المحاضرة الأولى:حول وجود القانون الجنائي العسكري
1- مدخل هام حول التطور في عدد الجرائم في قانون العقوبات
لقد بدأ القانون العقابي بمجموعة يسيرة من الجرائم، يمكن ردها إلى مقتضيات حماية القيم الجوهرية للمجتمع، فلم تكن هذه الجرائم تتجاوز صور الاعتداء على الحياة أو سلامة الجسم، كما في القتل والجرح والضرب؛ والاعتداء على مال الغير، كما في السرقة وخيانة الأمانة؛ والاعتداء على العرض، كما في الاغتصاب.
ومع تطور المجتمع اتسع نطاق التجريم والعقاب، حيث تدخل المشرع بتجريم سلوكات تعبر عن التطورات الجديدة التي يعيشها المجتمع. فالانتقال من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي استتبع بالضرورة ظهور جرائم جديدة كجرائم الإهمال، وجرائم القتل الخطأ الناشئ عن حوادث السيارات، كما مضى تطور قانون العقوبات في منحى حضاري يتماشى مع احترام حقوق الإنسان الحديث، فلا يحمي الأفراد في حياتهم وسلامة أبدانهم وأموالهم وأعراضهم فحسب، بل كذلك في اعتبارهم وكرامتهم وحريتهم. فظهرت جرائم القذف والسب والبلاغ الكاذب واستخدام القسوة مع الأفراد وتعذيب المتهمين لحملهم على الاعتراف وتقييد حرية الأفراد بغير حق.
واستجاب المشرع الجنائي كذلك إلى التطور الناشئ عن اتساع دور الدولة التي أصحبت تتدخل في كافة مجالات النشاط الإنساني. ولهذا كان من الطبيعي تجريم الأفعال الماسة بأمن الدولة من جهة الخارج كجرائم التجسس أو التخابر مع جهات أجنبية. وكان ظهور ما أطلق جرائم المصلحة العامة. فاعتبار الوظيفة العامة إحدى ركائز النشاط الإداري في الدولة الحديثة استوجب تجريم أشكالا من السلوك التي تخل بنزاهة هذه الوظيفة، كما هو الحال بالنسبة لجرائم الرشوة. وظهرت كذلك جرائم الاعتداء على الأموال العامة التي لا تخص فرداً بعينه، بل تعد ملكاً للمجتمع بأسره، كجرائم الاختلاس أو أخذ غير المستحق من الصفقات العمومية.
وفي نفس السياق كان من اللازم تجريم السلوكات التي تهدر الثقة في المحررات الرسمية أو العرفية التي يتداولها الأفراد فيما بينهم، كالتزوير بكافة أنواعه.
ومع ظهور الحاسوب والأنترنت ظهرت أيضا طائفة جديدة من الجرائم هي جرائم المعلوماتية. ومع بزوغ رياح العولمة وما نتج عنها من تذويب للحدود بين الدول وتحرير للأسواق وإزالة القيود المحيطة بها بدأت تبدو في الأفق جرائم جديدة أطلق عليها غسل الأموال.
وقد استتبع هذا التضخم «الكمي» في عدد الجرائم التي يتضمنها القسم الخاص من قانون العقوبات تطورا في «الكيف»، وهو ما تمثل في استقلال طوائف معينة من الجرائم بذواتها وتفردها بأحكام خاصة بها، حتى أضحت في النهاية فروعا خاصة داخل القسم الخاص. ويبدو مستساغا اليوم القول بأن عددا كبيرا من الجرائم يعاقب عليه بمقتضى قوانين خاصة، لا يتضمنها قانون العقوبات بمعناه الضيق. وفي تعبير آخر، يمكن القول بأن القسم الخاص من قانون العقوبات قد تحول تحت ضغط التطور إلى أقسام خاصة، يضم كل منها طائفة من الجرائم تشترك في وحدة المصلحة القانونية التي ابتغى المشرع حمايتها. وتستقل هذه الجرائم بأحكام موضوعية وإجرائية تقتضيها طبيعتها، وقد تختلف عن الأحكام العامة التي تسري على باقي أنواع الجرائم.
وهكذا، ظهرت عشرات من التشريعات الجنائية الخاصة التي تحتوي على عدد من الجرائم يفوق جرائم القسم الخاص من قانون العقوبات، وتمثل معالجة خاصة لنوع محدد من الإجرام
2- التضخم التشريعي والتضخم الجنائي
إن الظاهرة السابقة يعبر عنها الفقه باستخدام مصطلح التضخم التشريعي (inflation législative). ويطلق بعض الفقه على هذه الظاهرة اصطلاح التضخم الجنائي (L'inflation pénale)، مؤكدا أنها إحدى صور التضخم التشريعي بصفة عامة، والذي تعاني منه باقي أفرع القانون الأخرى. ولكن الظاهرة تبدو مقلقة أكثر في المجال الجنائي، لما لهذا الأخير من خصوصية، ليس أقلها أن القانون الجنائي يمس الناس في حرياتهم. فقد أضحى من المتعذر حصر النصوص الجنائية، لفرط كثرتها وتناثرها. إذ أصبح من النادر أن يصدر تشريع جديد يعالج موضوعا ما دون أن يستعين بسلاح التجريم والعقاب، مما أفضى إلى تضخم تشريعي جنائي، بكل ما يحمله ذلك من آثار سلبية على إدارة العدالة الجنائية برمتها.
3- الآثار المترتبة على هذا التضخم
إذا كان العلم بالنصوص المتفرقة بين قوانين وتشريعات مختلفة غدا أمرا صعبا، حتى على المتخصصين، فإن حسم مسألة التنازع بين هذه النصوص ومعرفة النص واجب التطبيق على الواقعة الإجرامية لا يقل صعوبة. وما يزيد الأمر صعوبة أن المشرع قد ينص على ذات الجريمة في أكثر من قانون جنائي خاص، وبحيث يكون ذات السلوك الإجرامي خاضعا لقانون العقوبات العام وواحد أو أكثر من القوانين الجنائية الخاصة. وهذه الصعوبة تزداد إذا علمنا أن المشرع الجنائي يلجأ عادة – في القوانين الجنائية الخاصة – إلى مبدأ الإلغاء الضمني، وليس الإلغاء الصريح، بحيث يقرر إلغاء كل حكم يخالف الأحكام الواردة به، الأمر الذي يستلزم البحث فيما إذا كان النص التجريمي الخاص الوارد في قانون ما قد ألغى نصا تجريميا خاصا واردا في قانون آخر أم لا.
من ناحية ثانية، يلاحظ أن الفقه الفرنسي قد أسهب في دراسة القوانين الجنائية الخاصة، بحيث نجد مؤلفات عديدة تتناول كافة الجرائم الواردة في تشريعات خاصة. على النقيض من ذلك، نادرة هي المؤلفات العربية التي تتناول بالبحث والتحليل التشريعات الجنائية الخاصة. وربما يرجع ذلك إلى كثرة تعرض هذه التشريعات للتعديل والتبديل والتغيير. بل أن بعضها ألغي فعلا ولم يعد له وجود بعد انقضاء الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي اقتضت وجوده. ومن ثم، قد يخشى الفقيه أن ينفق الوقت والجهد في دراسة قانون جنائي خاص، وما إن ينتهي منه حتى يحدث تعديل تشريعي لنصوص هذا القانون، الأمر الذي يقلل كثيرا من قيمة الدراسة أو البحث. بل أن التعديل قد يأتي قبل الانتهاء من الدراسة، ومن ثم يتعين على الباحث أن يعاود البحث والتحليل من جديد، حتى تأتي الدراسة مواكبة لأحدث التعديلات التشريعية.
4- حول التفرقة بين قانون العقوبات التكميلي والقوانين الجنائية الخاصة
يقسم الفقه عادة قانون العقوبات إلى قسمين: قانون العقوبات الأصلي وقانون العقوبات التكميلي، لكنه يختلف حول تعريف هذا الأخير، فيقول بعض الفقه أنه «عبارة عن القوانين الجنائية التي تكمل النقص في قانون العقوبات الأصلي أو تعدل بعض أحكامه»، ووفقا لرأي فريق آخر من الفقه فإن قانون العقوبات التكميلي يطلق على «مجموعة التشريعات الجنائية التي تصدر فرادى لتجريم أفعال معينة
والواقع أن القوانين العقابية التكميلية تتضمن – في الغالب – بعض الأحكام الجنائية الإجرائية التي تتميز عن الأحكام الإجرائية العامة الواردة في قانون الإجراءات الجنائية أو قانون الإجراءات الجزائية.
ووفقا لبعض الفقه، يطلق «قانون العقوبات التكميلي» على «مجموعة القوانين الجنائية التي تضاف إلى قانون العقوبات الأصلي أو الأساسي لكي تحمي هي الأخرى مصالح هامة في المجتمع ولكنها مصالح متطورة ومتغيرة مما اقتضى النص عليها في قوانين مستقلة عن تقنين قانون العقوبات حتى يتسنى تغييرها أو تعديلها بما يتلائم وطبيعة المرحلة التي يمر بها المجتمع، أو تضمينها نصوصا خاصة بها لكي تحقق حماية أوفى لتلك المصالح، مثل قوانين المخدرات والنقد والتهرب الجمركي والسلاح والمرور.
والحقيقة أن هناك العديد من المصطلحات الأخرى التي تستعمل في هذا الصدد منها:
أ- مصطلح القوانين العقابية الخاصة: وهناك بعض القوانين تنص صراحة على هذه التسمية، فمثلا يستخدم المشرع المصري مصطلح «قوانين عقوبات خاصة»، وذلك في المادة 224 من قانون العقوبات، بنصها على أن «لا تسري أحكام المواد 211 و212 و213 و214 و215 على أحوال التزوير المنصوص عليها في المواد 216 و217 و218 و219 و220 و221 و222 ولا على أحوال التزوير المنصوص عليها في قوانين عقوبات خاصة».
ب- مصطلح قانون العقوبات الخاص: إن مصطلح «قوانين العقوبات الخاصة» غير دقيق. فلفظ «قوانين» هنا قد استخدم في صيغة الجمع، ومفردها «قانون». فإذا استخدمنا هذا اللفظ في صيغة المفرد، أصبح المصطلح المستخدم هو «قانون عقوبات خاص». وغني عن البيان أن اصطلاح «قانون العقوبات» يستخدم للدلالة على مجموعة الأحكام الموضوعية ذات الصلة بالتجريم والعقاب. ولا شأن لهذا المصطلح بالأحكام الإجرائية، وذلك خلافا لاصطلاح «القانون الجنائي» الذي يسوغ استخدامه في معنى واسع، بحيث يشمل كلا من الأحكام الموضوعية، أي قانون العقوبات، والأحكام الإجرائية، أي قانون الإجراءات الجنائية. ولما كانت القوانين الجنائية الخاصة تشتمل في الغالب على أحكام جنائية موضوعية وأخرى إجرائية، لذلك فمن غير الملائم استخدام مصطلح «قوانين العقوبات الخاصة.
ج- مصطلح القوانين الجنائية الخاصة: تميل بعض التشريعات إلى استعمال مصطلح «التشريعات الجنائية الخاصة» أو «القوانين الجنائية الخاصة». وبالإطلاع على بعض المؤلفات الفقهية في شرح قانون العقوبات المصري، نجدها تستخدم اصطلاح «التشريعات الجنائية الخاصة». ونجد مصطلح «القوانين الجنائية الخاصة» كذلك في كتابات ومقالات بعض المتخصصين في القانون الجنائي. وفي ديسمبر سنة 1995م أصدرت نقابة المحامين المصرية سلسلة من الكتب تحت عنوان «التشريعات الجنائية الخاصة»، وضم الجزء الأول منها نصوص ثلاثة من القوانين الجنائية الخاصة، هي: قانون الحراسة، وقانون الأحداث، وقانون الكسب غير المشروع، وقد ورد اصطلاح «القوانين الجنائية الخاصة» في بعض الأحكام الصادرة عن محكمة النقض المصرية.
د- مصطلح القوانين العقابية المكملة: يستعمل بعض الفقه اصطلاح «القوانين المكملة لقانون العقوبات». ويؤكد بعض الفق على استخدام مصطلح «القوانين الجنائية المكملة» أو «القوانين الجنائية الملحقة» بدلا من اصطلاح «القوانين الجنائية الخاصة»، وذلك حتى لا يحصل الخلط بين القوانين المكملة لقانون العقوبات – والتي تكون جزءا منه – وبين قوانين العقوبات الخاصة.
وقريب من ذلك، يستخدم بعض الفقه اصطلاح «قانون العقوبات التكميلي». وهذا المصطلح هو الترجمة الحرفية للتعبير الفرنسي (Droit pénal complémentaire) المستخدم بواسطة بعض الفقه الجنائي الفرنسي.
وبالإطلاع على الأحكام الصادرة عن محكمة النقض المصرية، نجدها تستخدم مصطلح «القوانين المكملة لقانون العقوبات» أو «القوانين العقابية المكملة» في بعض هذه الأحكام.
5- تفضيل مصطلح «القوانين الجنائية الخاصة»
بعد التدقيق والمقارنة بين المصطلحات السابقة، نعتقد أن مصطلح «القوانين الجنائية الخاصة» هو أفضلها دلالة على مضمون القانون الجنائي الخاص ذاته، والأكثر اتساقا مع بعض المفاهيم المستقرة في فقه القانون الجنائي. فمن ناحية، يلاحظ أن التشريع الجنائي الخاص لا يقتصر في العادة على الأحكام الموضوعية المتعلقة بالتجريم والعقاب، وإنما يشتمل كذلك على بعض الأحكام الإجرائية ذات الصلة بكشف هذه الجرائم وملاحقة مرتكبيها. ومن ثم، نرى من الواجب استخدام مصطلح «القوانين الجنائية الخاصة»، وذلك حتى يكون مفهوما أن الأمر لا يتعلق بقواعد جنائية موضوعية فحسب، وإنما قد ينصرف الأمر كذلك إلى بعض الأحكام الإجرائية الخاصة بالجرائم الواردة في التشريع الجنائي الخاص. إذ أن اصطلاح القانون الجنائي يستخدم – أو على الأقل ينبغي أن يستخدم – في معنى واسع، بحيث يشمل كلا من قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية. ومن ثم، يكون قانون العقوبات هو القانون الجنائي الموضوعي، ويكون قانون الإجراءات الجنائية هو القانون الجنائي الإجرائي.
يضاف إلى ذلك أن مصطلح «القوانين الجنائية الخاصة» له فضل الدلالة على أن الأحكام الجنائية الموضوعية الواردة في هذه القوانين إنما تتعلق – في الأساس – بالقسم «الخاص» من قانون العقوبات، ولا شأن لها – كقاعدة عامة – بالقسم «العام» من هذا القانون. إذ أن القاعدة العامة في هذا الصدد تقضي بسريان الأحكام العامة لقانون العقوبات العام على القوانين الجنائية الخاصة، ما لم يوجد بها نص مخالف. كذلك، فإن الأمر في القوانين الجنائية الخاصة قد لا يتعلق «بتكملة» نقص موجود في قانون العقوبات العام، وإنما ينصرف الوضع – في الأغلب الأعم من الأحوال – إلى وضع أحكام «خاصة» بجرائم وسلوكيات إجرامية معينة، قد يكون لها نظير ومثيل في قانون العقوبات، وإنما ارتأى المشرع تمييز هذه الأفعال الإجرامية بنصوص «خاصة» مغايرة، سواء من حيث التجريم والعقاب أو من حيث الأحكام الإجرائية.
من ناحية أخرى، نرى من الملائم أن نلفت النظر إلى إحدى قواعد حسم التنازع الظاهري للنصوص الجنائية، ونعني بذلك قاعدة أن النص الخاص مقدم على النص العام. فالمقابلة بين النص العام والنص الخاص تجعل من الملائم استخدام مصطلح «القوانين الجنائية الخاصة»، والذي يوحي بالمقابلة بينه وبين «قانون العقوبات العام». بل، يمكن القول بأن القانون الجنائي الخاص يقابل كلا من قانون العقوبات العام وقانون الإجراءات الجنائية العام.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن مصطلح «القوانين الجنائية الخاصة» يبرز – أكثر من غيره – حقيقة العلاقة بينها وبين قانون العقوبات العام. فالقوانين الجنائية الخاصة – كما هو واضح من اسمها – تنطوي على نصوص خاصة، وذلك بالمقارنة بالنصوص العامة الواردة في قانون العقوبات. نعم قد ترد بعض النصوص الخاصة في قانون العقوبات العام ذاته. ومع ذلك، فإن من المتصور ورود هذه النصوص كذلك في بعض القوانين الخاصة. فعلى سبيل المثال، من المتصور أن يرد النص على تزوير جوازات السفر في القانون الخاص بالجنسية وجوازات السفر. ومن المتصور كذلك أن يرد النص على تزوير شهادات الميلاد في القانون المنظم للقيد في سجلات المواليد، وهكذا.
وعلى كل حال، وأيا كان المصطلح المستخدم، فإن التعبيرات آنفة الذكر تشير جميعها إلى أحد التقسيمات التي درج الفقه على إجراؤها داخل النظام القانوني الجنائي الذي يحكم التجريم والعقاب في المجتمع. إذ يجري الفقه على التمييز بين قانون العقوبات الأصلي من جهة وقانون العقوبات التكميلي أو القوانين العقابية الخاصة أو القوانين المكملة لقانون العقوبات من جهة أخرى. ويقصد بقانون العقوبات الأصلي مجموعة قانون العقوبات، أي القواعد التي تحكم التجريم والعقاب في المجتمع، وتصدر في شكل مجموعة تحتوي على الأفعال المنهي عنها والعقوبة المترتبة على ارتكابها. أما قانون العقوبات التكميلي، فهو عبارة عن القوانين الجنائية التي تكمل النقص في قانون العقوبات الأصلي أو تعدل بعض أحكامه.
وأخيرا، نود التنويه إلى أن اصطلاح «القوانين الجنائية الخاصة» لا يقتصر على تلك القوانين الخاصة بطائفة معينة من الجرائم، بحيث يخصص القانون بكامله للنص على هذه الجرائم، وإنما يشمل أيضا نصوص التجريم والعقاب الواردة في بعض التشريعات التي تتضمن تنظيما وافيا لموضوع معين، كما هو الشأن بالنسبة لنصوص التجريم والعقاب الواردة في قانون العمل أو في قانون الشركات.
6- ظاهرة التفريع في قانون العقوبات
يذهب بعض الفقهاء إلى وجود قوانين متعددة بتعدد المصالح التي تحميها، فيسمى «بقانون العقوبات المالي» عندما يحمي المصالح المالية. ويسمى «بقانون العقوبات التجاري» عندما يحمي المصالح التجارية. ويسمى «بقانون العقوبات البحري» عندما يحمي المصالح البحرية... وهكذا، تتعدد قوانين العقوبات في نظر هؤلاء بتعدد المصالح التي تحميها.
وبمطالعة عناوين العديد من المؤلفات الفقهية ورسائل الدكتوراه في الموضوعات ذات الصلة بالتشريعات الجنائية الخاصة، يسوغ القول – دون تردد – أن هذا هو الاتجاه السائد في الفقه الفرنسي. إذ كثيرا ما نصادف تعبيرات مثل القانون الجنائي للعمل، ويعكس هذا الفرع تدخل الدولة في مجال علاقات العمل بين العمال وأصحاب الأعمال، وتجريم بعض صور السلوك أو الامتناع المنطوية على إخلال بالالتزامات التي يفرضها قانون العمل. ويستخدم البعض مصطلح «القانون الجنائي الاجتماعي»، كمرادف لاصطلاح «القانون الجنائي للعمل». ومن القوانين الجنائية الخاصة، نذكر أيضا القانون الجنائي للأعمال، وهو ذلك الفرع الذي يضم الجرائم الواقعة في ميدان النشاط التجاري والجزاءات الخاصة بها. كذلك، نذكر قانون العقوبات المالي، وقانون العقوبات الاقتصادي، أو القانون الجنائي للأعمال الاقتصادية والمالية، والقانون الجنائي الضريبي، ويقصد بهذا الفرع من القوانين الجنائية الخاصة كافة صور السلوك المعتبرة جرائم في المجال الضريبي والأحكام التي تختص بها هذه الجرائم، وهي تخرج في كثير من الأحيان عن الأحكام العامة المشتركة التي تسري على كافة أنواع الجرائم. وثمة قانون جنائي خاص يطلق عليه اصطلاح «القانون الجنائي الجمركي»، ويضم كافة الجرائم الجمركية، وأهمها جريمة التهرب الجمركي. ويتعين أن نذكر كذلك القانون الجنائي للهجر، والقانون الجنائي الإداري، والقانون الجنائي للصحافة. وثمة قانون جنائي للطيران المدني، ويطلق عليه أيضا اصطلاح قانون العقوبات الجوي. وهناك أيضا القانون الجنائي المروري، ويضم كافة الجرائم المرورية والعقوبات المقررة لها والإجراءات الجنائية الخاصة بها. والقانون الجنائي المدرسي، والقانون الجنائي العائلي. وظهر أيضا مصطلح «القانون الجنائي الزراعي»، وهو فرع يضم على حد سواء صورا من الجرائم بعيدة العهد وجرائم أخرى مستحدثة، وكلها تتعلق باستغلال الثروات الزراعية. ومن القوانين الجنائية الخاصة التي ظهرت في وقت حديث نسبيا، نذكر «القانون الجنائي للبيئة»، والذي يضم الجرائم الضارة بالبيئة، كما هو الشأن بالنسبة لجرائم التلوث البيئي، وسواء كان هذا التلوث ضارا بالتربة أو بالماء أو بالهواء. أما أحدث القوانين الجنائية الخاصة، فهو «القانون الجنائي للمعلوماتية»، وهو فرع حديث يهتم بدراسة صور السلوك التي جرمها المشرع الجنائي الفرنسي في الآونة الأخيرة في مجال المعلوماتية، كتقليد برامج المعلوماتية واستعمالها وكافة صور الغش غير المشروع الأخرى في هذا المجال.
كذلك، فإن الدوريات القانونية الفرنسية بدأت مؤخرا في تخصيص أبواب ثابتة للتعليق على الأحكام القضائية الصادرة في شأن الجرائم المنصوص عليها في بعض القوانين الجنائية الخاصة؛ فيعهد مثلا إلى أحد الفقهاء بالتعليق على أحكام القضاء ذات الصلة بجرائم القانون الجنائي للشركات. ويعهد إلى فقيه آخر بالتعليق على أحكام القضاء في شأن الجرائم الواردة في قانون البيئة. ويعهد إلى فقيه ثالث بالتعليق على أحكام القضاء في شأن جرائم القانون الاجتماعي.
ونجد المسميات آنفة الذكر كذلك لدى الفقه الجنائي في الدول الأوربية الأخرى. ويتبنى بعض الفقه العربي ذات النهج، بحيث نجد عددا من المؤلفات الفقهية التي تتخذ عنوانا لها نفس التعبيرات المستخدمة بواسطة الفقهاء الفرنسيين أو تعبيرات مشابهة لها. فعلى سبيل المثال، يستخدم بعض الفقه العربي مصطلح «القانون الجنائي للمعاملات التجارية» ومصطلح «القانون الجنائي للشركات»، للدلالة على طائفة من النصوص الجنائية ذات الصلة بالمعاملات التجارية أو بالشركات على وجه الخصوص. ويستخدم بعض الفقه الجنائي العربي مصطلح «القانون الجنائي للعمل»، للدلالة على النصوص الجنائية الواردة في قانون العمل.
أكثر من ذلك، أن بعض الفروع بدأت تعرف تقسيمات فرعية؛ فالقانون الجنائي للأعمال المالية والاقتصادية بدأت تظهر له فروعا، مثل القانون الجنائي للبنوك والائتمان. ويقصد به الفرع الذي يهتم بكافة صور الجرائم المرتكبة في مجال النشاط المصرفي أو بمناسبته. وكذلك الحال بالنسبة للقانون الجنائي للشركات الذي يعتبر أحد فروع القانون الجنائي للأعمال التجارية.
وقد كانت بعض الفروع آنفة الذكر موضوعا لمؤتمرات دولية. فعلى سبيل المثال، كان «قانون العقوبات الاقتصادي والاجتماعي» أحد موضوعات المؤتمر الدولي السادس لقانون العقوبات، الذي عقد في روما في سبتمبر سنة 1953م. كذلك، كان «قانون العقوبات الجوي» أحد الموضوعات الأربعة التي تناولها بالبحث المؤتمر الدولي السابع لقانون العقوبات، الذي انعقد في أثينا في سبتمبر سنة 1957م.
ورغم اتفاق أنصار هذا الاتجاه على ضرورة التمييز بين القسم الخاص من قانون العقوبات وبين القوانين الجنائية الخاصة، فإن معيار أو ضابط التمييز بين كل منهما غير متفق عليه: إذ ذهب رأي إلى أن ما يميز قواعد القسم الخاص من قانون العقوبات عن القوانين الجنائية الخاصة هو موضوع الحق الذي ينصب عليه الاعتداء، بحيث نكون بصدد قانون جنائي خاص كلما كانت الأفعال المجرمة تشكل اعتداء على مصالح مرتبطة من الناحية النوعية. فعلى سبيل المثال، يستهدف قانون العقوبات الاقتصادي حماية المصالح الاقتصادية، ويستهدف قانون العقوبات المالي حماية المصالح المالية. ويقول رأي آخر بمعيار شكلي قائم على الاستقلال التشريعي، أي دخول مجموعة من الجرائم في نطاق أو إطار تشريعي مستقل عن المدونة العقابية بقسميها العام والخاص.
وتجدر الإشارة أخيرا إلى أنه رغم اتفاق أنصار هذا الاتجاه على ضرورة التفريع في قانون العقوبات، إلا أنهم يختلفون في بعض المسميات المستخدمة لبعض القوانين الجنائية الخاصة. فعلى سبيل المثال، يستخدم البعض اصطلاح «القانون الجنائي الإداري»، بينما يفضل البعض الآخر استخدام مصطلح «القانون الإداري الجنائي»، ويميل فريق ثالث إلى استخدام تعبير «قانون العقوبات الإداري».
7- الاتجاه المعارض للتفريع في قانون العقوبات
يعارض بعض الفقه الاتجاه السابق، خشية أن يؤدي إلى تحويل القسم الخاص من قانون العقوبات إلى فروع لا حصر لها من هذا القانون، وبعثرة نصوصه. وقد ورد هذا الرأي بمناسبة التعليق على دعوة بعض الفقه إلى نشأة «القانون الجنائي للعمل»، أي وجود ذاتية أو شخصية خاصة لفرع من فروع القانون الجنائي، يطلق عليه «القانون الجنائي للعمل» أو «القانون الجنائي للعلاقات العمالية» أو «القانون الجنائي الاجتماعي».
ويبدو أن بعض الفقه يشاطرون هذا الرأي. إذ يتحدث هؤلاء عما أسموه «انفلات قانون العقوبات الخاص»، مؤكدين أنهم آثروا القول «انفلات» وليس «تضخم قانون العقوبات الخاص»، باعتبار أن ظاهرة انفلات هذا الفرع تعني تطوره الكيفي وانسلاخ طوائف معينة من جرائمه لتكون فروعا خاصة بذاتها، بينما ظاهرة التضخم تعكس فقط التطور الكمي لهذا الفرع بزيادة عدد جرائمه. ويقول هؤلاء أنه بقدر ما تضيف ظاهرة انفلات قانون العقوبات الخاص إلى أقسام خاصة متعددة من ثراء فقهي إلى القسم الأم، إلا أنها تفقده الانسجام اللازم. يضاف إلى ذلك أنها تؤكد التساؤل المطروح منذ فترة عن مدى جدوى ظاهرة الإفراط في التجريم وإقحام الأداة الجنائية في كثير من مظاهر السلوك المخالف للقانون، والتي كان يمكن مواجهتها بأدوات غير جنائية تكفلها داخل النظام القانوني أفرع قانونية أخرى.
ويؤكد بعض الفقه ميله إلى الرأي الذي يرى عدم التسليم بوجود قانون عقوبات خاص إلى جانب قانون العقوبات العام، لأن الاستقلال الشكلي لا يفيد شيئا طالما أن الجرائم التي ينظمها القانون الجنائي الخاص تخضع لذات المبادىء التي تخضع لها جرائم القانون الجنائي العام. كما أن تميز المصلحة أو المصالح التي يحميها القانون الجنائي الخاص لا يمكن التعويل عليه، لأن جرائم القانون الجنائي العام تحمي هي الأخرى مصالح متعددة ومتميزة ومستقلة عن بعضها. ولا ينهض الاستقلال القاعدي أيضا دليلا على وجود قانون العقوبات الخاص، لأن قانون العقوبات العام يحدد لكل جريمة نموذجها المستقل وأحكامها الخاصة. كما أن الأحكام العامة لذلك القانون تسمح بذلك. فكثيرا ما ينص فيها على المبدأ العام، ثم يردف ذلك بعبارة «إلا إذا وجد نص يخالف ذلك».
وهكذا، يخلص أنصار هذا الاتجاه إلى أنه لا مبرر للتمييز بين القسم الخاص من قانون العقوبات وبين القوانين الجنائية الخاصة؛ إذ القسم الخاص ينبغي أن يتضمن كافة الأفعال المعدودة من الجرائم، سواء وردت في المدونة العقابية أم ورد النص عليها في قوانين خاصة.
ولعل مما يدعم الرأي المعارض للتفريع في قانون العقوبات أن الأمر لم يقتصر على مجرد ظهور بعض الفروع لقانون العقوبات، وإنما بدأت الفروع بدورها تعرف تقسيمات فرعية؛ فالقانون الجنائي للأعمال المالية والاقتصادية بدأت تظهر له فروعا، مثل القانون الجنائي للبنوك والائتمان. وكذلك الحال بالنسبة للقانون الجنائي للشركات الذي يعتبر أحد فروع القانون الجنائي للأعمال التجارية. كما ثار التساؤل عن ماهية بعض الفروع، وما إذا كانت متفرعة عن قانون العقوبات ذاته، أم أنها تتفرع بدورها عن بعض الفروع. فعلى سبيل المثال، ثار التساؤل عما إذا كان القانون الجنائي للعمل يعد فرعا مستقلا بصفة مطلقة، أم أنه يعد فرعا داخل نطاق القانون الجنائي للأعمال بوجه عام. وفي الإجابة على هذا التساؤل، يذهب بعض الفقه إلى أن القانون الجنائي لعلاقات العمل يعد في الأصل فرعا من فروع القانون الجنائي للأعمال. إلا أن هذا الفرع يتمتع بذاتية خاصة، وذلك بالنظر إلى البعد الإنساني لذلك القانون، بطريقة تتصف بالشمولية والاتساع عن نطاق القانون الجنائي للأعمال. كما أن القانون الجنائي لعلاقات العمل يضفي قواعد قانونية جديدة خاصة فيما يتعلق بالمسئولية الجنائية للأشخاص المعنوية. ولا شك أن هذه الإجابة تبعث على الغموض، وتجعلنا ندور في حلقة غير متناهية من التفريعات.
8- الاتجاه الوسطي
يتوسط بعض الفقه بين الرأيين السابقين، مؤكدا أن تعدد القوانين الجنائية بتعدد المصالح التي تحميها لا يتفق مع الدقة العلمية. ذلك أن قانون العقوبات بحسب طبيعته يعالج مصالح المجتمع العديدة المتنوعة، فلا يجوز تجزئته أو تمزيقه إلى عدة قوانين – ولو وردت في تشريعات خاصة – بقدر تعدد هذه المصالح، لأن وحدة قانون العقوبات ترتكز على القسم العام بوصفه الإطار القانوني الذي يجمع قائمة الجرائم التي ينص عليها، إما في مجموعته الأصلية أو في التشريعات الخاصة. وطالما كانت الجرائم المنصوص عليها تدخل في هذا الإطار القانوني، أي تخضع للقسم العام، كانت جزءا من قانون العقوبات، مهما تعددت واختلفت المصالح المعتدى عليها بهذه الجرائم.
وإذا كان الميل إلى التخصص يعتبر في ذاته اتجاها محمودا، فإن المبالغة فيه قد ينبني عليها نتائج غير مقبولة، هي في هذا المقام القضاء على وحدة قانون العقوبات والخروج على أحكامه العامة. ويخلط كثير من الفقهاء بين موضوع قانون العقوبات الخاص وموضوع العلاقة بين قانون العقوبات العام وفروع القانون الأخرى. إن فروع القانون تتعاون جميعا في تحقيق أهداف القانون، الاستقرار والعدالة وحماية المصالح المشتركة، وكل فرع من فروع القانون له جزاءاته الخاصة، ويتدخل قانون العقوبات بجزاءاته الشديدة لمعاونة الفروع الأخرى في احترام قواعدها كلما اقتضى الحال. ومجموعة النصوص التي يتدخل بها قانون العقوبات لمعاونة فرع آخر تخضع في تفسيرها وتطبيقها للأحكام العامة في هذا القانون، لأن الشارع لم يخصها بأحكام متميزة.
ومع ذلك، ثمة تشريعات خاصة أعلنت خروجها على أحكام القسم العام من قانون العقوبات، واستأثرت – بوجه عام – في معالجتها للجرائم والعقوبات بمبادئ عامة متميزة. وفي تعبير آخر، من المصالح ما يتميز بطابع معين يبرر وضع مجموعة خاصة به تكون نظاما مستقلا إلى حد ما عن قانون العقوبات، ويطلق عليها قانون العقوبات الخاص. ولعل أبرز مثال على ذلك يكمن في قانون العقوبات العسكري. إذ يتميز هذا القانون عن قانون العقوبات بأنه ينص على جرائم تتصل بالنظام العسكري، ولا نظير لها في قانون العقوبات. كما ينص على عقوبات غير مألوفة في قانون العقوبات العام. ومن قوانين العقوبات الخاصة أيضا، يذكر هذا الفريق من الفقه قانون العقوبات الاقتصادي. فقد اقتضى التوجيه الاقتصادي إصدار تشريعات متعددة تحد من ارتفاع الأسعار أو تمنع تهريب الأموال أو استيراد السلع بغير ترخيص... الخ. ومن الطبيعي أن تدعم هذه القوانين بجزاءات جنائية لتوفير الحماية لتنفيذ السياسة الاقتصادية. وقد اضطر المشرع في سبيل ذلك إلى الخروج على الأحكام العامة الواردة في قانون العقوبات إلى حد يسوغ معه القول بوجود قانون عقوبات خاص باسم قانون العقوبات الاقتصادي. ومن هذا القبيل كذلك، قانون العقوبات المالي أو الضريبي. ويعني هذا المصطلح مجموعة النصوص التي تحمي مصلحة الخزانة. فهذه النصوص تتضمن قواعد قانونية تختلف إلى حد ما عن الأحكام العامة في قانون العقوبات العام. ففي هذه الأحوال الاستثنائية، لا تتميز هذه التشريعات الخاصة بمجرد نوع المصلحة التي تحميها، وما إذا كانت عسكرية أو اقتصادية أو ضريبية، وإنما تتميز حقيقة بأن لها قسما عاما متميزا عن القسم العام لقانون العقوبات في كثير من المبادئ. ولهذا، يسمى هذا النوع الأخير من القوانين «بقانون العقوبات الخاص» لتمييزه عن «قانون العقوبات العام».
ويحرص أنصار هذا الاتجاه على التنويه إلى أن استقلال قانون العقوبات الخاص لا يعني انفصاله تماما عن قانون العقوبات العام. فهذا القانون هو الأصل العام الذي ينبغي الرجوع إليه لسد النقص، أو استجلاء الغموض في القانون الخاص. ذلك أن قانون العقوبات نفسه يكون جزءا من النظام القانوني يستعين بالفروع الأخرى في المسائل التي لم ينظمه. ولتوضيح هذه العبارة، يمكن أن نلفت النظر إلى العلاقة بين قانون الإجراءات الجنائية وقانون الإجراءات المدنية أو قانون المرافعات كما يطلق عليه في بعض التشريعات. إذ لا ينازع أحد في استقلال كل من القانونين عن الآخر. ومع ذلك، فإن الرأي مستقر فقهاً وقضاءً على أن قانون الإجراءات المدنية يعتبر القانون العام للإجراءات القضائية كافة، المدنية والجنائية على السواء، بحيث ترجع المحاكم الجنائية إلى هذا القانون في كل ما لم يرد بشأنه نص خاص في قانون الإجراءات الجنائية.
وهكذا، يميز أنصار هذا الاتجاه بين قانون العقوبات العام وقانون العقوبات الخاص. ويقوم هذا التقسيم على أساس الاعتداد بذاتية الأحكام التي تخضع لها مجموعة معينة من الجرائم. فإذا أخضع المشرع مجموعة من الجرائم لأحكام قانونية خاصة متميزة – كقاعدة عامة – عن أحكام القسم العام من قانون العقوبات، فإنه يسوغ القول بأن هذه المجموعة تخضع لقانون العقوبات الخاص.
وقريبا من هذا الاتجاه، ينادي بعض الفقه بالتفرقة بين قانون العقوبات العام وقانون العقوبات الخاص. والمعيار الذي يستند إليه هذا التقسيم هو نطاق التطبيق المتعلق بالأشخاص أو بالوقائع. فحيث يكون القانون مطبقا على جميع الأفراد وعلى جميع الوقائع التي تقع تحت سلطانه، فإنه يأخذ صفة العموم. وعلى ذلك فقانون العقوبات الأصلي هو قانون العقوبات العام. أما حيث يكون نطاق تطبيق القانون مقصورا على طائفة معينة من الأفراد بسبب توافر صفات خاصة بهم أو بسبب وجودهم في ظروف معينة، ومقصورا على وقائع محددة بحسب موضوعها أو بسبب شخص مرتكبها أو مكان وقوعها، فهذا القانون يعتبر خاصا. وبعبارة واحدة، فإن قانون العقوبات الخاص هو الذي يحكم التجريم والعقاب بالنسبة لبعض الأفعال ، سواء أكانت واردة أم غير واردة بقانون العقوبات العام، بأحكام تختلف عن الأحكام المنصوص عليها في هذا الأخير. ومثال قوانين العقوبات الخاصة قانون العقوبات المالي وقانون العقوبات الاقتصادي وقانون العقوبات العسكري.
9- الأسباب الداعية إلى إصدار قوانين جنائية خاصة
تتعدد الأسباب الداعية إلى إصدار قوانين جنائية خاصة. وأول هذه الأسباب أن التطبيق العملي لقانون العقوبات قد يظهر بعض جوانب النقص في التشريع الجنائي القائم، بحيث تقتضي الحاجة ضرورة تجريم أفعال أخرى لم يتضمنها قانون العقوبات. وهكذا، كثيرا ما يتدخل المشرع الجنائي حماية لمصالح المجتمع، ويجرم بعض الأفعال التي لم تكن معروفة من قبل بقوانين لاحقة ومستقلة، قد تختلف أحكامها عن أحكام قانون العقوبات الأصلي وقد لا تختلف، وذلك وفقا للغاية التي يهدف إليها المشرع في حمايته للمصلحة العامة.
غير أن التطبيق لا يظهر التشريع الجنائي من تلك الزاوية فحسب، أي عدم قيام المشرع بتجريم بعض الأفعال الجديرة بالعقاب، بل يظهر في زوايا أخرى تتمثل في قصور النصوص القائمة عن تحقيق الغاية منها أو عن قدرتها على ضمان الحماية الكافية للمصلحة المحمية. فقد يبرز التطبيق العملي للقاعدة الجنائية أن الواقعة المجرمة فعلا بنص تشريعي قد يكون لها ثقل معين إذا ما ارتكبت في ظروف خاصة أو من قبل أشخاص معينين لهم صفة خاصة. ومن ثم، قد يجد المشرع من الملائم التدخل وإصدار قانون مستقل يشدد فيه العقوبة أو يخففها، أو يضيف أحكاما جديدة قد تكون مغايرة للأحكام العامة الواردة بقانون العقوبات وقد تكون تطبيقا لها.
وقد يرى المشرع أن يعالج بعض الجرائم في تشريعات خاصة مكملة لقانون العقوبات، وذلك بالنظر إلى أنها تقع اعتداء على مصالح متغيرة أو طارئة، مما يجدر معه عدم وضعها في مجموعة قانون العقوبات حتى لا يصيبه كثير من التعديل أو التغيير. وفي تعبير آخر، يمكن القول بأن من حسن السياسة التشريعية أن يضمن المشرع لمجموعة قانون العقوبات قدرا معينا من الثبات، فلا يتناول أحكامها بالتعديل إلا لضرورة ملحة. ذلك أنه عندما يضع المشرع قانون العقوبات يراعي مبادىء دستورية معلومة استقرت في الأذهان فأصبحت من الأصول المفهومة بحكم الضرورة، قلما تتغير باختلاف الزمان والمكان، بل أنها لم تعد في حاجة إلى نصوص تقررها. واستقرار قانون العقوبات يقتضي أن تقتصر حمايته على المصالح الثابتة، كحق الإنسان في الحياة وسلامة الجسم والملكية... الخ. أما المصالح المتغيرة أو الطارئة، فمن حسن السياسة التشريعية أن يتكفل قانون خاص بحمايتها. ولعل هذا يفسر لنا لجوء المشرع الجنائي في كل الدول – على حد علمنا – إلى إصدار قوانين ملحقة بقوانين العقوبات أو مكملة له، لحماية مصالح خاصة أو متغيرة أو طارئة.
وقد يكون الدافع إلى إصدار قانون خاص هو أن تكون الأفعال الإجرامية الواردة في هذا القانون الخاص مما تنفرد ببعض الإجراءات الجنائية الخاصة، ومن ثم، يرى المشرع إصدار قانون خاص يضم بين دفتيه كلا من الأحكام الموضوعية والأحكام الإجرائية الخاصة بهذه الطائفة من الجرائم.
وقد يكون الهدف من إصدار القانون الخاص سياسيا أو إعلاميا. ولعل أبرز مثال على ذلك يكمن في قانون غسل الأموال وقانون مكافحة جرائم الاتجار في البشر. بيان ذلك أن وزارة الخارجية الأمريكية قد درجت في السنوات الأخيرة على إصدار تقرير عن حالة حقوق الإنسان في العالم.
وقد يكون السبب الدافع إلى إصدار قانون خاص هو وجود تشريع جنائي نموذجي في شأن ذات الموضوع.
وقد يقف أكثر من سبب وراء إصدار قانون جنائي خاص. ولعل أبرز مثال على ذلك يكمن في لجوء المشرع الكويتي إلى إصدار القانون رقم 1 لسنة 1993م بشأن حماية الأموال العامة. ويرى بعض الفقه أن سبب صدور هذا القانون يرجع إلى تفشي بعض السلوكيات الماسة بالأموال العامة في مطلع التسعينيات، خاصة بعد أحداث الغزو العراقي لدولة الكويت في الثاني من أغسطس سنة 1990م. فمع زوال الاحتلال العراقي، وعودة الرقابة البرلمانية على أعمال السلطة التنفيذية، تم اكتشاف بعض حالات الاستيلاء على المال العام المرتكبة بواسطة بعض أصحاب النفوذ، مستغلين غياب وسائل الرقابة التي كان يمارسها مجلس الأمة على المؤسسات العامة، أو الأوضاع التي كانت تمر بها دولة الكويت خلال مرحلة إعادة الإعمار، ومكافحة الآثار المتبقية من الغزو العراقي.
وأبرز مثال على ذلك أيضا عندنا في الجزائر ويتمثل في قانون الوقاية من الفساد، فكلنا يعرف أن هذا القانون الذي تناول كثيرا من الجرائم التي كانت منظمة بقانون العقوبات، مع تعديلات يسيرة، وكذلك إضافة بعض الجرائم الأخرى، والسبب هو تفشي ظاهرة الفساد، وقد يكون السبب سياسيا كما سبق البيان.
وقد يعالج التشريع موضوعا معينا، متضمنا الأحكام القانونية المنظمة له من جميع جوانبه، سواء كانت إدارية أو تنظيمية. وفي هذه الحالة، قد يرى المشرع من الملائم الاستعانة بسلاح التجريم والعقاب لإضفاء الفعالية على أحكامه، فينشئ جرائم ويضع عقوبات لمخالفة القواعد الجوهرية في هذا التشريع. ومن قبيل ذلك، التشريعات المتعلقة بالمرور، والجمارك، والضرائب، والتموين، والشركات، والصيد، والزراعة، والعمل والتأمينات الاجتماعية، والتجارة، ودخول وإقامة الأجانب، والأحوال المدنية، والمباني والتخطيط العمراني، والملكية الفكرية، وغيرها من التشريعات الخاصة المنظمة لمجالات شتى غير جنائية بطبيعته.
وأيا ما كان السبب وراء صدور القانون الجنائي الخاص، فإننا نجد أنفسنا أمام قوانين قائمة بذاتها إلى جانب قانون العقوبات الأصلي. وعن هذه القوانين القائمة بذاتها، يتحدث الفقه عما يسمى «بقانون العقوبات التكميلي» الذي يشمل جميع القوانين التي تتناول بالتجريم والعقاب أفعالا لا تندرج تحت نصوص قانون العقوبات الأصلي، أو يتضمن قواعد جنائية خاصة غير موجودة بالقانون الأصلي. والفرض أن قانون العقوبات التكميلي يكمل قانون العقوبات الأصلي، ومنهما معا يتكون النظام القانوني الجنائي.
10- حول تسمية القانون الجنائي العسكري
إن عبارة القانون الجنائي الخاص غالبا تطلق على ذلك الفرع من الدراسة الذي يتناول آحاد الجرائم ويفصلها، سواء بعد ذلك وردت في قانون العقوبات أو القوانين التكميلية مادام أن الدراسة ستتناول الجريمة كما تناولها المشرع بكل خصوصياتها، وليس بالضرورة أن تكون متسقة مع قواعد قانون العقوبات العامة.
أما عبارة قانون جنائي خاص، فقد تطلق على نص قانوني واحد يتميز باستعماله للجزاءات الجنائية، كما قد يتميز باستعماله لإجراءات جزائية خاصة غير تلك المعروفة في قانون الإجراءات الجزائية المعمول به، وسواء بعد ذلك سماه المشرع بذلك الاسم أم سماه الفقه، فقد ينص المشرع على قانون الجمارك بينما يتحدث الفقه عن القانون الجنائي الجمركي، وقد يسمى القانون بقانون البيئة بينما يدرس الفقه القانون الجنائي البيئي.
أما ما يسمى القانون الجنائي العسكري فهو يتعلق بنص قانون القضاء العسكري، ويبدو أن المشرع لم يسمه قانون العقوبات العسكري لأنه يتضمن الجانب الموضوعي والإجرائي معا، وما العقوبات إلا جزء يسير منه، ومن هنا فلا يسوغ لنا أيضا تسميته بقانون العقوبات العسكري مع أن هذه التسمية هي الأقرب وفقا للتحليل الذي رأيناه، ولذلك فدراستنا للقانون الجنائي العسكري ستكون على أساس اعتباره قانونا جنائيا خاصا يلحق بقانون العقوبات العام، وذلك بالنظر إلى اعتبارات عديدة سنراها لعل أهمها أن هذا القانون وإن كان يخص العسكريين فإنه لا يمنع بتاتا من أن يمثل أمامه غير العسكريين، ومن ثمة فهو قانون بقدر ما له من خصوصيات واستثناءات فله أيضا قسم كبير من القواسم المشتركة مع قانون العقوبات العام.