غزوة بدر
تعدُّ غزوة بدر أوَّلَ مواجهةٍ عسكريَّةٍ بين قريش والمسلمين. ووقعت في صباح اليوم السَابع عشر من شهر رمضان من العام الثَاني للهجرة.
سبب تسميَّة غزوة بدر سُمِّيت الكثير من المعارك والغزوات بأسماء المناطق الَّتي وقعت فيها، ومن هذه الغزوات غزوة بدر الَتي سُمِّيت بهذا الاسم نسبةً إلى أرض بدر الَتي وقعت عليها؛ وبدر هو اسمٌ لبئر شهيرة بين مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة على بعد 150كم من المدينة، و310كم من مكَّة، ومنطقة بدر هي إحدى أسواق العرب الَّتي كانوا يقصدونها في كلِّ عام للتَّبادل التِّجاريِّ والمُفاخرة، وسمِّي يوم غزوة بدر كذلك بيوم الفرقان؛ لأنَّ الله تعالى فرق به بين الحقِّ والباطل.
وفي شأن أهلها يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "«لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
سبب الغزوة:
خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض صحابته للظفر بقافلة لقريش محملة بثروات عظيمة وهي راجعة من الشام.
أولا تعويض المسلمين عما تركوه من ديار واموال عند الهجرة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك دياره وهاجر وأخذها عقيل بن أبي طالب بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، حين قيل له: أين تنزل يا رسول الله من دورك؟: «وهل ترك لنا عقيل من دار؟».
ومن ذلك ما روى عن صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه عندما ذهب مهاجرا إلي المدينة ، فتبعه نفر من قريش ، فنزل ، عن راحلته وانتشل ما في كنانته وأخذ قوسه وقال: لقد علمتم أني من أرماكم ، وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقى في يدى منه شيء ، ثم افعلوا ما شئتم ، قالوا: لا نتركك تذهب عنا غنيا وقد جئتنا صعلوكا ، ولكن دلنا علي مالك بمكة ونخلي عنك وعاهدوه علي ذلك ففعل ، فلما قدم علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزلت هذه الآية. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ربح البيع أبا يحي " وتلا عليه قوله قال تعالي: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }.
ثانيا إضعاف قوة قريش الاقتصادية، إذ كانت القافلة مكونة من ألف بعير مُحمَّلة بالبضائع والأموال، وتُقدَّر قيمتها بحوالي خمسين ألف دينار ذهبي ولم يكن معها من الحرس إلا نحو أربعين رجلا.
ويستفاد من هذا ان الكافر الحربي مباح الدم والمال بخلاف الذمي والمستامن.
عرض بعض الجوانب من الغزوة:
أعلن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المسلمين قائلا: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها.
ولم يعزم على أحد بالخروج، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة، لما أنه لم يكن يتوقع عند هذا الانتداب أنه سيصطدم بجيش مكة- بدل العير- هذا الاصطدام العنيف في بدر، ولذلك تخلف كثير من الصحابة في المدينة
واستعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم للخروج ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا .
لم يكن معهم إلا فرسان، فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي، وكان معهم سبعون بعيرا ليعتقب الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعليّ ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرا واحدا.
حم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ، كَانَ أَبُو لُبَابَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، زَمِيلَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَكَانَتْ عُقْبَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَقَالَا نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ، فَقَالَ: " مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي، وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الْأَجْرِ مِنْكُمَا "
وأما خبر العير فإن أبا سفيان- وهو المسؤول عنها- كان على غاية من الحيطة والحذر، فقد كان يعلم أن طريق مكة محفوف بالأخطار، وكان يتحسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان، ولما اقترب من بدر تقدم عيره، حتى لقي مجدي بن عمرو، وسأله عن جيش المدينة، فقال: ما رأيت أحدا أنكره، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما، ثم انطلقا، فبادر أبو سفيان إلى مناخهما، فأخذ من أبعار بعيرهما، ففته، فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب، فرجع إلى عيره سريعا، وضرب وجهها محولا اتجاهها نحو الساحل غربا، تاركا الطريق الرئيسي الذي يمر ببدر على اليسار وبهذا نجا بالقافلة من الوقوع في قبضة جيش المدينة، وحينئذ استأجر أبو سفيان ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة، مستصرخا لقريش بالنفير إلى عيرهم، ليمنعوه من محمد- صلّى الله عليه وسلم- وأصحابه، وخرج ضمضم سريعا حتى أتى مكة، فصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره، وقد جدع أنفه، وحول رحله، وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة، اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث.
أهل مكة يتجهزون للغزو:
فتحفز الناس سراعا، وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ كلا، والله ليعلمن غير ذلك، فكانوا بين رجلين، إما خارج، وإما باعث مكانه رجلا، وأوعبوا في الخروج، فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب، فإنه عوض عنه رجلا كان له عليه دين، وحشدوا من حولهم من قبائل العرب، وانتهى أمر الجيش في قوام ألف مقاتل.
ولما تلقى هذه الرسالة جيش مكة هم بالرجوع، ولكن قام طاغية قريش أبو جهل في كبرياء وغطرسة قائلا: والله لا نرجع حتى نرد بدرا، فنقيم بها ثلاثا فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف لنا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا.
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروج قريش استشار أصحابه، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثانيا، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثالثا،
ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، فبادر سعد بن معاذ، فقال: يا رسول الله! كأنك تعرض بنا؟ وكان إنما يعنيهم، لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم، فلما عزم على الخروج، استشارهم ليعلم ما عندهم، فقال له سعد: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقا عليها أن لا ينصروك إلا في ديارها، وإني أقول عن الأنصار، وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك.
«وقال له المقداد: لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك. فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسر بما سمع من أصحابه، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عشيا أدنى ماء من مياه بدر، فقال: ( «أشيروا علي في المنزل» ) . فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله! أنا عالم بها وبقلبها، إن رأيت أن نسير إلى قلب قد عرفناها، فهي كثيرة الماء، عذبة، فننزل عليها ونسبق القوم إليها ونغور ما سواها من المياه.
وسار المشركون سراعا يريدون الماء وبعث عليا وسعدا والزبير إلى بدر يلتمسون الخبر، فقدموا بعبدين لقريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فسألهما أصحابه من أنتما؟ قالا: نحن سقاة لقريش، فكره ذلك أصحابه، وودوا لو كانا لعير أبي سفيان، ( «فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: أخبراني أين قريش؟ قالا: وراء هذا الكثيب. فقال: كم القوم؟ فقالا: لا علم لنا، فقال كم ينحرون كل يوم؟ فقالا: يوما عشرا، ويوما تسعا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين تسعمائة إلى الألف» ) ، فأنزل الله عز وجل في تلك الليلة مطرا واحدا، فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلا طهرهم به، وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطأ به الأرض، وصلب به الرمل، وثبت الأقدام، ومهد به المنزل، وربط به على قلوبهم، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى الماء، فنزلوا عليه شطر الليل، وصنعوا الحياض، ثم غوروا ما عداها من المياه، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الحياض. وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش يكون فيها على تل يشرف على المعركة.
ثم عبأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم جيشه، ومشى في موضع المعركة، وجعل يشير بيده: هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، ثم بات رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع شجرة وبات المسلمون ليلهم هادىء الأنفاس منير الآفاق، غمرت الثقة قلوبهم، وأخذوا من الراحة قسطهم، يأملون أن يروا بشائر ربهم بعيونهم صباحا( إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ
الجيشان يتراءان:
ولما تراآى الجمعان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها، جاءت تحادك، وتكذب رسولك، وقام، ورفع يديه، واستنصر ربه، وقال: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك " فالتزمه الصديق من ورائه، وقال: يا رسول الله! أبشر فوالذي نفسي بيده، لينجزن الله لك ما وعدك»
تعليمات القتال:
ولما تم تعديل الصفوف أصدر أوامره إلى جيشه بأن لا يبدأوا القتال حتى يتلقوا منه الأوامر الأخيرة، ثم أدلى إليهم بتوجيه خاص في أمر الحرب فقال: «إذا أكثبوكم- يعني كثروكم- فارموهم، واستبقوا نبلكم ، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم.
ساعة الصفر وأول وقود المعركة:
وكان أول وقود المعركة الأسود بن عبد الأسد المخزومي- وكان رجلا شرسا سيء الخلق- خرج قائلا: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه. فلما خرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فلما التقيا ضربه حمزة، فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد أن تبر يمينه، ولكن حمزة ثنى عليه بضربة أخرى أتت عليه وهو داخل الحوض.
المبارزة:
وكان هذا أول قتل أشعل نار المعركة، فقد خرج بعده ثلاثة من خيرة فرسان قريش كانوا من عائلة واحدة، وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، فلما انفصلوا من الصف طلبوا المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من شباب الأنصار، عوف ومعوذ ابنا الحارث- وأمهما عفراء- وعبد الله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار. قالوا: أكفاء كرام، ما لنا بكم حاجة، وإنما نريد بني عمنا، ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي» ، فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا: من أنتم؟ فأخبروهم، فقالوا: أنتم أكفاء كرام، فبارز عبيدة- وكان أسن القوم- عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد «1» ، فأما حمزة وعلي فلم يمهلا قرنيهما أن قتلاهما، وأما عبيدة فاختلف بينه وبين قرنه ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم كر علي وحمزة على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة، وقد قطعت رجله؛ فلم يزل صمتا حتى مات بالصفراء بعد أربعة أو خمسة أيام من وقعة بدر، حينما كان المسلمون في طريقهم إلى المدينة.
الهجوم العام:
وكانت نهاية هذه المبارزة بداية سيئة بالنسبة إلى المشركين، فقدوا ثلاثة من خيرة فرسانهم وقادتهم دفعة واحدة، فاستشاطوا غضبا، وكروا على المسلمين كرة رجل واحد.
وأما المسلمون فبعد أن استنصروا ربهم، واستغاثوه، وأخلصوا له، وتضرعوا إليه، تلقوا هجمات المشركين المتوالية، وهم مرابطون في مواقعهم، واقفون موقف الدفاع، وقد ألحقوا بالمشركين خسائر فادحة، وهم يقولون: أحد أحد.
الرسول- صلّى الله عليه وسلم- يناشد ربه:
وأما رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فكان منذ رجوعه بعد تعديل الصفوف يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك» . حتى إذا حمي الوطيس، واستدارت رحى الحرب بشدة، واحتدم القتال، وبلغت المعركة قمتها، قال:
«اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا» . وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فرده عليه الصديق، وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك.
وأوحى الله إلى ملائكته أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، وأوحى إلى رسوله أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ- أي أنهم ردف لكم، أو يردف بعضهم بعضا أرسالا، لا يأتون دفعة واحدة.
نزول الملائكة:
وأغفى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إغفاءة واحدة، ثم رفع رأسه فقال: «أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع» (أي الغبار) . وفي رواية محمد بن إسحاق: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل أخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع» .
قال ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه، فإذا هو قد قتل فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة . وقال أبو داود المازني: إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري. وجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب أسيرا، فقال العباس: إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق، وما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال: «اسكت فقد أيدك الله بملك كريم» .
ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم من باب العريش، وهو يثب في الدرع، ويقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (54: 45) ، ثم أخذ حفنة من الحصباء، فاستقبل بها قريشا وقال: «شاهت الوجوه» ، ورمى بها في وجوههم، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينه ومنخريه وفمه من تلك القبضة، وفي ذلك أنزل الله: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى (8: 17) .
الهجوم المضاد:
وحينئذ أصدر إلى جيشه أوامره الأخيرة بالهجمة المضادة فقال: «شدوا» ، وحرضهم على القتال، قائلا: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة» ، وقال وهو يحضهم على القتال: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» .
الهزيمة الساحقة:
وبدأت أمارات الفشل والاضطراب في صفوف المشركين، وجعلت تتهدم أمام حملات المسلمين العنيفة، واقتربت المعركة من نهايتها، وأخذت جموع المشركين في الفرار والانسحاب المبدد، وركب المسلمون ظهورهم يأسرون ويقتلون حتى تمت عليهم الهزيمة.
مواقف لبعض الصحابة:
وعدل رسول الله صلّى الله عليه وسلم صفوف المسلمين، وبينما هو يعدلها وقع أمر عجيب، فقد كان في يده قدح يعدل به، وكان سواد بن غزية مستنصلا من الصف، فطعن في بطنه بالقدح وقال:
"استو يا سواد" ، فقال سواد: يا رسول الله أوجعتني فأقدني، فكشف عن بطنه، وقال: "استقد" ، فاعتنقه سواد وقبل بطنه، فقال: "ما حملك على هذا يا سواد" ؟ قال: يا رسول الله قد حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلم بخير.
قال العمير بن الحمام: بخ. بخ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "ما يحملك على قولك: بخ. بخ" ؟ قال: لا، والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: "فإنك من أهلها" . فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل .
وكذلك سأله عوف بن الحارث- ابن عفراء- فقال: يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده! قال غمسه يده في العدو حاسرا، فنزع درعا كانت عليه، فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل.
قال عبد الرحمن بن عوف: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه: يا عم، أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي، فما تصنع به؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك. قال: وغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه، قال: فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «أيكما قتله» ؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، قال: «هل مسحتما سيفيكما» ؟ فقالا: لا، فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى السيفين، فقال: «كلا كما قتله» ، وقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء .
وانقطع يومئذ سيف عكاشة بن محصن، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم جذلا من حطب فقال: (دونك هذا) ، فلما أخذه عكاشة وهزه، عاد في يده سيفا طويلا شديدا أبيض، فلم يزل عنده يقاتل به حتى قتل في الردة أيام أبي بكر.
«وقال رفاعة بن رافع: (رميت بسهم يوم بدر ففقئت عيني، فبصق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لي، فما آذاني منها شيء» ) .
قتلى الفريقين:
انتهت المعركة بهزيمة ساحقة بالنسبة إلى المشركين، وبفتح مبين بالنسبة للمسلمين، وقد استشهد من المسلمين في هذه المعركة أربعة عشر رجلا، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.
أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة، قتل منهم سبعون وأسر سبعون، وعامتهم القادة والزعماء والصناديد.
ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى، فقال: «بئس العشيرة كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس» ، ثم أمر بهم، فسحبوا إلى قليب من قلب بدر،، ثم وقف عليهم، فقال: " يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا فلان، ويا فلان هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا "، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟ فقال: والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون الجواب ". ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرصة ثلاثا، وكان إذا ظهر على قوم أقام بعرصتهم ثلاثا» ) .
تحميل الرابط الصوتي:
https://drive.google.com/open?id=1kcCV4iFlMtOX5JJdi6TSSHjp4nD39DU7