خير الناس أنفعهم للناس
قَالَ تَعَالَى: ﴿ لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114].
{مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} أي: حثَّ عليها إن لم يكنْ له مالٌ.
والمعروف لفظ يعم أعمال البر كلها. وقال العباس رضي الله عنه: لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيله وتصغيره وستره، فإذا عجلته هنأته، وإذا صغرته عظمته، وإذا سترته أتممته.
قوله تعالى: (أو إصلاح بين الناس) عام في الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين، وفي كل كلام يراد به وجه الله تعالى.
ويقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج:77.
قوله تعالى: اركعوا واسجدوا قال المفسرون: المراد: صلوا، لأن الصلاة لا تكون إلا بالركوع والسجود، واعبدوا ربكم أي: وحدوه وافعلوا الخير يريد: أبواب المعروف لعلكم تفلحون أي: لكي تسعدوا وتبقوا في الجنة.
وقَالَ تَعَالَى: ﴿ مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا ﴾ [النساء: 85]
في المراد بالشفاعة أقوال: أحدها: أنها شفاعة الإنسان للإنسان، ليجتلب له نفعا، أو يخلصه من بلاء.
والثاني: أنها الإصلاح بين اثنين.
والثالث: أنه الدعاء للمؤمنين والمؤمنات.
اسمحوا لي في بداية خطبتي أن أعيش وإياكم مع شاب خرج من قريته بعد أن تآمر القوم على قتله، خرج خائفا فقيرا جائعا يتوقع الشر في كل لحظة، هاربا من بطش الظالمين، شاب أنهكه التعب والجوع والظمأ، لا يملك لا مالا ولا متاعا، شاب مشى حتى انتهى به المطاف إلى قرية ليستريح فيها، وما كاد يجلس على الأرض ليستريح من عناء السفر حتى رأى منظرا استفز فيه رجولته ونخوته ودينه، فيا ترى ماذا رأى؟!
رأى فتاتين عفيفتين طاهرتين تتحاشيان الاختلاط بالرجال معهما أغنامهما ؛ وعلى الرغم من أنه لا يعرفهما وليس له حاجة عندهما إلا أنه رأى أنها فرصة لأن يكسب الأجر عند الله بقضاء حاجتهما، فسقى لهما ثم بعد أن أنجز تلك المهمة لم يطلب منهما أجرة ما عمل أو انتظر منهن كلمة شكر، إنما تولى إلى الظل ليستظل من تلك الحرارة الشديدة، فيا ترى من هو هذا الشاب؟
إنه رسول من أولي العزم من الرسل، إنه كليم الله موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.
قال تعالى: { فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) [القصص].
الله أكبر! نتيجة قضاء حوائج الناس، وكشف كرباتهم، أمان بعد الخوف ورزق بعد الفقر وزوجة بعد العزوبة هذا جزاء في الدنيا حصل عليه نبي الله موسى- عليه السلام -، فكيف بجزاء الآخرة؟!.
قال تعالى:" وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) " سورة الكهف
وهذا الأب كان الأب السابع لهذين الغلامين اليتيمين وفيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى درجة الصالحين في الجنة لتقر عينه بهم قال ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر لهما صلاح.
قال الحسن البصري: " وكان تحته كنزهما " قال: لوح من الذهب مكتوب فيه باسم الله الرحمن الرحيم.
قَالَتْ خَدِيجَةُ (......... كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ......)
(ما يخزيك) لا يذلك ولا يضيعك. (لتصل الرحم) تكرم القرابة وتواسيهم. (تحمل الكل) تقو بشأن من لا يقدر على العمل والكسب ليتم وغيره (تكسب المعدوم) تتبرع بالمال لمن عدمه وتعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك. (تقري الضيف) تهيىء له القرى وهو ما يقدم للضيف من طعام وشراب. (نوائب الحق) النوائب جمع نائبة وهي ما ينزل بالإنسان من المهمات وأضيفت إلى الحق؛ لأنها تكون في الحق والباطل.
وفي الصحيحين عن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَة".
فكم من إنسان ينام في فراشه ، لا يقوم الليل ولا يقرأ قرآنًا، بل هو نائم في نوم عميق تُقرع أبواب السماء عشرات الدعوات له؛ من جائع أطعمه، أو عارٍ كساه، أو مكروب نفَّث عنه، أو مستدين قَضَى عنه دَيْنه، هؤلاء يدعون له بالخير، يدعون له بالبركة، يدعون له بالرحمة؛ لأنه كان في نهاره أو في ليله وأيامه ساعيًا في قضاء حوائج المسلمين.
ولا يخفى ما للإحسان لغير المسلمين -إذا انضبط بالشرع الحنيف- من آثار حسنة في دعوتهم لدين الله تعالى، كما روى أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد، فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما سئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ فقال: لا ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري ومسلم.
قال ابن حجر في فتح الباري: في قصة ثمامة من الفوائد: ... تعظيم أمر العفو عن المسيء لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حباً في ساعة واحدة لما أسداه النبي صلى الله عليه وسلم إليه من العفو والمن بغير مقابل... وفيه: أن الإحسان يزيل البغض ويثبت الحب.. وفيه: الملاطفة بمن يرجى إسلامه من الأسارى إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام، ولا سيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير من قومه. انتهى...
عَنْ سَهْلِ بن سَعْدٍ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:"عِنْدَ اللَّهِ خَزَائِنُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، مَفَاتِيحُهَا الرِّجَالُ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَهُ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ، وَمِغْلاقًا لِلشَّرِّ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَهُ مِفْتَاحًا لِلشَّرِّ، وَمِغْلاقًا لِلْخَيْرِ\" .أخرجه ابن ماجة (238) والطبرانى (6/150 ، رقم 5812) الألباني ( حسن ) انظر حديث رقم : 4108 في صحيح الجامع .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ:كَانَتِ الصَّلاَةُ تُقَامُ ، فَيُكَلِّمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ فِي حَاجَةٍ تَكُونُ لَهُ ، فَيَقُومُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ ، فَمَا يَزَالُ قَائِمًا يُكَلِّمُهُ ، فَرُبَّمَا رَأَيْتُ بَعْضَ الْقَوْمِ لَيَنْعَسُ مِنْ طُولِ قِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ.
الصحابة:
أبو بكر:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا». قَالَ أَبُو بَكْرٍ t أَنَا. قَالَ «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً». قَالَ أَبُو بَكْرٍ t أَنَا. قَالَ «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا». قَالَ أَبُو بَكْرٍ t أَنَا. قَالَ «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا». قَالَ أَبُو بَكْرٍ t أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r: «مَا اجْتَمَعْنَ فِى امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ([19]).
عمر:
وقال أسلم مولى عمر رضي الله عنه: خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى حرة واقم1 حتى إذا كنا بصرار2 إذ نار، فقال عمر: إني لأرى ها هنا ركباً قصر بهم البرد والليل، انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فإذا امرأة معها صبيان صغار، وقدر منصوبة على نار، وصبيانها يتضاغون3، فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء، وكره أن يقول أصحاب النار، فقال: وعليك السلام، فقال: أدنو؟ فقالت: إدن بخير أودع، فدنا، فقال: ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد، قال: ما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع، قال: فأي شيء في هذه القدر؟ قالت: ما أسكتهم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر، فقال: أي رحمك الله، وما يدري عمر بكم؟ قالت: يتولى عمر أمرنا ثم يغفل عنا، قال أسلم: فأقبل علي فقال: انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عدلاً4 من دقيق وكبة من شحم، فقال: إحمله علي، فقلت: أنا أحمله عنك، فقال: أنت تحمل عني وزري يوم القيامة؟ لا أم لك، فحملته عليه، فانطلق، وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئاً، فجعل يقول لها: ذري علي وأنا أحرك لك، وجعل ينفخ تحت القدر.
وعثمان بن عفان اشترى بئر رومة ، وجعلها للغني والفقير وابن السبيل.
عن ثمامة بن حزن القشيري، قال: شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان، فقال: ائتوني بصاحبيكم اللذين ألباكم علي. قال: فجيء بهما فكأنهما جملان أو كأنهما حماران، قال: فأشرف عليهم عثمان، فقال: أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة»؟ فاشتريتها من صلب مالي فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها حتى أشرب من ماء البحر. قالوا: اللهم نعم. فقال: أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة»؟ فاشتريتها من صلب مالي فأنتم اليوم تمنعوني أن أصلي فيها ركعتين؟ قالوا: اللهم، نعم. قال: أنشدكم بالله وبالإسلام، هل تعلمون أني جهزت جيش العسرة من مالي؟ قالوا: اللهم نعم. ثم قال: أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على ثبير مكة ومعه أبو بكر وعمر وأنا فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض قال: فركضه برجله وقال: «اسكن ثبير فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان؟» قالوا: اللهم، نعم. قال: الله أكبر شهدوا لي ورب الكعبة أني شهيد، ثلاثا.
الصحابة:
روى أبو نعيم عن مالك الداراني:
أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة، فقال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح، ثم انتظر ساعةً في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها الغلام، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، حتى أنفذها، فرجع الغلام إلى عمر رضي الله تعالى عنه، وأخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل، فقال: اذهب بها إلى معاذ وانتظر في البيت ساعةً حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، تعالي يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ، فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا، ولم يبق في الخرقة إلا ديناران، فألقى بهما إليها - ورجع الغلام إلى عمر، فأخبره، فسُرَّ بذلك، وقال: "إنهم إخوة بعضهم من بعض".
ابن ميمون : يقول حججت على أيام الخليفة العبّاسي هارون الرشيد فرأيت في الحجّ امرأة تبكي بكاءً مُرّاً، فاقتربت منها، فسمعتها تقول:
أيا عمرو فيم تجنبتني ... سكبت دموعي وعذّبتني
فلو كنت يا عمرو أخبرتني... أخذت حذار فما نلتني
قال: فقلت لها: من عمرو هذا يا أمة الله؟ ففزعت عندما فوجئت بوجودي فقلت لها: لا تخافي، إنّما أنا عبدٌ من عباد الله، لعلّي أكون في حاجتك فمن عمرو؟ قالت: عمرو هذا هو زوجي، وقد تبعني قبل الزواج، وامتنعت عنه واحتال على الزواج منّي كلّ حيلة، حتى شاء الله وتزوجته، ولكنه هجرني.
قلت: أهجرك لموجدةٍ أو نفور؟ قالت: لا والله، بل لشدة حبّ. فقد ضاق بنا العيش، وأشفق عليّ. فذهب يلتمس عملاً، قد يكون فيه سعة لي وله. قلت: وأين هو؟ قالت: في (جدّة) يعمل في البحر. قلت: سأجمع بينكما إن شاء الله، فصفيه لي. قالت: لا تهزأ بي يا عبد الله. قلت: إنّني فاعل إن شاء الله، ولن يخيّب الله مسعاي، قالت: هو أحسن من تراه، طلقٌ محياه، مليئةٌ بالحبِّ عيناه، وليس في القلب سواه
قال إبراهيم: ركبت وذهبت إلى جدّة ... وناديت عند المكان الذي حددته، يا عمرو. يا عمرو. فخرج إليّ رجل ما ارتبت لحظةً في أنه هو. ولما اقترب منّي، أنشدته ما سمعت من زوجته. فعانقني وقال: إنما أنت رسولها. قلتُ: نعم. فهل تعود معي إليها؟ . قال: والله إنّ هذا لأحبُّ شيء إلى نفسي، لكنّي أسعى إلى السعة. قلت: كم يكفيك لمعاشك في العام؟ قال: ثلاثمائة دينار. قلت: فهذه ثلاثة آلاف لعشر سنين، فإذا نفدت أو أوشكت فأرسل إليّ بمن يحمل إليك غيرها. وأعدته إلى زوجته، ولم يكن أحدٌ أسعد منهما بذلك إلاّ أنا.
اشترى عبدالله بن عامر بن كريز من خالد بن عقبة بن أبي معيط داره التي في السوق؛ ليفتح بها بابه على السوق بثمانين أو تسعين ألفًا، فلما كان من الليل سمع بكاءً، فقال لأهله: "ما لهؤلاء يبكون؟"، قالوا: على دارهم، قال: "يا غلام، ايتِهمْ وأعلِمهم أن الدار والمال لهم".
كان علي بن الحسين - رحمه الله - يحمل الخبز إلى بيوت المساكين في الظلام فلما مات فقدوا ذلك ، كان ناس من أهل المدينة يعيشون ولا يدرون من أين معاشهم فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك الذي كان يأتيهم بالليل.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
آداب السعي في قضاء حوائج الناس:
آداب قضاء الحوائج اعلم أن لقضاء الحوائج واصطناع المعروف آداب كثير منها :
- ان تتوجه لله تعالي متذللا لعظمته أن يرزقك فعل الخيرات وقضاء حوائج الناس ففي حديث الترمذي شرع النبي دبر كل صلاة أن تدعو بهذا الدعاء : "اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين ..." الحديث.
- الإخلاص في الأعمال وعدم المن بها.
وقالوا المنة تهدم الصنيعة.
قال رجل لابن شبرمه: فعلت بفلان كذا وكذا، وفعلت به كذا فقال: لا خير في المعروف إذا أحصي.
وأعلم أن من علامات الإخلاص: استواء المدح والذم من العامة، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال، واقتضاء ثواب الأعمال في الآخرة.
- ومن الآداب إتمام العمل: فهل تعلم أن بعض الناس يبدأ في عمل ما ويصطنع المعروف وقد يجتهد فيه لكنه لا يتمه وأحياناً قد يقارب الانتهاء ثم يتركه وقد قال أحد السلف: رٌب المعروف أشد من ابتدائه. والمقصود به رُب العمل: تنميته تعهده. ويقال: الابتداء بالمعرف نافلة و ربه فريضة. أي إتمامه. وقد جاء في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: « إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه » ومن إتقان العمل إتمامه.
- ومن الأدب طلب الحاجة من الكريم دون اللئيم: فعندما يطلب منك أي عمل فأعلم أن الحاجة لا تطلب إلا من كريم وقد أحسن الظن بك من طلب أداء العمل واستمع إلى قول ابن عباس: رجل لا يكافئه عني إلا الله عز وجل، قيل فمن هو؟ قال: رجل بات ليلته يفكر بمن ينزله ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي.
وقال آخر لا تطلبن إلى لئيم حاجة ... واقعد فإنك قائم كالقاعد
- ومن الآداب الشكر والثناء: قال صلى الله عليه وسلم: "من لا يشكر الناس لا يشكر الله"
وقال صلى الله عليه وسلم: « من صُنِعَ إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء ».
قال بعض الحكماء: إذا قصرت يدك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر.
وقال خالد بن صفوان: لا تطلبوا الحوائج في غير حينها، ولا تطلبوها لغير أهل، ولا تطلبوا ما لستم له بأهل فتكونوا للمنع خلقاء.
ولاستماع الخطبة اضغط هنا
https://archive.org/download/intensem/KhaerAlnasAnfahmLlnas.mp3