إذا غمَّ هلال الشهر .
روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: ( لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له ) .
أولاً بيان معنى الغم :
قال العراقي في طرح التثريب (4/113) : [غم عليكم بضم الغين المعجمة وتشديد الميم أي الهلال معناه حال بينكم وبينه غيم يقال غم وأغمي وغمي وغمي بتخفيف الميم وتشديدها والغين مضمومة فيهما وهو من قولك غممت الشيء إذا غطيته فهو مغموم، ويقال أيضا غبي بفتح الغين المعجمة وكسر الباء الموحدة أي خفي، ورواه بعضهم غبي بضم الغين وتشديد الباء الموحدة لما لم يسم فاعله وهما من الغباء بالمد وهو شبه الغبرة في السماء، وذكر القاضي أبو بكر بن العربي أنه روي فيه أيضا فإن عمي عليكم بالعين المهملة من العمى قال وهو بمعناه لأنه ذهاب البصر عن المشاهدات أو ذهاب البصيرة عن المعقولات ] .
ثانيا : الإجمال في قوله صلى الله عليه وسلم : (فاقدروا له) ومذاهب العلماء تبعا لذلك .
أ- الرجوع إلى الحساب بمسير الشمس والقمر ، ونقل عن مطرف بن الشخير ، وحكاه ابن سريج عن الشافعي ، ونقل عن ابن قتيبة.
ب- إذا كان هلال أول الشهر صيم اليوم الثاني، وهو قول ابن عمر، ورواية عن أحمد.
ت- ذهب جمهور العلماء إلى أنه تكمل عدة شعبان ثلاثين يوما كما جاءت بذلك الروايات المفسرة – كما سيأتي بإذن الله –
توثيق الأقوال :
- المذهب الأول:
قال ابن بطال في شرح البخاري : ( وحكي محمد بن سيرين أن بعض التابعين كان يذهب في معنى قوله عليه السلام: « فاقدروا له » ، إلى اعتباره بالنجوم، ومنازل القمر، وطريق الحساب ، ويقال: إنه مطرف بن الشخير.)
قال ابن عبد البر في التمهيد (14/352) : (لم يتعلق أحد من فقهاء المسلمين فيما علمت
باعتبار المنازل في ذلك وإنما هو شيء روي عن مطرف بن الشخير وليس بصحيح عنه والله
أعلم ولو صح ما وجب إتباعه عليه لشذوذه ولمخالفة الحجة له وقد تأول بعض فقهاء البصرة في معنى قوله في الحديث ( ب ) فاقدروا له نحو ذلك والقول فيه واحد وقال ابن قتيبة في قوله فاقدروا له أي فقدروا السير والمنازل وهو قول قد ذكرنا شذوذه ومخالفة أهل العلم له وليس هذا من شأن ابن قتيبة ولا هو ممن يعرج عليه في هذا الباب وقد حكي عن الشافعي أنه قال من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر ثم تبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة وغم عليه جاز له أن يعتقد الصيام ويبيته ويجزئه والصحيح عنه في كتبه وعند أصحابه أنه لا يصح اعتقاد رمضان إلا برؤية أو شهادة عادلة ... ) . وانظر الاستذكار (3/278) .
قال تقي الدين في مجموع الفتاوى (25/182) : (وقد روى عن محمد بن سيرين قال خرجت في اليوم الذي شك فيه فلم ادخل على احد يؤخذ عنه العلم إلا وجدته يأكل إلا رجلا كان يحسب ويأخذ بالحساب ولو لم يعلمه كان خيرا له وقد قيل أن الرجل مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو رجل جليل القدر إلا أن هذا إن صح عنه فهي من زلات العلماء وقد حكي هذا القول عن أبى العباس بن سريج أيضا وحكاه بعض المالكية عن الشافعي أن من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر لم يتبين له من جهة النجوم ان الهلال الليلة وغم عليه جاز له أن يعتقد الصيام ويبيته ويجزئه وهذا باطل عن الشافعى لا أصل له عنه بل المحفوظ عنه خلاف ذلك كمذهب الجماعة وإنما كان قد حكي بن سريج وهو كان من أكابر أصحاب الشافعي نسبة ذلك إليه إذ كان هو القائم بنصر مذهبه).
قال الحافظ في الفتح (4/122) : (والمعروف عن الشافعي ما عليه الجمهور ونقل بن العربي عن بن سريج أن قوله فاقدروا له خطاب لمن خصه الله بهذا العلم وأن قوله فأكملوا العدة خطاب للعامة قال بن العربي فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال يجب على قوم بحساب الشمس والقمر وعلى آخرين بحساب العدد قال وهذا بعيد عن النبلاء وقال بن الصلاح معرفة منازل القمر هي معرفة سير الآهلة وأما معرفة الحساب فأمر دقيق يختص بمعرفته الآحاد قال فمعرفة منازل القمر تدرك بأمر محسوس يدركه من يراقب النجوم وهذا هو الذي أراده بن سريج وقال به في حق العارف بها في خاصة نفسه ونقل الروياني عنه أنه لم يقل بوجوب ذلك عليه وإنما قال بجوازه وهو اختيار القفال وأبي الطيب وأما أبو إسحاق في المهذب فنقل عن بن سريج لزوم الصوم في هذه الصورة فتعددت الآراء في هذه المسألة بالنسبة إلى خصوص النظر في الحساب والمنازل أحدها الجواز ولا يجزئ عن الفرض ثانيها يجوز ويجزئ ثالثها يجوز للحاسب ويجزئه لا للمنجم رابعها يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم خامسها يجوز لهما ولغيرهما مطلقا وقال بن الصباغ أما بالحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا قلت ونقل بن المنذر قبله الإجماع على ذلك فقال في الأشراف صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته هكذا أطلق ولم يفصل بين حاسب وغيره فمن فرق بينهم كان محجوجا بالإجماع قبله).
مذهب ابن عمر وقول للحنابلة ( وقد حملوا التقدير على التضييق لعدة شعبان):
روى أحمد (2/5) وغيره بإسناد صححه الألباني والأرناؤوط عن نافع عن بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له) قال نافع: فكان عبدالله إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يبعث من ينظر فإن رؤى فذاك وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر
أصبح مفطرا وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما .
وروى عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر كان إذا كان سحاب أصبح صائما وإن لم يكن سحاب أصبح مفطراً )
قال ابن مفلح في الفروع (3/7) : [وان حال دون مطلعة غيم أو قتر أو غيرهما ليلة الثلاثين من شعبان وجب صومه بنية رمضان اختاره الأصحاب وذكره ظاهر المذهب وأن نصوص أحمد عليه كذا قالوا ولم أجد عن أحمد أنه صرح بالوجوب ولا أمر به فلا تتوجه إضافته إليه ولهذا قال شيخنا لا أصل للوجوب في كلام أحمد ولا في كلام أحد من الصحابة رضي الله عنهم]. وانظر أيضا :الإنصاف (3/269)، وشرح منتهى الإيرادات (1/470) .
قول الجمهور :
قول الشافعية :
قال الشافعي في الأم ( 8/ 658) : ( أختار أن يفطر الرجل يوم الشك في هلال رمضان إلا أن يكون يوما كان يصومه فأختار صيامه ) .
قال النووي في المجموع : (6/276) : ( قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجمهور السلف والخلف : معناه قدروا له تمام العدة ثلاثين يوما ) ([1]).
الأدلة والمناقشة :
ومذهب الجمهور هو الراجح لقوة أدلته فالرواية المجملة جاءت مفسرة في الروايات الأخرى بإكمال العدة ثلاثين يوما كما هو معروف ومشهور .
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ : (لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ)
ورواه الإمام البخاري في صحيحه من طريق آخر عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ)
ورواه الإمام مسلم في صحيحه من طريق آخر عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ فَقَالَ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا ثُمَّ عَقَدَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ)
وفي هذا الحديث بطرقه فوائد عظيمة منها :
1- أن النبي r علق الصوم والفطر برؤية الهلال لا بالعلم بوجوده وإن لم يرَ .
2- أن النبي r نهى عن الصوم قبل رؤية الهلال .
3- أن معنى قوله r : (فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ) هو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً كما جاء ذلك في الروايات المفسرة .
*** وسوف نعرض فيما يلي - بإذن الله – توجيه الأدلة للأقوال الأخرى .
أولاً : الرد على من قالوا أنه يعمل بالحساب الفلكي :
وقد ذهب البعض إلى العمل بالحسابات الفلكية لمعرفة وجود الهلال وذلك في حالة الغيم والقتر ، وهذا القول لم يعرف في القرون الفاضلة وانعقد إجماع العلماء على تحريم العمل بالحساب الفلكي للدلالة على وجود الهلال تحت الغيم .
ثم جاء قوم آخرون من المتأخرين فتوسعوا في القول بالعمل بالحسابات الفلكية لمعرفة أوائل الشهور العربية في حالة الصحو والغيم فابتدعوا قولاً لم يسبقوا إليه .
قال الشيخ تقي الدين في مجموع الفتاوى (21/ 132-133) : (نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى لا يجوز والنصوص المستفيضة عن النبي r بذلك كثيرة ، وقد اجمع المسلمون عليه ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلا ولا خلاف حديث إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا ، وهذا القول وإن كان مقيدا بالإغمام ومختصا بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم) .اهـ
فلما رأيت القول بالتوسع في العمل بالحسابات الفلكية لمعرفة أوائل الشهور العربية في حالتي الصحو والغيم عمَّ وطمَّ وصار أصلاً وجعلوه قطعياًً تُرَدُُّ به الطرق الشرعية وأخذوا يستدلون عليه ببعض الشبه التي يموهون بها على العامة أخذت في كتابة هذه الكلمات لبيان خطأ هذا القول ، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل .
*** أولاً ذكر كلام بعض أئمة المذاهب الأربعة في بيان تحريم استخدام الحساب الفلكي لتحديد أوائل الشهور العربية :
أولاً مذهب الأحناف :
قال السرخسي في المبسوط (3/78) : (ومنهم من قال يرجع إلى قول أهل الحساب عند الاشتباه , وهذا بعيد فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من أتى كاهنا , أو عرافا وصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد }([2]) والذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم { فإن غم عليكم فاقدروا له } معناه التقدير بإكمال العدة كما في الحديث المبين...) .
قال الجصاص في أحكام القرآن (1/279) : (وقد اختلف في معنى قول النبي r : { فإن غم عليكم فاقدروا له } فقال قائلون : " أراد به اعتبار منازل القمر ... وقال آخرون : " فعدوا شعبان ثلاثين يوما " أما التأويل الأول فساقط الاعتبار لا محالة لإيجابه الرجوع إلى قول المنجمين ومن تعاطى معرفة منازل القمر ومواضعه , وهو خلاف قول الله تعالى : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } فعلق الحكم فيه برؤية الأهلة , ولما كانت هذه عبادة تلزم الكافة لم يجز أن يكون الحكم فيه متعلقا بما لا يعرفه إلا خواص من الناس ممن عسى لا يسكن إلى قولهم . والتأويل الثاني هو الصحيح , وهو قول عامة الفقهاء وابن عمر راوي الخبر , وقد ذكر عنه في الحديث أنه لم يكن يأخذ بهذا الحساب ...) .
ثانياً مذهب المالكية :
قال الخرشي في شرح مختصر خليل (2/237) : (الصوم يثبت بما تقدم لا بقول منجم([3])
فلا يثبت به لا في حق غيره ولا في حقه هو ; لأن صاحب الشرع حصر الثبوت في : الرؤية , أو الشهادة , أو إكمال العدد فلم يخبر بزيادة على ذلك فإذا قال المنجم مثلا : الشهر ناقص أو زائد لم يلتفت إلى قوله , ولا إلى حسابه , وقع في القلب صدقه أم لا) .
قال الشيخ عليش([4]) في منح الجليل (2/113-114) : (( لا ) يثبت رمضان ( ب ) حساب ( منجم ) بضم ففتح فكسر مثقلا في حق غيره وحق نفسه , ولو وقع في القلب صدقه لأمر الشارع بتكذيبه , وهو الذي يحسب قوس الهلال ونوره . وقيل هو الذي يرى أن أول الشهر طلوع نجم معلوم , والحاسب الذي يحسب سير الشمس والقمر وعلى كل لا يصوم أحد بقوله ولا يعتمد هو في نفسه على ذلك وحرم تصديق منجم ويقتل إن اعتقد تأثير النجوم وأنها الفاعلة بلا استتابة إن أسره , فإن أظهر . وبرهن عليه فمرتد فيستتاب فإن تاب وإلا قتل...)
قال الشنقيطي في أضواء البيان (6/347) : (ترك النظر في علم الهيئة عمل بهدى القرءان العظيم؛ لأن الصحابة رضي اللَّه عنهم لما تاقت نفوسهم إلى تعلم هيئة القمر منه صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: يا نبيّ اللَّهٰ ما بال الهلال يبدو دقيقًا ثم لم يزل يكبر حتى يستدير بدرًا؟ نزل القرءان بالجواب بما فيه فائدة للبشر، وترك ما لا فائدة فيه، وذلك في قوله تعالىٰ: {يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلاهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجّ}، وهذا الباب الذي أرشد القرءان العظيم إلى سدّه لما فتحه الكفرة كانت نتيجة فتحه الكفر، والإلحاد وتكذيب اللَّه ورسوله من غير فائدة دنيوية، والذي أرشد اللَّه إليه في كتابه هو النظر في غرائب صنعه وعجائبه في السمٰوات والأرض، ليستدلّ بذلك على كمال قدرته تعالىٰ، واستحقاقه للعبادة وحده، وهذا المقصد الأساسي لم يحصل للناظرين في الهيئة من الكفار).
ثالثاً مذهب الشافعية :
قال أبو زرعة العراقي في طرح التثريب : (4/112) : (وذهبت فرقة ثالثة إلى أن معنى الحديث قدروه بحساب المنازل حكاه النووي في شرح مسلم عن ابن سريج وجماعة منهم مطرف بن عبد الله وابن قتيبة وآخرون . وقال ابن عبد البر روي عن مطرف بن الشخير وليس بصحيح عنه ولو صح ما وجب اتباعه عليه لشذوذه فيه ولمخالفة الحجة له ثم حكى عن ابن قتيبة مثله , وقال ليس هذا من شأن ابن قتيبة ولا هو ممن يعرج عليه في هذا الباب ثم حكى عن ابن خويز منداد أنه حكاه عن الشافعي ثم قال ابن عبد البر والصحيح عنه في كتبه وعند أصحابه وجمهور العلماء خلافه ( قلت ) لا يعرف ذلك عن الشافعي أصلا والله أعلم . وبالغ ابن العربي في المعارضة في إنكاره مقالة ابن سريج هذه قال المازري عن الجمهور ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين ; لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم ; لأنه لا يعرفه إلا أفراد والشرع إنما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم ...وقد ظهر بما بسطاه صحة مذهب الجمهور في تعليق الحكم بالرؤية دون غيرها وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء من السلف والخلف)
رابعاً مذهب الحنابلة :
قال ابن قدامة في المغني (3/9) : (لو بنى على قول المنجمين وأهل المعرفة بالحساب , فوافق الصواب , لم يصح صومه, وإن كثرت إصابتهم , لأنه ليس بدليل شرعي يجوز البناء عليه , ولا العمل به , فكان وجوده كعدمه , قال النبي صلى الله عليه وسلم: { صوموا لرؤيته , وأفطروا لرؤيته }. وفي رواية: { لا تصوموا حتى تروه , ولا تفطروا حتى تروه }) .
قال تقي الدين في الفتاوى الكبرى (2/464 – 465) : (ولا ريب أنه ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق الصحابة أنه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم , كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : { إنا أمة أمية لا نكتب , ولا نحسب , صوموا لرؤيته , وأفطروا لرؤيته } " . والمعتمد على الحساب في الهلال , كما أنه ضال في الشريعة , مبتدع في الدين , فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب . فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي , وإنما غاية الحساب منهم إذا عدل أن يعرف كم بين الهلال والشمس من درجة وقت الغروب مثلا ; لكن الرؤية ليست مضبوطة بدرجات محدودة , فإنها تختلف باختلاف حدة النظر وكلاله , وارتفاع المكان الذي يتراءى فيه الهلال , وانخفاضه , وباختلاف صفاء الجو وكدره . وقد يراه بعض الناس لثماني درجات , وآخر لا يراه لثنتي عشرة درجة ; ولهذا تنازع أهل الحساب في قوس الرؤية تنازعا مضطربا , وأئمتهم : كبطليموس , لم يتكلموا في ذلك بحرف , لأن ذلك لا يقوم عليه دليل حسابي . وإنما يتكلم فيه بعض متأخريهم , مثل كوشياز الديلمي , وأمثاله . لما رأوا الشريعة علقت الأحكام بالهلال , فرأوا الحساب طريقا تنضبط فيه الرؤية , وليست طريقة مستقيمة , ولا معتدلة , بل خطأها كثير , وقد جرب , وهم يختلفون كثيرا : هل يرى ؟ أم لا يرى ؟ وسبب ذلك : أنهم ضبطوا بالحساب ما لا يعلم بالحساب , فأخطئوا طريق الصواب , وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع , وبينت أن ما جاء به الشرع الصحيح هو الذي يوافقه العقل الصريح ) .
([1]) وقد عزى ابن أبي شيبة في المصنف هذا القول لعمر ، وعلي ، وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين ، وللحسن ومحمد وأبي جعفر وعطاء ، وسبق العزو لكتب الحنابلة ، ولمذهب الأحناف انظر (المبسوط للسرخسي (3/78)، وبدائع الصنائع (2/80)، ولمذهب المالكيو انظر (الذخيرة للقرافي (2/493) ، ومنح الجليل (2/116) ، والفواكه الدواني للنفراوي (1/306) ، ...
[2]- وقد يُمَوِّه البعض بأن ذلك كان في الزمان الأول عندما كان هذا العلم غير دقيق ومنبني على التكهن والتخرص ، وأما الآن فإن الأمر قد اختلف فقد وصل العلم بالحسابات الفلكية إلى درجة كبيرة من التقدم والرقي ويستطيع تحديد أوائل الشهور بمنتهى الدقة ، وسوف أزيف – بمشيئة الله -في ثنايا هذه الرسالة هذا القول بما لا يدع مجالاً للشك في أن هذا العمل لا يعدو التخرص والتكهن كما كان في الحال الأول .
[3] - قال على بن أحمد الصعيدي العدوي في التعليق على شرح الخرشي : (( قوله : لا بمنجم ) هو الحاسب الذي يحسب قوس الهلال ونوره) .
[4] - والشيخ عليش هو مفني الديار المصرية الأسبق .