العفو
تعريف العفو: ترك ما يستحقّه المذنب من العقوبة مع القدرة عليه ، ومحو الذّنب.
وهو أبلغ من المغفرة فالمغفرة هي عدم المؤاخذة مع بقاء الذنب، بخلاف العفو ففيه محو الذنب وكأنه لم يكن.
الفرق بين العفو والذل:
(أن العفو إسقاط حقك جودا وكرما وإحسانا مع قدرتك على الانتقام فتؤثر الترك رغبة في الإحسان ومكارم الأخلاق.
بخلاف الذل فإن صاحبه يترك الانتقام عجزا وخوفا ومهانة نفس فهذا مذموم غير محمود ولعل المنتقم بالحق أحسن حالا منه قال تعالى وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى: 39]).
(وقال بعضهم: «ليس الحليم من ظلم فحلم، حتّى إذا قدر انتقم، ولكنّ الحليم من ظلم فحلم حتّى إذا قدر عفا» )
قال إبراهيم يعني النّخعيّ: كانوا يكرهون أن يستذلّوا فإذا قدروا عفوا» ) *
الأمر بالعفو:
- عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) (4).
قال القاضي عياض: (وقوله: ((ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا)) (5). فيه وجهان:
أحدهما: ظاهره أن من عرف بالصفح والعفو ساد وعظم في القلوب وزاد عزه.
الثاني: أن يكون أجره على ذلك في الآخرة وعزته هناك) (6).
العفو صفة لله:
(العفو صفةٌ فعليَّةٌ لله عَزَّ وجلَّ ثابتةٌ له بالكتاب والسنة، و (العَفُوُّ) اسم لله تعالى.
ليلة القدر (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفوا عني)
عفو الله عن عباده يتجلى في صور كثيرة:
{ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25]
{ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) } [الشورى: 30، 31]
أخرجه البخاريُّ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله لما قضَى الخلقَ، كتبَ عندَه فوقَ عرشِه: إن رحمتِي سبقَت غضبِي».
إمهالُ عبادِه قبل مُؤاخَذَتهم؛ فهو - سبحانه - يُقابِلُ جهلَ العباد بالحِلمِ، والذنوبَ بالمغفرة، والمُجاهَرةَ بالسَّتر، والجُحودَ بالإنعام، كما في الحديث: «لا أحدَ أصبرُ على أذًى يسمعُه من الله - عز وجل -؛ إنه يُشرَكُ به، ويُجعلُ له الولد، ثم هو يُعافِيهم ويرزُقُهم».
من سعَة عفوِ الله: تنوُّع مُكفِّرات الذنوب، ومن مُكفِّرات الذنوب: إسباغُ الوضوء، وذِكرُ الله عقِبَ الفرائِض، وكثرةُ الخُطا إلى المساجِد، وصيامُ رمضان، وصيامُ يوم عرفة، ويوم عاشُوراء، وقول: سبحان الله وبحمده مائة مرَّة، ودُعاء كفَّارة المجلِس، والعُمرةُ والحجُّ، وأداءُ الصلاة المفروضة، والصدقةُ، والصبرُ، وحضورُ مجالِس الذِّكر، والصلاةُ على النبي - صلى الله عليه وسلم -. كلُّها من مُكفِّرات الذنوب.
وفي حديث أبي سعيدٍ الخُدري - وذكرَ من يشفعُ بإذن الله في إخراجِ أقوامٍ من النار -، فيقول الله - عز وجل -: «شفَعَت الملائكة، وشفَعَ النبيُّون، وشفَعَ المؤمنون، ولم يبقَ إلا أرحمُ الراحمين. فيقبِضُ قبضةً من النار، فيُخرِجُ منها قومًا لم يعمَلوا خيرًا قطُّ، قد عادُوا حممًا، فيُلقِيهم في نهرٍ في أفواهِ الجنَّة يُقال له: نهرُ الحياة، فيخرُجون كما تخرُج الحِبَّة في حَميل السَّيل».
من سعَة عفوِ الله: مُناداةُ الكافرين إلى التوبة، ({قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}) [الأنفال: 38]، فإذا كان يُغفَرُ للكفار ما قد سلَف؛ فكيف بعُصاة المؤمنين إذا تابُوا؟!
عفو الأنبياء:
عفو النبي:
- وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- ((أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق الناس يستظلون بالشجر فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وعلق بها سيفه ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي. فقال: (إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا)، فقال: من يمنعك مني؟. فقلت: (الله) (ثلاثا) ولم يعاقبه وجلس)) (3).
- موقفه صلى الله عليه وسلم مع أهل ثقيف حينما طلب منهم الحماية وعرض عليهم نفسه فلم يجيبوه، بل قابلوه بالأذى والعدوان، فصبر عليهم وعفا عنهم حينما عرض عليه ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين، فعن عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبى -صلى الله عليه وسلم- حدثته أنها قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد فقال: ((لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال فناداني ملك الجبال وسلم علي. ثم قال يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)) (4).
((لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دخل البيت، فصلى بين الساريتين، ثم وضع يديه على عضادتي الباب، فقال: لا إله إلا الله وحده ماذا تقولون، وماذا تظنون؟ قالوا: نقول خيرا، ونظن خيرا: أخ كريم، وابن أخ، وقد قدرت، قال: فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف صلى الله عليه وسلم: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92])) (1).
عفو سيدنا يوسف عن إخوته:
فلما دخلوا عليه عرفهم، ولكنهم لم يعرفوه، وترددوا عليه أكثر من مرة، وكانت فرصة ليوسف لينتقم من إخوته، لكنه عفا عنهم، وقال لهم: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92].
نماذج من عفو السلف:
عفو أبي بكر رضي الله عنه:
- عفوه عن مسطح بن أثاثة: و ((كان مسطح بن أثاثة ممن تكلم في الإفك فلما أنزل الله براءة عائشة قال أبو بكر الصديق -وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره - والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ إلى قوله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال أبو بكر الصديق بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال والله لا أنزعها منه أبدا)).
عفو عمر رضي الله عنه:
- عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: ((قدم عيينة بن حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولا كانوا، أو شبانا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله، ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر، حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله)) (3).
ابن مسعود:
- (وجلس ابن مسعود في السوق يبتاع طعاما فابتاع، ثم طلب الدراهم وكانت في عمامته فوجدها قد حلت، فقال: لقد جلست وإنها لمعي، فجعلوا يدعون على من أخذها ويقولون: اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها، اللهم افعل به كذا، فقال عبد الله: اللهم إن كان حمله على أخذها حاجة فبارك له فيها، وإن كان حملته جراءة على الذنب فاجعله آخر ذنوبه)
زين العابدين :
جاء عن علي زين العابدين بن الحسين أن غلامه كان يصب له الماء بإبريق مصنوع من الخزف، فوقع الإبريق على رجل زين العابدين فانكسر الإبريق، وجرحت رجل زين العابدين، فغضب، وتغير وجهه.
فقال الغلام: سيدي، يقول الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}.
فقال زين العابدين: لقد كظمت غيظي.
فقال الغلام: ولقول تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}.
فقال زين العابدين: لقد عفوت عنك.
فقال الغلام: ويقول الله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
فقال له زين العابدين: أنت حر لوجه الله.
عفو عن الجهال
جاء أن علي زين العابدين بن الحسين كان ذاهبا إلى المسجد ومعه غلمانه، فقابله رجل، فأخذ الرجل يسب زين العابدين ويشتمه، فذهب الغلمان إلى الرجل كي يضربوه، ولكن زين العابدين نهاهم عن إيذائه، ثم نظر إلى الرجل وقال له: يا هذا، فيَّ أكثر مما تقول، وما لا تعرفه مني أكثر مما عرفته، فإن كان لك حاجة في ذكرته لك، فاستحيا الرجل من زين العابدين، ثم خلع زين العابدين قميصه وأعطاه للرجل، وأمر له بألف درهم، فذهب الرجل وهو يقول: أشهد أن هذا الشاب ولد رسول الله.
يقول الحسن بن الحسن: وقعت بيني وبين ابن عمي زين العابدين جفوة، فذهبت إليه وأنا أتميز غيظا منه، وكان مع أصحابه في المسجد، فما تركت شيئا إلا قلته له، وهو ساكت لا يتكلم، ثم انصرفت، فلما كان الليل إذا طارق على الباب يقرعه، فقمت إليه لأرى من، فإذا زين العابدين، فما شككت أنه جاء يرد إلي الأذى، ولكنه قال: يا أخي إن كنت صادقا فيما قلت لي، فغفر الله لي، وإن كنت غير صادق، فغفر الله لك، ثم ألقى علي السلام، ومضى، فلحقت به وقلت له: لا جرم، لا عدت إلى أمر تكرهه، فرقَّ لي وقال: وأنت في حل مما قلت لي.
ترغيب القرآن في العفو بين العباد
{ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) } [البقرة: 237]
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178]
ولسماع الخطبة اضغط هنا