-------------------------------------------
-------------------------------------------
خطة الفصل الأول: مذاهب وأنواع وطرق التفسير
المبحث الأول: مذاهب التفسير
المبحث الثاني: أنواع التفسير
المبحث الثالث: أسباب التفسير
المبحث الرابع: طرق التفسير
-------------------------------------------
-------------------------------------------
المبحث الأول
مذاهب تفسير القانون
تمهيد: القاضي يطبق القانون أي ينظر في أي القواعد القانونية ينطبق على الحالة المعروضة أمامه فيطبقها، ولكنه وهو بصدد التطبيق في حاجة إلى تفسير تلك القواعد، سواء من خلال الألفاظ ذاتها أو من خلال المعاني الكامنة وراء الألفاظ، وذلك بحسب ما يسمح له النظام القانوني، ذلك أن مذاهب التشريعات في مسألة التفسير تختلف، فمنها ما تلتزم النص وحرفيته، وهي مدرسة التزام النص أو مدرسة الشرح على المتون (المبحث الأول)، ومنها ما تبحث في إرادة المشرع المحتلمة وقت تطبيق النص بحسب تغير الظروف والأحوال، وهي المدرسة الاجتماعية أو الواقعية أو التاريخية (المبحث الثاني)، ومنها ما تعتمد على مجموعة من المصادر الأخرى التي يبحث فيه القاضي عن الحل الملائم بكل حرية، وهي مدرسة البحث العلمي الحر أو المدرسة العلمية (المبحث الثالث)
المطلب الأول
مدرسة التزام النص
الفرع الأول
تاريخ ظهور مدرسة الشرح على المتون
ظهرت هذه المدرسة عقب صدور التقنينات الفرنسية (تقنينات نابليون)، أي حوالي سنة 1804، وسادت في فرنسا حتى أواخر القرن التاسع عشر، حيث نظر الفقهاء إلى نصوص القانون نظرة تقديس واحترام، وساد اعتقاد بأن تلك النصوص تشمل كل القواعد اللازمة لتنظيم حياتهم، ربما على اعتبار أن تلك التقنينات كانت قد استوعبت ما كان سائدا من التشريعات والأعراف والتقاليد وأحكام القضاء في فرنسا، وبالتالي فقد اعتبرت في غاية الإبداع في الصياغة والدقة، كما أنها قد احتوت تراثا قانونيا ضخما.
إن نظرة الانبهار هذه أدت إلى نتائج في غاية الأهمية، ومنها اعتبار التشريع المصدر الوحيد للقانون، ثم ظهور فئة من الشراح قاموا بشرح نصوص القوانين مادة مادة، لذلك سميت هذه المدرسة مدرسة الشراح أو مدرسة الشرح على المتون، وذلك بجعل النصوص متنا وكتابة تعليقات عليها في شكل حواش أو هوامش، حتى أنهم يتقيدون بترتيب النصوص، فيشرحونها مادة بعد مادة، ثم إن بعض هؤلاء الشراح راح يغالي بطريقته في الشرح ومدى التزامها بألفاظ القانون، وعدم خروجها عنه، مثلما فعل ديمولومب الذي راح يفتخر بأنه يتابع النص خطوة خطوة، وأنه بذلك يصل إلى تفكير المشرع، وهو يستطرد قائلا: إن شعاري وعقيدتي أيضا هي: النصوص قبل كل شيء.
وقد مرت هذه المدرسة بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة التكوين (1804 – 1820)، بدأ فيها شرح النصوص كما ذكرنا سابقا نصا نصا، ولم يكن لهم من مرجع سوى نصوص القانون وأعماله التحضيرية.
المرحلة الثانية: مرحلة الازدهار (1830-1880)، عقب مرور رابع قرن تقريبا على وضع تقنينات نابليون بدأت تظهر الحاجة إلى تكملة بعض النقص في النصوص، ولكن الفقهاء لم يتجاوزوا في تفسير النصوص ما كان سائدا من قبل، وذلك بالبحث عن إرادة المشرع الحقيقية، فإن لم يتسن إيجادها فإنهم كانوا يفترضونها افتراضا، وهذا بزعمهم حفاظا على قدسية التشريع والدقة والثبات في الأحكام.
المرحلة الثالثة: مرحلة الانهيار (1880-1900)، اهتم الفقهاء بدراسة أحكام القضاء واعتمادها في شرح النصوص، كما اهتموا بالقانون المقارن، ومن هنا تزعزعت أسس مدرسة الشرح على المتون لتظهر مدرسة أخرى هي المدرسة التاريخية.
الفرع الثاني
مبادئ مدرسة الشرح على المتون
1- تقوم هذه المدرسة على تقديس التشريع، واعتبار النص التشريعي المصدر الوحيد للقانون، وأن قواعد القانون شاملة لكل ما يلزم لتنظيم حياة الناس، وعلى القاضي عندما يعرض عليه نزاع أن يستعرض نصوص التشريع، ويبحث فيه وحده عن الحكم واجب التطبيق، فإن لم يجد فالعيب ليس عيب المشرع بل هو عيب القاضي أو المفسر الذي لم يحسن التفسير، وذلك باعتماد ألفاظ النص ودلالاتها المباشرة والقريبة، والبحث فيها عن إرادة المشرع وقت وضع النص، ولا بأس باعتماد القياسات المنطقية، واللجوء إلى الأعمال التحضيرية والمصادر التاريخية، وكما ذكرنا من قبل فإن منهج هذه المدرسة تطور فيما بعد ليسمح بالبحث في الإرادة المفترضة للمشرع إن لم يتم إيجاد الإرادة الحقيقية.
2- هناك الكثير من القواعد التي يعتمد عليها منهج التفسير الحرفي منها: رفع التعارض بين النصوص لأن لا يجوز أن ينسب التناقض إلى المشرع، وأن المطلق يجري على إطلاقه إذا لم يقم دليل التقييد نصا أو دلالة، وقاعدة وجوب تفسير النصوص الاستثنائية تفسيرا ضيقا، وقواعد المنطق كالاستنتاج والقياس والمفهوم المخالف والحجة أو القياس من باب أولى والتي سنتعرف عليها لاحقا.
مثال تطبيقي لفهم بعض المصطلحات
نص القانون المدني الفرنسي في مادته 1554 على عدم جواز التصرف في العقار الذي تقدمه الزوجة مهرا لزوجها، وذلك حتى يتسنى للزوجة أو ورثتها استرداد تلك العقارات في حالة انتهاء الزواج مثلا، ولم يتعرض المشرع للمنقول، بل هو يخص العقار فقط، وذلك على اعتبار أن المنقول لم تكن له أهمية وقت تقنين المجموعة الفرنسية، وكان العقار هو عماد الثروة، وإذا افترضنا أن نزاعا حدث بشأن منقول بعد ذلك فإن القاضي يكون أمام 03 احتمالات:
الأول: أن يأخذ بالإرادة الحقيقة للمشرع وهي غير واضحة إذ يلزم الرجوع إلى الأعمال التحضيرية أو الأصول التاريخية أو غير ذلك مما يمكن أن يرشد إلى تلك الإرادة.
الثاني: أن يأخذ بالإرادة المفترضة للمشرع وقت وضع التشريع، ويمكن استخلاصها من النص، فالنص يتحدث بكل صراحة عن العقار، وبالتالي فهذا يفترض أن المنقول غير معني، وأنه يجوز التصرف فيه، إذ لو أراد المشرع أن يساوي بين المنقول والعقار لنص على ذلك، وهذا ما يأخذ به مفسرو مدرسة الشرح على المتون.
الثالث: أن يأخذ بالإرادة المحتملة للمشرع وقت تطبيق النص، وبالتالي يأخذ في عين الاعتبار أن المنقول أصبح لا يقل أهمية عن العقار في وقتنا الحاضر، وأن المشرع لو أراد أن يضع النص في وقت تطبيق النص لكان من المحتمل جدا أن يسوي بين العقار والمنقول في حكم عدم جواز التصرف، ولكن هذا النوع من التفسير لا يقبل به أصحاب مذهب التزام النص، وإنما هو المنهج الذي جاءت به المدرسة الموالية وهي المدرسة التاريخية.
الفرع الثالث
نقد مدرسة الشرح على المتون
1- المزايا:
- مما يسجل إيجابا لهذه المدرسة الثبات على النص، مما يكفل استقرار التشريع، ويحقق أيضا عدالة نسبية، أي نفس العدالة لكل الأشخاص في كل الظروف والأحوال، وتقليل مسافة الشقة بين المفسرين.
2- العيوب:
- القول بشمول التشريع يتعارض مع الحقيقة البديهية وأن التشريع ناقص نقص البشر ذاتهم، وكذلك بسبب التطور والتغير المستمر الذي يمنع صمود التشريعات والقوانين في وجهها.
- إن هذه المدرسة لم يعد لها وجود، ولم يعد مقبولا القول بكون التشريع مصدرا وحيدا للقانون.
- إن القول بشمول التشريع رغم محدودية عدد النصوص يؤدي في النهاية إلى تحميل النصوص أكثر مما تطيق والتكلف في تفسيرا بحثا عن الحلول بدلا من الاعتراف بعدم وجود نص مثلا.
- وأخيرا فإن هذا المذهب يؤدي إلى الجمود وعدم مواكبة التطور وعدم الانسجام مع حاجات الناس المتجددة.
المطلب الثاني
المدرسة الاجتماعية
الفرع الأول
تاريخ هذه المدرسة
يطلق عليها أيضا مدرسة التطور التاريخي، بدأت ملامحها تظهر في القرن الثامن عشر في كتابات بعض الكتاب، مثل مونتسكيو في كتابه "روح الشرائع" والذي اعتبر أن القوانين ما هي إلا نتيجة العوامل المختلفة في البيئة، وأن القوانين ينبغي أن تكون خاصة بالشعب الذي توضع له، وأن تناسب طبيعة البلد، وطبائع الشعب وعاداته وميولاته ودياناته وأخلاقه وسياسته واجتماعه، ومن ثمة تختلف القوانين من أمة إلى أخرى، إلا أن هذا المذهب لم تكتمل معالمه إلا على يد الفقيه الألماني سافيني الذي جاء بهذه الأفكار خلال محاولته وضع تقنين مدني لألمانيا على غرار تقنين نابليون (حوالي سنة 1814).
وخلاصة رأي هذا المذهب أنه يجب التعامل مع النص القانوني بحيث يتلاءم مع الأحداث الجديدة، وغير المتوقعة، حتى لو أدى ذلك إلى تحوير القانون القديم، فتفسير القوانين لا يتم بالاعتماد على إرادة المشرع وقت وضعها، وإنما بالاستناد إلى الضرورات والتغيرات التي ترتبط بوقت تطبيقها، وبعبارة أخرى أن التفسير لا يعتمد على النص بقدر ما يعتمد على الحاجات الاجتماعية القائمة وقت التطبيق، وفي هذا الصدد يقول فقهاء هذه المدرسة "الاجتهاد يملك النصوص"، و"نتجاوز القانون المدني بواسطة القانون المدني".
الفرع الثاني
أسس المدرسة الاجتماعية
1- ينطلق أنصار هذه المدرسة من النصوص ذاتها بغية الوصول إلى ما وراءها من معاني وأحكام.
2- التشريع مستقل عن إرادة المشرع بمجرد وضعه، ومن ثمة فهو يعيش حياته المستقلة في الجماعة والتي تخضعه لحاجاتها المتجددة.
3- التفسير مرتبط بوقت التطبيق لا بوقت وضع النص، أي بالتفسير الذي يحتمل أن يعطيه المشرع للحالة التي حدثت في وقتها فيما لو خول وضع النص ضمن الظروف والمعطيات الجديدة.
مثال تطبيقي
جاء القانون رقم 121 لسنة 1947 في مصر ليمنع الإيجار من الباطن، أو تحويل عقد الإيجار دون إجازة صاحب الملك، إلا أنه بعد حوالي تسعة عشر سنة أي في سنة 1966 حصل نزاع خلاصته أن مستأجرا أعطى شقته التي استأجرها لأخيه، لكن صاحب الملك عارضه ورفع ضده دعوى بإخلاء المسكن من الشاغل الجديد.
نظرت المحكمة في القضية فوجدت أن الأوضاع الاجتماعية التي كانت سائدة وقت وضع التشريع قد تغيرت، وأن أزمة السكن التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية أجبرت المشرع على اتخاذ إجراءات تحمي حقوق الطبقة البرجوازية عن طريق تحديد عقود الإيجار ومنع الإيجار من الباطن، لكن خطوة المجتمع نحو الاشتراكية أحدثت تحولات جذرية، وقد أصبح لازما تلاؤم القانون مع هذا التحول، ومن ثمة تم تفسير النص القديم بأنه يهدف إلى منع استغلال المستأجر القديم من استغلال الشاغل الجديد، وهو ما لا ينطبق على قضية الحال، والتي لا يوجد فيها أي استغلال إذ أن المستأجر تنازل لأخيه عن الإيجار بنفس الشروط الأصلية التي تربطه بالمالك.
مثال آخر
إن نظرية الظروف الطارئة تعتبر مثالا حيا لمنهج هذه المدرسة في التفسير، وملخص هذه النظرية التي أخذ بها المشرع الجزائري في المادة 107 من القانون المدني الجزائري أن الأصل في التعاقد أن المتعاقدين لهما الحرية في إنشاء الالتزامات ولإرادتهما كامل السلطان في ذلك وفق قاعدة العقد شريعة المتعاقدين أو مبدأ سلطان الإرادة، وبالتالي لا يجوز لأحد الطرفين دون موافقة الطرف الثاني تعديل الالتزامات أو التنصل منها، ولكن بعض الظروف الطارئة والتي تتسم بالعموم كالزلازل والفيضانات والكساد والحرب قد تؤدي إلى إرهاق أحد المتعاقدين بما يؤدي إلى زيادة التزاماته بشكل كبير يختلف عن الوضع عند التعاقد، فيجوز للقاضي حينئذ أن يقوم بتعديل التزامات الطرف المرهق إلى حد معقول.
وقد بدأت هذه النظرية في رحاب القضاء، وبالتحديد من طرف مجلس الدولة الفرنسي في قضية غاز بوردو، وملخصها أن بلدية بوردو تعاقدت مع شركة للغاز على أساس سعر معين، لكن ظروف الحرب أدت إلى زيادة سعر الفحم ما جعل الشركة تتكبد خسائر جراء تعاقدها، ومن ثمة لجأت إلى مجلس الدولة الذي قرر تعديل السعر أو التعرفة المتفق عليها سابقا بناء على تغير الظروف، ثم تحولت هذه النظرية من تطبيقها في نطاق القانون الإداري إلى القانون المدني أيضا بعدما كانت محكمة النقض الفرنسية ترفض رفضا تماما هذه الفكرة وتلتزم النص بحرفيته.
الفرع الثالث
تقويم المدرسة الاجتماعية
1- خرجت هذه المدرسة بالتفسير من وظيفته الأساسية باعتباره بيانا للنص، وجعلته تعديلا أو إلغاء لنصوص التشريع، وخلقا لقواعد جديدة، وبالتالي قضت على ما يكون في القانون من تحديد وثبات واستقرار، وفسحت المجال لتحكم القضاة، ويرى بعض الفقهاء أن هذه الطريقة في التفسير اعتداء على الوظيفة الدستورية للقانون المكتوب، وبعبارة أخرى أن فيها عدوانا على مبدإ الفصل بين السلطات باعتبار أن وظيفة القضاء هي تطبيق القانون لا إنشاؤه.
2- يؤخذ على هذه المدرسة مغالاتها في ربط القانون بالبيئة، وإغفال دور الإرادة الواعية للإنسان في توجيه أحكام القانون كلما رأى ضرورة لذلك بدلا من القفز على تلك الإرادة.
3- يؤخذ عليها أيضا المبالغة في دور العرف كمصدر للقانون، ولا يخفى أن دور العرف قد انحسر إلى حد كبير لصالح التشريع الذي صار يحقق مزايا كثيرة لا يحققها العرف، هذا الأخير كما نعلم بطيء التكوين وبالتالي فهو أقل قدرة على مسايرة التطور الحاصل في المجتمع، والتشريع هو الذي يحقق هذه الميزة.
المطلب الثالث
مدرسة البحث العلمي الحر
الفرع الأول
أسس مدرسة البحث العلمي الحر
- ظهرت هذه المدرسة عندما أخرج صاحبها الفقيه الفرنسي فرانسوا جيني مؤلفه عام 1899 بعنوان: "طرق تفسير القانون الخاص الوضعي ومصادره".
- تتفق هذه المدرسة مع مدرسة الشرح على المتون في احترامها للنص القانوني، وفي أن التفسير يجب أن يتم وفقا لإرادة المشرع الحقيقية وقت وضع التشريع، وتخالفها فيما يتعلق بالبحث عن النية المفترضة للمشرع عند عدم التعرف على إرادة المشرع الحقيقية، بل يتوجب حيئنذ على المفسر أن يعترف بعدم وجود حل في التشريع، وأن يبحث عن هذا الحل في مصادر أخرى كالعرف، فإن لم يجد حلا في العرف فإنه يلجأ إلى البحث العلمي الحر، فهذه المدرسة لا تؤمن إذن بكمال التشريع، بل تؤمن على العكس بنقصه، وبضرورة إكمال هذا النقص بالرجوع إلى المصادر الأخرى للقانون، وفي مقدمتها العرف.
- وعلى خلاف المدرسة الاجتماعية فإن هذه المدرسة تقوم على بيان إرادة المشرع كما هي دون تحوير أو تحويل أو تعديل أو تطوير لإخضاعها لأي ظروف اجتماعية ما بدعوى تطور القانون ومسايرته للواقع.
- أما المصادر التي يلجأ إليها المفسر فهي عديدة لخصها الفقيه جيني في العناصر والعوامل المختلفة التي تساهم في خلق القانون والتي هي مادته الأولية، وهي الحقائق الطبيعية والتاريخية والعقلية والمثالية، وبناء على هذه الحقائق يخلق القاضي القاعدة القانونية ليطبقها على الحالة المعروضة عليه، وحسب جيني فالقاضي لا يصبح مشرعا حين يفعل ذلك، فالحل الذي سيهتدي إليه لا يتحول إلى قاعدة قانونية ملزمة، وقد سمى جيني هذا البحث حرا لأن القاضي يتحرر من أية سلطة وضعية يستمد منها الحل، وسماه علميا لأن المفسر يتحاشى فيه كلية أفكاره الذاتية وتصوراته الشخصية، بل يستقي الحقائق من العلم وحده.
- وخلاصة مذهب جيني أن المفسر يبحث عن إرادة المشرع الحقيقية بجميع الوسائل اللغوية والمنطقية، فإن لم يصل إليها فعليه أن يستوحي الأصول التي تمثل جوهر القاعدة القانونية، ويتغلغل في طبيعة الأشياء ليصل إلى الحل المطلوب، فالقاعدة القانونية عند تحليلها نجد أنها تشكل من عنصرين: عنصر موضوعي مستمد من حقائق علمية، ويكشف عنها العلم، وعنصر شكلي يتمثل في البناء والصورة أو الصياغة التي يظهر بها النص، والبحث العلمي الحر يكشف عن القاعدة كما تكشف عنها الألفاظ في حالة وضوح النص.
الفرع الثاني
تقويم مدرسة البحث العلمي الحر
- هذه المدرسة حاولت تجنب عيوب المدرستين السابقتين والأخذ بإيجابياتهما، فقدست النص والتزمت به وبتفسيره على مقتضى قصد المشرع عند وضع النص، وخالفت المدرسة الاجتماعية في ذلك، ثم هي اتبعت المنهج العلمي الحر في معرفة الحكم عند عدم وجود النص مخالفة مدرسة التزام النص التي تقول بكمال التشريع، أما المدرسة العلمية فتقول بأن المسائل التي لا نص فيها موجودة، وأن القاضي يتقمص دور المشرع دون أن يكون مشرعا، فيكون دوره هو الرجوع إلى عوامل تكوين القاعدة القانونية المتمثلة في حقائق معينة يتم الوصول إليها بالبحث العلمي الحر، وذلك وصولا إلى حل النزاع المعروض أمامه دون أن يكون هذا الحل ملزما له في مرات أخرى، ولا لغيره من باب أولى.
- رغم ذلك فهذه المدرسة لم تسلم من النقد لأن ما يقوم به القاضي هنا هو تشريع وحلول محل المشرع، كما أنه مناف للعدالة والمساواة بما أن القاضي يحق له أن يقضي في نزاع ما بقضاء معين ثم يتراجع عنه في نزاع مماثل، فتختلف الحلول رغم تشابه الحالات.
المبحث الثاني
أنواع التفسير
المطلب الأول
التفسير التشريعي
الفرع الأول
مفهوم التفسير التشريعي
هو التفسير الذي يصدر من المشرع ذاته لبيان حقيقة المقصود من تشريع سابق، فهو يصدر من المشرع نفسه تفسيرا لقانون سابق اختلفت المحاكم حول فهم المعنى الذي قصده المشرع، ذلك أن المحاكم قد تختلف في فهم بعض النصوص، ويؤدي هذا الاختلاف إلى تضارب في الأحكام بشأن الحالات المتماثلة، فيتدخل المشرع بإصدار قانون يوضح فيه قصده ويضع بالتالي حدا لذلك الخلاف، ويسمى هذا القانون الذي يصدر تفسيرا لتشريع سابق القانون التفسيري أو القانون المفسِر، والأصل أن يصدر هذا القانون من نفس الجهة التي أصدرت القانون المفسَر، وفق قاعدة توازي الأشكال، إلا أن بعض الدول تخول وتفوض جهات أخرى للقيام بتفسير القوانين، مثل المحكمة الدستورية العليا في مصر التي لها اختصاص بتفسير القانون.
الفرع الثاني
خصائص التفسير التشريعي
- من حيث المصدر: يتميز التفسير التشريعي بأنه من وضع جهة التشريع ذاتها التي سنت التشريع الأصلي موضوع التفسير، سواء كانت هي السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية.
- من حيث قوة الإلزام: يعتبر التفسير التشريعي ملزما للقضاء، وكافة الهيئات القضائية والتنفيذية الملزمة بتطبيقه وتنفيذه، وهو يتمتع بقوة إلزام مساوية للقوة الإلزامية للتشريع الأصلي لأن الجهة المصدِرة واحدة.
- من حيث الأثر الرجعي: يعتبر القانون التفسيري قد صدر ويبدأ سريانه من يوم سريان التشريع الأصلي، لذلك فهو يطبق على جميع الوقائع التي حدثت منذ ذلك التاريخ ما لم يصدر حكم قضائي بشأنها، أي أنه يطبق بأثر رجعي دون حاجة إلى النص على ذلك.
المطلب الثاني
التفسير القضائي
الفرع الأول
مفهوم التفسير القضائي
التفسير القضائي هو مجموعة المبادئ العامة التي تستخلص من أحكام المحاكم عند تطبيقها القانون فيما يعرض عليها من منازعات للفصل فيها، والأصل أن هذه العملية هي عملية روتينية تحدث قبل تطبيق أي نص من طرف القضاة باعتبار أن ذلك العمل هو من صميم عملهم في تطبيق القانون، ولذلك فالقضاة أنفسهم قد لا يفسرون القانون بطريقة واحدة، وهنا يأتي دور المحكمة العليا في توحيد التفسير وتوحيد الاجتهاد القضائي عن طريق نقض الأحكام التي تخالف التفسير السليم للقانون، مما يجبر الجهات الدنيا للقضاء على احترام ذلك التفسير والعمل به.
فالحديث عن التفسير في الحقيقة هو الحديث عن التفسير القضائي والذي يكون بالتزام النص أولا ثم مصادر القانون الأخرى التي ينص عليها القانون باعتماد قواعد التفسير وطرقه الداخلية منها والخارجية ثم بالاسترشاد بالتفسير القضائي السابق وبالفقه.
الفرع الثاني
خصائص التفسير القضائي
- من حيث المصدر: يصدر عن المحاكم أثناء نظرها في الخصومات وهي بصدد تطبيق القوانين على تلك الخصومات، فيختلف عن التفسير التشريعي الذي يكون مصدره المشرع.
- من حيث قوة الإلزام: لا يعتبر التفسير القضائي ملزما للقاضي ولا لغيره من القضاة، ولا لأي جهة تفسر القانون أو تطبقه، ويعتبر القضاء في كثير من الدول مصدرا استرشاديا للقانون يلجأ إليه القاضي عند عدم وجود المصادر الأساسية والاحتياطية، أما القانون الجزائري فهو لم ينص على ذلك، ولكن المعمول به أنه مصدر استرشادي، وهذا انطلاقا من اعتبارات عديدة، فالمبادئ العامة للقانون غالبا هي مبادئ قضائية استقر عليها القضاء زمنا طويلا، والراجح أن هذه المبادئ تعتبر مصدرا للقانون، وهي مبادئ غير مشرعة، وتتميز بالبطء في تكونها، ويستخلصها القضاء من المقومات الأساسية للمجتمع وقواعد التنظيم القانوني في الدولة، وتعتبر قواعد ملزمة، وقد اختلف الفقه والقضاء في مرتبة المبادئ العامة للقانون، فاعتبرها في مرتبة أسمى من التشريع أي أنها تكون في مرتبة القواعد الدستورية، وهو الراجح.
- (ملاحظة راجع محاضرة مستقلة حول المبادئ العامة للقانون في هذا الموقع)
ينبغي الإشارة إلى أن منزلة القضاء كمصدر للقانون يرجع إليه القاضي في التفسير يختلف باختلاف النظام القانوني المتبع في الدول التي تأخذ بالسابقة القضائية وتلك التي لا تأخذ بها، ففي الدول ذات النزعة الأنجلوسكسونية (بلاد السوابق القضائية) مثل إنكلترا ونيوزيلندا وجنوب إفريقيا وأستراليا وبعض الولايات في أمريكا للقضاء دوره البارز في خلق القواعد القانونية فتعتبر كمصدر رسمي للقانون، لأن كل محكمة قضائية ملزمة بالحكم الذي سبق أن أصدرته في قضية معينة عندما تعرض عليها قضايا مماثلة لاحقا، أي أن الأحكام التي تصدرها تعد سابقة قضائية تلتزم بها في المنازعات المماثلة الأخرى التي تعرض عليها، كما تلتزم بها المحاكم الأخرى الأدنى منها درجة أو التي تماثلها في الدرجة، إذ لا يجوز مخالفة السابقة القضائية أو الامتناع عن تطبيقها في القضايا المماثلة شأنها في ذلك شأن القواعد المشرعة، ولكن قضاء المحاكم الدنيا لا يلزم المحاكم الأعلى منها درجة.
واهتمام الانجليز بالسوابق القضائية يعود في الحقيقة إلى أن القانون الانجليزي غير مقنن، وإنما نشأ أساسا من العرف، وثبت وتطور بفضل أحكام القضاء منذ القرن الثالث عشر حتى تكونت لديهم ثروة ضخمة من السوابق القضائية التي لها قوة القانون.
أما في الدول ذات النزعة اللاتينية كفرنسا والدول التي تحذو حذوها مثل بلجيكا وإيطاليا وألمانيا والنمسا وهولندا وسويسرا وبعض الدول العربية كالأردن والعراق وسوريا فإن القانون ينشأ بالتشريع لا بالسابقة القضائية، ولذلك تعرف ببلاد القانون المكتوب، وتنحصر وظيفة القضاء فيها في تطبيق القانون طبقا لمبدأ الفصل بين السلطات، ولا يعد القضاء مصدرا رسميا للقانون، ولا تعتبر السابقة القضائية ملزمة لنفس المحكمة التي أصدرتها ولا للمحاكم التي تماثلها أو الأدنى منها درجة، بل يعتبر القضاء في مثل هذه الدول في الغالب مصدرا تفسيريا أو استئناسيا أو استرشاديا، يستأنس به القاضي فقط عند تطبيقه للقانون، ويسترشد به عند تقصي مفهوم القاعدة القانونية دون أن تكون له قوة إلزام، فلا تلتزم بتطبيق الحل الذي تأخذ به في المستقبل، ومن حق المتقاضين أن يدعموا حججهم بتلك السوابق القضائية وبقضاء المحكمة العليا، وذلك لأجل إقناعه وليس لإلزامه بتطبيق تلك السوابق، ومن الناحية العملية فإن أحكام المحكمة العليا تحظى باحترام كبير من طرف المحاكم الدنيا، وذلك على اعتبار أن الأحكام التي لا تراعي اجتهادات المحاكم العليا ستتعرض للنقض بسهولة إذا تم الطعن فيها أمام المحكمة العليا، ولكن ذلك لا يعني إلزاميتها على أساس أن المحكمة العليا نفسها كثيرا ما تقوم بتغيير اجتهادها وتفسيرها للقانون ولا تلتزم به هي ذاتها.
المطلب الثالث
التفسير الفقهي
هو التفسير الذي يصدر من فقهاء القانون، وغايته توجيه النص القانوني إلى تحقيق غرضه الاجتماعي كجزء من التنظيم القانوني، بقصد الوصول إلى الحكم الذي قصده المشرع في النص من خلال تناولهم نصوص القانون بالبحث والنقد والتفسير والشرح ضمن مؤلفاتهم وبحوثهم.
والتفسير الفقهي يعد أوسع أنواع التفسير لأنه لا يتقيد بواقعة معينة كما في التفسير القضائي الذي لا يندفع إليه القاضي إلا بمناسبة ما يعرض من منازعات واقعية بهدف حسمها، فالفقيه غير مقيد بقضية واقعية معينة، وإنما يتناول القواعد القانونية بالشرح والنقد والتفسير بوجه عام دون أن تكون هناك منازعات واقعية معروضة عليه لغرض التعرف على حكم القانون فيها.
فالفقيه يستهدف استخلاص قواعد عامة، ويستعين في تفسيره بقواعد المنطق السليم المجرد والبحث النظري، ويتجه نحو النزعة الفلسفية أكثر من الاعتبارات العملية لتأثره بالأصول النظرية، وهذا ما يميز تفسيره عن تفسير القاضي الذي يعتمد على الناحية العملية لتأثره بالاعتبارات الواقعية، أي يعمد الفقيه في تفسيره إلى التأصيل العلمي والمنطقي، ويعتمد ما يؤدي إليه هذا التأصيل من نتائج نظرية دون النتائج العملية التي يؤدي إليها تطبيق التشريع.
المبحث الثالث
أسباب التفسير
(ملاحظة هذا الموضوع أي أسباب التفسير غير مطلوب)
المبحث الرابع
طرق تفسير القانون
المطلب الأول
الطرق الداخلية للتفسير
هي طرق مستمدة من الأساليب والقواعد اللغوية التي كتب بها النص ذاته.
الفرع الأول
الاستنتاج بطريق القياس
يكون بتطبيق حكم (قانوني) وارد بشأن حالة معينة (وضعية، نزاع) على حالة أخرى لم ينص القانون على حكمها، وذلك لوجود الشبه الأكيد بين الحالتين (أو كما يعبر علماء أصول الفقه الإسلامي للاتحاد بينهما في السبب أو العلة)
مثال: إذا كان قانون الأسرة الجزائري ينص في المادة 135 منه:" يمنع من الميراث الأشخاص الآتية أوصافهم:
1) قاتل المورث عمدا أو عدوانا سواء كان القاتل فاعلا أصليا أو شريكا ... إلخ
يمكن القياس على ذلك من يقتل من أوصى له فإنه لا يستحق الوصية وذلك لاتحاد العلة في الحالتين، وهي أن الحرمان كان بسبب استعجال الميراث أو الوصية فيعاقب من تعجل الأمر قبل أوانه بحرمانه.
ملاحظة: هذا إذا لم يوجد النص، وفي المثال السابق هناك نص صريح هو نص المادة المادة 188 : لا يستحق الوصية من قتل الموصي عمدا.
الفرع الثاني
الاستنتاج بطريق القياس من باب أولى
ويكون بتطبيق حكم قانوني وارد بشأن حالة معينة على حالة أخرى لم ينص القانون على حكمها لا لأن العلة متشابهة في الحالتين بل لأنها في الحالة غير المنصوص على حكمها (الحالة الثانية) تتوافر بأشد وأكثر وأحد مما هي متوافرة في الحالة الأولى (المنصوص على حكمها).
مثال: إذا كان القانون ينص على أن من يقتل زوجته حال مفاجأتها متلبسة بالزنا يستفيد من الأعذار القانونية (الإعفاء من العقاب) فإن ضرب الزوجة ضربا يتسبب لها في إحداث عاهة مستديمة يستفيد فاعله من نفس حكم الإعفاء من باب أولى.
ملاحظة: قانون العقوبات الجزائري نص على إفادة فاعل القتل كما فاعل الضرب والجرح من الأعذار القانونية في حالة التلبس بالزنا في المادة 279 منه.
الفرع الثالث
الاستنتاج من المفهوم المخالف للنص (مفهوم المخالفة)
يقصد به إعطاء حالة غير منصوص على حكمها في القانون حكما مخالفا لحالة أخرى منصوص عليها لاختلاف العلة فيهما (وليس اتفاقها)، أو لأن الحالة الأولى هي جزء من أجزاء الحالة الثانية.
مثال: تنص المادة 369 من القانون المدني الجزائري على أنه:"إذا هلك المبيع قبل تسليمه بسبب لا يد للبائع فيه سقط البيع واسترد المشتري الثمن إلا إذا وقع الهلاك بعد إعذار المشتري بتسليم المبيع"، وبمفهوم المخالفة أن هلك المبيع بعد التسليم لا يؤدي إلى سقوط البيع واسترداد الثمن.
الفرع الرابع
عدم جواز الانحراف في تفسير اللفظ الواضح
من القواعد المقررة في تفسير العقود والتي يمكن تطبيقها على تفسير النصوص ما قررته المادة 111 من القانون المدني الجزائري، والتي تنص على أنه:" إذا كانت عبارة العقد واضحة فلا يجوز الانحراف عنها من طريق تأويلها للتعرف على إرادة المتعاقدين"، فلا اجتهاد مع صراحة النص كما يقال، تتفرع على هذه القاعدة قواعد أخرى منها : حمل الكلام على ظاهره إلا إذا وجد ما يبرر الخروج على ذلك الظاهر، وأن الأصل في الكلام الحقيقة فلا يجوز صرفه وحمله على المجاز إلا إذا تعذر حمله على معناه الحقيقي، ومثال ذلك عبارة "خسارة" الواردة في عدة نصوص في القانون المدني فهي تعني نقص الشيء كما تعني هلاكه، والأصل في هذه الكلمة والمعنى الحقيقي لها هو الفقد التام بالهلاك وليس مجرد النقص إلا أن الغالب في تلك النصوص هو معنى النقص وليس الفقد التام.
الفرع الخامس
حظر القياس في نصوص القانون الجزائي
ينبغي التذكير أن القياس بالشكل الذي تناولناه أعلاه لا ينطبق على نصوص القانون الجزائي (قوانين العقوبات)، وهذه القاعدة هي من مستلزمات ونتائج مبدأ الشرعية الذي يعني أن كل جريمة وكل عقوبة تطبق لا بد أن يكون هناك نص سابق يقررها، وهذا النص ينبغي التضييق في تفسيره ومن باب أولى لا يجوز القياس عليه احتراما للحريات والحقوق.
الفرع السادس
ثراء المنطوق بالدلالات
إن منطوق القانون أي مختلف العبارات التي يحتوي عليها النص القانوني لها العديد من الدلالات التي يمكن استخلاصها، من بينها ما ذكرناه أعلاه، عن طريق القياس بأنواعه، ومن ذلك مثلا لفظ مركبة ذات محرك ينطبق على الدراجة النارية لكن لفظ السيارة لا ينطبق عليها لأن لفظ السيارة له دلالة واضحة في العرف على شكل معين مخالف لشكل الدارجة النارية. وهناك العديد من الدلالات التي تستفاد من المنطوق نلخصها فيما يلي:
دلالة الاقتضاء: هي دلالة اللفظ على لازم مقدر مقصود للمتكلم تتوقف عليه صحة الكلام، فهي دلالة مضمرة غير ظاهرة، كقوله تعالى:"واسأل القرية"، أي اسأل أهل القرية. ومن ذلك المادة 30 من قانون الأسرة:"... كما يحرم مؤقتا الجمع بين الأختين" أي يحرم الجمع بين الأختين بالزواج.
دلالة الإيماء: هي دلالة اللفظ على لازم مقصود للمتكلم لا يتوقف عليه صحة الكلام، كقوله تعالى "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" فدل على أن علة القطع هي السرقة لا أي أمر آخر.
دلالة الإشارة: هي دلالة اللفظ على لازم عقلي غير مقصود للمتكلم، ولم يسق له اللفظ أصالة ولا تبعا، أي أن نص القانون لم يصرح بشيء ولكنه يشير إلى ذلك من طريق بعيد، كقوله تعالى: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا، فإذا كان الفصال مدته أربع وعشرون شهرا، فالحمل أقله ستة أشهر.
دلالة المفهوم: المفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق بل في حالة من حالاته، وينقسم إلى مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة، وهو ما ذكرناه أعلاه في القياس، أما مفهوم الموافقة فهو ما يدل على أن الحكم في المسكوت عنه موافق للحكم في المنطوق به من باب أولى، أو هو القياس من باب أولى، ومفهوم المخالفة هو الاستنتاج من طريق المخالفة.
الفرع السابع
الخاص يقيد العام
هي من قواعد التفسير المعروفة التي تنبع من معرفة النص العام والنص الخاص، والعبارة العامة والعبارة الخاصة.
المطلب الثاني
الطرق الخارجية للتفسير
الفرع الأول
المذكرات الإيضاحية والتفسيرية
- تعتبر من الوسائل المهمة التي يرجع إليها في تفسير القانون، وهي تحتوي على شرح إجمالي لكثير من مواد القانون.
- وتوضع في الغالب من قبل اللجان التي وضعت القانون.
- وهي في كثير من الأحيان تبين قصد المشرع من إيراد كل مادة من مواد القانون، وهذا هو في الحقيقة محور التفسير أي معرفة قصد المشرع.
- ثم إن المذكرات الإيضاحية والتفسيرية تبين في الغالب المصدر التاريخي الذي استمدت من مواد القانون، وهذا أمر مهم أيضا لمقارنة النص الغامض بمصدره التاريخي لإدراك معناه الحقيقي.
- كما أن المذكرات الإيضاحية تجري في الكثير من المواد مقارنات بين مشروع القانون وبين القانون في صورته النهائية التي تم التصويت عليها، أي أنها تبين المراحل والتغيرات التي طرأت على النص وعلى صياغته ما يساعد في فهم القصد الحقيقي للمشرع.
- وقد تعتمد المذكرات الإيضاحية على شرح مفصل للمواد يعتمد على كلام الفقهاء والشراح ما يجعلها بمثابة خزان فقهي لأحكام القانون ينير القاضي كثيرا في فهم نصوص القانون.
الفرع الثاني
قصد وحكمة المشرع وغايته من التشريع
إن معرفة القاضي لقصد المشرع من التشريع والحكمة من ورائه يكون بمعرفة المصالح التي يريد حمايتها والمفاسد والمضار التي يريد قطع السبيل أمامها، فإذا استطاع المفسر الوقوف على تلك الغاية والقصد والحكمة من التشريع أمكنه فهم النص وتفسيره.
ومازال المفسرون يبحثون في روح القوانين والمرامي البعيدة والقريبة للنصوص للقانونية والتي يكون المشرع قد تأثر واصطبغ بها من تشدد أو تساهل ومن ليبرالية أو محافظة ومن تركيز على الفرد وتركيز على الجماعة إلى غير ذلك من مظاهر المذهبية والإيديولوجية في فكر المشرع.
الفرع الثالث
الأعمال التحضيرية
هناك العديد من الأعمال التحضيرية التي تسبق عملية وضع التشريع في صورته النهائية تتمثل في المذكرات التفسيرية والإيضاحية التي توضع من قبل متخصصين وتتضمن الكثير من المعلومات حول مصدر القانون التاريخي ومعانيه اللغوية والاصطلاحية ومقارنته وشرحه، وكذلك المناقشات التي تجرى حول القانون من طرف نواب الشعب التي تدون كلمة كلمة وتنشر في نشرات خاصة وتنير القاضي أيضا حول معاني القانون.
الفرع الرابع
المصادر التاريخية والمادية
إن المصدر التاريخي للنص هو القانون الأصلي الذي أخذ منه النص والذي قد يكون قانون دولة أخرى غالبا كما هو الحال في كثير من القوانين الجزائرية التي يعتبر القانون الفرنسي مصدرا تاريخيا لها، أما المصدر المادي فهو الذي استمد منه القانون مادته وأفكاره مثل الشريعة الإسلامية بالنسبة لقانون الأسرة الجزائري مثلا حيث استمدت غالبية نصوصه من أحكام الشريعة كما أن قانون الأسرة قد نص في المادة 222 منه على أن: كل ما لم يرد النص عليه في هذا القانون يرجع فيه إلى أحكام الشريعة الإسلامية.
ومن الأمثلة التوضيحية التي يمكن ذكرها في هذا الصدد ما جاء في نص المادة 284 من قانون العقوبات الجزائري التي تنص:"كل من هدد بارتكاب جرائم القتل أو السجن أو أي اعتداء آخر على الأشخاص ..." فالتهديد بالسجن هو أمر غير مستساغ قانونا، فلا يمكن لأحد أن يهدد شخصا آخر بالسجن، وعند التدقيق في المصدر التاريخي للنص وهو القانون الفرنسي فهو ينص على "l’empoisonnement" أي التسميم، بينما النص الجزائري باللغة الفرنسية ينص على "l’emprisonnement" وهو لا يعدو أن يكون مجرد نقل سيء من القانون الفرنسي، ثم ترجمته بعد ذلك، وهو ما تفطن له الأستاذ بوسقيعة احسن عند دراسته لهذا النص، فحقيقة النص هي التهديد بالتسميم وليس بالسجن.
الفرع الخامس
الوحدة التشريعية
إن النصوص تفسر بعضها البعض، وذلك أن النصوص القانونية ينبغي أن يراعى فيها الوحدة التشريعية فإذا وجد غموض بنص معين يجب البحث في بقية النصوص الأخرى في نفس القانون أو في قوانين أخرى، وإن كان المشرع قد يقع في التناقض أحيانا أو التعارض بين نصوص قانونية مختلفة ففي هذه الحالة يجب الاجتهاد للتوفيق بين النصوص وفق قواعد التفسير المختلفة كما سيأتي بيانه في موضوع أغراض التفسير.
القسم الثاني من المحاضرات
الفصل الثاني
في أصل القانون وأساسه وغايته
(ملاحظة: هذا الجزء كله غير مطلوب)
إن البحث في غاية القانون في المجتمعات كان ولا يزال موضوع الدراسة من قبل فلاسفة القانون، وإذا كان الاتجاه الأكثر سيادة وسوادا هو ذلك الذي يقول إن غاية القانون هي العدالة فإن هناك آراء كثيرة تستند إلى حقائق واقعية أن القانون كان ولا يزال أداة قوية لتحقيق التمييز بين أفراد المجتمع، وتسلط الحاكمين على المحكومين، وتسلط الأقوياء على الضعفاء سواء على مستوى القانون الدولي أو القانون الوطني.
أول مواضيع هذه الدراسة هو العلاقة بين القانون والأخلاق، وهناك نظريتان كبيرتان حول هذه العلاقة: المذهب الوضعي، والمذهب اللاوضعي (مذهب القانون الطبيعي).
ثاني المواضيع هو عناصر مفهوم القانون، ونقصد بذلك الشرعية الشكلية والتأثير الاجتماعي.
المبحث الأول
ضرورة القانون: هل القانون ضروري؟
- هذا التساؤل هو تساؤل قديم قدم الفلسفة.
- لا تنبع أهمية التساؤل من الحيرة والشك فقط في إمكانية الاستغناء عن القانون بل في التفكير أيضا في أن هذا القانون قد يكون شرا في ذاته.
- بالفعل ففي جميع العصور وعند مختلف الشعوب وعند مختلف الإيديولوجيات ظهرت أفكار تنادي بشجب القانون واعتباره في أحسن الأحوال شرا لا بد منه.
- إن الأفكار التي تحدثت عن ضرورة القانون انقسمت إلى قسمين، قسم يرى بضرورته وقسم يرى عدم ضرورته، وذلك بحسب النظرة إلى طبيعة الإنسان ذاته، وهل هو شرير بذاته وأن البيئة هي التي تربيه من خلال الدين وغيره (القانون، السلطة، القوة، القمع ...)، أم هو خير بذاته وأن البيئة بالعكس هي التي تفسده بما فيها من قوى مضادة لطبيعته ومن بينها العناصر السابقة (القانون، القوة، السلطة ...)
المطلب الأول
مذهب عدم ضرورة القانون (تفضيل حياة الفطرة والبراءة البدائية)
من رواد هذا المذهب "سنيكا SENECA " و"روسو" و"أوفيد OVID" ، حيث رسم هؤلاء صورة وردية لماضي الإنسان السحيق الذي لم تتأثر طبيعته بعوامل الفساد.
فقد كتب أوفيد قائلا:" في البدء كان العصر الذهبي عندما كان الإنسان جديدا لم يعرف الحكم بل العقل السليم، وكان بالفطرة ينهج نحو الخير، لم يعرف رهبة العقاب ولا الخوف، كانت كلماته بسيطة ونفسه صادقة، وكان القانون المدون غير لازم لعدم وجود مضطهدين، كان قانون الإنسان مكتوبا في صدره ...".
أما "سينيكا" فقد كتب يقول:"في المجتمع البدائي عاش الناس معا بسلام وسعادة، وكان كل شيء مملوكا لهم على الشيوع، ولم تكن لهم ملكية فردية، ويمكننا الاستدلال على أن العبودية لم تكن موجودة، وكذلك الحكومة المستبدة، وكان الناس على أحسن ما يرام لأن الناس اتبعوا الطبيعية بشكل حتمي، وكان حكامهم هم أكثرهم حكمة ... بمرور الزمن اختفت البراءة البدائية، وأصبح الناس جشعين ... ومزق الجشع المجتمع السعيد إربا إربا، وحل الطغيان محل مملكة الحكماء، واضطر الناس إلى خلق القوانين التي تقيد حكامهم".
إن الأفكار السابقة تنتمي إلى ما يمكن تسميته الفكر الفوضوي، والذي بدأ منذ "أفلاطون" الذي أظهر ميلا شديدا تجاه البدائية وكان يقول أن الناس في العصور الأولى كانوا أفضل منا وأقرب إلى الله.
ومن أكبر الفوضويين المعاصرين نجد "كارل ماركس" الذي كان يعتبر القانون مجرد نظام قمعي للحفاظ على امتياز طبقة الملاك، وأن الثورة ستؤدي إلى قيام مجتمع لا طبقي، وستلغى الدولة والقانون لأنه لن يكون هناك حاجة لدعم نظام قمعي.
وعلى الرغم من كل التجارب المثبطة فمازال هناك دعاة بارزون لفكرة الإنسان البدائي الذي كان طيبا بالفطرة، وأن التنظيم الاجتماعي والسياسي للحياة الحضارية هو الذي بذر بذور العنف والفوضى وأدى إلى قيام أنظمة القمع القانوني، ومن هؤلاء نجد "إليوت سميت" الذي قال إن إنكار الطيبة الفطرية للإنسان مسألة نفسية، فكل فرد منا يعرف من تجربته الخاصة أن زملاءه لطيفون حسنوا النية إجمالا، وأن الاحتكاك الذي يحصل في حياتنا هو نتيجة الصراعات التي تخلقها الحضارة نفسها.
نقد: هذه النظرة للإنسان البدائي هي نظرة متكلفة وبعيدة عن الواقع وترتكز على ماض خيالي للإنسان أكثر مما تستند إلى طاقة كامنة في الإنسان لتحقيق مجتمع عادل مثالي، وأفلاطون ذاته وإن كان يتوجه إلى تلك الأفكار الفوضوية فهو ينطلق منها للوصول إلى أن المجتمع يمكن تربيته وأن هذه التربية ينبغي أن تكون شاملة للحكام والمحكومين، وذلك فهي أقرب إلى "التوتاليتارية أي السلطان الكلي للدولة".
لقد تميز العصر الحديث بارتقاء العلم والتكنولوحيا، ورافقه تطور في إيديولوجية التقدم البشري، وعدم الإيمان بفكرة الفردوس البدائي، وذلك انطلاقا من نظرية سميث حول حرية العمل"دعه يعمل اتركه يمر"، أما أن الشر ينبع من القانون فهذا تصور خاطئ، والأصح أن بعض القوانين فقط تعترض طريق التقدم، والعقل البشري قادر على تجاوز ذلك.
إن القول بطبيعة الإنسان الخيرة دوما مجاف للحقيقة فقد يكون للإنسان ميول فطرية نحو ما نسيمه الطبية لكن هناك الجانب الديناميكي في الطبيعة البشرية والذي يمكن توجيهه نحو غايات خلاقة أو مدمرة، فالطبع البشري هو طبع مزدوج في حقيقة الأمر، وهو ما يوجب التحفظ بشأن طبيعته هذه.
المطلب الثاني
مذهب ضرورة القانون
من رواد هذه المدرسة "بودان" و"هيوم" و"ميكيافيللي" و"هوبز" و"سانت أوغستين"و"توما الإكويني".
فحسب "بودان" أن حالة الإنسان الأصلية هي حالة الفوضى والعنف والقوة.
أما "هوبز" فوصف حياة الإنسان البدائي بأنها كانت حالة حرب مستمرة وأن حياة الفرد كانت فظة قذرة.
بينما يرى "هيوم" أن المجتمع البشري لن يكون له وجود بدون القانون والحكومة والقمع.
أما "ميكيافيللي" صاحب كتاب "الأمير" فقد نصح الأمراء بحنث العهود عندما تتعارض مع مصالحهم الخاصة، وذلك لأن الناس رديئون بطبعهم ولا يحفظون الوفاء.
أما "أوغستين" فكان ينظر إلى القانون باعتباره ضرورة لكبح عيوب الناس المتولدة عن الخطيئة قرونا عديدة.
وحتى عند كثير من الفوضويين هناك إيمان بضرورة القانون، فالاعتراف بأن نظاما من القواعد والقوانين ضروري حتى في أبسط أشكال المجتمع يبدو أمرا لا مفر منه، ففي أي مجتمع كان بدائيا أم متطورا من الضروري وجود قواعد وقوانين تحدد الشروط التي يستطيع الرجال والنساء أن يتزاوجوا ويتعايشوا في ظلها، هناك قوانين تحكم علاقات العائلة، وقوانين تحكم النشاطات الاقتصادية وجمع الطعام والصيد، وقوانين تحرم الأفعال التي تضر بمصحلة العائلة أو القبيلة أو الجماعة بأسرها، ومن هنا فإن الفكرة الخيالية التي يتحدث عنها أنصار الفردوس البدائي هي نفي وإلغاء للمجتمع نفسه.
المبحث الثاني
القانون والسلطة والقوة:
هل يمكن فصل القانون عن فكرة القمع؟
من المواضيع المتصلة بفكرة القانون من عصور ساحقة هي فكرة السلطة، فكما أن الإنسان بحاجة إلى القانون والنظام، فإن هذا النظام محتاج إلى عنصرين أساسيين متلازمين هما: السلطة والقسر (أو القوة أو القمع)، فالسلطة هي التي تضع القانون، ولكن هذه السلطة لن تستطيع فرض هذا القانون إلا إذا تسلحت بالقوة.
المطلب الأول
القانون والسلطة
لنتصور أن مجموعة من السارقين المسلحين سطوا على مصرف فإن الموظفين في ذلك المصرف سرعان ما يستجيبون لأوامر هؤلاء السارقين ويذعنون لهم، فهذا الإذعان هو نوع من الخضوع للغير ولكنه إذعان موقوت بظروف ما فلو تسنى للموظف عدم الطاعة لما تردد في ذلك، أما القاضي الذي يصدر حكمه طبقا للقانون، والضابط الذي يتلقى أمرا من رئيسه، والمواطن الذي يلقى عليه القبض يحس بأن هناك قوة أعلى منه، ويشعر بالتبعية الشرعية لشخص آخر، وهو التزام أدبي بالخضوع لأوامر عليا، فالقاضي والضابط والمواطن يطبقون القانون لأنه صادر عن سلطة شرعية، ولذلك فإن الثورة على السلطة ستحاول أن تصف هذه السلطة بغير الشرعية.
وتتداخل السلطة الشرعية مع الكاريزما، فالكاريزما هي أحد أسباب نشوء السلطة في المجتمع البشري، وهي عبارة عن موهبة إلهية تمنح لصاحبها السمو وتضفي عليه هالة شرعية لا تنازع، كما في حالة هتلر وموسوليني وستالين وغيرهم الذين كان لهم تأثير مغناطيسي جعل لأوامرهم القدرة على تحقيق الخضوع والإذعان، وحسب ماركس ويبر فإن السلطة التي يكون مصدرها شخصية القائد قد تنتقل إلى خلفه ولكن بشكل أضعف، وهذه الظاهرة يمكن ملاحظتها في بعض الملكيات الجديدة، حيث يستمد خلفاء القائد المؤسس للسلطة الحاكمة سلطتهم الشرعية من سلفهم على الرغم من أنهم قد يفتقرون إلى كل أو بعض خصال المؤسس وصفاته.
وذلك رأينا في مثل هذه الظروف أنه يتم اللجوء إلى العرف لتكريس السلطة بدلا من الكاريزما، حيث تخلق الجماعة الحاكمة مجموعة من العادات العرفية التي تعتبر ملزمة وتعوضهم بالتالي عن الكاريزما لفرض السلطة، وهو ما يسميه ماركس ويبر الهيمنة الشرعية غير الشخصية، إذ تحل المؤسسة محل الشخص، فالدولة الديمقراطية الحديثة تخلت عن الكاريزما لمصلحة المؤسسة التشريعية والقضائية والتنفيذية التي تعمل مجردة عن الشخص في ظل نظام قانوني يحتكر شرعية استخدام القوة.
المطلب الثاني
القانون والقوة
خلال الحرب العالمية الثانية كانت القوات النازية تحتل العديد من البلدان الأوروبية، وكان النازيون يملكون القوة لفرض إرادتهم على السكان، ولكن هؤلاء السكان المحتلين رفضوا شرعية سلطة الغزاة النازيين، صحيح أن هذا الوضع كان مؤقتا وأن النازيين لو انتصروا لكان من الممكن أن يخلقوا الاعتقاد بشرعية حكمهم، إنه من المشكوك فيه معرفة المدى الذي يمكن فيه المحافظة على السيطرة بالاستناد إلى القوة الغاشمة والخوف وحدهما، وبدون وجود عنصر الشرعية، وإن كانت القوة قد استطاعت أن تحقق ذلك ضمن أوضاع معينة وفي فترات محدودة.
ومن هنا ظهر التساؤل التالي: هل يمكن أن يفسر القانون بمعيار القوة وحدها؟ وهل صحيح أن القانون هو مجرد تلك الأحكام والقواعد التي تفرض بالقوة والقسر؟
لا بد أن نلاحظ أن ما فرضه النازيون على سكان البلدان المحتلة ليس قانونا بل هو أشبه بفعل العصابات الإرهابية، وبذلك يصح القول أنه في الظروف الاستثنائية يمكن أن يحكم المجتمع عن طريق القوة والإرهاب، ولكن هذا لا يعني أن القانون هو مجرد تجسيد للقوة.
من جهة أخرى فالتساؤل الذي يحتاج إلى إجابة فعلا هو: هل يمكن تصور من الناحية العملية قانونا دون أن يكون مدعوما بالقوة الفعالة؟ إن قوة القانون مرتبطة دوما بالقواعد التي يمكن فرضها بالقسر والإكراه، ولكن هناك رأيا بأن القوة والعنف لا يمكن الارتكاز عليهما كليا لفرض القانون، فالقوة هي تحطيم ونفي للقانون، وأن اللجوء إلى القوة والعنف إنما يكون عندما يتم تعطيل حكم القانون، أن التركيز على القسر في إعمال القانون هو إساءة فهم لدوره ووظيفته.
إن النظرة السابقة تغالي في تفسير القوة، فهي تستند إلى العقد الاجتماعي أو مبدأ القبول الحر للأفراد الذين وافقوا على الخضوع للقانون والحكومة، ولكن هذا الشكل من أشكال القبول خيالي إلى حد كبير إن لم يكن كليا، وكل ما هنالك أن هذه النظرة تحاول أن تنقل التركيز من الخضوع القسري للقانون إلى الإذعان الطوعي له، وبعبارة أخرى أن القسر هو أمر عارض وليس جوهريا في وجود القانون.
ويناء على ما سبق فالقانون الدولي ليس قانونا بالمعنى الدقيق لأنه يفتقد إلى القسر لا لأن هذا القسر غير موجود بل لأن هذا القسر لو كان موجودا فإنه سيمس أمما كاملة وليس أفرادا، وستكون نتائجه مدمرة للحياة والأموال على نطاق واسع، والحقيقة أن عنصر القسر في مجال القانون الدولي يأخذ حيزا ضئيلا نظرا لتلك الأسباب.
لقد دلت التجربة على أن النموذج المثالي للقانون يعتمد على فعالية القوة التي تسنده، وأن المجتمع الذي كان في السابق يعتمد على العرف والعادة سرعان ما بدأ يعتمد على العقوبات التي تطورت عبر الزمن، وأن القانون كعامل فعال في الضبط الاجتماعي الذي يتجاهل أو يقلل من أهمية عنصر القسر هو قانون لا نفع منه.
المبحث الثالث
القانون والأخلاق
المطلب الأول
طرح الإشكالية
لو طرحنا السؤال التالي: هل إذا استولى طاغية على العرش وفرض على المواطنين ما يجب أن يفعلوا، فهل هذا قانون؟ وهل يجب عليهم طاعته؟ بمثل هذا السؤال كانت تطرح إشكالية كبيرة منذ حوالي ألفي عام حول العلاقة بين القانون والأخلاق.
في الإجابة عن هذا السؤال توجد نظريتان أساسيتان متقابلتان هما: المذهب الوضعي والمذهب اللاوضعي أو الطبيعي.
النظريات الوضعية تتبنى فرضية الانفصال بين القانون والأخلاق، فتعريف القانون يكون بتجريد محتواه من أي عناصر أخلاقية، بما في ذلك العدالة، وأن القانون هو ما يجب أن يكون لا ما هو كائن، وقد عبر رائد هذا المذهب الفيلسوف هانز كلسن عن هذا بعبارة واضحة: إن أي محتوى يمكن أن يكون قانونا عندما نريد ذلك.
أما النظريات غير الوضعية فتتبنى فرضية الارتباط بين الأخلاق والقانون، ومن هنا فمفهوم القانون يحتوي ثلاثة عناصر: الشرعية الشكلية، التأثير الاجتماعي، المضمون الأخلاقي.
منذ عهد سقراط أي حوالي القرن الرابع قبل الميلاد طرحت الفكرة القائلة بأن العيش وفق القانون هو القانون الأسمى حتى لو نتج عن ذلك إصدار الحكم على أحكم رجل بأن يموت (كما فعل بسقراط ذاته)، وقال أفلاطون في ذلك أنه حين تكون الدولة تجسيدا لفكرة الخير فإن حياة الأفراد يجب أن يضحى بها من أجل الدولة، وهكذا يتساوى القانون مع الأخلاق.
ويمكن تلخيص فكرة القانون والأخلاق كالتالي:
- أن قانون الدولة هو بحد ذاته مبدأ الأخلاق الحميدة وواجب طاعته بناء على العقد الاجتماعي الذي كان بين المواطنين والدولة بالخضوع لهذا القانون مهما كانت نتائجه على فرد ما.
- أن هناك قانون أخلاقي مستقل عن قانون الدولة يمكن بواسطته معرفة ما إذا كان قانون الدولة ظالما أو غير أخلاقي.
- أن ذلك القانون الأخلاقي لا يطغى على قانون الدولة وأن الفرد إذا لم يتمكن من إقناع الدولة بخطئها الأخلاقي (عن طريق إجراء التغييرات التشريعية) فإن واجبه الذي لا مفر منه هو الطاعة لقانون الدولة.
حسب هيجل فإن الفرد باعتباره مندمجا في حقيقة أسمى وأكبر هي الدولة التي لا ينتظر منها أن تستمع إلى إقناع الفرد بها بأنها مخطئة وأن قرارات محاكمها ظالمة أو غير أخلاقية، لأن الدولة هي في حد ذاتها تجسيد للأخلاق.
في القانون الانجليزي إذا حدثت الوفاة بعد انقضاء عام ويوم على الفعل الذي سبب القتل فلا توجد جريمة قتل، بينما في المفهوم الأخلاقي ليس هناك فرق بين أن يمضي على جريمة قتل "366 يوما" و"367 يوما" ولكن هذا المعيار القانوني الذي أخذ به القانون مستمد من وضعيته أي بغض النظر عن موقف الأخلاق الدقيق الذي يتعارض مع هذه الوضعية.
هذا لا يعني أن كل القوانين تستغني تماما عن الأخلاق فهناك دائرة تقاطع مشتركة، فالقانون يجرم فعل انتهاك الخصوصية ويمنع الاعتداء الجسدي على الآخرين والاستيلاء على أملاكهم، وهذا نفسه ما يقرره القانون الأخلاقي.
المطلب الثاني
القانون والأخلاق ونظرية الحرية
في نقاش قانوني في إحدى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1957 حول موضوع جريمة اللواط بين الذكور البالغين التي تتم بالرضا سرا ركزت لجنة قانونية على ضرورة إلغاء هذا النص من القانون مستندة في ذلك إلى اقتناعها بأن مثل هذا القانون من الصعب جدا تطبيقه، وإذا ما طبق فمن المحتمل أن يضر أكثر مما ينفع، وذلك بتشجيع أفعال أخرى كالابتزاز، وقد اعتمدت أيضا على حجة أن القانون ينبغي أن يمتنع عن التدخل في مثل هذه الحالات، وتأييد ما ذهب إليه "جون ستيوارت مل" أي "مذهب الحرية" وعدم التدخل، بمعنى أن على القانون ألا يدخل في الأمور المتعلقة بالسلوك الأخلاقي الخاص أكثر مما هو لازم، وبعبارة أخرى أن هناك منطقة أخلاقية من الأفضل أن تترك لضمير الفرد مثل حرية التفكير وحرية الاعتقاد.
وقد تعرضت نظرية الحرية هذه إلى الانتقاد لأن قانون العقوبات يعتمد في فعاليته على الاندماج مع المستويات الأخلاقية للجماعة، وأن الفشل في التعبير عن هذه المستويات يضعف السلطة الأخلاقية للقانون والمجتمع.
المطلب الثالث
القانون والأخلاق والجريمة
كما نعلم فإنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص إلا أن بعض القضاة تحت تأثير الأخلاق قد يقومون بتجريم أفعال لم يجرمها القانون كما حدث في قضية "دليل السيدات" في انجلترا، حيث أدين أحد الناشرين لأنه قام بنشر كراس يتضمن عناوين وهواتف ومعلومات عن بعض المومسات فأدين بالتآمر على إفساد الأخلاق العامة، وقد أيد مجلس اللوردات حكم الإدانة، كما أيد القضاة دور المحكمة كحارس للأخلاق العامة، مع العلم أنه لا يوجد نص صريح في القانون بهذا الجرم لكن النظام القضائي هناك درج على أن القضاء يستطيع خلق جرائم جديدة بالاستناد إلى ما يراه مناسبا لاسيما المساس بالأخلاق.
وفي مضمار الجريمة كما نعلم نادت مدرسة الدفاع الاجتماعي بإبعاد الأحكام الأخلاقية في قانون العقوبات والتركيز على أهدافه الاجتماعية وهي حماية المجتمع وتقويم السجين بدلا من التركيز على درجة مسؤوليته الأخلاقية، وحسب هذه المدرسة فإن تحديد درجة المسؤولية الأخلاقية عن الجريمة أمر فوق متناول طاقة الإنسان.
لقد مر قانون العقوبات بمراحل عديدة في النظر إلى الجريمة، فتارة كان التركيز منصبا على الجريمة وإثباتها وكون المتهم قام بالأفعال أم لا، ثم كان التركيز على المسؤولية الأخلاقية أي درجة إذناب الشخص وأن العقوبة تتناسب مع تلك الدرجة، ولكن قانون العقوبات الحديث يركز على ضرورة أن يكون هدف العقوبة هو إصلاح الجاني وإعادته إلى المجتمع فردا صالحا وتلاشى إلى حد بعيد التركيز على المسؤولية الأخلاقية، مع التحفظ بالنسبة لنجاعة الطرق الحديثة لمعالجة المجرمين، ولعل أهم النقائص المسجلة على قانون العقوبات هي تقليله من الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية.
المطلب الرابع
خلاصة القول في العلاقة بين القانون والأخلاق
إن القانون والأخلاق متداخلان، ويعتمد أحدهما على الآخر، وتبقى إمكانية التعارض قائمة في كثير من الأحوال، وهناك ثلاثة اتجاهات رئيسية يمكن اتباعها في مثل تلك الحالات من التعارض، يمكن تلخيصها في الآتي:
أولا: على القانون والأخلاق أن يتآلفا أحيانا، إما بسبب أن القانون الأخلاقي هو الذي يملي المحتوى الفعلي للقانون، أو لأن الأخلاق هي بحد ذاتها ما يقرره القانون.
ثانيا: لكل من القانون الوضعي والقانون الأخلاقي دائرة نفوذه الخاصة، ولكن القانون الأخلاقي هو القانون الأسمى، ولذلك فهو معيار صلاحية القانون الوضعي، والنزاع يجب أن يحسم لمصحلة القانون الأخلاقي في النهاية، والقانونيون عموما مازالوا يؤمنون بفكرة القانون الطبيعي التي هي تأكيد لتفوق القانون الأخلاقي.
ثالثا: الطرح الثالث هو الطرح الذي يجعل لكل من القانون والأخلاق مجالهما المستقل تماما، وهذا ما يطلق عليه "الوضعية القانونية"، فالقانون يستمد شرعيته من المشرع، وأن أي اعتبار أخلاقي لا يطعن في شرعية القانون الوضعي أو يجعل من غير الواجب إطاعته، وعند الضرورة القصوى يسوى النزاع بين القانون والأخلاق وفق ما يمليه الضمير.
(ملاحظة: إلى هنا ينتهي الجزء غير المطلوب في الامتحان)
الفصل الثالث
المذاهب الشكلية في القانون
تهتم هذه المذاهب بالجانب الشكلي للقاعدة القانونية، أي الجهة التي أصدرت القانون وأضفت عليه القوة الإلزامية، والمتمثلة في السلطة العليا في المجتمع التي تصدر القانون في أي شكل تريده، فالدولة هي التي تصنع القانون وتنشئه وتلزم الجميع باحترامه، وتستخدم القوة إن لزم الأمر، ومن أنصار هذه المدرسة "جون أوستن" و"هيجل" و"هانز كلسن" و"فقهاء مدرسة الشرح على المتون عموما كما درسناها سابقا"، وفيما يلي عرض لأفكار كل منهم.
المبحث الأول
مذهب جون أوستن
المطلب الأول
أسس مذهب أوستن
يقول "أوستن": "إن موضوع القانون هو القانون الوضعي الذي يقوم بوضعه حكام سياسيون من أجل طائفة محكومة سياسيا".
يقوم مذهب أوستن باختصار على العناصر الآتية:
- أن القانون لا يقوم إلا في مجتمع سياسي: والمجتمع السياسي هو ذلك المجتمع الذي يتشكل من طائفتين: طائفة الحكام الذين بيدهم السلطة ولهم حق الأمر والنهي وتنظيم العلاقات الاجتماعية عن طريق إصدار القوانين، وطائفة المحكومين ويقتصر دورهم على تطبيق الأوامر والنواهي تحت طائلة الجزاء عند مخالفة القوانين، أما أي قانون غير صادر عن الحكام فهو غير واجب الطاعة وغير ملزم.
- وجود أوامر وتكاليف: القانون ليس نصيحة ولا طلبا بل هو أوامر ونواه واجبة الطاعة.
- توقيع الجزاء عند مخالفة القانون: والجزاء غير العقاب، فالعقاب هو نوع من الجزاء فقط خاص بقوانين العقوبات، أما الجزاء فهو يشمل الجزاءات الإدارية والتأديبية والمدنية، فالجزاء هو إجراء قسري لفرض كلمة القانون.
المطلب الثاني
نتائج مذهب "أوستن"
- إن "أوستن" ينكر صفة القانون على الدستور لأنه يهدف فقط إلى وضع قيود على سلطة الحاكم دون وضع جزاءات على مخالفته لتلك القيود لأنه لا يخضع لسلطة عليا.
- كما ينكر "أوستن" صفة القانون على القانون الدولي لأن الدول كلها متساوية في السيادة ولا يوجد بينها حاكم ومحكوم.
- كما ينكر "أوستن" أيضا العرف كمصدر للقانون، فالتشريع وحده مصدر القواعد القانونية، أما العرف فهو مجرد بديل بدائي للقانون، وهو يفتقد لكل العناصر السابقة.
المطلب الثالث
نقد مذهب "أوستن"
- يخلط "أوستن" بين القانون والدولة، حيث يقول أن القانون لا يوجد إلا في مجتمع سياسي، غير أن التاريخ بين عكس ذلك، فالقانون ظاهرة اجتماعية قبل أن يكون ظاهرة سياسية أو وضعية.
- يخلط "أوستن" بين القانون والقوة، حيث يجعل القانون والقوة بيد الحاكم، وتصبح إرادة الحاكم هي القانون، ويكون الحكم للقوة، والمفروض أن الحاكم يكون في خدمة القانون ويكفل فقط احترامه.
- اعتبار "أوستن" للتشريع مصدرا وحيدا للقانون دون العرف فيه مخالفة للواقع، فكثير من الأعراف لها اعتبار في كل الدول باعتبارها مصدرا للقانون.
- إن غالبية الفقه تضفي صفة القانون على القانون الدولي، ويتوفر له عنصر الإلزام، ولديه جزاءات، ولديه سلطات تقوم بتوقيعه، وإن كان تطبيقه في الواقع مرتبطا بموازين القوى في المجتمع الدولي، والمعاهدات الدولية هي المصدر الأول للقانون الدولي وهي تكفل الاستقرار الدولي.
- إن الدستور لا يفتقد إلى الجزاءات كما اعتقد أوستن، فالرقابة الشعبية تكفل توقيع الجزاء بالحاكم الذي يخل بالدستور ، كما أن هناك آلية الرقابة على دستورية القوانين التي تمنع تعدي السلطة التشريعية على الدستور.
- إن مذهب أوستن في النهاية هو تكريس للاستبداد والدكتاتورية ما دام يعتبر الحاكم مصدرا للقاعدة القانونية.
المبحث الثاني
مذهب "فريدريك هيجل"
المطلب الأول
أسس مذهب هيجل
- يرى هيجل أن الدولة سيدة نفسها في الداخل، وكل من يدخل في تكوين الدولة في الداخل يخضع لهذا القانون.
- ويرى أن المجتمع لا يصل إلى مرتبة الدولة إلا إذا رأى جميع أفراد المجتمع أن ثمة مصلحة عامة يجب أن تتجه إرادتهم جميعا إلى تحقيقها، فتتحد إراداتهم على ذلك، وهذا ما عبر عنه بـ"وحدة الإرادات الفردية"، فالدولة حسب "هيجل" تجسد إرادة الإنسان وحريته، وحرية الإنسان الحقيقية لا تتحقق إلا باندماجه في الدولة عن طريق الخضوع لأحكامها وقوانينها.
- ويرى "هيجل" أن السيادة واحدة لا تتجزأ تذوب فيها كل الاعتبارات ووجهات النظر، وهذه السيادة تتجسد في شخص واحد هو صاحب السلطة في الدولة والذي تتمثل إرادته في القانون الواجب التطبيق لأنه يملك القوة لفرض إرادته.
- من جهة أخرى يرى "هيجل" أن الدولة سيدة نفسها في الخارج أيضا، فلا توجد سلطة أعلى من سلطة الدولة، والدول جيمعا متساوية في السيادة، ولا توجد سلطة دولية تقوم بتنظيم العلاقات بين الدول أو تقوم بحل النزاعات بينها، والوسيلة الوحيدة لذلك هي الحرب، والغلبة تكون للأقوى، فالحرب عادلة ومشروعة، وهي نوع من القضاء الألهي حسب "هيجل".
المطلب الثاني
نقد مذهب هيجل
- هذا المذهب يؤدي إلى تكريس الدكتاتورية، ويعبر عن نزعة متطرفة، فهو يدعو الشعب الألماني للسيطرة على العالم، وهي فكرة المجال الحيوي التي طورتها النازية.
- يوحد "هيجل" بين إرادة الحاكم والقانون، وهذا هو الاستبداد بعينه.
- ينكر "هيجل" حل النزاعات الدولية بالطرق السلمية.
المبحث الثالث
مذهب "هانز كلسن"
المطلب الأول
أسس مذهب كلسن
- اهتم "كلسن" بالشكل حتى سميت مدرسته بمدرسة القانون البحت أو الصافي، وبذلك يصبح علم القانون كعلم الرياضيات والهندسة معتمدا على المنطق والتجريد بدلا من التقييم، فيتجنب البحث عن الظلم واللاأخلاق في القانون، ويتجنب ربط القانون بالسياسة أيضا.
- يرى كلسن إذن ضرورة استبعاد "العناصر غير القانونية والتقييمية" كالعدالة وغيرها، ويرى أن أي مضمون وأي محتوى يصلح أن يكون قانونا مادام يستطيع حفظ النظام والأمن.
- يرى كلسن أن القانون هو الدولة والدولة هي القانون (وحدة القانون والدولة)، فهو يدمجهما دمجا تاما، فالدولة لا تصنع القانون فحسب بل هي القانون ذاته، وبالتالي فهي ليست شخصا معنويا كما يقال عنها بل هي مجموعة قواعد قانونية مرتبة هرميا يأتي في قمتها الدستور، فأبرز ما يميز الدولة ليس هو الشعب والإقليم بل هو التنظيم القانوني.
المطلب الثاني
نقد مذهب كلسن
- إذا كان هناك تدرج هرمي للقواعد القانونية، وفي قمة الهرم يأتي الدستور، فما هو مصدر الدستور؟ هنا يقول كلس أن الدستور هو القاعدة الأساسية أو المعيار الأساسي، والحقيقة أن الدستور أيضا له مصدر مثل باقي القواعد القانونية.
- إن القول أن القانون هو الدولة لا يستند إلى أساس واقعي، فالدولة مستقلة عن القانون، والدولة هي التي تضع القانون، وبالتالي فهي ليست القانون في حد ذاته، والدستور على سبيل المثال هو وسيلة لتقييد سلطات الدولة.
- إن كلسن لا يعترف بكل العناصر غير القانونية وتأثيرها في القانون، وهو مجانب للحقيقة، فالقانون ظاهرة اجتماعية تؤثر وتتأثر بغيرها من الظواهر.
الفصل الرابع
المذاهب الموضوعية
تنظر هذه المذاهب إلى جوهر القانون وموضوعه، وذلك عن طريق تحليله من الناحية الفلسفية والاجتماعية للتعرف على طبيعته وكيفية نشأته، وفي هذه الإطار وجدت مذاهب تنظر إلى القانون نظرة مثالية باعتبار القانون يهدف إلى تحقيق العدالة الإنسانية والمثل العليا، بينما هناك اتجاه آخر يرى أن القانون هو ظاهرة واقعية تتطابق مع الواقع ولا تحيد عنه.
المبحث الأول
المذاهب المثالية
المطلب الأول
نظرية العقد الاجتماعي
الفرع الأول
نشوء فكرة العقد الاجتماعي
- تعود فكرة العقد الاجتماعي إلى الإغريق، وقد ذكرها أفلاطون في كتابه الشهير"الجمهورية".
- عرفت هذه النظرية رواجا كبيرا في أواخر القرن السادس عشر، من طرف رجال القانون وغيرهم.
- تفترض هذه النظرية وفق الصيغة التي وضعها جون جاك روسو أن الأفراد كانوا يعيشون على الفطرة (الحالة الطبيعية) لا يخضع أي منهم لأية ضوابط معينة، وأن ظهور الدولة بما لها من سيادة يرجع إلى عقد أو اتفاق أبرمه هؤلاء الأفراد مع حكامهم يتضمن التنازل عن جزء من حريتهم لصالح الجماعة، فاستبدلوا بذلك القانون الطبيعي الذي كان ينظمهم بقانون بشري يتضمن حقوقهم المدنية والسياسية.
- من أنصار هذه المدرسة نجد توماس هوبز، وجون جاك روسو، وجون لوك، ولكل من هؤلاء نظرة مختلفة إلى فكرة العقد الاجتماعي.
الفرع الثاني
العقد الاجتماعي عند "توماس هوبز"
(1588-1679 م بريطاني)
- يعتبر هوبز من أنصار الملكية المستبدة، وهو ينظر إلى المجتمع على أنه مجتمع ذئاب مفترسة ينهش بعضها بعضا، ويرى هوبز أن المصلحة الذاتية هي محركة السلوك الإنساني، فالإنسان كائن أناني بطبعه، ومن ثم فما يسمى الحالة الطبيعية هي حالة حرب عارمة يتحارب فيها الكل ضد الكل، ويسيطر عليها قانون الغاب.
- ومن أجل الخروج من حالة الطبيعة تلك بدأ الإنسان حسب هوبز يبحث عن الوسيلة التي تمكنه من الخروج من تلك الوضعية، فاهتدى إلى فكرة العقد الاجتماعي الذي بموجبه يتنازل الأفراد عن كل حقوقهم وحرياتهم لشخص غير طرف في العقد يختارونهم من بينهم، ولكي يتمكن هذا الشخص من ممارسة سلطاته يجب أن يتمتع بسلطة لا تقاوح (سلطة مطلقة)، وبناء عليه لا يحق للشعب أن يثور ضد الحاكم لأن إطلاق سلطاته أفضل للشعب من العودة إلى حالة الفوضى.
نقد: هذا المذهب كما هو واضح يطلق سلطة الملك من جهة، ويخلط بين الدولة والحكومة من جهة أخرى لأنه يمنح السيادة للحاكم، وهذا يعني أن السلطة في يده وليس في يد الدولة التي تفوضها له، وبالتالي فإن تغيير الحاكم يؤدي إلى زوال الدولة.
الفرع الثالث
نظرية العقد السياسي عند "جون لوك"
(1632-1704 م بريطاني)
- ينطلق "جون لوك" من فكرة أن حياة البشر كانت تقوم على السلام والمساواة والحرية، غير أنهم أرادوا إنشاء مجتمع أكثر تنظيما وتحديدا للحقوق والحريات، وإنشاء هيئة تقوم بتنفيذ القانون الطبيعي، فقرروا إبرام عقد فيما بينهم يؤدي إلى ظهور سلطة تكون مهمتها تحقيق العدالة، فأساس قيام الدولة عند لوك هو الرضا.
- أما أطراف العقد حسب لوك فهما: الأفراد والحاكم المختار من قبلهم، وتكون سلطة الحاكم مقيدة بما تم الاتفاق عليه عند التعاقد، ويرى لوك أن الأفراد لم يتنازلوا عن كل حقوقهم وإنما عن الجزء الضروري لإقامة السلطة والدولة فقط.
- على الحاكم بناء على العقد السياسي هذا أن يسخر كل جهوده لتحقيق الصالح العام واحترام حقوق الأفراد الخاصة، وفي حالة إخلاله بالتزاماته فإنه يحق للأفراد فسخ العقد وتنحيته، بل يحق للشعب أن يثور ضده إذا حاول مقاومة إرادة الشعب.
- وحسب جون لوك فالطغيان هو ممارسة السلطة تخطيا لحدود الحق، كأن يمارس الحاكم السلطة لمصلحته الشخصية، فالحاكم إذا لم يتبع القانون جازت مقاومته كما يقاوم أي شخص يعتدي عليه غيره، وكما يقاوم اللصوص وقطاع الطرق.
- إن سلطة الحاكم تمنح فقط عندما يثق الشعب فيه، وأن أي انتهاك من جانب الحاكم للحقوق الطبيعية للشعب ينهي هذه الثقة، ويخول للشعب تولي السلطة من جديد.
نقد: إن ما يسمى العقد السياسي هو أمر عارض في حياة الشعوب، فأكثر الشعوب تعيش بلا عقد سياسي، ويتحكم فيها الطغيان أساسا.
الفرع الثالث
مذهب جون جاك روسو
(1712-1778م سويسري ثم فرنسي)
- يرى "روسو" أن حياة الأفراد في الطبيعة البدائية كانت تتميز بالعدالة الطبيعية والمساواة والحرية، إلا أنه نتيجة اكتشاف الزراعة والاختراعات ظهرت الملكية الفردية فانهارت المساواة، وتحولت حياتهم إلى شقاء، وازدادت الحروب والخلافات والتنافس على الثروة، مما دفع الأغنياء إلى البحث عن وسيلة تكفل لهم استمالة الفقراء، فأقاموا العقد بينهم للمحافظة على أموالهم والقضاء على الحروب، حيث يتنازل كل فرد عن جميع حقوقه الطبيعية للجماعة كلها.
- أما عن كيفية إبرام العقد فيرى روسو أن الأفراد يبرمونه مع أنفسهم بصفتهم أفرادا منفصلين أولا، ثم باعتبارهم أفرادا متحدين في الجماعة السياسية التي يرغبون في إقامتها، فالجماعة هي طرف في العقد، يتنازل لها الأفراد عن حرياتهم، ثم هي تقرر ما تمنح لهم من حقوق وحريات.
- وينتج عن العقد الاجتماعي حسب "روسو" نتيجتان أساسيتان: الأولى منهما أن الأفراد متساوون من جهة الحقوق والواجبات، والثانية أن الجامعة تتمتع بالسيادة الكاملة والسلطة المطلقة، ولا تعارض بين إطلاق سلطة الجماعة وبين حريات الأفراد، فإصدار الجماعة لقانون معين من أجل تحقيق الصالح العام هو تعبير عن الإرادات الجزئية للأفراد، فلا يتصور صدور قانون لا يتماشى مع حرياتهم وحقوقهم.
نقد: إن الانتقاد الذي يوجه إلى هذه النظرية وكل نظريات العقد أن هذا العقد لم يثبت تاريخيا، ولم يجتمع الناس أبدا لإقامة هذا العقد، كما أنه من الناحية المنطقية فاجتماع الناس من أجل إبرام العقد يتطلب أولا وجود جماعة منظمة، وقد أطاح الفرنسيون بالنظام القديم حين قاموا بثورتهم، ولكن أفكار "روسو" ومبادئه التي غدت هذه الثورة أصبحت واضحة إلى درجة أنها مكنت أي غوغائي يستولي على السلطة ثم يعلن أنه يمثل الإرادة العامة، ويفرض سلطته وسيطرته، كما أن أفكار "روسو" تضمنت طغيان الأكثرية حتى في ظل أنظمة ديمقراطية منظمة، أما الأقلية فإنها مهضومة الحقوق، وهكذا أصبحت أفكار "روسو" آلة بيد حكم الحزب الواحد أولا ثم كثير من المستبدين.
المطلب الثاني
نظرية القانون الطبيعي
الفرع الأول
شرح فكرة القانون الطبيعي
- تسمى أيضا فكرة القانون الإلهي، وهكذا فهذا القانون يسمو على القانون البشري، وقد كانت هذه الفكرة هي السائدة إلى غاية ظهور المذهب الوضعي مع عصر التنوير، وأساس هذه الفكرة أن المجتمعات وحتى ما يسمى الدول القديمة (لم تكن هناك دول بالمعنى الصحيح وإنما يمكن أن يطلق عليها أشكال مدنية أي أشكال على مستوى معين من الحضارة والتمدن مثل ما يعرف بالدولة-المدينة مثل روما وأثينا) كانت تلك المجتمعات تسوي بين عالم الإنسان والعالم الطبيعي، وكانت الآلهة تسيطر على كل شيء، على الطبيعة وعلى الإنسان، فتغير نتائج المعارك وتدمر الحكام وتنهض بدول وتضع أخرى، ولم يقبلوا فكرة أن القانون يوضع من طرف أي بشر، وفي فترة لاحقة عندما بدأ التوحيد مع المسيحية واليهودية وبدأ تقبل فكرة عدم تعدد الآلهة أصبح القول السائد أن النظام الطبيعي للأشياء صادر عن الله، سواء لتنظيم الكون الطبيعي أو لتنظيم شؤون الناس، وبالتالي فالقانون غير قابل للتطور لأنه ثابت ثبات الطبيعة.
- عندما بدأ الفلاسفة الذين جاؤوا بعد سقراط يبحثون فكرة القانون الطبيعي فإنهم لم يعتمدوا على الوحي لفهمه، بل بالعكس لجأوا إلى العقل، فالقانون الطبيعي مصدره العقل، فعن طريق العقل نعرف أن العالم تحكمه قوانين منطقية عقلية يقدر العقل البشري على استيعابها وفهمها، وبما أنه يستطيع فهم العلاقات التي تجري في الكون فهو أيضا يستطيع تقرير المبادئ التي تحكم الإنسان بصفته كفرد أو كعضو في المجتمع.
- لم يكن سهلا البحث عن هذا القانون الطبيعي، لأن "الطبيعي" بالنسبة للإنسان ليس هو نفسه بالنسبة للطبيعة، فالطبيعة تقرر أن القوي يسيطر على الضعيف مثلا، أما بالنسبة للإنسان فإن سيطرة القوي على الضعيف تؤدي إلى الفوضى، وهذا هو الجدل الذي كان سائدا بين الفلاسفة حول فكرة القانون الطبيعي.
- لقد جاء أفلاطون وأرسطو بأفكار جديدة حول القانون الطبيعي، مستعينا بفلسفته المثالية، فكان يرى أن الفكر الفلسفي يستطيع أن يصل إلى الحقيقة أكثر من مجرد الملاحظة الحسية، ذلك أن ما نراه ليس سوى عالم الظل وأنه انعكاس باهت للحقيقة، فالعدالة هي مفهوم مجرد مثالي نصل إليه بالعقل (عقل الفيلسوف)، ولا يتم تحقيقه إلا من طرف دولة مثالية (يحكمها ملوك فلاسفة)، أما العدل كما يريد أن تفرضه بعض القوانين البشرية فليس هو العدل الحقيقي المنشود، فالطبيعة تمثل بالنسبة للإنسان تطلعا مثاليا، إلا أن أفلاطون كتب في شيخوخته كتاب "القوانين" ليقول العكس، وهو أن العدل المثالي يمكن الاقتراب منه عن طريق القوانين القائمة.
- أما أرسطو فهو يؤمن بأن العدل يمكن أن يوجد، وأنه يختلف من دولة إلى أخرى وفق تاريخ كل مجتمع، كما أنه قد يكون طبيعيا يشمل الجنس البشري كله لأنه يرتكز على الغاية الأساسية للإنسان ككائن اجتماعي، وقد برر أرسطو الرق بأنه نظام طبيعي قائما على أن بعض الناس خلقوا أرقاء للطبيعة.
- أما الرواقيون الذين جاؤوا بعد أرسطو (عكس الأبيقوريين الذين كانوا وضعيين نفعيين) فإنهم طوروا مذهب القانون الطبيعي، ذلك أنهم يركزون على العقل، والقانون الطبيعي بالنسبة إليهم مستمد من العقل، ويتم اختبار عدالة القانون الوضعي بمقارنته بالقانون الطبيعي.
الفرع الثاني
تطور مذهب القانون الطبيعي
- تعتبر الفترة من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر الفترة الذهبية لمذهب القانون الطبيعي، وقد أسس الفقيه جروسيوس القانون الدولي على أساس القانون الطبيعي، أي على أساس العقل باعتباره العنصر المشترك للجنس البشري كله، والنظام المستمد من العقل يعتبر صالحا لكل مكان، ومن الأفكار التي سادت في ذلك الوقت القول بأن الدول الواقعة تحت الاستغلال (الاستعمار) هي في حالة الطبيعة ويحكمها القانون الطبيعي.
- على الرغم من آن القانون الطبيعي كان في البداية يشجع على طاعة الحكام الذين يملكون السلطة باسم النظام الطبيعي الصادر عن الله، فإنه ليس من أسس مذهب القانون الطبيعي تأييد الملكيات التي كانت موجودة، بل كانت الديمقراطية هي أساس القانون الطبيعي عن طريق القول بأن الإنسان يمتلك بعض الحقوق الأساسية في حالته الطبيعية، وأن المجتمع المتمدن عندما نشأ أخذه معه تلك الحقوق لكنها تبقى مصونة بالقانون الطبيعي (العقد الاجتماعي)، فالقانون الطبيعي هو مصدر الحقوق الديمقراطية الأساسية التي تقيد حرية الحكام، بل كانت كثير من الدساتير التي نشأت كالدستور الأمريكي بمثابة وثائق قانون طبيعي، فالدستور هو بمثابة ضمان قانوني لتلك الحقوق التي تعتبر بمثابة حقوق ممتازة.
- لقد شهد القانون التاسع عشر انحدار مدرسة القانون الطبيعي إلى الحضيض، وحلت محله الوضعية القانونية (المرتبطة بالوضعية العلمية أو الفسلفية بصفة عامة)، وقد كان للفلاسفة التنويريين دور كبير في محاربة فكرة القانون الطبيعي والنظر إليها على أنها فكرة لا تستند إلى أي أساس علمي، وأنها تتجاهل الدور الحيوي للعوامل التاريخية في تطوير القانون.
- مع كل القيم التي جاءت بها الثورة الفرنسية فإن جذوة مذهب القانون الطبيعي لم تنطفيء، بل استعادت قوتها بسبب الأخطاء الكبيرة التي ارتكبت خلال الحربين العالميتين، حيث انتهكت حقوق الإنسان بشكل فظيع وبربري، وظهر إحياء لتلك الفكرة على يد كانت وغيره، عن طريق الاعتراف بقانون طبيعي ذي محتوى متغير وليس ثابتا هذه المرة، وفي ألمانيا بالتحديد ظهرت إشكالات كبيرة في تطبيق القوانين النازية، والتي تم رفض تطبيق الكثير منها باسم مخالفتها للقانون الطبيعي، بل إن محاكمة زعماء النازية (أمام محكمة نورمبرغ) طرحت إشكالية معالجة جرائمهم التي تمت تنفيذا للقوانين السارية في دولتهم، وكان المخرج من هذه الورطة هو معاقبتهم بناء على قانون أسمى من قانون دولتهم هو القانون الدولي المستمد من القانون الطبيعي.
الفرع الثالث
القانون الطبيعي في القانون الحديث
- ما يمكن أن يقال اليوم عن فكر القانون الطبيعي أنه ما زال له وجود وتأثير في غالبية القوانين، بدليل نص القوانين عليه في الغالب كمصدر احتياطي للقانون كما في القانون الجزائري (المادة الأولى من القانون المدني الجزائري).
- إن فكرة القانون الطبيعي حققت أعظم تطور لها حين ضمنت في وثيقة حقوق الإنسان في دستور الولايات المتحدة الأمريكية، ثم في بقية المواثيق والقوانين.
- ما يزال بعض الجدل القانوني ساريا في دول عديدة حول بعض المسائل دون أن يمكن حسمها عن طريق القانون الطبيعي أو غيره، مثل مسألة عقوبة الإعدام، ومسألة القتل الرحيم، والإجهاض، وقد يرجع ذلك ربما إلى نزاع بين القانون والأخلاق والدين أكثر من أي أمر عقلي آخر، وقد يكون الحل كامنا في القانون الوضعي لا في القانون الطبيعي في هذه الأحوال.
المبحث الثاني
المذاهب الواقعية
المطلب الأول
المذهب التاريخي
الفرع الأول
نشوء المذهب التاريخي
- يمثل هذا المذهب الفيلسوف "مونتسكيو"، هذا الأخير كان حريصا على ضرورة القضاء على السلطة الفردية، ومنع التعسف في استعمال السلطة، وهو أول من دعا إلى مبدأ الفصل بين السلطات، وعبر عنه بقوله" السلطة توقف السلطة".
- إن معنى الفصل بين السلطات أن كل سلطة ينبغي أن لا تصطدم بحدود سلطة أخرى، ومن باب أولى أن لا تجتمع السلطات في يد واحدة، وأن يتم توزيع السلطة بين ثلاث هيئات لتكون كالتالي: سلطة تشريعية، سلطة تنفيذية، سلطة قضائية.
- ويرى "مونتسكيو" أن القانون يتأثر في نشأته بطبيعة كل بلد ومناخه وتقدمه وتطور الحياة فيه.
- ومن أنصار هذا المذهب نجد الفقيه "سافينيي" الذي يرى أن القانون ينشأ في ضمير الشعب، وينبع من روح الشعب، ويتطور تلقائيا تبعا لهذه الروح، فهو يتكون بطريقة تدريجية غير محسوسة، ثم يتقدم ويتطور متخطيا وعي الشعب ذاته.
الفرع الثاني
أسس المذهب التاريخي
- إنكار وجود القانون الطبيعي، لأن هذا الأخير جامد، بينما القانون متغير متطور وفق حاجات الأمة.
- القانون وليد حاجة الجماعة، ونتاج الزمن والتاريخ، ولذلك يختلف من دولة إلى أخرى، ويتغير في الدولة نفسها من جيل إلى جيل، فالقانون هو ثمرة التطور التاريخي.
- القانون يتكون ويتطور آليا، الإرادة الإنسانية لا تخلق القانون ولا تحوله عن طريقه المرسوم، فهو في تطور وتفاعل مستمر مع ضمير الأمة.
الفرع الثاني
نقد المذهب التاريخي
- ساهم هذا المذهب في تكريس الدور الاجتماعي للقانون، وكشف عن الارتباط القائم بين القانون والبيئة أو المجتمع، إلا أنه بالغ في الربط بين القانون والجماعة، وبالتالي أنكر دور العقل الإنساني في تكوينه، وقد يرى المشرع أن قانونا ما هو أنفع بغض النظر عن ظروف المجتمع.
- إن القانون كما يكون وليد البئية فإنه لا يمنع أن كثيرا من الدول تقتبس قوانينها من دول وبيئات أخرى لها تجربة وباع، وكثيرا ما تعود عليها تلك القوانين بالنفع، فقد يصح القول بأن المجتمعات القديمة تشكل فيها القانون بتلك الطريقة حيث تأثر بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لكل قبيلة ومدينة، لكن الحال اليوم مختلف تماما، حيث يعتبر التشريع بمثابة الإرادة الواعية التي تتحكم في سيرورة المجتمع.
المطلب الثاني
المذهبان الفردي والاشتراكي
الفرع الأول
المذهب الفردي
- يقوم المذهب الفردي على فكرة أساسية مفادها أن الفرد هو محور الحياة الاجتماعية وهدفها، والإنسان أساس الوجود وغايته، وهو محور كل القيم والغاية العليا لكل تنظيم اجتماعي.
- والفرد حسب المذهب الفردي لا يستمد وجوده من المجتمع، بل المجتمع هو الذي يقوم بفضل الفرد، لذا فإن الجماعة توجد لخدمته لأنه يولد ومعه حقوق لصيقة به ولا يكتسبها من الجماعة، ومصلحة الفرد هي السبيل لتحقيق مصلحة الجماعة.
- يترتب على ما سبق من الناحية السياسية أن الحرية والمساواة هما من الحقوق اللصيقة بالإنسان، لا يجوز تقييدها أو المساس بها، والمجتمع السياسي المنظم وجد فقط لتأكيد تلك الحقوق وحمايتها.
- أما من الناحية الاقتصادية فينبغي أن تسود الحرية الاقتصادية الكاملة، فتكون المنافسة الحرة والنشاط الاقتصادي دون تدخل الدولة بوضع قيود عليه.
- وعلى الصعيد القانوني يعتبر الفرد الهدف الأسمى للقانون الذي ليس له دور سوى حماية وضمان حقوق وحريات الأفراد، مع رسم الحدود الفاصلة بين حقوق وحريات الأفراد حتى لا تتعارض، وذلك على أساس أنهم سواسية أمام القانون، وأن إرادتهم سيدة، حيث تسود حرية التعاقد، والملكية الخاصة مصونة لا تمس، ولا يسوغ نزعها ولو للمصلحة العامة.
نقد: لا شك أن المذهب الفردي لعب دورا كبيرا في تأكيد حرية الإنسان في مواجهة الاستبداد وطغيان السلطة الحاكمة التي سادت في العصور الوسطى، إلا أنه يؤخذ عليه أنه غالى في المصلحة الفردية التي لا تقوم منعزلة عن المصالح الجماعية الكثيرة كالتعليم والمواصلات والصحة والضمان الاجتماعي ... إلخ، كما أن المساواة بين الأفراد هي مساواة نظرية لأن التنافس بين الأفراد يؤدي إلى غلبة الأقوى، وظهور الاحتكار والتكتلات الاقتصادية التي تسعى لفرض السيطرة على الضعفاء، وعلى الصعيد القانوني أيضا فالإرادات ليست متساوية والأقوياء هم الذين يفرضون شروطهم، كأرباب العمل الذين يستغلون العمال والأطفال والنساء ويحرمونهم من الحقوق.
الفرع الثاني
المذهب الاجتماعي
- ظهر المذهب الاجتماعي كرد فعل للظلم الذي تعرضت له الطبقات الضعيفة، وكان رده متطرفا حيث نظر إلى الإنسان ككائن اجتماعي، ومن ثم يجب النظر إلى مصلحة المجتمع بأسره، فالعبرة بتحقيق مصلحة الجماعة، ويجب تسخير الفرد لخدمة الصالح العام.
- ترتب على ذلك من الناحية السياسية والاقتصادية أن الدولة أصبحت تتدخل لكفالة الحرية والمساواة الفعلية وليس النظرية بين الأفراد، من خلال فرض ما تراه مناسبا من القيود على النشاط الاقتصادي لمنع الاستغلال والاحتكار.
- أما من الناحية القانونية فتتحدد وظيفة القانون بتحقيق مصلحة الجماعة، فالملكية مثلا ليست حقا خاصا مطلقا بل لها وظيفة اقتصادية واجتماعية، ويمكن تأميمها ونزعها للمنفعة العامة، ويتدخل القانون في مجال التعاقد فيفرض بعض القيود، من ذلك أنه يفرض التأمين الإجباري على السيارات والمباني، وسلطة القاضي في تعديل عقود الإذعان.
نقد: من حسنات المذهب الاجتماعي أن أبرز أهمية المصلحة العامة، وحماية الطبقة الضعيفة، إلا أنه تطرف أيضا في إهدار حقوق الفرد، ما أدى إلى طغيان الدولة متمثلة في الحكام، وتقلص دور الفرد وشلت حركته وعرقل نشاطه، وكانت النتيجة هي زيادة التعقيدات الإدارية والكساد الاجتماعي والاقتصادي، واستفحل دور القانون العام على حساب القانون الخاص بما فيه من سلطة العقاب أيضا.
إن تلافي عيوب المذهبين والتوفيق بينهما كان في غالبية الدول عن طريق الجمع بين المذهبين، مع الاعتراف بحقوق الفرد، وأيضا جميع الحقوق الاجتماعية والاقتصادية التي جاء بها المذهب الاجتماعي والتي صارت مكسبا لا يستغنى عنه.
المطلب الثالث
مذهب التضامن الاجتماعي
(ليون ديجي – موريس هوريو)
- يرى ديجي أن القانون مرتبط بالتضامن الاجتماعي، حيث كان الإنسان في الماضي يعيش مع غيره في حياة اجتماعية، فهو عضو في جماعة إنسانية، لكنه أيضا مستقل عن المجتمع بحاجاته الشخصية وميولاته الخاصة، وهكذا فهو يرتبط بأفراد المجتمع الآخرين ارتباط تضامن، هذا التضامن حسب ديجي هو حقيقة علمية واقعية وليس مثاليا، بدليل أن القبائل الرحل كانوا يجتمعون للدفاع عن كيانهم، وكذلك فالأسرة تقوم على التضامن بين أفرادها، وفي المدن يكون التضامن بين الأسر ذات التقاليد والأصول والأعراق المتحدة.
- إن الجماعة مهما وجدت فيها من فوارق، ومهما كان تسلط الحكومة فهي تبقى مرتبطة بالتضامن.
هنا نهاية المحاضرات
بالتوفيق