ربّي يسّر واعنّ،
أتذكر كلما مررتُ، وأنا في الطريق السيّار شرق-غرب، بقرب شلغوم العيد، على محطة خدمات مهجورة بسبب شقّ الطريق السيّار "بُنيتْ قبله" الفرضية الأساسية التي قامت عليها المحاسبة المالية، ألا وهي "إستمرارية الاستغلال"[1].
فنتيجة مرور الطريق السيّار بمحاذة محطة الخدمات، "بل يكاد يلتصق بها" (كما يظهر في الصورة)، لم يستمر استغلال نشاط المحطة، وهُجرت بالكلية، لأنه تمّ بناءها قرب الطريق القديم في مكان مهجور نوعا ما، ولا منفذ آخر لها، لا على الطريق السيّار ولا غيره من الطرق الأخرى.
فإذا انعدمت "فرضية استمرارية الاستغلال"، التي تعتبر الركيزة الأساسية إلى جانب فرضية محاسبة الالتزام، فإنّ المحاسبة المالية برمتها تنهار، ولم تَعُدّ الكشوف المالية على أساس ما جاء به الإطار التصوري من مبادئ ومفاهيم، بل يجب إعدادها وتقييم أصولها وخصومها، حسب "قيمة التصفية".
ــــــــــ
[1] تسمى بالفرضية حسب المعيار للتدقيق الجزائري 570 وكذا حسب المعيار المحاسبي الدولي رقم 01، المتعلق بعرض القوائم المالية، أو بالمبدأ المحاسبي حسب قانون -07-11، المتعلق بالنظام المحاسبي المالي، أو الاتفاقية المحاسبية القاعدية، حسب قرار 24 جوان 2013، المتعلق بمعايير تقارير محافظي الحسابات. تجدر الإشارة، إلى أن المحاسبة المالية تقوم على فرضيتين أساستين، وهما "إستمرارية الاستغلال" و "محاسبة الالتزام".
ــــــــــ
في ظل قيام فرضية استمرارية الاستغلال، فإن القيمة التي تظهر في أصول الكشوف المالية، هي التكلفة التاريخية، ولنفرض أنّ قيمتها 30 مليون دينار جزائري. "ولكن إذا زالت هاته الفرضية" بصدور القرار الرسمي في سنة ن-20، بشقّ الطريق السيّار، بمحاذاة المحطة، وعزلها بالكلية عن أي منفذ، ممّا أدى إلى التوقّف الكلي لاستمرارية الاستغلال، وهجرها بالكلية، فإنّ التساؤل الذي يُطرح: "هل ظهور مبلغ مباني المحطة في 31/12/ن-20، بمبلغ 30 مليون دينار جزائري، يمثل الحقيقة الاقتصادية والصورة الصادقة لهذا الأصل، وبالتالي الكشوف المالية؟"
للإجابة عن هذا التساؤل، يتحتم علينا طرح سؤال آخر: "لو أعلنت إدارة المحطة بيعها في أول جانفي ن-19 مثلا، فكم هي قيمة المباني التي ستباع بها؟". لا شكّ أن الذي يتقدّم لاقتناء المحطة، سوف يعرض مبلغ 15 مليون سنتيمـ مثلا، لماذا؟ لأنّه يعلم أن المحطة لن تستمر في إستغلال نشاطها عند بداية شقّ الطريق السيّار، فهو يقتني المحطة "كخردة"، والمبلغ الذي عرضه للمباني، ما هو إلا مقابل ما يجنيه من إعادة بيع الخشب والحديد وغيره. لذا يتوجّب إعداد الكشوف المالية في ن-20، حسب "قيمة التصفية"[2] وليس حسب التكلفة التاريخية.
ــــــــــ
[2] 24- إذا فرض على الإدارة أو اختارت إعداد الكشوف المالية غير أن تطبيق فرضية استمرارية الاستغلال غير ملائم في هذ الظرف، تعد الكشوف المالية إذن حسب طريقة أخرى (على سبيل المثال: على أساس قيم التصفية). انتهى المعيار الجزائري للتدقيق 570 حول استمرارية الاستغلال، قرار 23 المؤرخ في 15 مارس 2017، المتضمن المعايير الجزائرية للتدقيق.
ــــــــــ
في ظل قيام فرضية استمرارية الاستغلال، فإن القيمة التي تظهر للإهتلاكات المباني في الكشوف المالية في 12/31/ن-20، هي المدة النفعية، أو حتى المدة حسب التشريع الجبائي، المدة المطبقة عادة في كل قطاع، ولنفرض 40 سنة. ولكن إذا زالت هاته الفرضية "بصدور القرار الرسمي في سنة ن-20"، بشقّ الطريق السيّار، بمحاذاة المحطة، فإنّ التساؤل الذي يُطرح: هل ظهور مبلغ إهتلاكات مباني المحطة في 12/31/ن-20 الذي تمّ احتسابه على أساس مدة 40 سنة، بعد أن زالت هاته الفرضية "بصدور القرار الرسمي في سنة ن-20"، يمثل الواقع الاقتصادي والصورة الصادقة للقيمة الصافية للمباني؟
طبعا لا، لأنّه بزوال فرضية استمرارية الاستغلال، انهار مفهوم الإهتلاك الذي جاء، به الإطار التصوري للنظام المحاسبي المالي، فلم تعدّ المدة النفعية 40 سنة، ولا حتى 20 سنة، لأن القيمة الصافية، للمباني يجب أن تمثل قيمتها الاقتصادية، والمتمثلة في " قيمة التصفية"، كما سبق شرحه.
تعريف "إستمرارية الاستغلال": جاء ذكر استمرارية الاستغلال، في القانون التجاري في المادة 711 مكرر 11[3]، وفي قانون 07-11 الصادر في 24 نوفمبر 2007، المتعلق بالنظام المحاسبي المالي، وملحق قرار 26 جويلية 2008، المتعلق بتطبيق النظام المحاسبي المالي[4]، وكذا المعيار الجزائري 570، الخاصّ باستمرارية الاستغلال[5].
وعرّف المرسوم التنفيذي رقم 08-156 الصادر بتاريخ 26 ماي 2008، المتعلق بتطبيق النظام المحاسبي المالي، استمرارية الاستغلال كما يلي: "المادة 4: يتعين على محاسبة كل كيان: ... يجب أن تسمح المحاسبة بإجراء مقارنات دورية وتقيم تطور الكيان بهدف استمرارية النشاط في المستقبل". "المادة 07: تعدّ الكشوف المالية على أساس استمرارية الاستغلال، بافتراض متابعة الكيان لنشاطاته في مستقبل متوقع، إلا إذا طرأت أحداث أو قرارات قبل تاريخ نشر الحاسبات والتي من الممكن ان تسبب التصفية أو التوقف على النشاط في مستقبل قريب وإذا لم يتم إعداد الكشوف المالية على هذا الأساس، فإن الشكوك في استمرارية الاستغلال تكون مبيّنة ومبرّرة ويحدد الأساس المستند عليه في ضبطها في ملحق". انتهى. قلتُ: كلما مررت بتلك المحطة، تراني أرحل عبر الزمن، وأتخيل ما حدث "أو ما كان يجب أن يحدث"، عندما علمت إدارة المحطة وكذا محافظ الحسابات، بخبر قرار السلطات شقّ الطريق السيّار، بمحاذاة المحطة، وكذا عندما تأكد الخبر، بصدور القرار الرسمي من طرف السلطات، بتثبيت مرور الطريق السيّار بمحاذاتها.
أولا، في حالة ورود الخبر "قبل إتخاذ القرار الرسمي من طرف السلطات، حول شقّ الطريق السيّار بمحاذاة المحطة".
إذا كان الخبر غير مؤكد، بمعنى أنّ هناك شكّ حول "إستمرارية الاستغلال"، ولكن ليس شكّ بليغ، فإن محافظ الحسابات، يطلب من إدارة الشركة، توضيح حول الخبر، فإن كان غير مؤكد حسب تقرير إدارة الشركة، وحسب التقصّيات التي قام بها والمعلومات المتحصل عليها، فإنه يشير إلى ذلك في تقريره الخاص باستمرارية الاستغلال (قرار 25 جوان 2013، المحدد لمحتوى معايير تقارير محافظ الحسابات). كما يجب على الإدارة، شرحه ذلك بإسهاب في ملحق الكشوف المالية.
·إذا كان هناك شكّ بليغ أو الخبر مؤكد، من خلال صدور القرار الرسمي من طرف السلطات، بمعنى عدم "إستمرارية الاستغلال" فإن محافظ الحسابات، يقوم بما يلي، أولا، "تحرير تقرير الإنذار"، ويقدمه إلى أقرب جمعية عامة، أو يستدعي هو الجمعية العامة في دورة إستثنائية[6]. ثانيا: يجب على إدارة المحطة، "تقييم الكشوف المالية"، حسب "قيمة التصفية"، وليس حسب الإطار التصوري ومبادئ ومفاهيم النظام المحاسبي المالي، "كما سبق شرحه بأمثلة"، وإلا فإنه يتوجّب على محافظ الحسابات رفض المصادقة على الحسابات الاجتماعية المقفلة في 31/12/ن-20[7].
ــــــــــ
[3] المادة 711 مكرر 11: "يجوز لمندوب الحسابات، أن يطلب توضيحات من رئيس مجلس الإدارة أو مجلس المديرين الذي يتعين عليه أن يرد على كل الوقائع التي من شأنها أن تعرقل استمرار الاستغلال والتي اكتشفها أثناء ممارسة مهامه"
في حالة انعدام الرد أو إذا كان الرد ناقصا، يطلب مندوب الحسابات من الرئيس أو مجلس المديرين استدعاء مجلس الإجارة أو مجلس المراقبة للمداولة في وقائع الملاحظة، ويتم استدعاء مندوب الحسابات في هذه الجلسة.
في حالة عدم احترام هذه الحكام، أو إذا لاحظ مندوب الحسابات أنه رغم اتخاذ هذه القرارات بقيت مواصلة الاستغلال معرقلة، فإنه يقوم حينئذ بإعداد تقرير خاص يقدمه لأقرب جمعية عامة مقبلة أو لجمعية عامة غير عادية، في حالة الاستعجال، يقوم هو نفسه باستدعائها لتقديم خلاصاته". القانون التجاري.
[4] المادة 6: يتضمن النظام المحاسبي المالي إطارا تصوريا للمحاسبة المالية، ومعايير محاسبية، ومدونة حسابات تسمح بإعداد كشوف مالية على أساس المبادئ المحاسبية المعترف بها عامة، ولا سيما:
محاسبة التعهد؛
استمرارية الاستغلال؛
قابلية الفهم؛
الدلالة؛
المصداقية؛
قابلية المقارنة؛
التكلفة التاريخية؛
أسبقية الواقع الاقتصادي على المظهر القانوني." انتهى، قانون 07-11 الصادر في 25 نوفمبر 2007؛
[5] "حسب فرضية استمرارية الاستغلال، يفترض بكيان ما، أنه مستمر في نشاطه في المستقبل المتوقع.
2. يتم إعداد الكشوف المالية للاستخدام العام على أساس هذه الفرضية، باستثناء الحالات التي قد تكون للإدارة فيها نية تصفية الكيان أو قف نشاطه، أو إذا لم يُتاح لها اي حل بديل واقعي آخر. عند تأكيد تطبيق فرضية استمرارية الاستغلال يتم تسجيل الأصول والخصوم على اعتبار أن الكيان سوف تكون لديه القدرة على تحصيل أصوله ودفع ديونه أثناء السير العادي لأنشطته". انتهى المعاير الجزائري للتدقيق 570.
[6] "6.8. يتخذ إجراء الإنذار المنصوص عليه، لا سيما في أحكام المادة 715 مكرر 11، من القانون التجاري عندما تؤكد الوقائع والأحداث المحللة من طرف محافظ الحسابات، بناء على حكمة الخاص، شكا بليغا حول استمرارية الاستغلال". انتهى، (قرار 25 جوان 2013، المحدد لمحتوى معايير تقارير محافظ الحسابات، وانظر المادة 711 مكرر 11) المذكورة أعلاه.
[7] "23- إذا تم إعداد الكشوف المالية للكيان على أساس فرضية استمرارية الاستغلال ولكن المدقق، وبالاستناد إلى حكمه الشخصي، يعتبر بأن تطبيق فرضية استمرارية الاستغلال التي تتبناها الإدارة غير ملائم، يجب عليه أن يعبر عن رأي بالرفض، بأن الكشوف المالية تقدم أو لا، معلومة حول عدم ملائمة تطبيق الإدارة لفرضية استمرارية الاستغلال". انتهى، المعيار الجزائري 570.
ــــــــــ
لمطالعة طرق التقييم حسب "قيمة التصفية"، أنظر الصورة:
لمطالعة مختلف مواقف محافظ الحسابات حيال فرضية استمرارية الاستغلال، أنظر الصورة:
وصلى الله على البشير النذير
الأستاذ توفيق رجاح أبو جابر (محافظ حسابات)، كتبه بتاريخ 07 - 03 - 2020
لتحميل المقال بالتنسيق المعدل بصيغة PDF:
https://drive.google.com/file/d/11BAHUcGGAZGgeqDQffZl09tZFjEsL7Ol/view?usp=sharing
لتحميل المقال بالتنسيق المعدل بصيغة docx: