مقدمة:
يتولى الدستور تنظيم الحريات، وهو يقوم بذلك غالبا بالإحالة إلى القوانين التي تضع القيود القانونية المناسبة لتنظيم الحرية، فجاء في المادة 41 من الدستور الجزائري: "يعاقب القانون على المخالفات المرتكَبة ضدّ الحقوق والحرّيّات، وعلى كلّ ما يمسّ سلامة الإنسان البدنيّة والمعنويّة"، وهو ما تولى تفصيله قانون العقوبات، وجاءت المادة 59/1 من الدستور لتنص على القاعدة العامة بالنسبة للإجراءات الجزائية، وهي أنه: "لا يُتابع أحد، ولا يُوقف أو يُحتجز، إلا ضمن الشروط المحدّدة بالقانون، وطبقا للأشكال الّتي نصّ عليها.".
كما جاءت مواد أخرى في الدستور لتقرر القواعد العامة في حماية الحرية الشخصية، لاسيما ما يتعلق بمبدأ الشرعية الجنائية (المادة 58)، وما يتعلق بقرينة البراءة (المادة 56).
إن مفهوم الحرية الشخصية هو مدخل أساسي لفهم هذه الضمانة (المطلب الأول)، وهو يستند إلى ضمانة أساسية تتمثل في مبدأ الشرعية الجنائية بفروعه (المطلب الثاني)، كما يستند إلى مبدأ قرينة البراءة (المطلب الثالث).
المطلب الأول
تحديد مفهوم الحرية الشخصية
يتنازع مفهوم الحرية الشخصية نظريتان أساسيتان: الأولى متطرفة، ويرى أنصارها أن الحرية هي عمل الشخص لكل ما يريده وما يبتغيه دون قيود، وترى في القيود التي يضعها المجتمع أو الدولة لحفظ كيانه بمثابة أعمال غير مشروعة، وبمثابة عدوان، والنظرية الثانية معتدلة، ويحدد أنصارها مفهوم الحرية الشخصية من خلال وجود الدولة والسلطة، فلا ينكرون الدولة والسلطة، ولا ينكرون الحرية الشخصية، لأن إنكار السلطة يعني الفوضى، وأن إنكار الحرية يعني الاستبداد، ولذلك فالحرية من وجهة نظرهم لا تتعارض مع القانون، كما أن هناك تقابلا في الضمانات، فالدولة لا تستغني عن الفرد، والفرد عند ممارسته لحقوقه يتعين أن يتقيد بالحدود القانونية بالشكل الذي لا يضر به الآخرين.
وقد تبنى رجال الثورة الفرنسية المفهوم المعتدل للحرية، حيث جاء في المادة الرابعة من إعلان حقوق الإنسان والموطن لسنة 1789 بأن "الحرية هي مكنة أن يعمل الفرد كل ما لا يضر بالآخرين، وكذا ممارسة كافة حقوقه الطبيعية في الحدود التي يمكن باقي أفراد الأسرة الاجتماعية من التمتع بنفس تلك الحقوق، تلك الحدود التي لا يمكن تحديدها إلى بواسطة القانون".
Art. 4 : La liberté consiste à pouvoir faire tout ce qui ne nuit pas à autrui: ainsi, l'exercice des droits naturels de chaque homme n'a de bornes que celles qui assurent aux autres Membres de la Société la jouissance de ces mêmes droits. Ces bornes ne peuvent être déterminées que par la Loi.
معنى ذلك أن الحرية هي مفهوم فلسفي يتمظهر بمظهر قانوني، يضع الحدود للسلطات العامة فيما يخص ما يمكنها أن تمس به، وقد تطور الأمر لتصبح الحرية الشخصية بمثابة محل لكثير من الضمانات الإجرائية الجزائية، تتمثل أساسا في: عدم جواز القبض على الأشخاص، وعدم اتخاذ أي إجراء يمس حرمة مسكنه، أو حياته الخاصة، وعدم جواز توقيع أية عقوبة تحكمية أو تعسفية، كل ذلك ما عدا الحالات التي يرسمها القانون.
إن قانون الإجراءات الجزائية كقانون للعدالة الجنائية عن طريق الدعوى العمومية يسعى للتوفيق بين مصلحتين متعارضتين ظاهرا، وهما مصلحة المجتمع في البحث عن الجرائم ومعاقبة مرتكبيها، ومصلحة المتهم في إثبات براءته والدفاع عنها وفي حفظ حريته الشخصية في أثناء ذلك، وهي مصلحة عامة أيضا مثل المصلحة الأولى، لأنها مصلحة كل واحد من أفراد المجتمع في أن تضمن وتحمى حريته عن طريق القانون.
المطلب الثاني
مبدأ الشرعية ودوره في حماية الحرية الشخصية
يهدف مبدأ الشرعية من خلال القانون إلى حماية الفرد ضد تحكم السلطة، وضمان تمتعه بالكرامة الإنسانية، ويختلف تطبيق هذا المبدأ من دولة إلى أخرى بحسب اختلاف النظام السياسي والاقتصادي، كما يختلف تطبيقه بحسب مدى احترام القانون (دولة القانون) ، ذلك أن الدولة القانونية هي التي يتوافر لكل مواطن في كنفها الضمانة الأولية لحماية حقوقه وحرياته، فالشرعية واحدة، الشرعية الدستورية والشرعية القانونية والشرعية الجنائية كلها ترجع إلى فكرة سيادة القانون.
وللشرعية الجنائية ثلاث صور:
الصورة الأولى: الشرعية الموضوعية:
ويعبر عنها بمبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وهي القاعدة الشهيرة التي هي ترجمة للتعبير اللاتيني Nullum crimen Nulla poena sine lege ، وتعني أنه لا يمكن توجيه أي اتهام ضد شخص لارتكابه فعلا معينا ما لم يكن منصوصا على تجريم هذا الفعل في القانون الموضوعي، أي قانون العقوبات بالمعنى الواسع، كما لا يمكن تطبيق عقوبة ما لم تكن محددة سلفا.
وأساس هذه القاعدة يرجع إلى فكرة الفصل بين السلطات التي نادى بها مونتسكيو، فالسلطة التشريعية هي صاحبة الاختصاص الأصلي في إصدار التشريع أي القوانين المختلفة، والقاضي لا ينشئ القانون بل يطبقه، بينما الشق الثاني المتعلق بالعقوبة فيجد أساسه في فكرة العدالة، فإن العقوبة إذا لم تكن محددة سلفا فإنها تكون عقوبة تحكمية استئصالية انتقامية.
من جهة أخرى، ونظرا لمساس القانون الجنائي بصفة عامة بمسألة حقوق وحريات الأفراد فالمشرع وحده من يختص بهذا المساس، باعتبار أن القيم والمصالح التي يحميها قانون العقوبات لا يمكن تحديدها إلا بواسطة ممثلي الشعب.
إن الشرعية الجنائية ترتكز على القاعدة الجنائية التجريمية، هذه الأخيرة وفقا لمبدأ الشرعية لها وظيفة جوهرية، وهي تحديد الأفعال المجرمة على وجه واضح، وأن كل لبس أو غموض في هذه القواعد يثير الشك في تفسيرها مما يؤدي إلى خلق جرائم أو تطبيق عقوبات غير ما يهدف إليه المشرع، فيجب أن يكون وصف الجريمة دقيقا، هذا الوصف يعبر عنه بالنموذج أو الشكل القانوني للجريمة أو الواقعة النموذجية.
حينئذ فالشرعية الجنائية الموضوعية تعني أن المشرع هو السلطة المختصة بخلق الجرائم عن طريق تحديد النموذج القانوني المجرد لكل منها في الشق الأول من القاعدة الجنائية وهو شق التجريم.
والنصوص التشريعية هي تلك التي تصدر من البرلمان، أما ما يسنده الدستور من صلاحيات لغير البرلمان في إصدار القواعد التشريعية فهو متحفظ على كونه قوانين تشريعية بالمفهوم المتعارف عليه، فإذا تضمنت تلك القواعد نصوصا تجريمية كانت هي في حد ذاتها غير شرعية، غير أن القضاء يلتزم بتطبيقها رغم ذلك طالما أنها قد صدرت ولم يعلن عدم دستوريتها.
وبالفعل، فالقاعدة التي تقتضي أنه لا جريمة ولا عقوبة ولا تدبير أمن بغير قانون لم تمنع صدور مراسيم تنظيمية تتضمن عقوبات جزائية، مثل: المرسوم رقم 63-85 المؤرخ في 16 مارس 1693 المتعلق بتنظيم حيازة الأسلحة والذخيرة، والذي يقضي في المادة 7 منه على عقوبة الحبس والغرامة لكل شخص يخالف أحكام هذا التنظيم، كما أن ظاهرة التفويض التشريعي قد أدت إلى صدور كثير من المراسيم التنظيمية التي تجرم الأفعال، وهذا يرجع إلى انحسار مبدأ الشرعية الشكلية الضيقة التي عرقلت تقدم القانون الجنائي، وظهور شرعية مرنة تسمح بمثل هذه الأمور التي كانت في ظل الشرعية الشكلية أمرا غير مقبول.
ومبدأ الشرعية الموضوعية يشمل الجنايات والجنح دون المخالفات التي يمكن سنها عن طريق التشريع الفرعي، حيث جاء نص المادة 140 من الدستور الجزائري المعدلة في 6 مارس 2016 في بندها السابع ليقصر قواعد قانون العقوبات التي يختص بسنها البرلمان في الجنايات والجنح، وسكت عن المخالفات ليجعل سنها عن طريق التنظيم جائزا[1].
وإذا كان الفقه والقضاء على وفاق في مسألة أن النصوص التنظيمية التي تصدر بناء على تنازل من السلطة التشريعية بإمكانها إصدار النصوص العقابية في حدود التفويض، وأن على هذه الأخيرة ألا تتنازل إلا بقدر محدود عن سلطتها الأصلية في إصدار التشريعات الجنائية، فإنه أيضا لا يختلف في مسألة أن العرف أو القانون الطبيعي أو قواعد العدالة لا تعتبر بأي حال من الأحوال مصدرا للتجريم.
وبالجملة، وحتى يحقق مبدأ الشرعية الجنائية الموضوعية النتائج المرجوة في حماية الحرية الشخصية فينبغي تحقق مجموعة من النتائج اللازمة لهذا المبدأ، والتي تتلخص في:
- وجوب أن تكون النصوص القانونية العقابية واضحة ودقيقة[وهذا أحد أهم العقبات والانتقادات التي وجهت إلى مبدأ الشرعية الجنائية على اعتبار أن هذه المهمة ليست بالهينة، فحصر السلوكات المضرة وصياغتها في شكل قوالب تجريمية من خلال نصوص دقيقة لن يفلت من نقائص وثغرات ينفذ منها تحكم القضاة في التفسير]، وبالتالي امتناع أن تكون غامضة أو مرنة تفتح المجال للتفسير، وهذا التزام يقع على عاتق المشرع بموجب الدستور الذي نص على مبدأ الشرعية الجنائية، فإذا خالف المشرع ذلك فالوزر عليه وليس على القاضي.
- وبالتبعية للنتيجة السابقة فإن التفسير الواسع ممنوع، ويجب التزام التفسير الضيق للنص الجنائي، وهو المبني على ألفاظ النص، أو التفسير الكاشف déclarative، خشية أن يقع القاضي في خلق جرائم جديدة أو عقوبات لم ينص عليها القانون، إو إباحة أفعال جرمها القانون، "فمن المقرر أن الأصل هو وجوب التحرز في تفسير القوانين الجنائية والتزام جانب الدقة في ذلك وعدم تحميل عباراتها فوق ما تحتمل".
- ويترتب على ذلك أن القياس محظور، إلا في حالة نصوص الإباحة[جاء في قرار لمحكمة النقض المصرية بتاريخ: 18/3/2007، الطعن رقم 24368 لسنة 67 ق، ما يلي:" كما أنه من المقرر أن القياس في أسباب الإباحة أمر يقره القانون"،]، وليس في الأعذار القانونية[انظر: نقض جنائي مصري بتاريخ: 0/03/1997، الطعن رقم 24855 لسنة 64 ق، ومما جاء فيه:" ومن ثم يكون قتل المتهم لزوجته لم يكن حال تلبسها بالجريمة المنصوص عليها في المادة 237 عقوبات ناهيك عن أن هذا الظرف يكون غير متوافر أيضاً في حالة الزوج الذي يقتل زوجته هي ومن يزنى بها بعد ترصده لهما، إذ لا يعد معذوراً في حالة حصول الترصد، بعد تيقن الزوج من خيانة زوجته تيقناً لا ريب فيه، لأن الدافع للفعل في هذه الحالة هو التشفي. ولما كان ذلك، فإن ما أثاره الدفاع في هذا الخصوص بشأن توافر عذر الاستفزاز عملاً بنص المادة 237 من قانون العقوبات في حق الزوج يكون على غير سند من القانون جرى برفضه. لما كان ذلك، وكان مفاد ما أورده الحكم فيما سلف أن الطاعن لم يكن قد فاجأ زوجته متلبسة بجريمة الزنا ولم يكن قتله لها حال تلبسها بالجريمة المذكورة فإذا ما كان الحكم قد اطرح ما دفع به الطاعن من تمسكه بإعمال المادة 237 من قانون العقوبات فإنه يكون قد التزم صحيح القانون ويكون النعي عليه في هذا الخصوص غير قويم لما هو مقرر من أن الأعذار القانونية استثناء لا يقاس عليه وعذر الزوج في قتل زوجته مفاجأة الزوجة متلبسة بالزنا"]، ولا في الإعفاء من العقوبة، فلا إعفاء بدون نص، والقاعدة في ذلك أنه "إذا جاء النص العقابي ناقصاً أو غامضاً فينبغي أن يفسر بتوسع لمصلحة المتهم وبتضييق ضد مصلحته، وأنه لا يجوز أن يؤخذ في قانون العقوبات بطريق القياس ضد مصلحة المتهم لما هو مقرر من أنه لا جريمة ولا عقوبة بغير نص".
- أن القانون الجنائي لا يسري بأثر رجعي، إنما يسري على الوقائع التي تحدث بعد صدور النص التجريمي.
- أن القانون الأصلح هو الذي يسري على المتهم الذي تتم محاكمته عن أفعال حدثت في ظل قانون قديم، وفق معايير موضوعية لا شخصية في تقدير القانون الأصلح، تحت رقابة المحكمة العليا، وتطبيقا للمادة 2 ق.ع.ج.
- أن الشك ينبغي أن يفسر لمصلحة المتهم[نقض جنائي مصري بتاريخ: 06/02/1994، الطعن رقم 22227 لسنة 61 ق، ومما جاء فيه: "من المقرر من أنه لا عقوبة إلا بنص يعرف الفعل المعاقب عليه ويبين العقوبة الموضوعة له مما مقتضاه عدم التوسع في تفسير نصوص القانون الجنائي وعدم الأخذ فيه بنظرية القياس والأخذ - في حالة الشك - بالتفسير الأصلح للمتهم"]، وذلك أخذا بمبدأ البراءة الأصلية.
الصورة الثانية: الشرعية الإجرائية:
إن الحلقة الأولى للشرعية الجنائية والتي هي الشرعية الإجرائية لا تكفي لحماية الحرية الشخصية، عند القبض على الإنسان أو حبسه مثلا، حيث تتخذ إجراءات كثيرة لازمة لتتبع الجريمة والتحقيق فيها، وهي إجراءات لها مساس مباشر بحقوق الإنسان، ولذلك كانت الحلقة الثانية لمبدأ الشرعية، وهي الشرعية الإجرائية، ضرورية جدا للمحافظة على حقوق الإنسان واحترام حريته الشخصية.
ويترتب على الشرعية في المجال الإجرائي نتيجتان هامتان متصلتان اتصالا وثيقا، وهما: أن لا حكم بغير دعوى، ولا عقوبة بغير حكم.
فيترتب على النقطة الأولى أنه لا بد من تحديد كيفية انعقاد الاختصاص للقضاء حتى تكون له الولاية بنظر الجرائم المختلفة تحديدا دقيقا، حيث يتسنى نظر الدعوى العمومية المقامة ضد أي متهم من طرف قاضيه الطبيعي.
ويترتب على النقطة الثانية ما يطلق عليه قضائية الجزاء الجنائي، وأنه لا يصدر الجزاء الجنائي إلا من طرف قاض مختص، بعد اتباع الإجراءات التي ينص عليها القانون، بكل ما يخوله القانون لذلك القاضي من سلطة في تفريد العقاب، فالشرعية الإجرائية لا تعني إنكار السلطة التقديرية للهيئات المنوط بها اتخاذ الإجراءات الجزائية، طالما أن الهدف من الإجراءات هو البحث عن الحقيقة، بكل ما يتطلبه ذلك من مرونة في الأساليب المفضية إلى ذلك.
أما النتائج التفصيلية المترتبة على الشرعية الإجرائية فتتلخص في ثلاث نقاط:
- أن لا إجراء إلا بنص، فيترتب على ذلك أن القانون هو من يحدد الإجراءات الجزائية، على اعتبار أن هذه الإجراءات ذات صلة وثيقة بالحرية الشخصية، هذه الأخيرة التي يمكن المساس بها إلا في إطار القانون.
- سيطرة قرينة البراءة على مختلف مراحل الخصومة الجزائية، أي معاملة المتهم مهما بلغت جسامة الجريمة المنسوبة إليه بوصفه بريئا، حتى تثبت إدانته بحكم قضائي نهائي.
- عملية الضمان القضائي، ويقصد بها أن أي مساس بالحرية الشخصية يجب أن يكون تحت إشراف قضائي، فالقضاء هو الحارس والحامي الطبيعي للحريات، بكل ما يرتبه ذلك من احترام حقوق الدفاع وكافة ضمانات المحاكمة العادلة، وتوفير رقابة قضائية على سير التحقيق، ولا يقبل أن يتم تحديد جهة غير القضاء يتم أمامها التقاضي والمطالبة بالحقوق[إن أغلبية التيارات الفلسفية تعتبر أنه لا يوجد مجتمع صالح دون قضاء أو عدالة، لأن القضاء هو شرط للانسجام بين البشر، ونجد أن أرسطو هو أول من فرق بين العدالة الإصلاحية والتي ترتكز على المساواة (كل شخص له الحق أن يأخذ بالقدر الذي يعطي chacun doit percevoir l’équivalent de ce qu’il a donné) والعدالة التوزيعية التي ترتكز على النسبية (كل شخص له الحق أن يأخذ بقدر استحقاقه وجدارته chacun doit recevoir selon son mérite)].
الصورة الثالثة: شرعية التنفيذ العقابي:
وهي القواعد القانونية التي تحدد مبادئ وإجراءات تنفيذ العقوبات، حماية لحقوق المحكوم عليه، حيث أن القوانين تختلف من حيث الموضع الذي ترد فيه الأحكام القانونية الخاصة بتنفيذ العقوبات، فقد ترد في قانون الإجراءات الجنائية ذاته، أو في قانون العقوبات، أو في قانون مستقل، أو في قانون يخص تنظيم السجون، وهو الحال في الجزائر، بالإضافة إلى بعض المواثيق الدولية، حيث صدرت عن الأمم المتحدة قواعد الحد الأدنى لمعاملة المسجونين.
فالتنفيذ العقابي أصبح محكوما بنصوص قانونية، وليس هذا فحسب، فبعض المبادئ العقابية ترتقي إلى مرتبة القواعد الدستورية.
المطلب الثالث
قرينة البراءة كإطار عام لحماية الحرية الشخصية
يعتبر مبدأ قرينة البراءة بمثابة ضمانة عامة للحرية الشخصية، فهو أساسا تأكيد لأصل عام هو حرية المتهم، ومقتضاه أن كل متهم بجريمة مهما بلغت جسامتها يجب معاملته بوصفه شخصا بريئا حتى تثبت إدانته بحكم قضائي بات[فقرينة البراءة هي مسألة لا تتعلق فقط بالإثبات، وإنما هي موجهة للسلطات القائمة على الدعوى الجزائية، حيث تفرض عليها نوعا من التريث، فهي تحد من الموقف الاتهامي الذي قد تتخذه هذه السلطات، وتجعلها تغلب فكرة دواعي الإنسانية] ، وقد نصت على هذا المبدأ المواثيق الدولية[راجع المادة 9 من إعلان 1789 الفرنسي، والمادة 11 فقرة 1 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكذلك المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والمادة 6-2 من الاتفاقية الأوروبية لحفظ حقوق الإنسان والحريات الأساسية.] والدساتير بشكل جعل هذه القرينة ليست بحاجة إلى نص، فهي من مبادئ القانون، بل كانت معروفة حتى في القانون الروماني وتسمى: . in dubio pro reo
إن قرينة البراءة هي مقياس لمدى تطور المجتمع، وفي فرنسا تم إدراج مبدأ قرينة البراءة في القانون المدني بناء على المادة 9-1، وكذلك ضمن المادة الأولية لقانون الإجراءات الجزائية، وذلك على إثر إصلاحات 24 أوت 1993، و15 جوان 2000.
وعلى ذلك فإن قرينة البراءة قد أصبحت تتمثل في مجموعة من النتائج القانونية الملموسة التي تعبر عنها[يمكن القول أنه ينبغي التفرقة بين عبارة "قرينة البراءة" كمبدأ دستوري يتعين على المشرع بصفة عامة أن يحترمه عند سن مختلف القوانين، خاصة وأننا نعلم أن هناك بعض قرائن الإدانة التي أنشاتها بعض النصوص القانونية، و"اعتبار الشخص بريئا Présumé innocent"، وهذا يكون من خلال عمل الجهات القضائية التي عليها معاملة المشتبه فيه والمتهم على أنه بريئ حتى تثبت إدانته] ، وتتمثل في:
- أن الشك يفسر لمصلحة المتهم، فيكفي في المحاكم الجنائية أن يتشكك القاضي في صحة إسناد التهمة إلى المتهم كي يقضي له بالبراءة، على حد تعبير محكمة النقض المصرية.
- أن البطلان الجوهري يلحق أدلة الإدانة فقط دون أدلة البراءة[تفسير ذلك أن قانون الإجراءات الجزائية يخاطب فقط السلطة القضائية وما يتبعها من ضبطية قضائية، ولا يخاطب الأفراد، عكس قانون العقوبات الذي يخاطب الكافة، فالأفراد من حقهم تقديم الدليل على براءتهم أمام المحكمة بأي طريقة كانت مثل حالة الادعاء المدني تماما، ولا يلحق البطلان تصرفاتهم التي تكون مخالفة للقانون أو تشكل جريمة، لأن القانون لا يجبر الأفراد أن يكون سلبيين وأن لا يستخدموا كل وسيلة متاحة لإثبات براءتهم من أي اتهام، وهذا ما عليه كثير من الاجتهاد القضائي في الدول العربية والأجنبية]، فهذه الأخيرة أي أدلة البراءة حتى لو استمدت من إجراء غير قانوني فإنها لا تبطل سواء بطلب من الأطراف أو تلقائيا من خلال تصدي غرفة الاتهام، ذلك أن الإثبات الجنائي يكون بكافة طرق الإثبات، مع وجوب أن يكون الدليل مشروعاً، وهذا يخص دليل الإدانة فقط، أما دليل البراءة فيمكن للمحكمة أن تستند إليه ولو كان مستمداً من إجراء باطل، وفي هذا تقول محكمة النقض بأنه "يشترط في دليل الإدانة أن يكون مشروعاً إذ لا يجوز أن تبنى إدانة صحيحة على دليل باطل في القانون، إلا أن المشروعية ليست بشرط واجب في دليل البراءة" [نقض جنائي مصري، بتاريخ 15/2/1984، الطعن رقم 6097 لسنة 53 ق، وجاء فيه ما يلي:" وإن كان يشترط في دليل الإدانة أن يكون مشروعاً، إذ لا يجوز أن تبنى إدانة صحيحة على دليل باطل في القانون، إلا أن المشروعية ليست بشرط واجب في دليل البراءة، ذلك بأنه من المبادئ الأساسية في الإجراءات الجنائية أن كل متهم يتمتع بقرينة البراءة إلى أن يحكم بإدانته بحكم بات، و أنه إلى أن يصدر هذا الحكم له الحرية الكاملة في اختيار وسائل دفاعه بقدر ما يسعفه مركزه في الدعوى وما تحيط نفسه من عوامل الخوف والحرص والحذر وغيرها من العوارض الطبيعية لضعف النفوس البشرية، وقد قام على هدى هذه المبادئ حق المتهم في الدفاع عن نفسه وأصبح حقاً مقدساً يعلو على حقوق الهيئة الاجتماعية التي لا يضيرها تبرئة مذنب بقدر ما يؤذيها ويؤذى العدالة معاً إدانة برئ، هذا إلى ما هو مقرر من أن القانون - فيما عدا ما استلزمه من وسائل خاصة للإثبات- فتح بابه أمام القضاء الجنائي على مصراعيه يختار من كل طرقه ما يراه موصلاً إلى الكشف عن الحقيقة و يزن قوة الإثبات المستمدة من كل عنصر، مع حرية مطلقة في تقدير ما يعرض عليه ووزن قوته التدليلية في كل حالة حسبما يستفاد من وقائع الدعوى وظروفها، مما لا يقبل معه تقييد حرية المحكمة في دليل البراءة باشتراط مماثل لما هو مطلوب في دليل الإدانة ، وبالتالى يكون منعى الطاعنين في هذا الصدد على غير سند"].
- أن البينة على من ادعى، وفي مجال الدعوى العمومية فإن الإثبات يقع عاتق النيابة العامة، وهذا يتفق مع فكرة القرينة في حد ذاتها، بمعنى أن المتهم يملك قرينة على براءته، وأن النيابة العامة هي التي تسعى لإثبات العكس بواسطة حشد أدلة الإدانة، وإقناع المحكمة بها، وأن تلك هي وظيفتها الأساسية المتمثلة في البحث عن الحقيقة.
- أنه ينبغي أن توفر للشخص محاكمة علنية تؤمن له فيها ضمانات الدفاع (المحاكمة العادلة)، وفي هذا جاءت العديد من أحكام محكمة النقض المصرية بصيغة متواترة "أنه من المبادئ الأساسية في الإجراءات الجنائية أن كل متهم يتمتع بقرينة البراءة إلى أن يحكم بإدانته بحكم بات، وأنه إلى أن يصدر هذا الحكم له الحرية الكاملة في اختيار وسائل دفاعه بقدر ما يسعفه مركزه في الدعوى وما تحيط نفسه من عوامل الخوف والحرص والحذر وغيرها من العوارض الطبيعية لضعف النفوس البشرية، وقد قام على هذه المبادئ حق المتهم في الدفاع عن نفسه وأصبح حقا مقدسا يعلو على حقوق الهيئة الاجتماعية التي لا يضيرها تبرئة مذنب بقدر ما يؤذيها ويؤذي العدالة معا إدانة بريء".
- أن أساس قرينة البراءة يتمثل في ضمان الحرية الشخصية للمتهم طيلة فترات التحري والتحقيق إلا بالقدر الذي يلزم لكشف الحقيقة [يعتبر التحقيق في حد ذاته ضمانة للحرية الشخصية، لأنه يكفل تمحيصا للأدلة المختلفة التي تتوافر ضد المتهم، ويعتبر ذلك ضمانة هامة من عدم تعرضه للمحاكمة إلا إذا توافرت أدلة تكفي لمحاكمته، وذلك وجدت الرقابة على ذلك التحقيق حتى لا يكون أداة للتنكيل من طرف سلطة الاتهام] ، سواء بالنسبة للتفتيش، أو القبض، أو الحبس المؤقت، أو الرقابة القضائية، أو التوقيف للنظر، وغيرها من الإجراءات التي تحاط بضمانات هدفها عدم التعرض للحرية الشخصية إلا بقدر الضرورة.
- أن للمتهم الحق في الصمت (المادة 100 ق.إج.ج.ج) وحق طلب الإفراج (المادة 127 ق.إج.ج.ج).
- أن الأدلة المقبولة أمام القضاء الجنائي تخضع لمبدأ الشرعية الإجرائية مثلما هو الحال بالنسبة لإثبات جريمة الزنا (م 341 ق.عقوبات.ج).
- أن إثبات الجريمة لا يقتصر على الركن المادي لها، بل هو يشمل جميع العناصر التي يطلبها القانون، والتي يقع على عاتق النيابة أن تبحث عنها، وأن المحكمة عليها أن تجيب عن جميع المسائل التي تكون في مصلحة المتهم، سواء منها ما تعلق بقيام الركن المعنوي (القصد الجنائي أو الخطأ)، أو بموانع المسؤولية والعقاب، أو بأسباب الإباحة، وكل ما من شأنه أن ينفي المسؤولية عن المتهم.
- أن الطعون الجنائية هي من حق المتهم لإثبات براءته، سواء منها قرارات قاضي التحقيق أو غرفة الاتهام أو قضاء الحكم.
- أن السرية في التحقيق هي مقررة لمصلحة المتهم وسمعته، وحماية لحريته الشخصية، وأن الحبس غير المبرر يجب أن تتحمله خزينة الدولة عن طريق التعويض المادي كأقل ما يمكن فعله.
- أن الحكم الجنائي بالإدانة لا يمكن أن يبنى إلا على اليقين، أي على الدليل الجازم، على عكس الحكم بالبراءة الذي يبنى على مجرد الشك، وهذا من صميم الفلسفة الجنائية، لأن الإجراءات الجزائية تبدأ بالشك أو الشبهة لتصل إلى اليقين وهو الإدانة، فإذا لم يتم القضاء على الشك فإنه لا يمكن أن تحصل الإدانة، وعلى ذلك فإن العود هو حالة موضوعية قد يترتب عليها تشديد العقاب في بعض الحالات لكن لا يمكن أن يعتبر بأي حال بمثابة دليل إدانة.
- أن قرينة البراءة تسيطر على جميع مراحل الدعوى، فمثلا تنص المادة 163 ق.إج.ج.ج على أنه:"إذا رأى قاضي التحقيق بأن الوقائع لا تكون جناية أو جنحة أو مخالفة أو أنه لا يوجد دلائل كافية ضد المتهم أو كان مقترف الجريمة لا يزال مجهولا أصدر أمرا بأن لا وجه لمتابعة المتهم، ويخلى سبيل المتهمين المحبوسين مؤقتا في الحال إلا إذا حصل استئناف وكيل الجمهورية ما لم يكونوا محبوسين لسبب آخر"، أي أنها تسيطر على الإجراءات من بداية التحريات إلى مرحلة الحكم [فمرحلة التحريات أو مرحلة جمع الاستدلالات هي التمهيد للدعوى الجنائية، ولذلك فإن قرينة البراءة تمتد إليها أيضا، فإذا كان المتهم يستفيد منها فمن باب أولى يكون المشتبه به، وفي هذا الإطار اتجه القضاء الأوروبي، وكذلك لجنة حقوق الإنسان في ستراسبورغ التي أكدت منذ سنة 1967 بأنه لا يجوز في مؤتمر صحفي لوزير الداخلية إثر وقوع جريمة قتل أن يصدر إعلانا للرأي العام بأن شخصا معينا باسمه قد حرض على ارتكاب الجريمة لما ينطوي عليه هذا الإعلان من انتهاك لأصل البراءة]، بل إلى ما بعد ذلك أي مرحلة الطعون كما سبق القول.
- أن حجز شخص دون أن تكون الأدلة والقرائن التي تدينه قوية، أي أن براءته غالبة هو جريمة في نظر القانون، وهو قد يكون جناية حسب نص المادة 107 من قانون العقوبات، أو جنحة الحجز التحكمي (المادة 110 ق.ع).
- أن توجيه الاتهام لشخص من طرف قاضي التحقيق يكون باطلا إذا اتخذ دون وجود دلائل قوية متماسكة على صحة هذا الاتهام، وأنه بالتالي يجوز الطعن في أمر الاتهام هذا أمام غرفة الاتهام ثم أمام المحكمة العليا.
- أن القضاء وسلطات الدولة كافة، بما فيها الصحافة، يجب عليها معاملة المتهم أو المشتبه به على أنه لم يرتكب الجريمة محل الاتهام، ما عدا ما يرسمه القانون من إجراءات، إلا إذا ثبت عليه حكم نهائي.
[1] المادة 140 من الدستور الجزائري: "يشرع البرلمان في الميادين الّتي يخصّصها له الدّستور، وكذلك في المجالات الآتية: ...
7) - القواعد العامة لقانون العقوبات، والإجراءات الجزائيّة، لا سيّما تحديد الجنايات والجنح، والعقوبات المختلفة المطابقة لها، والعفو الشّامل، وتسليم المجرمين، ونظام السّجون..."
[2] انظر: الصوا (علي): الحجز المؤقت (التوقيف) وحكمه في الشريعة الإسلامية، مجلة دراسات، المجلد 13، العدد 1، 1986، ص: 43.