ملخص محاضرات المنهجية القانونية
لطلبة السنة الأولى ماستر
تخصص: قانون الأعمال
السنة الجامعية: 2017-2018
إعداد: أ. بوصيدة فيصل
تمهيد: نظرية المعرفة هي أحدى أهم نظريات الفلسفة، تبحث في أصل المعرفة وكيفية الوصول إلى المعرفة وتقييم المعرفة ...إلى غير ذلك من المباحث، وقد عرفت المعرفة الإنسانية منعرجا كبيرا بظهور المنهج، أو المنهج العلمي، هذا الأخير جعل المعرفة تنتقل إلى طور آخر، فالمعرفة العلمية تختلف عن المعرفة غير العلمية، والفرق بينهما يكمن في استخدام المنهج، فالمعرفة العلمية هي معرفة مبنية على منهج، والأداة التي يستخدم فيها المنهج هي ما يسمى البحث العلمي، وهناك عدة مناهج خاصة بكل علم من العلوم، ولكن هناك مناهج تطبق في أكثر من علم، كما أن جميع المناهج تلتقي في التصور العام، لذلك يمكن أن نطلق عليها نظرية المنهجية (راجع تعريف النظرية انقر).
محور دراستنا يتمثل في معرفة أهم المناهج المطبقة في العلوم القانونية، وتتمثل أساسا في:
1- المنهج الاستدلالي:
عندما نقول الاستدلال فهذا يعني المنطق، والمنطق هو أداة لتقويم الكلام حتى لا يقع في التناقض، وهو المنطق الأرسطي، وهو كذلك يطلق على المنطق الرياضي، أي المنطق الذي يستعمل في الحساب، لذلك إجمالا الاستدلال هو البرهان بالقول أو الحساب عن طريق قواعد معروفة.
1-1- تطبيقاته في العلوم القانونية:
المنهج الاستدلالي يستخدم بقوة في العلوم القانونية وفي البحوث القانونية، ونأخذ على سبيل المثال المواضيع الآتية:
1-1-1- التكوين المنطقي للقاعدة القاعدة القانونية:
من المقرر أن القانون يتشكل من قواعد قانونية عامة ومجردة، حتى يكون التكليف بخطاب القانون عاما، ومن أجل ذلك فكل قاعدة قانونية تتكون من شقين أو قسمين:
قسم أو شق: الفرض/الفرضية/التكليف: ويتضمن وصف الحالة جاء القانون لتنظيمها في شكل (واقعة نموذجية – أو حالة واقعية أو افتراضية)؛ أو هو المركز أو الوضع المجرد الذي تعالجه القاعدة القانونية.
قسم أو شق: الجزاء/الحكم، ويتضمن حكم القانون في تلك الفرضية أو الجزاء الذي يرتبه في حالة تحقق تلك الفرضية أو التكليف، أو باختصار الجزاء المترتب على مخالفة حكم القانون؛ أو هو الحل الملائم في نظر المشرع لمواجهة الفرض عند تحققه.
أمثلة:
- المادة 40 من القانون المدني الجزائري: " كل شخص بلغ سن الرشد متمتعا بقواه العقلية، ولم يحجر عليه، يكون كامل الأهلية لمباشرة حقوقه المدنية".
الفرض: بلوغ الشخص سن الرشد (حددته الفقرة الثانية بـ 19 سنة)، دون أن يكون محجورا عليه، أو غير متمتع بقواه العقلية.
الحكم: اعتباره كامل الأهلية لمباشرة حقوقه المدنية.
- المادة 124 من القانون المدني الجزائري: " كل عمل أيا كان، يرتكبه المرء ويسبب ضررا للغير يلزم من كان سببا في حدوثه بالتعويض".
الفرض: وجود خطأ من شخص يتسبب في ضرر للغير.
الحكم: إلزام مرتكب الخطأ بالتعويض.
ملاحظة: هذا هو الحال الغالب للقواعد القانونية، وهناك بعض القواعد توجد صعوبة في تحليلها إلى هذين العنصرين، مثل القواعد الخاصة بالتعاريف والتوجيهات وغيرها، كذلك فالصياغة القانونية أحيانا تقوم بتقديم الحكم على الفرض لأغراض تتعلق بفن الصياغة واللغة القانونية.
ويترتب عما سبق، أن إعمال الظاهرة الثانية أي الشق الثاني يتطلب تحقق الظاهرة الأولى وهي الفرضية أو التكليف، أي أن هناك علاقة منطقية شرطية بين الفرض والحكم، فإذا تحقق الفرض وجب إعمال الحكم، ويكون ذلك من طرف القاضي، ويجب أن تكون القاعدة القانونية المطبقة من وضع المشرع.
إن العملية السابقة قد تتطلب عمليات أخرى استدلالية يقوم بها القاضي قبل تطبيق الحكم وتتمثل أساسا في: التفسير، والتكييف، والتسبيب. وهو ما سيأتي لاحقا.
1-1-2- المفاهيم القانونية:
يخضع بناء المفاهيم القانونية للمنطق، وهو منطق خاص، يفهمه رجال القانون، فعندما نقول الملكية مثلا، فنحن نقصد بها أمرا محددا، وهو أنها أحد أنواع الحقوق المالية، وأن الحقوق المالية تنقسم إلى قسمين: حقوق عينية وحقوق شخصية، وأن الحقوق العينية قسمان: حقوق عينية أصلية وحقوق عينية تبعية، وتتمثل الحقوق العينية الأصلية في الملكية.
فيجب دائما على طالب القانون استخدام هذا المنطق، حتى يعرف الربط بين المفاهيم، فعندما نقول: المسؤولية، فلها مفهوم محدد، وهو يأخذ صورتين: صورة واقعية وصورة قانونية، قانونيا نقصد بالمسؤولية صلاحية الشخص لتحمل تبعة سلوكه وبالتالي خضوعه لأحكام القانون وإلزاماته وجزاءاته، فنقول مسؤولية مسير الشركة عندما نبحث عن مدى صلاحية مسير الشركة لتحمل تبعات بعض الأفعال التي تنسب إليه، والصورة الواقعية نقصد بها، مدى قيام مسؤولية الشخص (الطبيعي أو المعنوي) عن فعله، ويكون ذلك بنسبة الفعل إليه من خلال الوقائع الحاصلة، فنقول: قيام مسؤولية الطبيب، أي حصول الوقائع المؤدية إلى ثبوت مسؤولية الطبيب وبالتالي خضوعه للجزاء.
فحسن النية، والرجل العادي، والآداب العامة، والاختصاص، والزنا، والموظف، وعدم الرجعية، والتقادم، والحيازة، .....، كلها مفاهيم قانونية لها مدلولات محددة، تخضع للمنطق القانوني لمعرفتها وفهمها، ويجب توخي الدقة التامة في استعمالها.
والتعريف هو أحد أدوات الاستدلال كما عرفنا في السنة الأولى، فهو يتضمن مجموع الصفات التي تكون مفهوما للشيء يميزه عما عداه، وقد اتفق المناطقة على أن للتعريف قواعد وشروطا محددة التي تعتبر معيارا لصحة التعريف، وأهمها: أن لا يكون التعريف غامضا أو مجازيا أو مختلطا وأن يكون مساويا للمعرف فلا يقرر أكثر أو أقل من المعرف، ويجب أن يذكر التعريف جوهر الشيء المعرف من حيث الجنس والفصل، وأن لا يحتوي التعريف على الشيء أو اللفظ المعرف، (الماء هو الماء)، وأن يكون التعريف إيجابيا (لا سلبيا) وأخيرا أن يكون التعريف ملائما للغرض الذي وضع من أجله.
1-1-3- التفسير القانوني:
إن التفسير هو نوع من استخدام الاستدلال القانوني، ليس في صورة القياس فقط، ولكن في كل أنواع التفسير، فالتفسير بوجه عام هو الوصول إلى معنى القانون من خلال نصوصه، أو هو بيان المقصود بالنص، ويكون بهدف إيضاح ما غمض من ألفاظ التشريع، والتوفيق بين أحكامه، وتكميل النقص الموجود فيه.
وعليه فالتفسير هو أول عملية بسيطة يقوم بها القاضي من خلال البحث عن القاعدة القانونية واجبة التطبيق، وتحديد مضمونها، ومعرفة ما تتضمنه من شروط، ومدى تحقق الفرض الموجود فيها، وهذه العملية هي عملية معقدة تخضع لتكوين القاضي، ولمعرفته باللغة، واطلاعه على القوانين، ومعرفته بقواعد التفسير بصفة عامة.
والتفسير قد يكون شكليا لفظيا يتجه إلى تحليل ألفاظ النص، ومعرفة مدلول كل لفظ، وهو المعنى الاصطلاحي للفظ وليس مدلوله اللغوي، وإعمالا للمنطق القانوني والاستدلال فلا يجوز للقاضي أن يترك المعنى الظاهر من النص لأمر آخر رآه (تحقيق العدالة مثلا)، وإلا صار مشرعا، وقد يكون التفسير موضوعيا أي بالاستناد إلى حكمة التشريع أو المصادر التاريخية أو الأعمال التحضيرية...الخ.
فالتفسير إذن هو بيان المراد بالنصوص التشريعية، فهو الاستدلال على الحكم القانوني من نصوص التشريع، ويتم الاستعانة فيه بقواعد المنطق السليم، من خلال الأخذ بمفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة، كما يكون التفسير غائيا أي بالنظر إلى فحوى النص في مجموعه وفي مضمونه الكلي وفي غايته النهائية التي رمى إليها المشرع، وهو ما جاءت به المادة الأولى من القانون المدني الجزائري: "في لفظه أو فحواه".
والقياس هو أحد طرق التفسير، وله قواعد محددة، وهي قواعد استدلالية، ويجب التقيد بنصوص القانون فيما يخص القياس، إذ أن القانون الجنائي لا زال يرفض ويستبعد القياس في تفسير نصوصه، وهذا نظرا لأخذه بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات كما هو معروف.
وجدير بالذكر أن بعض فقهاء القانون فسروا الإحالة في المادة الأولى من القانون المدني الجزائري إلى قواعد القانون الطبيعي وقواعد العدالة بأنه إحالة إلى القياس، على أساس أنه من المبادئ العامة في الاستنباط.
وعلى سبيل المثال، فمن المقرر بالنسبة للأعمال التجارية بحسب الموضوع هو جواز القياس عليها، عكس الأعمال التجارية بحسب الشكل. وهناك عدة أمثلة لذلك، وقد نص المشرع المصري صراحة على مبدأ القياس في الأعمال التجارية بحسب الموضوع.
ومعنى القياس هنا أي يقوم القاضي بإدراج الواقعة المادية المعروضة أمامه تحت النموذج القانوني المحدد سلفا في التشريع ولو لم يكن ذلك النموذج خاصا بتلك الواقعة وإنما بواقعة أخرى مشابهة لها.
وفيما يلي نبذة قصيرة عن أنواع القياس وشرحها:
أ- القياس العادي: هو استنباط المعنى من النص حتى ولو لم يشر إليه صراحة، فهو يفترض وجود واقعتين، واقعة منصوص على حكمها، وواقعة غير منصوص على حكمها، ولكنها متفقة مع الواقعة الأولى تماما فتأخذ حكمها.
ب- القياس من باب أولى (القياس الجلي): هذا النوع من القياس يقوم على مبدأ اللزوم المنطقي، فبمقتضاه يكون الحكم منطبقا إذا كانت العلة في الواقعة غير المنصوص على حكمها أوضح وأجلى من الواقعة المنصوص على حكمها.
ج- الاستنتاج من مفهوم المخالفة: يقصد به إعطاء حالة غير منصوص عليها عكس حكم الحالة المنصوص عليها، إما لاختلاف العلة في الحالتين، أو لأن اقتصار النص على الحالة المذكورة يفيد تخصيصها ونفي الحكم عما عداها.
1-1-4- عملية التكييف:
التكييف هو اختيار الوصف المناسب للواقعة من بين كل الأوصاف المحتملة التي تتيحها نصوص وفروع القانون. وهو جزء لا يتجزأ من العمل القضائي، وذلك عن طريق تطبيق النصوص تطبيقا صحيحا على الوقائع القانونية.
فيجب على القاضي أن يستعين بالمنطق القانوني للقيام بعملية التكييف، فالتكييف هو استدلال فكري يمارس بواسطة القاضي.
والتكييف مهم في كل فروع القانون، للتمييز بين مفهوم قانوني وآخر، فحتى يميز القاضي بين واقعة النصب وخيانة الأمة والسرقة هناك عناصر محددة في كل جريمة يقوم القاضي بتحليلها ومعرفة الفرق بين كل واحدة والأخرى حتى يختار الوصف المناسب، وإذا كانت هناك بعض المواضع واضحة لا لبس فيها فهناك مسائل عويصة تحتاج للتدخل بالتحليل والمقارنة لاكتشاف التكييف السليم.
وفي القانون الدولي الخاص مثلا نجد أن المشرع طلب من القاضي أن يقوم بتكييف الوقائع التي أمامه وفق قانون القاضي أولا حتى يعرف قاعدة الإسناد المناسبة للنزاع والتي لا يمكن معرفتها إلا بعد التكييف.
وفي القضايا الجزائية عموما يكون التكييف منذ بداية التحقيق الأولي بواسطة الضبطية القضائية التي تعطي وصفا معينا للوقائع حتى تبرر اللجوء إلى التحريات الجنائية ولكن التكييف النهائي تقوم به المحكمة.
وفي سائر القضايا يشارك الأطراف والخصوم في عملية التكييف عن طريق الطلبات التي يتقدمون بها والتي تساهم في معرفة الوصف القانوني الصحيح.
فالتكييف هو النتيجة المنطقية لمختلف العمليات التي قام بها القاضي من خلال تفحص النصوص القانونية وأوراق الدعوى وعملية التفسير وعملية المطابقة بين الوقائع والنصوص وصولا إلى إسباغ الوصف القانوني السليم.
1-1-5- التسبيب القضائي:
أخيرا فإن القاضي لا يكتفي بعملية التفسير وعملية التكييف وعملية المطابقة بين النص والواقعة بشكل سليم وإنما عليه أن يفرغ عملية الاستدلال التي قام بها في ذهنه والتي قام بواسطتها بالربط بين مفاهيم القانون وبين الوقائع الجارية على بساط المنازعة، يفرغها في عملية تسمى عملية التسبيب، أي ذكر الأسباب التي أدت إلى النتيجة وهي الحكم، أي ذكر ملخص لعملية الاستدلال والاستنتاج التي تمت في مرحلة سابقة في شكل:
مقدمة كبرى: تتمثل في نص القانون أو النصوص التي طبقها القاضي واستند إليها في حكمه (النص الذي يعاقب على جريمة السرقة)
مقدمة صغرى: تتمثل في الوقائع النزاعية بعد إثباتها وتكييفها بالشكل الصحيح (ثبوت فعل السرقة كما حدده القانون على شخص معين).
النتيجة: وهي دائما اعتبار أن النص صالح للتطبيق على تلك الواقعة المحددة (تطبيق العقوبة المنصوص عليها في القانون لجريمة السرقة).
من خلال ذلك فإن التسبيب هو عملية استدلال، وتتمثل في إيراد الحجج الواقعية والقانونية التي يبنى عليها الحكم والمنتجة له، أو هو الأسانيد العقلية والقانونية التي أقيم عليها القضاء والحكم.
وهذه العملية في نطاق القانون الجنائي تتم بعد عملية المطابقة، وهي مطابقة النموذج الإجرامي الوارد في النص مع الواقعة الإجرامية التي حصلت في الواقع.
إن التسبيب قد يتسم بالقصور أو التناقض أو النقص أو عدم وجوده أصلا وهي كلها أسباب لنقض الأحكام التي تصدر من القضاة بواسطة المحكمة العليا التي تراقب عملية التسبيب.
فيخضع التسبيب لمجموعة من الضوابط، وهي: سرد الوقائع سردا صحيحا، استخلاص الصحيح منها والذي له وصف قانوني، تقدير تلك الوقائع وإعطاؤها الوصف الصحيح والتكييف السليم، ثم إرساء القاعدة القانونية مع آثارها عليها، وأخيرا اتساق منطوق الحكم مع أسبابه.
فالتزام القاضي بالتسبيب الهدف منه هو الوصول إلى المنطق الذي تبناه القاضي نحو الوقائع، ومدى صحة عملية الاستدلال التي قام بها.
وعلى ذلك فيكون الاستدلال خاطئا مثلا إذا:
- اسنتد القاضي إلى ما لا يصلح مصدرا للاستنباط، كالاعتماد على دليل لا يقبله القانون، أو إجراء لا يقبله القانون.
- استند إلى وقائع متناقضة دون إزالة غموضها.
- أقر نتيجة لا تلزم عن المقدمات، أي عدم اللزوم المنطقي، كأن يقرر عقوبة لم يقررها القانون لجريمة ما.
- استدل استدلالا ظنيا أو غير يقيني، كأن يحكم بالشك والظن وبلا وجود أي دليل أو أدلة.
وأخيرا فإن التسبيب في نطاق القانون الجنائي له خصائصه التي تميزه بالنظر إلى أسباب عديدة ترجع إلى ذاتية هذا القانون واستقلاليته.