اختلف العلماء هل من شروط انعقاد الإجماع ألا يسبقه خلاف مستقر على قولين:
قال ابن عقيل في "الواضح": "إذا اختلفتِ الصحابةُ على قولينِ، ثُمَّ أجمعَ التَّابعون على أَحدِ قوليِ الصّحابةِ، لمْ يرتفع الخلافُ، وساغَ لكلِّ مجتهدٍ الذّهابُ إلى القولِ الآخرِ، نصَّ عليه أحمد، وبهذا قالَ أبو الحسنِ الأشعريُّ.
وقالَ أصحابُ أبي حنيفةَ فيما حكاهُ أبو سفيان، والمعتزلةُ: يرتفعُ الخلافُ، فلا يجوزُ الرّجوعُ إلى القولِ الآخرِ. وإنّما قالوا هذا، إذا كان إجماعُ التابعينَ على أحدِ القولينِ بعدَ انقراضِ أهلِ القولِ الآخرِ.
واختلفَ أصحابُ الشَّافعىّ على وجهينِ: أحدُهما كمذهبنا، وعليه الأكثرونَ منهم، والآخر كمذهبِ مَن حكينا خلافَهُ".
أدلة القائلين بعدم حجية هذا الإجماع ([1]):
منها: قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59] ولم يفرق بين وجود إجماع التابعين وعدمه. بمعنى أن التنازع قد وقع في عصر سابق، فلا يعول على الاتفاق في عصر لاحق.
ونوقش: بأن هذا خطاب لأهل العصر وأهل العصر لا تنازع بينهم.
ونوقش أيضا بأن الرجوع إلى الإجماع رد إلى الله ورسوله؛ لأن الإجماع بقولهما يثبت.
وأجيب بأن هذا استدلال بمحل النزاع، وإيضاحه أن الآية الأولى خطاب لكل الأمة في كل الأوقات، فمن قال أن الاتفاق قد حصل في عصر التابعين، نقول وهو مسبوق بالتنازع في عصر الصحابة، والأقوال لا تموت بموت قائليها.
وأما قولهم أن الإجماع رد لله ولرسوله فيقال: ثبت عرشك ثم أنقش، فالخصم ينازع في ثبوت هذا الإجماع لفقده شرط من شروطه وهو ألا يسبق بخلاف مستقر.
ومنها: أن اختلاف الصحابة في المسألة على قولين إجماع منهم على تسويغ الاجتهاد، وجواز تقليد كل واحد من الفريقين وإقراره عليه، وإذا ثبت إجماعهم على التسويغ، فهو إجماع منهم على حكم شرعي، فاتفاق التابعين على أحد القولين، وتحريم الأخذ بالآخر لا يخلو، أما أن يكون تحريماً في المستقبل فذلك نسخ، والنسخ لا يكون بعد ارتفاع الوحي، أو يكون تحريماً في الماضي والمستقبل فيكون مخالفاً لإجماع الصحابة.
ونوقش بأن لازم هذا القول القول بتصويب كل مجتهد وأن الحق يتعدد.
ونوقش بأن إجماع التابعين على أحد قولي الصحابة ليس نسخا وإنما الشرط المجوز للأخذ بكل واحد من القولين، هو أن لا يحصل اتفاق على أحدهما في العصر الثاني فمتى زال الشرط زال جواز الأخذ بكل واحد من القولين، ولم يسم ذلك نسخاً؛ لأن الحكم إذا وقف على شرط يعلم زواله، فإنه لا يكون زواله بزوال شرطه نسخاً، كما أن وجوب الصيام بدخول الليل لا يسمى نسخاً، وزوال التيمم بوجود الماء لا يسمى نسخاً.
وأجيب بأن هذا اللازم غير لازم، فمفاد كلامهم أن كلا القولين يجوز الأخذ به عند من يترجح عنده بشروطه وضوابطه، وأن الحق لا يعدوهما.
وأما قولهم أنه ليس نسخا فهو استدلال منهم بمحل النزاع فهذا الشرط هو محل النزاع، وإيضاحه أن المستدرك هنا خلط بين مسألة النسخ وزوال حكم النفي الأصلي، فالنسخ هو: "رفع الحكم الثابت بطريق شرعي، بمثله متراخ عنه" وهو عين ما حدث في مسألة الخروج على الحاكم فرفعنا الحكم الشرعي الثابت عن الصحابة وغيرهم من جواز الخروج أو التوقف تبعا للمصالح والمفاسد وطبيعة الخارج والمخروج عليه ونحو ذلك من الشروط التي سوف تأتي إلى حكم شرعي واحد وهو عدم جواز الخروج، وإنما قيدنا الحكم الرافع والمرفوع بكونه شرعيا احترازا من زوال الحكم بالموت والجنون، فإن من مات، أو جن، انقطعت عنه أحكام التكليف، وليس ذلك بنسخ؛ لأن انقطاع الأحكام عنهما لم يكن بخطاب، وكذلك ارتفاع حكم الصوم بمجيء الليل، وحكم الفطر بمجيء النهار، وزوال التيمم بوجود الماء ليس نسخا؛ لأنه لم يكن بطريق شرعي، بل بانتهاء غاية الحكم، وانقضاء وقته، ويلزم من جعل مسألتنا من هذا القبيل أن يدلل على اشتراط هذا الشرط لا أن يستدل به.
وقال ابن عقيل: "إن ما ذهب إليه المخالف يؤدي إلى أن يكون إجماع الصحابة على تسويغ الخلاف مشروطا بعدم دليل قاطع يجوز وجوده، ويترقب كونه ناسخا، وهذا يقطع عن الثقة بإجماعهم، ويخرجه عن كونه مقطوعا به".
ومنها: أنه لا خلاف أن الإجماع إذا حصل واستقر، لم يجز أن يتغير بالاختلاف، كذلك إذا حصل الاختلاف واستقر وجب أن لا يتغير الإجماع بالاختلاف كي لا يؤدي إلى إبطال الإجماع، والمستقر من إجماع الصحابة
هو تجويز تقليد كل واحد من الفريقين وتسويغ قوله، فلا يجوز أن يزول هذا المستقر بإجماع التابعين.
ونوقش: بأن العصر الذي حصل فيه الخلاف إنما سوغوا الخلاف لعدم علمهم بموضع الحق، فإذا وقع إجماع في عصر آخر دلنا ذلك على أن الحق فيما أجمعوا عليه.
وأجيب بأن هذا القول يفضي إلى أن الصحابة قد ذهب وخفي عنهم ما في هذا الحكم الذي أجمع عليه التابعون من الحكم القطعي، وهذا عين الخطأ والضلال عن الحق الذي نفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن علماء أمته، ولا سيما أصحابه، وما أفضى إلى الباطل باطل.
ومنها: أن كل واحد من الفريقين كالحي الباقي في كل عصر، ولهذا تحفظ أقوالهم بعدهم ويحتج بها، وإذا كانوا بمنزلة الأحياء وجب أن لا يعتد بالإجماع مع خلافهم.
ومنها: أنه اختلاف حصل من الصحابة فلا يزول بإجماع التابعين، كما لو اختلفت الصحابة على قولين وأجمع التابعون على قول ثالث. فالقائل بالقول الثالث مخالف لإجماعهم فسقط قوله، كما لو أجمعوا على قول واحد فخالفه. فاختلافهم على قولين اتفاق في المعنى على المنع من أحداث قول ثالث، نص عليه في رواية الأثرم: إذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يختار من أقاويلهم، ولا يخرج عن قولهم إلى من بعدهم، وقال في رواية أبي الحارث يلزم من قال: يخرج من أقاويلهم إذا اختلفوا أن يخرج من أقاويلهم إذا أجمعوا.
ومنها: أنه لو كان إجماع التابعين على أحد القولين مسقطا لما تقدم من الخلاف، لوجب أن يُنقَضَ كلُّ حكم به واحد من الصحابة وغيره يخالفه عليه، ثم وقع إجماع التابعين على خلافه؛ لأنه مقطوع ببطلانه، كما إذا حكم الحاكم ثم بان له فيما حكم به إجماع أو نص يخالف ما حكم به، فإنه ينقض حكمه، فلما لم ينقض ها هنا علم بطلان كونه إجماعا، فإن قالوا بذلك وارتكبوه فقد أبطلوا، وذلك أن الصحابة أجمعوا على صحة ذلك وبقَّوهُ، وكل حكم اجتمعت الصحابة عليه لم يجز للتابعين الإجماع على خلافه كسائر الأحكام.
ومنها: أن إجماع الصحابة أعلى وأقوى من إجماع غيرهم عند التأمل، وذلك أن آحادهم حجة عند كثير من الأصوليين، وليس لغيرهم من المجتهدين هذه الرتبة، فالناس اختلفوا في إجماع غيرهم ولم يختلفوا في إجماعهم، سوى من شذ ممن لا يعول على خلافه، وإذا ثبت هذا فقد حصل إجماعهم على تسويغ كل ذاهب ذهب إلى أحد المذهبين، فإذا جاء إجماع التابعين، وهو أضعف على ما قررنا، فأزال التسويغ وجعل أحد المذهبين مقطوعا على خطئه، كان إجماعهم الأدنى الأضعف مزيلا لإجماع الصحابة، وهذا لا يجوز، كما لا يجوز أن يقضي الظاهر على النص".
أدلة القائلين بحجية هذا الإجماع:
استدلوا بأدلة منها:
عموم الأدلة المثبتة لحجية الإجماع فهي تشمل بعمومها ما سبق فيه الخلاف، وما لم يسبق، والمراد إجماع أي عصر بدليل أمرين:
الأول- وقوع الاتفاق على أن العصر الذي لم يسبقه خلاف إجماع قطعي؛ لأنه إجماع جميع الأمة وكل المؤمنين.
الثاني- أن من توفي في بدء الإسلام من الصحابة لا يمنع موتهم من انعقاد إجماع الصحابة بلا خلاف.
فدل ذلك على أن المراد من وجد لا من عُدِم.
ونوقش:
1-بأن هذا من اتباع سبيل بعض المؤمنين لا جميعهم؛ لوجود الخلاف السابق، وفرق بين ما وجد فيه الخلاف وما لم يوجد.
2-أن الكلية في المؤمنين والأمة إضافية ونسبية، فالكلية ثبتت بالإضافة إلى مسألة حدثت في زمانهم، أما ما
وجد فيه قول لأهل عصر سابق فهنا لا يسقط القول بموت قائله.
ومنها: أن العصر المتأخر لو ابتدأوا إجماعا على حكم لكان حجة فكذلك إجماعهم فيما سبق فيه الخلاف.
ونوقش: بأن هذا استدلال بمحل النزاع.
ومنها: أن أهل العصر إذا اختلفوا على قولين ثم أجمعوا بعد ذلك على أحدهما فإن هذا يعد إجماعا صحيحا وحجة قاطعة ولم يعتبر الخلاف المتقدم، فكذلك في مسألتنا.
ونوقش: بأن حجية الإجماع في الصورة الأولى متوقفة على بقاء أصحاب القولين فيعتبر اتفاقهم رجوعا منهم عن قولهم وإبطالا له بخلاف ما لو ماتوا قبل أن يرجعوا فهذه كمسألتنا ، ولا نسلم وقوع الإجماع فالأقوال لا تموت بموت قائليها.
ومنها: أن إجماع التابعين حجة مقطوع بها وقول بعض الصحابة ليس بحجة مع قيام الخلاف بينهم فلا يجوز ترك الحجة والأخذ بما ليس بحجة.
ونوقش: بأن هذا استدلال بمحل النزاع.
ومنها: أنه لو تعارض خبران فأجمع أهل العصر على الأخذ بأحدهما سقط حكم الأخذ بالآخر، فكذلك اختلاف الصحابة على قولين إذا وقع الإجماع على أحدهما، بل قول النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمراعاة من قول الصحابة.
ونوقش: بأن الأخبار يدخلها النسخ بخلاف الأقوال، فإن أجمع عصر من العصور على ترك أحد الخبرين دل على أنه منسوخ ومتروك الظاهر، أما الأقوال فلا تموت بموت قائليها.
فإن قيل: مبني الأقوال على الأخبار فإت بطل الأصل بطل ما بني عليه وهو القول، قلنا أن الأصل الذي بني عليه القول مجهول فقد يكون أقوى من الأصل الآخر، فلا يصح نسخه.
ومنها: قولهم: إن المخالف في العصر السابق زالت أهليته للإجتهاد بموته فهو كمن فسق.
وقالوا: إن قول المخالف في العصر السابق وصف للمخالف، وبقاء الوصف بعد زوال الموصوف محال.
وقالوا: إن المخالف في العصر السابق لو عاش لربما تغيير اجتهاده وصار مع المجمعين.
ونوقش: بأن هذا استدلال بمحل النزاع فللمخالف أن يقول أن الأقوال لا تموت بموت قائليها، وبإن هذا القول الأخير احتمال واليقين بقاء قوله الذي مات عنه فلا يترك اليقين للإحتمال والشك.
الترجيح:
الراجح هو أنه لا يصح دعوى الإجماع مع سبقه بالخلاف المستقر.
تنبيه:
ومثل هذه المسائل التي وقع فيها الخلاف بين السلف واشتهر وانتشر، ثم نقل الإجماع على أحد أقوالهم، فهي ليست على درجة واحدة من قوة الخلاف، فبعض المسائل أقوال للصحابة فيها تخالف السنة المرفوعة نظرا لعدم علمهم بها، أو لتأولها، كمسألة ما نقل عن بعض الصحابة في ربا الفضل فهنا سواء نقل فيها إجماع أم لا ، رجع الصحابي أم لا، فالعلة هنا الأخذ بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالمرفوع لا يعارض بالموقوف.
مثال: عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، هل هي أبعد الأجلين أو وضع الحمل وخلاف الصحابة فيه مشهور، ولكل منزع، إلا أن حديث سبيعة يرجح قول الأكثرين لرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم فنقول إن لم يثبت رجوع ابن عباس فإن الراجح هو انتهاء العدة بوضع الحمل.
وكذا القول في نكاح المتعة فالراجح فيها التحريم لما ثبت من النهي مرفوعا، والقول بالإباحة مطلقا لم يستمر على القول به إلا الشيعة، وما نقل عن ابن عباس مع عدم علمه بالمرفوع، ومفاده أنه كان يفتي به في حال الضرورة، وأنه لم يستمر على القول بإباحتها مطلقا لمراجعة الصحابة له، قال الألباني في "الإرواء" : " أخرجه البخارى عن أبى جمرة قال: "سمعت ابن عباس يسأل عن متعة النساء؟ فرخص، فقال له مولى له: إنما ذلك فى الحال الشديد وفى النساء قلة أو نحوه فقال ابن عباس: نعم".
وأخرجه الطحاوى والبيهقى بلفظ:"إنما كان ذلك فى الجهاد والنساء قليل ...". وليس عندهما: " فرخص ".
وهذا بظاهره يدل على أنه رجع عن القول بإباحة المتعة إطلاقا إلى القول بعدم جوازها مطلقا أو مقيدة بحال عدم وجود الضرورة وكأنه رجع إلى ذلك بعد أن عارضه جماعة من الصحابة فى إطلاقه القول بإباحتها...".
وبعض المسائل لا ينقل فيها مرفوع صريح للنبي صلى الله عليه سلم، أو تكون الأدلة المرفوعة متعارضة أو عامة بينها عموم وخصوص وجهي فهذه المسائل لا يصح فيها دعوى الإجماع، وإنما تكون من باب الراجح والمرجوح، أو الراجح والأرجح تبعا لقوة وضعف القول المتروك ومأخذه، وقد تكون من باب جواز كلا الأمرين في أحوال وشروط فيأخذ بأيهما متى توفرت شروطه.
([1]) وهذه المناقشة من كلام ابن عقيل في "الواضح"، والكلوذاني في "التمهيد" والشيخ الشثري في "قوادح الاستدلال بالإجماع" مع زيادات وتصرف.