36 - دار المعارف 

36 - دار المعارف 

نغادر المنطقة الاسكندنافية و القارة العجوز و نعود للوطن العربي لنحط الرحال بأرض الكنانة, من أجل الحديث عن واحدة من أعرق و أشهر دور النشر في مصر و العالم العربي. هي دار تظافرت فيها الجهود المصرية و اللبنانية و السورية و ارتسمت على إصداراتها لوحات من إبداعات أرمينية و نمساوية و إيطالية فضلا عما تفننت فيه ريشة الرسامين المصريين. حديثنا اليوم عن دار المعارف التي أثرت مكتبة الصغار و قبلهم الكبار بآلاف العناوين و مئات السلاسل الأدبية و العلمية الهادفة.

و لمعرفة تاريخ هذه الدار علينا الرجوع إلى أواخر القرن التاسع عشر, عندما قدم السيد نجيب متري من لبنان إلى مصر للعمل في مجال الطباعة و هو العمل الذي كان قد احترفه. و نظرا لشغفه بهذا المجال, فقد قرر متري انشاء مطبعته الخاصة. و كان له ذلك عام 1890 بالشراكة مع جرجي زيدان في مطبعة الهلال قبل أن يستقل – لاحقا – بتأسيس مطبعة المعارف في القاهرة و التي تحولت في عام 1910 إلى دار المعارف للنشر. و بعد وفاة نجيب متري خلفه ابنه شفيق الذي أحدث نقلة نوعية في هذه الدار من خلال تجديد هياكلها باقتنائه لأحدث معدات الطباعة آنذاك, و نقل الدار إلى مقر جديد أوسع و أرحب من ذاك الذي كانت عليه.

و قد نشرت هذه الدار , عبر مسيرتها الطويلة, أعمال كبار الأدباء و المفكرين العرب على غرار أعمال عباس محمود العقاد, طه حسين, عائشة عبد الرحمن, توفيق الحكيم, أحمد فارس الشدياق و غيرهم الكثير .... و كان و لازال لسلاسلها الأدبية الأثر البالغ على طلبة الادب العربي و العلوم الشرعية. فسلسلة ذخائر العرب تعد واحدة من أهم إصدارات هذه الدار, و التهافت عليها في معارض الكتب لانظير له على الرغم من سعرها الباهض. و هي و إن كانت موجهة للكبار و للمختصين فإن بعض أعدادها جدير بأن يكون في مكتباتنا المنزلية, خصوصا تلك التي أشرف على تحقيقها الأستاذ القدير عبد السلام هارون و محمود شاكر ....

و بالتوازي مع النجاح الباهر الذي كانت تعرفه هذه الدار فيما يتعلق بكتب الراشدين, فقد كانت كتب الأطفال و الناشئة تشهد تحسنا ملحوظا, فقد أحسن نجيب متري بإصداره و تبنيه للعديد من السلاسل ذات الأثر البالغ على الطفل العربي. فمكتبة كامل الكيلاني – رائد أدب الطفل العربي - تعد واحدة من أهم السلاسل التي لا تزال مكتبة المعارف تزهو بها. و هي المكتبة التي تسعى جل المدارس لوضعها في متناول تلاميذها و طلابها. فقد حاول الكيلاني في هذه المكتبة أن يسبح بالطفل العربي في عالم الخيال من خلال قصص تراثية بديعة تناقلتها شعوب العالم و روتها الجدات للأحفاذ على مر العصور. و هي مكتبة جاءت ضمن سلاسل مصغرة من نظير قصص فكاهية, قصص هندية, قصص من ألف ليلة و ليلة, قصص شكسبير, قصص عربية , قصصص علمية ...... و قد عدت عناوين هذه المكتبة بالعشرات و ساهم في تزيين صفحاتها نخبة من الرساميين الأجانب المقيمين في مصر في ذلك الزمن, على غرار الرسام الإيطالي Mario Morelli di Popolo أو الرسام الأرميني ديكران و غيرهم الكثير. ويبدو أن دار المعارف لم تكن تولي أهمية كبيرة لذكر أسماء الرسامين على إصداراتها في بدايتها, إذ أن المصدر الوحيد لمعرفة الرسام هو التوقيع التي يتركه على لوحاته.... ومع ذلك لاتزال الكثير من التواقيع مجهولة. و يبدو أن من ضمن الرسامين المصريين المبدعين المساهمين في مكتبة الكيلاني نجد توقيع علي رضا الذي لانجد الكثير من المعلومات عنه . و قد حاولنا التواصل مع الناشر للاستفسار عن الموضوع لكن الجيل الجديد من الموظفين لا دراية لهم بتفاصيل الماضي.

إضافة إلى مكتبة الكيلاني, فقد أصدرت دار المعارف سلسلة المكتبة الخضراء التي دخلت معظم البيوت و تربت عليها أجيال النصف الثاني من القرن العشرين. و هي سلسلة بديعة تجاوزت أعدادها الستين عنوانا و ساهم في تأليفها نخبة من الكتاب المرموقين على غرار محمد عطية الأبراشي و عادل الغضبان و يعقوب الشاروني و عبد التواب يوسف. و قد ساهم في تزيينها برسومات بديعة نخبة من الرساميين المميزين تتقدمهم الرسامة النمساوية ستيلا. و قد تميزت هذه السلسلة بالمستوى اللغوي الرفيع الذي لم يتنازل فيه الكتاب قيد أنملة بالرغم من أنه موجه للأطفال, في ثقة منهم على أن الطفل العربي قادر على فهم النص الفصيح.

إضافة إلى هذا, نذكر بعض السلاسل الأخرى المميزة لدار المعارف مثل المكتبة الحديثة للأطفال التي تقع في 50 عدادا ضمن مجموعتين تضم كل واحدة منها 25 عنوانا. و بدأت هذه السلسلة في الظهور في أربعينيات القرن الماضي على يد محمد عطية الأبراشي. أو سلسلة حكايات صينية, سلسلة القصص المدرسية, سلسلة شبابنا أو سلسلة " أولادنا " التي أشرف عليها محمد فريد أبو حديد و هي موجهة لليافعين و قد تجاوزت أعدادها 50 عنوانا. 

و يبدو أن الرسام البارع حسين بيكار كان قد أشرف على سلاسل بديعة للأطفال الصغار على غرار سلسلة الكتاب العجيب التي ساهم فيها جيل جديد من الرسامين المصريين من نظير يوسف فرنسيس و محي الدين اللباد و إيهاب شاكر, و هي سلسلة لا تختلف كثيرا عن نظيراتها المسماة سلسلة الطفل السعيد و سلسلة روضة الطفل. 

و لم يكن اهتمام دار المعارف منصبا على السلاسل القصصية فحسب, بل أولت اهتماما بالغا للكتب العلمية و التي كانت في معظمها مترجمة عن سلاسل أجنبية. فلعل أبرز الصفقات التي عقدتها دار المعارف هي تلك التي كانت مع مؤسسة فرانكلين واتس الأمريكية مطلع الخمسينات و التي نتج عنها نقل أهم سلاسل هذه الدار للغة العربية على غرار "سلسلة كتابك الأول عن" و الذي حقق رواجا كبيرا في نسخته الأمريكية و كان وراء نجاح الناشر الأمريكي و قد تناولت هذه السلسلة العلمية موضوعات متنوعة على غرار الحشرات, الثديات, الثعابين, الزجاج, الميكروبات ..... و توالت السلاسل العلمية المترجمة بمختلف مصادرها فظهرت سلسلة " كل شيء عن " و سلسلة " العلم من حولك " و " مجموعة الكتب العلمية المبسطة " فضلا عن سلسلة المعارف للأولاد المنقولة عن الناشر البريطاني Macdonald Educational كما أسلفنا الحديث في مواضيع سابقة.

لا تزال دار المعارف نشطة إلى غاية كتابة هذه الأسطر و هي تحاول رفد مكتبة الطفل العربي بكل ما هو جديد و نافع كما أنها لا تزال تعيد طباعة العناوين القديمة التي لقيت استحسان القراء و قد وصلت طبعات بعض الكتب الطبعة 28. و هو ما يعكس ثقة القارئ العربي في هذا الناشر على الرغم من وجود بعض الهنات في بعض العناوين على غرار تلك التي أشرنا لها سلفا عند حديثينا عن قصة جلد الحمار الواردة ضمن كتاب قصص مسحورة من سلسلة أولادنا و التي نقلها عادل الغضبان بأمانة صادمة للطفل العربي دونما أي اجتهاد من الناشر في مراعاة البيئة العربية المحافظة.