جديد الموقع: كيف أتفوق في دراستي؟
هدف سلوكي: الاهتداء بالقرآن الكريم وتنزيه الله تعالى عما لا يليق بجلاله.
التعريف بالسورة:
سُورَةُ الْجِنِّ مَكِّيَّةٌ، وَآيَاتُهَا ثَمَانٌ وَعِشْرُونَ (28)، سُمِّيَتْ بِسُورَةِ الْجِنِّ لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ بَعْضًا مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَأَخْبَارِهِمْ عِنْدَ سَمَاعِ نَفَرٍ مِنْهُمْ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
الآيات:
بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: ﴿قُلُ ا۟وحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اُ۪سْتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ اَ۬لْجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانا عَجَباٗ (1) يَهْدِےٓ إِلَي اَ۬لرُّشْدِ فَـَٔامَنَّا بِهِۦ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداٗۖ (2) وَإِنَّهُۥ تَعَٰل۪يٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اَ۪تَّخَذَ صَٰحِبَةٗ وَلَا وَلَداٗۖ (3) وَإِنَّهُۥ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَي اَ۬للَّهِ شَطَطاٗۖ (4) وَإِنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ اَ۬لِانسُ وَالْجِنُّ عَلَي اَ۬للَّهِ كَذِباٗۖ (5) وَإِنَّهُۥ كَانَ رِجَالٞ مِّنَ اَ۬لِانسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٖ مِّنَ اَ۬لْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاٗۖ (6) وَإِنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمُۥٓ أَن لَّنْ يَّبْعَثَ اَ۬للَّهُ أَحَداٗۖ (7)﴾
المعنى الإجمالي للآيات:
في هذه الآيات بَيَّنَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَثَرَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَلَى الْجِنِّ، حَيْثُ آمَنُوا بِهِ وَاعْتَقَدُوا وَحْدَانِيَّةَ مُنْزِلِهِ عَزَّ وَجَلَّ. وفيها شُمُولَ رِسَالَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وأَسْبَابِ الضَّلَالِ وَالْجُحُودِ، والاهتداء بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وتنزيه اللهَ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ.
مضمون (الآيتان: 1-2): إِيمَانُ الْجِنِّ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَاِهْتِدَاؤُهُمْ بِهَدْيِهِ
أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي بِدَايَةِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ أَنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيْهِ وَأَخْبَرَهُ بِاسْتِمَاعِ الْجِنِّ إِلَى قِرَاءَتِهِ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَآمَنُوا بِهِ وَاهْتَدَوْا بِهَدْيِهِ.
قال تعالى: ﴿قُلُ ا۟وحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اُ۪سْتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ اَ۬لْجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانا عَجَباٗ (1)﴾
شرح مفردات الآية: نَفَرٞ: النَّفَرُ: الْجَمَاعَةُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى عَشَرَةٍ.
الإعراب: والضَّمِيرُ فِي ﴿أَنَّهُ﴾ لِلشَّأْنِ (ضمير الشأن هو ضمير مذكر يأتي في بداية الجملة لإفادة أن الأمر المذكور فيها عظيم الشأن).
تفسير الآية: أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّد لِلنَّاسِ: إِنَّنِي أُخْبِرْتُ بِالْوَحْيِ مِنَ اللهِ تَعَالَى أنه اسْتَمَعَ لِقِرَاءَتِي عَدَدٌ مِنْ جِنّ نَصِيبِينَ بِالْيَمَـنِ أَوْ جِنِّ نَيْنَوَى، وَكَانُوا سَبْعَةً أَوْ تِسْعَةً، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم بِبَطْنِ نَخْلٍ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّة وَالطَّائِفِ، وَهَؤُلَاءِ الْجِنُّ هُمُ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ [الأحقاف: 29]، فَقَالُوا لِقَوْمِهِمْ لَمَّا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ: إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ فِي فَصَاحَتِـهِ وَغَزَارَةِ مَعَانِيـهِ وَغَيْـرِ ذَلِـكَ.
ما يستفاد من الآية: عَالَمِيَّةُ الْإِسْلَامِ وَشُمُولُ رِسَالَتِهِ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ.
قال تعالى: ﴿يَهْدِےٓ إِلَي اَ۬لرُّشْدِ فَـَٔامَنَّا بِهِۦ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداٗۖ (2)﴾
شرح مفردات الآية: اَ۬لرُّشْدِ: الْإِيمَانِ وَالصَّوَابِ.
تفسير الآية: وَإِنَّ هَذَا الْقـُرْآنَ يَهْدِي إِلَى الْإِيمَانِ وَالصَّوَابِ فصَدَّقْنَا أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا بَعْدَ اليَوْمِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْقُرْآنِ يَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِكُلِّ مَا جَاءَ فِيهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى وَحْدَانِيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
ما يستفاد من الآية: القُرْآنُ الْكَرِيمُ كِتَابُ هِدَايَةٍ وَإِرْشَادٍ.
سؤال: بين حال الجن بعد سماعهم للقرآن وتبليغه لقومهم. أو حَدِّد مَوْقِفَ الْجِنِّ عِنْدَ سَمَاعِهِمْ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. أو أبْرِز أَثَرَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَلَى الْجِنِّ. أو مَاذَا فَعَلَ الْجِنُّ إِثْرَ اسْتِماعِهِمْ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؟
مضمون الآيات: (3-7) تَوْحِيدُ الْجِنِّ لله تَعَالَى وَتَنْزِيهُهُمْ لَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ
بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنِ اسْتِمَاعِ الْجِنِّ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَإِيمَانِهِمْ بِهِ وَتَوْحِيدِهِمْ لِرَبِّهِمْ، بَيَّنَ تَنْزِيهَهُمْ لِلهِ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّا يَنْسُبُهُ إِلَيْهِ سُفَهَاؤُهُمْ مِنَ الشَّرِيكِ، وَالصَّاحِبَةِ، وَالْوَلَدِ.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُۥ تَعَٰل۪يٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اَ۪تَّخَذَ صَٰحِبَةٗ وَلَا وَلَداٗۖ (3)﴾
شرح مفردات الآية: جَدُّ رَبِّنَا: عَظَمَةُ رَبِّنَا وَجَلَالُهُ.
الإعراب: الضَّمِيرُ فِـي ﴿وَإِنَّهُۥ﴾ هُنَا، وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ بَعْدَهُ لِلشَّأْنِ.
تفسير الآية: أَيْ: تَنَزَّهَ جَلَالُ اللهِ وَعَظَمَتُهُ عَمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الزَّوْجَةِ وَالوَلَدِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَتَّخِذْ زَوْجَةً وَلَا وَلَدًا؛ لِأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْغِنَى الْمُطْلَقِ، وَالْمُخَالَفَةِ لِلْحَوَادِثِ، فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَاجَةِ وَالمُمَاثَلَةِ لِلمَخْلُوقَاتِ، عَكْسَ مَا يَقُولُهُ السُّفَهَاءُ مِنَ الْجِنِّ.
ما يستفاد من الآية: وحْدَانِيَةُ اللهِ تَعَالَى وَغِنَاهُ غِنًى مُطْلَقًا.
سؤال: ما أَثَرَ الْإِيمَانِ بالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَلَى مُعْتَقَدَاتِ الْجِنِّ؟
قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُۥ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَي اَ۬للَّهِ شَطَطاٗۖ (4)﴾
شرح مفردات الآية: شَطَطاٗۖ: الشَّطَطُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَالْخُرُوجُ عَنِ الصَّوَابِ.
تفسير الآية: أَيْ: كَانَ يَقُولُ جَاهِلُنَا السفيه -وقيل هو إبليس- عَلَى اللهِ شَطَطًا حَيْثُ غَلَوْا فِي الْكَذِبِ بنِسْبَةِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَد ِلَهُ سُبْحَانَهُ.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ اَ۬لِانسُ وَالْجِنُّ عَلَي اَ۬للَّهِ كَذِباٗۖ (5)﴾
الإعراب: ﴿أَن﴾ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ.
تفسير الآية: وَالْمَعْنَى: وَإِنَّنَا ظَنَنَّا أَنَّ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ لَنْ تَبْلُغَ بِهِمُ الْجُرْأَةُ أَنْ يَكْذِبُوا عَلَى اللهِ بِوَصْفِهِ بِأَنَّ لَهُ زَوْجَةً وَوَلَدًا حَتَّى تَبَيَّنَ لَنَا كَذِبُهُمْ.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُۥ كَانَ رِجَالٞ مِّنَ اَ۬لِانسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٖ مِّنَ اَ۬لْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاٗۖ (6)﴾
شرح مفردات الآية: يَعُوذُونَ: يَسْتَعِيذُونَ وَيَحْتَمُونَ.
تفسير الآية: أَيْ: كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَسْتَعِيذُونَ وَيَحْتَمُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنّ حِينَ يَنْزِلُونَ فِي سَفَرِهِمْ بِمَكَانٍ مَخُوفٍ، فَيَقُولُ كُلُّ رَجُلٍ: أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْمَكَانِ مِنْ شَرِّ سُفَهَائِهِ، فَزَادُوهُمْ بِعَوْذِهِمْ بِهِمْ طُغْيَانًا؛ لِأَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا أَنَّ لَهُمْ فَضْلا عَلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَقَالُوا: سُدْنَا الْجِنَّ وَالْإِنْـس.
ما يستفاد من الآية: مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللهِ وَحْدَهُ أَمِنَ شُرُورَ الْخَلْـقِ، وَمَـنْ لاَذَ بِغَيْـرِهِ ازْدَادَ خَوْفا وَإِثْما.
سؤال: بَيِّنُ عَاقِبَةَ الاِسْتِعَانَةِ بِالجِنِّ وَمَوْقِفَ الإِسْلَاِم مِنْ ذَلِكَ.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمُۥٓ أَن لَّنْ يَّبْعَثَ اَ۬للَّهُ أَحَداٗۖ (7)﴾
الإعراب: ﴿أَن﴾ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، أَيْ: أَنَّهُ.
تفسير الآية: وَالْمَعْنَى: وَإِنَّ الْجِنَّ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْتُمْ يَا إِنْسُ، أَنَّهُ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَدًا بَعْدَ مَوْتِهِ. وَإِنْكَارُهُمْ لِلبَعْثِ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُمْ يَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ وَيَكْفُرُونَ بِهِ.
أَتَخَـلَّــقُ وَأَتَـزَكَّــى:
سؤال: جَاءَ فِي الآَيَاتِ الكَرِيمَةِ أَنَّ القُرْآنَ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ، فَكَيْفَ تُحَقِّقُ ذَلِكَ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَثَرٌ حَمِيدٌ فِي حَيَاتِي؟
الجواب: أحقق ذلك بالمواظبة على تلاوة القرآن الكريم، وتدبر آياته، والاهتداء بها سلوكا وعملا، وامتثال ذلك في علاقتي بخالقي، ونفسي، والآخر.
سؤال: اسْتَخْرِج الْقِيَمَ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الْآيَاتُ.
الاستثمار:
أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى سُورَةَ الْجِنِّ إِثْرَ سُورَةِ نُوحٍ، تَبْكِيتًا لِقُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ فِي كَوْنِهِمْ تَبَاطَؤُواْ عَـنِ الْإِيمَانِ، إِذْ كَانَتِ الْجِنُّ خَيْرًا مِنْهُمْ وَأَقْبَلَ لِلْإِيمَانِ، هَذَا وَهُمْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَ ذَلِكَ فَبِنَفْسِ مَا سَمِعُوا الْقُرْآن اسْتَعْظَمُوهُ وَآمَنُوا بِهِ لِلْوَقْتِ، وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَمَطِ كَلَامِ النَّاسِ، بِخِلَافِ الْعَرَبِ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ وَعَرَفُوا كَوْنَهُ مُعْجِزًا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُكَذِّبُونَ لَهُ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حَسَدًا وَبَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ».
مَا الْغَايَةُ مِنْ تَذْكِيرِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِسَمَاعِ الْجِنِّ لِلْقُرْآنِ وَتَصْدِيقِهِمْ بِهِ؟
لِمَاذَا أَصَرَّ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ بالْقُرْآنِ، رَغْمَ نُزُولِهِ بِلُغَتِهِمْ وَمَجِيئِهِ عَلَى يَدِ رَسُولٍ مِنْهُمْ؟
أَسْتَنْتِجُ الْحِكْمَةَ الإِلَهِيَةَ مِنْ إِيمَانِ فَرِيقٍ مِنَ الْجِنِّ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
هدف سلوكي: إدراك فضل الله تعالى على الجن والإنس بالبعثة النبوية.
الآيات:
قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَمَسْنَا اَ۬لسَّمَآءَ فَوَجَدْنَٰهَا مُلِئَتْ حَرَساٗ شَدِيداٗ وَشُهُباٗۖ (8) وَإِنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَٰعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَّسْتَمِعِ اِ۬لَانَ يَجِدْ لَهُۥ شِهَاباٗ رَّصَداٗۖ (9) وَإِنَّا لَا نَدْرِےٓ أَشَرٌّ ا۟رِيدَ بِمَن فِے اِ۬لَارْضِ أَمَ اَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداٗۖ (10) وَإِنَّا مِنَّا اَ۬لصَّٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَۖ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداٗۖ (11) وَإِنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اَ۬للَّهَ فِے اِ۬لَارْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُۥ هَرَباٗۖ (12)﴾
المعنى الإجمالي للآيات:
مَا زَالَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ تُتَابِعُ حَدِيثَ الْجِنِّ عَنِ الرِّسَالَةِ المُحَمَّدِيَّةِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ مُعْجِزَاتٍ، وَمَا صَحَّحَتْهُ مِنْ مُعْتَقَدَاتٍ، وتَأْتِي هَذِهِ الْآيَاتُ لِسَرْدِ أُمُورٍ جَدِيدَةٍ أَدْرَكَهَا الْجِنُّ تُنْبِئُ بِبِعْثَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، مِنْ قَبِيلِ مَنْعِهِمْ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ مِنَ السَّمَاءِ، وَحَيْرَتِهِمْ فِي مَا يُرادُ بِأَهْلِ الْأَرْضِ. وَأَنَّهُ لَنْ يُنْجِيَهُمْ هَرَبُهُمْ مِمَّا يُرِيدُ اللهُ بِهِمْ.
مضمون الآيات: (8-10) اِعْتِرَافُ الْجِنِّ بِمَنْعِهِمْ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ عِنْدَ بِعْثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
أَخْبَر الجن أَنَّهُ لَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَزَلَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ مُنِعُوا مِمَّا دَأَبُوا عَلَيْهِ قَبْلَ بِعْثَتِهِ صلى الله عليه وسلم مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ مِنَ السَّمَاءِ.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّا لَمَسْنَا اَ۬لسَّمَآءَ فَوَجَدْنَٰهَا مُلِئَتْ حَرَساٗ شَدِيداٗ وَشُهُباٗۖ (8)﴾
شرح مفردات الآية: حَرَساٗ شَدِيداٗ: حُرَّاسًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَهَا بِشِدَّةٍ.
تفسير الآية: أَخْبَر الجن قائلين: أنه حِينَمَا أرَدْنَا اسْتِرَاقَ السَّمْعِ مِنَ السَّمَاءِ كَمَا كَانَتْ عَادَتُنَا قَبْلَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ بِالْحُرَّاسِ الْأَقْوِيَاءِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، يَحْرُسُونَهَا مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ بِالشُّهُبِ أَيْ: بالنُّجُومِ الْمُحْرِقَةِ، الَّتِي تَمْنَعُ كُلَّ مَنْ أَرَادَ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَٰعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَّسْتَمِعِ اِ۬لَانَ يَجِدْ لَهُۥ شِهَاباٗ رَّصَداٗۖ (9)﴾
شرح مفردات الآية: رَّصَداٗۖ: مُعَدّا لِيُرْمَى بِهِ مَنْ حَاوَلَ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ.
تفسير الآية: قال الجن: إِنَّا كُنَّا قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم نَقْعُدُ مِنَ السَّمَاءِ مَقَاعِدَ لِنَسْتَمِعَ وَنَتَرَصَّدَ أَخْبَارَهَا، فَلَمْ يَعُدْ أَحَدٌ يَسْتَطِيعُ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ الْآنَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يُرِيدُ ذَلِكَ يَجِدُ شِهَابًا أُرْصِدَ لَهُ لِيُرْمَى بِهِ لِمَنْعِهِ مِنَ السَّمَاعِ.
سؤال: مما منع الجن حين البعثة النبوية؟ كيف منع الله الجن من استراق السمع؟
قال تعالى: ﴿وَإِنَّا لَا نَدْرِےٓ أَشَرٌّ ا۟رِيدَ بِمَن فِے اِ۬لَارْضِ أَمَ اَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداٗۖ (10)﴾
شرح مفردات الآية: رَشَداٗۖ: خَيْرًا.
تفسير الآية: قال الجن: وَإِنَّا الآنَ لَا نَدْرِي بَعْدَ أَنْ كُنَّا نَسْتَرِقُ السَّمْعَ مِنَ السَّمَاءِ فَمُنِعْنَا مِنْ ذَلِكَ، هَلْ هُوَ شَرٌّ أُرِيدَ بِأَهْلِ الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ اللهُ بِهِمْ خَيْرًا.
مضمون الآيات: (11-12) إِخْبَارُ الْـجِنِّ عَنِ انْقِسَامِهِمْ إِلَى صَالِـحِينَ وَغَيْرِ صَالِـحِينَ
بَعْدَ اعْتِرَافِ الْجِنِّ بِمَا حَلَّ بِهِمْ بِبِعْثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَخْبَرُوا عَنْ حَالِهِمْ بَعْدَ هَذِهِ الْبِعْثَةِ وَاسْتِمَاعِهِم الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ، وَأَنَّهُمُ انْقَسَمُوا إِلَى فَرِيقَيْنِ: صَالِحِينَ وَغَيْرِ صَالِحِيـنَ.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّا مِنَّا اَ۬لصَّٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَۖ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداٗۖ (11)﴾
تفسير الآية: بَعْدَ اسْتِمَاعِنَا لِلْقُرْآنِ وَتَبْلِيغِهِ إِلَى قَوْمِنَا، فَقَدْ صِرْنَا فِرَقًا مُخْتَلِفِينَ صَالِحِينَ وَغَيْرِ صَالِحِينَ.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اَ۬للَّهَ فِے اِ۬لَارْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُۥ هَرَباٗۖ (12)﴾
الإعراب: ﴿أَن﴾ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، أَيْ: «أَنَّهُ»، وَالمُرَادُ بالظَّنِّ هُنَا: الْيَقِينُ.
تفسير الآية: أَيْقَنَّا أَنَّهُ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ أَيْ: لَنْ نَفُوتَهُ إِنْ أَرَادَ بِنَا أَمْرًا، كَائِنِينَ فِي الْأَرْضِ أَوْ هَارِبِينَ مِنْهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُدْرِكَنَا فِي أَيِّ مَكَانٍ كُنَّا.
ما يستفاد من الآية: كَمَالُ قُدْرَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء.
وَمِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَأْتِي:
أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَفِظَ كِتَابَهُ الكَرِيمَ مِنْ كُلِّ تَحْرِيفٍ، وَجَعَلَهُ سَبِيلَ الصَّلَاحِ.
أَنَّ الْبِعْثَةَ المُحَمَّدِيَّةَ جَاءَتْ لِتَصْحِيحِ الْمُعْتَقَدَاتِ وَإِبْطَالِ أَقْوَالِ الْكَهَنَةِ.
أَتَخَـلَّــقُ وَأَتَـزَكَّــى:
الصّلَاحُ ثَمَرَةُ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وسَبِيلُ نَيْـلِ رِضَا الله تَعَالَى وَمُرَافَقَةِ الأنبيَاءِ والصِّدِّيقِيـنَ والصَّالحِينَ فِي الجَنَّةِ. فينبغي أن يسعى المسلم لأن يكون صالحا مصلحا في نفسه وأسرته وأمته وبيئته ووطنه.
الاستثمار:
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ فَقَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قَالُوا: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلَّا شَيْءٌ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِنَخْلَةَ، عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلاَةَ الفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآن اسْتَمَعُوا لَهُ، فَقَالُوا: هَذَا وَاللهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَهُنَالِكَ حِينَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، وَقَالُوا: يَا قَوْمَنَا ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانا عَجَباٗ (1) يَهْدِےٓ إِلَي اَ۬لرُّشْدِ فَـَٔامَنَّا بِهِۦ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداٗۖ﴾ فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّـهِ صلى الله عليه وسلم: ﴿قُلُ ا۟وحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اُ۪سْتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ اَ۬لْجِنِّ﴾ وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الجِنِّ» [صحيح البخاري].
أَسْتَخْلِصُ الْغَايَةَ مِنْ مَنْعِ الْجِنِّ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ مِنَ السَّمَاءِ.
أَسْتَنْتِجُ مَقْصِدا مِنْ مَقَاصِدِ القُرآنِ الْكَرِيمِ.
مِمَّ مُنِعَ الْجِنُّ حِينَ بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟
أُبَيِّنُ حَالَ الْجِنِّ بَعْدَ سَمَاعِهِمْ لِلْقُرْآنِ وَتَبْلِيغِهِ لِقَوْمِهِمْ.
فكَيْفَ مَنَعَ اللهُ الْجِنَّ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ؟ وَمَا الْقِيَمُ الْعَقَدِيَّةُ الَّتِي يُمْكِنُ اِسْتِخْلَاصُهَا مِنْ ذَلِكَ؟
هدف سلوكي: تقوية الثقة بالله والاطمئنان إلى عدله وفضله.
الآيات:
قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَمَّا سَمِعْنَا اَ۬لْهُد۪يٰٓ ءَامَنَّا بِهِۦۖ فَمَنْ يُّومِنۢ بِرَبِّهِۦ فَلَا يَخَافُ بَخْساٗ وَلَا رَهَقاٗۖ (13) وَإِنَّا مِنَّا اَ۬لْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا اَ۬لْقَٰسِطُونَۖ فَمَنَ اَسْلَمَ فَأُوْلَٰٓئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداٗۖ (14) وَأَمَّا اَ۬لْقَٰسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباٗۖ (15) وَأَن لَّوِ اِ۪سْتَقَٰمُواْ عَلَي اَ۬لطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّآءً غَدَقاٗ (16) لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِۖ وَمَنْ يُّعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِۦ نَسْلُكْهُ عَذَاباٗ صَعَداٗۖ (17)﴾
المعنى الإجمالي للآيات:
بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَحْوَالًا أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ الجن بَعْدَ سَمَاعِهِمْ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. وذكر الْحَقُّ سُبْحَانَهُ جَزَاءَ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
مضمون الآيات: (13-15) تَرْغِيبُ الْـجِنِّ لِقَوْمِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَتَحْذِيرُهُمْ مِنَ الْكُفْرِ
مَا زَالَتِ الْآيَاتُ تَحْكِي أَقْوَالَ الْجِنِّ وَتُبَيِّنُ حَالَهُمْ بَعْدَ سَمَاعِهِمْ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:
قال تعالى: ﴿وَإِنَّا لَمَّا سَمِعْنَا اَ۬لْهُد۪يٰٓ ءَامَنَّا بِهِۦۖ فَمَنْ يُّومِنۢ بِرَبِّهِۦ فَلَا يَخَافُ بَخْساٗ وَلَا رَهَقاٗۖ (13)﴾
شرح مفردات الآية: اَ۬لْهُد۪يٰٓ: الْقُرْآنُ.
الإعراب: قَوْلُهَ: ﴿فَلَا يَخَافُ﴾ خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ «هُوَ».
تفسير الآية: أَيْ: وَإِنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْقُرْآنَ آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَهُوَ لَا يَخَافُ نَقْصًا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وِلاَ ظُلْمًا بِالزِّيَادَةِ فِي سَيِّئَاتِهِ.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّا مِنَّا اَ۬لْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا اَ۬لْقَٰسِطُونَۖ فَمَنَ اَسْلَمَ فَأُوْلَٰٓئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداٗۖ (14)﴾
شرح مفردات الآية:
اَ۬لْقَٰسِطُونَۖ: الْجَائِرُونَ.
تَحَرَّوْاْ رَشَداٗۖ: قَصَدُوا هِدَايَةً.
تفسير الآية: لَكِنَّ الْجِنَّ لَمْ يَسْتِجِيبُوا جَمِيعًا لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ، كَمَا أَخْبَرُوا بِذَلِكَ منا الْجَائِرُونَ بِكُفْرِهِمْ. وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ تَأْكِيدٌ وَتَفْصِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِه ِتَعَالَـى: ﴿وَإِنَّا مِنَّا اَ۬لصَّٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَۖ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداٗۖ﴾ وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ جَزَاءَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، وَجَزَاءَ مَنْ جــَارَ، فمن أسلموا قَصَدُوا هِدَايَةً.
ما يستفاد من الآية:
أَنَّ الْجِنَّ كَالْإِنْسِ مِنْهُمْ مِنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ.
أَنَّ مِنَ الرُّشْدِ تَحَرِّي الْحَقِّ وَالصَّوَابِ والصِّدْقِ ولُزُومِ طَرِيقِ الاِسْتِقَامَةِ.
قال تعالى: ﴿وَأَمَّا اَ۬لْقَٰسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباٗۖ (15)﴾
تفسير الآية: أَيْ: وَأَمَّا الْجَائِرُونَ فَسَيَكُونُونَ وَقُودًا لِجَهَنَّمَ.
سؤال: وَمَا هِيَ عَاقِبَةُ إِصْرَارِ كُفَّارِ مَكَّةَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِالْإِسْلَامِ؟
سؤال: بين مَا وَعَدَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ كُفَّارَ مَكَّةَ.
مضمون الآيتان: (16-17): تَرْغِيبُ اللهِ تَعَالَى لِمُشْرِكِي مَكَّةُ فِي الْإِسْلَامِ
بَعْدَ كُلِّ مَا حَكَاهُ الْجِنُّ عَنْ سَمَاعِهِمْ لِلقُرْآنِ، وَإِيمَانِهِمْ بِهِ وَكُفْرِ بَعْضِهِمْ؛ أَخْبَرَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ عَنْ حَالِ كُفَّارِ مَكَّةَ الَّذِينَ فَضَّلُوا الْكُفْرَ عَلَـى الْإِيمَـانِ.
قال تعالى: ﴿وَأَن لَّوِ اِ۪سْتَقَٰمُواْ عَلَي اَ۬لطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّآءً غَدَقاٗ (16)﴾
الإعراب: ﴿أَن﴾ مُخَفَّفَة مِنَ الثَّقِيلَة وَاسْمهَا مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَأَنَّهُمْ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى ﴿اُ۪سْتَمَعَ﴾ فَهُوَ مِنَ جُمْلَةِ الْمُوحَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَلاَمُ اللهِ.
تفسير الآية: أَيْ: وأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُمْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِسْلَام لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً كَثِيرًا مِنَ السَّمَاءِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا رُفِعَ الْمَطَر عَنْهُمْ سَبْعَ سِنِينَ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأعراف: 95].
ما يستفاد من الآية: أَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِ الاِطْمِئْنَانُ وَالثِّقَةُ فِي اللهِ، وَفِي عَدْلِهِ المُطْلَقِ.
ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى الْحِكْمَةَ مِنْ هَذَا الْعَطَاءِ:
فقال تعالى: ﴿لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِۖ وَمَنْ يُّعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِۦ نَسْلُكْهُ عَذَاباٗ صَعَداٗۖ (17)﴾
شرح مفردات الآية: لِّنَفْتِنَهُمْ: لِنَخْتَبِرَهُمْ.
القراءات: قُـرِئَـتْ نَسْلُكْهُ بِالنُّونِ وَالْيَاء.
تفسير الآية: أَيْ: لِنَخْتَبِرهُمْ فِيهِۖ أي الْمَاءِ، فَنَعْلَمَ كَيْفَ سَيَكُونُ شُكْرُهُمْ عَلَى تِلْكَ النِّعَمِ عِلْمَ ظُهُـورٍ، وَمَنْ يُعْرِضْ عَنِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنْ أَحْكَامٍ نُدْخِلْهُ عَذَابًا شَاقًّا.
أتخلق وأتزكى:
الاستقامة تكون بالقلب والجوارح ومن ثمارها: معرفة الله تعالى حق المعرفة، وتذوق حلاوة الإيمان، والاسهام في بناء مجتمع المحبة والتضامن، والعيش حياة طيبة في الدنيا، والسعادة بنعيم الجنة ولذة النظر إلى وجه الله تعالى.
التقويم:
أُبَيِّنُ بَعْضَ آثَارِ سَمَاعِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَلَى الْجِنِّ؟
أُمَيِّزُ بَيْنَ جَزَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَجَزَاءِ الْقَاسِطِينِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى.
أَسْتَنْتِجُ عَاقِبَةَ امْتِنَاعِ كُفَّارِ مَكَّةَ مِنَ الِاسْتِجَابَةِ لِلْإِسْلاَمِ.
الاستثمار:
في قال تعالى: ﴿وَأَن لَّوِ اِ۪سْتَقَٰمُواْ عَلَي اَ۬لطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّآءً غَدَقاٗ (16)﴾؛ آثر قيمة الاستقامة في الدنيا وهو ألا يخاف المستقيم ولا يحزن ويسقيه الله ماء كثيرا، وجزاء المستقيم في الآخرة هو دخول الجنة.
هداف سلوكي: الْإِخْلاَصِ فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى.
الآيات:
قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّ اَ۬لْمَسَٰجِدَ لِلهِ فَلَا تَدْعُواْ مَعَ اَ۬للَّهِ أَحَداٗۖ (18) وَإِنَّهُۥ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اُ۬للَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداٗۖ (19) قَالَ إِنَّمَآ أَدْعُواْ رَبِّے وَلَآ أُشْرِكُ بِهِۦٓ أَحَداٗۖ (20) قُلِ اِنِّے لَآ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاٗ وَلَا رَشَداٗۖ (21) قُلِ اِنِّے لَنْ يُّجِيرَنِے مِنَ اَ۬للَّهِ أَحَدٞ وَلَنَ اَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلْتَحَدا (22) اِلَّا بَلَٰغاٗ مِّنَ اَ۬للَّهِ وَرِسَٰلَٰتِهِۦۖ ۞ وَمَنْ يَّعْصِ اِ۬للَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَإِنَّ لَهُۥ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَداۖ (23)﴾
المعنى الإجمالي للآيات:
ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَا أَوْحَى بِهِ لِنَبِيِّهِ فِي شَأْنِ الْمَسَاجِدِ، وَحُدُودِ مُهِمَّةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي كُلِّفَ بِهَا.
مضمون الآيات: (18-20) تَوْحِيدُ اللهِ سُبْحَانَهُ وَإِخْلاَصُ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ
مَا زَالَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ تُعَدِّدُ مَا أَوْحَى اللهُ بِهِ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَهُ أَنْ يُبَلِّغَهُ لِلنَّاسِ. قال تعالى: ﴿وَأَنَّ اَ۬لْمَسَٰجِدَ لِلهِ فَلَا تَدْعُواْ مَعَ اَ۬للَّهِ أَحَداٗۖ (18)﴾
الإعراب: ﴿وَأَنَّ اَ۬لْمَسَٰجِدَ لِلهِ﴾ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى ﴿أَنَّهُ اُ۪سْتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ اَ۬لْجِنِّ﴾
تفسير الآية: أَيْ: وَقُلْ: أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّ الْمَسَاجِدَ مَوَاضِعُ الصَّلَاةِ لِلهِ فَلَا تَدْعُوا فِيهَا مَعَ اللهِ أَحَدًا بِأَنْ تُشْرِكُوا بِهِ غَيْرَهُ كَمَا فَعَلَ غَيْرُكُمْ.
ما يستفاد من الآية: إِضَافَةُ الْمَسَاجِدِ لِلهِ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهَا وَضَرُورَةِ تَخْصِيصِهَا لِعِبَادَةِ اللهِ.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُۥ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اُ۬للَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداٗۖ (19)﴾
شرح مفردات الآية:
يَدْعُوهُ: يَعْبُدُهُ.
لِبَداٗۖ: جَمْع لِبْدَةٍ، وهو مَا تَلَبَّدَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ مِنْ شِدَّةِ الِازْدِحَامِ. واللِّبَدُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَضَمِّهَا جَمْعُ لُبْدَةٍ بِالضَّمِّ وَالكَسْرِ، وَهِيَ مَا تَلَبَّدَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ لُبْدَةُ الْأَسَدِ، وَهِيَ الشَّعْرُ المُتَرَاكِمُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ.
الإعراب: الضَّمِيرُ فِي ﴿وَإِنَّهُ﴾ لِلشَّأْنِ.
القراءات: وَهَمْزَةُ «إن» بِالْكَسْر عَلَى الِاسْتِئْنَاف، وَهِيَ رِوَايَةُ وَرْشٍ، وَبِالفَتْحِ عَلَى أَنَّ الجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ ﴿أَنَّهُ اُ۪سْتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ اَ۬لْجِنِّ﴾.
تفسير الآية: بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَالَ الصَّالِحِينَ مِنَ الْجِنِّ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ إِلَى قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلقُرْآنِ الكَرِيمِ فِي صَلَاتِهِ، فَقَالَ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ، وهو مُحَمَّد النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَعْبُدهُ بِبَطْنِ نَخْلٍ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ كَادَ الْجِنُّ الْمُسْتَمِعُونَ لِقِرَاءَتِهِ يَكُونُونَ كَاللِّبَدِ فِي رُكُوبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا ازْدِحَامًا، حِرْصًا عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ.
ما يستفاد من الآية: أَهَمِّيَةُ الْإِقْبَالِ عَلَى ذِكْرِ اللهِ وَالاِسْتِمَاعِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الكَرِيمِ.
سؤال: ما معنى قوله تعالى: ﴿كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداٗۖ﴾؟
قال تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَآ أَدْعُواْ رَبِّے وَلَآ أُشْرِكُ بِهِۦٓ أَحَداٗۖ (20)﴾
القراءات: ﴿قَالَ إِنَّمَآ أَدْعُواْ رَبِّے﴾ وَقُرِئَتْ: (قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي) بِصِيغَةِ الْأَمْرِ.
تفسير الآية: بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم لِلنَّاسِ أَنَّهُ لَا يَعْبُدُ إِلَّا اللهَ وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرِكُ بِهِ غَيْرَهُ، أَيْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُجِيبًا لِلْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ: "ارْجِعْ عَمَّا أَنْتَ فِيهِ": إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَحْدَهُ وَلَا أُشْرِكُ بِهِ غَيْرَهُ.
فَقَوْلُهُ: ﴿وَلَآ أُشْرِكُ بِهِۦٓ﴾ تَأْكِيدٌ لِمَا هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ صِيغَةِ الْحَصْرِ.
سؤال: بِمَ وَاجَهَ النَّبِيّ ُصلى الله عليه وسلم مُشْرِكِي مَكَّةَ الَّذِينَ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ دَعْوَتِهِ؟ أُبَيِّنُ رَدَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ الْمُنْكِرِينَ لِدَعْوَتِهِ.
مضمون الآيات: (21-23) النَّفْعُ وَالضَّرُّ بِيَدِ اللهِ
قال تعالى: ﴿قُلِ اِنِّے لَآ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاٗ وَلَا رَشَداٗۖ (21)﴾
شرح المفردات: رَشَداٗۖ: خَيْرًا.
تفسير الآية: بَعْدَ ذِكْرِهِ تَعَالَى بَعْضَ مَا أَوْحَى بِهِ إِلَى رَسُولِهِ، انْتَقَلَ إِلَى تَوْجِيهِ خِطَابٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِتَلْقِينِهِ مَا يَرُدُّ بِهِ عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ الَّذِينَ عَانَدُوهُ وَرَفَضُوا دَعْوَتَهُ، أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ الَّذِينَ عَانَدُوكَ وَرَفَضُوا دَعْوَتَكَ: إِنَّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا أَضُرُّكُمْ بِهِ، وَلَا خَيْرًا أَنْفَعُكُمْ بِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَمْلِكُ ذَلِكَ كُلَّهُ هُوَ اللهُ الَّذِي لَهُ مُلْكُ كُلِّ شَيْءٍ.
ما يستفاد من الآية: أَنَّ النَّفْعَ وَالضُّرَّ بِيَدِ اللهِ، وَلَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ مَهْمَا بَلَغَتْ دَرَجَتُهُ.
سؤال: كَيْفَ أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحُجَّةَ عَلَى النَّاسِ في الْآيَاتِ؟
قال تعالى: ﴿قُلِ اِنِّے لَنْ يُّجِيرَنِے مِنَ اَ۬للَّهِ أَحَدٞ وَلَنَ اَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلْتَحَدا (22)﴾
شرح المفردات: مُلْتَحَدا: مُلْتَجَا.
تفسير الآية: أَيْ: قُلْ لَهُمْ: إِنَّنِي لَنْ يَمْنَعَنِي مِنْ عَذَابِ اللهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ إِنْ عَصَيْتُهُ، وَلَنْ أَجِدَ عِنْدَ غَيْرِهِ مُلْتَجَا أَلْتَجِئُ إِلَيْهِ.
قال تعالى: ﴿اِلَّا بَلَٰغاٗ مِّنَ اَ۬للَّهِ وَرِسَٰلَٰتِهِۦۖ ۞ وَمَنْ يَّعْصِ اِ۬للَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَإِنَّ لَهُۥ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَداۖ (23)﴾
الإعراب: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿اِلَّا بَلَٰغاٗ﴾ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَفْعُولِ أَمْلِكُ، ﴿مِّنَ اَ۬للَّهِ﴾ أَيْ: عَنْهُ ﴿وَرِسَٰلَٰتِهِۦۖ﴾ مَعْطُوفٌ عَلَى ﴿بَلَٰغاٗ﴾ وَمَا بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالِاسْتِثْنَاءِ اعْتِرَاضٌ لِتَأْكِيدِ نَفْـي الِاسْتِطَاعَـةِ. و﴿فَإِنَّ لَهُۥ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ﴾ حَـالٌ مِنَ الضَّمِيرِ العَائِـدِ عَلَى ﴿مَنْ﴾ في ﴿لَهُ﴾ رِعَايَةً لِمَعْنَاهَا، وَهِيَ حَال مُقَدَّرَةٌ.
تفسير الآية: أَيْ: لَا أَمْلِكُ إلَّا الْبَلَاغَ إلَيْكُمْ عن الله وَمَنْ يَّعْصِ اِ۬للَّهَ وَرَسُولَه فِي التَّوْحِيدِ فَلَمْ يُؤْمِنْ فجهنم يَدْخُلُونَهَا مِقْدَارَ خُلُودِهِـمْ مَاكِثِينَ ومُسْتَمِرِّينَ فِيهَا بِلَا زَوَالٍ وَلَا انْتِقَالٍ.
ما يستفاد من الآية: وُجُوبُ لُزُومِ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالاِبْتِعَادِ عَنْ مَعْصِيَتِهِمَا.
أتخلق وأتزكى
الشرك ظلم عظيم؛ فلا ينبغي أن يشرك بالله أحدا، ولا أن يدعا مع الله أحدا، ويجب إخلاص العبادة لله وحده، وأن يوقن الإنسان أن النفع والضر بيد الله، فلا ملجأ للإنسان ولا منجى من الله إلا إليه.
فَمَا هِيَ الْقِيَمُ الْعَقَدِيَّةُ وَالتَّعَبُّدِيَّةُ فِي الْآيَاتِ؟ وَمَا آثَارُهَا فِي تَصْحِيحِ عَقِيدَتِنَا وَتَقْوِيمِ سُلُوكِنَا؟
هداف سلوكي: تقوية الإيمان بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ.
الآيات:
قال الله تعالى: ﴿حَتَّيٰٓ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنَ اَضْعَفُ نَاصِراٗ وَأَقَلُّ عَدَداٗۖ (24) قُلِ اِنَ اَدْرِےٓ أَقَرِيبٞ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُۥ رَبِّيَ أَمَداۖ (25) عَٰلِمُ اُ۬لْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَيٰ غَيْبِهِۦٓ أَحَدا (26) اِلَّا مَنِ اِ۪رْتَض۪يٰ مِن رَّسُولٖ فَإِنَّهُۥ يَسْلُكُ مِنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِۦ رَصَداٗ (27) لِّيَعْلَمَ أَن قَدَ اَبْلَغُواْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْص۪يٰ كُلَّ شَےْءٍ عَدَداٗۖ (28)﴾
المعنى الإجمالي للآيات:
أَخْبَرَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ كُلَّمَا سَمِعُوا وَعْدَ اللهِ بِالنَّصْرِ لِلْمُومِنِينَ، أَوْ وَعِيدَهُ بِالهَزِيمَةِ أَوِ العَذَابِ لِلْمُشْرِكِينَ، سَخِرُوا مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَبْعَدُوهُ، فَبَيَّنَ اللهُ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ وَعْدَهُ سَيَتَحَقَّقُ لَا مَحَالَةَ، وَسَيَتَأَكَّدُ الْمُشْرِكُونَ مِمَّا وُعِدُوا بِهِ؛ لِأَنَّ مَا يُخْبِرُهُمْ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم يُطْلِعُهُ عَلَيْهِ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.
مضمون الآيتان: (24-25): تَّأْكِيدُ تَحَقُّقِ وَعْدِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَوَعِيدِهِ
كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَسْتَهْزِئُونَ مِنْ وَعْدِ اللهِ لِنَبِيِّهِ وَلِلمُسْلِمِينَ بِالنَّصْرِ، وَمِنْ وَعِيدِهِ لِلْمُشْرِكِينَ بِالْهَزِيمَةِ وَالخِذْلَانِ، وَيَسْتَضْعِفُونَ الْمُسْلِمِينَ وَيَسْتَقِلُّونَ عَدَدَهُمْ
قال تعالى: ﴿حَتَّيٰٓ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنَ اَضْعَفُ نَاصِراٗ وَأَقَلُّ عَدَداٗۖ (24)﴾
الإعراب: ﴿حَتَّيٰٓ إِذَا رَأَوْا﴾ ابْتِدَائِيَّةٌ فِيهَا مَعْنَى الْغَايَةِ لِمُقَدَّرٍ قَبْلهَا.
تفسير الآية:
على القول الأول: لَا يَزَالُونَ عَلَى كُفْرهمْ إلَى أَنْ يَرَوْا مَا يُوعَدُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، فَسَيَعْلَمُونَ عِنْد حُلُولِهِ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلّ أَعْوَانًا، أَهُمْ أَمِ الْمُؤْمِنُونَ؟
وعلى القول الثاني: لَا يَزَالُونَ عَلَى كُفْرهمْ إلَى أَنْ يَرَوْا مَا يُوعَدُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، فَسَيَعْلَمُونَ عِنْد حُلُولِهِ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلّ أَعْوَانًا، أَوْ أَنَا أَمْ هُمْ؟
ونَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا٧٥ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا٧٦﴾ [مريم: 75-76].
ما يستفاد من الآية: أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم سَيَنْدَمُ عَلَى إِنْكَارِهِ وَيُحَاسَبُ عَلَيْهِ.
سؤال: مَتَى يَتَيَقَّنُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَنَّ مَا يُخْبِرُهُمْ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ وَصِدْقٌ؟
سؤال: بِمَ وَعَدَ اللهُ نَبِيَّهُ فِي شَأْنِ الْمُنْكِرِينَ لِنُبُوَّتِهِ؟
قال تعالى: ﴿قُلِ اِنَ اَدْرِےٓ أَقَرِيبٞ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُۥ رَبِّيَ أَمَداۖ (25)﴾
شرح مفردات الآية: أَمَداۖ: غَايَةً وَأَجَلًا.
سبب النزول: وَفِي تَحَدٍّ مِنْ الكفار وَاسْتِهْزَاءٍ بِوَعْدِ اللهِ وَإِنْكَارٍ لِوُقُوعِهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: مَتَى هَذَا الوَعْدُ؟ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلِ اِنَ اَدْرِےٓ أَقَرِيبٞ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُۥ رَبِّيَ أَمَداۖ (25)﴾
تفسير الآية: أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ: مَا أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ بِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَمْ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَجْعَلُ لَهُ غَايَةً وَأَجَلًا لَا يَعْلَمهُ إلَّا هُوَ؟ لَكِنَّ وُقُوعَهُ مُتَيَقَّنٌ لاَ رَيْبَ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللهَ قَدْ وَعَدَ بِهِ، وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. إِلاَّ أَنَّ وَقْتَ وُقُوعِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالتَّحْدِيدِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ، إِلَّا مَا أَطْلَعَهُ اللهُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ.
مضمون الآيات: (26-28) لَا يَعْلَمُ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ
بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُخْبِرَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ وُقُوعَ مَا يَعِدُهُمْ بِهِ فِي عِلْمِ اللهِ وَحْدَهُ؛ عَلَّلَ ذَلِكَ:
بِقَولِهِ تعالى: ﴿عَٰلِمُ اُ۬لْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَيٰ غَيْبِهِۦٓ أَحَدا (26)﴾
تفسير الآية: أي: أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ وَحْدَهُ يَعْلَمُ مَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ، فَلَا يُطْلِعُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ.
ما يستفاد من الآية والتي تليها:
أَنَّ اللهَ تَعَالَى اسْتَأْثَرَ وَحْدَهُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، وَأَطْلَعَ رُسُلَهُ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُ.
أَنَّ مَا يُخْبِرُ بِهِ الْكَهَنَةُ وَالسَّحَرَةُ وَالْمُنَجِّمُونَ؛ لَيْسَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ.
بِقَولِهِ تعالى: ﴿اِلَّا مَنِ اِ۪رْتَض۪يٰ مِن رَّسُولٖ فَإِنَّهُۥ يَسْلُكُ مِنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِۦ رَصَداٗ (27)﴾
شرح مفردات الآيات:
يَسْلُكُ: يَجْعَلُ وَيُسَيِّرُ.
رَصَداٗ: مَلَائِكَةً حَفَظَةً.
تفسير الآية: أَيْ: باستثناء مَنِ اخْتَارَهُ اللهُ وَارْتَضَاهُ مِنَ الرُّسُلِ، فَإِنَّهُ يُطْلِعُهُ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لَهُ، ويَجْعَلُ لَهُ وَيَخُصُّهُ بَمَزِيدٍ مِنَ الْمَلَائِكَة يَحْفَظُونَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ فِي جُمْلَةِ الْوَحْيِ.
ثُمَّ بَيَّنَ الحَقُّ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْحِكْمَةَ مِنْ إِرْسَالِ مَلَائِكَةٍ مَعَ الرُّسُلِ، هِيَ أَنْ يَحْفَظُوا الْوَحْيَ مِنَ الْكَهَنَةِ وَالشَّيَاطِينِ، حَتَّى لَا يَزِيدُوا أَوْ يَنْقُصُوا فِيهِ.
سؤال: كَيْفَ يَحْفَظُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا يُوحِي بِهِ لِلرُّسُلِ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ؟
قوله تعالى: ﴿لِّيَعْلَمَ أَن قَدَ اَبْلَغُواْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْص۪يٰ كُلَّ شَےْءٍ عَدَداٗۖ (28)﴾
الإعراب: وَ«إن» مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، أَيْ: «أَنَّهُ»، وَقَدْ جَمَعَ الضَّمِيرَ فِـي ﴿اَبْلَغُواْ﴾ وَفِي ﴿رَبِّهِمْ﴾ مُرَاعَاةً لِمَعْنَى ﴿منْ﴾ وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَحْص۪يٰ كُلَّ شَےْءٍ عَدَداٗۖ﴾ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّر، تمْيِيزٌ، وَهُوَ مُحَوَّل مِنَ الْمَفْعُولِ، وَالْأَصْلُ أَحْصَى عَدَدَ كُلِّ شَيْءٍ.
تفسير الآية: لِيَعْلَمَ اللهُ عِلْمَ ظُهُورٍ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ، أَيْ: فَعَلِمَ ذَلِكَ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وأَحْصَى عَدَدَ كُلِّ شَيْءٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «أَيْ: أَحَاطَ بِعَدَدِ كُلِّ شَيْءٍ وَعَرَفَهُ وَعَلِمَهُ فَلَمْ يُخْفَ عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ» [تفسير القرطبي].
ما يستفاد من الآية: أَنَّ اللهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَحْوَالِنَا، وَرَقِيبٌ عَلَى سِرِّنَا وَعَلَانِيَتِنَا، وَهُوَ مَا يَقْتَضِي اسْتِحْضَارَ مُرَاقَبَتِهِ سُبْحَانَهُ في كُلِّ شُؤُونِنَا.
أَتَخَـلَّــقُ وَأَتَـزَكَّــى:
أَتَفَكَّرُ فِي أسْمَاءِ اللهِ الحُسْنَى حبا لله وتعظيما له ومنها: عالم الغيب والشهادة، والنصير، والمحصي، والرقيب، والقريب، والمحيط، والحفيظ.
س: استنتج مِنَ الْآيَاتِ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى.
هدف سلوكي: الحرص عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ وقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
التعريف بالسورة:
سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ مَكِّيَّةٌ، وَآيَاتُهَا ثَمَانَ عَشْرَةَ، وَقَدِ افْتُتِحَتْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقِيَامِ اللَّيْلِ وَتَرْتِيلِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَإِشْعَارِهِ بِجَلَالِ مَا سَيَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَعَظَمَتِهِ، كُلُّ ذَلِكَ غَايَتُهُ إِعْدَادُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمُهِمَّتِهِ الْعَظِيمَةِ، وَهِيَ النُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ إِلَى الْبَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ.
الآيات:
قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لْمُزَّمِّلُ قُمِ اِ۬ليْلَ إِلَّا قَلِيلاٗ (1) نِّصْفَهُۥٓ أَوُ اُ۟نقُصْ مِنْهُ قَلِيلا (2) اَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ اِ۬لْقُرْءَانَ تَرْتِيلاۖ (3) اِنَّا سَنُلْقِے عَلَيْكَ قَوْلاٗ ثَقِيلاۖ (4) اِنَّ نَاشِئَةَ اَ۬ليْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْـٔاٗ وَأَقْوَمُ قِيلاۖ (5) اِنَّ لَكَ فِے اِ۬لنَّه۪ارِ سَبْحاٗ طَوِيلاٗۖ (6) وَاذْكُرِ اِ۪سْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلِ اِلَيْهِ تَبْتِيلاٗۖ (7) رَّبُّ اُ۬لْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا (8) ﴾
مضمون الآيات: (1-3): أَمْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقِيَامِ اللَّيْلِ
افْتُتِحَتْ سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ بِنِدَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ وَرَسُولِهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، لِيُذَكِّرَهُ بِاللَّحْظَةِ الَّتِي فَاجَأَهُ فِيهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِنْزَالِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ، حَيْثُ جَاءَ يَرْجُفُ إِلَى خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، لِيُخْبِرَهَا بِمَا حَصَلَ لَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي».
قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لْمُزَّمِّلُ قُمِ اِ۬ليْلَ إِلَّا قَلِيلاٗ (1) ﴾
شرح مفردات الآية: اَ۬لْمُزَّمِّلُ: الْمُتَزَمِّلُ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الزَّايِ بَعْدَ قَلْبِهَا زايًا، أي: الْمُتَلَفِّفُ فِي ثِيَابِهِ مِنَ الْخَوْفِ، وَالْمُرَادُ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم.
تفسير الآية: النِّدَاءُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَيْ: يَا أَيُّهَا الْمُتَلَفِّفُ بِثِيَابِهِ إِثْرَ مَجِيءِ الْوَحْيِ لَهُ، خَوْفًا مِنْهُ لِهَيْبَتِهِ، قُمِ اللَّيْلَ لِلصَّلَاةِ وَالعِبَادَةِ، إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُ، اِسْتِثْنَاءٌ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَا يَتَعَلَّقُ إِيجَابُ الْقِيَامِ عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ كُلِّهُ.
س: مَا قَدْرُ قِيَامِ اللَّيْلِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟
قال تعالى: ﴿نِّصْفَهُۥٓ أَوُ اُ۟نقُصْ مِنْهُ قَلِيلا (2) ﴾
تفسير الآية: أَيْ: قُمْ نِصْفَ الليل أَوْ أنْقُصْ مِنَ النِّصْفِ قَلِيلًا إِلَى الثُّلُثِ. ونصفه بَدَلٌ مِنْ قَلِيلًا بَدَلُ مُطَابَقَةٍ، وَقِلَّتُهِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْكُلّ.
قال تعالى: ﴿اَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ اِ۬لْقُرْءَانَ تَرْتِيلاۖ (3) ﴾
تفسير الآية: أَيْ: أَوْ (لِلتَّخْيِيرِ) زِدْ عَلَى النِّصْفِ إلَى الثُّلُثَيْنِ، وَتَثَبَّتْ فِي تِلَاوَتِهِ فِي أَثْنَاءِ قِيَامِكَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقُومَ نِصْفَ اللَّيْلِ أَوْ أَنْ يَنْقُصَ عَنِ النِّصْفِ إِلَى الثُّلُثِ، أَوْ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ إِلَى الثُّلْثَيْنِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: «أَيْ: اقْرَأْهُ عَلَى تَمَهُّلٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَوْنًا عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ. وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَأُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ». [تفسير ابن كثير].
س: مَا هِيَ آدَابُ قِرَاءَةِ الْقُرْآن وَمُوَاصَفَاتُهَا المُشَارُ إِلَيْهَا فِي الْآيَاتِ؟
مضمون الآيات: (4-8): إِشْعَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَظَمَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَجَلَالِهِ
بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَتِلاَوَةِ الْقُرْآنِ بِتَدَبُّرٍ وَتَفَهُّمٍ؛ بَيَّنَ السَّبَبَ فِي هَذِهِ الأَوَامِرِ وَالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ.
قال تعالى: ﴿اِنَّا سَنُلْقِے عَلَيْكَ قَوْلاٗ ثَقِيلاۖ (4) ﴾
تفسير الآية: أَيْ: إنا سَنُنْزِلُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ قُرْآنًا مَهِيبًا، أَوْ شَدِيدًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَالِيفِ.
قال تعالى: ﴿اِنَّ نَاشِئَةَ اَ۬ليْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْـٔاٗ وَأَقْوَمُ قِيلاۖ (5) ﴾
شرح مفردات الآية: نَاشِئَةَ اَ۬ليْلِ: الْقِيَامَ بَعْدَ النَّوْمِ.
تفسير الآية: أَيْ: الْقِيَام بَعْدَ النَّوْمِ أشد لمُوَافَقَةُ السَّمْعِ لِلْقَلْبِ عَلَى تَفَهُّم الْقُرْآنِ وأَبْيَنُ قَوْلًا.
ما يستفاد من الآية: اللَّيْلُ هُوَ أَحْسَنُ الْأَوْقَاتِ لِلصَّلَاةِ وَتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، لِحُضُورِ القَلْبِ وَصَفَاءِ النَّفْسِ فِيهِ.
س: لِمَاذَا كَانَ اللَّيْلُ الوَقْتَ الأَفْضَلَ لِلصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآن؟
قال تعالى: ﴿اِنَّ لَكَ فِے اِ۬لنَّه۪ارِ سَبْحاٗ طَوِيلاٗۖ (6) ﴾
شرح مفردات الآية: سَبْحاٗ: تَصَرُّفًا فِي أَشْغَالِكَ.
تفسير الآية: أَيْ: إنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ تَصَرُّفًا فِي أَشْغَالِكَ لَا تَفْرُغْ فِيهِ لِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ.
ما يستفاد من الآية: الاِشْتِغَالُ بِاِلْعِبادَةِ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَ عَنِ السَّعْيِ فِي مَصَالِحِ الْمَعَاشِ.
قال تعالى: ﴿وَاذْكُرِ اِ۪سْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلِ اِلَيْهِ تَبْتِيلاٗۖ (7) ﴾
تفسير الآية: أَيْ: قُلْ بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فِي ابْتِدَاء قِرَاءَتِكَ وانْقَطِعْ إلى الله انقطاعا. ﴿تَبْتِيلاٗۖ﴾ مَصْدَرُ بَتَّلَ، جِيءَ بِهِ رِعَايَةً لِلْفَوَاصِلِ، وَهُوَ مَلْزُومُ التَّبَتُّـلِ.
قال تعالى: ﴿رَّبُّ اُ۬لْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاٗۖ (8) ﴾
شرح مفردات الآية: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاٗۖ: وَكِّلْهُ عَلَى أُمُورِكَ.
تفسير الآية: أَيْ: هو رَّبُّ اُلْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا مُوَكِّلًا لَهُ أُمُورَكَ.
وَمِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ: قِيامُ اللَّيْلِ وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ خَيْرُ مُعِينٍ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَقْوِيَةِ الصِّلَةِ بِاللهِ تَعَالَى.
أتخلق وأتزكى:
الله ربنا هو حسبنا ونعم الوكيل، نثق به، نفوض أمرنا إليه، ونستعين به في كل أمورنا، ونتجرد من حولنا وقوتنا.
التقويم:
فَمَا فَضْلُ صَلَاةِ اللَّيْلِ؟ وَمَا وَاجِبِي نَحْوَ كِتَابِ اللهِ وَذِكْرِه وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ؟
هدف سلوكي: التخلق بالصَّبْرِ وَالاِحْتِسَابِ فِي مُقَابَلَةِ الْأَذَى.
الآيات:
قال الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَيٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراٗ جَمِيلاٗۖ (9) وَذَرْنِے وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِے اِ۬لنَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاۖ (10) اِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاٗ وَجَحِيماٗ (11) وَطَعَاماٗ ذَا غُصَّةٖ وَعَذَابا اَلِيماٗ (12) يَوْمَ تَرْجُفُ اُ۬لَارْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ اِ۬لْجِبَالُ كَثِيباٗ مَّهِيلاۖ (13) اِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاٗ شَٰهِدا عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَيٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاٗ (14) فَعَص۪يٰ فِرْعَوْنُ اُ۬لرَّسُولَ فَأَخَذْنَٰهُ أَخْذاٗ وَبِيلاٗۖ (15) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماٗ يَجْعَلُ اُ۬لْوِلْدَٰنَ شِيباۖ اِ۬لسَّمَآءُ مُنفَطِرُۢ بِهِۦۖ كَانَ وَعْدُهُۥ مَفْعُولاۖ (16) اِنَّ هَٰذِهِۦ تَذْكِرَةٞۖ فَمَن شَآءَ اَ۪تَّخَذَ إِلَيٰ رَبِّهِۦ سَبِيلاۖ (17) ﴾
المعنى الإجمالي للآيات:
بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأَنْ يَتَّخِذَهُ وَكِيلًا، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَقْتَضِيهِ التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَاقِبَةَ تَفْوِيضِ الأَمْرِ إِلَيْهِ مِنَ الصَّبْرِ وَالاِحْتِسَابِ، حَيْثُ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ المُنْكِرُونَ لِدَعْوَتِهِ.
مضمون الآيات: (9-13): تَسْلِيَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَطَمْأَنَتُهُ
بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَتَفْوِيضِ أَمْرِهِ إِلَيْهِ؛ أَمَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِالصَّبْرِ الْجَمِيلِ عَلَى مَا يَقُـولُهُ الْمُشْرِكُونَ.
قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَيٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراٗ جَمِيلاٗۖ (9) ﴾
تفسير الآية: أَيْ: اِصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُهُ كُفَّارُ مَكَّةَ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَكَاذِيبَ تُؤْذِيكَ ولَا تَتَعَرَّضْ لَهُمْ، وَلَا تَشْتَغِلْ بِمُوَاجَهَتِهِمْ، وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا لَا جَزَع فِيهِ.
س: كَيْفَ أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعَامِلَ الْمُشْرِكِينَ؟
قال تعالى: ﴿وَذَرْنِے وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِے اِ۬لنَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاۖ (10) ﴾
الإعراب: ﴿وَالْمُكَذِّبِينَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلَى الْيَاءِ فِي ﴿وَذَرْنِے﴾ أَوْ مَفْعُولٌ مَعَهُ.
تفسير الآية: وَالْمَعْنَى: واُتْرُكْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أَصْحَابِ التَّنَعُّمِ فِي الدُّنْيَا، وَهُمْ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ، وَلَا تَهْتَمَّ بِهِمْ، فأَنَا كَافِيكَهُمْ، وَدَعْهُمْ مُدَّةً قَلِيلَةً مِن الزَّمَنِ وَسَيَتِمُّ الِانْتِقَامُ مِنْهُمْ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ٢٤﴾ [لقمان: 23].
ثم بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا يَنْتَظِرُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِيـنَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعـَذَابِ.
س: مَا الْغَايَةُ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالصَّبْرِ عَلَى إِذَايَةِ الْمُشْرِكِينَ؟
قال تعالى: ﴿اِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاٗ وَجَحِيماٗ (11) ﴾
شرح مفردات الآية: أَنكَالاٗ: قُيُودًا ثِقَالًا جمع (نِكل) بكسر النون.
تفسير الآية: أَيْ: قُيُودًا ثِقَالًا ونَارًا مُحْرِقَةً.
س: فَمَاذَا أَعَدَّ اللهُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ؟
قال تعالى: ﴿وَطَعَاماٗ ذَا غُصَّةٖ وَعَذَابا اَلِيماٗ (12) ﴾
شرح مفردات الآية: ذَا غُصَّةٖ: غَيْرَ سَائِغٍ فِي الْحَلْقِ.
تفسير الآية: يَغَصُّ بِهِ آكِلُهُ وَلاَ يُسِيغُهُ، وَهُوَ الزَّقُّومُ، أَوْ الضَّرِيعُ، أَوْ الْغِسْلِين، أَوْ شَوْكٌ مِنْ نَارٍ، لَا يَخْرُجُ وَلَا يَنْزِلُ وعذابا مُؤْلِمًا زِيَادَةً عَلَى مَا ذُكِرَ لِمَنْ كَذَّبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ اُ۬لَارْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ اِ۬لْجِبَالُ كَثِيباٗ مَّهِيلاۖ (13) ﴾
شرح مفردات الآية:
كَثِيباٗ: رَمْلًا مُجْتَمِعًا.
مَّهِيلاۖ: سَائِلًا بَعْد اجْتِمَاعِهِ.
تفسير الآية: أَيْ: يَوْمَ تُزَلْزَلُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَتَصِيرُ الْجِبَالُ رَمْلًا سَائِلًا بَعْد اجْتِمَاعِهِ، وَهُوَ مِنْ هَالَ يَهِيلُ، وَأَصْلُهُ مَهْيُولٌ، اسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَى الْيَاءِ فَنُقِلَتْ إلَى الْهَاءِ، وَحُذِفَتْ الْوَاوُ ثَانِي السَّاكِنَيْنِ لِزِيَادَتِهَا، وَقُلِبَتْ الضَّمَّةُ كَسْرَةً لِمُجَانَسَةِ الْيَاءِ.
مضمون الآيات: (14-17): إِرْشَادُ مُشْرِكِي قُرَيْش إِلَى الاِعْتِبَارِ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ
بَعْدَ أَنْ خَوَّفَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ بِأَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، حَذَّرَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِمَّا حَلَّ بِبَعْضِ الأُمَمِ السَّابِقَةِ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهَا لِأَنْبِيَائِهَا.
قَالَ تَعَالَى: ﴿اِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاٗ شَٰهِدا عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَيٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاٗ (14) ﴾
تفسير الآية: اِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ يَا أَهْل مَكَّة رَسُولا هُوَ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم شَٰهِدا عَلَيْكُمْ يَوْم الْقِيَامَة بِمَا يَصْدُر مِنْكُمْ مِنْ طَاعَةٍ أَوْ عِصْيَانٍ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيٰ فِرْعَوْنَ رَسُولا هُوَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿فَعَص۪يٰ فِرْعَوْنُ اُ۬لرَّسُولَ فَأَخَذْنَٰهُ أَخْذاٗ وَبِيلاٗۖ (15) ﴾
تفسير الآية: أي: فَعَصيٰ فِرْعَوْنُ اُلرَّسُولَ اهْلَكْنَاهُ هَلاَكا شَدِيدًا.
ثُمَّ عَادَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ إِلَى تَخْوِيفِهِمْ مَرَّةً أُخْرَى بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا فِيهِ مِنْ أَهْوَالٍ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماٗ يَجْعَلُ اُ۬لْوِلْدَٰنَ شِيباۖ اِ۬لسَّمَآءُ مُنفَطِرُۢ بِهِۦۖ كَانَ وَعْدُهُۥ مَفْعُولاۖ (16) ﴾
الإعراب:﴿يَوْماٗ﴾ مَفْعُولُ ﴿تَتَّقُونَ﴾، وَالْكَلاَمُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: تَخَافُونَ عَذَابَ يَوْمٍ.
تفسير الآية: وَالْمَعْنَى: بِأَيِّ حِصْنٍ تَتَحَصَّنُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ عَذَابِ يَوْم الْقِيَامَةِ، لِشِدَّةِ هَوْلِهِ يجعل الولدان شيبا، والسماء ذَاتُ انْشِقَاقٍ بِذَلِكَ الْيَوْمِ لِشِدَّتِهِ وكَانَ وَعْدُهُ تَعَالَى بِمَجِيءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ. وَالأَصْلُ فِي شِينِ شِيبًا الضَّمُّ، وَكُسِرَتْ لِمُجَانَسَةِ الْيَاءِ، وَيُقَال فِي الْيَوْم الشَّدِيدِ: يَوْمٌ يُشِيبُ نَوَاصِيَ الْأَطْفَالِ، وَهُوَ مَجَازٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُون الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ الْحَقِيقَةَ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿اِنَّ هَٰذِهِۦ تَذْكِرَةٞۖ فَمَن شَآءَ اَ۪تَّخَذَ إِلَيٰ رَبِّهِۦ سَبِيلاۖ﴾ (17)
شرح مفردات الآية: تَذْكِرَةٞۖ: عِظَةٌ لِلْخَلْقِ.
تفسير الآية: أَيْ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَخُوفَةَ عِظَةٌ لِلْخَلْقِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿اِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاٗ وَجَحِيماٗ﴾، فمن شاء اتخذ طَرِيقًا إلى اللهِ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ.
س: مَا الْحِكْمَةُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِجَزَاءِ الْجَاحِدِينَ الْمُعْتَدِينَ؟
وَمِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَأْتِي:
الله تَعَالَى يَنْصُرُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ.
مَا حَلَّ بِالأُمَمِ السَّابِقَةِ، الَّتِي كَذَّبَتْ أَنْبِيَاءَهَا دُرُوسٌ لِلاِعْتِبَارِ وَالاِتِّعَاظِ.
مِنْ مَهَامِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الشَّهَادَةُ عَلَى أُمَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
مَنْ أَرَادَ الفَلَاحَ فِي الدُّنْيَا وَالنَّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ، فَعَلَيْهِ بِالْإِيمَانِ وَالاِسْتِقَامَةِ.
أتخلق وأتزكى:
التحلي بخلق الصبر فهو: قوة وعزيمة، وزاد لبلوغ أسمى الغايات، وعفو وصفح وحلم وجمال.
التقويم:
بِمَ ذَكَّرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ لِلرُّجُوعِ عَنْ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ؟
بِمَ تَوَعَّدَ اللهُ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ؟
الاستثمار
قَالَ الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ رَحِمَهُ اللهُ: «فَالْهَجْرُ الْجَمِيلُ هُوَ الَّذِي يَقْتَصِرُ صَاحِبُهُ عَلَى حَقِيقَةِ الْهَجْرِ، وَهُوَ تَرْكُ الْمُخَالَطَةِ، فَلَا يَقْرِنُهَا بِجَفَاءٍ آخَرَ أَوْ أَذًى، وَلَمَّا كَانَ الْهَجْرُ يَنْشَأُ عَنْ بُغْضِ الْمَهْجُورِ، أَوْ كَرَاهِيَةِ أَعْمَالِهِ، كَانَ مُعَرَّضًا لِأَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ أَذًى مِنْ سَبٍّ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ فَأَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ بِهَجْرِ الْمُشْرِكِينَ هَجْرًا جَمِيلًا، أَيْ: أَنْ يَهْجُرَهُمْ وَلَا يَزِيدَ عَلَى هَجْرِهِمْ سَبًّا أَوِ انْتِقَامًا. وَهَذَا الْهَجْرُ هُوَ إِمْسَاكُ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم عَنْ مُكَافَأَتِهِمْ بِمِثْلِ مَا يَقُولُونَهُ، مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَيٰ مَا يَقُولُونَ﴾ وَلَيْسَ مُنْسَحِبًا عَلَى الدَّعْوَةِ لِلدِّينِ، فَإِنَّهَا مُسْتَمِرَّةٌ؛ وَلَكِنَّهَا تَبْلِيغٌ عَنِ اللهِ تَعَالَى، فَلَا يُنْسَبُ إِلَى النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم» [التحرير والتنوير].
مَا مَعْنَى الْهَجْرِ الْجَمِيلِ؟
كَيْفَ يَهْجُرُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ؟
هدف سلوكي: الاقتداء بِالصَّحَابَةِ الْكِرَامِ فِي التَّأَسِّي بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
الآيات:
قال الله تعالى: ﴿اِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْن۪يٰ مِن ثُلُثَيِ اِ۬ليْلِ وَنِصْفِهِۦ وَثُلُثِهِۦ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ اَ۬لذِينَ مَعَكَۖ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اُ۬ليْلَ وَالنَّهَارَۖ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْۖ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ اَ۬لْقُرْءَانِۖ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْض۪يٰ وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِے اِ۬لَارْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اِ۬للَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِۖ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُۖ وَأَقِيمُواْ اُ۬لصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ اُ۬لزَّكَوٰةَ وَأَقْرِضُواْ اُ۬للَّهَ قَرْضا حَسَناٗۖ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٖ تَجِدُوهُ عِندَ اَ۬للَّهِ هُوَ خَيْراٗ وَأَعْظَمَ أَجْراٗۖ وَاسْتَغْفِرُواْ اُ۬للَّهَۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞۖ (18) ﴾
المعنى الإجمالي للآيات:
حِينَ نُزُولِ أَوَّلِ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ، دَاوَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَصَحَابَتُهُ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الآيةُ مُخْبِرَةً بِتَخْفِيفِ وُجُوبِ قِيَامِ اللَّيْلِ عَلَيْهِمْ إِلَى قِيَامِ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ.
أَوَّلا: الآية تتضمن الثَّنَاءُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَحَابَتِهِ وَالتَّخْفِيفُ عَنْهُمْ
لَمَّا نَزَلَ أَوَّلُ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ، دَاوَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، وَقَامَ مَعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ تَأَسِّيًا بِهِ، حَتَّى كَانَ الوَاحِدُ مِنْهُمْ لَيَرْبِطُ الْحَبْلَ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ؛ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الكَرِيمَةُ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ، وَنُسِخَ الْوُجُوبُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِأَوَّلِ السُّورَةِ.
قال تعالى: ﴿اِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْن۪يٰ مِن ثُلُثَيِ اِ۬ليْلِ وَنِصْفِهِۦ وَثُلُثِهِۦ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ اَ۬لذِينَ مَعَكَۖ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اُ۬ليْلَ وَالنَّهَارَۖ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْۖ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ اَ۬لْقُرْءَانِۖ﴾
شرح مفردات الآية:
يُقَدِّرُ: يُحْصِي.
فَتَابَ عَلَيْكُمْۖ: رَجَعَ بِكُمْ إلَى التَّخْفِيفِ.
الإعراب:
﴿وَنِصْفِهِۦ وَثُلُثِهِۦ﴾ قُرِئَ بِالْجَرِّ مَعْطُوفًا عَلَى ثُلُثَيْ، وَبِالنَّصْبِ مَعْطُوفًا عَلَى ﴿أَدْن۪يٰ﴾.
﴿وَطَآئِفَةٞ مِّنَ اَ۬لذِينَ مَعَكَۖ﴾ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي تَقُومُ، وَجَازَ مِنْ غَيْر تَأْكِيدٍ لِلْفَصْلِ.
﴿أَن﴾ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاسْمُهَا مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَنَّهُ.
تفسير الآية: أَيْ: إنَّ رَبّك يَا مُحَمَّدُ يَعْلَم أَنَّك تَقُومُ أَقَـلّ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفِهِ وَثُلُثِهِ. وَقِيَامُهُ كَذَلِكَ عَلَى نَحْوِ مَا أُمِرَ بِهِ أَوَّلَ السُّورَةِ، وَقِيَامُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ كَذَلِكَ لِلتَّأَسِّي بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى مِنَ اللَّيْل وَكَمْ بَقِيَ مِنْهُ، فَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ احْتِيَاطًا، فَقَامُوا حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهمْ سَنَة أَوْ أَكْثَرَ، فَخَفَّفَ اللهُ عَنْهُمْ، فقال تعالى الله يُحْصِي سَاعَاتِ الليل والنهار؛ علم أنه لن تحصوا اللَّيْلُ لِتَقُومُوا فِيمَا يَجِبُ الْقِيَامُ فِيهِ إلَّا بِقِيَامِ جَمِيعِهِ، وَذَلِكَ يَشُقُّ عَلَيْكُمْ فرَجَعَ بِكُمْ إلَى التَّخْفِيف فِي الصَّلَاة بِأَنْ تُصَلُّوا مَا تَيَسَّرَ.
وقَالَ الْقُرْطُبِيُّ في قوله تعالى ﴿وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اُ۬ليْلَ وَالنَّهَارَۖ﴾: «أَيْ يَعْلَمُ مَقَادِيرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى حَقَائِقِهَا، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بِالتَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْخَطَأُ» [تفسير القرطبي: 53/19].
ثانيا: الآية تتضمن أَسْبَابُ التَّرْخِيصِ وَنَسْخِ وُجُوبِ الْقِيَامِ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ
بَعْدَ أَنْ أثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَخَفَّفَ عَنْهُمْ بِنَسْخِ وُجُوبِ قِيَامِ اللَّيْلِ عَنِ الْأُمَّةِ، وذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَسْبَابٍ لِهَذَا التَّخْفِيفِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَعَمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ، وَهِيَ: المَرَضُ، وَالسَّفَرُ، وَالْجِهَادُ. (والنسخ: هو رفع حكم شرعي بخطاب شرعي متأخر عنه).
قال تعالى: ﴿عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْض۪يٰ وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِے اِ۬لَارْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اِ۬للَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِۖ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُۖ وَأَقِيمُواْ اُ۬لصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ اُ۬لزَّكَوٰةَ وَأَقْرِضُواْ اُ۬للَّهَ قَرْضا حَسَناٗۖ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٖ تَجِدُوهُ عِندَ اَ۬للَّهِ هُوَ خَيْراٗ وَأَعْظَمَ أَجْراٗۖ وَاسْتَغْفِرُواْ اُ۬للَّهَۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞۖ﴾
شرح مفردات الآية:
يَضْرِبُونَ فِے اِ۬لَارْضِ: سَافِرُونَ.
يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اِ۬للَّهِ: يَطْلُبُونَ مِنْ رِزْقِهِ بِالتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا.
الإعراب:
﴿أَن﴾ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿هُوَ﴾ ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا بَعْدَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ وَهُوَ ﴿وَأَعْظَمَ﴾ مَعْرِفَةً، فَهُوَ يُشْبِهُهَا لِامْتِنَاعِهِ مِنَ التَّعْرِيفِ، قَالَ الصَّاوِي: «أي: لِأَنَّهُ اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ دُخُولُ «أل» عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مَعَهُ ﴿مِّنْ﴾ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا، وَهُنَا ﴿مِّنْ﴾ مُقَدَّرَةٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ مَعْرِفَةٌ لَوْلَا الْمَانِعُ، وَهُوَ كَوْنُهُ مَقْرُونًا بِـ ﴿مِّنْ﴾.
تفسير الآية: أَيْ: عَلِمَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ سَيُوجَدُ مِنْكُمْ مَرْضَى لَا يَقْدِرُونَ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ، وَآخَرُونَ يُسَافِرُونَ في الْأَرْضِ يَطْلُبُونَ مِنْ رِزْقِهِ بِالتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا وآخرون يقاتلون في سبيل الله، وَكُلٌّ مِنَ الْفِرَقِ الثَّلَاثَةِ، أَيْ: الْمَرْضَى، وَالمُسَافِرِينَ لِلتِّجَارَةِ، وَالْمُجَاهِدِينَ، يَشُقُّ عَلَيْهِمْ مَا ذُكِرَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ؛ فَخَفَّفَ عَنْهُمْ بِقِيَامِ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ بِأَنْ تُصَلُّوا مَا تَيَسَّرَ لَكُمْ، وأقيموا الصلاة الْمَفْرُوضَةَ، وأتوا الزكاة الْوَاجِبَةَ فِي أَمْوَالِكُمْ، وأقرضوا الله قرضا حسنا بِأَنْ تُنْفِقُوا مَا سِوَى الْمَفْرُوضِ مِنَ الْمَالِ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ عَنْ طِيبِ قَلْبٍ، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خير وأعظم أجرا مِمَّا خَلَّفْتُمْ وَرَاءَكُمْ فِي الدُّنْيَا، واطْلُبُوا مَغْفِرَتَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ، إن الله غفور رحيم بالمؤمنين.
قال الصاوي: (واطْلُبُوا مَغْفِرَتَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو مِنْ تَفْرِيطٍ يُوجِبُ حَجْبَهُ عَنْ بَرَكَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يُزِيلُ ذَلِكَ الحِجَابَ إِلَّا الاِسْتِغْفَارُ» [حاشية الصاوي على الجلالين].
وَمِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَأْتِي:
عِلْمُ اللهِ تَعَالَى مُحِيطٌ بِأَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا وَحَرَكَاتِنَا وَسَكَنَاتِنَا.
حِرْصُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ عَلَى الاِقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
التَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ تَكُونُ عَلَى قَدْرِ اسْتِطَاعَةِ الْإِنْسَانِ، والْمَشَقَّةُ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ.
كُلُّ مَا يُقَدِّمُهُ الْمُؤْمِنُ مِنْ طَاعَاتٍ واسْتِغْفَارٍ يَجِدُ ثَوَابَهُ عِنْدَ اللهِ مُضَاعَفا.
أَتَخَلَّقُ وَأَتَزَكَّى
الاِسْتِغْفَارُ ذِكْرٌ وَمُنَاجَاةٌ وَتَوْبَةٌ، فَينبغي على المسلم أن يستغفر اللهَ وَيتوب إِليْهِ آناءَ الَّليْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، وسيد الاستغفار هو: اللهم أنت لابي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
التقويم:
بِمَ أَثْنَى اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ؟
مَا الْحِكْمَةُ مِنْ إِخْبَارِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِعِلْمِهِ بِقِيَامِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ؟
أُبَيِّنُ سَبَبَ نَسْخِ وُجُوبِ قِيَامِ اللَّيْلِ.
أَذْكُرُ الْأَعْذَارَ الَّتِي نَسَخَ اللهُ بِسَبَبِهَا وُجُوبَ قِيَامِ اللَّيْلِ تَخْفِيفا عَلَى النَّاسِ. أو مَا هِيَ أَعْذَارُ التَّخْفِيفِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَحَابَتِهِ؟
أُبَيِّنُ الْمَقْصُودَ بِقِرَاءَةِ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ.
هدف سلوكي: تمثل الْقِيَمَ الْعَقَدِيَّةَ وَالتَّرْبَوِيَّةَ الْمُضَمَّنَةَ فِي الْآيَاتِ.
التعريف بالسورة:
سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ مَكِّيَّةٌ، وَآيَاتُهَا خَمْسٌ وَخَمْسُونَ (55)، نَزَلَتْ بَعْدَ فُتُورِ الْوَحْيِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتْرَةً، حَتَّى حَزِنَ حُزْنًا شَدِيدًا، وَقَدْ تَضَمَّنَتْ فِي بِدَايَتِهَا تَوْجِيهَاتٍ رَبَّانِيَةً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَتَعَلَّقُ بِرِسَالَتِهِ وَمَنْهَجِ دَعْوَتِهِ.
سبب النزول:
وَقَدْ ذَكَرَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ مَطْلَعَ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ نَزَلَ عَقِبَ فُتُورِ الْوَحْيِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ سُورَةُ القَلَمِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: «بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَجُثِثْتُ مِنْهُ رُعْبًا، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِـي زَمِّلُونِـي، فَـدَثَّـرُونِي»، فَأَنزَلَ اللهُ عَـزَّ وَجَـلَّ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْۖ (2) ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْۖ (5) ﴾ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ» [سنن الترمذي].
الآيات:
بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْۖ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْۖ (4) وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْۖ (5) وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُۖ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْۖ (7)﴾
المعنى الإجمالي للآيات:
أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِإِنْذَارِ قَوْمِهِ من مُشْرِكي مَكَّةَ وَدَعَوْتِهِمْ إِلَى الإِسْلَامِ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى تَعْظِيمِ رَبِّهِ وَتَطْهِيرِ ثِيَابِهِ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ.
فَمَا هِيَ تِلْكَ التَّوْجِيهَاتُ الرَّبَّانِيَّةُ الْوَارِدَةُ فِي مَطْلَعِ السُّورَةِ؟ وَمَا هِيَ الْخِصَالُ الَّتِي حَثَّ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ عَلَى الاتِّصَافِ بِهَا؟ وَكَيْفَ نستثمرها في الدعوة إلى الله؟
مضمون (الآيتان: 1-2): أَمْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِإِنْذَارِ أَهْلِ مَكَّةَ
افْتُتِحَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِنِدَاءِ رَبِّ العَالَمِينَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُهُ بِالنُّهُوضِ لِأَدَاءِ دَعْوَتِهِ وَإِنْذَارِ الْمُشْرِكِينَ.
قَوله تَعَالَى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لْمُدَّثِّرُ﴾ (1)
اللغة: ﴿اَ۬لْمُدَّثِّرُ﴾: وَأَصْلُهُ الْمُتَدَثِّر، أُدْغِمَتْ التَّاءُ فِي الدَّالِ.
تفسير الآية: النِّدَاءُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، الْمُتَلَفِّفُ بِثِيَابِهِ عِنْد نُزُول الْوَحْي عَلَيْهِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿قُمْ فَأَنذِرْۖ﴾ (2)
شرح مفردات الآية: ﴿فَأَنذِرْۖ﴾: فَخَوِّفْ وَحَذِّرْ.
تفسير الآية: أَيْ: قُمْ مِنْ مَضْجَعِكَ، وخَوِّفْ أَهْل مَكَّة النَّارَ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا.
وَاقْتَصَرَ عَلَى الْإِنْذَارِ دُونَ التَّبْشِيرِ وَإِنْ كَانَ مَبْعُوثًا بِهِمَا مَعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَنْ يَصْلُحُ لِلتَّبْشِيرِ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ، وَقَدْ نَـزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُـهُ تَعَالَـى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا٤٥ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا٤٦ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا٤٧﴾ [الأحزاب: 45-47].
ما يستفاد من الآية: الأُمُورُ الكَبِيرَةُ تَتَطَلَّبُ الاِسْتِعْدَادَ الجَيِّدَ وَالقِيَامَ بِالأَسْبَابِ المَشْرُوعَةِ.
بِمَ أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي شَأْنِ أَهْلِ مَكَّةَ؟
ثانيا: إِرْشَادَاتٌ رَبَّانِيَّةٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بِدَايَةِ دَعْوَتِهِ
أَرْشَدَ اللهُ رَسُولَهُ بِجُمْلَةٍ مِنَ الْإِرْشَادَاتِ كَانَ آخِرَهَا أَمْرُهُ إِيَّاهُ بِالصَّبْرِ وَالتَّحَمُّلِ.
إذ نَبَّهَهُ إِلَى أَنَّ دَعْوَتَهُ تَقْتَضِي أَنْ يَتَّصِفَ بِمَجْمُوعَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ:
الأُولَى: تَعْظِيمُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَوَصْفُهُ بِكُلِّ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلاَلِ، لقوله تعالى: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ (3)
والثَّانِيَةُ: تَنْزِيهُ الثِّيَابِ عَنِ النَّجَاسَةِ، لقوله تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْۖ﴾ (4)
والثَّالِثَةُ: هَجْرُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْعـَذَابِ، لقوله تعالى: ﴿وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْۖ﴾ (5)
والرَّابِعَةُ: عَدَمُ الْمَنِّ عَلَى النَّاسِ، لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُۖ﴾ (6)
والخَامِسَةُ: الصَّبْرُ وَالاِحْتِسَابُ، لقوله تعالى: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْۖ﴾ (7)
قَوله تَعَالَى: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ (3)
شرح مفردات الآية: ﴿فَكَبِّرْ﴾: فَعَظِّمْ.
تفسير الآية: أَيْ: فَعَظِّمْ رَبَّكَ عَنْ إِشْرَاكِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تُعَظِّمْ غَيْرَهُ، بِمَعْنَى: اِعْتَقِدْ أَنَّ رَبَّكَ وَحْدَهُ الْمُتَّصِفُ بِكُلِّ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ النَّقَائِصِ.
ما يستفاد من الآية: الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ تَقْتَضِي مِنْ صَاحِبِهَا تَصْحِيحَ عَقِيدَتِهِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْۖ﴾ (4)
شرح مفردات الآية: ﴿فَطَهِّرْۖ﴾: فَنَظِّفْ.
تفسير الآية: أَيْ: عَنِ النَّجَاسَةِ، أَوْ قَصِّرْهَا، خِلَافَ جَرِّ الْعَرَبِ ثِيَابَهُمْ خُيَلَاءَ فَرُبَّمَا أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ.
قَالَ الصَّاوِي: «أَيْ: لِأَنَّ طَهَارَةَ الثِّيَابِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، لَا تَصِحُّ إِلَّا بِهَا، وَهِيَ الْأَوْلَى وَالأَحَبُّ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ المُؤْمِنَ طَاهِرٌ طَيِّبٌ، لَا يَلِيقُ مِنْهُ أَنْ يَحْمِلَ خَبِيثًا، فَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَصُونُونَ ثِيَابَهَمْ عَنِ النَّجَاسَاتِ، فَأَمَرَهُ اللّه تَعَالَى أَنْ يُخَالِفَهُمْ فِي ذَلِكَ» [حاشية الصاوي].
ما يستفاد من الآية: مِنْ سِمَاتِ الْمُسْلِمِ الطَّهَارَةُ فِي بَدَنِهِ وَثَوْبِهِ وَكُلِّ شُؤُونِهِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْۖ﴾ (5)
تفسير الآية: فَسَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرِّجْزَ بِالْأَوْثَانِ، أَيْ: دُمْ عَلَى هَجْرِ عِبَادَتِهَا. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ أَمْرِهِ بِهَجْرِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ أَنْ يَكُونَ مُتَلَبِّسًا بِذَلِكَ قَبْلُ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ﴾ [الأحزاب: 1].
قَوله تَعَالَى: ﴿وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُۖ﴾ (6)
شرح مفردات الآية: ﴿وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُۖ﴾: وَلَا تُعْطِ شَيْئًا لِتَطْلُبَ أَكْثَرَ مِنْهُ.
الإعراب: قوله: ﴿تَسْتَكْثِرُۖ﴾ بِالرَّفْعِ حَالٌ.
تفسير الآية: أَيْ: لَا تُعْطِ شَيْئًا لِتَطْلُبَ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَهَذَا خَاصٌّ بِهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَجْمَلِ الْأَخْلَاقِ وَأَشْرَفِ الْآدَابِ.
ما يستفاد من الآية: النَّهْيُ عَنِ الْمَنِّ بِالْعَمَلِ وَالطَّاعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَّةٌ مِنَ اللهِ وَتَوْفِيقٌ مِنْهُ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْۖ﴾ (7)
تفسير الآية: أَيْ: فَاصْبِرْ عَلَى الْأَوَامِر وَالنَّوَاهِي احْتِسَابًا لِرَبِّكَ وَرَغْبَةً فِيمَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ.
ما يستفاد من الآية: الْوُصُولُ إِلَى المَقَاصِدِ والْغَايَاتِ يَتَطَلَّبُ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ وَالصَّبْرَ وَالاِحْتِسَابَ.
أُحَدِّدُ مَا أَرْشَدَ بِهِ اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي بِدَايَةِ دَعْوَتِهِ.
أتخلق وأتزكى:
الطهارة تزكية ونور وجمال وتجلياتها في حياة المسلم تظهر في: القلب بالتخلص من الحقد والضغينة، والبدن بالحرص على الاغتسال وإسباغ الوضوء، والثياب بالاهتمام بنظافة اللباس وحسن المظهر، والمكان بالاعتناء بنظافة المدرسة والبيئة.
التقويم:
مَا هِيَ قِصَّةُ نُزُولِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ؟
أَذْكُرُ أَهَمَّ التَّوْجِيهَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ الوَارِدَةِ فِي بِدَايَةِ هَذِهِ السُّورَةِ.
أُبَيِّنُ كَيْفَ نَسْتَثْمِرُ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
الاستثمار:
قَالَ مُحَمَّد الغَزَالِي رَحِمَهُ الله: «إِنَّ صِحَّةَ الأَجْسَامِ وَجمَالَهَا وَنَظْرَتَهَا مِنَ الأُمُورِ الَّتِي وَجَّهَ الإِسْلَامُ إِلَيْهَا عِنَايَةً فَائِقَةً وَاعْتَبَرَهَا مِنْ صَمِيمِ رِسَالَتِهِ، وَلَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ رَاجِحاً فِي مِيزَانِ الإسْلَامِ، مُحْتَرَمَ الْجَانِبِ إِلَّا إِذَا تَعَهَّدَ جِسْمَهُ بِالتَّنْظِيفِ وَالتَّهذِيبِ، وَكَانَ فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ وَهَيْئَتِهِ الْخَاصَّةِ بَعِيداً عَنِ الْأَدْرَانِ المُكَدِّرَةِ وَالْأَحْوَالِ الْمُنَفِّرَةِ، وَلَيْسَتْ صِحَّةُ الْجَسَدِ وَطَهَارَتُهُ صَلَاحاً مَادِّيّاً فَقَطْ، بَلْ إِنَّ أَثَرَهَا عَمِيقٌ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَتَمْكِينِ الإِنْسَانِ مِنَ النُّهُوضِ بِأَعْبَاءِ الْحَيَاةِ، وَمَا أَحْوَجَ أَعْبَاءَ الْحَيَاةِ إِلَى الْجِسْمِ الجَلدِ وَالْبَدَن القَوِيِّ الصَّبُورِ» [ خلق المسلم].
أَقْرَأُ النَّصَّ جَيِّداً، ثُمَّ أُجِيبُ عَمَّا يَأْتِي:
أَشْرَحُ مَعنَى: تَزْكِيَةِ النَّفْسِ - الجِسْمِ الجَلدِ.
أُبْرِزُ أَهَمِّيَّةَ العِنَايَةِ بِصِحَّةِ الأَجْسَامِ وَجَمَالِهَا فِي الإسْلَامِ.
أُحَلِّلُ مَا تَحْتَهُ خَطٌّ فِي بِضْعَةِ أَسْطُرٍ مُسْتَرْشِدًا بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الْمُنَاسِبَةِ.
هدف سلوكي: اسْتَحْضارَ نِعْمَةَ الْإِيمَانِ، وَشْكُرَ الله تَعَالَى عَلَيْهَا.
الآيات:
قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِے اِ۬لنَّاقُورِ (8) فَذَٰلِكَ يَوْمَئِذٖ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَي اَ۬لْكٰ۪فِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٖۖ (10) ذَرْنِے وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداٗ (11) وَجَعَلْتُ لَهُۥ مَالاٗ مَّمْدُوداٗ (12) وَبَنِينَ شُهُوداٗ (13) وَمَهَّدتُّ لَهُۥ تَمْهِيداٗ (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنَ اَزِيدَ (15) كَلَّآۖ إِنَّهُۥ كَانَ لِأٓيَٰتِنَا عَنِيداٗۖ (16) سَأُرْهِقُهُۥ صَعُوداًۖ (17)﴾
تمهيد:
حَذَّرَ الله تعالى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمٍ عَسِيرٍ، وَخَاصَّةً زَعِيمَهُمُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بِنِعَمٍ كَثِيرَةٍ فَاغْتَرَّ بِهَا وَكَفَرَ بِاللهِ وَجَحَدَ نِعَمَهُ، فبَيَّنَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ عِنَادَه لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
أَوَّلاً: تَحْذِيرُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ
تَحَدَّثَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَنْ جَزَاءِ الْكَافِرِينَ بِوَعِيدِ الْأَشْقِيَّاءِ الْمُنْكِرِينَ لِرِسَالَتِهِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِے اِ۬لنَّاقُورِ﴾ (8)
شرح مفردات الآية: ﴿نُقِرَ﴾: نُفِخَ.
الإعراب: قَوله: ﴿فَإِذَا﴾ الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ.
تفسير الآية: أَيْ: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ - وَهُوَ الْقَرْنُ - النَّفْخَةَ الثَّانِيَةَ الَّتِي يَكُونُ بَعْدَهَا الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ.
قَوله تَعَالَى: ﴿فَذَٰلِكَ يَوْمَئِذٖ يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾ (9)
الإعراب: قَوله: ﴿يَوْمَئِذٖ﴾ بَدَلٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ ﴿ذلك﴾ وَبُنِيَ لِإِضَافَتِهِ إلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ، وَخَبَرُ الْمُبْتَدَإِ هُوَ ﴿يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى اَ۬لْكٰ۪فِرِينَ﴾ وَالْعَامِلُ فِي «إذَا» هُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الْجَوَابِ، أَيْ: اشْتَدَّ الْأَمْرُ.
تفسير الآية: وَمَا يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَسِيرٌ؛ أَيْ: وَقْتُ النَّقْرِ فِي الصُّورِ.
ما يستفاد من الآية: عَظَمَةُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَشِدَّةُ مَا فِيهِ مِنْ أَهْوَالٍ عَلَى الكَافِرِينَ.
قَوله تَعَالَى: ﴿عَلَى اَ۬لْكٰ۪فِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٖۖ﴾ (10)
تفسير الآية: أَيْ: لَا يُسْرَ فِيهِ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى ﴿عَسِيرٌ﴾، وفِيهِ دَلَالَة عَلَى أَنَّهُ يَسِيرٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَعَ عُسْرِهِ فِي ذَاتِهِ. وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: امْتِنَانُ اللهِ عَلَى الوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِ، وَوَعِيدُهُ الشَدِيدُ لَهُ.
اِنْتَقَلَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ لِلْحَدِيثِ عَنْ قِصَّةِ رَمْزٍ مِنْ رُمُوزِهِمْ، وَزَعِيمٍ مِنْ زُعَمَائِهِمْ، وَهُوَ الوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿ذَرْنِے وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداٗ﴾ (11)
شرح مفردات الآية: ﴿وَحِيداٗ﴾: مُنْفَرِدًا بِلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ.
الإعراب: قَوله: ﴿وَمَنْ خَلَقْتُ﴾ عَطْفٌ عَلَى الْمَفْعُولِ أَوْ مَفْعُولٌ مَعَهُ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَحِيداٗ﴾ حَالٌ مِنْ ﴿مَنْ﴾ أَوْ مِنْ ضَمِيرِهِ الْمَحْـذُوفِ فِي ﴿خَلَقْتُ﴾.
تفسير الآية: وَالْمَعْنَى: اتْرُكْنِي وَمَنْ خَلَقْتُهُ مُنْفَرِدًا بِلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ، وهُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْتُ لَهُۥ مَالاٗ مَّمْدُوداٗ﴾ (12)
تفسير الآية: أَيْ: مالا وَاسِعًا مُتَّصِلًا مِنَ الزُّرُوع وَالضُّرُوعِ وَالتِّجَارَةِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَبَنِينَ شُهُوداٗ﴾ (13)
تفسير الآية: أَيْ: وَجَعَلْتُ لَهُ عَشَرَةَ ﴿بَنِينَ﴾ أَوْ أَكْثَرَ، ﴿شُهُوداٗ﴾ أي: يَشْهَدُونَ الْمَحَافِلَ وَتُسْمَعُ شَهَادَاتُهُمْ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَمَهَّدتُّ لَهُۥ تَمْهِيداٗ﴾ (14)
تفسير الآية: أَيْ: وبَسَطْتُ لَهُ فِي الْعَيْشِ، وَالْعُمُرِ، وَالْوَلَد ِبَسْطًا.
قَوله تَعَالَى: ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنَ اَزِيدَ﴾ (15)
تفسير الآية: أَيْ: ثُمَّ يَطْمَعُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللهُ.
قَوله تَعَالَى: ﴿كَلَّآۖ إِنَّهُۥ كَانَ لِأٓيَٰتِنَا عَنِيداٗۖ﴾ (16)
تفسير الآية: ﴿كَلَّآۖ﴾رَدْعٌ لَهُ وَإِبْطَالٌ لِمَا يَطْمَعُ فِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ مِنَ النِّعَمِ، أَيْ: لَا أَزِيدُهُ عَلَى ذَلِكَ، والعلة؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُعَانِدًا وَمُنْكِرًا لِلْقُرْآنِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿سَأُرْهِقُهُۥ صَعُوداًۖ﴾ (17)
شرح مفردات الآية: ﴿سَأُرْهِقُهُۥ﴾: أُكَلِّفهُ.
تفسير الآية: أَيْ: سأُكَلِّفُهُ مَشَقَّةً مِـنَ الْعَـذَابِ، أَوْ جَبَلًا مِنْ نَارٍ يَصْعَدُ فِيهِ ثُمَّ يَهْوِي أَبَدًا.
وَمِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَأْتِي:
اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَادِرٌ عَلَى مُجَازَاةِ الْجَاحِدِينَ لِآيَاتِهِ.
اللهُ تَعَالَى يُعْطِي الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِ وَغَيْرِهِ، وَيُجَازِي كُلًّا عَلَى عَمَلِهِ.
شُكْرُ النِّعَمِ سَبَبُ بَقَائِهَا وَزِيَادَتِهَا، وَجُحُودُهَا سَبَبُ زَوَالِهَا.
أتخلق وأتزكى:
نعم الله تعالى لا تقابل بالجحود بل بالشكر وهذه طرق شكر النعمة: أن تبوء بنعمة الله عليك، أن تتحدث بنعم الله، أن تكثر من الحمد والشكر، ألا تعصي الله بنعمه.
التقويم:
كَيْفَ يَكُونُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُومِنِينَ؟ فَمَا أَهْوَالُ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَسِيرِ؟ وَمَا الْغَايَةُ مِنْ ذِكْرِهَا؟
بِمَ ذَكَّرَ اللهُ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ فِي الْآيَاتِ؟ ومَا هِيَ النِّعَمُ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَى الْوَلِيدِ بِنِ الْمُغِيرَةِ؟ وَكَيْفَ قَابَلَهَا؟ مِمَّ حَذَّرَ اللهُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْآيَاتِ؟
بِمَ يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُقَابِلَ نِعَمَ اللهِ عَلَيْهِ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ لِذَلِكَ أَثَرٌ حَمِيدٌ فِي سُلُوكِي؟
دروس التفسير سورة المدثر السادس ابتدائي
هدف سلوكي: تمثل الْقِيَمَ الْعَقَدِيَّةَ وَالتَّرْبَوِيَّةَ الْمُضَمَّنَةَ فِي الْآيَاتِ.
التعريف بالسورة:
سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ مَكِّيَّةٌ، وَآيَاتُهَا خَمْسٌ وَخَمْسُونَ (55)، نَزَلَتْ بَعْدَ فُتُورِ الْوَحْيِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتْرَةً، حَتَّى حَزِنَ حُزْنًا شَدِيدًا، وَقَدْ تَضَمَّنَتْ فِي بِدَايَتِهَا تَوْجِيهَاتٍ رَبَّانِيَةً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَتَعَلَّقُ بِرِسَالَتِهِ وَمَنْهَجِ دَعْوَتِهِ.
سبب النزول:
وَقَدْ ذَكَرَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ مَطْلَعَ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ نَزَلَ عَقِبَ فُتُورِ الْوَحْيِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ سُورَةُ القَلَمِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: «بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَجُثِثْتُ مِنْهُ رُعْبًا، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِـي زَمِّلُونِـي، فَـدَثَّـرُونِي»، فَأَنزَلَ اللهُ عَـزَّ وَجَـلَّ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْۖ (2) ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْۖ (5)﴾ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ» [سنن الترمذي].
س: مَا هِيَ قِصَّةُ نُزُولِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ؟
الآيات:
بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْۖ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْۖ (4) وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْۖ (5) وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُۖ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْۖ (7)﴾
المعنى الإجمالي للآيات:
أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِإِنْذَارِ قَوْمِهِ من مُشْرِكي مَكَّةَ وَدَعَوْتِهِمْ إِلَى الإِسْلَامِ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى تَعْظِيمِ رَبِّهِ وَتَطْهِيرِ ثِيَابِهِ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ.
مضمون (الآيتان: 1-2): أَمْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِإِنْذَارِ أَهْلِ مَكَّةَ
افْتُتِحَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِنِدَاءِ رَبِّ العَالَمِينَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُهُ بِالنُّهُوضِ لِأَدَاءِ دَعْوَتِهِ وَإِنْذَارِ الْمُشْرِكِينَ.
قَوله تَعَالَى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لْمُدَّثِّرُ﴾ (1)
اللغة: ﴿اَ۬لْمُدَّثِّرُ﴾: وَأَصْلُهُ الْمُتَدَثِّر، أُدْغِمَتْ التَّاءُ فِي الدَّالِ.
تفسير الآية: النِّدَاءُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، الْمُتَلَفِّفُ بِثِيَابِهِ عِنْد نُزُول الْوَحْي عَلَيْهِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿قُمْ فَأَنذِرْۖ﴾ (2)
شرح مفردات الآية: ﴿فَأَنذِرْۖ﴾: فَخَوِّفْ وَحَذِّرْ.
تفسير الآية: أَيْ: قُمْ مِنْ مَضْجَعِكَ، وخَوِّفْ أَهْل مَكَّة النَّارَ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا.
وَاقْتَصَرَ عَلَى الْإِنْذَارِ دُونَ التَّبْشِيرِ وَإِنْ كَانَ مَبْعُوثًا بِهِمَا مَعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَنْ يَصْلُحُ لِلتَّبْشِيرِ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ، وَقَدْ نَـزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُـهُ تَعَالَـى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا٤٥ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا٤٦ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا٤٧﴾ [الأحزاب: 45-47].
ما يستفاد من الآية: الأُمُورُ الكَبِيرَةُ تَتَطَلَّبُ الاِسْتِعْدَادَ الجَيِّدَ وَالقِيَامَ بِالأَسْبَابِ المَشْرُوعَةِ.
س: بِمَ أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي شَأْنِ أَهْلِ مَكَّةَ؟
مضمون (الآيات: 3-7): إِرْشَادَاتٌ رَبَّانِيَّةٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بِدَايَةِ دَعْوَتِهِ
أَرْشَدَ اللهُ رَسُولَهُ بِجُمْلَةٍ مِنَ الْإِرْشَادَاتِ كَانَ آخِرَهَا أَمْرُهُ إِيَّاهُ بِالصَّبْرِ وَالتَّحَمُّلِ.
إذ نَبَّهَهُ إِلَى أَنَّ دَعْوَتَهُ تَقْتَضِي أَنْ يَتَّصِفَ بِمَجْمُوعَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ:
الأُولَى: تَعْظِيمُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَوَصْفُهُ بِكُلِّ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلاَلِ، لقوله تعالى: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ (3)
والثَّانِيَةُ: تَنْزِيهُ الثِّيَابِ عَنِ النَّجَاسَةِ، لقوله تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْۖ﴾ (4)
الثَّالِثَةُ: هَجْرُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْعـَذَابِ، لقوله تعالى: ﴿وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْۖ﴾ (5)
الرَّابِعَةُ: عَدَمُ الْمَنِّ عَلَى النَّاسِ، لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُۖ﴾ (6)
الخَامِسَةُ: الصَّبْرُ وَالاِحْتِسَابُ، لقوله تعالى: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْۖ﴾ (7)
قَوله تَعَالَى: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ (3)
شرح مفردات الآية: ﴿فَكَبِّرْ﴾: فَعَظِّمْ.
تفسير الآية: أَيْ: فَعَظِّمْ رَبَّكَ عَنْ إِشْرَاكِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تُعَظِّمْ غَيْرَهُ، بِمَعْنَى: اِعْتَقِدْ أَنَّ رَبَّكَ وَحْدَهُ الْمُتَّصِفُ بِكُلِّ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ النَّقَائِصِ.
ما يستفاد من الآية: الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ تَقْتَضِي مِنْ صَاحِبِهَا تَصْحِيحَ عَقِيدَتِهِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْۖ﴾ (4)
شرح مفردات الآية: ﴿فَطَهِّرْۖ﴾: فَنَظِّفْ.
تفسير الآية: أَيْ: عَنِ النَّجَاسَةِ، أَوْ قَصِّرْهَا، خِلَافَ جَرِّ الْعَرَبِ ثِيَابَهُمْ خُيَلَاءَ فَرُبَّمَا أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ.
قَالَ الصَّاوِي: «أَيْ: لِأَنَّ طَهَارَةَ الثِّيَابِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، لَا تَصِحُّ إِلَّا بِهَا، وَهِيَ الْأَوْلَى وَالأَحَبُّ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ المُؤْمِنَ طَاهِرٌ طَيِّبٌ، لَا يَلِيقُ مِنْهُ أَنْ يَحْمِلَ خَبِيثًا، فَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَصُونُونَ ثِيَابَهَمْ عَنِ النَّجَاسَاتِ، فَأَمَرَهُ اللّه تَعَالَى أَنْ يُخَالِفَهُمْ فِي ذَلِكَ» [حاشية الصاوي].
ما يستفاد من الآية: مِنْ سِمَاتِ الْمُسْلِمِ الطَّهَارَةُ فِي بَدَنِهِ وَثَوْبِهِ وَكُلِّ شُؤُونِهِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْۖ﴾ (5)
تفسير الآية: فَسَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرِّجْزَ بِالْأَوْثَانِ، أَيْ: دُمْ عَلَى هَجْرِ عِبَادَتِهَا. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ أَمْرِهِ بِهَجْرِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ أَنْ يَكُونَ مُتَلَبِّسًا بِذَلِكَ قَبْلُ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ﴾ [الأحزاب: 1].
قَوله تَعَالَى: ﴿وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُۖ﴾ (6)
شرح مفردات الآية: ﴿وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُۖ﴾: وَلَا تُعْطِ شَيْئًا لِتَطْلُبَ أَكْثَرَ مِنْهُ.
الإعراب: قوله: ﴿تَسْتَكْثِرُۖ﴾ بِالرَّفْعِ حَالٌ.
تفسير الآية: أَيْ: لَا تُعْطِ شَيْئًا لِتَطْلُبَ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَهَذَا خَاصٌّ بِهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَجْمَلِ الْأَخْلَاقِ وَأَشْرَفِ الْآدَابِ.
ما يستفاد من الآية: النَّهْيُ عَنِ الْمَنِّ بِالْعَمَلِ وَالطَّاعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَّةٌ مِنَ اللهِ وَتَوْفِيقٌ مِنْهُ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْۖ﴾ (7)
تفسير الآية: أَيْ: فَاصْبِرْ عَلَى الْأَوَامِر وَالنَّوَاهِي احْتِسَابًا لِرَبِّكَ وَرَغْبَةً فِيمَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ.
ما يستفاد من الآية: الْوُصُولُ إِلَى المَقَاصِدِ والْغَايَاتِ يَتَطَلَّبُ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ وَالصَّبْرَ وَالاِحْتِسَابَ.
س: حدد مَا أَرْشَدَ بِهِ اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي بِدَايَةِ دَعْوَتِهِ.
أتخلق وأتزكى:
الطهارة تزكية ونور وجمال وتجلياتها في حياة المسلم تظهر في: القلب بالتخلص من الحقد والضغينة، والبدن بالحرص على الاغتسال وإسباغ الوضوء، والثياب بالاهتمام بنظافة اللباس وحسن المظهر، والمكان بالاعتناء بنظافة المدرسة والبيئة.
التقويم:
أذكر أَهَمَّ التَّوْجِيهَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ الوَارِدَةِ فِي بِدَايَةِ هَذِهِ السُّورَةِ.
بين كَيْفَ نَسْتَثْمِرُ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
الاستثمار:
قَالَ مُحَمَّد الغَزَالِي رَحِمَهُ الله: «إِنَّ صِحَّةَ الأَجْسَامِ وَجمَالَهَا وَنَظْرَتَهَا مِنَ الأُمُورِ الَّتِي وَجَّهَ الإِسْلَامُ إِلَيْهَا عِنَايَةً فَائِقَةً وَاعْتَبَرَهَا مِنْ صَمِيمِ رِسَالَتِهِ، وَلَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ رَاجِحاً فِي مِيزَانِ الإسْلَامِ، مُحْتَرَمَ الْجَانِبِ إِلَّا إِذَا تَعَهَّدَ جِسْمَهُ بِالتَّنْظِيفِ وَالتَّهذِيبِ، وَكَانَ فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ وَهَيْئَتِهِ الْخَاصَّةِ بَعِيداً عَنِ الْأَدْرَانِ المُكَدِّرَةِ وَالْأَحْوَالِ الْمُنَفِّرَةِ، وَلَيْسَتْ صِحَّةُ الْجَسَدِ وَطَهَارَتُهُ صَلَاحاً مَادِّيّاً فَقَطْ، بَلْ إِنَّ أَثَرَهَا عَمِيقٌ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَتَمْكِينِ الإِنْسَانِ مِنَ النُّهُوضِ بِأَعْبَاءِ الْحَيَاةِ، وَمَا أَحْوَجَ أَعْبَاءَ الْحَيَاةِ إِلَى الْجِسْمِ الجَلدِ وَالْبَدَن القَوِيِّ الصَّبُورِ» [ خلق المسلم].
اقرأ النَّصَّ جَيِّداً، ثُمَّ أُجِيبُ عَمَّا يَأْتِي:
اشرح مَعنَى: تَزْكِيَةِ النَّفْسِ - الجِسْمِ الجَلدِ.
أبرز أَهَمِّيَّةَ العِنَايَةِ بِصِحَّةِ الأَجْسَامِ وَجَمَالِهَا فِي الإسْلَامِ.
حلل مَا تَحْتَهُ خَطٌّ فِي بِضْعَةِ أَسْطُرٍ مُسْتَرْشِدًا بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الْمُنَاسِبَةِ.
هدف سلوكي: اسْتَحْضارَ نِعْمَةَ الْإِيمَانِ، وَشْكُرَ الله تَعَالَى عَلَيْهَا.
الآيات:
قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِے اِ۬لنَّاقُورِ (8) فَذَٰلِكَ يَوْمَئِذٖ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَي اَ۬لْكٰ۪فِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٖۖ (10) ذَرْنِے وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداٗ (11) وَجَعَلْتُ لَهُۥ مَالاٗ مَّمْدُوداٗ (12) وَبَنِينَ شُهُوداٗ (13) وَمَهَّدتُّ لَهُۥ تَمْهِيداٗ (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنَ اَزِيدَ (15) كَلَّآۖ إِنَّهُۥ كَانَ لِأٓيَٰتِنَا عَنِيداٗۖ (16) سَأُرْهِقُهُۥ صَعُوداًۖ (17)﴾
تمهيد:
حَذَّرَ الله تعالى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمٍ عَسِيرٍ، وَخَاصَّةً زَعِيمَهُمُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بِنِعَمٍ كَثِيرَةٍ فَاغْتَرَّ بِهَا وَكَفَرَ بِاللهِ وَجَحَدَ نِعَمَهُ، فبَيَّنَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ عِنَادَه لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
مضمون (الآيات: 8-10): تَحْذِيرُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ
تَحَدَّثَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَنْ جَزَاءِ الْكَافِرِينَ بِوَعِيدِ الْأَشْقِيَّاءِ الْمُنْكِرِينَ لِرِسَالَتِهِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِے اِ۬لنَّاقُورِ﴾ (8)
شرح مفردات الآية: ﴿نُقِرَ﴾: نُفِخَ.
الإعراب: قَوله: ﴿فَإِذَا﴾ الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ.
تفسير الآية: أَيْ: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ - وَهُوَ الْقَرْنُ - النَّفْخَةَ الثَّانِيَةَ الَّتِي يَكُونُ بَعْدَهَا الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ.
قَوله تَعَالَى: ﴿فَذَٰلِكَ يَوْمَئِذٖ يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾ (9)
الإعراب: قَوله: ﴿يَوْمَئِذٖ﴾ بَدَلٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ ﴿ذلك﴾ وَبُنِيَ لِإِضَافَتِهِ إلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ، وَخَبَرُ الْمُبْتَدَإِ هُوَ ﴿يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى اَ۬لْكٰ۪فِرِينَ﴾ وَالْعَامِلُ فِي «إذَا» هُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الْجَوَابِ، أَيْ: اشْتَدَّ الْأَمْرُ.
تفسير الآية: وَمَا يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَسِيرٌ؛ أَيْ: وَقْتُ النَّقْرِ فِي الصُّورِ.
ما يستفاد من الآية: عَظَمَةُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَشِدَّةُ مَا فِيهِ مِنْ أَهْوَالٍ عَلَى الكَافِرِينَ.
قَوله تَعَالَى: ﴿عَلَى اَ۬لْكٰ۪فِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٖۖ﴾ (10)
تفسير الآية: أَيْ: لَا يُسْرَ فِيهِ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى ﴿عَسِيرٌ﴾، وفِيهِ دَلَالَة عَلَى أَنَّهُ يَسِيرٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَعَ عُسْرِهِ فِي ذَاتِهِ. وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
مضمون (الآيات: 11-17): امْتِنَانُ اللهِ عَلَى الوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِ، وَوَعِيدُهُ الشَدِيدُ لَهُ.
اِنْتَقَلَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ لِلْحَدِيثِ عَنْ قِصَّةِ رَمْزٍ مِنْ رُمُوزِهِمْ، وَزَعِيمٍ مِنْ زُعَمَائِهِمْ، وَهُوَ الوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿ذَرْنِے وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداٗ﴾ (11)
شرح مفردات الآية: ﴿وَحِيداٗ﴾: مُنْفَرِدًا بِلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ.
الإعراب: قَوله: ﴿وَمَنْ خَلَقْتُ﴾ عَطْفٌ عَلَى الْمَفْعُولِ أَوْ مَفْعُولٌ مَعَهُ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَحِيداٗ﴾ حَالٌ مِنْ ﴿مَنْ﴾ أَوْ مِنْ ضَمِيرِهِ الْمَحْـذُوفِ فِي ﴿خَلَقْتُ﴾.
تفسير الآية: وَالْمَعْنَى: اتْرُكْنِي وَمَنْ خَلَقْتُهُ مُنْفَرِدًا بِلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ، وهُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْتُ لَهُۥ مَالاٗ مَّمْدُوداٗ﴾ (12)
تفسير الآية: أَيْ: مالا وَاسِعًا مُتَّصِلًا مِنَ الزُّرُوع وَالضُّرُوعِ وَالتِّجَارَةِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَبَنِينَ شُهُوداٗ﴾ (13)
تفسير الآية: أَيْ: وَجَعَلْتُ لَهُ عَشَرَةَ ﴿بَنِينَ﴾ أَوْ أَكْثَرَ، ﴿شُهُوداٗ﴾ أي: يَشْهَدُونَ الْمَحَافِلَ وَتُسْمَعُ شَهَادَاتُهُمْ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَمَهَّدتُّ لَهُۥ تَمْهِيداٗ﴾ (14)
تفسير الآية: أَيْ: وبَسَطْتُ لَهُ فِي الْعَيْشِ، وَالْعُمُرِ، وَالْوَلَد ِبَسْطًا.
قَوله تَعَالَى: ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنَ اَزِيدَ﴾ (15)
تفسير الآية: أَيْ: ثُمَّ يَطْمَعُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللهُ.
قَوله تَعَالَى: ﴿كَلَّآۖ إِنَّهُۥ كَانَ لِأٓيَٰتِنَا عَنِيداٗۖ﴾ (16)
تفسير الآية: ﴿كَلَّآۖ﴾رَدْعٌ لَهُ وَإِبْطَالٌ لِمَا يَطْمَعُ فِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ مِنَ النِّعَمِ، أَيْ: لَا أَزِيدُهُ عَلَى ذَلِكَ، والعلة؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُعَانِدًا وَمُنْكِرًا لِلْقُرْآنِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿سَأُرْهِقُهُۥ صَعُوداًۖ﴾ (17)
شرح مفردات الآية: ﴿سَأُرْهِقُهُۥ﴾: أُكَلِّفهُ.
تفسير الآية: أَيْ: سأُكَلِّفُهُ مَشَقَّةً مِـنَ الْعَـذَابِ، أَوْ جَبَلًا مِنْ نَارٍ يَصْعَدُ فِيهِ ثُمَّ يَهْوِي أَبَدًا.
وَمِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَأْتِي:
اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَادِرٌ عَلَى مُجَازَاةِ الْجَاحِدِينَ لِآيَاتِهِ.
اللهُ تَعَالَى يُعْطِي الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِ وَغَيْرِهِ، وَيُجَازِي كُلًّا عَلَى عَمَلِهِ.
شُكْرُ النِّعَمِ سَبَبُ بَقَائِهَا وَزِيَادَتِهَا، وَجُحُودُهَا سَبَبُ زَوَالِهَا.
أتخلق وأتزكى:
نعم الله تعالى لا تقابل بالجحود بل بالشكر وهذه طرق شكر النعمة: أن تبوء بنعمة الله عليك، أن تتحدث بنعم الله، أن تكثر من الحمد والشكر، ألا تعصي الله بنعمه.
التقويم:
كَيْفَ يَكُونُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُومِنِينَ؟ فَمَا أَهْوَالُ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَسِيرِ؟ وَمَا الْغَايَةُ مِنْ ذِكْرِهَا؟
بِمَ ذَكَّرَ اللهُ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ فِي الْآيَاتِ؟ ومَا هِيَ النِّعَمُ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَى الْوَلِيدِ بِنِ الْمُغِيرَةِ؟ وَكَيْفَ قَابَلَهَا؟ ومِما حَذَّرَ اللهُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْآيَاتِ؟
بِمَ يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُقَابِلَ نِعَمَ اللهِ عَلَيْهِ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ لِذَلِكَ أَثَرٌ حَمِيدٌ فِي سُلُوكِي؟
هدف سلوكي: تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ وَتَمَثّل قِيَمَهُ وَأَحْكَامَهُ.
الآيات:
قال تعالى: ﴿اِنَّهُۥ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَٰذَآ إِلَّا سِحْرٞ يُوثَرُ (24) إِنْ هَٰذَآ إِلَّا قَوْلُ اُ۬لْبَشَرِۖ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَۖ (26) وَمَآ أَدْر۪يٰكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِے وَلَا تَذَرُۖ (28) لَوَّاحَةٞ لِّلْبَشَرِۖ (29)﴾
تمهيد:
صَوَّرَ الله عز وجل فِي هَذِهِ الْآيَاتِ حَالَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتِ القُرْآنِ مَعَ مَا وَجَدَ فِيهَا مِنْ دَلَائِلِ الصِّدْقِ أُسْلُوبًا وَبَيَانًا. وأخبر عَنْ جَزَاءِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَنَّهُ سَيُصْلِيه سَقَرَ الَّتِي مِنْ صِفَاتِهَا أَنَّهَا لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ.
كما أَخْبَرَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ أَنَّ مَصِيرَ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ لِآيَاتِ اللهِ المُسْتَهْزِئِينَ بِأَحْكَامِهِ الْمُكَذِّبِينَ لِرَسُولِهِ هُوَ نَارُ سَقَرَ.
مضمون (الآيات: 18-25): تَرَدُّدُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَجُحُودُهُ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
بَعْدَ مَا بَيَّنَ الحَقُّ سُبْحَانَهُ مَا أَعَدَّ لِلْأَشْقِيَاءِ الْمُنْكِرِينَ لِرِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْوَالٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمِنْهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ سُبْحَانَـهُ وتعالى: ﴿كَلَّآۖ إِنَّهُۥ كَانَ لِأٓيَٰتِنَا عَنِيداٗۖ﴾؛ صَوَّرَ لَنَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ حَالَةَ تَرَدُّدِهِ وَجُحُودِهِ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ تَصْوِيرًا عَجِيبًا.
قَوله تَعَالَى: ﴿اِنَّهُۥ فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾ (18)
تفسير الآية: أيْ: إِنَّهُ فَكَّرَ فِيمَا يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدَّرَ فِي نَفْسِهِ ذَلِكَ.
قَوله تَعَالَى: ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ (19)
تفسير الآية: أَيْ: لُعِنَ وَعُذِّبَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ تَقْدِيرُهُ.
قَوله تَعَالَى: ﴿ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ (20)
الإعراب: وَقوله: ﴿كَيْفَ﴾ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَدَّرَ، وَهِيَ اسْتِفْهَامٌ يُرَادُ مِنْهُ التَّوْبِيخُ وَالتَّعَجُّبُ.
تفسير الآية: أَيْ: لُعِنَ وَعـُذِّبَ بِسَبَبِ مَا قَدَّرَ وَاخْتَلَقَ مِنَ الْكَلَامِ فِي شَأْنِ الْقُـرْآنِ الْكَرِيـمِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿ثُمَّ نَظَرَ﴾ (21)
تفسير الآية: نظر فِي وُجُوهِ قَوْمِهِ أَوْ نظر فِيمَا يَقْدَحُ بِـهِ فِي الْـقُـرْآنِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾ (22)
تفسير الآية: أَيْ: قَبَضَ وَجْهَهُ وَكَلَّحَهُ ضِيقًا بِمَا يَقُولُ وزَادَ فِي الْقَبْضِ وَالْكُلُوحِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ﴾ (23)
تفسير الآية: أَيْ: أَدْبَرَ عَنِ الْإِيمَانِ وتَكَبَّرَ عَنِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوله تَعَالَى: ﴿فَقَالَ إِنْ هَٰذَآ إِلَّا سِحْرٞ يُوثَرُ﴾ (24)
تفسير الآية: أَيْ: فَقَالَ فِي الْقُرْآنِ: مَا هَذَا إلَّا سِحْر يُنْقَلُ عَنِ السَّحَرَةِ، وَهِيَ أُمُورٌ خَيَالِيَّةٌ لَا حَقَائِقَ لَهَا.
قَوله تَعَالَى: ﴿إِنْ هَٰذَآ إِلَّا قَوْلُ اُ۬لْبَشَرِۖ﴾ (25)
تفسير الآية: أَيْ: مَا هَذَا الْقُرْآنُ إلَّا قَوْلُ الْبَشَـرِ؛ لِأَنَّـهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَقَلَـهُ عَنِ السَّحَرَةِ كَمَـا قَالُـوا: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النحل: 103].
مضمون (الآيات: 26-29): إِخْبَارُ اللهِ بِجَزَاءِ الوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَلَى جُحُودِهِ
ذَكَرَتْ الْآيَاتُ مَا أَعَدَّ اللهُ لَهُ مِنَ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى كُفْرِهِ وَجُحُودِهِ لِنُبُوَّةِ خَاتِمِ الرُّسُل ِصلى الله عليه وسلم.
قَوله تَعَالَى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَۖ﴾ (26)
تفسير الآية: أَيْ: سأُدْخِلـهُ جَهَنَّـمَ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَمَآ أَدْر۪يٰكَ مَا سَقَرُ﴾ (27)
الإعراب: ﴿مَا﴾ مُبْتَدَأٌ، وَ ﴿سَقَرُ﴾ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ سَدَّتْ مَسَّدَ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَدْرَى.
تفسير الآية: أَيْ: وما أدراك أَيُّ شَيْءٍ هِيَ سَقَرُ؟ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الاِسْتِفْهَامِ تَعْظِيمُ شَأْنِهَا. أَيْ: إِنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِكُنْهِهَا وَشِدَّةِ عِظَمِهَا، ثُمَّ بَيَّنَ بَعْضَ أَوْصَافِهَا.
قَوله تَعَالَى: ﴿لَا تُبْقِے وَلَا تَذَرُۖ﴾ (28)
تفسير الآية: أَيْ: لَا تَتْرُكُ شَيْئًا مِنْ لَحْمٍ وَلَا عَصَبٍ إِلَّا أَهْلَكَتْهُ ثُمَّ يَعُودُ كَمَا كَانَ.
قَوله تَعَالَى: ﴿لَوَّاحَةٞ لِّلْبَشَرِۖ﴾ (29)
تفسير الآية: أَيْ: مُحْرِقَةٌ لِظَاهِرِ الْجِلْدِ.
وَمِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَأْتِي:
سُمُوُّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَنْ كَلَامِ البَشَرِ.
غُرُورُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَكِبْرِيَاؤُهُمْ جَعَلَهُمْ يَحْتَارُونَ فِي اخْتِلَاقِ الشُّبُهَاتِ لِلطَّعْنِ فِي القُرْآنِ الْكَرِيمِ وَإِنْكَارِ رَبَّانِيَّتِهِ.
هَوْلُ عَذَابِ الْكُفَّارِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَوْمَ القِيَامَةِ.
أَتَخَـلَّــقُ وَأَتَـزَكَّــى:
الكِبْرُ خُلُقٌ ذَمِيمٌ ينبغي تَجَنّبهُ، لِأَنَّ الْمُتَكَبِّرَ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ.
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ» [صحيح مسلم].
التقويم:
كَيْفَ كَانَ مَوْقِفُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؟
فَكَيْفَ تَلَقَّى الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ؟ وَمَا الَّذِي جَعَلَهُ يُصِرُّ عَلَى الطَّعْنِ فِيهِ وَإِنْكَارِ رَبَّانِيَّتِهِ؟
لِمَاذَا تَرَدَّدَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فِي مَا يقُولُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؟
بِمَ وَصَفَ الْوَلِيدُ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ؟ وَلِمَاذَا؟
مَا هُوَ الجَزَاءُ الَّذِي تَوَعَّدَ اللهُ بِهِ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ عَلَى جُحُودِهِ؟
اسْتَنْتِج عَاقِبَةَ الكِبْرِ.
الاستثمار:
رَوَى الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ عَنْ عِكْرِمَةَ «أَنَّ الوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ، فَقَالَ: أَيْ عَمِّ، إِنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا، قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: يُعْطُونَكَهُ، فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا تَتَعَرَّضُ لِمَا قِبَلَهُ؛ قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي أَكْثَرُهَا مَالًا، قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَعْلَمُ قَوْمُكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لِمَا قَالَ، وَأَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ؛ قَالَ: فَمَا أَقُولُ فِيهِ؟ فَوَاللهِ مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمَ بِرَجَزِهِ مِنِّي، وَلَا بِقَصِيدِهِ، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَلَا يُعْلَى. قَالَ: وَاللهِ لَا يَرْضَى قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ، قَالَ: فَدَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ فِيهِ؛ فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يَأْثُرُهُ عَنْ غَيْرِهِ، فَنَزَلَتْ: ﴿ذَرْنِے وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداٗ﴾" [تفسير الطبري].
مَا الَّذِي جَعَلَ الوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ يَرِقُّ قَلْبُهُ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ؟ وَبِمَاذَا وَصَفَهُ؟
لِمَاذَا جَحَدَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ؟
هدف سلوكي: تقَوِّيَة الإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وازدياد التصديق بِكُلِّ مَا جَاءَ فِيهِ.
الآيات:
قال تعالى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَۖ (30) ۞وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ اَ۬لنّ۪ارِ إِلَّا مَلَٰٓئِكَةٗ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمُۥٓ إِلَّا فِتْنَةٗ لِّلذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ اَ۬لذِينَ أُوتُواْ اُ۬لْكِتَٰبَ وَيَزْدَادَ اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰناٗ وَلَا يَرْتَابَ اَ۬لذِينَ أُوتُواْ اُ۬لْكِتَٰبَ وَالْمُومِنُونَ وَلِيَقُولَ اَ۬لذِينَ فِے قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَالْكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اَ۬للَّهُ بِهَٰذَا مَثَلاٗۖ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اُ۬للَّهُ مَنْ يَّشَآءُ وَيَهْدِے مَنْ يَّشَآءُۖ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۖ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْر۪يٰ لِلْبَشَرِۖ (31)﴾
تمهيد:
بين الله عز وجل فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَدَدَ حُرَّاسِ سقر، وَمَوْقِفَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ، مُبَيِّنًا الْحِكْمَةَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ ذَلِكَ.
مضمون (الآية: 30): عَدَدُ حُرَّاسِ جَهَنَّمَ وَصِفَاتُهُمْ
بَيَّنَ الحَقُّ سُبْحَانَهُ فِي الْآيَاتِ عَدَدَ خَزَنَتِ سَقَرَ. وأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ حُرَّاسَ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنِّ وَلَا مِنَ الْإِنْسِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَۖ﴾ (30)
تفسير الآية: أَيْ: تِسْعَةَ عَشَرَ مَلَكًا، وَهُمْ خَزَنَتُهَا.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ اَ۬لنّ۪ارِ إِلَّا مَلَٰٓئِكَةٗ﴾
سبب نزول الآية: وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَۖ﴾ قَالَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ قَوِيًّا شَدِيدَ الْبَأْسِ: أَنَا أَكْفِيكُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَاكْفُونِي أَنْتُمْ اثْنَيْنِ اسْتِهْزَاءً مِنْهُ بِقِلَّةِ عَدَدِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ اَ۬لنّ۪ارِ إِلَّا مَلَٰٓئِكَةٗ﴾.
تفسير الآية: أَيْ: فَلَا يُطَاقُونَ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ الْمُشْرِكُونَ، فَلَمْ نَجْعَلْهُمْ مِنَ الْبَشَرِ حَتَّى تَقْدِرُوا عَلَى مُصَارَعَتِهِمْ وَمُغَالَبَتِهِمْ كَمَا تَتَوَهَّمُونَ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ عِنْدَ تفسيره قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ اَ۬لنّ۪ارِ إِلَّا مَلَٰٓئِكَةٗ﴾: «أَيْ: زَبَانِيَةً غِلَاظًا شِدَادًا. وَذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ حِينَ ذُكِرَ عَدَدُ الْخَزَنَةِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا يَسْتَطِيعُ كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْكُمْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَتَغْلِبُونَهُمْ؟ فَقَالَ اللهُ: ﴿وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ اَ۬لنّ۪ارِ إِلَّا مَلَٰٓئِكَةٗ﴾ أَيْ: شَدِيدِي الْخَلْقِ لَا يُقَاوَمُونَ وَلَا يُغَالَبُونَ». [تفسير ابن كثير].
مضمون (الآية: 31): الْحِكْمَةُ مِنْ جَعْلِ عَدَدِ حُرَّاسِ جَهَنَّمَ تِسْعَةَ عَشَرَ
بَيَّنَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ الْحِكْمَةَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ حُرَّاسَ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنِّ وَلَا مِنَ الْإِنْسِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمِنْ جَعْلِهِمْ تِسْعَةَ عَشَرَ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمُۥٓ إِلَّا فِتْنَةٗ لِّلذِينَ كَفَرُواْ﴾
شرح مفردات الآية:
﴿عِدَّتَهُمُۥٓ﴾: عَدَدَهُمْ.
﴿فِتْنَةٗ﴾: ضَلَالًا.
تفسير الآية: أَيْ: وَمَا ذَكَرْنَا عِدَّتَهُمْ وَأَنَّهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ إلَّا لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبَ فِتْنَةٍ وَضَلَالٍ لِلَّذِينَ كَفَرُوا، بِأَنْ يَقُولُوا: لِمَ كَانُوا تِسْعَةَ عَشَرَ؟
قَالَ الصَّاوِي: «وَإِنَّمَا صَارَ هَذَا الْعَدَدُ فِتْنَةً لَهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الأَوَّلُ: أَنَّ الْكُفَّارَ يَسْتَهْزِئُونَ وَيَقُولُونَ: لِمَ لَا يَكُونُونَ أَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ؟
وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ قَلِيلٌ، كَيْفَ يَتَوَلَّى تَعْذِيبَ أَكْثَرِ الْعَالَمِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، مِنْ أَوَّلِ مَا خَلَقَ اللهُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ؟» [حشية الصاوي].
وَقَدْ تَرَتَّبَ عَنِ افْتِتَانِ الْمُشْرِكِينَ بِعَدَدِ الزَّبَانِيَةِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ، وَهِيَ:
أَوَّلُهَا: ﴿لِيَسْتَيْقِنَ اَ۬لذِينَ أُوتُواْ اُ۬لْكِتَٰبَ﴾
وَثَانِيهَا: ﴿وَيَزْدَادَ اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰناٗ﴾
وَثَالِثُهَا: ﴿وَلَا يَرْتَابَ اَ۬لذِينَ أُوتُواْ اُ۬لْكِتَٰبَ وَالْمُومِنُونَ﴾
وَرَابِعُهَا: ﴿وَلِيَقُولَ اَ۬لذِينَ فِے قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَالْكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اَ۬للَّهُ بِهَٰذَا مَثَلاٗۖ﴾
قَوله تَعَالَى: ﴿لِيَسْتَيْقِنَ اَ۬لذِينَ أُوتُواْ اُ۬لْكِتَٰبَ﴾
تفسير الآية: أَيْ: لِيَسْتَبِينَ وَيَتَيَقَّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ - وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا الْيَهُودُ - صِدْقَ النَّبِيِّ ﷺ فِي كَوْنِهِمْ تِسْعَةَ عَشَرَ الْمُوَافِقِ لِمَا فِي كُتُبِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ هَذَا الْعَدَدَ فِي كُتُبِهِمْ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَيَزْدَادَ اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰناٗ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿إِيمَٰناٗ﴾: تَصْدِيقًا.
تفسير الآية: أَيْ: وَيَزْدَاد الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْل الْكِتَاب تَصْدِيقًا لِمُوَافَقَةِ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمَا فِي كِتَابِهِمْ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَلَا يَرْتَابَ اَ۬لذِينَ أُوتُواْ اُ۬لْكِتَٰبَ وَالْمُومِنُونَ﴾
تفسير الآية: أَيْ: وَلَا يَشُكُّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ غَيْرِهمْ فِي عَدَدِ الْمَلَائِكَةِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَلِيَقُولَ اَ۬لذِينَ فِے قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَالْكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اَ۬للَّهُ بِهَٰذَا مَثَلاٗۖ﴾
تفسير الآية: أَيْ: وَلِيَقُولَ الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ شَكٌّ وَهُمُ الْمُنُافِقُونَ بِالْمَدِينَةِ، وَالْكَافِرُونَ بِمَكَّة: مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا الْعَدَدِ حَالَةَ كَوْنِهِ مَثَلًا؟ وَقَدْ سَمَّوْهُ بِذَلِكَ لِغَرَابَتِهِ فَلَمْ تَسَعْهُ عُقُولُهُمْ.
قَوله تَعَالَى: ﴿كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اُ۬للَّهُ مَنْ يَّشَآءُ وَيَهْدِے مَنْ يَّشَآءُۖ﴾
تفسير الآية: أَيْ: كذلك مِثْلَ إِضْلَال مُنْكِرِ هَذَا الْعَدَدِ وَهَدْيِ مُصَدِّقِهِ، فاللهُ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ إِضْلَالَهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ هِدَايَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۖ﴾
تفسير الآية: أَيْ: وَمَا يَعْلَمُ الْمَلَائِكَةَ فِي قُوَّتِهِمْ وَأَعْوَانِهِمْ إِلاَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْر۪يٰ لِلْبَشَرِۖ﴾ (31)
تفسير الآية: أَيْ: وَمَا سَقَرُ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ لَيَتَذَكَّرُوا وَيَعْلَمُوا كَمَالَ قُدْرَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَمِمَّا يُسْتَفَادُ مِنَ هَذِهِ الْآيَتَيْن مَا يَأْتِي:
أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ، وَأَنَّ أَفْعَالَهُ مَنُوطَةٌ بِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا سُبْحَانَهُ.
أَنَّ شِعَارَ الْمُؤْمِنِ هُوَ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالتَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللهِ، وَشِعَارَ مَرْضَى القُلُوبِ الاِعْتِرَاضُ عَلَى اللهِ وَالاِسْتِهْزَاءُ بِأَحْكَامِهِ وَأَخْبَارِهِ.
أَنَّ عَلَى الْإِنْسَانِ أَخْذَ الْعِبْرَةِ وَالذِّكْرَى مِنْ سُنَنِ اللهِ لِيَزْدَادَ إِيمَانًا وَيَقِينًا.
أتخلق وأتزكى:
ينبغي للمؤمن أن يسعى دائما إلى تقوية إيمانه وزيادته بقراءة القرآن وتدبر آياته، والتزام الذكر والاستغفار، والمحافظة على الصلوات، والمسارعة في الخيرات، ومرافقة الصالحين.
التقويم:
مَا هُوَ عَدَدُ حُرَّاسِ سَقَرَ؟
بين مَوْقِفَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ ذِكْرِ عَدَدِ الزَّبَانِيَةِ.
أبرز الْحِكْمَةَ الرَّبَّانِيَّةُ مِنْ ذِكْرِ عَدَدِ حُرَّاسِ سَقَرَ تِسْعَةَ عَشَرَ.
كَيْفَ يَتَلَقَّى الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ؟
الاستثمار:
قَــالَ الزَّمَخْـشَـرِيُّ: -رحمـه اللـه- عِـنْـدَ قَـوْلِـهِ تعَالَـى: ﴿وَلِيَقُولَ اَ۬لذِينَ فِے قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَالْكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اَ۬للَّهُ بِهَٰذَا مَثَلاٗۖ﴾: «فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ ذُكِرَ الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ نِفَاقٌ، وَإِنَّمَا نَجَمَ بِالْمَدِينَةِ؟
قُلْتُ: مَعْنَاهُ وَلِيَقُولَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُنَجِّمُونَ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ بالمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَالْكَافِرُونَ بِمَكَّةَ: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إلاَّ إِخْبَارٌ بِمَا سَيَكُونُ كَسَائِرِ الإِخْبَارَاتِ بِالْغُيُوبِ، وَذَلِكَ لاَ يُخَالِفُ كَوْنَ السُّورَةِ مَكِّيَّةٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَرَضِ: الشَّكُّ وَالِارْتِيَابُ؛ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانَ أَكْثَرُهُمْ شَاكِّينَ وَبَعْضُهُمْ كَانُوا قَاطِعِينَ بِالْكَذِبِ» [الكشاف للزمخشري].
مَا مَعْنَى المَرَضِ فِي الآيَةِ؟
مَاذَا اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي ذَلِكَ؟
مَا وَجْهُ الإِعْجَازِ الْقُرْآنِيِّ فِي الآيَةِ؟
هدف سلوكي: إلتزام الطَّاعَةَ وَتَجَنَّب الْمَعَاصِيَ لتكون مِنَ النَّاجِينَ.
الآيات:
قال تعالى: ﴿كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاليْلِ إِذَ اَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَي اَ۬لْكُبَرِ (35) نَذِيراٗ لِّلْبَشَرِ (36) لِمَن شَآءَ مِنكُمُۥٓ أَنْ يَّتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَۖ (37) كُلُّ نَفْسِۢ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) اِلَّآ أَصْحَٰبَ اَ۬لْيَمِينِۖ (39) فِے جَنَّٰتٖ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ اِ۬لْمُجْرِمِينَ (40) مَا سَلَكَكُمْ فِے سَقَرَۖ (41) قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ اَ۬لْمُصَلِّينَ (42) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ اُ۬لْمِسْكِينَ (43) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ اَ۬لْخَآئِضِينَ (44) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ اِ۬لدِّينِ (45) حَتَّيٰٓ أَت۪يٰنَا اَ۬لْيَقِينُۖ (46) فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَٰعَةُ اُ۬لشَّٰفِعِينَۖ (47)﴾
تمهيد:
أَقْسَمَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ سَقَرَ حَقٌّ وَأَنَّهَا لِإِحْدَى الكُبَرِ إِنْذَارًا لِلبَشَرِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَسْبَابَ دُخُولِهَا، وَأَنَّ مَنْ وَجَبَتْ لَهُ لَا أَحَدَ يَنْفَعُهُ بِشَفَاعَتِهِ.
مضمون (الآيات: 32-37): إِقْسَامُ اللّهِ تَعَالَى بِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ عَلَى أَنَّ سَقَرَ حَقٌّ
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنْكَارَ الْمُشْرِكِينَ لِعَذَاب ِسَقَرَ وَاسْتِهْزَاءَهُمْ بِخَزَنَتِهَا؛ أَقْسَمَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّهَا حَقٌّ.
قَوله تَعَالَى: ﴿كَلَّا وَالْقَمَرِ﴾ (32)
شرح مفردات الآية: ﴿كَلَّا﴾ اسْتِفْتَاحٌ بِمَعْنَى أَلَا.
تفسير الآية: أَيْ: وَأُقْسِمُ بِالْقَمَرِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَاليْلِ إِذَ اَدْبَرَ﴾ (33)
تفسير الآية: أَيْ: ﴿إِذَ﴾ بِسُكُونِ ذَالِ (إذْ) بَعْدَهَا هَمْزَةٌ، أَيْ: مَضَى، وَفِي قِرَاءَةٍ «إِذَا دَبَرَ» بِوَزْنِ ضَرَبَ، أَيْ: جَاءَ بَعْدَ النَّهَارِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ﴾ (34)
تفسير الآية: أَيْ: ظَهَرَ.
قَوله تَعَالَى: ﴿إِنَّهَا لَإِحْدَي اَ۬لْكُبَرِ﴾ (35)
تفسير الآية: أَيْ: جَوَابُ الْقَسَمِ، أَيْ: إِنَّ سَقَرَ لَإِحْدَى الْبَلَايَا الْعِظَامِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿نَذِيراٗ لِّلْبَشَرِ﴾ (36)
الإعراب: ٗ لِّلْبَشَرِ: وَهُوَحَالٌ مِنْ ﴿إحْدَى﴾، وَذُكِّرَ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْعَذَابِ.
تفسير الآية: أَيْ: إِنْذَارًا لَهُمْ.
قَوله تَعَالَى: ﴿لِمَن شَآءَ مِنكُمُۥٓ أَنْ يَّتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَۖ﴾(37)
الإعراب: ﴿لِمَن شَآءَ مِنكُمُۥٓ﴾ بَدَلٌ مِنَ الْبَشَرِ.
تفسير الآية: أَيْ: لِمَن شَآءَ مِنكُمُۥٓ أَنْ يَّتَقَدَّمَ إلَى الْخَيْرِ أَوِ الْجَنَّةِ بِالْإِيمَـانِ، أَوْ يَتَأَخَّرَۖ إلَى الشَّرِّ أَوِ النَّارِ بِالْكُفْرِ، وَهَذَا وَعِيدٌ لِمَنِ اخْتَارَ الشَّرَّ وَالْكُفْرَ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29].
مضمون (الآيات: 38-47): مَصِيرُ الْإِنْسَان فِـي الْآخِرَةِ رَهِينٌ بِعَمَلِهِ فِـي الدُّنْيَا
بَيَّنَ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ مَصِيرَ كُلِّ إِنْسَانٍ فِي الْآخِرَةِ مَرْهُونٌ بِمَا كَسَبَ مِنَ الْأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا.
قَوله تَعَالَى: ﴿كُلُّ نَفْسِۢ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ (38)
تفسير الآية: أَيْ: كُلُّ نَفْسٍ مَرْهُونَةٌ مَأْخُوذَةٌ بِعَمَلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿اِلَّآ أَصْحَٰبَ اَ۬لْيَمِينِۖ﴾ (39)
تفسير الآية: وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ فَنَاجُونَ كَائِنُونَ.
قَوله تَعَالَى: ﴿فِے جَنَّٰتٖ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ اِ۬لْمُجْرِمِينَ﴾ (40)
تفسير الآية: أَيْ: يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً عن المجرمين وَحَالِهِمْ،
قَوله تَعَالَى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِے سَقَرَۖ﴾ (41)
تفسير الآية: أَيْ: يَقُولُونَ لَهُمْ بَعْد إِخْرَاجِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ: مَا أَدْخَلَكُمْ فِي سَقَرَ؟ وَالاِسْتِفْهَامُ تَوْبِيخِيٌّ يُفِيدُ التَّعَجُّبَ مِنْ حَالِهِمْ.
وَقَدْ أَجَابُوا بِأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أُمُورٌ:
أَوَّلُهَا: ﴿قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ اَ۬لْمُصَلِّينَ﴾ (42)
ثَانِيهَا: ﴿وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ اُ۬لْمِسْكِينَ﴾ (43)
ثَالِثُهَا: ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ اَ۬لْخَآئِضِينَ﴾ (44)
رَابِعُهَا: ﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ اِ۬لدِّينِ﴾ (45)
قَوله تَعَالَى: ﴿قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ اَ۬لْمُصَلِّينَ﴾ (42)
تفسير الآية: أَيْ: لَمْ نَكُنْ نُصَلِّي الصَّلَاةَ الْوَاجِبَةَ وَلَا نَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ اُ۬لْمِسْكِينَ﴾ (43)
تفسير الآية: أَيْ: لَمْ نَكُنْ نُعْطِي مَا يَجِبُ عَلَيْنَا مِنْ زَكَاةٍ وَنَحْوِهَا.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ اَ۬لْخَآئِضِينَ﴾ (44)
شرح مفردات الآية: ﴿نَخُوضُ﴾: نَلْهُو بِالْحَدِيثِ فِي الْبَاطِلِ.
تفسير الآية: أَيْ: وَكُنَّا نَخُوضُ فِي الْبَاطِلِ مَعَ اَ۬لْخَآئِضِينَ وَمِنْ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي الْقُرْآنِ: ﴿إِنْ هَٰذَآ إِلَّا قَوْلُ اُ۬لْبَشَرِۖ﴾ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِعَدَدِ الْمَلَائِكَةِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَبَاطِيلِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ اِ۬لدِّينِ﴾ (45)
تفسير الآية: أَيْ: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَقَدْ أَخَّرَهُ مَعَ أَنَّهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ لِتَعْظِيمِهِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿حَتَّيٰٓ أَت۪يٰنَا اَ۬لْيَقِينُۖ﴾ (46)
تفسير الآية: أَيْ: حَتَّى جَاءَنَا الْمَوْتُ، وَهِيَ غَايَةٌ فِي الأُمُورِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا فِي دُخُولِهِمْ سَقَرَ.
قَوله تَعَالَى: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَٰعَةُ اُ۬لشَّٰفِعِينَۖ﴾ (47)
تفسير الآية: أَيْ: فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَٰعَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَالْمَعْنَى: لَا شَفَاعَةَ لَهُمْ.
ما يستفاد من هذه الآية: أَنَّهُ لَا شَفَاعَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَنْ مَاتَ عَلَى الشِّرْكِ.
وَمِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَأْتِي:
أَنَّ مَصِيرَ الْإِنْسَانِ فِي الْآخِرَةِ مُرْتَبِطٌ بِأَفْعَالِهِ عَقِيدَةً وَعِبَادَةً وَمُعَامَلَةً.
أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ، وَمَنْعَ الزَّكَاةِ، وَالخَوْضَ فِي الْبَاطِلِ، وَعَدَمَ التَّصْدِيقِ بِالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ؛ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ دُخُولِ جَهَنَّمَ.
أَتَخَـلَّــقُ وَأَتَـزَكَّــى:
التَّضَامُنُ وَالتَّكَافُلُ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ وَالْفَوْزِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِذَلِكَ فَمِنْ وَاجِبِي: إِطْعَامُ الْمَسَاكِينِ واليَتَامَـى، ومُسَاعَـدَةُ المُحْتَاجِيـنَ، قَالَ اللهُ تَعَالَـى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ [الإنسان: 8]، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ المُؤْمِنْينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ وَالحُمَّى» [صحيح مسلم].
التقويم:
عَلَى مَاذَا أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى فِي بِدَايَةِ الْآيَاتِ؟ حدد الْمُقْسَمَ بِهِ وَالْمُقْسَمَ عَلَيْهِ فِي الْآيَاتِ.
استخرج أَحْوَالَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَأَحْوَالَ الْمُجْرِمِينَ فِي الْآخِرَةِ.
استخلص أَسْبَابَ دُخُولِ الْمُجْرِمِينَ سَقَرَ.
لِمَنْ أَعَدَّ اللهُ نَارَ جَهَنَّمَ؟
كَيْفَ يَنْجُو الْإِنْسَانُ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ لِيَكُونَ مِنَ الْفَائِزِينَ؟
استخلص مَا يُحُدِّدُ مَصِيرَ الْإِنْسَانِ فِي الْآخِرَةِ.
الاستثمار:
«الإِسْلَامُ دِينُ عِبَادَةٍ وَمُعَامَلَةٍ»
انْطِلاَقاً مِنْ هَذِه الْقَوْلَةِ أَكْتُبُ إِنْشَاءً أَتَحَدَّثُ فِيهِ عَنْ مَظَاهِرِ التَّعَاوُنِ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلاَةِ وَالتَّضَامُنِ بَيْنَ التَّلاَمِيذِ فِي مَدْرَسَتِي، مُوَظِّفاً مَهَارَاتِي فِي التَّعْبِيرِ وَالإِنْشَاءِ وَمُكْتَسَبَاتِي فِي التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ.
هدف سلوكي: الاتعاظ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالإلتزام بتَقْوَى اللَّهِ وَطَاعَته.
الآيات:
قال تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ اِ۬لتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (48) كَأَنَّهُمْ حُمُرٞ مُّسْتَنفَرَةٞ (49) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةِۢۖ (50) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ اُ۪مْرِےٕٖ مِّنْهُمُۥٓ أَنْ يُّوت۪يٰ صُحُفاٗ مُّنَشَّرَةٗۖ (51) كَلَّاۖ بَل لَّا يَخَافُونَ اَ۬لَاخِرَةَۖ (52) كَلَّآ إِنَّهُۥ تَذْكِرَةٞۖ (53) فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُۥۖ (54) وَمَا تَذْكُرُونَ إِلَّآ أَنْ يَّشَآءَ اَ۬للَّهُۖ هُوَ أَهْلُ اُ۬لتَّقْو۪يٰ وَأَهْلُ اُ۬لْمَغْفِرَةِۖ (55)﴾
تمهيد:
مَا زَالَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ تَتَحَدَّثُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَمَوْقِفِهِمْ مِنَ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ حَيْثُ قَابَلُوهَا بِالْإِعْرَاضِ وَاشْتِرَاطِ الشَّرُوطِ؛ لأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثَ، فَلَا يَتَّعِظُونَ بِالْمَوَاعِظُ، فَحَادُوا عَنْ طَرِيقِ الْهِدَايَةِ وَسَلَكُوا سَبِيلَ الْغِوَايَةِ، فَجَانَبُوا تَقْوَى اللَّهِ وَحُرَمُوا مَغْفِرَتَهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفَرَةِ.
مضمون (الآيات: 48-52): إِعْرَاضُ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْقُرْآنِ وَأَسْبَابُ ذَلِكَ
بَعْدَ ذِكْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مُوجِبَاتِ الاِتِّعَاظِ بِالْقُرْآن وَالاسْتِجَابَةِ لِأَحْكَامِهِ، جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ لِتُؤَكِّدَ إصْرَارَ مُشْرِكِي مَكَّةَ مَعَ ذَلِكَ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الْقُرْآنِ وَالنفور مِنْهُ، وَتُبَيِّنَ أَسْبَابَ ذَلِكَ.
قَوله تَعَالَى: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ اِ۬لتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ (48)
الإعراب: قوله: ﴿مَا﴾ مُبْتَدَأ، و﴿لَهُمْ﴾ جَارٌ وَمَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ خَبَرُهُ، وَقَوْلُهُ: ﴿عَنِ اِ۬لتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي ﴿لَهُمْ﴾.
شرح مفردات الآية: ﴿التَّذْكِرَة﴾: الاتِّعَاظِ.
تفسير الآية: وَالْمَعْنَى: أَيُّ شـيء حَصَلَ لَهُمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الاِتعَاظِ؟ وَإِعْرَاضُهُمْ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ جُحُودِهِمْ وَإِنْكَارِهِمْ لَهُ، وَمِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ.
س: صف حَالَ مُشْرِكِي مَكَّةَ مَعَ الْقُرْآنِ وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ مَوَاعِظَ.
قَوله تَعَالَى: ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٞ مُّسْتَنفَرَةٞ﴾ (49)
تفسير الآية: لقَدْ شَبَّهَهُمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ بِالْحُمُرِ النَّافِرَةِ، أَيْ: أَنَّ حَالَتَهُمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الاِتِّعَاظِ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ كَحَالَةِ حُمُرٍ وَحْشِيَّةٍ هَرَبَتْ أَشَدَّ الْهَرَبَ.
قَوله تَعَالَى: ﴿فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةِۢ﴾ (50)
شرح مفردات الآية: ﴿قَسْوَرَةِۢ﴾: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَسَدِ.
تفسير الآية: أَيْ: هَرَبَتْ مِنْ أَسَدٍ.
قَوله تَعَالَى: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ اُ۪مْرِےٕٖ مِّنْهُمُۥٓ أَنْ يُّوت۪يٰ صُحُفاٗ مُّنَشَّرَةٗۖ﴾ (51)
سَبَبُ نُزُولٍ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ أَبَا جَهْلِ وَجَمَاعَةً مِنْ قُرَيْشٍ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، لَنْ نُؤْمِنَ بِكَ حَتَّى تَأْتِيَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ عُنْوَانُهُ: مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَى فُلَانِ ابْنِ فُلَانِ، وَنُؤْمِنُ فِيهِ بِاتِّبَاعِكَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا، ليُصْبِحَن عِنْدَ رَأْسٌ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا صَحِيفَة فِيهَا بَرَاءَتُهُ مِنَ النَّارِ [حاشية الصاوي على الجلالين].
تفسير الآية: في هذه الآية بيان لبَعْضَ أَسْبَابٍ إِعْرَاضِهِم، والمعنى: بَلْ يُرِيدُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: ﴿وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ﴾ [الإسراء: 93].
س: مَاذَا طَلَبَ الْمُشْرِكُونَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيُؤْمِنُوا بِهِ؟
س: مَا سَبَبُ كُفْرِهِمْ وَجُحُودِهِمْ؟
قَوله تَعَالَى: ﴿كَلَّاۖ بَل لَّا يَخَافُونَ اَ۬لَاخِرَةَۖ﴾ (52).
تفسير الآية: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ ﴿كَلَّاۖ﴾ رَدْعٌ لَهُمْ عَمَّا أَرَادُوهُ مِنِ اقتِرَاحِ الْآيَاتِ، بَلْ لَا يَخَافُونَ عَذَابَ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ خَافُوا النَّارَ لَمَا فَتَرَحُوا الْآيَاتِ.
يَقُولُ الطَّبَرِي: «يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرَهُ: مَا الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ مِنْ أنهم لَوْ أُوتُوا صُحُفًا مُنَشَّرَةً صَدَّقُوا ﴿بَل لَّا يَخَافُونَ اَ۬لَاخِرَةَۖ﴾، يَقُولُ: لَكِنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ عِقَابَ اللهِ، وَلَا يُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ؛ فَذَلِكَ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ تَذْكِرَةِ اللَّهِ، وَهَوَّنَ عَلَيْهِمْ تَرْكَ الْاِسْتِمَاعِ لِوَحْيِهِ وَتَنْزِيلِهِ» [تفسير الطبري].
ما يستفاد من الآية: مِنْ أَسْبَابِ انْحِرَافِ الْإِنْسَانِ عَدَمُ إِيمَانِهِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ.
مضمون (الآيات: 53-55): الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كِتَابُ عِظَةِ وَاعْتِبَار
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَدَمَ اتَّعَاظِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنْ مَوَاعِظُ، بَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ تَذْكِرَةٌ لِمَنْ يَتَّعِظُ.
قَوله تَعَالَى: ﴿كَلَّآ إِنَّهُۥ تَذْكِرَةٞۖ﴾ (53)
تفسير الآية: قوله تَعَالَى: ﴿كَلَا﴾ اسْتِفْتَاحَ، أَيْ: إن الْقُرْآنَ عِظَةً.
ما يستفاد من الآية: عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَّعِظَ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ المَوْعِظَةِ الْكُبْرَى لِكُلِّ قَلْبٍ حَيٍّ.
قَوله تَعَالَى: ﴿فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُۥۖ﴾ (54)
تفسير الآية: أَيْ: فَمَن شَاءَ قَرَأَهُ فَاتَّعَظَ بِهِ.
قَوله تَعَالَى: ﴿وَمَا تَذْكُرُونَ إِلَّآ أَنْ يَّشَآءَ اَ۬للَّهُۖ هُوَ أَهْلُ اُ۬لتَّقْو۪يٰ وَأَهْلُ اُ۬لْمَغْفِرَةِۖ﴾ (55)
القراءات: ﴿وَمَا تَذْكُرُونَ﴾ بِالتّاءِ وَالْيَاءِ.
تفسير الآية: رَدَّ اللهُ تَعَالَى الْمَشِيئَةَ إِلَى نَفْسِهِ، أَيْ: لَا يَذْكُرُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَّعِظُونَ بِهِ، إِلَّا فِي حَالٍ أَرَادَ اللَّهُ حُصُولَ ذلِكَ مِنْهُمْ. وهُوَ أَهْلٌ بِأَنْ يُتَّقَى، وَأَهْلٌ بِأَنْ يَغْفِرَ لِمَنِ اتَّقَاهُ.
قَالَ فَخَرُ الدِّينِ الرَّازِي: «أَيْ: هُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يَتَّقِيَهُ عِبَادُهُ وَيَخَافُوا عِقَابَهُ فَيُؤْمِنُوا وَيُطِيعُوا، وَحَقِيقٌ بأَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ مَا سَلَفَ مِنْ كُفْرِهِمْ إِذَا آمَنُوا وَأَطَاعُوا» [مفاتيح الغيب].
ما يستفاد من الآية:
اللهُ جَلَّ جَلَالُهُ أَهْلٌ لِلتَّقْوَى لِمَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ نِعَمِ.
اللَّهُ تَعَالَى أَهْلٌ لِمَغْفِرَةِ ذُنُوبِ مَنْ تَابَ مِنْ عِبَادِهِ.
أَتَخَلْقُ وَأَتَزَكَّى:
الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ نُورُ للقَلْبِ وَتَذْكِرَةٌ لِلمسلم بِغَايَةِ وُجُودِه، وعليه أن يتَدَبَّرُه، فَهُوَ يُذَكِّرُه: بِاللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ الحُسْنَى وَصِفَاتِهِ العُلَى، وبِأَنْبِيَاءِ اللَّهُ وَرُسُلِهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وبِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالحِسَابِ، وبِأَحْكَامِ اللَّهُ تَعَالَى وَحُقُوقِهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ.
التقويم:
لِمَاذَا لَا يَنْتَفِعُ الْمُشْرِكُونَ بِالْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنْ مَوَاعِظَ؟ وَمَاذَا يَقْتَضِي الاتِّعَاظُ بِهِ؟
كَيْفَ صَوّرِ اللَّهُ تَعَالَى فِرَارَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ؟
وضح سَبَبَ عَدَمِ إِتِّعَاظِ الْمُشْرِكِينَ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
الاستثمار:
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ فَقَالَ مُعَاذٌ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ لَهُ: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقَّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ؟» فَقَالَ مُعَاذ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ: «حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ» [صحيح البخاري].
مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟
مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟
هدف سلوكي: الاستعداد لِهَذَا الْيَوْمِ بِالاِسْتِجَابَةِ لِلهِ وَلِرَسُولِه ِصلى الله عليه وسلم، والاهتداء بهذه الآيات لتقويم السلوك والتصرفات.
التعريف بالسورة:
سُورَةُ الْقِيَامَةِ مَكِّيَّةٌ، وَآيَاتُهَا تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ (39).
الآيات:
قال الله تعالى: ﴿لَآ أُقْسِمُ بِيَوْمِ اِ۬لْقِيَٰمَةِ (1) وَلَآ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اِ۬للَّوَّامَةِۖ (2) أَيَحْسِبُ اُ۬لِانسَٰنُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُۥ (3) بَل۪يٰۖ قَٰدِرِينَ عَلَيٰٓ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُۥۖ (4) بَلْ يُرِيدُ اُ۬لِانسَٰنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُۥۖ (5) يَسْـَٔلُ أَيَّانَ يَوْمُ اُ۬لْقِيَٰمَةِۖ (6) فَإِذَا بَرَقَ اَ۬لْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ اَ۬لْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ اَ۬لشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ اُ۬لِانسَٰنُ يَوْمَئِذٍ اَيْنَ اَ۬لْمَفَرُّۖ (10) كَلَّا لَا وَزَرَۖ (11) إِلَيٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اِ۬لْمُسْتَقَرُّۖ (12) ﴾ [الواقعة].
المعنى الإجمالي للآيات:
تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ إِقْسَامِ اللهِ تَعَالَى عَلَى بَعْثِ النَّاسِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ تَأْكِيدَ عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْبَعْثِ وَاقِعٌ لَا شَكَّ فِيهِ، مُسْتَدِلًّا عَلَى ذَلِكَ بِقُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ أَجْزَاءِ الْإِنْسَانِ الصَّغِيرَةِ فَكَيْفَ بِالْكَبِيرَةِ. مُبَيِّناً عَزَّ وَجَلَّ بَعْضَ عَلَامَاتِ هَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ؛ ومأكدا عَجْزَ الْإِنْسَانِ عَنِ الْفِرَارِ حِينَئِذٍ. تَنْبِيهًا لِلْإِنْسَانِ لِيَسْتَعِدَّ لَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
مضمون الآيات (1-6): بَعْثُ النَّاسِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ
لَمَّا ذَكَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ أَحْوَالَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ، أَكَّدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وُقُوعَ الْبَعْثِ بِأَدِلَّةٍ قَاطِعَةٍ.
قال تعالى: ﴿لَآ أُقْسِمُ بِيَوْمِ اِ۬لْقِيَٰمَةِ(1) وَلَآ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اِ۬للَّوَّامَةِۖ (2)﴾
تفسير الآيتان: ﴿لَآ﴾ صِلَةٌ في الموضعين، وَهِيَ لِتَأْكِيدِ الْقَسَمِ. وَجَوَابُ الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَتُبْعَثُنَّ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ﴿أَيَحْسِبُ اُ۬لِانسَٰنُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُۥ(3)﴾. والنفس اللوامة هِيَ الَّتِي تَلُومُ نَفْسَهَا، وَإِنْ اجْتَهَدَتْ فِي الْإِحْسَانِ.
ما يستفاد من الآية: مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ وَإِصْلَاحُ أَحْوَالِهَا تَوْبَةٌ وَاسْتِقَامَةٌ وَنَجَاةٌ.
سؤال: ما الْغَايَةَ مِنْ إِقْسَامِ اللِه تَعَالَى فِي بِدَايَةِ السُّورَةِ؟
س: بِمَ أَكَّدَ اللهُ سُبْحَانَهُ وُقُوعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟
س: حَدِّدُ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ فِي الْآيَاتِ؟
قال تعالى: ﴿أَيَحْسِبُ اُ۬لِانسَٰنُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُۥ(3)﴾
شرح مفردات الآية: اللام في﴿اُ۬لِانسَٰنُ﴾: لام تعريف الجنس الشامل، المراد به الاستغراق؛ ليعم جميع اسم جنس الإنسان، "وَهَذِهِ أَقْوَالٌ كَانَتْ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَعَلَيْهَا هُوَ الرَّدُّ"، (قَالَه ابْنُ عَطِيَّةَ: في المحرر الوجيز).
سبب النزول: وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ «نَزَلَتْ فِي عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: حَدِّثْنِي عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَتَى يَكُونُ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ أَمْرُهَا وَحَالُهَا؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فَقَالَ: لَوْ عَايَنْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَمْ أُصَدِّقْكَ يَا مُحَمَّدُ وَلَمْ أُؤْمِنْ بِهِ، أَوَ يَجْمَعُ اللهُ هَذِهِ الْعِظَامَ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ» [أسباب النزول: للواحدي].
تفسير الآية: وَالمَعْنَى: أَيَظُنُّ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ أَنَّا غَيْرُ قَادِرِينَ عَلَى جَمْعِ عِظَامِهِ لِلْبَعْثِ وَالْإِحْيَاءِ؟ ثُمَّ أَجَابَ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿بَل۪يٰۖ قَٰدِرِينَ عَلَيٰٓ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُۥۖ(4)﴾.
قال تعالى: ﴿بَل۪يٰۖ قَٰدِرِينَ عَلَيٰٓ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُۥۖ(4)﴾
شرح مفردات الآية: ﴿بَنَانَهُۥ﴾: أَصَابِعَهُ.
الإعراب:
﴿بَل۪يٰۖ﴾: هُوَ جَوَابٌ عَلَى النَّفْيِ.
﴿قَٰدِرِينَ﴾: نُصِبَتْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: قَادِرِينَ أَنْ نَجْمَعَهَا.
تفسير الآية: وَمَعَ جَمْعِهَا قَادِرِينَ على أن نُعِيدُ عِظَامَ أصابعه كَمَا كَانَتْ مَعَ صِغَرِهَا، فَكَيْفَ بِالْكَبِيرَةِ!
ما يستفاد من الآية: قُدْرَةُ اللهِ العَظِيمَةِ عَلَى إِعَادَةِ أَجْزَاءِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ فَنَائِهَا.
س: بين دَلَائِلَ قُدْرَةِ الله تَعَالَى عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ الوَارِدَة فِي الْآيَاتِ.
قال تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ اُ۬لِانسَٰنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُۥۖ(5)﴾
الإعراب:
اللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِيَفْجُرَ﴾ زَائِدَةٌ، وَنُصِبَ الْفِعْلُ بِأَنْ مُقَدَّرَةً، وَالتَّقْدِيرُ: (أَنْ يَفْجُرَ) أَيْ: أَنْ يُكَذِّبَ.
تفسير الآية: إن الإنسان يريد أن يكذب أمامه أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَة، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ﴿يَسْـَٔلُ أَيَّانَ يَوْمُ اُ۬لْقِيَٰمَةِۖ(6)﴾.
قال تعالى: ﴿يَسْـَٔلُ أَيَّانَ يَوْمُ اُ۬لْقِيَٰمَةِۖ(6)﴾
تفسير الآية: أَيْ: يَسْأَلُ مَتَى يوم القيامة؟ سُؤَالَ اسْتِهْزَاءٍ وَتَكْذِيبٍ، اسْتِبْعَادًا لِهَذَا الْيَوْمِ، وَإِنْكَارًا لِوُقُوعِهِ.
مضمون الآيات (7-12): عَلَامَاتُ يَوْمِ الْبَعْثِ
بَعْدَ إِقْسَامِ اللهِ تَعَالَى عَلَى بَعْثِ النَّاسِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَبَيَانِهِ قُدْرَتَهُ عَلَى ذَلِكَ، ذَكَرَ عَلَامَاتِ هَذَا الْيَوْمِ.
قال تعالى: ﴿فَإِذَا بَرَقَ اَ۬لْبَصَرُ (7)﴾
شرح مفردات الآية: ﴿بَرَقَ اَ۬لْبَصَرُ﴾: دَهِشَ وَتَحَيَّرَ.
القراءات: ﴿بَرَقَ﴾ بِكَسْرِ رَاءِ «بَرِقَ» وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ.
تفسير الآية: أَيْ: دَهِشَ وَتَحَيَّرَ لِمَا رَأَى مِمَّا كَانَ يُكَذِّبُهُ.
س: وَمَا هُوَ حَالُ الْإِنْسَانِ حِينَئِذٍ؟
قال تعالى: ﴿وَخَسَفَ اَ۬لْقَمَرُ(8)﴾
تفسير الآية: أي: القمر أَظْلَمَ وَذَهَبَ ضَوْؤُهُ.
قال تعالى: ﴿وَجُمِعَ اَ۬لشَّمْسُ وَالْقَمَرُ(9)﴾
تفسير الآية: أي: الشمس والقمر طَلَعَا مِنَ الْمَغْرِبِ، أَوْ ذَهَبَ ضَوْؤُهُمَا، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قال تعالى:﴿يَقُولُ اُ۬لِانسَٰنُ يَوْمَئِذٍ اَيْنَ اَ۬لْمَفَرُّۖ(10)﴾
تفسير الآية: أَيْ: يقول الإنسان يوم القيامة: أَيْنَ الْفِرَارُ؟
قال تعالى: ﴿كَلَّا لَا وَزَرَۖ (11)﴾
شرح مفردات الآية: ﴿لَا وَزَرَۖ﴾: لَا مَلْجَأ.
تفسير الآية:﴿كَلَّا﴾: رَدْعٌ عَنْ طَلَبِ الْفِرَارِ، أَيْ: لَا مَلْجَأَ يُتَحَصَّنُ بِهِ.
قال تعالى: ﴿إِلَيٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اِ۬لْمُسْتَقَرُّۖ (12)﴾
تفسير الآية: أي: إلى ربك يوم القيامة مُسْتَقَرّ الْخَلَائِق فَيُحَاسَبُونَ وَيُجَازَوْنَ.
ما يستفاد من الآيات(7-12): شِدَّةُ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَعَجْزُ الْإِنْسَانِ عَنِ الْفِرَارِ حِينَئِذٍ.
س: مَا هِيَ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ الوَارِدَة فِي الْآيَاتِ؟
أَتَخَـلَّــقُ وَأَتَـزَكَّــى:
س: وضح كَيْفَ نهْتَدِي بِهَذِهِ الْآيَاتِ لِتَقْوِيمِ سُلُوكِنا وَتَصَرُّفَاتِنا لنسْعَدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
ج: إن صاحب النفس اللوامة: يحاسب نفسه عند التقصير، ويعترف بذنوبه وأخطائه، ويستغفر الله عز وجل، ويجدد التوبة دائما ويجتهد في فعل الطاعات.
الاستثمار:
رَوَى الْإِمَامُ مَالِكٍ فِي مُوَطَّئِهِ أَنَّهُ بَلَغَهُ: «أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَالْبِرُّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ. وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَالْفُجُورُ يَهْدِي إِلَى النَّارِ. أَلاَ تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: صَدَقَ وَبَرَّ، وَكَذَبَ وَفَجَرَ» [الموطأ].
قَالَ الْبَاجِي رَحِمَهُ الله: «وأَصْلُ الْفُجُورِ الْمَيْلُ عَنِ الْقَصْدِ قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿بَلْ يُرِيدُ اُ۬لِانسَٰنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُۥۖ (5)﴾، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَعْنَاهُ أَنْ يَذْهَبَ فِي فُجُورِهِ قَدَمًا قَدَمًا، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَدِّمُ الذَّنْبَ وَيُؤَخِّرُ التَّوْبَةَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يُكَذِّبُ بِمَا أَمَامَهُ مِنَ الْقِيَامِ وَالْحِسَابِ، يُقَالُ لِلْكَاذِبِ فَاجِرٌ كَذَّابٌ وَلِلْمُكَذِّبِ بِالْحَقِّ فَاجِرٌ، وَقَوْلُهُ: وَالْفُجُورُ يَهْدِي إلَى النَّارِ، مَعْنَاهُ يَدْعُو إلَى سَبِيلِهَا وَيُوصِلُ إلَيْهَا». [المنتقى شرح الموطأ].
هدف سلوكي: الاقتداء بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي امْتِثَالِهِ لِتَوْجِيهَاتِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
الآيات:
قال الله تعالى:﴿يُنَبَّؤُاْ اُ۬لِانسَٰنُ يَوْمَئِذِۢ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَۖ (13) بَلِ اِ۬لِانسَٰنُ عَلَيٰ نَفْسِهِۦ بَصِيرَةٞ (14) وَلَوَ اَلْق۪يٰ مَعَاذِيرَهُۥۖ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِۦٓۖ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُۥ وَقُرْءَانَهُۥۖ (16) فَإِذَا قَرَأْنَٰهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُۥ (17) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُۥۖ (18)﴾
المعنى الإجمالي للآيات:
بَيَّنَ اللهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْإِنْسَانَ سَيُجَازَى عَلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ أَعْمَالٍ فِي الدُّنْيَا، وذَكَرَ مَا سَيُحَاسَبُ عَلَيْهِ وَصِفَةَ حِسابِهِ، ثُمَّ أَرْشَدَ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُسْلُوبِ تَلَقِّي الْوَحْيِ القرآني مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَوَعَدَهُ بِتَيْسِيرِ حِفْظِهِ وَاِسْتِيعَابِ مَعَانِيهِ.
مضمون الآيات (13-15): جَزَاءُ الْإِنْسَانِ يَوْمَ الْبَعْثِ
بَيَّنَ اللهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْإِنْسَانَ سَيُجَازَى عَلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ أَعْمَالٍ فِي الدُّنْيَا.
قال تعالى: ﴿يُنَبَّؤُاْ اُ۬لِانسَٰنُ يَوْمَئِذِۢ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَۖ(13) ﴾
تفسير الآية: أَيْ: يُخْبَرُ الْإِنْسَان يوم القيامة بِأَوَّلِ عَمَلِهِ وَآخِرِهِ فِي الدُّنْيَا.
قال تعالى: بَلِ اِ۬لِانسَٰنُ عَلَيٰ نَفْسِهِۦ بَصِيرَةٞ(14) ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿بَصِيرَةٞ﴾: شَاهِدٌ عَلَى جَوَارِحِهِ، وَالْهَاءُ فِي ﴿بَصِيرَةٞ﴾ لِلْمُبَالَغَةِ.
تفسير الآية: أَيْ: الْإِنْسَان على نفسه شَاهِدٌ تَنْطِقُ جَوَارِحُهُ بِعَمَلِهِ. فَلاَ بُدَّ مِنْ جَزَائِهِ
قال تعالى: ﴿وَلَوَ اَلْق۪يٰ مَعَاذِيرَهُۥۖ(15) ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿مَعَاذِيرَهُۥۖ﴾: جَمْعُ مَعْذِرَةٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، أي حُجَجَهُ وَأَعْذَارَهُ.
تفسير الآية: أَيْ: وَلَوْ جَاءَ بِكُلِّ مَعْذِرَةٍ مَا قُبِلَتْ مِنْهُ.
ما يستفاد من الآيات (13-15):
بَيَانُ مَسْؤُولِيَّةِ الْإِنْسَانِ عَلَى أَعْمَالِهِ، وَأَنَّ الأَعْذَارَ لَا تَنْفَعُ فِي إِسْقَاطِ الْجَزَاءِ.
حَثُّ الْإِنْسَانِ عَلَى الْتِزَامِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
س: عَلَى مَاذَا سَيُجَازَى الْإِنْسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟
س: ما الْأَعْمَالَ الَّتِي سَيُحَاسَبُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
س: كَيْفَ عَبَّرَتِ الْآيَاتُ عَنْ شُمُولِ الْجَزَاءِ لِجَمِيعِ أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ؟
مضمون الآيات (16-18): آدَابُ تَلَقِّي الْقُرْآنِ الكَرِيمِ
قَالَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مَوَجِّهًا إِيَّاهُ إِلَى أُسْلُوبِ تَلَقِّي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قال تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِۦٓۖ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُۥ وَقُرْءَانَهُۥۖ(16)﴾
شرح مفردات الآية: ﴿لِتَعْجَلَ بِهِ﴾: لِتَأْخُذَهُ عَلَى عَجَلَةٍ.
تفسير الآية: أَيْ: لَا تُحَرِّكْ لِسَانَكَ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ قَبْلَ فَرَاغِ جِبْرِيلَ مِنْهُ، خَوْفَ أَنْ يَنْفَلِتَ مِنْكَ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ فِي صَدْرِكَ وَقِرَاءَتَكَ إِيَّاهُ، أَيْ: جَرَيَانَهُ عَلَى لِسَانِكَ.
قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَٰهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُۥ (17) ﴾
تفسير الآية: أَيْ: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَٰهُ﴾ عَلَيْكَ بِقِرَاءَةِ جِبْرِيلَ فاِسْتَمِعْ قِرَاءَتَهُ، وَاصَلَتِ الْآيَاتُ تَوْجِيهَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ يَقْرَأُ بَعْدَهُ.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُۥۖ (18)﴾
شرح مفردات الآية: ﴿ بَيَانَهُۥۖ﴾: تَوْضِيحَ أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ.
الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلهَا: أَنَّ تِلْكَ تَضَمَّنَتِ الْإِعْرَاضَ عَنْ آيَاتِ اللهِ، وَهَذِهِ تَضَمَّنَتِ الْمُبَادَرَةَ إلَيْهَا بِحِفْظِهَا.
تفسير الآية: أَيْ: إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ بِتَفْهِيمِكَ مَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ مِنْ مَعَانِيهِ.
ما يستفاد من الآيات (16-18):
حُسْنُ التَّلَقِّي يُمَكِّنُ الْمُتَعَلِّمَ مِنَ الْمَهَارَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، قِرَاءَةً وَحِفْظًا.
التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ سُبْحَانَهُ وَمُدَاوَمَةُ التَّعَاهُدِ يُثَبِّتُ فِي وَعْيِ الْمُتَعَلِّمِ مَا يُلْقَى عَلَيْهِ وَيُرَسِّخُ فِي ذِهْنِهِ مَا يَكْتَسِبُهُ مِنْ عِلْمٍ.
س: مَا هِيَ تَوْجِيهَاتُ اللهِ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم بِخُصُوصِ آدَابِ تَلَقِّى وتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَحِفْظِهِ وَتَعَلُّمِهِ؟
أَتَخَـلَّــقُ وَأَتَـزَكَّــى:
محاسبة الإنسان يوم القيامة على ما قدمت يداه تقتضي الالتزام بالأعمال الصالحة، وحسن تلقي القرآن وتعهده يمكننا من حفظه وتيسير فهمه والتخلق به.
س: كَيْفَ تُسْهِمُ التَّوْجِيهَاتُ الوَارِدَةُ فِي الْآيَاتِ فِي الامتثال لِقِيَمِ الْقُرْآنِ وَأَحْكَامِهِ؟
الاستثمار:
رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِۦ لِسَانَكَ﴾ [القيامة: 16]، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ» -فَقَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكَ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكُهُمَا، فَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ- فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِۦٓۖ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُۥ وَقُرْءَانَهُۥۖ﴾ [القيامة: 17]، قَالَ: جَمْعُهُ فِي صَدْرِكَ ثُمَّ تَقْرَؤُهُ، ﴿فَإِذَا قَرَأْنَٰهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُۥ﴾ [القيامة: 18]، قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَقْرَأَهُ». [صحيح البخاري].
هدف سلوكي: امتثال تَوْجِيهَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ كَيْ أَكُونَ مِنَ السُّعَدَاءِ.
الآيات:
قال الله تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ اَ۬لْعَاجِلَةَ (19) وَتَذَرُونَ اَ۬لَاخِرَةَۖ (20) وُجُوهٞ يَوْمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ (21) اِلَيٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞۖ (22) وَوُجُوهٞ يَوْمَئِذِۢ بَاسِرَةٞ (23) تَظُنُّ أَنْ يُّفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٞۖ (24)﴾ [سورة القيامة].
المعنى الإجمالي للآيات:
في هَذِهِ الْآيَاتِ الْحَدِيث عَنِ الْمُنْكِرِينَ لِيَوْمِ الدِّينِ، قَصْدَ بَيَانِ سَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بيوم البعث، وَهُوَ حُبُّ الدُّنْيَا وَإِيثَارُهَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَبَيَانِ أَحْوَالِ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
مضمون الآيات (19-20): النَّهْيُ عَنْ إِيثَارِ مَنَافِعِ الدُّنْيَا عَلَى نَعِيمِ الآخِرَةِ.
أَوْرَدَ اللهِ تَعَالَى فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ سَبَبَ إِنْكَارِ الْإِنْسَانِ الْبَعْثَ، وَهُوَ حُبُّ الدُّنْيَا وَإِيثَارُهَا عَلَى الْآخِرَةِ.
قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ اَ۬لْعَاجِلَةَ (19) ﴾
القراءات: ﴿تُحِبُّونَ﴾ وَقُرِئَتْ بِاليَاءِ يُحِبُّونَ.
تفسير الآية: ﴿كَلَّا﴾ اسْتِفْتَاحٌ بِمَعْنَى أَلَا. ومعنى الآية: أَيْ: تُحِبُّونَ الدُّنْيَا مَعَ أَنَّهَا سَرِيعَةُ الذَّهَابِ وَالزَّوَالِ.
قال تعالى: ﴿ وَتَذَرُونَ اَ۬لَاخِرَةَۖ (20) ﴾
القراءات: ﴿تَذَرُونَ﴾ وَقُرِئَتْ بِاليَاءِ يَذَرُونَ.
تفسير الآية: أَيْ: تَدَعُونَ الْآخِرَةَ فَلَا تَعْمَلُونَ لَهَا، مَعَ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ لَا تَفْنَى.
وَنَظِيرُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا﴾ [الإنسان: 27].
وَالعَاقِلُ مَنْ يُؤْثِرُ الْآخِرَةَ عَلَى الْعَاجِلَةِ، لِيَتَحَقَّقَ لَهُ الْفَوْزُ وَالنَّجَاةُ، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا* وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإسراء: 18-19].
مما يستفاد من الآيتان (19-20): تَنْبِيهُ الْإِنْسَانِ عَلَى الاِهْتِمَامِ بِالْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ.
مضمون الآيات (21-24): سُرُورُ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ وَعُبُوسُ وُجُوهِ غَيْرِهِمْ.
لَمَّا حَذَّرَ سُبْحَانَهُ مِنْ تَفْضِيلِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يَتَضَمَّنُ تَأْكِيدَ هَذَا التَّحْذِيرِ.
قال تعالى: ﴿وُجُوهٞ يَوْمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ (21) ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿نَّاضِرَةٌ﴾: مُشْتَقٌ مِنَ النَّضَارَةِ، أي: حَسَنَةٌ مُضِيئَةٌ.
تفسير الآية: أَيْ: وُجُوهٞ فِي يَوْم ِالْقِيَامَةِ حَسَنَةٌ مُضِيئَةٌ، وَالتَّنْوِينُ فِي ﴿يَوْمَئِذٖ﴾ لِلْعِوَضِ، وَالتَّقْدِيرُ: فِي يَوْمٍ إِذْ تَكُونُ الْقِيَامَةُ.
قال تعالى: ﴿اِلَيٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞۖ (22) ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿نَاظِرَةٞۖ﴾: تَنْظُرُ إِلَى رَبِّهَا.
تفسير الآية: أَيْ: يَرَوْنَ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْآخِرَةِ.
وَبَعْدَ تَنَاوُلِ الْآيَاتِ سُرُورَ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ، ذَكَرَتْ مَا يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنْ عُبُوسِ وُجُوهِ غَيْرِهِمْ.
قال تعالى: ﴿وَوُجُوهٞ يَوْمَئِذِۢ بَاسِرَةٞ (23) ﴾
تفسير الآية: أَيْ: كَالِحَةٌ شَدِيدَةُ الْعُبُوس.
قال تعالى: ﴿تَظُنُّ أَنْ يُّفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٞۖ (24)﴾
شرح مفردات الآية: ﴿فَاقِرَةٞۖ﴾: دَاهِيَةٌ عَظِيمَةٌ تَكْسِرُ فَقَارَ الظَّهْر. وَفَقَارُ الظَّهْرِ: الْعَظْمُ الْمُتَوَسِّطُ الَّذِي يَصِلُ أَعْلَى ظَهْرِ الْإِنْسَانِ بَأَسْفَلِهِ.
تفسير الآية: أَيْ: تُوقِنُ أَنْ تَنْزِلَ بِهَا دَاهِيَةٌ عَظِيمَةٌ تَكْسِرُ فَقَارَ ظَهْرِهَا.
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ* ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ* وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ* تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ [عبس: 38-41].
ما يستفاد من الآيات (21-24):
إِكْرَامُ اللهِ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِنُضْرَةِ الْوَجْهِ وَلَذَّةِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ.
حَجْبُ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ عَنْ رُؤْيَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ.
س: فَمَا هُوَ سَبَبُ إِنْكَارِ النَّاسِ الْبَعْثَ؟
س: ما سَبَبَ تَقْدِيمِ النَّاسِ حُبَّ الدُّنْيَا عَلَى حُبِّ الْآخِرَةِ؟
س: عَمَّاذَا نَهَتِ الْآيَاتُ؟
س: ما عَاقِبَةَ إِيثَارِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ؟
س: وَمَا هِيَ أَحْوَالُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟
س: ما سَبَبَ سُرُورِ الْمُؤْمِنِينَ وَعُبُوسِ غَيْرِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟
س: بِمَ يُسَرُّ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟
س: مَا السَّبِيلُ إِلَى التَّمَتُّعِ بِرُؤْيَةِ اللهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟
أَتَخَـلَّــقُ وَأَتَـزَكَّــى:
الحرِصُ عَلَى التَّوَازُنِ وَالِاعْتِدَالِ فِي الحَيَاة، والعمَلُ فِي الدُنْيَا للآخِرَة: قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص: 77]. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإسراء: 19].
الاستثمار:
ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ رُؤْيَةُ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ جَرِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ نَظَرَ إِلَى القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، قَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ، لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَصَلاَةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَافْعَلُوا» [صحيح البخاري].
مَا مَعْنَى «لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِه»؟
اسْتَنْتِجُ مِنَ النَّصِّ مَا يُفِيدُ تَحَقُّقَ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
مَا هِيَ أَسْبَابُ فَوْزِ الْمُؤْمِنِينَ بِرُؤْيَةِ رَبِّهِمْ؟
هدف سلوكي: الحرص عَلَى تَمَثُّلِ الْفَوَائِدِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنَ الْآيَاتِ.
الآيات: قال الله تعالى: ﴿كَلَّآ إِذَا بَلَغَتِ اِ۬لتَّرَاقِيَ (25) وَقِيلَ مَن رَّاقٖ (26) وَظَنَّ أَنَّهُ اُ۬لْفِرَاقُ (27) وَالْتَفَّتِ اِ۬لسَّاقُ بِالسَّاقِ (28) إِلَيٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اِ۬لْمَسَاقُۖ (29) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلّ۪يٰۖ (30) وَلَٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلّ۪يٰۖ (31) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَيٰٓ أَهْلِهِۦ يَتَمَطّ۪يٰٓۖ (32) أَوْل۪يٰ لَكَ فَأَوْل۪يٰ (33) ثُمَّ أَوْل۪يٰ لَكَ فَأَوْل۪يٰٓۖ (34) ﴾ [سورة القيامة].
تمهيد:
الله سُبْحَانَهُ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ حَالَةَ الْإِنْسَانِ عِنْدَ الاِحْتِضَارِ، حِينَ يَسْتَبْعِدُ شِفَاءَهُ الْمُقَرَّبُونَ، وَلَا يَنْفَعُهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ إِلَّا إِيمَانُهُ وَعَمَلُهُ الصَّالِحُ. كما بَيَانِ عَاقِبَةِ تَكْذِيبِ الْإِنْسَانِ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَتَفْرِيطِهِ فِي الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَتَهَاوُنِهِ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
مَا هِيَ الْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ عِنْدَ الاِحْتِضَارِ؟ وَمَا أَثَرُ الْإِيمَانِ الصَّادِقِ وَالاِلْتِزَام ِبِالفَرَائِضِ فِي فَوْزِهِ وَنَجَاتِهِ؟
مضمون الآيات (25-29): حَالَةُ الْإِنْسَانِ عِنْدَ الاِحْتِضَارِ
نَبَّهَ اللهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ عَلَى الاِسْتِعْدَادِ لِسَاعَةِ الاِحْتِضَارِ.
قال تعالى: ﴿كَلَّآ إِذَا بَلَغَتِ اِ۬لتَّرَاقِيَ (25) ﴾
تفسير الآية: ﴿كَلَّآ ﴾ بِمَعْنَى أَلَا، أَيْ: إِذَا بَلَغَتِ الرُّوحُ عِظَامَ الْحَلْـقِ.
قال تعالى: ﴿وَقِيلَ مَن رَّاقٖ (26) ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿رَّاقٖ﴾: طَبِيبٌ يَشْفِي.
تفسير الآية: أَيْ: قَالَ مَنْ حَوْلَهُ: هَلْ مِنْ رَاقٍ يُرْقِيهِ أَوْ طَبِيـبٍ يُدَاوِيهِ ِلِيُشْفَـى؟
قال تعالى: ﴿وَظَنَّ أَنَّهُ اُ۬لْفِرَاقُ (27) ﴾
تفسير الآية: أَيْ: أَيْقَنَ مَنْ بَلَغَتْ نَفْسُهُ ذَلِكَ أَنَّهُ فِرَاقُ الدُّنْيَا.
قال تعالى: ﴿وَالْتَفَّتِ اِ۬لسَّاقُ بِالسَّاقِ (28) ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿وَالْتَفَّتِ﴾: اِلْتَوَتْ وَاجْتَمَعَتْ.
تفسير الآية: أَيْ: اِلْتَوَتْ وَاِجْتَمَعَتْ إِحْدَى سَاقَيْهِ بِالْأُخْرَى عِنْدَ الْمَوْتِ، أَوْ الْتَفَّتْ شِدَّةُ فِرَاقِ الدُّنْيَا بِشِدَّةِ إِقْبَالِ الْآخِرَة.
قال تعالى: ﴿إِلَيٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اِ۬لْمَسَاقُۖ (29) ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿ اِ۬لْمَسَاقُۖ﴾: أَيْ: السَّوْقُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْعَامِلِ فِي إِذَا.
تفسير الآية: وَالْمَعْنَى: إِذَا بَلَغَتِ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ تُسَاقُ إِلَى حُكْمِ رَبِّهَا.
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ* وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ* وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ* فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ *تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الواقعة: 86-90].
مضمون الآيات (30-34): عَاقِبَةُ التَّفْرِيطِ فِي الْعَقِيدَةِ وَالعِبَادَةِ
بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْمُكَذِّبِ بِيَوْمِ الْبَعْثِ، وَالْمُسْتَهْتِرِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
قال تعالى: ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلّ۪يٰۖ (30) ﴾
تفسير الآية: أَيْ: لَمْ يُصَدِّقِ الْإِنْسَانُ، وَلَمْ يُصَلِّ.
ما يستفاد من الآية: الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُنْجِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قال تعالى: ﴿وَلَٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلّ۪يٰۖ (31) ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿وَتَوَلّ۪يٰۖ﴾: أَعْرَضَ.
تفسير الآية: أَيْ: كَذَّبَ بِالْقُرْآنِ وَتَوَلَّى عَنِ الْإِيمَانِ.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ ذَهَبَ إِلَيٰٓ أَهْلِهِۦ يَتَمَطّ۪يٰٓۖ (32) ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿ يَتَمَطّ۪يٰٓۖ﴾: يَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ.
تفسير الآية: أَيْ: ذَهَبَ يَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ إِعْجَابًا.
ما يستفاد من الآيتان (31-32): الْكِبْرُ سَبَبٌ لِلْإِعْرَاضِ عَنِ الْهُدَى والتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ.
قال تعالى: ﴿أَوْل۪يٰ لَكَ فَأَوْل۪يٰ (33) ﴾
البلاغة: قوله تعالى: ﴿أَوْل۪يٰ لَكَ﴾ فِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغِيبَةِ إِلَى الخِطَابِ، وَالْكَلِمَةُ اسْمُ فِعْلٍ، وَاللَّامُ لِلتَّبْيِينِ.
تفسير الآية: أَيْ: وَلِيَكَ مَا تَكْرَهُ فَهُوَ أَوْلَى بِكَ مِنْ غَيْرِكَ، وَقَدْ جَرَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي التَّحْذِيرِ وَالتَّخْوِيفِ.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْل۪يٰ لَكَ فَأَوْل۪يٰٓۖ (34) ﴾
تفسير الآية: كُرِّرَتِ الْعِبَارَةُ تَأْكِيدًا وَمُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ.
ما يستفاد من الآيات (30-34): بَيَانُ قِيمَةِ الْإِيمَانِ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ.
ما يستفاد من الآيتان (33-34): رَحْمَةُ اللهِ تَعَالَى بِالْإِنْسَانِ إِذْ نَبَّهَهُ وَحَذَّرَهُ قَبْلَ مُحَاسَبَتِهِ.
التقويم:
مَنْ تَصِفُ هَذِهِ الْآيَاتُ؟ وَفِي أَيِّ حَالٍ؟
إِلَى مَنْ تَوَجَّهَتِ الْآيَاتُ بِالتَّحْذِيرِ؟
كَيْفَ وَصَفَتِ الْآيَاتُ حَالَةَ الْمُحْتَضَرِ؟
مِمَّ حَذَّرَ اللهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ فِي الْآيَاتِ؟
كَيْفَ نستثمر الْفَوَائِدَ الُمُسْتَنْتَجَةَ مِنَ الْآيَاتِ فِي حَيَاتِنا؟
أَتَخَـلَّــقُ وَأَتَـزَكَّــى:
سبيل النجاة يوم القيامة هو: الحفاظ على الصلوات والصلاة الوسطى، والإنفاق مما رزقنا الله، واحتساب الأجر والثواب عند الله تعالى، والتواضع لجميع خلق الله.
الاستثمار:
قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ* إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ* فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ* مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ*وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ* وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ* وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾ [المدثر: 38-46].
أوضح عَلَاقَةَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالْآيَاتِ مَوْضُوعِ الدَّرْسِ.
استنتج مِنَ الْآيَاتِ قِيمَةَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
هدف سلوكي: الحرص عَلَى الْقِيَامِ بالواجبات المكلفون بها.
الآيات: قال الله تعالى: ﴿أَيَحْسِبُ اُ۬لِانسَٰنُ أَنْ يُّتْرَكَ سُدًى (35) اَلَمْ يَكُ نُطْفَةٗ مِّن مَّنِيّٖ تُمْن۪يٰ (36) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةٗ فَخَلَقَ فَسَوّ۪يٰ (37) فَجَعَلَ مِنْهُ اُ۬لزَّوْجَيْنِ اِ۬لذَّكَرَ وَالُانث۪يٰٓۖ (38) أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَٰدِرٍ عَلَيٰٓ أَنْ يُّحْـِۧيَ اَ۬لْمَوْت۪يٰۖ (39)﴾ [سورة القيامة].
تمهيد:
لَمْ يَخْلُقِ اللهُ سُبْحَانَهُ الْإِنْسَانَ عَبَثًا، وَلَمْ يَتْرُكْهُ سُدًى بِغَيْرِ تَكَالِيفَ وَلَا وَاجِبَاتٍ، بَلْ وَهَبَهُ قُدْرَةً عَقْلِيَّةً إِدْرَاكِيَّةً تُمَيِّزُهُ عَنْ بَاقِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَكَلَّفَهُ بِمَسْؤُولِيَّاتٍ وَوَاجِبَاتٍ، مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ، وَأَنَاطَ بِهِ مَهَمَّةَ عِمَارَةِ الْأَرْضِ، لِيَلْقَى جَزَاءَ أَعْمَالِهِ يَوْمَ الْبَعْثِ، خَيْرًا كَانَتْ أَوْ شَرًّا.
ما الَّذِي يُمَيِّزُ الْإِنْسَانَ عَنْ غَيْرِهِ؟ وَما الدَّلِيلُ عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ؟
مضمون الآيات (35-38): مَسْؤُولِيَةُ الْإِنْسَانِ وَمَرَاحِلُ تَكْوِينِهِ
بَيَّنَتِ الْآيَاتُ التَّالِيَةُ مَسْؤُولِيَة الإنسان فِي الْحَيَاةِ وَأَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ عَبَثًا. وبينت أَصْلَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَمَرَاحِلَ تَكْوِينِهِ.
قال تعالى: ﴿أَيَحْسِبُ اُ۬لِانسَٰنُ أَنْ يُّتْرَكَ سُدًى (35) ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿سُدًى﴾: هَمَلًا، لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى.
تفسير الآية: أَيْ: أَيَظُنُّ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ سَيُتْرَكُ هَمَلًا لَا يُكَلَّفُ بِالشَّرَائِعِ؟ لَا يَحْسِبْ ذَلِكَ.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ* فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ [المؤمنون: 116-117]
ما يستفاد من الآية:
تَكْرِيمُ اللهِ سُبْحَانَهُ الْإِنْسَانَ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُ عَبَثًا، وَلَمْ يَتْرُكْهُ سُدًى.
تَقْرِيرُ مَسْؤُولِيَةِ الْإِنْسَانِ فِي الْحَيَاةِ.
قال تعالى: ﴿اَلَمْ يَكُ نُطْفَةٗ مِّن مَّنِيّٖ تُمْن۪يٰ (36) ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿تُمْن۪يٰ﴾: تُصَبُّ فِي الرَّحِمِ.
القراءات: ﴿تُمْن۪يٰ﴾: بِالتَّاء وَالْيَاءِ.
تفسير الآية: أَيْ: كَانَ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ تُصَبُّ فِي الرَّحِمِ.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ عَلَقَةٗ فَخَلَقَ فَسَوّ۪يٰ (37) ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿فَسَوّ۪يٰ﴾: فَعَدَّلَ.
تفسير الآية: ثم كان الْمَنِيّ علقة فصَارَ قِطْعَةً يَسِيرَةً مِنَ الدَّمِ الْغَلِيظِ الَّتِي خَلَقَ اللهُ مِنْهَا الْإِنْسَانَ وعَدَّلَ أَعْضَاءَهُ.
قال تعالى: ﴿فَجَعَلَ مِنْهُ اُ۬لزَّوْجَيْنِ اِ۬لذَّكَرَ وَالُانث۪يٰٓۖ (38) ﴾
تفسير الآية: أَيْ: جَعَلَ مِنَ الْمَنِـيِّ -الَّــذِي صَارَ عَلَقَةً: قِطْعَةَ دَمٍ، ثُمَّ مُضْغَة أَيْ: قِطْعَةَ لَحْمٍ- النَّوْعَيْنِ اِ۬لذَّكَرَ وَالُانث۪يٰٓۖ يَجْتَمِعَانِ تَارَةً وَيَنْفَرِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ تَارَةً.
مضمون الآية (39): قُدْرَةُ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْبَعْثِ
جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِمَثَابَةِ النَّتِيجَةِ لِلدَّلِيلِ عَلَى قُدْرَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
قال تعالى: ﴿أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَٰدِرٍ عَلَيٰٓ أَنْ يُّحْـِۧيَ اَ۬لْمَوْت۪يٰۖ (39)﴾
تفسير الآية: أَيْ: أَلَيْسَ ذَٰلِكَ الْفَعَّالُ لِهـَذِهِ الْأَشْيَاءِ قادر على إحياء الموتى؟ بلى.
إذ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَن قَرأَ منكُم (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) فانتَهَى إلى آخرِها (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) فليقل بلى وأَنا على ذلِكَ منَ الشَّاهدينَ ومن قرأَ ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) فانتَهَى إلى (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) فليقُلْ بلَى ومَن قرأَ (والْمُرْسَلاتِ) فبلغَ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) فليقُل آمنَّا باللَّهِ» [سنن أبي داود]. حديث ضعيف
ما يستفاد من الآية: قُدْرَةُ اللهِ سُبْحَانَهُ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ فِي أَطْوَارٍ مُخْتَلِفَةٍ، دَلِيلٌ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى بَعْثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
التقويم:
مَاذَا بَيَّنَتِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ الْأُولَى؟
عَلَى مَاذَا أَكَّدَتِ الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ؟
أَيْنَ تَتَحَقَّقُ مَسْؤُولِيَةُ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؟
استخلص مِنَ الْآيَاتِ مَرَاحِلَ تَكْوينِ الْإِنْسَانِ.
استنبط الحِكْمَةَ مِنَ تَأْكِيدِ وُقُوعِ الْبَعْثِ بَعْدَ ذِكْرِ مَرَاحِلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ.
أَتَخَـلَّــقُ وَأَتَـزَكَّــى:
اليقين بأننا لم نخلق عبثا يلزمنا: أن نحدد مسؤولياتنا، وأن نرسم أهدافنا في الحياة، وأن نعمل جاهدين لأداء هذه المسؤوليات وبلوغ الأهداف.
الاستثمار:
«فَإِنَّ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَأَبْدَعَ تَرْكِيبَهُ وَوَهَبَهُ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي لَمْ يُعْطِهَا غَيْرَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ لِيَسْتَعْمِلَهَا فِي مَنَافِعَ لَا تَنْحَصِرُ أَوْ فِي ضِدِّ ذَلِكَ مِنْ مَفَاسِدَ جَسِيمَةٍ، لَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ أَنْ يُهْمِلَهُ مِثْلَ الْحَيَوَانِ فَيَجْعَلَ الصَّالِحِينَ كَالْمُفْسِدِينَ وَالطَّائِعِينَ لِرَبِّهِمْ كَالْمُجْرِمِينَ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ الْمُتَمَكِّنُ بِحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَنْ يَجْعَلَ إِلَيْهِ الْمَصِيرَ، فَلَوْ أَهْمَلَهُ لَفَازَ أَهْلُ الْفَسَادِ فِي عَالَمِ الْكَسَادِ، وَلَمْ يُلَاقِ الصَّالِحُونَ مِنْ صَلَاحِهِمْ إِلَّا الْأَنْكَادَ، وَلَا يُنَاسِبُ حِكْمَةَ الْحَكِيمِ إِهْمَالُ النَّاسِ يَهِيمُونَ فِي كل وَادي، وَتَرْكُهُمْ مَضْرِبًا لِقَوْلِ الْمَثَلِ: فَإِنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِي» [التحرير والتنوير].
استنتج مِنَ النَّصِّ فَضْلَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَنِعَمَهُ عَلَى الْإِنْسَانِ.
بين الْحِكْمَةَ مِنْ تَكَالِيفِ اللهِ سُبْحَانَهُ لِلْإِنْسَانِ وَعَدَمِ إِهْمَالِهِ.
هدف سلوكي: شكر اللهَ عَلَى نِعْمَةِ الْخَلْقِ وَالْهِدَايَةِ.
التعريف بالسورة: سُورَةُ الْإِنْسَانِ مَدَنِيَّةٌ، وَآيَاتُهَا إِحْدَى وَثَلَاثُونَ (31).
الآيات: قال الله تعالى: ﴿هَلَ اَت۪يٰ عَلَي اَ۬لِانسَٰنِ حِينٞ مِّنَ اَ۬لدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْـٔاٗ مَّذْكُوراًۖ (1) اِنَّا خَلَقْنَا اَ۬لِانسَٰنَ مِن نُّطْفَةٍ اَمْشَاجٖ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَٰهُ سَمِيعاَۢ بَصِيراًۖ (2) اِنَّا هَدَيْنَٰهُ اُ۬لسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراٗ وَإِمَّا كَفُوراًۖ (3) اِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكٰ۪فِرِينَ سَلَٰسِلاٗ وَأَغْلَٰلاٗ وَسَعِيراًۖ (4) اِنَّ اَ۬لَابْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٖ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراًۖ (5) عَيْناٗ يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اُ۬للَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراٗۖ (6) ﴾ [سورة الإنسان]
المعنى الإجمالي للآيات: تَضَمَّنَتِ هذه الْآيَاتُ تَذْكِيرَ الْإِنْسَانِ بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِ، حَتَّى لَا يَغْتَرَّ وَيَتَكَبَّرَ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا نَبَّهَتْ عَلَى نِعْمَةِ الْهِدَايَةِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَى الْإِنْسَانِ، وَبَيَّنَت جَزَاءَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا وَلَمْ يَعْمَلْ صَالِحًا.
مضمون الآيات (1-3): نِعْمَةُ الْخَلْقِ وَالْهِدَايَةِ
ذَكَّرَ اللهُ سُبْحَانَهُ الْإِنْسَانَ فِي مُسْتَهَلِّ هَذِهِ السُّورَةِ بِنِعْمَةِ الْخَلْقِ وَالْهِدَايَةِ.
قال تعالى: ﴿هَلَ اَت۪يٰ عَلَي اَ۬لِانسَٰنِ حِينٞ مِّنَ اَ۬لدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْـٔاٗ مَّذْكُوراًۖ (1) ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿حِينٞ مِّنَ اَ۬لدَّهْرِ ﴾: مُدَّةٌ مِنَ الزَّمَنِ.
تفسير الآية: ﴿هَلَ﴾ كَلِمَةُ تُفِيدُ التَّقْرِيرَ لَا مُجَرَّدَ الاِسْتِفْهَامِ، وقد اختلفوا في تفسير الآية على قولين:
الأول معناه: قَدْ أَتَى عَلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَلَامُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ كَانَ فِيهِا مُصَوَّرًا مِنْ طِينٍ لَا يُذْكَرُ.
والثاني معناه: قَدْ أَتَى عَلَى جِنْسَ الْإِنْسَانِ -الَّذِي يَصْدُقُ عَلَى آدَمَ وَأَوْلَادِهِ- مُدَّةَ الْحَمْلِ حيث كان شيء لَا يُذْكَرُ.
قال تعالى: ﴿اِنَّا خَلَقْنَا اَ۬لِانسَٰنَ مِن نُّطْفَةٍ اَمْشَاجٖ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَٰهُ سَمِيعاَۢ بَصِيراًۖ (2) ﴾
الإعراب: ﴿نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَٰهُ سَمِيعاَۢ بَصِيراًۖ﴾ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ أَوْ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ: مُرِيدِينَ ابْتِلَاءَهُ حِينَ تَأَهُّلِهِ.
تفسير الآية: أَيْ: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ الْمُخْتَلِطَيْنِ الْمُمْتَزِجَيْنِ، نَخْتَبِرُهُ بِالتَّكْلِيفِ، فَجَعَلْنَاهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَظِيمَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ.
ما يستفاد من الآية: السَّمْعُ وَالْبَصَرُ مِنْ أَنْفَعِ الْحَوَاسِ.
قال تعالى: ﴿اِنَّا هَدَيْنَٰهُ اُ۬لسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراٗ وَإِمَّا كَفُوراًۖ (3) ﴾
الإعراب: ﴿إِمَّا شَاكِراٗ وَإِمَّا كَفُوراًۖ﴾ حَالَانِ مِنَ الْمَفْعُولِ، وَ﴿إِمَّا﴾ لِتَفْصِيلِ الْأَحْوَالِ.
تفسير الآية: أَيْ: بَيَّنَا لَهُ طَرِيقَ الْهُدَى بِبَعْثِ الرُّسُلِ، فبَيَّنَا لَهُ فِي حَالِ شُكْرِهِ أَوْ كُفْرِهِ.
ما يستفاد من الآية: طَرِيقُ الْهِدَايَةِ سَبِيلُ الفَلَاحِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
مضمون الآيات (4-6): اِخْتِلَافُ جَزَاءِ الْعِبَادِ
بَعْدَ بَيَانِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ نِعَمَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُتَمَثِّلَةِ فِي الْخَلْقِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى سَبِيلِ الْهِدَايَةِ، وَكَانَ مِنْ عِبَادِهِ مَنِ اسْتَجَابَ لِهَذَا الْإِرْشَادِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَسْتَجِبْ؛ نَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى جَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ.
قال تعالى: مبينا جَزَاءَ الْفَرِيقِ الأول: ﴿اِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكٰ۪فِرِينَ سَلَٰسِلاٗ وَأَغْلَٰلاٗ وَسَعِيراًۖ (4)﴾
تفسير الآية: أَيْ: هَيَّأْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ يُسْحَبُونَ بِهَا فِي النَّارِ، وَأَغْلَالًا فِي أَعْنَاقِهِمْ تُشَدُّ فِيهَا السَّلَاسِلُ، وَنَارًا مُسَعَّرَةً وَمُهَيَّجَةً يُعَذَّبُونَ بِهَا.
قال تعالى: مبينا جَزَاءَ الْفَرِيقِ الثَّانِي: ﴿اِنَّ اَ۬لَابْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٖ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراًۖ (5) ﴾
شرح مفردات الآية:
﴿اَ۬لَابْرَارَ ﴾: جَمْعُ بَرٍّ أَوْ بَارٍّ، وَهُمُ الْمُطِيعُونَ.
﴿كَافُوراًۖ﴾: نَوْعٌ مِنْ الطِّيبِ.
تفسير الآية: أَيْ: إِنَّ المُطِيعِينَ يَشْرَبُونَ مِنْ إِنَاءِ شُرْبِ الْخَمْرِ وَهِيَ فِيهِ مُزِجَتُ بِالْكَافُورِ، وَالْمُرَادُ مِنْ خَمْرِ الجَنَّةِ، تَسْمِيَةً لِلْحَالِّ بِاسْمِ الْمَحَلِّ، وَ﴿مِن﴾ لِلتَّبْعِيضِ.
قال تعالى: ﴿عَيْناٗ يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اُ۬للَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراٗۖ (6) ﴾
تفسير الآية: أَيْ: عينا فِيهَا رَائِحَةُ الكافور يَشْرَبُ مِنْهَا أَوْلِيَاؤُهُ الْمُؤْمِنُونَ ويَقُودُونَهَا حَيْثُ شَاءُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ.
وَمِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَأْتِي: تَذْكِيرُ الْإِنْسَانِ بِنِعَمِ اللهِ عَلَيْه.
نتخلق ونتزكى:
تذكير الإنسان بنعم الله عليه يقتضي: الشكر والعرفان.
طريق الهداية يقتضي: الاقتداء بالأبرار من عباد الله الصالحين والتحلي بصفاتهم.
التقويم:
بِمَ ذَكَّرَ اللهُ سُبْحَانَهُ الْإِنْسَانَ فِي الْآيَاتِ؟
مَا هِيَ نِعَمُ اللهِ عَلَى الْإِنْسَانِ الوَارِدَةُ فِي الْآيَاتِ؟
فَمَا الْغَايَةُ مِنْ تَذْكِيرِ الْإِنْسَان ِفي هَذِهِ الْآيَاتِ؟
لِمَاذَا يَخْتَلِفُ جَزَاءُ الْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟
وَعَلَى أَيِّ أَسَاسٍ يَنْقَسِمُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟
كَيْفَ سَيَكُونُ جَزَاءُ الْعِبَادِ يَوْمَ الْبَعْثِ؟
مَا جَزَاءُ الأَبْرَارِ يَوْمَ الْقِيَامَة؟
هدف سلوكي: الاقتداء بِالْأَبْرَارِ لنيلَ مِثْلَ جَزَائِهِمْ.
الآيات: قال الله تعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماٗ كَانَ شَرُّهُۥ مُسْتَطِيراٗۖ (7) وَيُطْعِمُونَ اَ۬لطَّعَامَ عَلَيٰ حُبِّهِۦ مِسْكِيناٗ وَيَتِيماٗ وَأَسِيراً (8) اِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اِ۬للَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءٗ وَلَا شُكُوراًۖ (9) اِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساٗ قَمْطَرِيراٗۖ (10) فَوَق۪يٰهُمُ اُ۬للَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ اَ۬لْيَوْمِ وَلَقّ۪يٰهُمْ نَضْرَةٗ وَسُرُوراٗۖ (11) وَجَز۪يٰهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةٗ وَحَرِيراٗ (12) مُّتَّكِـِٕينَ فِيهَا عَلَي اَ۬لَارَآئِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساٗ وَلَا زَمْهَرِيراٗ (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَٰلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاٗۖ (14) ﴾[سورة الإنسان]
المعنى الإجمالي للآيات: بَيَّنَ الله تعالى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَعْمَالَ الأَبْرَارِ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَ بِهَا النَّعِيمَ الْمُقِيمَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، ووَصْفَ مَسَاكِنِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنْ نَعِيمٍ، يَتَمَتَّعُونَ فِيهَا بِأَصْنَافِ النِّعَمِ، فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ.
مضمون الآيات (7-10): إِخْلَاصُ الْأَبْرَارِ فِي أَعْمَالِهِمْ
بَيَّنَ اللهُ سُبْحَانَهُ جُزْءًا مِنْ أَعْمَالِ الْأَبْرَارِ.
قال تعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماٗ كَانَ شَرُّهُۥ مُسْتَطِيراٗۖ (7) ﴾
شرح مفردات الآية:
﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ﴾: يُوفُونَ بِالعَهْدِ.
﴿مُسْتَطِيراٗۖ﴾: مُنْتَشِرًا.
تفسير الآية: أَيْ: يُوفُونَ بِالْعَهْدِ فِي طَاعَةِ اللهِ، ويَخْشَوْنَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُنْتَشِرًا.
ما يستفاد من الآية: فَضْلُ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ بِالعُهُودِ فِي طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ اَ۬لطَّعَامَ عَلَيٰ حُبِّهِۦ مِسْكِيناٗ وَيَتِيماٗ وَأَسِيراً (8) ﴾
تفسير الآية: أَيْ: يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ، وَشَهْوَتُهُمْ لَهُ: الفَقِير، ومن لَا أَبَ لَهُ، والْمَحْبُوسَ بِحَقٍّ.
ما يستفاد من الآية: الحَثُّ عَلَى إِطْعَامِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ وَالْيَتِيمِ والأَسِيرِ.
قال تعالى: ﴿اِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اِ۬للَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءٗ وَلَا شُكُوراًۖ (9) ﴾
تفسير الآية: أَيْ: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ طَلَبًا لِثَوَابهِ، لَا نُرِيدُ شُكْرًا، وَهَذَا بَيَانٌ لِعِلَّةِ الْإِطْعَامِ.
ما يستفاد من الآية: وُجُوبُ الْإِخْلَاصِ فِي الْعَمَلِ، وَالْخَشْيَةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَمِنْ عَذَابِهِ.
قال تعالى: ﴿اِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساٗ قَمْطَرِيراٗۖ (10) ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿قَمْطَرِيراٗۖ﴾: شَدِيدًا.
تفسير الآية: أَيْ: إنا نَخْشَى اللهَ سُبْحَانَهُ فِي يَوْمٍ شَدِيدٍ كَرِيهِ الْمَنْظَرِ، وَلِشِدَّتِهِ تَكْلَحُ الْوُجُوهُ فِيهِ.
مضمون الآيات (11-14): جَزَاءُ الْأَبْرَارِ وَوَصْفُ مَسْكَنِهِمْ فِي الْجَنَّةِ
بَيَّنَ سُبْحَانَهُ النَّعِيمَ الْمُقِيم والْجَزَاءَ الْحَسَنَ الَّذِي أَعَدَّهُ للأبرار فِي الْجَنَّةِ.
قال تعالى: ﴿فَوَق۪يٰهُمُ اُ۬للَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ اَ۬لْيَوْمِ وَلَقّ۪يٰهُمْ نَضْرَةٗ وَسُرُوراٗۖ (11) ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿نَضْرَةٗ﴾: حُسْنًا وَإِضَاءَةً.
تفسير الآية: أَيْ: فَبِسَبَبِ خَوْفِهِمْ نَجَّاهُمْ اللهُ مِنْ شَرِّ ذَلِكَ الْيَوْمِ الشَّدِيدِ وَأَعْطَاهُمْ حُسْنًا وَإِضَاءَةً فِي وُجُوهِهِمْ وَفَرَحًا فِي قُلُوبِهِمْ.
قال تعالى: ﴿وَجَز۪يٰهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةٗ وَحَرِيراٗ (12) ﴾
تفسير الآية: أَيْ: وَجَزَاهُمْ بِصَبْرِهِمْ عَنْ تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ جَنَّةٗ أُدْخِلُوهَا وَحَرِيراٗ أُلْبِسُوهُ.
ما يستفاد من الآية: إِكْرَامُ اللهِ سُبْحَانَهُ الْأَبْرَارَ بِمُجَازَاتِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بِجَنَّةِ النَّعِيمِ.
قال تعالى: ﴿مُّتَّكِـِٕينَ فِيهَا عَلَي اَ۬لَارَآئِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساٗ وَلَا زَمْهَرِيراٗ (13) ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿زَمْهَرِيراٗ﴾: بَرْدًا.
الإعراب: ﴿مُّتَّكِـِٕينَ﴾ حَالٌ مِنْ مَرْفُوعِ أُدْخِلُوهَا الْمُقَدَّرِ. وَقَوْلُهُ: ﴿لَا يَرَوْنَ﴾ حَالٌ ثَانِيَةٌ.
تفسير الآية: أَيْ: مُتَّكِئِينَ في الجنة عَلَى السُّرُرِ فِي الْحِجَالِ لَا يَجِدُونَ فِيهَا حَرًّا وَلَا بَرْدًا، وَقِيلَ: الزَّمْهَرِيرُ الْقَمَرُ، فَهِيَ مُضِيئَةٌ مِنْ غَيْرِ شَمْسٍ وَلَا قَمَرٍ.
قال تعالى: ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَٰلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاٗۖ (14) ﴾
الإعراب: قَوْلُهُ: ﴿وَدَانِيَةً﴾ بِالنَّصْبِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَحَلِّ ﴿لَا يَرَوْنَ﴾ الْمُقَدَّر بـِ «غَيْرِ رَائِينَ».
تفسير الآية: وَالمَعْنَى: قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ شَجَرُهَا وأُدْنِيَتْ ثِمَارُهَا فَيَنَالُهَا الْقَائِمُ وَالقَاعِدُ وَالمُضْطَجِعُ.
نتَخَلَّقُ وَنتَزَكَّى:
الحرصُ عَلَى أن نكُونَ مِنَ الْأَبْرَارِ الذِينَ وَعَدَهُمُ الْحَقُّ جَلَّ وَعَلَا بِالنَّعِيمِ:
أن نبتغي ِفِي إحْسَانِنا إِلَى الخَلْقِ وَجْهَ اللهِ تَعَالى.
نجْعَلُ الخَشْيَةَ مِنَ الله سَبِيلِي إِلَى مَرْضَاةِ اللهِ، وَنَفْعِ الخَلْقِ.
نوفِي بِالعُهُودِ فِي طَاعَةِ الله عَزَّ وَجَلَّ.
نطْعِمُ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ.
التقويم:
فَمَا هِيَ أَعْمَالُ الْأَبْرَارِ؟ وَبِمَاذَا يُجَازِيهِمْ اللهُ عَلَيْهَا؟
الاستثمار:
قَالَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِي رَحِمَهُ الله: «وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿عَلَيٰ حُبِّهِ﴾ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلطَّعَامِ، أَيْ: مَعَ اشْتِهَائِهِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ: ﴿وأتى المال عَلَيٰ حُبِّهِ﴾ [البقرة: 176] ... فَقَدْ وَصَفَهُمْ الله تَعَالَى بِأَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَ غَيْرَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ... وَالثَّانِي: قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: عَلَى حُبِّ اللهِ، أَيْ: لِحُبِّهِمْ للهِ. وَاللَّامُ قَدْ تُقَامُ مَقَامَ عَلَى، وَكَذَلِكَ تُقَامُ عَلَى مَقَامِ اللَّامِ» [مفاتيح الغيب].
هدف سلوكي: أَنْ نجْتَهِدَ فِي الطَّاعَةِ طَمَعًا فِي نَعِيمِ الْجَنَّةِ.
الآيات: قال الله تعالى: ﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِـَٔانِيَةٖ مِّن فِضَّةٖۖ وَأَكْوَابٖ كَانَتْ قَوَارِيراٗۖ (15) قَوَارِيراٗ مِّن فِضَّةٖ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراٗۖ (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساٗ كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً (17) عَيْناٗ فِيهَا تُسَمّ۪يٰ سَلْسَبِيلاٗۖ (18) ۞وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَٰنٞ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاٗ مَّنثُوراٗۖ (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماٗ وَمُلْكاٗ كَبِيراً (20) عَٰلِيهِمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٞ وَإِسْتَبْرَقٞۖ وَحُلُّوٓاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٖ وَسَق۪يٰهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباٗ طَهُوراًۖ (21) اِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءٗ وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراًۖ (22) ﴾ [سورة الإنسان]
المعنى الإجمالي للآيات:
بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَصْفَ آنِيَتِهِمْ وَشَرَابِهِمْ وَلِبَاسِهِمْ وَحُلِيِّهِمْ وَخَدَمِهِمْ.
مضمون الآيات (15-18): آنِيَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَشَرَابُهُمْ
حَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ وَصْفًا مُشَوِّقًا لِشَرَابِهِمْ فِي الْجَنَّةِ وَلِلْآنِيَةِ الَّتِي يُقَدَّمُ فِيهَا.
قال تعالى: ﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِـَٔانِيَةٖ مِّن فِضَّةٖۖ وَأَكْوَابٖ كَانَتْ قَوَارِيراٗۖ (15) ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿قَوَارِيراٗ﴾: جَمْعُ قَارُورَةٍ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْإِنَاءِ الَّذِي يُعَدُّ فِيهِ الشَّرَابَ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الزُّجَاجِ.
تفسير الآية: أَيْ: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ فِي الْجَنَّةِ بِآنِيَةِ الطَّعَامِ، وَبِأَقْدَاحٍ لَا عُرًى لَهَا تُحْمَلُ مِنْهَا، لِيَسْهُلَ الشُّرْبُ مِنْهَا مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ دُونَ حَاجَةٍ لِإِدَارَتِهَا كانت قوارير.
قال تعالى: ﴿قَوَارِيراٗ مِّن فِضَّةٖ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراٗۖ (16) ﴾
تفسير الآية: إِنَّهَا مِنْ فِضَّةٍ يُرَى بَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا كَالزُّجَاجِ قَدَّرَهَا الطَّائِفُونَ عَلَى قَدْرِ رِيِّ الشَّارِبِينَ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَذَلِكَ أَلَذُّ الشَّرَابِ.
قال تعالى: ﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساٗ كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً (17) ﴾
تفسير الآية: أَيْ: وَيُسْقُونَ فِي الْجَنَّةِ خَمْرًا كان مَا تُمْزَجُ بهِ زنجبيلا.
قال تعالى: ﴿عَيْناٗ فِيهَا تُسَمّ۪يٰ سَلْسَبِيلاٗۖ (18) ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿سَلْسَبِيلاٗۖ﴾: اسْمٌ لِعَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ.
تفسير الآية:﴿عَيْناٗ﴾ بَدَلٌ مِنْ ﴿زَنجَبِيلاً﴾ يَعْنِي: أَنَّ مَاءَهَا كَالزَّنْجَبِيلِ الَّذِي تَسْتَلِذُّ بِهِ الْعَرَبَ، سَهْلُ الْمَسَاغِ فِي الْحَلْقِ.
مضمون الآيات (19-22): خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلِبَاسُهُمْ وَحُلِيُّهُمْ
لَمَّا ذَكَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ صِفَاتِ شَرَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَصِفَاتِ آنِيَتِهِم؛ نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَهَا صِفَاتِ خَدَمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
قال تعالى: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَٰنٞ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاٗ مَّنثُوراٗۖ (19) ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿لُؤْلُؤاٗ مَّنثُوراٗۖ﴾: دُرًّا مُنْتَشِرًا وَمُفَرَّقًا.
تفسير الآية: أَيْ: يطوف عليهم خدم دَائِمُونَ بِصِفَةِ الْوِلْدَانِ لَا يَشِيبُونَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ حَسِبْتَهُمْ لِحُسْنِهِمْ وَانْتِشَارِهِمْ فِي الْخِدْمَةِ لؤلؤ مُنْتَشِرًا مَنْزُوعًا مِنْ سِلْكِهِ أَوْ مِنْ صَدَفِهِ، وَتَشْبِيهُهُمْ بِاللُّؤْلُؤِ الْمَنْثُورِ أَجْمَلُ مِنْ تَشْبِيهِهِمْ بِالْمُنَظَّمِ، وَذَلِكَ لِحُسْنِ انْتِشَارِهِمْ فِي الْخِدْمَةِ.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماٗ وَمُلْكاٗ كَبِيراً (20) ﴾
الإعراب: ﴿رَأَيْتَ﴾ الثَّانِيَةُ جَوَابُ ﴿إِذَا﴾ الشَّرْطِيَّةِ.
تفسير الآية: أَيْ: وَإِذَا رَأَيْتَ هُنَاكَ مَا فِي الْجَنَّةِ، رَأَيْتَ نَعِيمًا لَا يُوصَفُ. وَرَأَيْتَ مُلْكًا وَاسِعًا لَا غَايَةَ لَهُ.
قال تعالى: ﴿عَٰلِيهِمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٞ وَإِسْتَبْرَقٞۖ وَحُلُّوٓاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٖ وَسَق۪يٰهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباٗ طَهُوراًۖ (21) ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿سُندُسٍ﴾: حَرِيرٍ.
القراءات والإعراب: ﴿عَٰلِيهِمْ﴾ بِسُكُونِ الْيَاءِ مُبْتَدَأٌ، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ، وَالضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ بِهِ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِمْ. وَفِي قِرَاءَةٍ (عَالِيَهُمْ) بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَهُوَ خَبَرٌ لِـ: ﴿ثِيَابُ﴾ وَ﴿خُضْرٞ﴾ بِالرَّفْعِ ﴿وَإِسْتَبْرَقٞۖ﴾ بِالجَرِّ.
تفسير الآية: أَيْ: فَوْقَهَمْ ثِيَابٌ مِنْ حَرِيرٍ خضر، وَ﴿وَإِسْتَبْرَقٞۖ﴾ مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاجِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْأَثْوَابِ الْفَاخِرَةِ، فَهُوَ الْبَطَائِنُ وَالسُّنْدُسُ الظَّهَائِرُ. وأُلْبِسُوا حُلِيًّا مُسْتَدِيرَةً تُجْعَلُ حَوْلَ الْمِعْصَمِ. وَصَفَ شَرَابَهُمْ بِذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي طَهَارَتِهِ وَنَظَافَتِهِ، بِخِلَافِ خَمْرِ الدُّنْيَا.
وَذَكَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ يُحَلُّونَ بِأَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ [الحج: 23]. وَذَلِكَ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُمْ يُحَلَّوْنَ مِنَ النَّوْعَيْنِ، يَجْمَعُونَ بَيْنَ لُبْسِ الذَّهَبَ وَالفِضَّةِ وَاللُّؤْلُؤِ، وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَهَا، بِحَيْثُ يَلْبَسُونَ الذَّهَبَ تَارَةً، وَالْفِضَّةَ تَارَةً أُخْرَى، وَتَارَةً يَلْبَسُونَ اللُّؤْلُؤَ.
قال تعالى: ﴿اِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءٗ وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراًۖ (22) ﴾
تفسير الآية: أَيْ: إِنَّ هَذَا النَّعِيمَ كَانَ لَكُمْ جَزَاءً عَلَى أَعْمَالِكُمْ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ اللهِ سُبْحَانَهُ.
وَمِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَأْتِي:
بَيَانُ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، تَحْفِيزًا لِلْعِبَاد عَلَى طَاعَة الله وَالاِسْتِجَابَةِ لِدَعْوَةِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ.
نَعِيمُ الْجَنَّةِ لَا يُقَارَنُ بِمَتَاعِ الدُّنْيَا.
مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلهِ عَوَّضَهُ اللهُ فِي الْجَنَّةِ خَيْرًا مِنْهُ.
نتخلق ونتزكى:
وَصْفُ اللهِ تَعَالَى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهِمْ يَجْعَلُنِي أُسَارِعُ فِي الْخَيْرَاتِ لِأَنَالَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ لَغَالِيَةٌ أَلَا وَإِنَّ سِلْعَةَ اللهِ الْجَنَّةُ». [سنن الترمذي].
التقويم:
استنتج صِفَاتِ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْوَارِدِ فِي الْآيَاتِ.
بين سَبَبَ نَيْلِ أَهْل الْجَنَّةِ هَذَا الْجَزَاءَ.
ما هِيَ صِفَاتُ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْوَارِدِ فِي الْآيَاتِ؟ وَبِمَ نَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ هَذَا الْجَزَاءَ؟
استخرج الْأَشْرِبَةَ الْوَارِدَةَ فِي الْآيَاتِ.
صنف فِي جَدْوَلٍ: صِفَاتِ الْخَدَمِ فِي الْجَنَّةِ، وَلِبَاسَ أَهْلِهَا، وَحُلِيَّهُمْ.
بم بَلَغَ هَؤُلَاءِ الْأَبْرَارُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ؟ وَكَيْفَ نقْتَدِي بِهِمْ؟
الاستثمار:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ اللهُ: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ١٧﴾ [السجدة: 17] [صحيح البخاري].
مَاذا يُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْحَدِيثِ؟
بين مَعْنَى الْحَدِيثِ.
قارن بَيْنَ هَذَا الْمَعْنَى وَمَا جَاءَ فِي الْآيَاتِ مَوْضُوعِ الدَّرْسِ.
هدف سلوكي: الاقتداء بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي ثَبَاتِهِ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ.
الآيات: قال الله تعالى: ﴿اِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَ۬لْقُرْءَانَ تَنزِيلاٗۖ (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمُۥٓ ءَاثِماً اَوْ كَفُوراٗۖ (24) وَاذْكُرِ اِ۪سْمَ رَبِّكَ بُكْرَةٗ وَأَصِيلاٗۖ (25) وَمِنَ اَ۬ليْلِ فَاسْجُدْ لَهُۥ وَسَبِّحْهُ لَيْلاٗ طَوِيلاًۖ (26) اِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ يُحِبُّونَ اَ۬لْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماٗ ثَقِيلاٗۖ (27) نَّحْنُ خَلَقْنَٰهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَٰلَهُمْ تَبْدِيلاًۖ (28) ﴾ [سورة الإنسان]
المعنى الإجمالي للآيات:
جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ تَحْمِلُ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ بَيَانِ الوَسِيلَةِ الْمُسَاعِدَةِ لَهُ عَلَى تَنْفِيذِ وَصِيَّةِ رَبِّهِ.
مضمون الآيات (23-24): تَثْبِيتُ قَلْبِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَلَى تَحَمُّلِ الرِّسَالَةِ
يُثَبِّتُ اللهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَيُوَجِّهُهُ إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ تَشْكِيكِ الْمُكَذِّبِينَ.
قال تعالى: ﴿اِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَ۬لْقُرْءَانَ تَنزِيلاٗۖ (23) ﴾.
الإعراب: الضمير ﴿نَحْنُ﴾ تَأْكِيدٌ لِاسْمِ ﴿اِنَّ﴾ أَوْ فَصْلٌ، ﴿نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَ۬لْقُرْءَانَ تَنزِيلاٗۖ﴾ خَبَرُ ﴿اِنَّ﴾.
تفسير الآية: أَيْ: فَصَّلْنَاهُ وَلَمْ نُنْزِلْهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً.
مما يستفاد من الآية: تَثْبِيتُ فُؤَادِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِنُزُولِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَلَيْهِ مُفَصَّلًا حَسَبَ الْوَقَائِعِ وَالْأَحْدَاثِ.
قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمُۥٓ ءَاثِماً اَوْ كَفُوراٗۖ (24) ﴾.
شرح مفردات الآية:
﴿ءَاثِماً﴾: مُرْتَكِبًا لِلمَعَاصِي.
﴿كَفُوراٗۖ﴾: جَاحِدًا لِلنِّعْمَةِ.
تفسير الآية: أَيْ: عَلَيْكَ بِتَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ ولا تطع من الكفار المذنبين كعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَالوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، حِينَ قَالَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ارْجِعْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ كُلُّ آثِمٍ وَكَافِرٍ، أَيْ: لَا تُطِعْ أَحَدَهُمَا أَيًّا كَانَ فِيمَا دَعَاكَ إِلَيْهِ مِنْ إِثْمٍ أَوْ كُفْرٍ.
مما يستفاد من الآية:
أَهَمِّيَّةُ الصَّبْرِ وَأَثَرُهُ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ.
تَحْرِيمُ طَاعَةِ أَهْلِ الْإِثْمِ وَالشِّرْكِ.
مضمون الآيات (25-28): حَثُّ اللهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْـمُدَاوَمَةِ عَلَى الذِّكْرِ وَالْعِبَادَةِ
بَعْدَ تَثْبِيتِ اللهِ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى دَعْوَتِهِ، حَثَّهُ لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الذِّكْرِ وَالْعِبَادَةِ، وَبَيَّنَ لَهُ عَاقِبَةَ تَفْضِيلِ الْدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ.
قال تعالى: ﴿وَاذْكُرِ اِ۪سْمَ رَبِّكَ بُكْرَةٗ وَأَصِيلاٗۖ (25) ﴾.
شرح مفردات الآية: ﴿أَصِيلاٗۖ﴾: وَسَطَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ.
تفسير الآية: ﴿وَاذْكُرِ اِ۪سْمَ رَبِّكَ﴾ فِي الصَّلَاةِ ﴿بُكْرَةٗ﴾ أَيْ: الْفَجْرَ﴿وَأَصِيلاٗۖ﴾ يَعْنِي: الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ.
مما يستفاد من الآية والتي بعدها: عِظَمُ أَثَرِ الذِّكْرِ وَالْعِبَادَاتِ فِي تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ وَالثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ.
قال تعالى: ﴿وَمِنَ اَ۬ليْلِ فَاسْجُدْ لَهُۥ وَسَبِّحْهُ لَيْلاٗ طَوِيلاًۖ (26) ﴾.
تفسير الآية: ﴿وَمِنَ اَ۬ليْلِ﴾ في الْمَغْرِبَ وَالعِشَاءَ ﴿فَاسْجُدْ لَهُۥ﴾ وصَلِّ التَّطَوُّعَ فِي الليل، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ ثُلُثَيْهِ، أَوْ نِصْفِهِ، أَوْ ثُلُثِهِ، عِنْدَ قَوْلِهِ سُبْحَانـَهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا*﴾ [المزمل: 1-3].
مما يستفاد من الآية والتي قبلها: عِظَمُ أَثَرِ الذِّكْرِ وَالْعِبَادَاتِ فِي تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ وَالثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ.
قال تعالى: ﴿اِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ يُحِبُّونَ اَ۬لْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماٗ ثَقِيلاٗۖ (27) ﴾.
شرح مفردات الآية: ﴿يَوْماٗ ثَقِيلاٗۖ﴾: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
تفسير الآية: أي: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ نُهِيتَ عَنْ طَاعَتِهِمْ يُحِبُّونَ الدُّنْيَا، وَيَتْرُكُونَ يَوْمًا شَدِيدًا لَا يَعْمَلُونَ لَهُ.
مما يستفاد من الآية والتي بعدها: الْهَلاَكُ عَاقِبَةُ إِيثَارِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ.
قال تعالى: ﴿نَّحْنُ خَلَقْنَٰهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَٰلَهُمْ تَبْدِيلاًۖ (28) ﴾.
الإعراب: ﴿تَبْدِيلاًۖ﴾ تَأْكِيدٌ، وَوَقَعَتْ ﴿إِذَا﴾ مَوْقِعَ «إِنْ» نَحْوُ ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [إبراهيم: 19]؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ أَمَّا «إِذَا» فَتُسْتَعْمَلُ لِمَا يَقَعُ لِأَنَّهَا تُفِيدُ التَّحْقِيقَ.
تفسير الآية: أَيْ: نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَقَوَّيْنَا أَعْضَاءَهُمْ وَمَفَاصِلَهُمْ، وَإِذَا أَرَدْنَا جَعَلْنَا أَمْثَالَهُمْ فِي الْخِلْقَـةِ بَـدَلًا مِنْهُـمْ بِأَنْ نُهْلِكَهُمْ.
مما يستفاد من الآية والتي قبلها: الْهَلاَكُ عَاقِبَةُ إِيثَارِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ.
نتخلق ونتزكى:
لِلذِّكْرِ فَضْلٌ كَبِيرٌ لِذَلِكَ أَمَرَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالإٍكْثَارِ مِنْهُ قَـالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا٤١ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا٤٢﴾ [الأحزاب: 41-42]، فمن فضل الذكر: التقرب إلى الله تعالى، وذكر الله للعبد في الملأ الأعلى، واطمئنان القلب، ويصون اللسان من اللغو، ويغفر به الله الذنوب.
التقويم:
فِي الآياتِ تَثْبِيتٌ لقَلْبِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَلَى تَحَمُّلِ الرِّسَالَةِ، حددُ الآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلك.
مَا هِيَ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ من الله لنبيه في هذه الآيات؟ وَمَا وَسِيلَةُ تَحْقِيقِهَا؟ وَمَا آثَارُهَا الْإِيجَابِيَّةُ فِي السلوك؟
اسْتَخْلِص التَّوْجِيهَات التِي تَضَمَّنَتْهَا الآيات.
مَا الْغَايَةُ مِنْ تَثْبِيتِ اللهِ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْآيَاتِ؟
بين أَثَرَ الذِّكْرِ وَالْعِبَادَاتِ فِي الثَّبَاتِ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ.
أذكر أَهَمَّ الْفَوَائِدِ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا الْآيَاتُ.
هدف سلوكي: الرضى بِقَدَرِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ.
الآيات: قال الله تعالى: ﴿اِنَّ هَٰذِهِۦ تَذْكِرَةٞۖ فَمَن شَآءَ اَ۪تَّخَذَ إِلَيٰ رَبِّهِۦ سَبِيلاٗۖ (29) وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَنْ يَّشَآءَ اَ۬للَّهُۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماٗۖ (30) يُدْخِلُ مَنْ يَّشَآءُ فِے رَحْمَتِهِۦۖ وَالظَّٰلِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً اَلِيماٗۖ (31) ﴾ [سورة الإنسان]
المعنى الإجمالي للآيات:
يَعِيشُ الْإِنْسانُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَيَتَقَلَّبُ بَيْنَ آلَامِهَا وَآمَالِهَا، فَهُوَ إِمَّا قَرِيبٌ مِنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ يُوَحِّدُهُ وَيُطِيعُهُ، وَإِمَّا غَافِلٌ لَاهٍ مُنْغَمِسٌ فِي الشَّهَوَاتِ وَالْمَلَذَّاتِ؛ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ مِنْ وَقْتٍ لِآخَرَ إِلَى التَّذْكِيرِ وَالْمَوْعِظَةِ، الَّتِي تُرْشِدُهُ إِلَى طَرِيقِ الْهِدَايَةِ، وَتُجَنِّبُهُ طُرُقَ الْغِوَايَةِ.
مضمون الآيات (29-30): إِرْشَادُ الْإِنْسَانِ إِلَى طَرِيقِ الْهِدَايَةِ
جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ لِتُبَيِّنَ الْغَايَةَ وَالْمَقْصِدَ مِنْ إِنْزَالِ هَذِهِ السُّورَةِ، فأَرْشَدَتِ إِلَى أَهَمِّيَّةِ التَّذْكِرَةِ وَالْعِظَةِ فِي تَوْجِيهِ الْإِنْسَانِ إِلَى طَاعَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ.
قال تعالى: ﴿اِنَّ هَٰذِهِۦ تَذْكِرَةٞۖ فَمَن شَآءَ اَ۪تَّخَذَ إِلَيٰ رَبِّهِۦ سَبِيلاٗۖ (29) ﴾
شرح مفردات الآية: ﴿تَذْكِرَةٞۖ﴾: عِظَةٌ.
تفسير الآية: أَيْ: هَذِهِ السُّورَةَ عِظَةٌ لِلخَلْقِ فمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى خَالِقِهِ سُبْحَانَهُ طَرِيقًا بِالطَّاعَةِ.
مما يستفاد من الآية: رَحْمَةُ اللهِ بِعِبَادِهِ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ طَرِيقَ الْهِدَايَةِ.
قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَنْ يَّشَآءَ اَ۬للَّهُۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماٗۖ (30) ﴾
شرح مفردات الآية:
﴿عَلِيماً﴾: كَثِيرَ الْعِلْمِ.
﴿حَكِيماٗۖ﴾: بَالِغَ الْحِكْمَةِ.
القراءات: ﴿وَمَا تَشَآءُونَ﴾ قُرِئَتْ بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ.
تفسير الآية: وَالْمَعْنَى: وَمَا تَشَاءُونَ اتِّخَاذَ السَّبِيلِ بِالطَّاعَةِ إِلَّآ أَنْ يَّشَآءَ اَ۬للَّهُۖ؛ أَيْ: لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ هِدَايَةَ نَفْسِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ ذَلِكَ، إِنَّ اَ۬للَّهَ كَانَ عَلِيماً بِخَلْقِهِ بَالِغَ الْحِكْمَةِ فِي فِعْلِهِ.
مما يستفاد من الآية: مَشِيئَةُ الْإِنْسَانِ خَاضِعَةٌ لِمَشِيئَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ.
مضمون الآية (31): عَدْلُ اللهِ بَيْنَ الْعِبَادِ
بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَدْلَ اللهِ فِي جَزَاءِ الْعِبَادِ.
قال تعالى: ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَّشَآءُ فِے رَحْمَتِهِۦۖ وَالظَّٰلِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً اَلِيماٗۖ (31) ﴾
الإعراب: نُصِبَتْ كَلِمَةُ: ﴿وَالظَّٰلِمِينَ﴾ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ «أَعَدَّ».
تفسير الآية: أَيْ: يُدْخِلُ سُبْحَانَهُ مَنْ يَشَاءُ فِي جَنَّتِهِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، أَمَّا جَزَاءُ غَيْرِ الْمُهْتَدِينَ، فَقَدْ بَيَّنَهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَالظَّٰلِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً اَلِيماٗۖ﴾ أَيْ: هَيَّأَ لَهُمْ عَذَابًا مُؤْلِمًا، وَهُمُ الْكَافِرُونَ.
مما يستفاد من الآية:
يُوَفِّقُ اللهُ سُبْحَانَهُ بِرَحْمَتِهِ إِلَى الْهُدَى مَنْ أَقْبَلَ عَلَى طَاعَتِهِ وَرَغِبَ فِي مَرْضَاتِهِ.
اِتِّصَافُ اللهِ تَعَالَى بِالْعَدْلِ الْمُطْلَقِ.
نتخلق ونتزكى:
الله تعالى رحيم بنا بأن بين لنا طريق الهداية.
نبتغي توفيق الله عز وجل بالإقبال على طاعته.
مشيئتنا خاضعة لمشيئة خالقنا.
نوقن جازمين بعدل الله عز وجل.
التقويم:
إِلَى مَاذَا أَرْشَدَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ؟ وَكَيْفَ نحَقِّقُ مِنْ خِلَالِهَا السَّعَادَةَ الأُخْرَوِيَّةَ؟
حدد مَعْنَى التَّأْكِيدِ الذِّي تَضَمَّنَتْهُ الآيَة الأولَى.
استنتج عَدْلَ الله تَعَالَى الوَارِدَ فِي الْآيَات.
كَيْفَ يَتَّخِذُ الْإِنْسَانُ سَبِيلَهُ إِلَى طَاعَةِ رَبِّهِ؟
أَيْنَ يَتَمَثَّلُ عَدْلُ اللهِ بَيْنَ عِبَادِهِ؟
كَيْفَ نهْتَدِي بِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي تَقْوِيمِ سُلُوكِنا؟
هدف سلوكي: الاستعداد ليوم البعث بِطَاعَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ.
التعريف بالسورة: سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ مَكِّيَّةٌ، وَآيَاتُهَا خَمْسُونَ.
مَا الْغَايَةُ مِنْ قَسَمِ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ؟ وَمَا هِيَ الْعَلَامَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى عَظَمَةِ يَوْمِ الْبَعْثِ؟
الآيات: قال الله تعالى: ﴿وَالْمُرْسَلَٰتِ عُرْفاٗ (1) فَالْعَٰصِفَٰتِ عَصْفاٗ (2) وَالنَّٰشِرَٰتِ نَشْراٗ (3) فَالْفَٰرِقَٰتِ فَرْقاٗ (4) فَالْمُلْقِيَٰتِ ذِكْراً (5) عُذْراً اَوْ نُذُراً (6) اِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَٰقِعٞۖ (7) فَإِذَا اَ۬لنُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا اَ۬لسَّمَآءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا اَ۬لْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا اَ۬لرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ ا۟جِّلَتْ (12) لِيَوْمِ اِ۬لْفَصْلِۖ (13) وَمَآ أَدْر۪يٰكَ مَا يَوْمُ اُ۬لْفَصْلِۖ (14) وَيْلٞ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُكَذِّبِينَۖ (15) ﴾ [سورة االمرسلات]
المعنى الإجمالي للآيات: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ قَسَمَ اللهِ سُبْحَانَهُ بِبَعْضِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ/ مَخْلُوقَاتِهِ عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْبَعْثِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، رَدًّا عَلَى الْمُكَذِّبِينَ الْمُنْكِرِينَ لِهَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ، ثُمَّ بَيَّنَتْ بَعْضَ عَلاَمَاتِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ.
مضمون الآيات (1-7): الْغَايَةُ مِنْ قَسَمِ اللهِ سُبْحَانَهُ:
أَقْسَمَ اللهُ سُبْحَانَهُ بِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ.
قال تعالى:﴿وَالْمُرْسَلَٰتِ (1)﴾
الإعراب: ﴿عُرْفاٗ﴾ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ.
تفسير الآية: أَيْ: الرِّيَاحُ مُتَتَابِعَةٌ كَعُرْفِ الْفَرَس يَتْلُو بَعْضُهُ بَعْضًا، وَهُوَ شَعَرُ عُنُقِهَا.
قال تعالى:﴿فَالْعَٰصِفَٰتِ عَصْفاٗ (2)﴾
تفسير الآية: الرِّيَاحُ الشَّدِيدَةُ.
قال تعالى:﴿وَالنَّٰشِرَٰتِ نَشْراٗ (3)﴾
تفسير الآية: الرِّيَاحُ تَنْشُرُ الْمَطَرَ وَتُفَرِّقُهُ وَفْقَ مَشِيئَةِ اللهِ سُبْحَانهُ.
قال تعالى:﴿فَالْفَٰرِقَٰتِ فَرْقاٗ (4)﴾
شرح مفردات الآية: ﴿فَالْفَٰرِقَٰتِ فَرْقاٗ﴾آيَاتُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.
تفسير الآية: أَيْ: آيَاتُ الْقُرْآنِ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.
ما يستفاد من الآيات (1-4): للهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ الْإِقْسَامُ إِلاَّ بِاللهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
قال تعالى:﴿فَالْمُلْقِيَٰتِ ذِكْراً (5)﴾
شرح مفردات الآية: ﴿فَالْمُلْقِيَٰتِ﴾ الْمَلَائِكَةُ، تَنْزِلُ بِالْوَحْيِ.
تفسير الآية: أَيْ: الْمَلَائِكَةُ تَنْزِلُ بِالْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، يُلْقُونَ الْوَحْيَ إِلَى الْأُمَمِ.
قال تعالى: ﴿عُذْراً اَوْ نُذُراً (6)﴾
القراءات: وَقُرِئَ بِضَمِّ ذَالِ عُذْرًا ﴿عُذْراً﴾ وَفِي قِرَاءَةٍ بِتَسْكِينِ ذَالِ ﴿نُذُراً﴾.
تفسير الآية: أَيْ: لِلْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
قال تعالى: ﴿اِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَٰقِعٞۖ (7)﴾
تفسير الآية: أَيْ: يَا كُفَّارَ مَكَّةَ بالْبَعْثِ إن الْعَذَابِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ.
مضمون الآيات (8-15):عَلَامَاتُ يَوْمِ الْبَعْثِ
ذَكَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ بَعْضَ عَلَامَاتِ يَوْمِ الْبَعْثِ تَنْبِيهًا عَلَى عَظَمَتِهِ.
قال تعالى: ﴿فَإِذَا اَ۬لنُّجُومُ طُمِسَتْ (8)﴾
تفسير الآية: مُحِيَ نُورُهَا.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا اَ۬لسَّمَآءُ فُرِجَتْ (9)﴾
تفسير الآية: أَيْ: شُقَّـتْ
قال تعالى: ﴿وَإِذَا اَ۬لْجِبَالُ نُسِفَتْ (10)﴾
تفسير الآية: أَيْ: فُتِّتَتْ وَسُيِّرَتْ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا*فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا﴾ [طه: 103-104]
قال تعالى: ﴿وَإِذَا اَ۬لرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)﴾
القراءات: ﴿أُقِّتَتْ﴾ بِالْوَاوِ وَبِالْهَمْزَةِ بَدَلًا مِنْهَا.
تفسير الآية: أَيْ: جُمِعَـتْ لِوَقْـتِ.
قال تعالى: ﴿لِأَيِّ يَوْمٍ ا۟جِّلَتْ (12)﴾
تفسير الآية: أي: لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ا۟جِّلَتْ لِلشَّهَادَةِ عَلَى أُمَمِهِمْ بِالتَّبْلِيغِ.
قال تعالى: ﴿لِيَوْمِ اِ۬لْفَصْلِۖ (13)﴾
تفسير الآية: لِيَوْمِ اِ۬لْفَصْلِۖ بَيْنَ الْخَلْقِ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَابُ إِذَا، أَيْ: وَقَعَ الْفَصْل بَيْنَ الْخَلَائِقِ.
قال تعالى: ﴿وَمَآ أَدْر۪يٰكَ مَا يَوْمُ اُ۬لْفَصْلِۖ (14)﴾
تفسير الآية: تَهْوِيلٌ لِشَأْنِهِ.
ما يستفاد من الآيات (8-14): تَأْكِيدُ وُقُوعِ الْبَعْثِ، وَبَيَانُ عَلَامَاتِهِ الَّتِي تُنْبِئُ بِتَغَيُّرِ الْكَوْنِ.
قال تعالى: ﴿وَيْلٞ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُكَذِّبِينَۖ (15)﴾
تفسير الآية: هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ.
ما يستفاد من الآية: تَحْذِيرُ الْمُكَذِّبِينَ بِهَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ، وَتَوَعُّدُهُمْ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ.
أتخلق وأتزكى:
الإيمان بالبعث يجعلنا: نستعد للقاء الله بالإيمان والعمل الصالح، ونحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، نستحضر مراقبة الله تعالى لكل تصرفاتنا، الحرص على طاعة الله لنكون من الناجين.
التقويم:
بين الحِكْمَةَ/ والغاية مِنْ قَسَمِ الله سُبْحَانَهُ بِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ؟
هَلْ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُقْسِمَ بِمَخْلُوقَاتِ اللهِ الْعَظِيمَةِ؟ وَلِمَاذَا؟
مَا الْغَايَةُ مِنْ ذِكْرِ عَلَامَاتِ يَوْمِ الْبَعْثِ فِي الْآيَاتِ؟
مَا الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ؟
عَلَى مَاذَا تَدُلُّ عَلَامَاتُ السَّاعَةِ الْوَارِدَةُ فِي الْآيَاتِ؟
هدف سلوكي: شْكُرَ اللهَ سُبْحَانَهُ عَلَى نِعَمِهِ وآلَائِهِ.
الآيات: قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ نُهْلِكِ اِ۬لَاوَّلِينَۖ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ اُ۬لَاخِرِينَۖ (17) كَذَٰلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَۖ (18) وَيْلٞ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُكَذِّبِينَۖ (19) أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٖ مَّهِينٖ (20) فَجَعَلْنَٰهُ فِے قَر۪ارٖ مَّكِينٍ (21) اِلَيٰ قَدَرٖ مَّعْلُومٖ (22) فَقَدَّرْنَا فَنِعْمَ اَ۬لْقَٰدِرُونَۖ (23) وَيْلٞ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُكَذِّبِينَۖ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ اِ۬لَارْضَ كِفَاتاً (25) اَحْيَآءٗ وَأَمْوَٰتاٗ (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ شَٰمِخَٰتٖ وَأَسْقَيْنَٰكُم مَّآءٗ فُرَاتاٗۖ (27) وَيْلٞ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُكَذِّبِينَۖ (28) ﴾
المعنى الإجمالي للآيات: نَبَّهَ اللهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى ضَرُورَةِ الْاِعْتِبَارِ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ عَذَابٍ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِاِمْتِنَانِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ بِمَجْمُوعَةٍ مِنْ نِعَمِهِ.
مَا الْغَايَةُ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ؟ وَبِمَاذَا امْتَنَّ اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْإِنْسَانِ؟
مضمون الآيات (16-19):الدَّعْوَةُ إِلَى الاِعْتِبَارِ بِالْأُمَمِ السَّابِقَةِ
دَعَا اللهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى الاِعْتِبَارِ بِمَا حَلَّ بِالأُمَمِ السَّابِقَةِ الْمُكَذِّبَةِ.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ نُهْلِكِ اِ۬لَاوَّلِينَۖ (16)﴾
تفسير الآية: أَلَمْ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، يُفِيدُ طَلَبَ الإِقْرَارِ بِمَا بَعْدَ النَّفْيِ، أَيْ: أَهْلَكْنَا الْأُمَمُ السَّابِقَةُ، كَقَوْمِ نُوحٍ، وَعَادٍ، وَثَمُودَ، وَقَوْمِ لُوطٍ، وَغَيْرِهِمْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ اُ۬لَاخِرِينَۖ (17)﴾
تفسير الآية: ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ اُ۬لَاخِرِينَۖ مِمَّنْ كَذَّبُوا كَكُفَّارِ مَكَّةَ فَنُهْلِكُهُمْ.
قال تعالى: ﴿كَذَٰلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَۖ (18)﴾
تفسير الآية: أَيْ: مِثْلَ مَا فَعَلْنَا بِالْمُكَذِّبِينَ، نَفْعَلُ بِكُلِّ مَنْ أَجْرَمَ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ فَنُهْلِكُهُمْ.
قال تعالى: ﴿وَيْلٞ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُكَذِّبِينَۖ (19)﴾
تفسير الآية: تَأْكِيدٌ.
وَمِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ (16-19): تَنْبِيهُ الْإِنْسَانِ عَلَى الاِعْتِبَارِ بِمَا حَلَّ بِالأُمَمِ السَّابِقَةِ.
مضمون الآيات (20-28):نِعَمُ اللهِ عَلَى الْإِنْسَانِ
اِمْتَنَّ اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِنِعْمَةِ الْخَلْقِ.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٖ مَّهِينٖ (20)﴾
تفسير الآية: لقد خلقناكم من ماء ضَعِيفٌ وَهُوَ الْمَنِيُّ.
قال تعالى: ﴿فَجَعَلْنَٰهُ فِے قَر۪ارٖ مَّكِينٍ (21)﴾
شرح مفردات الآية: ﴿قَر۪ارٖ مَّكِينٍ﴾: مَكَانٍ حَصِينٍ، وَهُوَ الرَّحِمُ.
تفسير الآية: فجعلناه في مكان حَرِيزٍ لَا يَفْسُدُ فِيهِ الْمَنِيُّ، وَهُوَ الرَّحِمُ.
قال تعالى: ﴿اِلَيٰ قَدَرٖ مَّعْلُومٖ (22)﴾
تفسير الآية: وَهُوَ وَقْتُ الْوِلَادَةِ.
قال تعالى: ﴿فَقَدَّرْنَا فَنِعْمَ اَ۬لْقَٰدِرُونَۖ (23)﴾
تفسير الآية: أَيْ: قَدَّرْنَا خَلْقَ الْإِنْسَانِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، فَنِعْمَ اَ۬لْقَٰدِرُونَۖ نَحْنُ.
قال تعالى: ﴿وَيْلٞ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُكَذِّبِينَۖ (24)﴾
ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ سُبْحَانَهُ مَا تَفَضَّلَ بِهِ مِنْ نِعَمٍ أُخْرَى عَلَى الْإِنْسَانِ في الآيات التالية:
قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ اِ۬لَارْضَ كِفَاتاً (25)﴾
شرح مفردات الآية: ﴿كِفَاتاً﴾: مَصْدَرُ كَفَـتَ بِمَعْنَى ضَـمَّ، أَيْ: ضَامَّـةً الناس.
تفسير الآية: أي: جعلنا الأرض ضامة الناس.
قال تعالى: ﴿اَحْيَآءٗ وَأَمْوَٰتاٗ (26)﴾
تفسير الآية: أي: اَحْيَآءٗ عَلَى ظَهْرِهَا وَأَمْوَٰتاٗ فِي بَطْنِهَا.
قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ شَٰمِخَٰتٖ وَأَسْقَيْنَٰكُم مَّآءٗ فُرَاتاٗۖ (27)﴾
شرح مفردات الآية:
﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا﴾: جِبَالًا عَالِيَاتٍ.
﴿فُرَاتاٗۖ﴾: عَذْبًا.
تفسير الآية: أَيْ: وَجَعَلْنَا فِيهَا جِبَالًا مُرْتَفِعَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءًا عَذْبًا.
قال تعالى: ﴿وَيْلٞ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُكَذِّبِينَۖ (28)﴾
وَمِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ (20-28): تَذْكِيرُ الْإِنْسَانِ بِأَصْلِ خَلْقِهِ وَبِنِعَمِ اللهِ عَلَيْهِ.
أتخلق وأتزكى:
توجهنا الآيات الكريمة إلى:
معرفة أصل خلقتنا لنتواضع ونتجنب الاغترار.
إدراك نعم الله علينا منذ كنا أجنة في بطون أمهاتنا.
مقابلة نعم الله تعالى علينا بالشكر والعمل الصالح.
التقويم:
عَلَى مَاذَا نَبَّهَتِ الْآيَاتُ؟
بين الْغَايَةَ مِنْ تَنْبِيهِ اللهِ عِبَادَهُ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ السَّابِقَةِ.
بِمَ امْتَنَّ اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْإِنْسَانِ؟
أبرز الْحِكْمَةُ مِنِ امْتِنَانِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ.
كَيْفَ نحَقِّقُ شُكْرَ اللهِ عَلَى نِعَمِهِ؟
هدف سلوكي: الإلتزامَ بِطَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ اسْتِعْدَادًا لِيَوْمِ الْبَعْثِ.
الآيات: قال الله تعالى: ﴿اَ۪نطَلِقُوٓاْ إِلَيٰ مَا كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ (29) اَ۪نطَلِقُوٓاْ إِلَيٰ ظِلّٖ ذِے ثَلَٰثِ شُعَبٖ (30) لَّا ظَلِيلٖ وَلَا يُغْنِے مِنَ اَ۬للَّهَبِۖ (31) إِنَّهَا تَرْمِے بِشَرَرٖ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُۥ جِمَٰلَٰتٞ صُفْرٞۖ (33) وَيْلٞ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُكَذِّبِينَۖ (34) هَٰذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ (35) وَلَا يُوذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَۖ (36) وَيْلٞ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُكَذِّبِينَۖ (37) هَٰذَا يَوْمُ اُ۬لْفَصْلِ جَمَعْنَٰكُمْ وَالَاوَّلِينَ (38) فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٞ فَكِيدُونِۖ (39) وَيْلٞ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُكَذِّبِينَۖ (40)﴾
المعنى الإجمالي للآيات: رَغْمَ النِّعَمِ الْعَدِيدَةِ الَّتِي تَفَضَّلَ بِهَا اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ منْ لَا يُقَابِلُهَا بِالاِعْتِرَافِ وَالشُّكْرِ، بَلْ يُقَابِلُهَا بِالنُّكْرَانِ وَالْجُحُودِ وَالتَّكْذِيبِ بِكُلِّ مَا جَاءَ عَنِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ؛ لِذَلِكَ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مُتَوَعِّدَةً هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِصُنُوفِ الْعَذَابِ وَشَدَائِدِهِ، مُصَوِّرَةً ذَلِكَ فِي مَشْهَدٍ يَصِفُ أَحْدَاثَ يَوْمِ الْبَعْثِ وَصْفًا دَقِيقًا.
إِلَى مَنْ وُجِّهَ الْوَعِيدُ الْوَارِدُ فِي الْآيَاتِ؟ وَمَا هِيَ صِفَاتُ يَوْمِ الْبَعْثِ؟
مضمون الآيات (29-34):الْوَعِيدُ لِلْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ
يُخَاطَبُ الْمُكَذِّبُونَ عَلَى سَبِـيـلِ التَّوْبِيـخِ وَالتَّهْدِيـدِ يوم القيامة.
قال تعالى: ﴿اَ۪نطَلِقُوٓاْ إِلَيٰ مَا كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ (29)﴾
أَيْ: سِيرُوا إِلَى الْعَذَاب الَّذِي كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِهِ.
قال تعالى: ﴿اَ۪نطَلِقُوٓاْ إِلَيٰ ظِلّٖ ذِے ثَلَٰثِ شُعَبٖ (30)﴾
شرح مفردات الآية: ﴿شُعَبٖ﴾: دُخَانِ جَهَنَّمَ الْكَثِيفِ.
تفسير الآية: هَذِهِ الْآيَةُ تَوْكِيدٌ لِلْآيَةِ قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى: اِنْطَلِقُوا إِلَى دُخَانِ جَهَنَّمَ الَّذِي إِذَا ارْتَفَعَ افْتَرَقَ ثَـلَاثَ فِـرَقٍ لِعِظَمِـهِ.
قال تعالى: ﴿لَّا ظَلِيلٖ وَلَا يُغْنِے مِنَ اَ۬للَّهَبِۖ (31)﴾
تفسير الآية: أَيْ: لَا كَنِينَ (سَاتِرَ) يُظِلُّهُمْ مِنْ حَرِّ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَا يَرُدُّ عَنْهُمْ شَيْئًا مِنَ النَّارِ.
قال تعالى: ﴿إِنَّهَا تَرْمِے بِشَرَرٖ كَالْقَصْرِ (32)﴾
شرح مفردات الآية:
﴿بِشَرَرٖ﴾: وَالشَّرَرُ: جَمْعُ شَرَارَةٍ، وهو مَا تَطَايَرَ مِنَ النَّارِ.
﴿َالْقَصْرِ﴾: مِثْلَ الْقَصْرِ الْمَبْنِيِّ.
تفسير الآية: أَيْ: إِنَّ النَّارَ تَرْمِي مَا تَطَايَرَ مِنْهَا يُشْبِهُ الْقَصْرَ مِنَ الْبِنَاءِ فِي عِظَمِهِ وَارْتِفَاعِـهِ.
قال تعالى: ﴿كَأَنَّهُۥ جِمَٰلَٰتٞ صُفْرٞۖ (33)﴾
شرح مفردات الآية: ﴿جِمَٰلَٰتٞ﴾ جَمْعُ جِمَالَةٍ الَّتِي هِيَ جَمْعُ جَمَلٍ.
الإعراب: ﴿جِمَٰلَٰتٞ﴾ وَفِي قِرَاءَةِ جِمَالَةٌ.
تفسير الآية: أي: جمال صفر فِي هَيْئَتِهَا وَلَوْنِهَا، وَالْعَرَب تُسَمِّي سُودَ الْإِبِلِ صُفْرًا لِشَوْبِ سَوَادِهَا بِصُفْرَةٍ، فَقِيلَ: صُفْرٌ فِي الْآيَة بِمَعْنَى: سُودٌ، لِمَا ذُكِرَ. وَقِيلَ: لَا، لَيْسَ الْمَعْنَى كَذَلِكَ، فَيَبْقَى «صُفْرٌ» عَلَى حَقِيقَتِهِ.
قال تعالى: ﴿وَيْلٞ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُكَذِّبِينَۖ (34)﴾
تفسير الآية: تَأْكِيدُ الْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ لِلْمُكَذِّبِينَ.
مضمون الآيات (35-40):وَصْفُ يَوْمِ الْبَعْثِ وَأَهْوَالُهِ
وَصْفُ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قال تعالى: ﴿هَٰذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ (35)﴾
تفسير الآية: أَيْ: هَذَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي لَا يَنْطِقُونَ فِيهِ بِشَيْءِ.
قال تعالى: ﴿وَلَا يُوذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَۖ (36)﴾
تفسير الآية: وَلَا يُوذَنُ لَهُمْ فِي الْعُذْرِ فَيَعْتَذِرُونَۖ. أَيْ: لَا إِذْنَ، فَلَا اعْتِذَارَ.
قال تعالى: ﴿وَيْلٞ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُكَذِّبِينَۖ (37) هَٰذَا يَوْمُ اُ۬لْفَصْلِ جَمَعْنَٰكُمْ وَالَاوَّلِينَ (38)﴾
تفسير الآية: هَٰذَا يَوْمُ اُ۬لْفَصْلِ جَمَعْنَٰكُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالَاوَّلِينَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَكُمْ فَتُحَاسَبُونَ وَتُعَذَّبُونَ جَمِيعًا.
قال تعالى: ﴿فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٞ فَكِيدُونِۖ (39)﴾
تفسير الآية: أَيْ: فَإِنْ كَانَ لَكُمْ حِيلَةٌ فِي دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْكُمْ فَافْعَلُوهَا.
قال تعالى: ﴿وَيْلٞ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُكَذِّبِينَۖ (40)﴾
وَمِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَأْتِي:
تَحْذِيرُ اللهِ عِبَادَهُ مِنْ عَوَاقِبِ تَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ.
تَنْبِيهُ اللهِ عِبَادَهُ عَلَى التَّوْبَةِ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمٍ لَا يَنْفَعُهُمْ فِيهِ النَّدَمُ، وَلَا يُقْبَلُ لَهُمْ عُذْرٌ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِيهِ.
أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الذُّنُوبِ هُوَ التَّكْذِيبُ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ سُبْحَانَهُ.
أَتَخَلَّقُ وَأَتَزَكَّى:
أُقَوِّي يَقِينِي بِاليَومِ الآخِرِ، وَأَحْرِصُ عَلَى تَذَكُّرِهِ وَعَدَمِ الغَفْلَةِ عَنْهُ، فإِنَّ يَوْمَ الفَصْلِ وَاقِعٌ، وَوَعْدَ الله حَقٌّ، وَالجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ، وَكَلَامَ الله حَقٌّ، وَاللهُ هُوَ الحَقُّ المُبِين.
التقويم:
أذكر مَنْ تَوَعَّدَ اللهُ سُبْحَانَهُ فِي الْآيَاتِ.
بِمَ تَوَعَّدَ اللهُ سُبْحَانَه الْمُكَذِّبِينَ؟
استخلص مِنَ الآياتِ صِفَاتِ الْيَوْم الآخر.
استخرج أَوْصَافَ يَوْمِ الْبَعْثِ مِنْ خِلَالِ الْآيَاتِ.
كَيْفَ يَنْجُو الإنْسَانُ مِنَ الْوَعِيدِ الْوَارِدِ فِي هَاتِهِ الْآيَاتِ؟
الاستثمار:
قَالَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِي - رَحِمَهُ الله - : «قَوْلُهُ: ﴿وَلَا يُوذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَۖ﴾ يُوهِمُ أَنَّ لَهُمْ عُذْرًا وَقَدْ مُنِعُوا مِنْ ذِكْرِهِ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ عُذْرٌ؛ وَلَكِنْ رُبَّمَا تَخَيَّلُوا خَيَالًا فَاسِدًا أَنَّ لَهُمْ فِيهِ عُذْرًا، فَهُمْ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ذِكْرُ الْعُذْرِ الْفَاسِدِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ الْعُذْرَ الْفَاسِدَ هُوَ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا كَانَ الْكُلُّ بِقَضَائِكَ وَعِلْمِكَ وَمَشِيئَتِكَ وَخَلْقِكَ فَلِمَ تُعَذِّبُنِي عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا عُذْرٌ فَاسِدٌ؛ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ الْمَالِكَ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ قَالَ: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165] وقال: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا﴾ [طه: 134] وَالْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ أَنْ لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ، أَنَّ لَهُ عُذْرًا، فَهَبْ أَنَّ عُذْرَهُ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ فَاسِدٌ، فَلِمَ لَا يُؤْذَنُ لَهُ فِي ذِكْرِهِ حَتَّى يَذْكُرَهُ، ثُمَّ يُبَيَّنُ لَهُ فَسَادَهُ؟ قُلْنَا: لَمَّا تَقَدَّمَ الْإِعْذَارُ وَالْإِنْذَارُ فِي الدُّنْيَا بِدَلِيـلِ قَوْلِـهِ: فَالْمُلْقِيَٰتِ ذِكْراً (5) عُذْراً اَوْ نُذُراً (6) كَانَ إِعَادَتُهَا غَيْرَ مُفِيدَةٍ». [مفاتيح الغيب، للرازي: 778/30].
هدف سلوكي: أن نقتدي بِالْمُتَّقِينَ كَيْ نتَجَنَّبَ مَصِيرَ الْمُكَذِّبِينَ.
الآيات: قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اَ۬لْمُتَّقِينَ فِے ظِلَٰلٖ وَعُيُونٖ (41) وَفَوَٰكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَۖ (42) كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيٓـٔاَۢ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَۖ (43) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِے اِ۬لْمُحْسِنِينَۖ (44) وَيْلٞ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُكَذِّبِينَۖ (45) كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً اِنَّكُم مُّجْرِمُونَۖ (46) وَيْلٞ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُكَذِّبِينَۖ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اُ۪رْكَعُواْ لَا يَرْكَعُونَۖ (48) وَيْلٞ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُكَذِّبِينَۖ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثِۢ بَعْدَهُۥ يُومِنُونَۖ (50) ﴾
المعنى الإجمالي للآيات: يبين اللهِ سُبْحَانَهُ فِي هذه الْآيَاتِ جَزَاء الْمُتَّقِينَ، وَصَوَّرَ بَعْضَ مَا يَتَنَعَّمُونَ بِهِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ السُّورَةَ بِالْعَوْدَةِ إِلَى بَيَانِ جَزَاءِ الْمُكَذِّبِينَ، وَسَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.
مَا هُوَ جَزَاءُ الْمُتَّقِينَ الْوَارِدِ فِي الْآيَاتِ؟ وَمَا سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ غَيْرِهِمْ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ؟
مضمون الآيات (41-44):جَزَاءُ الْمُتَّقِينَ
بَعْدَ بَيَانِ جَزَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ، أَوْرَدَتِ الْآيَاتُ جَزَاءَ الْمُتَّقِينَ وَمَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنْ نَعِيمٍ.
قال تعالى: ﴿إِنَّ اَ۬لْمُتَّقِينَ فِے ظِلَٰلٖ وَعُيُونٖ (41)﴾
شرح مفردات الآية:
﴿ظِلَٰلٖ﴾: أَشْجَارٍ مُتَكَاثِفَةِ الْأَغْصَانِ.
﴿وَعُيُونٖ﴾: مَنَابِعِ الْمَاءِ.
تفسير الآية: أَيْ: إِنَّ اَ۬لْمُتَّقِينَ يَتَمَتَّعُونَ فِي ظِلاَلِ أَشْجَارِ مُتَكَاثِفَةٍ؛ إِذْ لَا شَمْسَ فِي الْجَنَّةِ يُسْتَظَلُّ مِنْ حَرِّهَا، وعيون نَابِعَةٍ مِنَ الْمَاءِ.
قال تعالى: ﴿وَفَوَٰكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَۖ (42)﴾
تفسير الآية: فِيهِ إِعْلَامٌ بِأَنَّ الْمَأْكَلَ وَالْمَشْرَبَ فِي الْجَنَّة بِحَسَبِ شَهَوَاتِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا﴾ [الرعد: 35] بِخِلَافِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْمَأْكَـلَ وَالمَشْرَبَ بِحَسَـبِ مَا يَجِدُ الـنَّـاسُ فِي الْأَغْلَـبِ.
قال تعالى: ﴿كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيٓـٔاَۢ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَۖ (43)﴾
الإعراب: ﴿هَنِيٓـٔاَۢ﴾ حَالٌ.
تفسير الآية: أَيْ: كُلُوا وَاشْرَبُوا مُتَهَنِّئِينَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنَ الطَّاعَةِ.
قال تعالى: ﴿إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِے اِ۬لْمُحْسِنِينَۖ (44)﴾
تفسير الآية: أَيْ: كَمَا جَزَيْنَا الْمُتَّقِينَ، فَإِنَّنَا نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.
مضمون الآيات (45-50):مَآلُ الْـمُكَذِّبِينَ وَسَبَبُ هَلَاكِهِمْ
بَعْدَ خِطَابِ الْمُتَّقِينَ، تَوَجَّهَتِ الْآيَاتُ لِخَطَابِ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ جَدِيدٍ.
قال تعالى: ﴿وَيْلٞ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُكَذِّبِينَۖ (45)﴾
تفسير الآية: وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلْوَعِيدِ الْمُتَقَدِّمِ بِالْوَيْلِ وَالْعَذَابِ لِلْمُنْكِرِينَ الْجَاحِدِينَ.
قال تعالى: ﴿كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً اِنَّكُم مُّجْرِمُونَۖ (46)﴾
تفسير الآية: أَيْ: كَلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا مِنَ الزَّمَانِ فِي الدُّنْيَا، وَغَايَتُهُ إِلَى الْمَوْتِ، إنكم مُرْتَكِبُونَ جُرْمًا عَظِيمًا تَسْتَحِقُّونَ عَنْهُ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وهو سَبَبَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ.
قال تعالى: ﴿وَيْلٞ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُكَذِّبِينَۖ (47)﴾
تفسير الآية: أي: هَلَاكٌ وَعَذَابٌ لِلْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الْبَعْثِ.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اُ۪رْكَعُواْ لَا يَرْكَعُونَۖ (48)﴾
شرح مفردات الآية: ﴿اُ۪رْكَعُواْ﴾: صَلُّوا.
تفسير الآية: أَيْ: إذا قيل لهم صَلُّوا لَا يُصَلُّون.
قال تعالى: ﴿وَيْلٞ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُكَذِّبِينَۖ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثِۢ بَعْدَهُۥ يُومِنُونَۖ (50)﴾
شرح مفردات الآية: ﴿حَدِيثِۢ﴾: الْقُرْآن.
تفسير الآية: أَيْ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يُؤْمِنُونَ؟ فَلَا يُمْكِنُ إِيمَانُهُمْ بِغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللهِ بَعْدَ تَكْذِيبِهِمْ بِهِ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْإِعْجَازِ الَّذِي لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ.
وَمِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَأْتِي:
بَيَانُ أَهَمِّيَةِ التَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَآثَارِهِما فِي نَيْلِ النَّعِيمِ المُقِيمِ.
فَضْلُ نَعِيمِ الْجَنَّةِ الدَّائِمِ، عَلَى مَتَاعِ الدُّنْيَا الْفَانِي.
التَّكْذِيبُ وَالْجُحُودُ وَإِنْكَارُ الصَّلَاةِ وَتَرْكُهَا مِنْ أَسْبَابِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
أَتَخَـلَّــقُ وَأَتَـزَكَّــى:
التَّقْوَى أَسَاسُ الإِيمَانِ، أَجْمَلَهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ فِي أَعْمَالٍ وَصِفَاتٍ عَلَينا التَّحَلِّي بِهَا، وَهِيَ: الخوف من الجليل، الاستعداد ليوم الرحيل، القناعة بالقليل، العمل بالتنزيل.
التقويم:
مَاذَا أَعَدَّ اللهُ لِلْمُتَّقِينَ فِي الْآيَاتِ؟
لِمَاذَا اسْتَحَقَّ الْمُكَذِّبُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ الْوَارِدَ فِي الْآيَاتِ؟
مَا سَبَبُ عَذَابِ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ؟
كَيْفَ أَفُوزُ بِجَزَاءِ الْمُتَّقِينَ؟ وَكَيْفَ أَحْتَرِزُ مِنْ جَزَاءِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ؟