محاضرة حول المبـادئ العامـة للقانـون
موجهة لطلبة السنة الأولى
إضافة للقواعد القانونية المعروفة المتمثلة في قواعد التشريع بأنواعه والقواعد العرفية يذكر الفقه و القضاء نوعا آخر من القواعد القانونية غير المكتوبة، أي التي لم تضعها السلطات المختصة بالتشريع في الدولة، و يتعلق الأمر بما يطلق عليه الفقه والقضاء المبادئ العامة للقانون، و الملاحظ أن المادة الأولى من القانون المدني أغفلت الإشارة إليها، والمبادئ العامة للقانون إنشاء قضائي محض، و رغم ذلك يتفق الفقه و القضاء على اعتبارها قواعد قانونية ملزمة، فتكون جزءا من عناصر المشروعية.
وبالنظر لسكوت المشرع عن هذه المبادئ، وندرة الأحكام القضائية الجزائرية التي تكرسها وتستند عليها في قضائها، فإنه من اللازم تحديد مدلول هذه المبادئ(المطلب الأول) ومرتبتها الإلزامية بين مصادر القانون الأخرى طبقا لمبدأ تدرج القواعد القانونية (المطلب الثاني).
المطلب الأول
مـدلـول المبـادئ العامـة للـقانـون
تعرف المبادئ بكونها مجموعة من الوقائع العامة التي تتغير ببطء في مجموعها، ويكون لها جمود نسبي عند تطورها مع بقية الوقائع، وتقف المبادئ على حدود القانون حيث تحكمه وترشد القاضي الذي عادة ما يكون باعثا لها، فالمبادئ العامة للقانون هي قواعد غير مشرعة، يستنبطها القضاء من المقومات الأساسية للمجتمع وقواعد التنظيم القانوني في الدولة، ويقررها في أحكامه باعتبارها قواعد قانونية ملزمة، ولذلك عرفت بأنها:"مجموعة من القواعد القانونية الأساسية أو الجوهرية التي تلتزم الإدارة بمراعاتها في قراراتها الفردية وأيضا اللائحية في كل مظاهرها، وتكون لها بالتالي قوة قانونية ولكنها مع ذلك غير مكتوبة فهي لا تستند مباشرة لنص قانوني مكتوب وإنما تجد مصدرها المباشر في القضاء" وعرفها الأستاذ Delaubadère في مؤلفه عن القانون الإداري بقوله:" أن اصطلاح المبادئ العامة يطلق على عدد من المبادئ التي لا تظهر مصاغة في نصوص مكتوبة ولكن يعترف بها القضاء باعتبارها واجبة الاحترام من الإدارة وأن مخالفتها تمثل انتهاكا للمشروعية". فهو يعتبرها المصدر غير المكتوب الأكثر أهمية لقواعد المشروعية، ومن كل تلك التعريفات السابقة يمكننا استخلاص أن هذه المبادئ أنشأها القضاء، ورغم ذلك تعتبر قواعد قانونية ملزمة.
الفرع الأول
المبادئ العامة للقانون نظرية قضائية
بمعنى أن الفضل في استخلاصها وتقريرها كقواعد قانونية ملزمة يرجع لمجلس الدّولة الفرنسي من خلال أحكامه، ثمّ صارت تلك المنهجية معتمدة في قضاء عديد الدول كمجلس الدولة المصري، وفي القضاء الجزائري نجد أن مجلس الدولة قد كرسها في عديد قراراته، ومنها القرار المؤرخ في 27/07/1998الذي جاء في إحدى حيثياته: "حيث أن القاضي مثله مثل كل موظف للدولة يستفيد وجوبا بحقوق مضمونة دستوريا وأن القاضي الإداري ملزم بمراقبة احترام هذه الضمانات" وهي الحيثية التي تبين أن مجلس الدولة استند إلى مبدأ عام، وهو مبدأ المساواة وفي قرار لاحق مؤرخ في 17/01/2000 أكد مجلس الدولة هذا الاتجاه.
الفرع الثاني
المبادئ العامة للقانون نظرية مستقلة
رغم أن المبـادئ العـامة للقـانون قواعد غير مكتوبة أنشأها القضاء، إلا أنها قواعد أساسية وجوهرية، بمعنى أنها تكاد تفوق أهميتها الموضوعية أهمية القواعد المكتوبة، فهي حسب مفوض الحكومة Letourneur مبادئ كبرى، ويصفها أيضا مفـوض الحكومة Gentot في تقـريره عن حكم Dame David في 04/10/1974 بـأنها تعبر أو تعكس الأفكار المقبولة من الكافة، والتي تؤسس نظامنا القانوني، ويكفي أن نذكر أمثلة لها ليتبين مدى أهميتها واستقلاليتها كمصدر من مصادر القانون، كمبدأ المساواة أمام القانون والمساواة أمام القضاء ومبدأ احترام حقوق الدفاع ومبدأ الحقـوق المكتسـبة ومبـدأ تدرج القواعد القانونية، فالمبادئ العـامة للقـانون تمثل مجموعة قانونـية متكـاملة يكشفها ويصوغها القضاء اعتمادا على القواعد القـانونية، وأسس نظام الحكم في الدولة ونظمها المختلفة التي تتضمن الخطوط العريضة والاتجاهات العامة، بحيث تكون المبادئ القانونية العامة بمثابة تفسير من جانب القضاء للضمير العام ولإرادة المشرع .
المطلب الثاني
مرتبة المبادئ العامة للقانون ضمن سلم القواعد القانونية
لقد اختلف الفقه والقضاء حول مرتبة هذه المبادئ بين القواعد القانونية الأخرى، إذ يرى فريق منهم أن لها على وجه الخصوص قيمة القانون المكتوب أي قيمة التشريع العادي (الفرع الأول)، غير أنه بعد دستور 1958 في فرنسا، بدأ الخلاف يظهر بين الفقهاء حول القيمة القانونية للمبادئ العامة، حيث ظهر الرأي الذي يعليها إلى مرتبة القواعد الدستورية (الفرع الثاني)
الفرع الأول
المبادئ العامة للقانون لها قيمة التشريع العادي
يري الأستاذ Letourneur أن المبادئ العامة للقانون لها قيمة التشريع العادي، فتكون ملزمة لكافة السلطات على اختلاف درجاتها حتى رئيس الجمهورية، ومادامت كذلك فإنه لا يحق إلاّ للمشرع وحده مخالفتها، أماّ اللوائح فلا يجوز أن تأتي مخالفة لها لكونها أقل مرتبة منها في تدرج القواعد القانونية. وهذا الاتجاه يجد تبريره في كون فرنسا قبل دستور 1958 لم يكن متصورا منح أي نوع من الرقابة على دستورية القوانين للقضاء، وبالتالي لا يمكن منح تلك المبادئ قيمة دستورية لأن في ذلك اعتراف بنوع من الرقابة الدستورية للقضاء.
الفرع الثاني
المبادئ العامة للقانون لها قيمة القواعد الدستورية
بعد دستور 1958 في فرنسا ظهر الرأي الذي يعلي المبادئ العامة للقانون إلى مرتبة القواعد الدستورية، فتكون أعلى من التشريع الصادر من البرلمان، وهو ما أكده مجلس الدولة الفرنسي في عديد أحكامه، فمثلا إزاء قوانين التطهير الإداري التي لم تعط للموظفين حق الدفاع ولا أي ضمانات جدية، أعلن مجلس الدولة ضرورة أن تحترم إجراءات التطهير مبدأ احترام حقوق الدفاع عكس نصوص القانون، وفي قضية تمّ الطعن فيها أمام مجلس الدولة الفرنسي بدعوى تجاوز السلطة ضد قرار المكتب المكلف بمراقبة وإعلان نتائج انتخاب أعضاء المجلس الأعلى للقضاء والذي قراراته غير قابلة للطعن فيها حسب المادة08 من قانون 1947 أقر مجلس الدولة أحقية الطعن استنادا إلى المبادئ العامة للقانون، بل ذهب مجلس الدولة الفرنسي إلى الإقرار بأحقية الطعن بتجاوز السلطة في قرار إداري نص القانون صراحة على أنه غير قابل للطعن إداريا و قضائيا، لكون ذلك الطعن قائما و لو دون نص ما دام يضمن احترام الشرعية إذ جاء في إحدى قراراته.
و في نفس الاتجاه، نجد القضاء الجزائري يقضي في قراراه المؤرخ في 27 /07/1998 سالف الذكر بأن "القاضي مثله مثل كل موظف للدولة يستفيد وجوبا بحقوق مضمونة دستوريا و أن القاضي الإداري ملزم بمراقبة احترام هذه الضمانات" فمجلس الدولة استند إلى مبدأ المساواة لاستبعاد صريح نص المادة 99/02 من القانون الأساسي للقضاء القديم، إذ قبل الطعن في قراراه التأديبي بتجاوز السلطة خلافا لما نصت عليه المادة من عدم قابليته للطعن، و هو ما أكد عليه في قرار لاحق بتاريخ 17/01/2000، إذ قرر أن "الطعن من أجل تجاوز السلطة موجود حتى و لو لم يكن هناك نص و يهدف إلى ضمان احترام مبدأ القانونية طبقا للمبادئ"، فمجلس الدولة رجع إلى المبادئ القانونية العامة لاستبعاد نص المادة 99/02 من القانون الأساسي للقضاء القديم، وهو ما يكشف أن مجلس الدولة الجزائري ساير موقف مجلس الدولة الفرنسي في اعتبار المبادئ العامة للقانون مبادئ دستورية لا يجوز للمشرع مخالفتها.
ومن ثم فإن نظرية المبادئ العامة للقانون بحكم تعريفها و خصائصها هي نظرية غير مكتوبة، فتطبق حتى في غياب النص، وتستمد قوتها الملزمة من السلطة الخلاقة للقاضي الإداري، فهي تحل محل النص التشريعي الغائب، بل و تضمن تفسيرا ملائما لقواعد المشروعية للنص التشريعي المعيب، كما تضمن الوحدة والانسجام للنظام القانوني، إذ تفرض سلطانها حتى على التشريعات الصادرة عن السلطة التشريعية، بل و تعتبر هذه المبادئ وسيلة القاضي لبسط رقـابته الدستـورية على القـوانين و اللوائح ولو بصورة غير مباشرة.
خاتمة
خلاصة ما سبق أن القواعد القانونية بنوعيها المكتوبة وغير المكتوبة تتدرج فيما بينها من حيث قوتها الإلزامية إلى عدة مراتب يعلوا بعضها البعض، وذلك حسب الترتيب التالي:
- فتأتي القواعد الدستورية في قمة التدرج القانوني.
- تليها المبادئ العامة للقانون وفي مقدمتها مبادئ الشريعة الإسلامية.
- وبعدها القواعد الاتفاقية الدولية.
- وتليها القواعد التشريعية التي تأتي في مقدمتها القوانين العضوية فالأوامر التشريعية المتعلقة بقوانين المالية أو الصادرة في الظروف الاستثنائية والقواعد اللائحية الصادرة في الظروف الاستثنائية وبعدها الأوامر التشريعية في الظروف العادية.
- ثم القواعد اللائحية الصادرة في الظروف العادية.
- وبعد ذلك القواعد العرفية .
- وأخيرا تأتي قاعدة الهرم القانوني مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة.