لقد جاء الأمر الجنائي لسنة1670 كإصلاح عميق للنظام الإجرائي الجزائي الفرنسي، وكان بمثابة ثورة على أمر آخر هو أمر سنة 1537 الذي كان ترجمة سيئة للأعراف التي كانت سائدة في العصر الوسيط، إلا أن أمر سنة 1670 تعرض أيضا لانتقادات لاذعة من طرف فلاسفة التنوير: مونتسكيو وفولتير وبكاريا.
فمنذ صدور كتاب مونتسكيو "روح القوانين" سنة 1748، إلى غاية سنة 1788 تاريخ صدور الأمر الملكي الذي أدخل إصلاحات عميقة على النظام الجنائي، طلق الرأي العام بسرعة كبيرة الفلسفة الجنائية التي قام عليها الأمر الجنائي لسنة 1670، حيث بدأ يتعلق بمبادئ جديدة جاء بها ودعا إليها فلاسفة التنوير على غرار مونتسكيو وبكاريا وفولتير.
تعرضت تلك الانتقادات ليس للقانون الإجرائي فحسب، بل للقانون الجنائي ككل، حيث طالبت بمراجعة عميقة ومستعجلة للقانون الجنائي ضد تحكم القضاة، وقسوة العقوبات، فالقانون الجنائي كان يرتكز على مبدأين أساسيين هما: المسؤولية التامة للمجرم الذي يرتكب فعلا مجرما بكل وعي وإدراك، وأن القانون باسم التفويض الإلهي يعاقب على خرق القوانين المدنية منها والدينية، وهي نزعة ملكية للقانون الجنائي ترمي إلى إقامة عدالة إصلاحية لا تهدف إلا إلى العقاب، أو بعبارة أخرى استغلال الدين لحماية القوانين، وبهذه الصورة كانت الجرائم الدينية تلقى أقسى العقوبات، كالعرافة، وتدنيس المقدسات، وسرقة الأشياء المقدسة التي تؤدي إلى قطع اليد، والحرق بالنار، ومصادرة الممتلكات؛ المشاركة في حفلة دينية تؤدي إلى عقاب الأسقف بالأشغال الشاقة؛ الشتيمة، الزندقة، السحر، وعبادة الأوثان تؤدي إلى عقوبة الحرق بالنار، والسحرة الذين يقومون بتدنيس المقدسات يتعرضون لعقوبة الموت.
في هذا الوقت تعرض كل من مونتسكيو وفولتير لأمر 1670 بالنقد اللاذع، بخصوص العقوبات، وخاصة عقوبة الإعدام، وكذا حمق وتحكم القضاة، بينما كان كثير من فقهاء القانون يقدسون هذا القانون، وفي سنة 1764 بمدينة ليفورن Livourne الإيطالية حدث نجاح باهر لكتيب صغير يحمل مؤلفه اسم سيزار بونيسانا ماركيز دي بكارياCesare Bonesana, marquis de Beccaria، وكان عمره آنذاك 26 سنة، وعنوان كتابه: في الجرائم والعقوبات Dei delitti e delle pene، وكان مطعما كلية بأفكار مونتسكيو وفولتير وغيرهما من فلاسفة التنوير.
طرح بكاريا في كتابه خلاصة الأفكار التي قام عليها القانون الجنائي فيما بعد، والتي تتلخص في:
- أن منع تحكم القضاة يكون بتحديد الجرائم والعقوبات مسبقا عن طريق القانون فيما سمي بمبدأ الشرعية أو قانونية الجرائم والعقوبات، وأنه قبل النظر إلى وعي الشخص وإدراكه للجريمة يجب أن يتم تحديد ما هو جريمة أولا.
- أن العقوبة ينبغي أن تكون إنسانية أولا، وأن يكون هناك تناسب بين الجريمة والعقوبة une proportion entre les délits et les peines ثانيا.
- أن المعيار الوحيد للجريمة هو الضرر الاجتماعي الذي تحدثه، وليس وعي الجاني أو الأعراف التي تحرم بعض الأفعال، فالحكم بالخيرية والشرية يعود إلى الله وليس إلى البشر.
- أن وظيفة العقوبة هي الردع العام والخاص، أي ردع الجاني أولا عن إعادة ارتكاب الجريمة، وردع الآخرين عن ارتكابها حتى لا يلقون نفس مصيره، وأن تكون أقل قسوة على جسد الإنسان.
- أن أدلة الإثبات المقدمة يجب أن تخلق اليقين لدى القاضي، ولهذا فإن نظام المحلفين هو الأنسب في إصدار الأحكام لاستبعاد الأدلة التافهة والقرائن، وأن الأحكام يجب أن ينطق بها علنيا.
- أن التعذيب مرفوض تماما لأنه لا يحق المساس بشخص لم تثبت بعد إدانته، وأن الحبس الاحتياطي أيضا يجب أن تقلص مدته إلى أقل حد ممكن.
- يرفض بكاريا عقوبة الإعدام، ويعتبرها حربا من الأمة ضد مواطن une guerre de la nation contre un citoyen ، أو اغتيالا عموميا un assassinat public، ومخالفة للعقد الاجتماعي، ليس لأنه لا يحق لإنسان أن يقتل نظيره، ولكن من حيث المنفعة الاجتماعية إذ تعتبر العقوبة الأقل منفعة.
- أما على الصعيد الإجرائي فيرى بكاريا أنه لا ينبغي الإسراع كثيرا في إيقاع القصاص، بل لا بد من إعطاء فرصة كافية للمتهم لتحضير دفاعه، ولدفع الألم عن المتهم الذي لا يعرف مصيره.
- أخيرا، أن العقوبة التي ينطق بها وحتى لا تكون بمثابة عنف يمارسه قاض أو عدد من القضاة ضد متهم ينبغي أن ينطق بها علنيا، بسرعة، وأن تكون ضرورية وأقل قسوة قدر الإمكان.
وقد قرأ فولتير نفسه كتاب بكاريا، وأعجب به، وقال عن صاحبه أنه:"فيلسوف وأخ"، واعتبره عملا من أجل الإنسانية، كما أنه أصدر كتابا في التعليق على كتاب بكاريا من ثلاث وعشرين فصلا، وأشاد بفكرة إلغاء عقوبة الإعدام لصالح العمل للنفع العام، بدلا من دفع الأجر للجلاد من أجل أن يقتل الناس في العلن.
Il est évident que vingt voleurs vigoureux, condamnés à travailler aux ouvrages publics toute leur vie, servent l’État par leur supplice, et que leur mort ne fait de bien qu’au bourreau, que l’on paie pour tuer les hommes en public.
بالنسبة لمونتسكيو هو يعتبر أب الفلسفة السياسية وإن لم يعتبر فيلسوفا بمعنى الكلمة، ولذلك فقد اهتم أيضا بالعلاقة بين الحرية والقوانين الجنائية، وتقوم فلسفته على فكرة النفعية، فهو يعتبر المجرم لدى إقباله على الجريمة يفكر بطريقة نفعية، ويفضل منفعته على منفعة الآخرين، وأنه لا يوجد شخص يمارس شريريته بطريقة مجانية، وأن يفعل ذلك لسبب، وهذا السبب ليس سوى المنفعة.