الوضوح وانتقاء الكلمات
تمهيد: بعد صراع قانوني وسياسي استمر لمدة خمسة أسابيع حول الأحق بالفوز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية: بوش أم جور سنة 2000 عقدت المحكمة الأمريكية العليا الفدرالية جلستها لإصدار حكمها الحاسم، وقد انتظر العالم 24 ساعة كاملة لحين انتهاء المحكمة وإعلان النتيجة، وعقب إعلان النتيجة انتظر العالم 24 ساعة أخرى من أجل تفسير الحكم، وعندما سئل أحد معاوني بوش عن الحكم قال: " إن من الصعب التحدث عن ذلك، إن الحكم ليس واضحا تماما، إن المحامين سيتعين عليهم ترجمة الحكم"، ونحن نتساءل: لماذا لا يكون حكم في هذه الأهمية واضحا؟ وقد يؤدي هذا السؤال إلى سؤال آخر: لماذا اللغة القانونية دائما غير واضحة وتحتاج إلى تفسير؟ وهكذا تصبح اللغة القانونية موضع الاتهام.
1) الوضوح
إن اللغة القانونية توصف عادة بأنها ليست لغة تخاطب، مع أنها يجب أن تكون كذلك، ففي اللغة العادية نحن نفهم ما يقصده المتحدث تماما، وعندما لا يحدث هذا الفهم سنقول: أن التخاطب لم يكن جيدا أو لم يكن ناجحا، ولذلك نقول أن الصياغة القانونية الجيدة يجب أن تتصف بالتخاطبية، أي بقدرتها على نقل الخطاب بصورة عادية وليس معقدة عكس ما يعتقد البعض.
إن عدم وضوح الوثيقة قد يكون ذريعة للشخص الذي يريد التهرب من أعبائها باستغلال سوء صياغتها لصالحه، فيجب أن تكتب الوثيقة القانونية بلغة لا تفهم بحسن نية فحسب، بل يجب أن تصاغ بطريقة لا يمكن معها إساءة فهمها، وفي مجال العقود نحن نعرف جيدا المبدأ الذي يقول: إن العبرة بالألفاظ والمباني وليست بالنوايا والمعاني، وفي هذا الصدد ينبغي مراعاة ما يلي:
1- الكلمة ليس لها معنى في ذاتها فقط، وإنما تستمد معناها من السياق الذي وجدت فيه، فعبارة القانون قد تكون بمعنى القانون الذي يسنه المشرع، أو بمعنى أي قانون في الدولة، أو بمعنى القانون المكتوب، أو بمعنى قانون معين حسب السياق.
2- يكون المفهوم غامضا عندما يبقى السياق مفتوحا بشكل واسع، كأن تقول: يحظر التدخين دون تحديد ماهية المواد المقصودة، والمكان والزمان.
3- يجب أن تتطابق النية الذاتية للمتحدث مع المعنى الموضوعي للكلمة أو العبارة المستخدمة فنحن لا نتحدث نفس اللغة.
4- إن محاولة استخدام كلمة للتعبير عن معنيين معا يؤدي إلى الغموض.
5- ما يمكن حذفه في سياق معين قد لا يمكن حذفه في سياق آخر.
6- إن البساطة لا تعني دائما الوضوح.
2) الغموض
إن تجنب الغموض في الوثائق القانونية جد مطلوب، ولنضرب لذلك مثالا، فلو طلب زبون من بائع السيارات سيارة حمراء فسيكون واضحا أن سيارة زرقاء لا تتطابق مع هذه الرغبة، لكن ماذا لو كانت درجة اللون الأحمر ليست هي كما في ذهن الزبون، فهنا يتطلب الأمر تحديد درجة اللون، أو ربما يكون الأفضل هو اختيار نموذج للون، كما يحدث في العادة.
إن الغموض لا زال سمة العديد من النصوص حتى في قانون العقوبات، ولنضرب لذلك المثال الافتراضي التالي: " يقصد بمصطلح القسوة المفرطة إلحاق بشكل غير مشروع أذى بدني جسيم أو معاناة ذهنية جسيمة تدمر الغايات والأهداف من الزواج" ، فما الذي تعنيه كلمة: غير مشروع، وكلمة: الضرر الجسيم، وهل كلمة مفرطة هنا محددة بدقة، وما هي حالات إلحاق الأذى بشكل مشروع؟
3) الالتباس
ومما يضاد الوضوح الالتباس، وهو يحدث عند استعمال كلمات تحمل معنيين أو أكثر حسب السياق، وينشأ الالتباس عادة لأحد الأسباب الآتية:
1- الالتباس الناشئ عن مدلول اللفظ: مثال ذلك كلمة دكتور، فقد تعني الطبيب، وقد تعني أي شخص متحصل على الدكتوراه، وكلمة مال، فقد يقصد بها النقود، وقد يقصد بها كل الممتلكات من نقد وعين، ولنضرب المثال الافتراضي التالي: " لا يجوز لأي شخص يحوز مركبة تعمل بمحرك أن يقود تلك المركبة إذا كان الرقم المسلسل لتلك المركبة قد تم تبديله أو طمسه"، فكلمة يحوز غير واضحة المعنى، وهل يقصد بها الحيازة القانونية أم مجرد اليد العارضة أو الحيازة الفعلية، ففي هذه الحالات قد يلجأ إلى السياق لكن السياق وحده قد لا يكون كافيا لتحديد المعنى.
2- الالتباس الناشئ عن ترتيب الكلام داخل الجملة: فالجمل المقيدة للمعنى، وكذلك حروف العطف مثلا قد تستعمل بطريقة لا توضح المعنى، مثل عبارة: " الهيئات أو المدارس الدينية"، فكلمة الدينية يمكن أن تصف الهيئات والمدارس معا، ويمكن أن تصف المدارس فقط، وبالتالي يمكن أن يكون لدينا احتمالان:
- الهيئات (الدينية) أو المدارس الدينية.
- المدارس الدينية أو الهيئات. (لاحظ تأخير الهيئات بدلا من تقديمها).
3- الالتباس السياقي: قد تكون الكلمات المستخدمة في الوثيقة القانونية واضحة تماما في مظهرها لكن السياق يتسبب في غموضها، كأن يكتب موص في وصيته:" أوصي بكل تركتي إلى ابني" بينما لديه ثلاثة أبناء، أو يتم استخدام اسم الإشارة بدلا من الاسم الكامل، أو يأتي النص متناقضا لأن نصا لاحقا سيفسر هذا الغموض، فلماذا يترك أمر إزالة الغموض لنص آخر؟؟
4) ثبات التعبير
إن ثبات التعبير يعني استخدام لفظ موحد داخل الوثيقة القانونية للإشارة إلى معنى موحد، فعلى سبيل المثال لا نشير إلى البائع في عقد بيع مثلا باسم البائع مرة وباسم الطرف الأول مرة والشركة مرة ثالثة والمنتج مرة رابعة، بل يفضل تفادي هذه الازدواجية الشائعة في الوثائق القانونية، مثلا:"البائع – طرف أول" ، " الشركة – البائع".
ولا يقتصر الأمر على تسميات الأشخاص بل كذلك الأفعال، فلا يسوغ أن يعبر عن السلطة التقديرية مرة بـ : يحق لفلان و مرة يجوز لفلان ومرة مسموح لفلان ... إلخ فهذا يعطي انطباعا بأن هناك فروقا في المعنى بينما المعنى المقصود واحد.
وينشأ عدم الثبات عادة من ثلاثة حالات هي:
1- استخدام مصطلحين غير معرفين للإشارة إلى نفس الشيء:
فقد يستخدم لفظ المستفيد للموصى له، فلا يسوغ استخدام الموصى له أو المتبرع له في مناسبات أخرى، أو يتم استخدام في عقد إيجار عبارات عديدة لمحل الإيجار: إيجار منزل – إيجار عقار – إيجار مبنى.
2- استخدام كلمة معرفة كما لو أنها غير معرفة:
فلو فرضنا أنه تم تعريف الشركة في بداية العقد بأنها هي الشركة أ، وهناك عدة شركات في العقد، لكن الصائغ يشير إليها جميعا بلفظ الشركة فيكون قد أخل بالمعنى.
3- استخدام لفظ غير معرف للإشارة إلى شخصين أو شيئين مختلفين:
كأن يتم استخدام المستفيد تارة للموصى له وتارة للموهوب له مع أنهما مختلفان.
5) التفسير
إن التفسير هو الطريق إلى فك الغموض والالتباس، وفي هذا الصدد توجد قواعد معينة للتفسير نلخصها في الآتي:
1- قاعدة: أعط لكل ما يخصه
في هذه القاعدة قد تتضمن الجملة معنيين، وبعدهما معنيين آخرين كل منهما مخصص لشيء في العبارة السابقة، فيخصص كل شيء لما يقابله، ومثاله الافتراضي: يدفع صاحب العمل والمشتركون في صندوق معاشات الشركة للصندوق حصصا بنسبة 10 % و 5 % من المرتب.
فالواضح أن النسبة الأولى تعود على صاحب العمل بينما النسبة الثانية تعود للمشتركين، لكن هذا المعنى قد يكون غير واضح لغير المتخصصين.
ولذلك قلنا في قواعد الصياغة أنه يستحسن تخصيص جملة لكل فكرة.
2- قاعدة: تعرف الكلمة من أقرانها
في هذه القاعدة يمكن معرفة الكلمة المشكوك في معناها من معاني الكلمات المحيطة بها عن طريق صفة مشتركة بينها مثلا.
فالنص الآتي: القطط والكلاب والماعز وغير ذلك من الحيوانات يحتمل العديد من الفرضيات، فكل من هذه الحيوانات لها أربعة أقدام وهي حيوانات أليفة، فإذا كان السياق يشير إلى المعنى الأول فالديك الرومي مثلا لا يدخل في المعنى، وإذا كان السياق يدل على المعنى الثاني فالديك الرومي يدخل في المعنى لأنه حيوان أليف.
3- قاعدة نفس النوع:
تعني القاعدة أن العبارة العامة التي تلي عدة أشياء لا تنطبق إلى على نوع معين من نفس نوعها، مثلا: المنازل والشقق وغير ذلك من المباني، فكلمة المباني تدل على المباني المخصصة للسكن لأن المنازل والشقق مخصصة للسكن، ولا تنطبق على المصانع أو المساجد مثلا.
وهذه القاعدة لا تنطبق كما هو واضح إلا إذا كانت الأشياء المذكورة بينها صفة مشتركة، ولم تكن مذكورة على سبيل الحصر، كأن يكتب شخص في وصيته:" أوصي بساعاتي وخواتمي وسلاسلي وأساوري لابنتي فاطمة" فهذه على سبيل الحصر، ولا تطبق قاعدة نفس النوع.
4- قاعدة: التخصيص يعني استثناء غير ما ذكر:
إذا ذكر شيء بشكل خاص بذلك يعني استثناء ما عداه، كالقول: يحظر على أي شخص اصطحاب الكلاب داخل محال الأطعمة، فهذا يعني عدم سريان الحظر على القطط أو القرود مثلا، ولذلك فمن الأفضل في هذه الحالة عدم التخصيص واستخدام عبارة حيوان بدلا من كلب.
انتقاء الكلمات:
ينصح فقهاء الصياغة القانونية باتباع القواعد الآتية في انتقاء الكلمات:
1- استخدم الكلمات والعبارات الطبيعية المألوفة بدلا من الغريبة:
أحيانا يكون من الصعب تحديد المعنى العادي والطبيعي للكلمات، فقد يختار الصائغ كلمات شائعة في وقت الصياغة، لكن اللغة القانونية ينبغي ألا تكون حرما مقدسا لا يدخله إلا فقهاء القانون، فيجب دائما اختيار الكلمات المألوفة.
مثال: موصي يكتب في وصيته: أوصي بسياراتي، فالسيارات لا تنطبق على الحافلات والشاحنات.
2- استخدم الكلمات والعبارات الملموسة بدلا من المجردة:
من الأفضل استخدام الكلمات ذات المعنى الملموس بدلا من الكلمات ذات المعنى المجرد، فمثلا من الأفضل استخدام عبارة: يوم 1 جانفي 2013 بدلا من الأول من جانفي أو مطلع جانفي أو الفاتح جانفي.
3- استخدم الكلمات المفردة بدلا من العبارات الزوجية والثلاثية:
مثل القول بأن العقد منعدم وكأن لم يكن، فعبارة كأن لم يكن لا حاجة إليها مع عبارة منعدم، وكذلك عبارة في حالة ما إذا فإذا الشرطية كافية، وكذلك عبارة: بموجب أحكام القانون، فتعبير بموجب القانون كاف، ومثله استعمال عبارة: لاغ وباطل ... إلخ
4- تجنب استخدام الكلمات والعبارات القديمة:
وهي تلك الكلمات التي توقف استعمالها في اللغة العادية، ومن أمثلة ذلك في العقود العبارات الختامية والتمهيدية مثل:
وبما ذكر (وإثباتا لما تقدم) مهر الطرفان هذا العقد (بإمضائهما) و(بصماه بخاتميهما) في اليوم والسنة المذكورين (في صدره).
5- تجنب استخدام الكلمات والعبارات غير الضرورية:
وهذا مما يكثر استخدامه في الوثائق القانونية، مثل استخدام عبارة" المذكور" وأدوات الإشارة مثل: "هذا" و "ذلك"، وكذلك بعض العبارات الرنانة مثل: أيا كان، مهما كان ... إلخ
أمثلة: العقار المذكورأعلاه، ذلك العقار
وتفاديا لتكرار هذه العبارة يحسن تعريف الكلمة في بداية النص والإشارة إلى ذلك النص.