الوفاء
تعربف الوفاء:
قال الرّاغب: الوفاء صدق اللّسان والفعل معا
أنواعه: الوفاء بالعهد: هو- كما ذكر الرّاغب- إتمامه وعدم نقض حفظه،
أمّا الوفاء بالعقد: هي ما يتعاقده النّاس فيما بينهم.
أمّا الوفاء بالوعد: فالمراد به أن يصبر الإنسان على أداء ما يعد به الغير ويبذله من تلقاء نفسه، ويرهنه به لسانه.
أدلة القرآن: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا
(وقد وصف القرآن الذين يوفون بالعهد بأحسن الصفات فقال: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177] وقال: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران: 71] ونقض الميثاق يؤدي إلى سوء السلوك والأخلاق، قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ [المائدة: 13]
الستة:
(عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- أنّ امرأة من جهينة جاءت إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إنّ أمّي نذرت أن تحجّ فلم تحجّ حتّى ماتت، أفأحجّ عنها؟ قال: «نعم، حجّي عنها، أرأيت لو كان على أمّك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحقّ بالوفاء» )
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) (8).
- وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جمع الله بين الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان)) (2).
وقال القرطبي: (هذا خطاب منه للعرب بنحو ما كانت تفعل، لأنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء ليلوموا الغادر ويذموه، فاقتضى الحديث وقوع مثل ذلك للغادر ليشتهر بصفته في القيامة فيذمه أهل الموقف) (4).
صور حية للوفاء:
(عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: ابتاع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من رجل من الأعراب جزورا «3» أو جزائر بوسق من تمر الذّخرة- وتمر الذّخرة العجوة- فرجع به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بيته والتمس له التّمر فلم يجده فخرج إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له: «يا عبد الله! إنّا قد ابتعنا منك جزورا أو جزائر بوسق من تمر الذّخرة فالتمسناه فلم نجده، قال: فقال الأعرابيّ: واغدراه، قالت: فنهمه «4» النّاس وقالوا: قاتلك الله، أيغدر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟. قالت: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دعوه، فإنّ لصاحب الحقّ مقالا» مرّتين أو ثلاثا، فلمّا رآه لا يفقه عنه قال لرجل من أصحابه: اذهب إلى خويلة بنت حكيم بن أميّة فقل لها: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لك: إن كان عندك وسق من تمر فأسلفيناه حتّى نؤدّيه إليك إن شاء الله» فذهب إليها الرّجل، ثمّ رجع الرّجل فقال: قالت: نعم، هو عندي يا رسول الله فابعث من يقبضه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للرّجل: «اذهب به فأوفه الّذي له» قال: فذهب به فأوفاه الّذي له. قالت: فمرّ الأعرابيّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في أصحابه فقال: جزاك الله خيرا. فقد أوفيت وأطيبت. قالت: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أولئك خيار عباد الله عند الله الموفون المطيّبون» ) *
وفاء النبي بعده للكفار:
وها هو - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُعاهِد سُهيل بن عمرو في الحديبية، فيأتي أبو جندل بن سهيل بن عمرو مُستصرِخًا مستنصرًا، فيردُّه رسولُ الله وفاءً بالعهد.
وها هو أبو بصير يأتي إلى مدينة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد صُلْح الحديبية، فترْسِل قريش في عقبه رجلين يأخذانِه، فقالا: يا محمد، رُدَّه إلينا بالعهد الذي بيننا وبينك، فردَّه النبي الكريم وفاءً بعهده، غير أن أبا بصير مكَّنه الله من أحد الرجلين فقتله، وفرَّ الآخر عائدًا إلى رسول الله في المدينة، فلما رآه الحبيب المصطفى قال: إن هذا رأى ذعرًا.
فإذا بأبي بصير يأتي ثانيةً قائلاً: يا نبي الله، قد أوفى الله ذمَّتَك ونجَّاني الله منهم، فيقول النبي الكريم: ((ويل أمه مسعر حرب))! وهنا عَلِم أبو بصير أنَّ رسول الله لا محالة رادّه إلى قريش؛ وفاءً بالعهد الذي بينه وبينهم.
فهرب أبو بصير إلى منطقة تسمى "سيف البحر" عند البحر الأحمر، ومكث بها ولحق به أبو جندل بن سهيل وكلُّ مَن أسلم مِن قريش؛ فجعلوا يُرهِبون قريشًا، ويأخذون قوافلَها، حتى استغاثت برسول الله أن يأذن لهؤلاء النفر باللحاق به في المدينة؛ وبذلك يكون النبي الكريم قد ضرب لنا المثل الأعلى في الوفاء بعهده.
(عن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنهما- قال: ما منعني أن أشهد بدرا إلّا أنّي خرجت أنا وأبي حسيل. قال: فأخذنا كفّار قريش. قالوا: إنّكم تريدون محمّدا؟ فقلنا: ما نريده. ما نريد إلّا المدينة. فأخذوا منّا عهد الله وميثاقه لننصرفنّ إلى المدينة ولا نقاتل معه. فأتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرناه الخبر. فقال: «انصرفا. نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم» )
وفاء الصحابة:
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن عمه أنس بن النضر غاب عن بدر فقال: غبتُ عن أول قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - لئن أشهدني الله مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليرين الله ما أجد، فلقي يوم أحد فهُزم الناس، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ، فقال: أين يا سعد؟ إني أجد ريح الجنة دون أحد، فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم" [رواه البخاري]. قال أنس: كنا نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أمثاله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].
عَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ، فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيًا، فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟، قَالُوا: قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: «قَسَمْتُهُ لَكَ»، قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ، فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: «إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ»، فَلَبِثُوا قَلِيلًا ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَهُوَ هُوَ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ»، ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ: «اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ».
وفاء أبو بكر:(عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لي: لو قد جاءنا مال البحرين قد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا. فلمّا قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجاء مال البحرين قال أبو بكر: من كانت له عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عدة فليأتني، فأتيته فقلت: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كان قال لي: لو قد جاءنا مال البحرين لأعطيتك هكذا وهكذا وهكذا. فقال لي: احثه. فحثوت حثية. فقال لي: عدّها. فعددتها، فإذا هي خمسمائة، فأعطاني ألفا وخمسمائة» )
وفاء معاوية لعدوه: (عن سليم بن عامر- رجل من حمير- قال: كان بين معاوية، وبين الرّوم عهد، وكان يسير نحو بلادهم، حتّى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشدّ عقدة، ولا يحلّها حتّى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء» فرجع معاوية)
(ومعنى قوله ينبذ إليهم على سواء أي يعلمهم أنه يريد أن يغزوهم وأن الصلح الذي كان بينهم قد ارتفع فيكون الفريقان في ذلك على السواء.
وفاء حكيم بن حزام:
عن عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال لي: "يا حكيم إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى".
قال حكيم: قلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ (أسأل) أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله، فقال: يا معشر المسلمين إني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه فلم (يرزأ يسأل) حكيم أحدا من الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى توفي رحمه الله [رواه البخاري].
الخطبة الأولى.
من صور الوفاء التي أمرنا بها:
الوفاء بعهد الله:
وقال عزّ من قائل: أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ ينقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد: 19].
قال الشوكاني في تفسير هذه الآية: (أي بما عقدوه من العهود فيما بينهم وبين ربهم، أو فيما بينهم وبين العباد وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق [الرعد:20] الذي وثقوه على أنفسهم، وأكدوه بالإيمان ونحوها،
ويراد بالميثاق: ما أخذه الله على عباده حين أخرجهم من صلب آدم في عالم الذرّ المذكور في قوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ [الأعراف:172])
أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة: لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقول: أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك بي شيئا، فأبيت إلا أن تشرك بي "
- وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:10].
- وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة: 1].
قال السعدي: (هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالوفاء بالعقود، أي: بإكمالها، وإتمامها، وعدم نقضها ونقصها. وهذا شامل للعقود التي بين العبد وبين ربه، من التزام عبوديته، والقيام بها أتم قيام، وعدم الانتقاص من حقوقها شيئا، والتي بينه وبين الرسول بطاعته واتباعه، والتي بينه وبين الوالدين والأقارب، ببرهم وصلتهم، وعدم قطيعتهم.
والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر، واليسر والعسر، والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملات، كالبيع والإجارة، ونحوهما، وعقود التبرعات كالهبة ونحوها، بل والقيام بحقوق المسلمين التي عقدها الله بينهم في قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] بالتناصر على الحق، والتعاون عليه والتآلف بين المسلمين وعدم التقاطع.
فهذا الأمر شامل لأصول الدين وفروعه، فكلها داخلة في العقود التي أمر الله بالقيام بها) (1).
قال تعالى: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: 40] قال ابن جرير: وعهده إياهم أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة (1).
قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ [يس: 60]) (1).
قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء: 101- 103].
وكذلك فإن الذي يصوم في الجهاد في سبيل الله له أجر خاص ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً متفق عليه. [رواه البخاري: 2840، ومسلم: 1153].
وفي رواية: من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض ، قال المنذري: رواه الطبراني بإسناد حسن [المعجم الكبير: 7921]، وحسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب. [صحيح الترغيب:
كذلك النور يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [الحديد: 12].
فإذا كان يوم القيامة كورت الشمس، وخسف القمر، وصار الناس في ظلمة، ونُصب الصراط يؤتى المؤمنون والمؤمنات أنوارهم بحسب أعمالهم، ويكون في الأيدي ويكون في مواضع مختلفة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يعطيهم نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يُعطى نوره مثل الجبل العظيم يسعى بين يديه، ومنهم من يُعطى نوره أصغر من ذلك، ومنهم من يُعطى مثل النخلة بيده، ومنهم من يعطى أصغر من ذلك، حتى يكون آخرهم رجلاً يُعطى نوره على إبهام قدميه يضيء مرة ويفيء أخرى، فإذا أضاء قدم قدمه، وإذا طفئ قام ، يعني: وقف لا يستطيع قد يقع في النار، فيمرون على قدر نورهم، والحديث صححه الألباني [صحيح الترغيب: 3704]، ورواه الطبراني [المعجم الكبير: 9763].
منها: كثرة المشي إلى المساجد في الظلمات كالفجر والعشاء، فروى أبو داود عن بُريدة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة [رواه أبو داود: 561، وصححه الألباني صحيح الترغيب: 425].
عَنْ صُهَيْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قَالَ: " إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ: إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ، قَالُوا: أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُنْجِنَا مِنَ النَّارِ وَيُدْخِلْنَا الجَنَّةَ؟ " قَالَ: «فَيُكْشَفُ الحِجَابُ» قَالَ: «فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ».
2- الوفاء في سداد الدين:
اهتم الإسلام بالدَّين لأن أمره عظيم، وشأنه جسيم، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على قضاء الدين، وكان لا يصلي على الميت إذا كان عليه دين حتى يُقضى عنه. وقد قال: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)) (2).
3 - الوفاء بشروط عقد النكاح:
(عن عقبة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أحقّ ما أوفيتم من الشّروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» )
قال الخطابي: (الشروط في النكاح مختلفة فمنها ما يجب الوفاء به اتفاقا وهو ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وعليه حمل بعضهم هذا الحديث، ومنها ما لا يوفى به اتفاقا كسؤال طلاق أختها ... ومنها ما اختلف فيه كاشتراط أن لا يتزوج عليها أو لا يتسرى أو لا ينقلها من منزلها إلى منزله) .
4- الوفاء بالنذر:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)) (8) ويجب الوفاء بالنذر إذا كان نذر طاعة.
ولسماع الخطبة اضغط هنا