بيان خطأ العمل بالحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور العربية[1] :
ولنتدرج معاً من خلال عرض هذه النتائج لنصل إلى هذه الحقيقة :
1- من المهم أن نفرق في البداية بين نوعين من الحساب المتعلق بالهلال ، النوع الأول هو حساب موقع القمر الحقيقي، و النوع الثاني هو حساب رؤية القمر:
أ- حساب موقع القمر الحقيقي:- وهو حساب يعتمد على قوانين الجاذبية والتي هي
سنة من سنن الله في كونه أذن سبحانه لخلقه بمعرفتها واستخدامها. وقد اكتشف قوانينها الحسابية نيوتن حتى تطورت إلى النسبية الخاصة والعامة وما بعدها.
وتبعا لهذا القانون يُعرف موقع القمر بالنسبة للأرض بدقة عالية جدا ، لكن هذا الموقع هو حقيقة مكان القمر، لا ما يراه الراصد بعينه لكن وكما نعلم أن الشارع أمرنا أن نرى الهلال كما يظهر في السماء لا كما هو على حقيقته فيكون حساب موقع القمر الحقيقي غير صالح لحساب هلال أول الشهر، بالرغم من دقته العالية.
ب- حساب رؤية القمر:- وهذا النوع يعتمد على النوع الأول من الحساب، ولكن يُضيف أثار الانكسار وغيرها ما أمكن، فيقدر لنا موقع القمر كما يمكن أن يُرى بالعين المجردة، وهذا النوع من الحساب هو الذي يعتمده أكثر الحاسبين لحساب هلال أول الشهر. وهنا لا يمكن القول بأن الحسابات بدقة عالية كما سبق، حيث أن ظواهر الغلاف الجوي كثيرة ونحن نريد أن نقدر آثارها على امتداد البصر على الأفق، والذي يصل لراصد على سطح البحر لمسافة خمس كيلومترات.
فإذن سيكون حساب أثر الغلاف الجوي بدقة عالية من الأمور شبه المستحيلة، حيث لو افترضنا وجود عاصفة رملية على بعد خمسة كيلومترات عن الراصد للهلال فإنه لن يشعر بـها، وسيكون من الصعب إدخالها في حساباته للهلال، ومثل هذه العاصفة - أو ماشابه - يمكن أن تغير عوامل الرؤية وأثر الانكسار فيصبح الهلال أعلى مما تتوقعه الحسابات التي لم تأخذ أثر الانكسار في الحسبان، فيقال غرب الهلال في الوقت الفلاني، لكن وبسبب الظروف الجوية تكون هناك صورة وهمية للهلال لم تغرب بعد فيراه بعض رائي الهلال. فيقال لذلك أخطأ الحاسبون - ولا مشاحة في الاصطلاح -، لكن هذا ليس خطأ في الحساب بل هو نقص في الفرضيات الابتدائية للحساب، أي أن أثر هذه الظاهرة - العاصفة - لم يُؤخذ في الحسبان، فهو إذا نقص وليس خطأ، وعليه لا يمكن القول أننا اكتشفنا سنة الله في رؤية الهلال. وهناك دراسات كثيرة على عوامل الغلاف الجوي لحساب أدق لظواهره وأثرها في تغيير مواقع الأجرام السماوية، لكن غالبيتها تتفادى القرب من الأفق لصعوبة ذلك وكثرة العوامل المؤثرة.
2- اختلاف الفلكيين في حسابات دخول الشهر تبعاً لاختلافهم في التعاريف التي تقوم عليها الحسابات :
فمنهم من يعتمد الاقتران : وهو التعريف العلمي (الغربي) للشهر القمري، بأن يكون المدة بين كل اقترانيين للقمر مع الشـمس، وهذه تكون تـارة بعد (30 يوما) وأخرى بعد (29) وقد يتوالى شهران أو ثلاثة على وتيرة واحدة (30 أو 29). وتقوم هذه الطريقة على أن لحظة الاقتران لحظة كونية لجميع أهل الأرض وغيرهم - وهذا يعتمد على حساب موقع القمر الحقيقي ويُهمل أثر الغلاف الجوي -، فيعتبر أن ما قبل الولادة يكون القمر محاقا وبعدها يولد القمر ليصبح هلالا.
وهناك من لا يستخدم تعريف الاقتران فقط ، بل يزيد عليه عمراً معيناً للقمر الوليد.
ومن الملاحظ أن هذين التعريفين لا يقومان على اعتماد الرؤية فتكون التعاريف السابقة غير صالحة لاثبات أوائل الشهور شرعاً . أما التعريف الذي يعتمد الرؤية فهو ما يلي :
اعتماد موقع القمر (الرؤية) : وهذا التعريف هو أقرب التعاريف للرؤية ، حيث لا يهتم بولادة القمر من عدمها ، بل يحسب موقع القمر بالنسبة للراصد والشمس ، ويحسب موقع الشمس ، ثم يقارن بين موقع الشمس والقمر عند غروب الشمس ليرى مدى ارتفاع القمر فوق الأفق ، أي أنه يعتمد حساب رؤية الهلال السابق ذكره.
وهنا يُؤخذ في الاعتبار ما يلي :
1- أثر الانكسار بسبب الغلاف الجوي الأرضي، بأكثر دقة ممكنة .
2- موقع الراصد بدقة من حيث الموقع الجغرافي ، والارتفاع عن سطح الأرض وانبساط الأرض حوله - الذي يقف على جبل حاد القمة ، قد يرى الهلال ، في حين أن راصداً على هضبة بالارتفاع نفسه لذلك الجبل يكون الهلال قد غرب عنده منذ فترة ، ويغرب الهلال قبل ذلك أيضا لمن يرصد من ارتفاع سطح البحر- والاعتباران السابقان لا يمكن أن يحسبا بدقة متناهية -.
والحاسبون بـهذا التعريف فريقان :
الأول : يُعين حجم معين للهلال إذا قل عنه لا يدخل الشهر على اعتبار أنه لا يمكن رؤية الهلال ، وكذلك يعتبر بُعد معين للهلال عن الشمس إن كان بعد الهلال أقل منه لا يدخل الشهر. وقد تضاربت الأقوال في أصغر هلال يُمكن رؤيته وأقل مسافة من الشمس يمكن رؤية الهلال منها. وهذا يعتمد على مقدرة العين ، ولا يُقبل شرعا أن نأخذ متوسط مقدرات الأعين، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يختبر عيون الراصدين ولم يلغي شهادة ذوي الإبصار القوية ، بل كان يقبل الشهادة بدون تعقيد.
الثاني : لا يعتبر أي حجم أو بعد للقمر عن الشمس ، بل يحسبون مكان الهلال كما يُتوقع أن يظهر للراصدين ، مهما كان عمره أو بعده عن الشمس. ويمكن أن نسمي هذه الطريقة "بحساب الرؤية" ، وتتم بطريقتين:
الأولى: نسميها " حساب الرؤية العام": وتكون بحساب ظروف الرؤية لمساحة كبيرة من الأرض (دولة مثلا) ويحدد أفضل الأماكن للرؤية ، وهذه يحدث فيها خطأ حيث انه سيفترض أن ارتفاعات الراصدين عن سطح البحر، وظروفهم الجوية متقاربة.
الثانية: نسميها " حساب الرؤية الخاص": فيكون الحساب لكل موقع بحسب مكانه وارتفاعه
وظروفه الجوية .
ومما سبق يمكن أن نخلص إلى النتائج التالية :
1- أغلب الأساليب والتعاريف الفلكية لبداية الشهر الإسلامي لا تتفق مع التعريفات الشرعية.
2- تلك الطرق التي تحاول أن تتقرب من التعريف الشرعي لبداية الشهر الإسلامي، لا زالت تواجه بعضاً من النواقص في تعريفات متغيراتـها الأولية مثل:
(أ) أثر الانكسار الجوي بدقة عالية (وهذا من الأمور الصعبة جداً).
(ب) أثر ظاهرة السراب (وهو من الأمور الصعبة جداً).
(ج) الموقع الحقيقي للراصد وارتفاعه عن مستوى سطح البحر (وهذا ممكن لكن كل راصد سيُحسب له وحده).
*** ثالثاً ظنية الحساب الفلكي([2]) :
و ذلك للأمور الآتية :
1- أن قطعية الحساب لا تقبل إلاّ بنتائج تفيد العلم اليقيني بصدق نتيجته ، و إطّرادها ومدى سلامة مقدماته شرعاً ، و هذا لو جَعل الشرع المصير إليه . والواقع أنه ليس لدينا دليل متوفر على هذا المنوال ليُكسب إفادته اليقين ، إلاّ شهادة بعض الفلكيين لأنفسهم بأن حسابهم يقيني ، و الأدلة المادية الآتية تقدح في مؤدى شهادتهم و تقوى بنفي نظرائهم في الفلك من عدم إفادته اليقين ، كما قررته اللجنة الشرعية الفلكية بالأزهر في قراراتها المطبوعة ، إضافة إلى أن الشرع لا يعتبر صدق الخبر والشهادة إلاّ من مبرز في العدالة الشرعية .
2- قيام دليل مادي في الساحة المعاصرة على أن الحساب أمر تقديري اجتهادي يدخله الغلط ، و ذلك في النتائج الحسابية التي ينشرها الحاسبون في الصحف من تعذر ولادة رمضان أو شهر الفطر مثلاً ليلة كذا ، ثم تثبت رؤية الهلال بشهادة شرعية معدلة ، أو رؤية فاشية في ذات الليلة التي قرروا استحالته فيها .
3- و من شواهد المعاصرين على ذلك أنا رأينا بعض البلدان الإسلامية تعلن الصوم بموجب الحساب الفلكي ، و الفارق بينها و بين البلدان التي تثبته بالرؤية يومان أو ثلاثة ، فهل يكون في الدنيا فارق في الشهور القمرية الشرعية كهذه المدة ؟ و هذا هو عين دخول الخلل في مواسم التعبد مما يقطع كلٌ بفساده
4- الحساب الفلكي المعاصر قائم على الرصد بالمراصد الصناعية الحديثة ، و الراصد كغيره من الآلات التي يؤثر على صلاحيتها و نتائجها أي خلل فني فيها ، قد لا يشعر به الراصد .
و هذا فيه ظنية من حيث الآلة .
وفي الختام لابد من بيان معنى قوله r في الحديث المتفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ) .
قال الشيخ تقي الدين في مجموع الفتاوى (25/164) : (قوله : (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ) هو خبر تضمن نهيا فانه أخبر أن الأمة التي اتبعته هي الأمة الوسط أمية لا تكتب ولا تحسب فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة فيكون قد فعل ما ليس من دينها ، والخروج عنها محرم منهي عنه فيكون الكتاب والحساب المذكوران محرمين منهيا عنهما ... المراد إنا لا نحتاج في أمر الهلال إلى كتاب ولا حساب إذ هو تارة كذلك وتارة كذلك والفارق بينهما هو الرؤية فقط ليس بينهما فرق آخر من كتاب ولا حساب -كما سنبينه- فإن أرباب الكتاب والحساب لا يقدرون على أن يضبطوا الرؤية بضبط مستمر وإنما يقربوا ذلك فيصيبون تارة ويخطئون أخرى . وظهر بذلك أن الأمية المذكورة هنا صفة مدح وكمال من وجوه : من جهة الاستغناء عن الكُُتَّاب والحُسَّاب بما هو أبين منه وأظهر وهو الهلال ومن جهة أن الكتاب والحساب هنا يدخلهما غلط ومن جهة أن فيهما تعبا كثيرا بلا فائدة فان ذلك شغل عن المصالح إذ هذا مقصود لغيره لا لنفسه وإذا كان نفى الكتاب والحساب عنهم للاستغناء عنه بخير منه وللمفسدة التي فيه كان الكتاب والحساب في ذلك نقصا وعيبا بل سيئة وذنبا فمن دخل فيه فقد خرج عن الأمة الأمية فيما هو من الكمال والفضل السالم عن المفسدة ودخل في أمر ناقص يؤديه إلى الفساد والاضطراب) .
[1]- وقد استفدت في كتابة هذه الجزئية من رسالة (ملاحظات على أسباب الاختلاف بين الرؤية الشرعية والحساب الفلكي لهلال الشهر الإسلامي ) للدكتور/ محمد بخيت المالكي ، دكتوراه في الفلك من جامعة جلاسكو .
[2]- وقد استفدت في كتابة هذه الجزئية من رسالة (معرفة أوقات الصيام .. أحكام و مسائل لأبي عبد الله الذهبي وهو مختصر لكتاب معرفة أوقات العبادات ، للدكتور : خالد بن علي المشيقح ).