40 - الأدب السوفياتي

40 - الأدب السوفياتي

لم تكن دور نشر كتب الأطفال و الناشئة في الولايات المتحدة الأمريكية أو في دول أوروبا الغربية الوحيدة القادرة على إغراق مكتبات النشء في مختلف بقاع العالم بإصداراتها المتنوعة. ففي القرن العشرين كان للاتحاد السوفياتي بمختلف أقاليمه , إسهامات بارزة في إثراء مكتبة الطفل بمئات العناوين القصصية و المعرفية المنقولة لعدة لغات عالمية على غرار لغتنا الحبيبة. ففي الوقت التي كانت فيه سلاسل GOLDEN BOOKS و منشورات WHITMAN PUBLISHING و إصدارات GROSSET & DUNLAP الأمريكية تغزو  العالم بملايين النسخ, كانت دار التقدم ( Прогресс ) و دار مير ( Мир )  و دار رادوغا ( Радуга)  السوفياتية تعمل بجد على تقديم بديل هادف لأطفال البلدان التابعة للمعسكر الشرقي. و  قد تركت هذه الدور الثلاث الأثر البالغ على أجيال الستينات و السبعينات و الثمانينات، ليس في الإتحاد السوفياتي فحسب, بل في عدة نقاط من العالم.

و لمعرفة تاريخ هذه الدور علينا الرجوع إلى النصف الأول من القرن المنصرم, الذي شهد تأسيس دار نشر الآداب باللغات الأجنبية و هي  - بلا شك - دار نشر حكومية موجهة للأسواق الداخلية و الخارجية.  و التي تم إعادة هيكلتها عام 1963 لتنبثق منها كل من دار مير و دار التقدم. إذ عهد للأولى مهام  نقل أهم الإصدارات العلمية و التقنية من و إلى مختلف لغات العالم, في حين تناولت الثانية مهام ترجمة الأعمال الأدبية و القصصية لكبار الأدباء الروس. 

ركزت دار مير في أعمالها على ترجمة كتب في مواضيع متنوعة على غرار الفيزياء, الرياضيات,الفلك, الجيولوجيا, الطب, علم الأحياء .... و ذلك للعديد من اللغات العالمية من نظير اللغة الإنجليزية و العربية و الألمانية و الإسبانية و الفرنسية . و هي أعمال حققت نجاحا باهرا و كانت في معظمها موجهة للكبار  دون إغفالها لفئة الأطفال و الناشئة، التي حظيت هي الأخرى بعناوين متنوعة على غرار  كتاب الفزياء للصغار. 

من جهة أخرى، تميزت إصدارات دار التقدم الموجهة للصغار  بثراء محتواها و تنوعه، فقد شملت كتبا معرفية مبسطة تتناول أهم المواضيع التي تستثير اهتمام الطفل الصغير على غرار كتب وسائل النقل أو كتب الحيوانات ... إضافة إلى عدد هائل من العناوين القصصية المستقاة من التراث الروسي مثل قصة " ماشا و الدب " التي أعاد صياغتها "بولاتوف" و  نقلها للغة العربية "ألكسندر ميتلوف" و زينت برسومات " راتشييف ". و هي قصة جميلة تحدثنا عن الطفلة "ماشا " التي لم تستمع لنصيحة جدها و جدتها، لتبتعد عن المنزل وتتوه في الغابة. لتجد نفسها أسيرة لدى دب متسلط و كيف تحاول التخلص من هذه الورطة و العودة سالمة للمنزل. وهي كغيرها من القصص لاتخل من عبرة أو مغزى أو نصيحة لابد و أن تزرع في الطفل الصغير كي يقدر على مواجهة تحديات الحياة.

و يبدو أن شساعة مساحة الإتحاد السوفياتي و تعدد قومياته جعلنا نحظى بقصص من التراث الأرميني و الأكراني و القوقازي و الأبخازي و الجورجي و القرغيتزي و الليتواني ... فضلا عن التراث الروسي الذي حظي بحصة الأسد من الأعمال الموجهة للصغار . و قد جاءت هذه الأعمال ضمن قصص مصغرة لا تتجاوز العشرين صفحة أو ضمن مجموعات قصصية زاد بعضها عن 100 صفحة.

و من أبرز ما نلاحظه في الأعمال القصصية السوفياتية الصادرة عن دار التقدم بموسكو أنها - في معظمها - من تأليف كبار الأدباء الروس على غرار الأديب الكبير " ليون تولستوي " أو رائد القصة القصيرة الشهير  " أنطون تشيخوف " أو الروائي البارز " مكسيم غوركي" أو  الكاتب المسرحى المتألق " ألكسندر بوشكين " أو الشاعر  المفوه " كورني تشوكوفسكي " أو الأديب و المترجم "بوريس زاخودير" ..... و غيرهم من الأقلام البارزة في الساحة الأدبية. 

ويبدو  أن هذه الأعمال جمعت بين العديد من الأنماط الأدبية من أعمال نثرية و شعرية مما يثري الرصيد اللغوي للطفل الصغير و يصقل من ملكاته و يبرز مواهبه.... ناهيك عما تقدمه له من مهارات العيش في مجتمعات ذلك العصر. فالقصص السوفياتية تدور في معظمها في بيئة ريفية ذات صلة بالطبيعة و الحيوانات أو في مجتمعات قروية محاطة بالأخيار و الأشرار من بني البشر، و يحاول الأديب دوما أن يفتح أعين النشء على ضرورة التحلي بالفضيلة و  نبذ الرذيلة. و لم تخل هذه الاعمال أيضا من قصص هزلية تدخل المرح و البهجة في نفوس القراء. 

و قد زينت معظم هذه الإصدارات برسومات جميلة لرسامين مرموقين من الإتحاد السوفياتي. نذكر منهم  الرسام المتألق " بوريس ألكساندروفيتش ديختيريف", و المبدع "يوري فاسنستوف",و صاحب الريشة الفنية "دايفيد بوروفسكي" ... كما جمع بعضهم بين الرسم و التأليف على غرار الفنان الكبير " يفغيني تشاروشين "  و ابنه " نكيتا تشاروشين المتخصصان في الحيوانات .... و قد قدما لنا عدة أعمال على غرار  " كتابي عن الحيوانات" و " كل كيف يعيش".

في عام 1982 تمت إعادة هيكلة دار التقدم من جديد لتنبثق منها "دار رادوغا " التي تخصصت في الأعمال الأدبية، في حين عهد بالأعمال العلمية و السياسية للدار التي ظلت تحمل نفس التسمية القديمة. و  قد باشرت دار رادوغا الفتية بإعادة نشر عدد من الأعمال الصادرة في سنوات الستينات و السبعينات عن دار التقدم. كما قامت بمواصلة إصدار عناوين قصصية جديدة لكتاب و أدباء مرموقين و هي نفس السياسة المنتهجة سابقا.  ولعل ابرز ما صدر عن دار  رادوغا في ثمانينات القرن الماضي هو سلسلة حكايات الجاهل لكاتب الأطفال الأكراني "نيقولاي نوسوف" التي تقع في 20 عنوانا. و قد نقلت هذه السلسلة لعدة لغات عالمية أبرزها اللغة العربية على يد الأديب و  المترجم العراقي " غائب طعمة فرمان".

و يبدو أن أعمال هذه الدار و سابقتها قد عرفت رواجا واسعا في العالم,فقد استطاعت اختراق الأسواق الأمريكية رغم الحساسية الشديدة بين الولايات المتحدة الأمريكية و الإتحاد السوفياتي في تلك الحقبة. كما عرفت انتشارا رهيبا في الهند،إذ نقلت الكثير من القصص للغات الهندية المحلية. أما في عالمنا العربي فقد كان أطفال سوريا و العراق و لبنان و بدرجة أقل مصر من أهم قراء هذه الأعمال. و قد تميزت هذه الكتب المطبوعة في الإتحاد السوفياتي بثمنها الزهيد و إخراجها البسيط  لتكون في متناول مختلف طبقات المجتمع و بالخصوص الطبقة المتوسطة و الفقيرة.

تجدر الإشارة أيضا لوجود دور نشر سوفيياتية أخرى ساهمت في رفد مكتبة الطفل بالعديد من العناوين على غرار  " دار ماليش " بموسكو  و " دار بلجارسكي هودوجنيك " بالعاصمة البلغارية صوفيا و التي نقلت منها مجموعة من الأعمال للغة العربية, أو " دار نشر دنبرو " من أكرانيا و التي وصلتنا أيضا بعض أعمالها المترجمة للغة العربية. غير أننا – مع الأسف – لازلنا نجهل القائمة النهائية لاصدارات هذه الدور.

يطيب لنا في الأخير التنويه إلى أن العديد من الزملاء الأفاضل  قد استطاعوا الاحتفاظ بعشرات العناوين الصادرة عن هذه الدور في مكتباتهم رغم الظروف الأمنية الصعبة التي شهدتها بلدانهم. و هو ما يتهدد هذا التراث الأدبي بالاندثار مع مرور الزمن. و هنا يجدر بنا توجيه الشكر الجزيل  لكل من الأخ العزيز يوسف زريق و  الدكتور رامي اليوسفي و الأخ الكريم محمد زيادة على فتح أرشيفهم أمامنا و على الحوارات المتبادلة خلال السنوات السابقة حول أدب الطفل السوفياتي... كما لا يفوتنا التعبير على شكرنا و امتناننا للدكتور نزار حبيب و الأخ محمد (بلوبيرد)  و كل على من يسعى  لتوثيق هذا التراث الزاخر، إلكترونيا.