفحة، وتكون هناك صفحات فاصلة في أول كل فصل يكتب فيها كلمة الفصل الأول، الفصل الثاني ...، وترتب المراجع في نهاية البحث ألفبائيا بعد أن تقسم إلى المراجع باللغة العربية والمراجع باللغة الأجنبية، وتقسم الأولى إلى الكتب العامة ثم المتخصصة ثم الرسائل والأطروحات ثم المقالات العلمية ثم الصحف والمجلات ثم النصوص القانونية مرتبة بحسب درجتها وتاريخها، ثم الأحكام والقرارات القضائية.
المطلب الرابع: الجانب الموضوعي
إن حضور المناقشات العلمية يساعد الطالب في معرفة تلك الأخطاء العلمية والمنهجية والشكلية التي يقع الباحثون عادة فيها، ولكن ليس معنى ذلك أن التوجيهات لم تقدم لهم مسبقا بل هي أخطاء يقع فيها أي باحث مهما كان حرصه باعتبار أن عمله هو عمل بشري، وعليه فهناك العديد من القواعد التي ينبغي مراعاتها أثناء الكتابة، وهي ترجع إلى العديد من الأصناف فمنها ما يتعلق بالشكل والموضوع والروح العلمية والأمانة والموضوعية والجمال اللغوي والبساطة والمنطق الرصين في الاستدلال، ويمكننا إيجاز تلك التوجيهات في الآتي:
- الحذر كل الحذر من السرقة العلمية التي انتشرت في الأعصر الأخيرة في العالم العربي، بسبب عدم القدرة العلمية لدى الباحثين، وعدم كفاءتهم، وقلة ثقافتهم واطلاعهم، وعدم وجود الوازع الأخلاقي لديهم.
- البحث عن الأصالة في المواضيع المطروحة وفي الطرح ذاته ومحاولة تجنب البحوث الكلاسيكية التي تستقر في أرفف المكتبات ولا تساهم في صقل موهبة الباحث ولا في توسيع اطلاعه ومعارفه ولا في تحفيز الجرأة لديه لمواصلة البحث العلمي.
- إن النقل والنقل والاقتباس من الكتب ليس هو غاية الباحث ولا هو هدفه وإنما الغاية هي النقل الواعي والأمين، على عكس النقل الواعي وغير الأمين وأحيانا غير المشروع، والنقل غير الواعي الذي هو سمة أكثر البحوث اليوم.
- إن الموضوعية هي أصل من أصول البحث العلمي، ويقصد بها الحياد التام في البحث والبعد عن تأثير الأهواء والانفعالات، ولا يمنع الباحث أي مانع من إبداء رأيه دون تهكم ودون تسفيه، فإذا فعل ذلك فقد خرج عن الموضوعية والروح العلمية، كما أنه عندما يجرح في الآخرين فإنه يعطيهم الحق أيضا في تجريحه، وهذا يؤدي إلى فساد علمي عظيم، والموضوعية مطلوبة حتى في العلوم الإنسانية لأنها لا تعني تخلي الإنسان عن خلفياته الفكرية بقدر ما تعني الضمير العلمي والاطمئنان إلى ما يؤدي إليه الاستدلال دول تلو ولا روغان.
- من غير اللائق علميا أن يذكر الباحث عبارات مثل: "يرى بعض الباحثين" ، أو "يرى البعض"، أو "يرى فريق" ثم لا يبين من هم هؤلاء المقصودون، فكأنه نسبة إلى مجهول، مع العلم أن هذا الكلام يمكن أن يعتمد عليه آخرون فيصبح رأيا بلا صاحب.
- من الأخطاء الشائعة وجود تطابق بين عنوان البحث وعنوان جزئي داخل البحث، كعنوان فصل أو مبحث، أو التطابق بين عنوان فصل وعنوان مبحث أو مطلب داخل الفصل أو المبحث، فهذا الأمر بائن عواره، ولا يجوز أبدا.
- ومن الأخطاء الشائعة عدم تحديد منهج الدراسة في المقدمة أو عدم ظهور المنهج المحدد في تلافيف الدراسة، وكأن ذكر المنهج هو ذكر شكلي فقط دون الاعتناء بأصول ذلك المنهج وأسسه، كأن يذكر مثلا أن المنهج المتبع هو المنهج التحليلي ثم لا يظهر لهذا المنهج أي أثر.
- إن الخاتمة ليست مجرد ترديد لما جاء داخل البحث، بل لها أغراض محددة هي الإجابة عن الإشكالية وذكر النتائج والتوصيات، مع الاعتماد على المنطق السليم في الاستنتاج.
- كذلك المقدمة لا ينبغي أن تشتمل على التفاصيل الكثيرة والتعاريف، وخاصة شرح النظريات المعروفة التي لها تفاصيل في الكتب، ولا يمنع من الإشارة إليها في الهامش، وعموما فإن الباحث يجب أن يضع في ذهنه عند كتابة المقدمة أن القارئ عندما ينهي قراءتها سوف يدرك ماهية المشكلة وفروعها ؟
- ينبغي على الباحث أن يجعل البحث يتحدث عن نفسه ويتجنب تماما ظهور شخصه في البحث في صورة التعبير عن ذاته كالقول: أنا ونحن، وأرى، وأعتقد، وقد استفدت من الموضوع، وقد توصلت ... إلخ، ويستعمل ضمير الغائب والمبني للمجهول كالقول: يبدو أنه، يظهر، ويتضح مما سبق، و غيرها.
- إن اللغة هي مرآة الباحث والبحث، ومهما كانت لغة الباحث غير جميلة فهناك قواعد ينبغي الالتزام بها رغم ذلك، كالابتعاد عن التكرار والحشو واستعمال اللغة الحديثة، وعدم استعمال اللغة الأجنبية بلا غرض إلا إذا تعلق الأمر ببعض الاصطلاحات، ويستطيع الباحث عرض بحثه قبل الطباعة على مدقق لغوي من معارفه تفاديا للوقوع في ورطات لغوية.
- إن استعمال علامات الترقيم لا غنى عنه، ويجب استعمالها استعمالا صحيحا، ويمكننا تلخيص ذلك في الآتي: النقطة ( في نهاية الجملة التامة، وللتعبير عن الاختصار مثل ص. لكلمة صفحة)، الفاصلة (لسكتة الخفيفة بين أجزاء الكلام، وين الكلمات المترادفة، والمتعاطفة، وبين الشرط وجوابه، والصفات المتكررة، وبين القسم وجوابه، وبعد المنادى ...)، النقطة الفاصلة أو الفاصلة المنقوطة (بين جملتين طويلتين في نفس السياق كأن تكون إحداهما سببا للأخرى)، النقطتان الرأسيتان (للتوضيح وبداية التنصيص)، علامة الاستفهام (بعد الجمل الاستفهامية)، علامة التعجب (بعد الصيغ التعجبية)، الشرطة أو الوصلة (للجمل المنفصلة في أسطر مستقلة للعبير عن أفكار متسلسلة)، الشرطتان (للجمل الاعتراضية)، الشولتان المزدوجتان (لتضمين الكلام المقتبس أو التنصيص)، القوسان (لتوضيح المعاني أو حول بعض الكلمات التي ليست من أركان الكلام كالأسماء الأجنبية أو الأرقام أو غيرها)، القوسان المعقوفان أو المركنان (للزيادة في الاقتباس أو للتقويم والتوضيح)، النقط الأفقية (علامات الحذف في الاقتباس)، الخط المائل (تستعمل مع الأرقام كالفقرات في النصوص القانونية مثلا).
- وبالجملة يمكن تلخيص أهم الملاحظات التي تتعلق بالمضمون في: الاعتماد الواسع على النفس في التحليل بكل حرية وأريحية دون خجل ولا وجل وعدم الإفراط في الاقتباس، والالتزام بالخطة الموضوعة من حيث التسلسل المنطقي للأفكار والبحث عن جواب الإشكالية في غضون كل جزئية من جزئيات البحث، والتزام اللغة العلمية والموضوعية والأمانة.