المبحث الخامس: المنهج الجدلي
مفهومه –الفرق بينه وبين الميتافيزيقي – صفاته – قوانينه - تقييمه
ملاحظة هامة جدا: تم التعويل في هذه المحاضرة بشكل كبير على الجدلية الماركسية بالتحديد، وليس على كل أنواع الجدلية، وقد يظهر ذلك بصورة واضحة في الأمثلة المقدمة.
المطلب الأول: مفهومه
الجدل هو أسلوب للمناقشة والتعليم، نشأ عن الأسلوب اليوناني في فن الحوار، لذلك يقال أن الجدل بمثابة منهج للحوار، وهو أيضا نوع من المنطق لأنه يستعمل فيه الاستدلال، وبالفعل فقد كان شيشرون يسمي المنطق علم الجدل.
والمعنى اللغوي للجدل (ديالكتيك) يشير إلى "الكلام" و"الخطاب والحجة" و"المقايضة"، فمعناه إذن هو تبادل الكلام والحجج، أو على المحادثة والمناقشة.
أما في الاصطلاح فالجدل هو منهج للدحض بواسطة فحص النتائج المنطقية، أو هو استدلال منطقي أو مناقشة تستخدم مقدمات منطقية، وعرفه هيجل (رائد هذا المنهج) بأنه:"نقد منطق الخداع بإظهار التناقضات التي يقع فيها العقل".
تاريخيا يرى أرسطو أن زينون الإيلي أول من استخدم الجدل، فهو يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وقد جاء السوفسطائيون فجعلوا من الجدل منهجا للسفسطة، أي مجرد إرضاء مآربهم عن طريقه، فقد يقوم السوفسطائي بالبرهنة على صحة القضية بعد أن يكون قد برهن على نقيضها، وذلك باستعمال حجج خادعة في الغالب، فلم يكن هدفهم الحقيقة، ولذلك جاء سقراط ورد عليهم، واعتبر أن الجدل منهج للحوار والوصول إلى الحقيقة عن طريق السؤال والجواب.
ويخلف الجدل الأفلاطوني عن الجدل السقراطي، فأفلاطون يعتبر الجدل المنهج الفلسفي الأعلى، وهو حجر الزاوية الذي تقوم عليه العلوم.
أما في الفلسفة الحديثة فقد اختفت كلمة الجدل فيها وحل محلها كلمة المنطق فقط، ولكن ما لبث أن عاد الجدل للظهور من جديد على يد بعض الفلاسفة أبرزهم إيمانويل كانط، وكذلك ديكارت وإن كان سابقا على كانط، ثم هيجل الذي هو أبو الجدل.
وقد نظر هيجل إلى المنطق نظرة جديدة، وذلك في صورة المثلث، أو الخطوات الثلاث، أي الفكرة thèse ونقيضها antithèse والمركب synthèse، حيث تنتقل التصورات أو الأفكار إلى نقائضها، وكان من أهم ما تولد على الجدل الهيجل جدل آخر هو الجدل الماركسي.
المطلب الثاني: الفرق بين الجدلي والميتافيزيقي
حتى نفهم المنهج المتافيزيقي لا بأس أن نعطي المثال التالي: اشترينا زوجا من الأحذية الصفراء. وبعد مدة من الزمن تبلى فنصلحها ومع ذلك نقول بأننا نلبس أحذية صفراء دون أن ندرك أنها لم تعد نفس الأحذية التي اشتريناها سابقا ، ولكننا نهمل الإشارة إلى ما أصابها من تغيير فنعتبرها وكأنها لا تزال على حالها.
سيساعدنا هذا المثال على فهم ماهية المنهج الميتافيزيقي، فيعتبر مثل هذا المنهج، حسب قول إنجلز، الأشياء "وكأنها تامة الصن لا تتغير، ولا تتأثر بأسباب التغير.
فكلمة "ميتافيزيقية" مشتقة من "ميتا" اليونانية وهي تعني "ماوراء" و "فيزيقيا" وهي تعني علم الطبيعة. وموضوع الميتافيزيقيا (ولا سيما عند أرسطو) هو دراسة الكائن الذي يوجد وراء الطبيعة. وبينما الطبيعة متغيرة، فأن الكائن الذي يوجد وراء الطبيعة أبدي لا يتغير. يسميه البعض الله، ويسميه الآخرون المطلق.. الخ.
ويعتقد الماديون، الذين لا يعتمدون على العلم فقط، أ ن هذا الكائن خيالي، ولما كان قدماء الأغريق لم يصلوا إلى تفسير الحركة فقد اضطر بعض فلاسفتهم أن يقيموا، وراء الطبيعة المتغيرة، مبدأ أبديا. فإذا ما تحدثنا عن منهج ميتافيزيقي أردنا بذلك منهجا يجهل حقيقة الحركة والتغير. ولهذا كان عدم رؤيتي لتغير حذائي موقفا ميتافيزيقيا.
تجهل الميتافيزيقيا الحركة وتقول بالسكون والتماثل وشعارها "لا جديد تحت الشمس". كما أن القول بأن الرأسمالية أبدية وأن مصائب الرأسمالية وعيوبها (من فساد وأنانية وقسوة) التي تولدها في الناس مخلدة ضرب من التفكير الميتافيزيقي. لأن الميتافيزيقي يتمثل في خاطره إنسانا أبديا لا يتغير. لماذا ؟ لأنه يفصل الإنسان عن بيئته وعن مجتمعه. فهو يقول: "يوجد من جهة الإنسان، ومن جهة ثانية المجتمع. فإذا ما قضينا على المجتمع الرأسمالي ليحل محله مجتمع اشتراكي ظل الإنسان مع ذلك إنسانا".
نقع هنا على صفة ثانية من صفات الميتافيزيقيا: فهي تفصل بصورة اعتباطية بين ما هو في الواقع لا انفصال بينه. فالإنسان ثمرة لتاريخ المجتمعات. وهو ليس كذلك خارج المجتمع بل بتأثيره. وهكذا يفصل المنهج الميتافيزيقي ما هو متصل في الواقع. ويقوم بتصنيف جميع الأشياء تصنيفا نهائيا. فهو يقول مثلا: "السياسة من جهة والنقابة من جهة". ولا شك أن السياسة والنقابة شيئان، غير أن التجربة والحياة تبرهن لنا على أنه لا يمكن فصل السياسة عن النقابة، لأن ما يحدث في النقابة يؤثر في السياسة، كما أن النشاط السياسي (كالدولة، والأحزاب، والانتخابا ت) يؤثر في النقابة.
تؤدي هذه التجزئة بالميتافيزيقي إلى أن يفكر في كل مناسبة بهذا الشكل: يكون الشيء هذا أو ذاك، فهو لا يمكنه أن يكون في نفس الوقت هذا أو ذاك"، مثال: ليست الديمقراطية هي الدكتاتورية، وليست الدكتاتورية هي الديمقراطية، فالدولة إذن إما أن تكون ديمقراطية وإما أن تكون دكتاتورية. ولكن ما الذي تعلمنا إياه الحياة ؟ تعلمنا الحياة أن الدولة يمكن أن تكون، في نفس الوقت، دكتاتورية وديمقراطية. فالدولة البرجوازية، في الولايات المتحدة مثلا، ديمقراطية بالنسبة لأقلية من كبار الممولين الذين يتمتعون بجميع الحقوق وكل السلطات. وهي دكتاتورية بالنسبة للأغلبية الساحقة من أوساط الناس الذين لا يتمتعون إلا بحقوق وهمية. أما الدولة الشعبية، في الصين مثلا، فهي دكتاتورية بالنسبة لأعداء الشعب وبالنسبة للأقلية المستغلة التي طردتها الثورة من الحكم، وهي ديمقراطية بالنسبة للأغلبية المطلقة من العمال الذين تحرروا من الاضطهاد.
ولما كان الميتافيزيقي يحدد الأشياء تحديدًا نهائيًا ويحرص على أن يعزلها بعضها عن بعض، فإنه مضطر إلى أن يناقض بعضها بالبعض على أنها متنافرة لا يمكن التوحيد بينها. فهو يعتقد أنه لا يمكن أن يوجد متناقضان في نفس الوقت، فهو يقول إن الكائن إما أن يكون حيا وإما أن يكون ميتا، ولا يمكن أن يتصور أن كائنا ما يمكن أن يكون حيا وميتا في نفس الوقت. ومع ذلك تحل في الجسد الإنساني في كل لحظة خلايا جديدة محل الخلايا الميتة. وتقوم حياة الجسم على هذا النضال المستمر بين الأضداد.
يمتاز المنهج الميتافيزيقي إذن برفضه للتغير وفصله بين ما لا يمكن فصله وإهماله للأضداد. ولذلك يمكننا منذ الآن أن نحس بالأخطار التي يمكن أن يؤدي إليها المنهج الميتافيزيقي في البحث عن الحقيقة والتأثير في العالم. لأن الميتافيزيقيا يفوتها جوهر الواقع الذي هو تغير مستمر وتحول دائم: فهي لا تريد أن ترى إلا جانبا واحدا من هذا الواقع الغني وأن ترد الكل إلى أحد أجزائه فترد الغابة بأكملها إلى إحدى شجراتها. فهي لا تتخذ صورة الواقع كما تفعل الجدلية بل تريد أن تحمل الواقع الحي على أن يتخذ صورة قوالبها الميتة. وهي مهمة مصيرها إلى الفشل.
تروي خرافة يونانية قديمة مساوئ قاطع الطريق بروكست الذي كان يرقد ضحاياه على سرير ضيق. فإذا كانت الضحية أضخم من السرير قطع رجليها، وإذا كانت ضئيلة مدد أعضاءها... وهكذا تفعل الميتافيزيقا بالوقائع غير أن الوقائع عنيدة لا تستسلم.
خلاصة: المنهج الميتافزيقي هو على النقيض تماما من المنهج الجدلي، والغريب أننا في أيام الجامعة درسنا أن المنهج الميتافيزيقي هو نفسه المنهج الجدلي.
المطلب الثالث: صفات الجدلية
تنظر الجدلية إلى الأشياء والمعاني في ترابطها بعضها بالبعض وما يقوم بينها من علاقة متبادلة، وتأثير كل منها في الآخر، وما ينتج عن ذلك من تغيير، كما تنظر إليها عند ولادتها ونموها وانحطاطها، وهكذا تتعارض الجدلية في كل ناحية مع الميتافيزيقا، وليس ذلك لأن الجدلية لا تقبل أي سكون أو فصل بين مختلف جوانب الواقع بل هي ترى في السكون جانبا نسبيا من الواقع. بينما الحركة مطلقة، وهي تعتبر أيضًا أن كل فصل أو تمييز هو نسبي لأن كل شيء يحدث في الواقع بطريقة أو أخر ى، وأن كل شيء يؤثر في الآخر.
وهكذا لما كانت الجدلية تهتم بالحركة في كل أشكالها وليس فقط بالتغيير المكاني بل بتغييرات الحالات كتحول الماء السائل إلى بخار فإنها تفسر الحركة عن طريق نضال الأضداد. ذلك أهم قانون في الجدلية (ندرسه بعد قليل).
إذا كان الميتافيزيقي يقوم بعزل الأضداد بعضها عن بعض، وينظر إليها على أنها متنافرة بصورة منظمة فإن الجدلي يكتشف بأنه لا يمكن أن يوجد بعضها دون البعض، وأن كل حركة وكل تحول إنما يفسره ما ينشأ بينها من نضال. ولقد أشرنا، لى أن حياة الجسد هي نتيجة نضال مستمر بين قوى الحياة وقوى الموت، وأنها انتصار تنتزعه الحياة من براثن الموت، إذ أن كل كائن عضوي هو في كل لحظة، ذاته وليس بذاته، فهو، في كل لحظة. يتمثل مواد غريبة ويفرز مواد أخرى، تموت في كل لحظة، خلايا من جسده بينما تتكون أخرى، فإذا بماهية هذا الجسد تتجدد في مدة قصيرة، وقد حل محلها ذرات مادية أخرى، بمعنى أن كل كائن عضوي هو دائما ذاته وليس بذاته.
حتى إذا ما تأملنا الأشياء جيدا وجدنا أن قطبي التناقض لا يمكن الفصل بينهما بالرغم من تناقضهما، وأن كلا منهما يتداخل في الآخر، وهكذا فإن السبب والنتيجة هما تصوران لا قيمة لهما إلا إذا طبقناهما على حالة معينة، حتى إذا ما اعتبرنا هذه الحالة المعينة في علاقتها بمجموع العالم انحلا في نظرتنا إلى التفاعل الشامل المتبادل حيث تتبدل الأسباب والنتائج باستمرار فيصبح ما كان نتيجة هنا سببا هناك وهكذا دواليك.
وهكذا شأن المجتمع أيضا، فنضال الأضداد يظهر في المجتمع في صورة نضال الطبقات، كما أن نضال الأضداد يثير الفكر.
المطلب الرابع: قوانين الجدلية
هناك قوانين رئيسية وأخرى ثانوية، ولكنها أهمها بلا شك ثلاثة: تحول الكمي إلى كيفي، وحدة وصراع الأضداد، ونفي النفي، وسندرس فيما يلي أهم تلك القوانين.
الفرع الأول: قانون التفاعل والترابط الشامل
يشارك أحدهم في النضال من أجل السلام، ويجمع التواقيع ويقوم بتعليق الإعلانات، ويأخذ بالنقاش مع صديقه في العمل أو مع شخص غريب ... إلخ، وسوف يقول البعض: "وماذا يعتقد هذا المسكين أنه يفعل ؟" إنه لا شك يضيعوقته وجهده". يبدو عمل هذا الرجل، لأول وهلة، عبثا لا طائل تحته، فهو ليس وزيرا، ولا نائبا ولا قائدا في الجيش ولا صاحب مصرف أو سياسيا. إذن؟ وهو مع ذلك محق في عمله. لماذا؟ لأنه ليس وحيدا، ومهما كان شخصه متواضعا فإن لمحاولاته هذه قيمتها وتأثيرها لأنها ليست محاولات فريدة، بل عمله جزء من عمل كبير هو نضال الشعوب العالمي من أجل السلا م إذ هناك ملايين الرجال الذين يعملون مثله، في نفس الاتجاه ضد نفس القوى، فهناك ارتباط شامل بين جميع هذه المحاولات التي تكون حلقات صغيرة في نفس السلسلة، كما أن هناك تفاعلا متبادلا بين جميع هذه المحاولات، لأن كلا منها تساعد الأخرى بما تضربه من مثل و ما تكسبه من خبرة أثناء فشلها وانتصارها، حتى إذا قام جميع هؤلاء الرجال بالمقارنة بين محاولاتهم اكتشفوا أنهم لم يكونوا فيها فريدين بالرغم من اعتقادهم ذلك. كل شيء إذن مرتبط بالآخر.
هذا مثال بسيط استقيناه من الواقع، وهكذا نرى أن قانون (Tout se tient) هو قانون الجدلية الأول هو الذي يسمح، لوحده، بتأويل هذا المثال بصورة صحيحة.
وبهذا تتعارض الجدلية مع الميتافيزيقا تعارضا أساسيا. ولن يفكر الميتافيزيقي مثل هذا التفكير فيقول: "ما الفائدة من كل هذا الجهد، من صعود الطوابق ومناقشة الناس؟ لأن مصير السلم ليس بأيدي الناس العاديين" لأن الميتافيزيقي يفصل ما هو في الواقع غير منفصل.
وهذا موقف شائع جدا. وهو مثلا موقف الرياضي الذي يردد في كل مناسبة "الرياضة هي الرياضة، والسياسة هي السياسة، أنا لا أتدخل في السياسة" ولا شك أن الرياضة والسياسة شيئان منفصلان. ولكن من الخطأ القول بأن ليس بينهما أية علاقة إذ كيف يمكن للرياضي أن يشتري أدواته الرياضية إذا انخفضت قدرته الشرائية، أو توقف عن العمل؟ وكيف يمكن بناء الملاعب وأحواض السباحة إذا التهمت ميزانية الحرب الاعتمادات الضرورية للرياضة؟ وهكذا ترى أن الرياضة ترتبط ببعض الشروط التي يجهلها الميتافيزيقي ويكتشفها الجدلي، لأنه لا رياضة بدون اعتمادات، ولا اعتمادات بدون سياسة سلمية، فلا تنفصل الرياضة إذن عن السياسة. ولا يخدم الرياضي، الذي يجهل هذا الارتباط، قضية الرياضة بل هو يحرم نفسه من ا لوسائل للدفاع عنها. لماذا؟ لأنه إذا ما جهل أن كل شيء مرتبط بالآخر فإنه لن يناضل ضد سياسة الحرب، حتى يحين الوقت الذي يفقد فيه الرياضة وذلك إما لأن خراب البلاد قد قضى على معدات الرياضة وإما لأن الحرب قد وقعت.
خلاصة: ميزة الجدلية الأولى هي خاصة الارتباط، فلا تنظر الجدلية، على عكس الميتافيزيقا، إلى الطبيعة على أنها عبارة عن مجموعة من الأشياء والظواهر المنفصل بعضها عن البعض بل على أنها كل موحد منسجم حيث تتصل الأشياء والظواهر اتصالا عضويا ويرتبط كل منهابالآخر، لهذا يرى المنهج الجدلي أنه لا يمكن تفسير أية ظاهرة طبيعية إذا نظرنا إليها على حدة خارج الظواهر المحيطة بها، لأنه يمكن تحويل أية ظاهرة في أي مجال من الطبيعة إلى شيء لا معنى له إذا ما نظرنا إليها في منأى عن الظروف المحيطة بها وفصلناها عن هذه الظروف ، كما أنه، على العكس، يمكن فهم أية ظاهرة وتفسيرها إذا نظرنا إليها من خلال علاقتها بالظواهر المحيطة التي ترتبط بها.
تدل هذه الميزة الأولى للجدلية على طابعها العام، وتتحقق هذه الميزة بصورة شاملة في الطبيعة وفي المجتمع.
الفرع الثاني: قانون التحول الشامل أو النمو المستمر
"كل شيء يتحول"
يروي الفيلسوف فونتونيل قصة وردة كانت تعتقد بأن البستاني مخلد. لماذا؟ لأن الوردة لا تذكر أنها رأت غيره في البستان، وهكذا يفكر الميتافيزيقي فهو ينكر التغي،. ومع ذلك تعلمنا التجربة أن كل بستاني هالك كما تهلك الورود، ولا شك أن هناك أشياء تتغير بصورة أبطأ من الوردة، فيستنتج الميتافيزيقي من ذلك أنها خالدة لا تتغير، فيجعل من ثباتها الظاهري شيئا مطلقا، فهو لا يرى من الأشياء إلا جانبها الذي تبدو فيه أنها لا تتغير، فتظل الوردة وردة ويظل البستاني بستانيا، أما الجدلية فهي لا تكتفي بالظاهر بل تدرك الأشياء في حركتها، فلقد كانت الوردة برعما قبل أن تصبح وردة فإذا ما نمت تغيرت من ساعة لأخرى بالرغم من أن العين لا ترى شيئا من هذا التغيير، كما أنها ستفقد أوراقها حتما وستتولد وردات أخرى محلها تتفتح بدورها هي أيضًا.
نستطيع أن نجد في حياتنا اليومية ألف مثال على أن كل شيء يتحرك ويتحول، فمثلا تبدو هذه التفاحة ثابتة لا تتحرك فوق الطاولة، ومع ذلك سيقول الجدلي: "مع أن هذه التفاحة تبدو ثابتة فهي متحركة وهي لن تكون في عشرة أيام ما هي عليه الآن، كانت زهرة قبل أن تصبح تفاحة خضراء، كما أنها ستتحلل مع الزمن وتتساقط بذورها التي إذا ما زرعها البستاني نشأت منها شجرة تحمل عدة تفاحات، كان لدينا في البدء تفاحة واحدة ولدينا الآن العديد من التفاحات".
وهكذا يصح القول بأن الكون لا يعيد نفسه بالرغم من جميع المظاهر، ومع ذلك يتكلم الكثير من الناس كما تكلمت وردة فونتونيل فيقولون "ليس من جديد تحت الشمس"، ولسوف يكون هناك دائما أغنياء وفقراء"، "كما سيكون هناك دائما مستغِلون ومسَتغلون" "وأن الحرب أبدية" الخ... ولا شيء أمر إلى الإضلال من هذه الحكمة الواهية، ولا شيء أشد خطر منها، فهي تدعو إلى السلبية والعجز والاستسلام. أما الجدلية فهي تعلم، على العكس، أن التغير صفة لازمة للأشياء.
خلاصة: تلك هي الميزة الثانية للجدلية التي تقول بأن التغير يشمل الكون وأن النمو مستمر، فلا تنظر الجدلية، على عكس الميتافيزيقا، إلى الطبيعة على أنها حالة من الهدوء والثبات، والركود وعدم التغير، بل تنظر إليها على أنها حالة من الحركة والتغير الدائمين، والتجدد والنمو المستمرين، حيث يولد كل شيء بينما ينحل شيء آخر ويزول.
الفرع الثالث: قانون التحول الشامل أو النمو المستمر
"كل شيء يتحول"
إذا غليت الماء أخذت حرارته بالارتفاع درجة بعد درجة حتى إذا ما بلغت درجة معينة جعل الماء يتبخر ويتحول إلى بخار ماء، نحن هنا أمام نوعين من التغير إذ أن تغير الحرارة التدريجي هو تغير كمي أي أن كمية الحرارة التي يحتوي عليها الماء تزداد، غير أن الماء في وقت ما يفقد صفته كسائل ويصبح غازًا دون أن يغير من طبيعته الكيمائية.
وهكذا نسمي تحولا كميا مجرد ازدياد الكمية أو نقصانها، كما نسمي تحولا نوعيا الانتقال من صفة إلى صفة أخرى أو من حال إلى حال كالانتقال من حالة السيولة إلى حالة الغازية.
فقد دلت دراسة الميزة الثانية للجدلية على أن الواقع في تحول مستمر، أما هذه الميزة الثالثة للجدلية فهي تدل على أن هناك صلة بين التحولات الكمية والتحولات النوعية، ذلك لأن التحول النوعي (كتحول الماء إلى بخار ماء) ليس من قبيل الصدفة بل هو نتيجة حتمية للتحول الكمي أي لازدياد الحرارة التدريجي. حتى إذا ما بلغت الحرارة درجة معينة ( ١٠٠ درجة) أخذ الماء بالغليان في ظروف الضغط الجوي الطبيعي، فإذا ما تغير الضغط الجوي تغيرت درجة حرارة الغليان حسب ما تقول الميزة الأولى للجدلية بأن كل شيء مرتبط بالآخر، ولكن درجة الغليان تظل واحدة بالنسبة لجسم معين، تحت ضغط جوي معين. ويعني هذا أن التحول الكمي ليس وهمًا بل هو حادث موضوعي مادي يتفق والقانون الطبيعي، ولهذا كان حادثا يمكن التنبؤ بوقوعه فيقوم العلم بالبحث عن التحولات الكمية الضرورية لحدوث تحول كمي معين.
ونرى الصلة بين نوعي التحول واضحة في حالة غليان الماء، وتعتبر الجدلية أن هذه الصلة بين التحول الكمي والتحول الكيفي قانون شامل في الطبيعة والمجتمع.
فالجدلية لا تدهش ولا تتولاها الحيرة من ظهور الجديد، لأن هذا الجديد ثمرة ضرورية للكثير من التغيرات الكمية الصغيرة التدريجية التي لا مغزى لها في الظاهر، وهكذا تخلق المادة بحركتها الخاصة الشيء الجديد.
خلاصة: ميزة الجدلية الثالثة أنها لا تعتبر عملية النمو مجرد عملية نماء لا تؤدي بها التحولات الكمية إلى تحولات كيفية بل على أنها عملية نمو ينتقل من التحولات الكمية الضئيلة الكامنة إلى تحولات ظاهرة أساسية هي التحولات الكيفية، وليست هذه التحولات الكيفية تدريجية بل هي تحولات سريعة مباغتة، تحدث بواسطة قفزات من حالة لأخرى، وليست هذه التحولات عارضة، بل هي ضرورية لأنها ثمرة تحولات كمية تدريجية لا نشعر بها.
الفرع الرابع: نضال الأضداد هو الدافع لكل تغير
رأينا أن الواقع متحرك، وأن هذه الحركة الشاملة ترتدي صورتين: كمية وكيفية، مرتبطة كل منهما بالأخرى ارتباطا ضروريا، ولكن لماذا توجد الحركة؟ وما الدافع للتغيير وتحول الكمية إلى كيفية والانتقال من صفة إلى صفة جديدة؟ يحمل الجواب على هذا السؤال الميزة الرابعة للجدلية، وهي قانون الجدلية الأساسي الذي يفسر لنا سبب الحركة.
فأنا أتعلم، ولا أستطيع أن أفعل إلا إذا كنت مدركا لجهلي، وأريد أن أ تغلب على هذا الجهل وأن أكسب المعرفة، فالدافع لدرسي والشرط الأساسي لتقدمي في الدرس هو النضال بين جهلي وبين رغبتي في التغلب على هذا الجهل، وهو التناقض بين إدراكي لجهلي ورغبتي في التخلص من هذا الجهل، وليس هذا النضال بين الأضداد، وهذا التناقض، بخارجين عن الدرس، فإذا كنت أتقدم في درسي فبقدر استمرار هذا التناقض، ولا شك أن كل كسب جديد يتخلل درسي هو حل لهذا التناقض (أعلم اليوم ما كنت أجهله بالأمس).
ولكن يطرأ بعد هذا الكسب تناقض جديد بين ما أعرفه وما أدرك أني أجهله، ينشأ عنه جهد جديد في الدرس وحل جديد يتبعه تقدم جديد، ومن يعتقد أنه يعرف كل شيء لن يتقدم قط لأنه لن يحاول التغلب على جهله، ومبدأ هذه الحركة التي هي الدرس، كما أن الدافع للانتقال التدريجي من معرفة ضيقة إلى معرفة أوسع، هو النضال بين الأضداد، النضال بين جهلي (من جهة) وبين إدراكي لوجوب التغلب على جهلي (من جهة ثانية).
خلاصة: ميزة الجدلية الرابعة هي القول بأن أشياء الطبيعة وظواهرها تحتوي على تناقضات داخلية، لأنها تحتوي جميعها على جانب سلبي وجانب إيجابي فلها ماض ولها مستقبل؛ وفيها جميعا عناصر تزول أو تنمو، وأن النضال بين هذه ا لأضداد، بين القديم والحديث، بين ما يموت وما يولد، بين ما يزول وما ينمو ويتطور هو المحتوي الداخلي لعملية التطور وتحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية.
الفرع الخامس: شمول التناقض
يتميز التناقض الذي هو الدافع لكل حركة بالشمول، ويفهم الفلاسفة المثاليون حين نتحدث عن "التناقض" مجرد "نضال بين الأفكار" فهم لا يمكنهم أن يتصوروا التناقض إلا بين أفكار متناقضة، وهم بذلك يفهمون من الكلمة معناها العادي ("قول العكس") غير أن تناقض الأفكار ليس سوى صورة من صور التناقض، وذلك لأن التناقض حقيقة موضوعية موجودة في العالم فإننا نجده أيضا في "الذات" أي في الإنسان الذي هو جزء من العالم.
يمكن تفسير كل تطور (طبيعي أو اجتماع ي) عن طريق التناقض، ويستمر هذا التناقض استمرار عملية التطور، وإن كان لا يظهر للعيان.
فكل اختلاف يرتكز على تناقض، والاختلاف نفسه تناقض، إذ ما كادت البرجوازية والبروليتاريا يظهران حتى ظهر معهما التناقض بين العمل ورأس المال؛ ولم يكن هذا التناقض قد بلغ درجة خطيرة آنذاك، ولو أن التناقض لم يكن موجودا منذ بداية التطور لوجب تفسير هذا التطور بتدخل قوة خارجية عجيبة. غير أن التناقضات قد تكون خارجية وهي لا تقل أهمية عن التناقضات، فالتناقض الداخلي مستمر دائم وإن نما وتطور. ولهذا لا يمكن دراسة تطور طبيعي أو اجتماعي إلا بعد نمو تناقضاته الداخلية نموا كافيا، وهكذا استحالت دراسة الرأسمالية عام 1820 بصورة علمية لأنها لم تكن بعد قد نمت في جوهرها، فلم يكن بالإمكان أدراك سوى جوانبها الجزئية، وكذلك لا يمكن دراسة النبتة الا بعد أن تكون قد تقدمت في النمو.
بعض الأمثلة الملموسة
فلننظر الآن إلى عربة تسير (أو إلى رجل يمشي)، لا يمكن للعربة الانتقال من أ إلى ب ومن ثم من ب إلى ج. إلخ. إلا شريطة أن تناضل باستمرار ضد الوضع الذي كانت تحتله سابقا، حتى إذا ما كف هذا النضال كف معه السير.
يقول المنطقيون أنه كي تؤكد ب يجب إزالة أ، ولكي تؤكد ج يجب إزالة ب وهكذا تخرج ب من النضال ضد أ؛ كما تخرج ج من النضال ضد ب. وهكذا دواليك.
وهكذا فأن ظاهرة بسيطة كالصدأ الذي يعلو الشوكة هو ثمرة نضال بين الحديد والأوكسجين، وصورة الحركة الأساسية في الطبيعة هي النضال بين الجذب والدفع، حدوث التطور والاستقرار والتحول والفناء في جميع التجمعات المادية سواء كانت التجمعات الكونية البعيدة في النجوم أو النظام الشمسي وكذلك تجمعات المواد الصلبة وقطرات الماء أو الغازات وكذلك تجمعات الجزيئات والذرات أو تجمع قلب هذه الذرات ولنمثل على ذلك بالنظام الشمسي: لا يمكن أن نفهم حركة الكواكب حول الشمس بدون نضال هذين الضدين وهما: حركة الدوران التي تنزع إلى السقوط بالكوكب على الشمس، وجمود الكوكب الذي ينزع إلى إبعاده عنه.
الفرع السادس: قانون نفي النفي
كل ما يعنيه ظهور الجديد هو نفي القديم، أي تجاوزه وليس إعدامه، فالقديم يبقى بشكل ما، ويستمر في الجديد، وهذا معنى نفي النفي، أي أن الظاهرة الجديدة تنتصر على الظاهرة القديمة مع بقاء بعض عناصرها.
في عالم الأفكار تتحول المحسوسات إلى مفاهيم، فنحن نحس أولا بالشيء ثم نحاول أن نفهمه، فيتحول إلى مفهوم مع بقاء الإحساس، ولذلك فنحن حين نعرف شيئا ما فنحن لا نعرف بنفسه بل بالتناقضات التي فيه، فهذه طبيعة الفكر الجدلي، فنحن نقول أن الوردة نبتة أو زهرة، فنحن عرفنا الوردة بشيء غير نفسها، فصنفناها في طائفة الأزهار، وهذه بداية تفكير جدلي، لأننا سوف نصل، عن طريق هذه الوردة، إلى الكون أجمع (وذلك لأننا نفهم أن كل شيء مرتبط بالآخر)، ولسوف يكتفي الفكر غير الجدلي بالقول: "الوردة هي الوردة" وهذا لا يطلعنا على شيء من طبيعة صفات الوردة.
المطلب الخامس: تقييمه
يرى أفلاطون أن الديالكتيك هو قمة العلوم وتاجها، وأنه لا يوجد علم آخر يستحق مكانة أرفع منه.
إن الشيء الجوهري في الجدل ليس تعريفه، بل هو الرسالة التي يؤديها، فالجدل لا يحتاج إلى تصنيف إلى لاهوتي وماركسي وهيجلي وغيرها فهو نظرة انقلابية إلى كل شيء، ويقول فويرباخ: الجدل ليس مونولوجا لمفكر وحيد مع نفسه بل هو حوار بين الأنا والأنت.
والجدل هو حوار بين عقلين يجب أن يكفا عن الاتفاق كساعتين معلقتين على الحائط، وأن يخلقا منافسة عقلية واختلافا.
لذلك فالجدل يكون في ظل الحرية، وهو يساهم في صحوة العقل، والقضاء على جموده، وهذه هي ميزته.
والجدل هو علم وفن معا، فلو قلنا أنه علم فقط أو فن فقط لكنا غير جدليين، وهدف الجدل هو خلق الإنسان الكامل عن طريق الوصول دائما إلى ما يسمى الفكرة الشاملة، ولذلك فهو اتجاه نحو المستقبل، وليس تحليلا جامدا أو باهتا للماضي أو الحاضر، فالجدل مكرس من أجل المستقبل لأنه يدرس التطور من أجل السيطرة عليه مستقبلا.
وقد اتهم الجدل بأنه مجرد شقشقة لفظية وأنه أدنى مرتبة من القياس، ولكن الواقع أن الجدل أكبر من ذلك، فقد احتوى المنهج الجدلي المناهج بأكملها بما فيها المنهج التجريبي، ولكنه أكثر صلاحية للبحوث النظرية منه إلى التطبيقية.