جديد الموقع: كيف أتفوق في دراستي؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَصْلٌ وَتَحْصُلُ الطَّهَارَةُ بِمَا *** مِنَ التَّغَيُّرِ بِشَيْءٍ سَلِمَا
إِذَا تَغَيَّرَ بِنَجْسٍ طُرِحَا *** أوْ طَاهِرٍ لِعَادَةٍ قَدْ صَلُحَا
إِلاَّ إِذَا لَازَمَهُ فِي الْغَالِبْ *** كَمَغْرَةٍ فَمُطْلَقٌ كَالذَّائِبْ
شرح المفردات:
النَّجْسُ: هُوَ الْقَذِرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَالنَّجَسُ: مَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ فِيهِ ذَاتِيَّةً.
طُرِحَ: رُمِيَ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ.
الْمَغْرَةُ: بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا، طِينٌ أَحْمَرُ يُصْبَغُ بِهِ.
الذَّائِبُ: السَّائِلُ الَّذِي لَيْسَ بِجَامِدٍ وَلَا مُتَصَلِّبٍ.
مصطلحات فقهية:
الْحَدَثُ: الْمَنْعُ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى الْأَعْضَاءِ كلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا.
أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى: وَصْفٌ حُكْمِيٌّ يُقَدَّرُ وُجُودُهُ عَلَى الْأَعْضَاءِ تَحْرُمُ الصَّلَاةُ مَعَهُ، وَلَا تَصِحُّ لَوْ فُعِلَتْ.
النَّجَسُ وَالْخَبَثُ وَالنَّجَاسَةُ: مَا اسْتَقْذَرَهُ الشَّرْعُ وَمَنَعَ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ بِهِ.
تمهيد:
مَا الطَّهَارَةُ؟ وَمَا حُكْمُهَا؟ وَمَا الْمِيَاهُ التِي تَكُونُ بِهَا؟ وَمَا أَقْسَامُهَا وَأَحْكَامهَا؟
تعريف الطَّهَارَةُ:
لُغَةً: النَّظَافَةُ وَالنَّزَاهَةُ، وَالتَّخَلُّصُ مِنَ الْأَنْجَاسِ وَالْآثَامَ.
وَشَرْعًا: إِزَالَةُ النَّجَسِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ بِالْمَاءِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ (الصعيد الطيب).
مشروعيتها:
حُكم الطَّهَارَةُ واجبة بِنَوْعَيْهَا (من الحدث والخبث) عِنْدَ إِرَادَةِ الصَّلاَةِ أَوْ مَا فِي حُكْمِهَا (كالطواف في الحج أو لمس المصحف)، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: 7]. وَتُسْتَحَبُّ فِي غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الدَّوَامِ، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 220]. وَلَا تَصِحُّ بِمَائِعٍ غير الماء المطلق؛ لقوله تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ [الأنفال: 11]، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ...» [سنن الترمذي]، وَهَذَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ النَّاظِمُ فِي قَوْلِهِ: (فَصْلٌ وَتَحْصُلُ الطَّهَارَةُ بِمَا *** مِنَ التَّغَيُّرِ بِشَيْءٍ سَلِمَا).
حِكمتها:
مِنْ مَقَاصِدِ الطَّهَارَةِ الِاعْتِنَاءُ بتزكية ذات الْمُسْلِمِ بِتَطْهِيرِهَا عَنْ كُلِّ دَنَسٍ مَادِّيٍّ كأَقْذَارِ النَّجَاسَاتِ أَوْ مَعْنَوِيٍّ كأَدْنَاسِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَتَطْهِيرِ الْقُلُوبِ عَنِ الْأَخْلاَقِ الدَّنِيئَةِ وَالرَّذَائِلِ الْمَذْمُومَةِ، وَتَطْهِيرِ كُلِّ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِ، تَهْيِيءُ نَفْسِ الْمُسْلِمِ، بِتَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ؛ لِيَكُونَ أَثَرُ الْعِبَادَةِ أَعْمَقَ وَأَقْوَى وَأَرْقَى بِروحِ الْمُؤْمِن.
أقسامها:
الطَّهَارَةُ قِسْمَانِ، وهما: طَهَارَةُ حَدَثٍ، وطَهَارَةُ خَبَثٍ.
طَهَارَةُ حَدَثٍ؛ وَهِي: الَّتِي تزيل الْحَدَثَ، وترفع المنع الْمُتَرَتِّبَ عَلَى الْبَدَنِ عِنْدَ انْعِدَامِ الطَّهَارَةِ، وَلَوْ كَانَتْ كُلُّ أَعْضَائِهِ نَظِيفَةً.
طَهَارَةُ خَبَثٍ؛ وَهِي: الَّتِي تُزِيلُ النَّجَاسَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْبَدَنِ أَوْ الثَّوْبِ أَوْ مَكَانِ الصَّلاَةِ وَمَا أشْبَهَهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ.
- ما تصح به الطهارة وما لا تصح من الْمِيَاهُ:
تَنْقَسِمُ الْمِيَاهُ إِلَى قِسْمَيْنِ: مُطْلَقٍ، وَمُضَافٍ.
الماء الْمُطْلَقُ وَهُوَ: الْمَاءُ الْخَالِصُ الَّذِي لَمْ يَتَغَيَّرْ أَصْلًا أَحَدُ أَوْصَافِهِ (طَعْماً أَوْ لَوْناً أَوْ رَائِحَةً) بِشَيْءٍ خَارِجٍ عَنْهُ غَالِبًا، كَمَا عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ؛ فَهُوَ طَهُورٌ أَيْ طَاهِرٌ فِي ذَاتِهِ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ، تَحْصُلُ بِهِ طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ وَتَصِحُّ بِهِ؛ ويُسْتَعْمَلُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ. مثاله: مَاء الْبَحْرِ، وَمَاءُ الْأَنْهَارِ، وَالْمَاءُ الذَّائِبُ مِنَ الثَّلْجِ وَنَحْوِهِ، وَمَا تَغَيَّرَ بِالطِّينِ أَوِ اِلْمَعَادِنِ، وَمَا تَغَيَّرَ بِطُولِ مُكْثِهِ وَإِقَامَتِهِ.
وَالْمَاءُ الْمُضَافُ وَهُوَ: الَّذِي تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ (طَعْماً أَوْ لَوْناً أَوْ رَائِحَةً) بِمُخَالَطَةِ مَا يُفَارِقُهُ غَالِبًا، وَيَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى مُغَيِّرِهِ فَيُقَالَ: مَاءُ الْوَرْدِ، وَمَاءُ الْعَجِينِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَيَنْقَسِمُ حَسَبَ مُغَيِّرِهِ إِلَى ثلاثة أَقْسَامٍ:
فَإِنْ تَغَيَّرَتْ أَوْصَافُهُ أَوْ أَحَدُهَا بِنَجَسٍ كَالدَّمِ وَالْبَوْلِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّه غَيْرُ طَاهِرٍ وَلَا مُطَهِّرٍ، فيُطْرَحُ لِنَجَاسَتِهِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْعِبَادَاتِ كالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَتَطْهِيرِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْمَكَانِ، وَلَا فِي الْعَادَاتِ كَالْشُّرْبِ وَالطَّعامِ وَنَحْوِهِمَا. وَفِي ذَلِكَ قال النَّاظِم: (إِذَا تَغَيَّرَ بِنَجْسٍ طُرِحَا).
وَإِنْ تَغَيَّرَتْ أَوْصَافُهُ أَوْ أَحَدُهَا بِطَاهِرٍ كَالزَّيْتِ وَاللَّبَنِ، فَإِنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، يَصْلُحُ لِلْعَادَاتِ لَا لِلْعِبَادَاتِ. وَفِي ذَلِكَ قَال النَّاظِم: (أَوْ طَاهِرٍ لِعَادَةٍ قَدْ صَلُحَا).
وَإِنْ تَغَيَّرَ بَعْضُ أَوْصَافِهِ بِطَاهِرٍ يُلَازِمُهُ وَلَا يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا كَالْمَغْرَةِ وَالْمِلْحِ وَالْمَعَادِنِ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا أَوْ مَرَّ عَلَيْهَا، أَوْ بِالْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ كَالْطُّحْلُبِ (خُضْرَةٌ تَعْلُو الْمَاءَ لِطُولِ مُكْثِهِ)، فَإِنَّهُ طَهُورٌ مُطْلَقٌ أَيْ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، يُسْتَعْمَلُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ. وَفِي ذَلِكَ قَال النَّاظِم: (إِلاَّ إِذَا لَازَمَهُ فِي الْغَالِبْ كَمَغْرَةٍ فَمُطْلَقٌ كَالذَّائِبْ).
التقويم
أَذْكُرُ أَنْوَاعَ الْمِيَاهِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ.
ميز بَيْنَ هَذَيْنِ الْمُصْطَلَحَيْنِ: الطَّاهِرُ– الطَّهُورُ.
بين حُكْمَ الصورتين الآتيتين:
رَجُلٍ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ وَقَعَتْ فِيهِ قَطْرَةُ بَوْلِ صَبِيٍّ.
امْرَأَةٍ تَوَضَّأَتْ بِمَاءٍ تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُ أَوْ لَوْنُهُ بِصَابُونٍ أَوْ نَحْوِهِ.
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَرَائِضُ الْوُضُوءِ سَبْعَةٌ وَهِي *** دَلْكٌ وَفَوْرٌ نِيَّةٌ فِي بَدْئِهِ
وَلْيَنْوِ رَفْعَ حَدَثٍ أَوْ مُفْتَرَضْ *** أَوِ اِسْتِبَاحَةً لِمَمْنُوعٍ عَرَضْ
وَغَسْلُ وَجْهٍ غَسْلُهُ الْيَدَيْنِ *** وَمَسْحُ رَأْسٍ غَسْلُهُ الرِّجْلَيْنِ
وَالْفَرْضُ عَمَّ مَجْمَعَ الْأُذْنَيْن *** وَالْمَرْفِقَيْنِ عَمَّ وَالْكَعْبَيْنِ
خَلِّلْ أَصَابِعَ الْيَدَيْنِ وَشَعَر *** وَجْهٍ إِذَا مِنْ تَحْتِهِ الْجِلْدُ ظَهَرْ
شرح المفردات:
فَرَائِضُ: جَمْعُ فَرِيضَةٍ، وَهِي مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْعِبَادَةُ وَلَا تَصِحُّ دُونه.
عَرَضَ: طَرَأَ.
اَلْمَرْفِقَانِ: تَثْنِيَةُ مَرْفِقٍ، وَهُوَ: مَوْصِلُ الذِّراعِ في العَضُدِ.
الْكَعْبَانِ: تَثْنِيَةُ كَعْبٍ، وَهُوَ الْعَظْمُ النَّاتِئُ مَا بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ.
تمهيد:
فَمَا هُوَ الْوُضُوءُ؟ وَمَا فَرَائِضُهُ؟ وَمَا أَحْكَامُ هَذِهِ الْفَرَائِضِ؟
أَوَّلا: تعريف الوضوء وحكمه
الْوُضُوءُ لُغَةً: مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَضَاءَةِ، وَهِيَ النَّظَافَةُ وَالْحُسْنُ وَالْبَهَاءُ وَالنُّورُ. وَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ: اِسْمٌ لِلْمَاءِ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ، وَبِضَمِّهَا: اِسْمٌ لِفِعْلِ الْوُضُوءُ.
وَاِصْطِلاحا: تَطْهِيرُ أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ بِالْمَاءِ لِرَفْعِ الْحَدَثِ وَاِسْتِبَاحَةِ الْمَمْنُوعِ.
وَهُـوَ وَاجِـبٌ لِعِبَـادَاتٍ مُعَيَّنَـةٍ أَعْظَمُهَـا الصَّـلاَةُ، قَالَ اللهُ تَعَـالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: 7]، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلاَةَ بِغَيْرِ طُهُورٍ» [سنن الْبَيْهَقِيِّ].
وَلِوُجُوبِهِ وَصِحَّتِهِ شُرُوطٌ:
فَشُرُوطُ وُجُوبِهِ (4): (1) دُخُولُ الْوَقْتِ، (2) وَالْبُلُوغُ، (3) وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ، (4) وَحُصُولُ النَّاقِضِ.
وَشُرُوطُ صِحَّتِهِ (3): (1) الْإِسْلامُ، (2) وَعَدَمُ الْحَائِلِ، (3) وَعَدَمُ الْمُنَافِي.
وَشُرُوطُ وُجُوبِهِ وَصِحَّتِهِ مَعا (4): (1) الْعَقْلُ، (2) وَالنَّقَاءُ مِنَ الْحَيْضِ وَالنّفاسِ، (3) وَوُجُودُ مَا يَكْفِي مِنَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، (4) وَعَدَمُ النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ.
وَهُوَ مَنْدُوبٌ فِي مَوَاطِنَ ذَكَرَهَا صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ الْفِقْهِيَّةِ رَحِمَهُ اللهُ فقَالَ: يُنْدَبُ الْوَضُوءُ فِي عَشَرَةِ مَوَاطِنَ: لِزِيَارَةِ رَجُلٍ صَالِحٍ كَعَالِمٍ وَعَابِدٍ وَزاهِدٍ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ، وَلِزِيارَةِ سُلْطَانٍ، وَلِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوِ الْحَديثِ أَوِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، وَلِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَعِنْدَ النَّوْمِ، وَعِنْدَ دُخُولِ السُّوقِ، وَيُنْدَبُ إِدَامَتُهُ لِأَنَّهُ نُورٌ، وَتَجْدِيدُهُ إِنْ صَلَّى بِهِ فَرْضا أَوْ نَفْلا، لَا إِنْ مَسَّ بِهِ مُصْحَفا فَلَا يُنْدَبُ لَهُ تَجْدِيدُهُ.
وَقَدْ جَاءَ فِي حِكْمَةِ اِلْوُضُوءِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ [المائدة: 7]، كَمَا وَرَدَ فَي فَضْلِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اَلْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ» [مصنف ابن أبي شيبة].
ثَانِيا: فرائض الوضوء
فَرَائِضُ الْوُضُوءِ (7)، وَهِيَ:
(1) الدَّلْكُ؛ وَهُوَ عَرْكُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بِرِفْقٍ عِنْدَ غَسْلِهَا بِالْيَدِ. وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَا يَصِحُّ إِلَّا مَعَ طَهَارَةِ الْعُضْوِ الْمَغْسُولِ، فَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ لَمْ يُجْزِهِ الدَّلْكُ إِلَّا بَعْدَ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ.
(2) الْفَوْرُ؛ وَهُوَ الْمُوَالَاةُ، وَهِيَ: فِعْلُ الْوُضُوءِ كُلِّهِ فِي زَمَنٍ مُتَّصِلٍ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ، وَيَبْطُلُ الْوُضُوءُ بِالتَّفْرِيقِ إِنْ كَانَ عَمْدا أَوِ اِخْتِيَارا، لَا إِنْ كَانَ نِسْيَانا أَوْ عَجْزا.
(3) النِّيَّةُ فِي اِبْتِدَائِهِ؛ وَهِي قَصْدُ رَفْعِ الْحَدَثِ بِالْوُضُوءِ؛ وَهِي وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: 5]، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»؛ [صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ] وَمَحَلُّهَا الْقَلْبُ، فَلَا يُلْفَظُ بِهَا، وَتَكُونُ أَوَّلَ الْوُضُوءِ عِنْدَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ أَوَّلا.
وَالْحِكْمَةُ مِنْ وُجُوبِ النِّيَّةِ اسْتِحْضَارُ قَصْدِ التَّعَبُّدِ، وَتَمْيِيزُ الْعِبَادَاتِ عَنِ الْعَادَاتِ، وَتَمْييزُ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ؛ فَقَدْ يَكُونُ الْغُسْلُ عِبَادَةً، وَقَدْ يَكُونُ تَبَرُّدا؛ وَقَدْ يَكُونُ حُضُورُ الْمَسَاجِدِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ؛ وَقَدْ تَكُونُ الصَّلاَةُ فَرْضا، وَقَدْ تَكُونُ نَفْلا؛ وَقَدْ يَكُونُ الْفَرْضُ عَيْنِيّا، وَقَدْ يَكُونُ كِفَائِيّا. وَفِي هَذِهِ الْفَرَائِضِ قَال النَّاظِم: (فَرَائِضُ الْوُضُوءِ سَبْعَةٌ وَهِي *** دَلْكٌ وَفَوْرٌ نِيَّةٌ فِي بَدْئِهِ).
وَلِلنِّيَّةِ أَوْجُهٌ ثَلاثَةٌ: نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ عَنِ الْأَعْضَاءِ، أَوْ نِيَّةُ أَدَاءِ الْوَضُوءِ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِ، أَوْ نِيَّةُ اِسْتِبَاحَةِ مَا مَنَعَ مِنْهُ الْحَدَثُ كَالصَّلاَةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَنَحْوِهِمَا. وَهَذَا قَوْلُ النَّاظِمِ: (وَلْيَنْوِ رَفْعَ ... إلى: لِمَمْنُوعٍ عَرَضْ).
والْوُضُوءُ لِلنَّوَافِلِ كَالْوُضُوءِ لِلْفَرَائِضِ في وُجُوبِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ اِسْتِبَاحَةُ النَّافِلَةِ؛ وَالْوَضُوءُ لِلْفَرِيضَةِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّه فَرْضٌ تَتَوَقَّفُ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ؛ وَلَا تَجِبُ النِّيَّةُ فِي: وُضُوء التَّجْدِيدِ؛ لِعَدَمِ فَرْضِيَّتِهِ، وَعَدَمِ تَوَقُّفِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ. وَلَا تَضُرُّ نِيَّةُ التَّبَرُّدِ مَعَ نِيَّةِ رَفْعِ اِلْحَدَثِ فِي اِلْوُضُوءِ، لِحُصُولِهِ بِلَا نِيَّةٍ.
(4) غَسْلُ الْوَجْهِ؛ وَهُوَ مِنْ مَنْبِتِ الشَّعَرِ الْمُعْتَادِ إِلَى مُنْتَهَى الذَّقَنِ، وَمِنْ الْأُذُنِ إِلَى الْأُذُنِ، فَيَغْسِلُ الْمُتَوَضِّئُ مَا عَلَى جَبْهَتِهِ مِنَ الشَّعَرِ، وَلَا يَغْسِلُ الْأَصْلَعُ مَا انْحَسَرَ وَذَهَبَ عَنْه الشَّعَرُ مِنَ الرَّأْسِ، وَيَغْسِلُ وَتِدَيِ الْأُذْنَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَيَجِبُ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ تَخْلِيلُ الشَّعَرِ الْخَفِيفِ مِنَ اللِّحْيَةِ دُونَ الْكَثِيفِ. وَالْخَفِيفُ: مَا تَظْهَرُ الْبَشَرَةُ مِنْ تَحْتِهِ، وَالْكَثِيفُ مَا لَا تَظْهَرُ تَحْتَهُ؛ وَالتَّخْلِيلُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ. وَفِي وُجُوبِ تَخْلِيلِ الشَّعَرِ قَالَ النَّاظِمُ: (وَشَعَرْ وَجْهٍ إِذَا مِنْ تَحْتِهِ الْجِلْدُ ظَهَرْ).
(5) غَسْلُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ؛ وَيَجِبُ غَسْلُهُمَا مَعَ الْمِرْفَقَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ، كَمَا يَجِبُ تَخْلِيلُ أَصَابِعِهِمَا عَلَى الْمَشْهُورِ. وَيَبْدَأُ فِي التَّخْلِيلِ بِخِنْصِرِ الْيُمْنَى ثُمَّ مَا يَلِيهِ، وَبِإِبْهَامِ الْيُسْرَى ثُمَّ مَا يَلِيهِ، لِلْاِبْتِدَاءِ بِالْمَيَامِنِ.
وَمِنْ حِكَمِ تَخْلِيلِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ الْمُبَالَغَةُ فِي الطَّهَارَةِ، وَإِبْعَادُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَقَ بِمَا بَيْنَ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ، وَالْوِقَايَةُ مِنْ تَعَفُّنَاتٍ قَدْ تُؤَثِّرُ سَلْبا عَلَى صِحَّةِ الْإِنْسَانِ. وَفِي دُخُولِ الْمِرْفَقَيْنِ وَوُجُوبِ تَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ قَالَ النَّاظِمُ: (وَالْمَرْفِقَيْنِ عَمَّ وَالْكَعْبَيْنِ خَلِّلْ أَصَابِعَ الْيَدَيْنِ).
(6) مَسْحُ الرَّأْسِ؛ فَيَجِبُ مَسْحُ جَمِيعِ شَعَرِ الرَّأْسِ وَلَوْ كَانَ طَوِيلا؛ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ حَلُّ ضَفَائِرِهَا لِلْمَشَقَّةِ التِي تَلْحَقُهَا فِي ذَلِكَ، وَتُدْخِلُ يَدَيْهَا مِنْ تَحْتِ ضَفَائِرِهَا فِي رُجُوعِ يَدَيْهَا فِي الْمَسْحِ.
(7) غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ؛ وَالْمُرَادُ غَسْلُهُمَا مَعَ الْكَعْبَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَنَبَّهَ النَّاظِمُ إِلَى دُخُولِ الْكَعْبَيْنِ بِقَوْلِهِ: (وَالْمَرْفِقَيْنِ عَمَّ وَالْكَعْبَيْنِ). وَفِي هَذِهِ الْفَرَائِضِ قَال النَّاظِمِ: (وَغَسْلُ وَجْهٍ غَسْلُهُ الْيَدَيْنِ *** وَمَسْحُ رَأْسٍ غَسْلُهُ الرِّجْلَيْنِ).
وَمِنْ مَقَاصِدِ هَذِهِ اِلْعِبَادَةِ أَنَّ اَلْوُضُوءَ تَطْهِيرٌ لِلْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ بِالْمَاءِ، تَمْهِيدا لِدُخُولِ حُرْمَةِ اِلصَّلَاةِ، وَاسْتِعْدَادا لِمُنَاجَاةِ اللهِ تَعَالَى بِتَطْهِيرِ الْجَوَارِحِ مِنَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ، وَتَنْظِيفِ الْقَلْبِ مِمَّا يَشْغَلُ عَنِ اللهِ تَعَالَى مِنَ الْغَفَلَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ، وَيَحْجُبُ عَنْ تَذَوُّقِ وَاسْتِحْقَاقِ آثَارِ هَذِهِ الْمُنَاجَاةِ وَبَرَكَاتِهَا.
التقويم:
عرف الْوُضُوءَ مُبَيِّنا حُكْمَهُ مَعَ الدَّلِيلِ.
بين مَعْنَى كَلِمَةِ (فَرَائِضُ)، وَكَمْ هِي فَرَائِضُ الْوُضُوءِ؟
بين حَدَّ الْفَرْضِ فِي كُلٍّ مِنَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.
الاستثمار:
قَالَ الشَّيْخُ مَيّارَةُ رَحِمَهُ اللهُ: قَالَ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ فِي شَرْحِهِ لِلرِّسَالَةِ: لِلْعَامَّةِ فِي الْوُضُوءِ أَمُورٌ مِنْهَا صَبُّ الْمَاءِ مِنْ دُونِ الْجَبْهَةِ وَهُوَ مُبْطِلٌ؛ وَنَفْضُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى الْوَجْهِ وَهُوَ كَذَلِكَ؛ وَلَطْمُ الْوَجْهِ بِالْمَاءِ لَطْما وَهُوَ جَهْلٌ لَا يَضُرُّ؛ وَقَالَ قَبْلَ هَذَا: وَلَا يَكُبُّ وَجْهَهُ فِي يَدَيْهِ كَبّا، وَلَا يَرُشُّهُ رَشّا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ جَهْلٌ [الدر الثمين].
استخلص مِنَ النَّصَّ مَا لَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ فِي الْوُضُوءِ.
تمهيد:
لِلْوَضُوءِ حَدٌّ أَوْجَبُ، وَهُوَ الْإِتْيانُ بِالْفَرَائِضِ، وَحَدٌّ أَوْكَدُ، وَهُوَ الْإِتْيانُ بِالسُّنَنِ مَعَ الْفَرَائِضِ، وَحَدٌّ أَكْمَلُ، وَهُوَ الْإِتْيانُ مَعَهُمَا بِالْفَضَائِلِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْدَادٌ لِمُنَاجَاةِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ.
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
سُنَنُهُ السَّبْعُ ابْتِداً غَسْلُ الْيَدَيْنْ *** وَرَدُّ مَسْحِ اِلرَّأْسِ مَسْحُ الُاذْنَيْنْ
مَضْمَضَةُ اسْتِنْشَاقٌ اِسْتِنْثَارُ *** تَرْتِيبُ فَرْضِهِ وَذَا الْمُخْتَارُ
وَأَحَدَ عْشَرَ الْفَضَائِلُ أَتَتْ *** تَسْمِيَةٌ وَبُقْعَةٌ قَدْ طَهُرَتْ
تَقْلِيلُ مَاءٍ وَتَيَامُنُ اْلْإِنَا *** وَالشَّفْعُ وَالتَّثْلِيثُ فِي مَغْسُولِنَا
بَدْءُ الْمَيَامِنِ سِوَاكٌ وَنُدِبْ *** تَرْتِيبُ مَسْنُونِهِ أَوْ مَعْ مَا يَجِبْ
وَبَدْءُ مَسْحِ اِلرَّأْسِ مِنْ مُقَدَّمِهْ *** تَخْلِيلُهُ أَصَابِعاً بِقَدَمِهْ
شرح المفردات:
مَضْمَضَةٌ: هِي تَحْرِيكُ الْمَاءِ فِي الْفَمِ.
اسْتِنْشَاقٌ: هُوَ إدْخَالُ الْمَاءِ إِلَى الْأَنْفِ بِالنَّفَسِ.
اِسْتِنْثَـارُ: هُوَ إِخْرَاجُ الْمَاءِ مِنَ الْأَنْفِ بِالنَّفَسِ.
أَحَدَ عْشَرَ: بِسُكُونِ الْعَيْنِ: لُغَةٌ فِي أَحَدَ عَشَرَ بِفَتْحِهَا.
تَسْمِيَــةٌ: قَوْلُ بِسْم اللهِ.
وَبُقْعَــةٌ: هِي الْمَكَانُ.
وَالشَّفْـعُ: فِعْلُ الشَّيْءِ مرَّتَيْنِ.
وَالتَّثْلِيـثُ: فِعْلُ الشَّيْءِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ.
الْمَيَامِـنِ: هِيَ الْأَعْضَاءُ الَّتِي عَلَى يَمِينِ الْبَدَنِ.
سِـواكٌ: مَا يُسْتَاكُ بِهِ مِنْ عُودٍ أَوْ نَحْوِهِ.
أَوَّلاً: سنن الوضوء
سُنَنُ الْوُضُوءِ سَبْعٌ (7)، وَهِيَ:
1- الْاِبْتِداءُ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ ثَلَاثًا قَبْلَ إدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ؛ يَغْسِلُهُمَا الْمُتَوَضِّئُ بِنِيَّةٍ، سَواءٌ كَانَ مُتَّسِخَ الْيَدَيْنِ أَوْ نَظِيفَهُمَا؛ وَيُعِيدُ غَسْلَهُمَا مَنْ أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ وُضُوئِهِ، وَلَا يُدْخِلُهُمَا فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يُفْرِغَ عَلَيْهِمَا الْمَاءَ، إِلَّا إِنْ كَانَ الْإِنَاءُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصُبَّ مِنْهُ الْمَاءَ عَلَى يَدِهِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُدْخِلَهَا فِيهِ قَبْلَ غَسْلِهَا. وَمَنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ قَبْلَ غَسْلِهَا لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ وُضُوءَهُ، إِلَّا إِنْ كَانَ فِي يَدِهِ نَجَاسَةٌ.
وَالْأَصْلُ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ مَا جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ، فَلَا يُدْخِلْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يُفْرِغَ عَلَيْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» [سنن النسائي].
وَمِنْ حِكَمِ غَسْلِ الْكَفَّيْنِ قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ: أَنَّ الْيَدَيْنِ يُبَاشِرَانِ الْأَعْمَالَ، فَيَعْلَقُ بِهِمَا مِنَ الْأَوْسَاخِ الضَّارَّةِ وَغَيْرِ الضَّارَّةِ مَالَا يَعْلَقُ بِغَيْرِهِمَا، فَإِذَا لَمْ يُغْسَلَا قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ، انتَقَلَ مَا تَعَلَّقَ بِهِمَا إِلَى الْمَاءِ، وَقَدْ يَنْتَقِلُ إِلَى وَجْهِ الْمُتَوَضِّئِ وَفَمِهِ وَأَنْفِهِ وَعَيْنَيْهِ، فَيُصِيبُهُ الضَّرَرُ الْعَظِيمُ.
2- الْمَضْمَضَةُ؛ وَهِي إدْخَالُ الْمَاءِ فِي الْفَمِ وَتَحْرِيكُهُ مِنْ شِدْقٍ لِآخَرَ وَرَمْيُهُ.
3+4- وَالْاِسْتِنْشاقُ وَالِاسْتِنْثَارُ؛ وَهُمَا أَنْ يَجْذِبَ الْمَاءَ بِالنَّفَسِ إِلَى أَنْفِهِ وَيَنْثُرَهُ مِنْهُ بِالنَّفَسِ، مَاسِكًا عَلَى أَنْفِهِ بِأُصْبُعَيْهِ. وَيُبَالِغُ غَيْرُ الصَّائِمِ فِي الْاِسْتِنْشَاقِ لِلتَّنْقِيَةِ. وَهُمَا سُنَّتَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَسْتَنْثِرْ» [سُنَنُ النَّسَائِيِّ].
5- رَدُّ مَسْحِ الرَّأْسِ مِنْ مُنْتَهَى الْمَسْحِ عِنْدَ الْقَفَا إِلَى مَبْدَئِهِ عِنْدَ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ.
6- مَسْحُ الْأُذْنَيْنِ ظاهِرِهِمَا وَباطِنِهِمَا؛ يَمْسَحُ ظَاهِرَهُمَا بِإِبْهَامَيْهِ، وَباطِنَهُمَا بِأُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ، يَجْعَلُهُمَا فِي صِمَاخَيْهِ.
7- تَرْتِيبُ الْفَرَائِضِ فِيمَا بَيْنَهَا؛ فَيُقَدِّمُ الْوَجْهَ عَلَى الْيَدَيْنِ، وَالْيَدَيْنِ عَلَى الرَّأْسِ، وَالرَّأْسَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ، عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ، فَيَنْبَغِي تَرْتِيبُ أفعال الْوُضُوءِ كَمَا فِي آيَةِ الْوُضُـوءِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6]، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اَللهُ» [سنن أبي داود].
وَفِي هَذِهِ السُّنَنِ قَال النَّاظِم: (سُنَنُهُ السَّبْعُ ابْتِداً...إِلَى: وَذَا الْمُخْتَارُ).
ثَانِياً: فضائل الوضوء
فَضَائِلُ الْوُضُوءِ هِيَ مُسْتَحَبَّاتُهُ، وَهِي إحْدَى عَشْرَةَ (11) فَضِيلَةً، وَهِيَ:
جَعْلُ إِنَاءِ مَاءِ الْوُضُوءِ عَلَى الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنُ لَهُ فِي تَنَاوُلِهِ، إِلَّا أَنْ يَضِيقَ عَنْ إدْخَالِ الْيَدِ فِيهِ، فَاخْتِيَارُ أهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُوضَعَ عَلَى الْيَسَارِ.
1- التَّسْمِيَةُ؛ وَهِي قَوْلُ: بِسْمِ اللهِ. وَمِنَ حِكْمِةِ ذَلِكَ: التَّبَرُّكُ، وَالْاِسْتِعانَةُ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالتَّعَوُّذُ بِاسْمِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ.
2- السِّوَاكُ؛ وَالْمُرَادُ إِمْرَارُ السِّوَاكِ عَلَى الْأَسْنَانِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ بِعُودِ السِّوَاكِ إِنْ وُجِدَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَبِالْأُصْبُعِ. وَيَسْتَاكُ قَبْلَ الْوُضُوءِ، وَيَتَمَضْمَضُ بَعْدَهُ، لِيُخْرِجَ الْمَاءُ مَا حَصَلَ بِالسِّوَاكِ؛ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِرِفْقٍ لَا بِعُنْف وَقَدْ جَاءَ فِي فَضْلِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اَلْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالسِّوَاكُ شَطْرُ الْوُضُوءِ؛ وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ؛ رَكْعَتَانِ يَسْتَاكُ فِيهِمَا اَلْعَبْدُ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ رَكْعَةً لَا يَسْتَاكُ فِيهَا» [مصنف ابن أبي شيبة].
وَمِنْ حِكَمِهِ تَنْقِيَةُ الْفَمِ وَالْأَسْنَانِ وَتَطْيِيبُهُمَا لِقِرَاءَةِ اِلْقُرْءَانِ وَذِكْرِ اِللهِ وَالْمُنَاجَاةِ.
3- الْغَسْلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ؛ فَتُغْسَلُ الْأَعْضَاءُ ثَلَاثاً إِلَّا الرِّجْلَيْنِ فَحَتَّى يُتَحَقَّقَ الْإِنْقَاءُ؛ لِمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اَللهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ فِي وُضُوئِهِ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدَيْهِ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا» [سنن أبي داود].
4- بَدْءُ مَسْحِ الرَّأْسِ مِنْ مُقَدَّمِهِ، لِمَا لِلْمُقَدَّمِ مِنْ شَرَفٍ عَلَى الْمُؤَخَّرِ.
5- تَخْلِيلُ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ؛ وَلَمْ يَقُولُوا بِوُجُوبِهِ لِالْتِصَاقِهَا، فَأَشْبَهَ مَا بَيْنَهَا باطِنَ الْبَدَنِ، وَلَا يَنْبَغِي تَرْكُ الْمَنْدُوبَاتِ.
6- الْبَدَاءَةُ بِالْمَيَامِنِ قَبْلَ الْمَيَاسِرِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي طُهُورِهِ إِذَا تَطَهَّرَ، وَفِي تَرَجُّلِهِ إِذَا تَرَجَّلَ، وَفِي اِنْتِعَالِهِ إِذَا اَنْتَعَلَ» [سنن الترمذي]، وَذَلِكَ لِمَا لِلْمَيَامِنِ مِنَ الْفَضْلِ وَالْمَزِيَّةَ.
7- تَرْتِيبُ السُّنَنِ فِيمَا بَيْنَهَا؛ فَيُقَدَّمُ غَسْلُ الْيَدَيْنِ ثُمَّ الْمَضْمَضَةُ ثُمَّ الْاِسْتِنْشَاقُ ثُمَّ الِاسْتِنْثَارُ، كَمَا يُقَدَّمُ رَدُّ مَسْحِ الرَّأْسِ عَلَى مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ.
8- تَرْتِيبُ السُّنَنِ مَعَ الْوَاجِبَاتِ؛ فَيُقَدَّمُ غَسْلُ الْيَدَيْنِ وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَالِاسْتِنْثَارُ عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ، وَيُقَدَّمُ مَسْحُ الرَّأْسِ عَلَى مَسْحِ الْأُذْنَيْنِ، وَيُقَدَّمُ مَسْحُ الْأُذْنَيْنِ عَلَى غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ.
9- تَقْلِيلُ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ؛ فَلَيْسَ النَّاسُ فِيمَا يَكْفِيهِمْ مِنَ الْمَاءِ سَواءً، فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ بِحَسَبِ نُعُومَةِ الْجِلْدِ وَخُشُونَتِهِ، وَالْوَاجِبُ الْإِسْبَاغُ وَالْإِكْمَالُ.
10- التَّوَضُّؤُ فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ؛ لِئَلَّا يَتَطَايَرَ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَةِ عَلَى ثَوْبِه أَوْ بَدَنِهِ إِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ مُتَنَجِّساً.
وَعَدُّوا مِنَ الْفَضَائِلِ عَدَمَ التَّوَضُّؤِ فِي بُيُوتِ الْخَلاَءِ (الْمَرَافِقِ الصِّحِّيَّةِ) لِمَا فِيهَا مِنَ النَّجَاسَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ التِي لَا يَنْبَغِي مَعَهَا ذِكْرُ اللهِ، وَالنَّجَاسَةِ الْمُحْتَمَلَةِ التِي يَنْبَغِي تَوَقِّي إِصَابَتِهَا لِلْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ، وَالحِكْمَةُ مِنْ ذَلِكَ تَعْظِيمُ اسْمِ اللهِ وَتَنْزِيهُهُ عَنْ مَوَاطِنِ النَّجَاسَاتِ وَالْأَقْذَارِ. وَفِي هَذِهِ الفَضَائِلِ قَال النَّاظِم: (وَأَحَدَ عْشَرَ الْفَضَائِلُ... إِلَى: أَصَابِعاً بِقَدَمِهْ).
11- وَمِنْ الْفَضَائِلِ أَيْضاً الدُّعَاءُ بَعْدَ الْوُضُوءِ؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ اَلْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللهمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ؛ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ» [سنن الترمذي].
وَمِنَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْوُضُوءِ مَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْحُضُورُ فِي الصَّلاَةِ بِقَدْرِ الْحُضُورِ فِي الْوُضُوءِ؛ وَإِدْمَانُ الْوُضُوءِ مُوجِبٌ لِسَعَةِ الْخُلُقِ، وَسَعَةِ الرِّزْقِ، وَمَحَبَّةِ الْحَفَظَةِ، وَدَوَامِ الْحِفْظِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْمُهْلِكَاتِ، فَقَدْ جَاءَ: الْوَضُوءُ سِلاَحُ الْمُؤْمِنِ. [الدر الثمين 1/842 بتصرف يسير]
التقويم:
أُبَيِّنُ حُكْمَ الصُّورَتَيْنِ الْآتِيَتَيْنِ مَعَ الاستدلال:
رَجُلٌ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَأْتِ بِسُنَنِ الْوُضُوءِ.
رَجُلٌ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَأْتِ بِفَضَائِلِ الْوُضُوءِ.
أُعَدِّدُ فَضَائِلَ الْوُضُوءِ، مَعَ بَيَانِ الْحِكْمَةِ مِنْهَا.
الاستثمار:
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ عَمْرِو بْنِ يَحْيَي الْمَازِنِيِّ جَالِساً بِفِنَاءِ دَارِه، ِفَدَعَا بِوَضُوءٍ، وَقَالَ لِي: اِحْفَظْ، فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اَللهِ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ هَكَذَا: فَصَبَّ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثاً، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثاً، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثاً، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى ثَلَاثاً، ثُمَّ الْيُسْرَى ثَلَاثاً إِلَى الْمَرْفِقَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ مُقْبِلاً وَمُدْبِراً مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ أُذُنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ بَدَأَ بِالْيُمْنَى ثُمَّ الْيُسْرَى» [الواضحة في السنن، سنن الوضوء وحدوده:1/4].
أَسْتَخْلِصُ مِنَ النَّصَّ مَا لَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ فِي الْوُضُوءِ.
تمهيد:
لِعِبَادَةِ الْوُضُوءِ كِفَايَةٌ وَكَمَالٌ وَنُقْصَانٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْكِفَايَةِ وَالْكَمَالِ، أَمَّا النُّقْصَانُ فَهُنَاكَ مَكْرُوهَاتٌ لَا يَنْبَغِي فِعْلُهَا أَوْ إِتْيَانُهَا فِي الْوُضُوءِ، وَأَفْعَالٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا، وَأُخْرَى لَا يَنْبَغِي الْإِخْلَالُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ إِخْلَالٌ بِالْكِفَايَةِ أَوْ بِالْكَمَالِ.
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وَكُرِهَ الزَّيْدُ عَلَى الْفَرْضِ لَدَى *** مَسْحٍ وَفِي الْغَسْلِ عَلَى مَا حُدِّدَا
وَعَاجِزُ الْفَوْرِ بَنَى مَا لَمْ يَطُل *** بِيُبْسِ الَاعْضَا فِي زَمَانٍ مُعْتَدِلْ
ذَاكِرُ فَرْضِهِ بِطُولٍ يَفْعَلُهْ *** فَقَطْ وَفِي الْقُرْبِ الْمُوَالِي يُكْمِلُهْ
إِنْ كَانَ صَلَّى بَطَلَتْ وَمَنْ ذَكَرْ سُنَّتَهُ *** يَفْعَلُهَا لِمَا حَضَرْ
شرح المفردات:
الزَّيْـدُ: الزِّيَادَةُ.
حُـدِّدَ: أَيْ حَدَّدَهُ الشَّرْعُ.
بِيُبْـسِ: بِجَفَافِ.
الْمُوَالِي: التَّابِعُ.
مِنْ أَحْكَامِ الْوُضُوءِ مَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: مكروهات الوضوء
لِلْوُضُوءِ مَكْرُوهَاتٌ تُؤَثِّرُ نَقْصاً فِي كَمَالِ الْوُضُوءِ وَلَا تُبْطِلُهُ، وَهِيَ:
الزِّيادَةُ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي فَرَضَهُ الشَّارِعُ وَقَدَّرَهُ فِي غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَمَسْحِهَا ؛ فَيُكْرَهُ مَا زَادَ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ وَالْأُذْنَيْنِ، وَمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ الَّتِي حَدَّدَهَا الشَّارِعُ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ عَنِ الْوُضُوءِ فَأَرَاهُ، وَقَالَ: «هَكَذَا الْوُضُوءُ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ أَوْ ظَلَمَ وَأَسَاءَ». [سنن أبي داود] وَفِي هَذَا قَالَ النَّاظِمُ:
وَكُرِهَ الزَّيْدُ عَلَى الْفَرْضِ لَدَى *** مَسْحٍ وَفِي الْغَسْلِ عَلَى مَا حُدِّدَا.
وَعَدَّ الْإمَامُ الْقَرَوِيُّ الْمَكْرُوهَاتِ فِي الْخُلَاصَةِ الْفِقْهِيَّةِ فَذَكَرَ مِنْهَا:
الْوُضُوءَ فِي الْبُقْعَةِ النَّجِسَةِ.
إكْثَارَ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ.
الْكَلاَمَ حَالَ الْوُضُوءِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى.
الزِّيادَةَ عَلَى الْغَسْلَاتِ الثَّلَاثِ فِي الْمَغْسُولِ، وَعَلَى الْمَسْحِ فِي الْمَمْسُوحِ.
الْبَدْءَ بِمُؤَخَّرِ الْأَعْضَاءِ. وَهُوَ غَسْلُ الْمُتَأَخِّرِ مِنْ الْأَعْضَاءِ قَبْلَ الْمُتَقَدِّمِ.
تَرْكَ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ عَمْدًا.
مَسْحَ الرَّقَبَةِ، يَعْنِي تَمْدِيدَ مَسْحِ اِلرَّأْسِ إِلَى اَلرَّقَبَةِ.
ثَانِياً: ترك شيء من أفعال الوضوء
الْمَتْرُوكُ مِنْ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فَرْضاً أَوْ سُنَّةً؛ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ عَجْزاً، أَوْ نِسْيَاناً، أَوْ عَمْداً، وَبَيَانُ حُكْمِ ذَلِكَ فِي الْآتِي:
1- فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ فَرْضَ الْفَوْرِ، فَفِيهِ التَّفْصِيلُ الْآتِي:
إنْ تَرَكَهُ عَاجِزًا بَنَى عَلَى مَا فَعَلَ فِي وُضُوئِهِ، مَا لَمْ يَطُلِ الْوَقْتُ مَا بَيْنَ الْعَجْزِ وَإِمْكانِ مُتَابَعَةِ الْوُضُوءِ، فَإِنْ طَالَ الْوَقْتُ بَطَلَ وُضُوءُهُ، وَالطُّولُ مُعْتَبَرٌ بِجَفَافِ الْأَعْضَاءِ الْمُعْتَدِلَةِ فِي الزَّمَنِ الْمُعْتَدِلِ.
إِنْ تَرَكَهُ ناسِياً ثُمَّ تَذَكَّرَ بَنَى عَلَى مَا فَعَلَ بِنِيَّةِ إِكْمَالِهِ، طَالَ أَوْ لَمْ يَطُلْ.
إِنْ تَرَكَهُ عَمْدًا أَوِ اِخْتِيَاراً بَطَلَ وُضُوءُهُ، وَأَعَادَهُ لِتَهَاوُنِهِ وَتَلَاعُبِهِ. وَفِي هَذَا كُلِّهِ قَال النَّاظِم: (وَعَاجِزُ الْفَوْرِ بَنَى... إلى: إِنْ كَانَ صَلَّى بَطَلَتْ).
2- وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ فَرْضاً غَيْرَ الْفَوْرِ وَالنِّيَّةِ، فَهُوَ بَيْنَ حَالَتَيْنِ:
إِنْ كَانَ التَّرْكُ نِسْيَاناً، وَلَمْ يَتَذَكَّرْهُ إِلَّا بَعْدَ طُولٍ، فَعَلَ الْمَنْسِيَّ فَقَطْ وَلَا يُعِيدُ مَا بَعْدَهُ؛ فَإِنْ ذَكَرَهُ بِالْقُرْبِ فَعَلَهُ وَيُعِيدُ مَا بَعْدَهُ؛ وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْهُ فِي الْوَجْهَيْنِ حَتَّى صَلَّى بَطَلَتْ صَلاَتُهُ وَيُعِيدُهَا أَبَداً؛ لِأَنَّهُ صَلَّاهَا بِلَا وُضُوءٍ.
إِنْ كَانَ التَّرْكُ عَمْداً، وَمِثْلُهُ الْجَهْلُ، بَطَلَ وُضُوءُهُ؛ لِإِخْلالِهِ بِالْمُوَالَاةِ عَمْداً اِخْتِيَاراً. وَيَدُلُّ لَهُ مَا جَاءَ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَفِي ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ قَدْرُ الدِّرْهَمِ لَمْ يُصِبْهَا اَلْمَاءُ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعِيدَ اَلْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ». [سنن أبي داود]
3- وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ فَرْضَ النِّيَّةِ، لَمْ يَصِحَّ وُضُوءُهُ، كَمَنْ أَخَذَ الْمَاءَ لِيَتَوَضَّأَ، ثُمَّ انْصَرَفَ سَهْواً، أَوْ غَفْلَةً، أَوْ حَاجَةً، فَغَسَلَ أَعْضَاءَهُ لِلتَّبَرُّدِ أَوْ لِلنَّظَافَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُ عَنِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَغْسِلْهَا بِنِيَّةِ الْوُضُوءِ.
4- وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ سُنَّةً، فَهُوَ أَيْضاً بَيْنَ حَالَتَيْنِ:
إِنْ كَانَ التَّرْكُ نِسْيَاناً، فَإِنَّهُ يَفْعَلُهُ وَحْدَهُ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَلَا يُعِيدُ مَا صَلَّى قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَلَا فَرْقَ فِيه بَيْنَ الطُّولِ وَالْقُرْبِ.
إِنْ كَانَ التَّرْكُ عَمْداً، وَصَلَّى بِهِ إِحْدَى الصَّلَوَاتِ، اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُعِيدَ فِي الْوَقْتِ بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِالْمَتْرُوكِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الطُّولِ وَالْقُرْبِ. وَفِي تَرْكِ السُّنَّةِ قَوْلُ النَّاظِمِ: (وَمَنْ ذَكَرْ سُنَّتَهُ يَفْعَلُهَا لِمَا حَضَرْ).
وَمِنْ حِكَمِ هَذَا الدَّرْسِ:
تَجَنُّبُ الْغُلُوِّ وَالتَّشَدُّدِ فِي أَمْرِ الْعِبَادَةِ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ زِيَادَةُ مَا لَمْ يَأْتِ بِهِ الشَّرْعُ فِي الْعِبَادَاتِ، لِأَنَّ الْمُتَشَدِّدَ فِي الدِّينِ قَدْ يُغْلَبُ فَلَا يَسْتَطِيعُ الْمُوَاصَلَةَ فَيَنْقَطِعُ.
تَجَنُّبُ الْإِسْرَافِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الذِي يُعَدُّ أَسَاسَ الْحَيَاةِ.
التقويم:
أَذْكُرُ مَكْرُوهَاتِ الْوُضُوءِ.
بين حكم تَرْكِ بَعْضِ الْفَرَائِضِ أَوِ السُّنَنِ فِي الْوُضُوءِ.
الاستثمار:
قَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِالْمَسْحِ بِالْمِنْدِيلِ بَعْدَ اَلْوُضُوءِ، قَالَ اَبْنُ وَهْبٍ: عَنْ زَيْدِ بْنِ اِلْحُبَابِ عَنْ أَبِي مُعَاذٍ عَنِ اِبْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ اِلزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اَللهِ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ خِرْقَةٌ يَنْتَشِفُ بِهَا بَعْدَ اَلْوُضُوءِ» [المدونة الكبرى].
اسْتَنْتِج مِنْ هَذَا اَلنَّصِّ حُكْمَ تَنْشِيفِ اِلْأَعْضَاءِ فِي اِلْوُضُوءِ.
تمهيد:
قَدْ تَصْدُرُ مِنَ الْإِنْسانِ أَحْدَاثٌ تَنْقُضُ الطَّهَارَةَ وَتَمْنَعُ مِنَ الْقِيَامِ بِعِبَادَةِ الصَّلاَةِ لِمُنَافَاتِهَا لهَا، فَيُحْتَاجُ مِنْ جَدِيدٍ إِلَى طَهَارَةِ الْحَدَثِ، أَوْ إِلَى طَهَارَةِ الْخَبَثِ أَيْضاً، وَهِيَ الِاسْتِبْرَاءُ وَالِاسْتِنْجَاءُ وَالِاسْتِجْمَارُ.
فَمَا نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ وَمَا أَقْسَامُهَا؟ وَمَا الِاسْتِبْرَاءُ وَالِاسْتِنْجَاءُ وَالِاسْتِجْمَارُ؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَصْلٌ نَواقِضُهُ سِتَّةَ عَشَر *** بَوْلٌ وَرِيحٌ سَلَسٌ إِذَا نَدَر
وَغَائِطٌ نَوْمٌ ثَقيِلٌ مَذْيُ *** سُكْرٌ وَإِغْمَاءٌ جُنُونٌ وَدْيُ
لَمْسٌ وَقُبْلَةٌ وَذَا إِنْ وُجِدَتْ *** لَذَّةُ عَادَةٍ كَذَا إِنْ قُصِدَتْ
إِلْطَافُ مَرْأَةٍ كَذَا مَسُّ الذَّكَرْ *** وَالشَّكُّ فِي الْحَدَثِ كُفْرُ مَنْ كَفَرْ
وَيَجِبُ اسْتِبْرَاءُ الاَخْبَثَيْنِ مَعْ *** سَلْتِ وَنَتْرِ ذَكَرٍ وَالشَّدَّ دَعْ
وَجَازَ الِاسْتِجْمَارُ مِنْ بَوْلِ ذَكَرْ *** كَغَائِطٍ لاَ مَا كَثِيراً اِنْتَشَرْ
شرح المفردات:
سَلَــسٌ: خُرُوجُ الْبَوْلِ أَوْ الرّيحِ دُونَ إِرَادَةٍ، وَهُوَ مَرَضٌ.
غَـائِـطٌ: مَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِنْسَانِ مِنْ فَضَلَاتِ الطَّعَامِ.
إِغْـمَـاءٌ: ذَهَابُ الْعَقْلِ.
وَدْيٌ: مَاءٌ يَخْرُجُ بِإِثْرِ الْبَوْلِ غَالِباً.
مَــذْيٌ: هُوَ مَاءٌ يَخْرُجُ عِنْدَ اللَّذَّةِ.
الَاخْبَثَيْـنِ: الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ.
سَلْتِ وَنَتْرِ: السَّلْتُ: الْمَسْحُ، وَالنَّتْرُ: الْجَذْبُ.
أَوَّلاً: نواقض الوضوء وأقسامه
نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ هِيَ: الْأَشْيَاءُ التِي تَنْقُضُ الطَّهَارَةَ وَتُبْطِلُهَا.
وَهِيَ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحْدَاثٌ، وَأَسْبَابٌ، وَمَا لَيْسَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.
فَالْحَدَثُ: مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِنَفْسِهِ كَالْخَارِجِ الْمُعْتَادِ مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ الْمُعْتَادَيْنِ. وَهُوَ سِتَّةٌ: الْبَوْلُ، وَالْمَذْيُ، وَالْوَدْيُ، وَالْغَائِطُ، وَالرِّيحُ، وَالسَّلَسُ.
وَمَا لَيْسَ مِنَ الْحَدَثِ مِثْلُ َالدَّمِ وَمَاءِ الْبوَاسِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ خَارِجاً مُعْتَاداً، وَلَا مَا خَرَجَ مِنْ جُرْحٍ نَافِذٍ إِلَى الْبَطْنِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ سَبِيلٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ.
وَالسَّبَبُ: مَا كَانَ مُؤَدِّياً إِلَى الْحَدَثِ كَالْنَّوْمِ الْمُؤَدِّي إِلَى خُرُوجِ الرِّيحِ مَثَلاً. وَهُوَ ثَمانِيَةٌ: الْجُنُونُ، وَالْإِغْمَاءُ، وَالسُّكْرُ، وَالنَّوْمُ، وَاللَّمْسُ لِلَذَّةٍ، وَالْقُبْلَةُ لِلَذَّةٍ، وَإِلْطَافُ الْمَرْأَةِ، وَمَسُّ الرَّجُلِ ذَكَرَهُ.
وَمَا لَيْسَ حَدَثاً وَلَا سَبَباً وهُوَ اثْنَانِ: الشَّكُّ، وَالكُفْرُ.
وَمَجْمُوعُهَا سِتَّةَ عَشَرَ، وَهِيَ:
الْبَوْلُ؛ فَيَنْقُضُ إِذَا خَرَجَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ، وَمِنْ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ.
الْغَائِطُ؛ وَيَنْقُضُ إِذَا خَرَجَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ، وَمِنْ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ.
الرّيحُ؛ وَيَنْقُضُ إِذَا خَرَجَ عَلَى الْمُعْتَادِ لَا مِنْ قُبُلٍ أَوْ لِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِمَا.
الْوَدْيُ؛ وَيَنْقُضُ إِذَا خَرَجَ وَحْدَهُ أَوْ قَبْلَ الْبَوْلِ، أَمَّا بَعْدَهُ فَالْبَوْلُ نَاقِضٌ قَبْلَهُ.
الْمَذْيُ؛ وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ بِسَبَبِ اللَّذَّةِ.
السَّلَسُ؛ وَيَشْمُلُ سَلَسَ الْبَوْلِ وَالرّيحِ وَالْمَذْيِ وَالِاسْتِحَاضَةِ، وَيَنْقُضُ إِذَا كَانَ إِتْيانُهُ أَقَلَّ مِنِ اِنْقِطَاعِهِ، وَأَمْكَنَتْ مُدَاوَاتُهُ، وَيُسْتَحَبُّ مِنْهُ الْوُضُوءُ.
أَمَّا إِنْ لَمْ يُفَارِقْ أَصْلاً، أَوْ كَانَ إِتْيانُهُ أَكْثَرَ مِن اِنْقِطَاعِهِ، أَوْ تَسَاوَى زَمَنُ إِتْيَانِهِ وَانْقِطَاعِهِ، أَوْ لَمْ تُمْكِنْ مُدَاوَاتُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَنْقُضُ.
الْجُنُونُ؛ وَيَنْقُضُ لِذَهَابِ الْعَقْلِ، إِذْ لَا يَدْرِي هَلْ وَقَعَ مِنْهُ حَدَثٌ أَمْ لَا؟
الْإِغْمَاءُ؛ وَهُوَ ذَهَابُ الْعَقْلِ لِمَرَضٍ، وَيَنْقُضُ طَوِيلاً أَوْ قَصِيراً.
السُّكْرُ؛ وَيَنْقُضُ بِحَرَامٍ كَالْخَمْرِ، أَوْ بِحَلَالٍ كَاللَّبَنِ الْحَامِضِ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِحُصُولِ السُّكْرِ لَا بِنَوْعِ الْمُسْكِرِ، وَلِأَنَّ سَبَبَ النَّقْضِ هُوَ زَوَالُ الْعَقْلِ.
النَّوْمُ؛ وَالْمُرَادُ: الثَّقِيلُ مِنْهُ؛ طَوِيلاً كَانَ أَوْ قَصِيراً؛ أَمَّا الْخَفِيفُ فَلَا ينْقُضُ، طَوِيلاً كَانَ أَوْ قَصِيراً؛ وَيُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنَ الطَّوِيلِ الْخَفِيفِ، وَعَلاَمَةُ النَّوْمِ الثَّقِيلِ: أَنْ يَسيلَ لُعَابُ النَّائِمِ، أَوْ تَسْقُطَ السُّبْحَةُ مِنْ يَدِهِ، أَوْ يُكَلَّمَ مِنْ قُرْبٍ، وَلَا يَتَفَطَّنَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
اللَّمْسُ؛ وَيَنْقُضُ إِذَا كَانَ لِمَنْ يُلْتَذُّ بِهِ عَادَةً، مَعَ قَصْدِ اللَّذَّةِ، وَجَدَهَا أَمْ لَا، أَوْ مَعَ وُجُودِ اللَّذَّةِ، قَصَدَهَا أَمْ لَا.
الْقُبْلَةُ؛ وَهِيَ مِثْلُ اللَّمْسِ: تَنْقُضُ الْوُضُوءَ إِنْ قَصَدَ لَذَّةً أَوْ وَجَدَهَا، وَلَا تَنْقُضُ إِنْ لَمْ يَقْصِدْ لَذَّةً وَلَمْ يَجِدْهَا.
وَإِلَى حُكْمِ اللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ (لَمْسٌ وَقُبْلَةٌ وَذَا إِنْ وُجِدَتْ *** لَذَّةُ عَادَةٍ كَذَا إِنْ قُصِدَتْ).
وَلَا تَنْقُضُ إِذَا كَانَتْ لِمَحْرَمٍ أَوْ كَانَتْ لِلْوُدِّ أَوْ الْوَدَاعِ، أَوْ كَانَتْ لِلرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ.
الْإِلْطَافُ؛ وَهُوَ إدْخَالُ الْمَرْأَةِ يَدَهَا فِي فَرْجِهَا.
مَسُّ الذَّكَرِ؛ بِبَاطِنِ الْكَفِّ، أَوْ بِبَاطِنِ الْأَصَابِعِ، أَوْ بِجَانِبِهِمَا؛ فَإِنْ مَسَّهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَنْتَقِضْ. وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ اِبْنِ حِبَّانَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَفْضَى بِيدِهِ إِلَى فَرْجِهِ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ وُضُوءُ الصَّلَاةِ». [سنن البيهقي].
الشَّكُّ فِي الْحَدَثِ؛ وَيُرَادُ بِهِ: الشَّكُّ فِي فِعْلِ الطَّهَارَةِ، أَوْ فِي وُقُوعِ الْحَدَثِ، أَوْ فِيهِمَا مَعاً. وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُوَسْوَسِ الْمُسْتَنْكَحِ؛ أَمَّا الْمُسْتَنْكَحُ، وَهُوَ الَّذِي يُلَازِمُهُ الْوَسْوَاسُ أَكْثَرَ مِمَّا يُفَارِقُهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
الْكُفْرُ؛ فَمَنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ كَفَرَ -نَعُوذُ بِالله مِنْ ذَلِكَ- انْتَقَضَ وُضُوءُهُ بِكُفْرِه؛ لِحُبُوطِ الْأَعْمَالِ بِالْكُفْرِ وَعَدَمِ صِحَّةِ أَيِّ عِبَادَةٍ مَعَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 62].
وَفِي هَذِهِ النَّوَاقِضِ قَال النَّاظِم: (فَصْلٌ نَواقِضُهُ سِتَّةَ عَشَرْ إلى: وَالشَّكُّ فِي الْحَدَثِ كُفْرُ مَنْ كَفَرْ).
ثَانِياً: الاستبراء والاستنجاء والاستجمار
مِنَ الْوَاجِبِ بَعْدَ قَضَاءِ الْإِنْسَانِ حَاجَتَهُ: الِاسْتِبْرَاءُ وَالِاسْتِنْجَاءُ أَوِ الِاسْتِجْمَارُ.
الِاسْتِبْرَاءُ؛ وَهُوَ: اسْتِفْرَاغُ مَا فِي الْمَخْرَجَيْنِ مِنَ الْأَذَى، مَعَ سَلْتٍ وَنَتْرٍ خَفِيفَيْنِ لِلذَّكَرِ بِسَبَّابَةِ وَإِبْهَامِ الْيَدِ الْيُسْرَى، وَلَا يَنْبَغِي التَّشْدِيدُ فِي السَّلْتِ لِمَا قَد يُسَبِّبُهُ مِنْ أَضْرَارٍ، وَلَا التَّحْدِيدُ فِي الْمَرَّاتِ، وَعَدَدِ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، لِاخْتِلاَفِ أَمْزِجَةِ النَّاسِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى الْوَسْوَاسِ.
الِاسْتِنْجَاء؛ وَهُوَ: تَطْهِيرُ الْمَخْرَجَيْنَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْخَارِجَةِ مِنْهُمَا بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ. وَهُوَ مِنْ بَابِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، فَمَنْ تَرَكَ الِاسْتِنْجَاءَ وَصَلَّى عَامِدًا أَعَادَ الصَّلَاةَ أَبَداً، وَمَنْ تَرَكَهُ سَاهِياً وَصَلَّى أَعَادَ فِى الْوَقْتِ.
الِاسْتِجْمَارُ؛ وَهُوَ: تَطْهِيرُ الْمَخْرَجَيْنِ مِنَ النَّجَاسَةِ بِالْجِمَارِ وَنَحْوِهَا. وَالْجِمَارُ: الْحِجارَةُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي تُزَالُ بِهَا النَّجَاسَةُ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْحِجَارَةِ وَحُكْمُهُ الْجَوَازُ؛ فَيَجُوزُ الْاِكْتِفَاءُ بِهِ عَنِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ، وَيَجِبُ عِنْدَ عَدَمِ اِسْتِعْمالِ الْمَاءِ، وَذَلِكَ فِي مَا لَمْ يَنْتَشِرْ عَنِ الْمَخْرَجِ كَثِيراً مِنَ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ؛ أَمَّا الْمُنْتَشِرُ مِنْهُمَا كَبَوْلِ الْمَرْأَةِ، فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ إِلَّا الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ.
وَفِي كُلِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ قَال النَّاظِم: (وَيَجِبُ اسْتِبْرَاءُ الْأَخْبَثَيْنِ إلى: لاَ مَا كَثِيراً اِنْتَشَرْ).
وَمِنْ أَحْكَامِ وَآدابِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ؛ الذِّكْرُ الْوَارِدُ قَبْلَ دُخُولِ الْخَلَاءِ: «اللهمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ». [الأدب المفرد للبخاري، الأذكار، باب دعوات النبي صلى الله عليه وسلم]، وَالذِّكْرُ الْوَارِدُ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ: «غُفْرَانَكَ»؛ [سنن أبي داود، باب ما يقول الرجل إذا خرج من الخلاء] أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ فِي آدَابِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ.
مِنَ الْحِكَمِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ هَذَا الدَّرْسِ:
تَذْكِيرُ الْمُسْلِمِ بِأَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ، وَمُقْتَضَى إِجْلَالِ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُحَافِظَ الْمُسْلِمُ فِي صَلَاتِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي أَحْسَنِ حَالٍ، وَالنَّوَاقِضُ كُلُّهَا تَتَنَافَى مَعَ الْحَالَةِ الْحَسَنَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الْعَبْدِ فِي مَقَامِ الْمُنَاجَاةِ.
أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ وِالِاسْتِجْمَارَ كَمَالُ الطَّهَارَةِ وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ وَإِبْعَادُ كُلِّ مَا يُسَبِّبُ الْأَمْرَاضَ وَيُؤَثِّرُ سَلْباً عَلَى الْأَبْدَانِ.
التقويم:
أُعَرِّفُ هَذِهِ الْمُصْطَلَحَاتِ: الِاسْتِبْراءَ - الِاسْتِنْجَاءَ - الِاسْتِجْمَارَ.
أَذْكُرُ أَقْسَامَ النَّوَاقِضِ مُمَيِّزاً بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ.
أُبَيِّنُ بِاخْتِصَارٍ وَتَرْكِيزٍ أَحْكَامَ الِاسْتِبْرَاءِ وَالِاسْتِنْجَاءِ وَالِاسْتِجْمَارِ.
الاستثمار:
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْبَغْدادِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: وَلَا وُضُوءَ مِنْ مَسِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَلَا الدُّبُرِ، وَلَا شَيْءٍ مِنْ أَرْفَاغِ الْبَدَنِ، وَهِيَ مَغَابِنُهُ الْباطِنَةُ، كَتَحْتِ الْإِبْطَيْنِ وَمَا بَيْنَ الْفَخِدَيْنِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَا مِنْ أَكْلِ شَيْءٍ أَوْ شُرْبِهِ، كَانَ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ أَوْ مِمَّا لَمْ تَمَسَّهُ، وَلَا مِنْ قَهْقَهَةٍ فِي صَلاَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَلَا مِنْ ذَبْحِ بَهِيمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. [التَّلْقِينُ فِي الْفِقْهِ الْمالِكِيِّ: 1/32]
أَسْتَخْرِجُ مِنَ النَّصِّ مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ مِمَّا لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.
تمهيد:
الطَّهَارَةُ قِسْمَانِ: صُغْرَى وَكُبْرَى، وَالْحَدَثُ أَيْضاً قِسْمَانِ: أَصْغَرُ وَأَكْبَرُ، وَقَدْ مَضَتْ أَحْكَامُ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى الَّتِي يُوجِبُهَا الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ، وَبَقِيَتْ أَحْكَامُ الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى الَّتِي يُوجِبُهَا الْحَدَثُ الْأكْبَرُ، وَهِيَ الْغُسْلُ.
فَمَا هُوَ الْغُسْلُ؟ وَمَا فُرُوضُهُ وَسُنَنُهُ وَمُسْتَحَبَّاتُهُ؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَصْلٌ فُرُوضُ الْغَسْلِ قَصْدٌ يُحْتَضَرْ *** فَوْرٌ عُمُومُ الدَّلْكِ تَخْلِيلُ الشَّعَرْ
فَتَابِعِ الْخَفِيَّ مِثْلَ الرُّكْبَتَيْنْ *** وَالِابْطِ وَالرُّفْغِ وَبَيْنَ الَالْيَتَيْنْ
وَصِل لِّمَا عَسُرَ بِالمِنْدِيلِ *** وَنَحْوِهِ كَالْحَبْلِ وَالتَّوْكِيلِ
سُنَنُهُ مَضْمَضَةٌ غَسْلُ الْيَدَيْنْ *** بَدْءاً وَالاِستِنْشَاقُ ثَقْبُ الُاذْنَيْنْ
مَنْدُوبُهُ الْبَدْءُ بِغَسْلِهِ الَاذَى *** تَسْمِيَةٌ تَثْلِيثُ رَأْسِهِ كَذَا
تَقْديمُ أَعْضَاءِ الْوُضُو قِلَّةُ مَا *** بَدْءٌ بِأَعْلَى وَيَمِينٍ خُذْهُمَا
شرح المفردات:
الْإِبْـطِ: بَاطِنُ الْمَنْكِبِ.
الرُّفْـغِ: مَفْصِلُ مَا بَيْنَ الْبَطْنِ وَالْفَخِذَ.
الْأَلْيَتَانِ: مَقْعَدَتَا الْوَرِكَيْنِ.
أَوَّلاً: الغسل وفرائضه
تعريفه:
الْغَسْلُ لُغَةً بِالْفَتْحِ: اسْمٌ لِلْفِعْلِ، وَبِالضَّمِّ: اسْمٌ لِلْمَاءِ، وَالْمُرَادُ هُنَا: الْفِعْلُ.
وَاصْطِلَاحاً: إِيصَالُ الْمَاءِ لِجَمِيعِ الْجَسَدِ بِنِيَّةِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ مَعَ الدَّلْكِ.
وَالْمُرَادُ: الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَنِ الْحَدَثِ الْأكْبَرِ، قَصْدَ رَفْعِهِ عَنِ الْبَدَنِ، وَاسْتِبَاحَةِ الْعِبَادَاتِ الْمَمْنُوعَةِ بِالْحَدَثِ.
وَهُوَ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة: 7]
وَمِنْ حِكَمِ الْغُسْلِ: التَّنْظِيفُ، وَتَجْدِيدُ الْحَيَوِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، وَإِثَارَةُ النَّشَاطِ؛ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ تُؤَثِّرُ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْجَسَدِ، فَتُزَالُ آثَارُهَا بِالِاغْتِسَالِ.
فَرَائِضُهُ: لِلْغُسْلِ أَرْبَعُ فَرَائِضَ:
النِّيَّةُ؛ وَهِي قَصْدُ الِاغْتِسَالِ لِرَفْعِ الْجَنَابَةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فيهِ. وَيِنْوِي الْمُغْتَسِلُ إِنْ كَانَ الْغُسْلُ وَاجِباً مَا يَنْوِي فِي الْوُضُوءِ، إِلَّا أَنَّهُ هُنَا يَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ الْأكْبَرِ مَكَانَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَمَحَلُّ النِّيَّةِ الْقَلْبُ، فَلَا يُلْفَظُ بِهَا، وَتَكُونُ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ؛ إِمَّا عِنْدَ إِزَالَةِ الْأَذَى إِنْ بَدَأَ بِهَا كَمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ، أَوْ عِنْدَ غَيْرِهَا مِمَّا بَدَأَ بِهِ، أَوْ عِنْدَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إِزَالَةِ الْأَذَى إِذَا غَسَلَهُمَا بِنِيَّةِ رَفْعِ الْجَنَابَةِ. وَإِنْ نَوَى رَفْعَ الْجَنَابَةِ عِنْدَ إِزَالَةِ الْأَذَى لَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِعَادَةِ غَسْلِ مَحَلِّ الْأَذَى؛ لِأَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ تَنْدَرِجُ فِي الْغُسْلِ لِعَدَمِ تَوَقُّفِهِ عَلَى النِّيَّةِ، بَيْنَما لَا يَنْدَرِجُ غُسْلُ الْجَنَابَةِ فِي إِزَالَةِ الْأَذَى لِتَوَقُّفِهِ عَلَى النِّيَّةِ، كَمَا لَا تُجْزِئُ الْغَسْلَةُ الْوَاحِدَةُ لِغَسْلِ الْأَذَى وَغَسْلِ الْجَنَابَةِ؛ فَيَجِبُ تَقْدِيمُ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ عَلَى غَسْلِ رَفْعِ الْحَدَثِ.
وَمَنِ اِقْتَصَرَ عَلَى نِيَّةِ إِزَالَةِ الْأَذَى لَزِمَهُ إِعَادَةُ غَسْلِ مَحَلِّهِ بِنِيَّةِ الْجَنَابَةِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهِيَ لُمْعَةٌ لَمْ تُغْسَلْ، يَلْزَمُ غَسْلُهَا بِنِيَّةِ جَدِيدَةٍ. وَهَذَا يَقْتَضِي إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ قَبْلَ طَهَارَةِ الْحَدَثِ. وَفِي الرِّسَالَةِ: «وَأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بَعْدَ أَنْ يَبْدَأَ بِغَسْلِ مَا بِفَرْجِهِ أَوْ فِي جَسَدِهِ مِنَ الْأَذَى».
اَلْفَوْرُ؛ وَهُوَ: فِعْلُهُ فِي زَمَنٍ مُتَّصِلٍ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ.
الدَّلْكُ؛ يَتَدَلَّكُ بِيدِهِ، فَإِنْ لَمْ تَصِلْ يَدُهُ لِبَعْضِ جَسَدِهِ دَلَكَهُ بِخِرْقَةٍ أَوْ حَبْلٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، أَوِ اسْتَنَابَ غَيْرَهُ مِمَّنْ تَجُوزُ لَهُ مُبَاشَرَتُهُ كَالزَّوْجَةِ، عَلَى أَيِّ مَوْضِعٍ عَجَزَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَعْجُوزُ عَنْهُ غَيْرَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ عَلَى دَلْكِهِ أَجْنَبِيّاً، وَإِنْ تَعَذَّرَ بِكُلِّ وَجْهٍ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِيَدِهِ وَلَا بِخِرْقَةٍ، وَلَمْ تُمْكِنِ الِاسْتِنَابَةُ، سَقَطَ عَنْهُ.
وَإِلَى هَذِهِ الِاسْتِنابَةِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (وَصِل لِّمَا عَسُرَ بِالْمِنْدِيلِ *** وَنَحْوِهِ كَالْحَبْلِ وَالتَّوْكِيلِ).
تَخْلِيلُ الشَّعْرِ؛ وَيَجِبُ التَّخْلِيلُ فِي الْغُسْلِ سَواءٌ كَانَ كَثِيفاً أَوْ خَفِيفاً، وَسَواءٌ كَانَ شَعْرَ اللِّحْيَةِ أَوِ الرَّأْسِ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَتَضْغَثُ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا أَيْ تَضُمُّهُ وَتَجْمَعُهُ وَتُحَرِّكُهُ وَتَعْصِرُهُ مَرْبُوطاً أَوْ مَضْفُوراً، وَلَيْسَ عَلَيْهَا حَلُّ عِقَاصِهَا إِذَا كَانَ رِخْواً يَدْخُلُهُ الْمَاءُ، وَإِلَّا حَلَّتْهُ وُجُوباً لِيَدْخُلَهُ الْمَاءُ.
وَيَجِبُ التَّخْلِيلُ مَعَ صَبِّ الْمَاءِ عَلَى الرَّأْسِ أَوْ بَعْدَهُ، وَيُسْتَحَبُّ قَبْلَهُ لِيَنْفَشَّ الشَّعَرُ فَيَدْخُلَهُ الْمَاءُ، وَلِتَنْسَدَّ مَسَامُّ الشَّعَرِ مَنْعاً لِلْبَرْدِ وَدَفْعاً لِلزُّكَامِ.
وَفِي هَذِهِ الْفُرُوضِ قَال النَّاظِم: (فَصْلٌ فُرُوضُ الْغَسْلِ... إلى: تَخْلِيلُ الشَّعَرْ).
ثَانِياً: سنن الغسل ومندوباته
سُنَنُهُ: سُنَنُ الْغُسْلِ خَمْسٌ، وَعَدَّهَا النَّاظِمُ أَرْبَعاً لِاسْتِلْزَامِ الِاسْتِنْشَاقِ لِلِاسْتِنْثَارِ، وَهِيَ:
غَسْلُ الْيَدَيْنِ أَوَّلاً،
وَالْمَضْمَضَةُ،
وَالِاسْتِنْشَاقُ،
وَالِاسْتِنْثَارُ،
وَمَسْحُ صِمَاخِ الْأُذُنَيْنِ. وَالْمُرَادُ بِالصِّمَاخِ: الثُّقْبَةُ الْكَائِنَةُ فِي الْأُذُنَيْنِ كَمَا عَبَّرَ النَّاظِمُ، وَأَمَّا غَيْرُ الصِّمَاخَيْنِ فَغَسْلُهُ وَاجِبٌ كَظَاهِرِ الْجَسَدِ.
وَفِي هَذِهِ السُّنَنِ قَال النَّاظِم: (سُنَنُهُ مَضْمَضَةٌ... إلى: ثَقْبُ الُاذْنَيْنْ).
مَنْدُوبَاتُهُ: عَدَّ النَّاظِمُ مَنْدُوبَاتِ الْغُسْلِ سِتّاً، وَهِيَ:
اَلتَّسْمِيَةُ أَوَّلَ الْغُسْلِ، وَهِيَ: قَوْلُ بِسْمِ اللهِ.
اَلْبَدْءُ بِغَسْلِ النَّجَاسَةِ مِنَ الْبَدَنِ، لِيَقَعَ الْغُسْلُ عَلَى أَعْضَاءٍ طَاهِرَةٍ.
تَثْلِيثُ غَسْلِ الرَّأْسِ؛ أَيْ غَسْلُهُ بِثَلَاثِ غَرَفَاتٍ مِنَ الْمَاءِ.
تَقْدِيمُ غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ عَلَى غَسْلِ بَاقِي الْبَدَنِ، لِشَرَفِهَا عَلَى غَيْرِهَا.
اَلْبَدْءُ فِي الْغُسْلِ بِمَيَامِنِ الْجَسَدِ، لِشَرَفِ الْمَيَامِنِ عَلَى الْمَيَاسِرِ.
اَلتَّقْلِيلُ مِنَ الْمَاءِ حَسَبَ الْكِفَايَةِ وَالْمَعْرُوفِ دُونَ إِسْرَافٍ أَوْ إِخْلَالٍ.
وَفِي هَذِهِ الْمَنْدُوبَاتِ قَالُ النَّاظِمُ: (مَنْدُوبُهُ الْبَدْءُ... إلى: بِأَعْلَى وَيَمِينٍ خُذْهُمَا).
ثالثا أحكام أخرى في الغسل
تَعَدُّدُ النِّيَّةِ
نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ الْأكْبَرِ تَنُوبُ عَنْ نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، فَيَحْصُلَانِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ؛ وَنِيَّةُ رَفْعِ الْجَنَابَةِ مَعَ قَصْدِ التَّبَرُّدِ أَوِ التَّعْلِيمِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ كُلِّ مَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ جَائِزٌ وَمُجْزِئٌ، فَلَا يَضُرُّ قَصْدُ ذَلِكَ مَعَ نِيَّةِ رَفْعِ الْجَنَابَةِ.
وَقَدْ يَجْتَمِعُ غُسْلُ الْجَنَابَةِ مَعَ غُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَالْمُكَلَّفُ مَطْلُوبٌ بِهِمَا مَعاً:
فَإِنْ نَوَى غُسْلَ الْجَنَابَةِ وَنَوَى بِهِ النِّيَابَةَ عَنْ غُسْلِ الْجُمُعَةِ، أَجْزَأَ عَنْهُمَا مَعاً.
وَإِنْ نَوَى الْجَنَابَةَ وَالْجُمُعَةَ بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، أَجْزَأَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ.
وَإِنْ نَوَى الْجَنَابَةَ نَاسِياً لِلْجُمُعَةِ، أَجْزَأَهُ عَنِ الْجَنَابَةِ، دُونَ الْجُمُعَةِ؛ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ إِعَادَةُ الْغُسْلِ بِنِيَّةِ الْجُمُعَةِ.
وَإِنْ نَوَى الْجُمُعَةَ نَاسِيًا لِلْجَنَابَةِ لَمْ يُجْزِهِ عَنِ الْجَنَابَةِ وَلَاعَنِ الْجُمُعَةِ؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْغُسْلِ بِنِيَّةِ إِزَالَةِ الْجَنَابَةِ.
تَعْمِيمُ الدَّلْكِ
مِنْ أَحْكَامِ الْغُسْلِ وُجُوبُ مُرَاعَاةِ تَعْمِيمِ الدَّلْكِ لِجَمِيعِ الْبَدَنِ بِالْمُحَافَظَةِ وَالْمُتَابَعَةِ لِلْمَغَابِنِ الَّتِي يَنْبُو عَنْهَا الْمَاءُ وَيُغْفَلُ عَنْهَا، مِنْ كُلِّ مَا هُوَ خَفِيٌّ فِي الْبَدَنِ، مِثْلُ طَيِّ الرُّكْبَتَيْنِ، وَعُمْقِ السُّرَّةِ، وَمَا تَحْتَ الْآبَاطِ، وَالرُّفْغِ مِنْ أَصْلِ الْفَخِذِ مِنَ الْمُقَدَّمِ، وَالشِّقِّ الَّذِي يَمْتَدُّ مَا بَيْنَ الْأَلْيَتَيْنِ مِنْ مُنْتَهَى سِلْسِلَةِ الظَّهْرِ إِلَى مَا بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ مِنَ الْخَلْفِ، وَأَسَافِلِ الرِّجْلَيْنِ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ مِنَ الْقَدَمِ، وَنَحْوِهَا.
وَفي ذَلِكَ كُلِّهُ قَال النَّاظِم: (فَتَابِعِ اِلْخَفِيَّ... إلى: وَالِابْطِ وَالرُّفْغِ وَبَيْنَ الَالْيَتَيْنْ).
وَمِنْ حِكْمَةِ الْأَمْرِ بِمُتَابَعَةِ مَغَابِنِ الْجَسَدِ الْمُبَالَغَةُ فِي النَّظَافَةِ وَالطَّهَارَةِ حَتَّى لَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ الْأَقْذَارِ اِلَّتِي تَعْلَقُ بِالْبَدَنِ إِلَّا نَالَهُ التَّطْهِيرُ، كَمَا يُفْهَمُ مِنَ اَلْآيَةِ: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة: 7] فَإِنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ ﴿فَاطَّهَّرُوا﴾ تُوحِي بِالْمُبَالَغَةِ فِي غَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَتَطْهِيرِهِ.
التقويم:
عَرِّف الْغُسْلَ.
أذْكُر فَرَائِضَ الْغُسْلِ وَسُنَنَهُ وَمَنْدُوبَاتِهِ.
أجب بنعم أو لا:
هَلْ تُجْزِئُ نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ الأَكْبَرِ عَنْ نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ الأَصْغَر؟ِ
هَلْ تُجْزِئُ نِيَّةُ غُسْلِ الْجَنَابَةِ نِيَابَةً عَنْ غُسْلِ الْجُمُعَةِ؟
هَلْ تُجْزِئُ نِيَّةُ رَفْعِ الْجَنَابَةِ وَالْجُمُعَةِ بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ؟
هَلْ تُجْزِئُ نِيَّةُ رَفْعِ الْجَنَابَةِ مَعَ نِسْيَانِ نِيَّةِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ؟
هَلْ تُجْزِئُ نِيَّةُ غُسْلِ الْجُمُعَةِ مَعَ نِسْيَانِ الْجَنَابَةِ؟
الاستثمار:
قَالَ الفَقِيهُ مُحَمَّدٌ الْعَرَبِيُّ الْقَرَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: يَجِبُ تَخْلِيلُ الشَّعْرِ وَلَوْ كَانَ كَثِيفاً، سَواءٌ كَانَ شَعْرَ الرَّأْسِ أَوْ غَيْرَهُ. وَمَعْنَى تَخْلِيلِهِ: أَنْ يَضُمَّهُ وَيَعْرُكَهُ عِنْدَ صَبِّ الْمَاءِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْبَشَرَةِ، فَلَا يَجِبُ إدْخَالُ أَصَابِعِهِ تَحْتَهُ، وَيَعْرُكُ بِهَا الْبَشَرَةَ، وَلَا يَجِبُ نَقْضُ الشَّعْرِ الْمَضْفُورِ إِلَّا إِذَا اَشْتَدَّ الضَّفْرُ، أَوْ كَانَ الضَّفْرُ بِخُيُوطٍ كَثِيرَةٍ تَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ أَوْ إِلَى بَاطِنِ الشَّعْرِ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ اِلنَّقْضُ، سَواءٌ فِي هَذَا شَعْرُ الْمَرْأَةِ أَوِ الرَّجُلِ.[الخلاصة الفقهية]
بين الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بتَخْلِيلِ اِلشَّعَرِ.
تمهيد:
لِلْغُسْلِ صِفَةٌ وَاجِبَةٌ، وَصِفَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وَلِلْغُسْلِ أَسْبَابٌ تُبْطِلُهُ وَتَقْتَضِيهِ، وَلِلْحَدَثِ الْأكْبَرِ مَمْنُوعَاتٌ لَا يَجُوزُ إِتْيَانُهَا مَعَهُ.
فَمَا هِيَ صِفَةُ الْغُسْلِ؟ وَمَا هِيَ أَسْبَابُهُ؟ وَمَا هِيَ مَمْنُوعَاتُ الْحَدَثِ الْأكْبَرِ؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
تَبْدَأُ فِي الْغُسْلِ بِفَرْجٍ ثُمَّ كُفّْ *** عَنْ مَسِّهِ بِبَطْنِ أَوْ جَنْبِ الْأَكُفّْ
أَوُ اُصْبُعٍ ثُمَّ إِذَا مَسِسْتَهْ *** أَعِدْ مِنَ الْوُضُوءِ مَا فَعَلْتَهْ
مُوجِبُهُ حَيْضٌ نِفَاسٌ اِنْزَالْ *** مَغِيبُ كَمْرَةٍ بِفَرْجٍ إِسْجَالْ
وَالَاوَّلَانِ مَنَعَا الْوَطْءَ إِلَى *** غَسْلٍ وَالآخِرَانِ قُرْآناً حَلاَ
وَالكُلُّ مَسْجِداً وَسَهْوُ الِاغْتِسَالْ *** مِثْلُ وُضُوئِكَ وَلَمْ تُعِدْ مُوَالْ
شرح المفردات:
كُفَّ: أَمْسِكْ.
كَمْرَةٍ: اَلْكَمَرَةُ بِفَتْحِ اِلْمِيمِ: رَأْسُ الذَّكَرِ.
إِسْجَالْ: أَيْ إِطْلَاقاً.
الْوَطْءَ: هُوَ الْجِمَاعُ.
مُوَالْ: الْمُرَادُ: مُوَالِياً، أَيْ تَابِعاً.
أَوَّلاً: صفة الغسل: لِلْغُسْلِ صِفَتَانِ:
صِفَةٌ مُجْزِئَةٌ، وَهِيَ: إِيعَابُ الْبَدَنِ بِالْمَاءِ وَالدَّلْكِ كَيْفَمَا تَيَسَّرَ وأَمْكَنَ.
صِفَةُ كَمَالٍ مُسْتَحَبَّةٌ، وَهِيَ: أَنْ يَبْدَأَ بِغَسْلِ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَغْسِلُ الْأَذَى عَنْ جَسَدِهِ إِنْ كَانَ، وَعَنْ فَرْجِهِ بِنِيَّةِ رَفْعِ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ يُخَلِّلُ أُصُولَ شَعْرِ رَأْسِهِ بِالْمَاءِ، ثُمَّ يَغْرِفُ عَلَيْهِ ثَلَاثاً، ثُمَّ يُعَمِّمُ كُلَّ بَدَنِهِ بِالْمَاءِ. وَقَدْ جَاءَ فِي غُسْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ مَيْمُونَةُ: «وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاءً لِلْغُسْلِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ، ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ» [صحيح البخاري].
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَقْدِيمِ غَسْلِ الْفَرْجِ مَا يَأتِي:
أَنَّهُ يُطْلَبُ مِن الْمُغْتَسِلَ إِذَا غَسَلَ فَرْجَهُ أَوَّلاً بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ، أَنْ يَكُفَّ عَنْ مَسِّهِ بِبَطْنِ الْكَفِّ وَالْأَصَابِعِ أَوْ جَنْبِهَا، لِيُجْزِئَهُ الْغُسْلُ عَنِ الْوُضُوءِ.
أَنَّه إِذَا مَسَّهُ بِمَا ذُكِرَ، أَوْ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ بِنَاقِضٍ آخَرَ غَيْرِ الْمَسِّ، بَعْدَ كَمَالِ الْوُضُوءِ أَوْ فِي أَثْنائِهِ، أَعَادَ مَا فَعَلَ مِنَ الْوُضُوءِ، عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ:
إِذَا انْتَقَضَ وُضُوءُهُ أَثْناءِ غُسْلِهِ، فَغَسَلَ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ قَبْلَ كَمَالِ الْغُسْلِ، لَزِمَهُ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ لِلْغُسْلِ.
إِذَا انْتَقَضَ وُضُوءُهُ في أَثْناءَ غُسْلِهِ، وَلَمْ يَغْسِلْهَا إِلَّا بَعْدَ كَمَالِ الْغُسْلِ، لَزِمَهُ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ لِلْغُسْلِ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
إِذَا لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ إِلَّا بَعْدَ كَمَالِ الْغُسْلِ لَزِمَهُ نِيَّةُ الْوُضُوءِ اتِّفَاقاً، وَيَتَوَضَّأُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا. وَفِي هَذِهِ الصِّفَةِ وَهَذِهِ الْأَحْكَامِ قَالَ النَّاظِمُ: (تَبْدَأُ في الْغُسْلِ بِفَرْجٍ ثُمَّ كُفّ... إلى: أَعِدْ مِنَ الوُضُوءِ مَا فَعَلْتَهْ).
ثَانِياً: مُوجِبَاتُ الْغُسْلِ أَرْبَعَةٌ:
اِنْقِطاعُ دَمِ الْحَيْضِ؛
اِنْقِطاعُ دَمِ النِّفَاسِ؛
الْإِنْزالُ؛ وَهُوَ خُرُوجُ الْمَنِيِّ الْمُقَارِنِ لِلَّذَّةِ الْمُعْتَادَةِ بِالْجِمَاعِ وَنَحْوِهِ، سَواءٌ كَانَ ذَلِكَ يَقَظَةً أَوْ مَنَاماً.
مَغِيبُ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ، مَعَ إِنْزالٍ أَوْ بِدُونِهِ.
وَفِي مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ قَالَ النَّاظِمُ: (مُوجِبُهُ حَيْضٌ نِفَاسٌ اِنْزَالْ *** مَغِيبُ كَمْرَةٍ بِفَرْجٍ اِسْجَالْ).
ثَالِثاً: مَمْنُوعَاتُ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ
يَمْنَعُ الْحَدَثُ الْأَكْبَرُ مِنْ أُمُورٍ تَتَقَسَّمُ بَيْنَ أَسْبَابِهِ حَسَبَ الْآتِي:
فَيَمْنَعُ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ الْوَطْءَ إِلَى مَا بَعْدَ الِاغْتِسَالِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَيَمْنَعُ الْإِنْزَالُ وَمَغِيبُ الْحَشَفَةِ قِرَاءةَ الْقُرْآنِ إِلَى الِاغْتِسَالِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَلَا يَمْنَعُ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ الْقِرَاءَةَ عَلَى اَلْمَشْهُورِ.
وَلَا يَمْنَعُ الْإِنْزَالُ وَمَغِيبُ الْحَشَفَةِ الْوَطْءَ اَتِّفَاقاً.
وَيَمْنَعُ دُخُولَ الْمَسْجِدِ كُلٌّ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْإِنْزَالِ وَمَغِيبِ الْحَشَفَةِ.
تَجْتَمِعُ مَوَانِعُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَمَوَانِعُ الْجَنَابَةِ فِي مَنْعِ دُخُولِ الْمَسْجِدِ؛ وَيَنْفَرِدُ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ بِالْمَنْعِ مِنَ الْوَطْءِ؛ وَالْإِنْزَالُ وَمَغِيبُ الْحَشَفَةِ بِالْمَنْعِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.
وَوَرَدَ عَنِ اللَّخْمِيِّ جَوَازُ دُخُولِ الْحَائِضِ المَسْجِدَ إِذَا تَحَفَّظَتْ بِثَوْبٍ، أَخْذاً مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْلَمَةَ: لَا يَنْبَغِي لِلْحَائِضِ أَنْ تَدْخُلَ الْمَسْجِدَ لِأَنَّهَا لَا تَأْمَنُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا مَا يُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْهُ؛ إِذْ يُفْهِمُ أَنَّهُ إِذَا أَمِنَتْ مِنْ خُرُوجِ شَيْءٍ يُقَذِّرُ الْمَسْجِدَ يَجُوزُ لَهَا دُخُولُهُ، لِزَوَالِ الْخَوْفِ مِنْ تَنْجِيسِ الْمَسْجِدِ، وَفِي هَذَا اَلْقَوْلِ تَيْسِيرٌ وَرَفْعٌ لِلْحَرَجِ عَنِ النِّسَاءِ اِلْمُتَعَلِّمَاتِ بِالْمَسَاجِدِ.
وَفِي مَمْنُوعَاتِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ قَالَ النَّاظِمُ: (وَالْأَوَّلَانِ مَنَعَا ... إلى: وَالْكُلُّ مَسْجِداً).
رَابِعاً: اَلسَّهْوُ فِي اِلْغُسْلِ:
حُكْمُ السَّهْوِ فِي الْغُسْلِ كَحُكْمِ السَّهْوِ فِي الْوُضُوءِ، فَمَنْ نَسِيَ شَيْئاً مِنْ غُسْلِهِ وَلَمْ يَتَذَكَّرْهُ إِلَّا بَعْدَ طُولٍ فَعَلَ الْمَنْسِيَّ فَقَطْ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْهُ حَتَّى صَلَّى فَعَلَ الْمَنْسِيَّ وَأَعَادَ الصَّلاَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي أَحْكَامِ الْوُضُوءِ.
وَيَخْتَلِفُ عَنْه الْغُسْلُ فِي صُورَةٍ، وَهِيَ: أَنَّ مَنْ تَرَكَ مِنْ غُسْلِهِ لُمْعَةً، ثُمَّ تَذَكَّرَهَا بِالْقُرْبِ، فَإِنَّهُ يَغْسِلُهَا وَلَا يُعِيدُ مَا بَعْدَهَا، وَذَلِكَ قَوْلُ النَّاظِمِ: (وَسَهْوُ الِاغْتِسَالْ *** مِثْلُ وُضُوئِكَ وَلَمْ تُعِدْ مُوَالْ).
وَمِنْ حِكَمِ اِلْغُسْلِ وَمَقَاصِدِهِ: أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ مَحَاسِنِ اِلشَّرِيعَةِ وَمَظَاهِرِ الرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فِيهَا، حَيْثُ إِنَّ الْمَنِيَّ يَخْرُجُ مِنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ، فَيَتَأَثَّرُ الْبَدَنُ بِخُرُوجِهِ أَعْظَمَ مِنْ تَأَثُّرِهِ بِخُرُوجِ الْبَوْلِ، فَكَانَ الْغُسْلُ مُنَاسِباً لِخُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَالْوُضُوءُ مُنَاسِباً لِخُرُوجِ الْبَوْلِ.
التقويم:
حَدِّد مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ وَصِفَتَهُ مِنْ أَبْيَاتِ النَّظْمِ.
بَيِّن مَمْنُوعَاتِ الْحَدَثِ الْأكْبَرِ ضِمْنَ أَبْيَاتِ النَّظْمِ.
اسْتَخْرِج مِنْ النَّظْمِ أَحْكَامَ السَّهْوِ فِي الغُسْلِ.
أذكُر مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ وَصِفَتَهُ الْوَاجِبَةَ وَالْمُسْتَحَبَّةَ.
بيِّن مَمْنُوعَاتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ.
الاستثمار:
قَالَ الْإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: وَيُمْنَعُ الْجُنُبُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ غَالِباً إِلَّا الْآيَاتِ الْيَسِيرَةَ لِلتَّعَوُّذِ... وَأَخْرَجَ الدَّارَ قُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ عَنْ مِسْعَرٍ وَشُعْبَةَ عَنْ عَ مْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اِللهِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحْجُبُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ جُنُباً». [الجامع لأحكام القرآن 5/902]
أَقْرَأُ النَّصَّ، وَأُبْرِزُ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْحِكَمِ.
تمهيد:
جَاءَ الْإِسْلامُ فِي أَحْكَامِهِ بِشَرِيعَةٍ سَمْحَةٍ تَتَمَثَّلُ فِي عَزَائِمَ مُتَيَسِّرَةٍ لِكُلِّ صَحِيحٍ مُعَافىً فِي صِحَّتِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَرُخَصٍ مُنَاسِبَةٍ لِلْعَاجِزِ وَالضَّعِيفِ وَالْمُضْطَرِّ، وَمِنْهَا رُخْصَةُ التَّيَمُّمِ لِعَادِمِ الْمَاءِ وَغَيْرِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ.
فَمَا هُوَ التَّيَمُّمُ؟ وَمَا حُكْمُهُ وَحِكْمَتُهُ؟ وَمَا أَسْبَابُهُ وَأَحْكَامَهُ؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَصْلٌ لِخَوْفِ ضُرٍّ أَوْ عَدَمِ مَا *** عَوِّضْ مِنَ الطَّهَارةِ التَّيَيَمُّمَا
وَصَلِّ فَرْضا وَاحِدا وَإِنْ تَصِلْ *** جَنَازَةً أَوْ سُنَّةً بِهِ يَحِلّْ
وَجَازَ لِلنَّفْلِ ابْتِدا وَيَسْتَبِيحْ *** الْفَرْضَ لاَ الْجُمْعَةَ حَاضِرٌ صَحِيحْ
فُرُوضُهُ مَسْحُكَ وَجْها وَالْيَدَيْنْ *** لِلْكُوعِ وَالنِّيَّةُ أُولَى الضَّرْبَتَيْنْ
ثُمَّ الْمُوَالَاةُ صَعِيدٌ طَهُرَا *** وَوَصْلُهَا بِهِ وَوَقْتٌ حَضَرَا
آخِرُهُ لِلرَّاجِ آيِسٌ فَقَطْ *** أَوَّلَهُ وَالْمُتَرَدِّدُ الْوَسَطْ
شرح المفردات:
عَـوِّضْ: اِسْتَبْدِلْ.
صَعِيـدٌ: مَا ظَهَرَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ تُرَابٍ وَنَحْوِهِ.
لِلـرَّاجِ: الَّذِي يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ.
آيـِسٌ: الَّذِي لَا يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ.
وَالْمُتَرَدِّدُ: الْجَاهِلُ بِوُجُودِ الْمَاءِ وَعَدَمِهِ، أَوْ الشَّاكُّ فِيهِمَا.
أَوَّلا: التيمم مشروعيته وأسبابه
تَعْرِيفُهُ:
التَّيَمُّمُ لُغَةً: الْقَصْدُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ﴾ [البقرة: 266] أَيْ لَا تَقْصِدُوهُ.
وَشَرْعا: طَهَارَةٌ تُرابِيَّةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ لِاسْتِبَاحَةِ مَا مَنَعَهُ الْحَدَثُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمَاءِ.
مَشْرُوعِيَّتُهُ:
دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَتِهِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾ [المائدة: 7]؛ وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جُعِلَتْ الْأَرْضُ كُلُّهَا لَنَا مَسْجِدا وَتُرْبَتُهَا طَهُورا» [سنن الدارقطني]، وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا وَفِعْلًا؛ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ.
وَلَا فَرْقَ فِي التَّيَمُّمِ بَيْنَ الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى وَالطَّهَارَةِ الصُّغْرَى، فَكَمَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِلْعُذْرِ مِنَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، كَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْعُذْرِ مِنَ الْحَدَثِ الْأكْبَرِ.
وَحِكْمَةُ تَشْرِيعِ اِلتَّيَمُّمِ: تَمْكِينُ الْعِبَادِ مِنْ أَدَاءِ اِلصَّلَاةِ فِي اِلْأَمَاكِنِ اِلَّتِي لَا يَجِدُونَ فِيهَا اَلْمَاءَ، وَفِي اِلْأَوْقَاتِ اِلَّتِي يَصْعُبُ عَلَيْهِمْ فِيهَا اَسْتِعْمَالُ الْمَاءِ، رَحْمَةً بِهِمْ وَتَيْسِيرا عَلَيْهِمْ وَمُرَاعَاةً لِأَحْوَالِهِمْ.
أَسْبَابُهُ
يُشْرَعُ التَّيَمُّمُ لِسَبَبَيْنِ وَهُمَا: عَدَمُ وُجُودِ الْمَاءِ، وَالْخَوْفُ مِنَ الضَّرَرِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ.
وَيَدْخُلُ فِي الخَوْفِ مِنَ الضَّرَرِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ:
الْخَوْفُ مِنْ حُدوثِ مَرَضٍ، أَوْ زِيادَتِهِ، أَوْ تَأَخُّرِ بُرْئِهِ؛
الْخَوْفُ مِنَ الْعَطَشِ الشَّدِيدِ أَوْ الْمَوْتِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ؛
الْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ أَوْ الْمَالِ مِنْ لُصُوصٍ.
وَيَدْخُلُ فِي عَادِمِ الْمَاءِ:
الْمَرِيضُ الذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، أَوْ الْوُصُولِ إِلَيْهِ وَلَا يَجِدُ مَنْ يُنَاوِلُهُ؛
الصَّحِيحُ الَّذِي لَا يَجِدُ مَا يَأْخُذُ بِهِ الْمَاءَ، أَوْ مَا يَكْفِيهِ لِطَهَارَتِهِ؛
الْخَائِفُ مِنْ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِاسْتِعْمالِ الْمَاءِ.
وَمَنْ تَحَقَّقَ عَدَمَ الْمَاء تَيَمَّمَ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ لِلْمَاءِ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي طَلَبِهِ. وَمَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ عَدَمَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ طَلَبُهُ طَلَبا لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ تَيَمَّمَ، وَمَنْ وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَغْسِلُ بِهِ الْأَعْضَاءَ الْمَفْرُوضَةَ فَقَطْ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيَتْرُكَ السُّنَنَ، وَلاَ يُجْزِئُهُ التَّيَمٍّمُ.
وَقَدْ أَجْمَلَ النَّاظِمُ هَذِهِ الْأَسْبَابَ فِي قَوْلِهِ: فَصْلٌ لِخَوْفِ ضُرٍّ أَوْ عَدَمِ مَا *** عَوِّضْ مِنَ الطَّهَارةِ التَّيَمُّمَا.
ثَانِيا: مَنْ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ وَمَا يُفْعَلُ بِهِ
يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ التَّيَمُّمُ لِلنَّفْلِ اِسْتِقْلَالا دُونَ تَبَعِيَّةٍ لِلْفَرَائِضِ؛
وَيَجُوزُ كَذَلِكَ لِلْحَاضِرِ الصَّحِيحِ الْعادِمِ لِلْمَاءِ تَبَعا لَا اسْتِقْلَالا؛
وَلَا يَجُوزُ لَمِنْ تَيَمَّمَ لِنَافِلَةٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ الْفَرْضَ، فَإِنْ فَعَلَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛
وَيَجُوزُ لِكُلِّ أُولَائِكَ الْأَرْبَعَةِ التَّيَمُّمُ لِلْفَرَائِضِ غَيْرِ الْجُمُعَةِ؛
وَلَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ بِالتَّيَمُّمِ لِلْحَاضِرِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ لَمْ يَفُتْهُ فَرْضُ الظُّهْرِ. وَذَلِكَ قَوْلُ النَّاظِمِ: (وَجَازَ لِلنَّفْلِ... إِلَى: حَاضِرٌ صَحِيحْ).
وَلَا يَجُوزُ لَمِنْ تَيَمَّمَ لِلْفَرْضِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ إِلَّا ذَلِكَ الْفَرْضَ الَّذِي تَيَمَّمَ لَهُ وَحْدَهُ. وَفِي ذَلِكَ قَالَ النَّاظِمُ: (وَصَلِّ فَرْضا وَاحِدا).
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِتَيَمُّمِ الْفَرْضِ سُنَّةً قَبْلَهُ، وَلَا بَعْدَهُ، إِنْ لَمْ تَتَّصِلْ بِهِ.
وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ عَلَى الْجَنَازَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ غَيْرِ الْمُتَعَيِّنَةِ.
وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ سُنَّةً غَيْرَ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ إِذَا فَعَلَهَا مُتَّصِلَةً بِهِ، فَتَكُونُ تَبَعا لِذَلِكَ الْفَرْضِ. وَهَذَا هُوَ قَوْلُ النَّاظِمِ: (وَإِنْ تَصِلْ جَنَازَةً أَوْ سُنَّةً بِهِ يَحِلّْ).
وَتَجُوزُ السُّنَّةُ فَمَا دُونَهَا بِتَيَمُّمِ النَّافِلَةِ، سَوَاءٌ قَدَّمَ النَّافِلَةَ الَّتِي تَيَمَّمَ لَهَا أَوْ أَخَّرَهَا.
ثَالِثا: فَرَائِضُ التَّيَمُّمِ
فُرُوضُ التَّيَمُّمِ ثَمانِيَةٌ، وَهِيَ:
مَسْحُ الْوَجْهِ؛ وَلَا يَتَتَبَّعُ غُضُونَهُ، لِأَنَّ الْمَسْحَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ.
مَسْحُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْكُوعَيْنِ؛ وَيَنْزِعُ خَاتَمَهُ، وَيُخَلِّلُ أَصَابِعَهُ.
النِّيَّةُ؛ وَمَحَلُّهَا الْقَلْبُ فَلَا يُلْفَظُ بِهَا أَوَّل التَّيَمُّمِ عِنْدَ الضَّرْبَةِ الْأُولَى، وَيَنْوِي اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ لَا رَفْعَ الْحَدَثِ، مُحْدِثا كَانَ أَوْ جُنُبا، وَمَنْ تَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ وَنَسِيَ الْجَنَابَةَ لَمْ يُجْزِهِ.
اَلضَّرْبَةُ الْأُولَى؛ وَهِيَ: وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الصَّعِيدِ لِمَسْحِ الْوَجْهِ.
اَلْمُوالَاةُ؛ وَهِيَ: الْفَوْرُ كَمَا فِي الْوَضُوءِ تَماما بِتَمَامٍ.
اَلصَّعِيدُ الطَّاهِرُ؛ وَهُوَ: مَا ظَهَرَ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ التُّرَابِ وَنَحْوِهِ.
اِتِّصَالُ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ؛ فَلَا تُصَلَّى بِهِ فَرِيضَتَانِ لِاِنْفِصَالِ اِلثَّانِيَةِ عَنْهُ.
دُخُولُ الْوَقْتِ؛ فَوَقْتُهُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَلَا يَصِحُّ قَبْلَهُ.
وَفِي فُرُوضِ التَّيَمُّمِ قَالَ النَّاظِمُ: فُرُوضُهُ مَسْحُكَ وَجْها... إلى: وَوَصْلُهَا بِهِ وَوَقْتٌ حَضَرَا.
رَابِعا: أَقْسَامُ الْمُتَيَمِّمِينَ حَسَبَ الْوَقْتِ
الْمُتَيَمِّمُونَ بِالنِّسْبَةِ لِوَقْتِ الصَّلَاةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ يَتَيَمَّمُ أَوَّلَ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ، وَهُوَ الْآيِسُ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ فِي الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ، وَكَذَلِكَ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ وُجُودِ الْمَاءِ، وَالْمَرِيضُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَسِّ الْمَاءِ، إِذْ هُمَا فِي مَعْنَى الْآيِسِ. وَفِي هَذَا قَالَ النَّاظِمُ: (آيِسٌ فَقَطْ أَوَّلَهُ).
قِسْمٌ يَتَيَمَّمُ وَسَطَهُ، وَهُوَ الْمُتَرَدِّدُ فِي لُحُوقِ الْمَاءِ أَوْ فِي وُجُودِهِ، وَيُلْحَقُ بِهِ الْخَائِفُ مِنْ سِبَاعٍ وَنَحْوِهَا، وَالْمَرِيضُ لَا يَجِدُ مَنْ يُنَاوِلُهُ الْمَاءَ لِتَرَدُّدِهِمَا. وَفِي ذَلِكَ قَالَ النَّاظِمُ: (وَالْمُتَرَدِّدُ الْوَسَطْ).
قِسْمٌ يَتَيَمَّمُ آخِرَهُ، وَهُوَ الْمُوقِنُ بِوُجُودِ الْمَاءِ مَعَ غَلَبَةِ ظَنِّهِ بِوُجُودِهِ فِي الْوَقْتِ، وَيُسَمَّى الرَّاجِيَ. وَفِي هَذَا قَالَ النَّاظِمُ: (آخِرُهُ لِلرَّاجِ).
وَضَابِطُ خَوْفِ خُرُوجِ الْوَقْتِ: أَنْ يَبْقَى مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَتَيَمَّمُ فِيهِ وَيُصَلِّي.
التقويم:
أُعَرِّفُ التَّيَمُّمَ مَعَ بَيَانِ الْأسْبَابِ الْمُبِيحَةِ لَهُ.
أُبَيِّنُ مَنْ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ وَمَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ، وَمَا يُفْعَلُ بِهِ وَمَا لَا يُفْعَلُ بِهِ.
الاستثمار:
قَالَ الْفَقِيهُ مَيَّارَةُ رَحِمَهُ اللهُ فِي اِلتَّيَمُّمِ: وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ مِنَ النَّفْسِ الْكَسَلَ وَالْمَيْلَ إِلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ الَّتِي فِيهَا صَلَاحُهَا، شَرَعَ لَهَا التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ؛ حَتَّى لَا تَصْعُبَ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ عِنْدَ وُجُودِهِ لِمَا أَلِفَتْهُ مِنْ فِعْلِهَا دَائِما، وَقيلَ: لِتَكُونَ طَهَارَتُهُ دَائِرَةً بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ الْلَّذَيْنِ مِنْهُمَا أَصْلُ خِلْقَتِهِ وَقِوَامُ بِنْيَتِهِ.[الدر الثمين]
أَتَأَمَّلُ النَّصَّ، وَأَسْتَخْرِجُ مِنْهُ الْحِكْمَةَ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ التَّيَمُّمِ، مُوَظِّفا مُكْتَسَبَاتِي مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ.
مَا سُنَنُ التَّيَمُّمِ؟ وَمَا مُسْتَحَبَّاتُهُ؟ وَمَا نَوَاقِضُهُ؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
سُنَنُهُ مَسْحُهُمَا لِلْمَرْفِقِ *** وَضَرْبَةُ الْيَدَيْنِ تَرْتِيبٌ بَقِي
مَنْدُوبُهُ تَسْمِيَةٌ وَصْفٌ حَمِيدْ *** نَاقِضُهُ مِثْلُ الْوُضُوءِ وَيَزِيدْ
وُجُودُ مَاءٍ قَبْلَ أَنْ صَلَّى وَإنْ *** بَعْدُ يَجِدْ يُعِدْ بِوَقْتٍ إنْ يَكُنْ
كَخَائِفِ اللِّصِّ وَرَاجٍ قَدَّمَا *** وَزَمِنٍ مُنَاوِلاً قَدْ عَدِمَا
شرح المفردات:
حَمِيدٌ: مَحْمُودٌ.
زَمِنٍ: هُوَ الْمُقْعَدُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْمَشْيَ.
مُنَاوِلاً: مُسَاعِداً يَأْتِيهِ بِالْمَاءِ.
أَوَّلاً: سنن التيمم ومستحباته
سُنَنُ التَّيَمُّمِ ثَلَاثٌ، وَهِيَ:
مَسْحُ الْيَدَيْنِ مِنَ الْكُوعَيْنِ إِلَى الْمَرْفِقَيْنِ؛ فَقَدْ جَاءَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ: «أَنَّهُ أَقْبَلَ هُوَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ مِنَ اَلْجُرْفِ، حَتَّى إِذَا كَانَا بِالْمِرْبَدِ نَزَلَ عَبْدُ اللهِ فَتَيَمَّمَ صَعِيداً طَيِّباً، فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إَلَى اَلْمَرْفِقَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى». [الموطأ]
الضَّرْبَةُ الثَّانِيَةُ لِمَسْحِ الْيَدَيْنِ؛ فَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ: كَيْفَ اَلتَّيَمُّمُ وَأَيْنَ يُبْلَغُ بِهِ؟ فَقَالَ: يَضْرِبُ ضَرْبَةً لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةً لِلْيَدَيْنِ، وَيَمْسَحُهُمَا إِلَى اَلْمَرْفِقَيْنِ. [الموطأ]
التَّرْتِيبُ؛ فَيُقَدِّمُ مَسْحَ الْوَجْهِ عَلَى مَسْحِ الْيَدَيْنِ، فَإِنْ نَكَّسَهُ وَصَلَّى أَجْزَأَهُ
وَفِي ذَلِكَ قَالَ النَّاظِمُ: (سُنَنُهُ مَسْحُهُمَا لِلْمَرْفِقِ *** وَضَرْبةُ الْيَدَيْنِ تَرْتِيبٌ بَقِي).
مُسْتَحَبَّاتُ التَّيَمُّمِ اثنين:
التَّسْمِيَةُ؛ وَهِيَ قَوْلُ بِسْمِ اِللهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَضَائِلِ الْوُضُوءِ.
الصِّفَةُ الْمُسْتَحَبَّةُ فِي مَسْحِ الْيَدَيْنِ؛ وَهِي كَمَا قَالَ فِي الرِّسَالَةِ: يَضْرِبُ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِمَا شَيْءٌ نَفَضَهُمَا نَفْضاً خَفِيفاً، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ كُلَّهُ مَسْحاً، ثُمَّ يَضْرِبُ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ فَيَمْسَحُ يُمْنَاهُ بِيُسْرَاهُ، يَجْعَلُ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُسْرَى مَا عَدَا الْإِبْهَامَ عَلَى أَطْرَافِ يَدِهِ الْيُمْنَى مَا عَدَا الْإِبْهَامَ، ثُمَّ يُمِرُّ أَصَابِعَهُ عَلَى ظَاهِرِ يَدِهِ وَذِرَاعِهِ وَقَدْ حَنَى أَصَابِعَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَرْفِقَ، ثُمَّ يَجْعَلُ كَفَّهُ عَلَى بَاطِنِ ذِرَاعِهِ مِنْ طَيِّ مِرْفَقِهِ قَابِضاً عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكُوعَ مِنْ يَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يُجْرِي بَاطِنَ إِبْهَامِهِ عَلَى ظَاهِرِ إِبْهَامِ يَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَمْسَحُ الْيُسْرَى بِالْيُمْنَى هَكَذَا، فَإِذَا بَلَغَ الْكُوعَ مَسَحَ كَفَّهُ الْيُمْنَى بِكَفِّهِ الْيُسْرَى إِلَى آخِرِ أَطْرَافِهِ. [رسالة ابن أبي زيد القيرواني]
وَفِي هَذَا كُلِّهِ قَالَ النَّاظِمُ: (مَنْدُوبُهُ تَسْمِيَةٌ وَصْفٌ حَمِيدْ). نَعَمْ؛ لَوْ مَسَحَ الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ كَيْفَ شَاءَ، وَأَكْمَلَ الْمَسْحَ، أَجْزَأَهُ.
ثَانِياً: نَوَاقِضُ التَّيَمُّمِ
كُلُّ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَهُوَ سِتَّةٌ: الْبَوْلُ، وَالْمَذْيُ، وَالْوَدْيُ، وَالْغَائِطُ، وَالرِّيحُ، وَالسَّلَسُ. وَالْأَسْبَابِ وَهُوَ ثَمانِيَةٌ: الْجُنُونُ، وَالْإِغْمَاءُ، وَالسُّكْرُ، وَالنَّوْمُ، وَاللَّمْسُ لِلَذَّةٍ، وَالْقُبْلَةُ لِلَذَّةٍ، وَإِلْطَافُ الْمَرْأَةِ، وَمَسُّ الرَّجُلِ ذَكَرَهُ.، فَإِنَّهُ يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ أَيْضاً؛ وَيَزِيدُ التَّيَمُّمُ عَلَى الْوُضُوءِ بِناقِضٍ آخَرَ، هُوَ وُجُودُ الْمَاءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ؛
فَمَنْ تَيَمَّمَ وَوَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ بَطَلَ عَلَيْهِ تَيَمُّمُهُ؛
ومَنْ خَشِيَ فَوَاتَ وَقْتِ الصَّلَاةِ تَمَادَى وَلَا يَقْطَعُ وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ؛
وَمَنْ تَيَمَّمَ وَنَسِيَ الْمَاءَ وَهُوَ عِنْدَهُ فِي رَحْلِهِ فَتَذَكَّرَهُ فِي الصَّلَاةِ قَطَعَهَا؛
وَمَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِالْمَاءِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ تَمَادَى وَأَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ؛
وَمَنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ لَمْ يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ أَيْضاً وَصَلاَتُهُ صَحِيحَةٌ.
وَفِي هَذَا قَالَ النَّاظِمُ: (نَاقِضُهُ مِثْلُ الْوُضُوءِ وَيَزِيدْ *** وُجُودُ مَاءٍ قَبْلَ أَنْ صَلَّى).
ثَالِثاً: مَنْ يُعِيدُ الصَّلَاةَ مِنَ الْمُتَيَمِّمِينَ
يُنْدَبُ لِبَعْضِ الْمُتَيَمِّمِينَ أَنْ يُعِيدُوا صَلَاتَهُمْ، وَهُمْ:
الْمُتَيَمِّمُ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى وَقَدْ بَقِيَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْمُخْتَارُ؛
الْخَائِفُ مِنَ اللُّصُوصِ أَوْ السِّبَاعِ إِذَا صَلَّى وَوَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ؛
الزَّمِنُ (الْمُقْعَدُ) الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ؛ ثُمَّ وَجَدَ مَنْ يُنَاوِلُهُ الْمَاءَ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ.
الرَّاجِي وُجُودَ الْمَاءِ إِذَا قَدَّمَ التَّيَمُّمَ عَلَى آخِرِ الْوَقْتِ وَصَلَّى ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ؛
الْمُوقِنُ بِوُجُودِ الْمَاءِ، وَهُوَ أَحْرَى، إِذَا قَدَّمَ التَّيَمُّمَ وَصَلَّى ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَائِفَ مُقَصِّرٌ فِي طَلَبِ الْمَاءِ، وَالزَّمِنُ مُقَصِّرٌ فِي إِعْدَادِ الْمَاءِ، وَالرَّاجِي وَالْمُوقِنُ مُخَالِفَانِ لِمَا أُمِرَا بِهِ مِنْ تَأْخِيرِ التَّيَمُّمِ لِآخِرِ الْوَقْتِ.
وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ:
مَنْ وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى بِقُرْبِهِ.
مَنْ أَضَلَّ أَوْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي مَتَاعِه، فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى خَوْفَ خُرُوجِ الْوَقْتِ.
مَنْ تَرَدَّدَ فِي لُحُوقِ الْمَاءِ وَهُوَ فِي مَتَاعِهِ، وَلَمْ يَتَذَكَّرْهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ صَلَّى.
فَهَؤُلَاءِ يُعِيدُونَ فِي الْوَقْتِ لِتَقْصِيرِهِمْ أَيْضاً فِي الطَّلَبِ. وَلَا يُعِيدُ مَنْ أَضَلَّ مَتَاعَهُ بَيْنَ الْأَمْتِعَةِ وَبالَغَ فِي طَلَبِهِ فَلَمْ يَجِدْهُ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى، لَا فِي وَقْتٍ وَلَا فِي غَيْرِهِ.
وَإِلَى بَعْضِ هَذَا التَّفْصِيلِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ بَعْدُ يَجِدْ يُعِدْ بِوَقْتٍ... إِلَى: وَزَمِنٍ مُنَاوِلاً قَدْ عَدِمَا).
مِنَ الْمَقَاصِدِ فِي إِعَادَةِ التَّيَمُّمِ وَعَدَمِهِ: التَّنْبِيهُ إِلَى عَدَمِ التَّفْرِيطِ فِي أُمُورِ الْعِبَادَةِ، إِذْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ سَبَبَ الْإِعَادَةِ التَّفْرِيطُ فِي طَلَبِ الْمَاءِ.
التقويم:
مَا سُنَنُ التَّيَمُّمِ؟
وَمَا مُسْتَحَبَّاتُهُ؟
وَمَا نَوَاقِضُهُ؟
الاستثمار:
قَالَ الْفَقِيهُ مُحَمَّدٌ الْعَرَبِيُّ الْقَرَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِيمَنْ يُبَاحُ لَهُمُ التَّيَمُّمُ:
السَّادِسُ: مَنْ خَافَ بِاسْتِعْمالِ الْمَاءِ خُرُوجَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَأَوْلَى مِنْ هَذَا مَنْ خَافَ بِطَلَبِ الْمَاءِ خُرُوجَ الْوَقْتِ، فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَسْتَعْمِلُهُ إِذَا كَانَ مَوْجُوداً، وَلَا يَطْلُبُهُ إِذَا كَانَ مَفْقُوداً، مُحَافَظَةً عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا، سَواءٌ كَانَ الْوَقْتُ اخْتِيَارِيّاً أَوْ ضَرُورِيّاً؛ فَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدْرِكُ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً فِي وَقْتِهَا إِنْ تَوَضَّأَ أَوْ اغْتَسَلَ فَلَا يَتَيَمَّمُ؛ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْفَرَائِضِ مَرَّةً، وَيَتْرُكَ السُّنَنَ وَالْمَنْدُوبَاتِ، إِنْ خَشِيَ فَوَاتَ الْوَقْتِ بِفِعْلِهَا. [الخلاصة الفقهية]
أُبَيِّنُ انْطِلَاقاً مِنْ اَلنَّصِّ حُكْمَ اَلتَّيَمُّمِ لِخَوْفِ خُرُوجِ اِلْوَقْتِ، مَعَ التَّعْلِيلِ.
تمهيد:
إنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ وَوَسِيلَةٌ لِعِبَادَةِ الصَّلاَةِ، اِلَّتِي تُعَدُّ وَسِيلَةً لِتَحْقِيقِ حُسْنِ الصِّلَةِ بِاللهِ تَعَالَى وَالْخُضُوعِ لَهُ جَلَّ وَعَلَا.
فَمَا الصَّلاَةُ؟ وَمَا مَشْرُوعِيَّتُهَا؟ وَمَا أَسْرَارُهَا؟ وَمَا فَرَائِضُهَا؟ وما شروطها؟
النظم قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَرَائِضُ الصَّلاَةِ سِتَّ عَشَرَهْ *** شُرُوطُهَا أَرْبَعَةٌ مُقْتَفَرَهْ
تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ وَالْقِيَامُ *** لَهَا وَنِيَّةٌ بِهَا تُرَامُ
فَاتِحَةٌ مَعَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعْ *** وَالرَّفْعُ مِنْهُ وَالسُّجُودُ بِالْخُضُوعْ
وَالرَّفْعُ مِنْهُ وَالسَّلاَمُ وَالْجُلُوسْ *** لَهُ وَتَرْتِيبُ أَدَاءٍ فِي الْأُسُوسْ
شرح المفردات:
مُقْتَفَرَهْ: مُتَّبَعَةٌ.
تُـرَامُ: تُقْصَدُ.
الْخُضُوع: هُوَ الذِّلَّةُ لِعَظَمَةِ اللهِ وَجَلاَلِهِ.
الْأُسُوس: جَمْعُ أُسٍّ، وَهُوَ الْأَسَاسُ.
أَوَّلاً: تعريف الصلاة ومشروعيتها ومكانتها
تَعْرِيفُهَا:
الصَّلاَةُ لُغَةً: قِيلَ: مَنْقُولَةٌ مِنَ الدُّعَاءِ الَّذِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، وَتُطْلَقُ الصَّلَاةُ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ عَلَى الدُّعَاءِ. وَقِيلَ: مَنْقُولَةٌ مِنَ الصِّلَةِ، وَهِيَ مَا يَرْبِطُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ؛ لأنَّهَا صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ.
وَالصَّلاَةُ شَرْعاً: أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ مُفْتَتَحَةٌ بِالتَّكْبِيرِ، مُخْتَتَمَةٌ بِالتَّسْلِيمِ، مَعَ النِّيَّةِ، بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ؛ أَوْ هِيَ: عِبَادَةٌ ذَاتُ إِحْرَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَتَسْلِيمٍ.
مَشْرُوعِيَّتُهَا:
فَرَضَ الله تَعَالَى الصَّلاَةَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ وُجُوباً قَطْعِيّاً عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بِعَيْنِهِ، بَلْ هِيَ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً، كَبَقِيَّةِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةِ.
وَدَلِيلُ وُجُوبِهَا آيَاتٌ قُرْآنِيَّةٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43]
وَأَحَادِيثُ نَبَوِيَّةٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسَّائِلِ عَنِ اِلْإِسْلَامِ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اِلْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ...» [صحيح البخاري].
مَكَانَتُهَا:
الصَّلاَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنيَّةِ وَأَشْرَفِهَا، جَمَعَ الله فِيهَا لِبَنِي آدَمَ أَعْمَالَ الْمَلاَئِكَةِ كُلَّهَا مِنْ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَذِكْرٍ، وَأَنْوَاعًا مُهِمَّةً مِنْ الطَّاعَاتِ، كَقِرَاءَةِ الْقُرْءَانِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَعُدَّتْ مِنَ الدِّينِ كَالرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ.
وَيَكْفِي أَنَّهَا أَوَّلُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَأَنَّهَا قَرِينَةُ الصَّبْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: 45] بِحَيْثُ يُسْتَعَانُ بِهَا فِي عَظَائِمِ الْأُمُورِ، قَالَ الزُّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ اِلْمُوَطَّإِ: «وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزَعَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَأَمَرَ مَنْ رَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يَكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ» [شرح الزرقاني على الموطإ].
مِنْ حِكَمِهَا: أَنَّهَا صِلَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَرَبِّهِ، وَصِلَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ قَصَّرَ بِحَقِّ اللهِ وَحَقِّ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَقُولُ: «اللهمَّ اغْفِرْ لِي وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ»؛ وَيَقُولُ فِي التَّشَهُّدِ: «السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ»؛ فَيَكُونُ تَارِكُهَا مُقَصِّراً فِي حَقِّ اللهِ بِتَرْكِ عِبَادَتِهِ، وَفِي حَقِّ رَسُولِهِ بِتَرْكِ الشَّهَادَةِ بِرِسَالَتِهِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَفِي حَقِّ نَفْسِهِ؛ إِذْ حَرَمَ نَفْسَهُ الْخَيْرَ الْعَظِيمَ، وَفِي حَقِّ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ الذِينَ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي صَلَوَاتِهِمْ، وَلَا يَسْتَغْفِرُ هُوَ لَهُمْ وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ فِي صَلَاتِهِ التِي تَرَكَهَا؛ وَلِكُلِّ ذَلِكَ عَظُمَتِ الْمُصِيبَةُ بِتَرْكِهَا.
وَمِنْ مَقَاصِدِها: أَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45] وَذَلِكَ بِمُدَاوَمَةِ الْعَبْدِ عَلَيْهَا، فَيُحَبَّبُ إِلَيْهِ الْإِيمَانُ، وَيُكَرَّهُ إِلَيْهِ الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ، وَتَقْوَى رَغْبَتُهُ فِي الْخَيْرِ، وَتَسْهُلُ عَلَيْهِ اِلطَّاعَاتُ، وَيَقْتَرِبُ الْعَبْدُ مِنَ اللهِ، فَيُيَسِّرُ لَهُ أُمُورَهُ، وَيُبَارِكُ لَهُ فِي أَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَبِذَلِكَ يَعِيشُ عِيشَةَ السُّعَدَاءِ.
ثَانِياً: شُرُوطُ الصَّلَاةِ وَفَرَائِضُهَا
لِلصَّلَاةِ شُرُوطٌ وَفَرَائِضُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الشُّرُوطَ خَارِجَةٌ عَنِ مَاهِيَةِ الصَّلَاةِ، وَالْفَرَائِضُ دَاخِلَةٌ فِيهَا.
شُرُوطُ الصَّلاَةِ قِسْمَانِ:
شُرُوطُ وُجُوبٍ؛ وَالْمُرَادُ بِهَا: مَا لَا يُطْلَبُ مِنَ الْمُكَلَّفِ فِعْلُهُ كَالْبُلُوغِ.
شُرُوطُ صِحَّةٍ؛ وَالْمُرَادُ بِهَا: مَا يُطْلَبُ مِنَ الْمُكَلَّفِ فِعْلُهُ كَالطَّهَارَةِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَسَتَأْتِي بَعْدَ الْفَرَائِضِ.
فَرَائِضُ الصَّلاَةِ ست عَشْرَةَ (16) فَرِيضَةً، وَهِيَ:
1. النِّيَّةُ الَّتِي تُقْصَدُ بِهَا الصَّلَاةُ؛ وَيَجِبُ اقْتِرَانُهَا بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، فَلَا تُؤَخَّرُ عَنْهَا، وَلَا تُقَدَّمُ عَلَيْهَا، وَلَا يَضُرُّ ذَهَابُهَا بَعْدَ انْعِقَادِهَا. وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الصَّلَاةِ الْمَنْوِيَّةِ ظُهْراً أَوْ عَصْراً أَوْ غَيْرَهُمَا، وَالْأَفْضَلُ تَعْيِينُهَا بِالْقَلْبِ لَا بِاللَّفْظِ.
2. تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ الَّتِي يَدْخُلُ بِهَا فِي حَرَمِ الصَّلَاةِ وَحُرْمَتِهَا؛ وَلَفْظُهَا: اللهُ أكْبَرُ، ولَا يُجْزِئُ غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَلَا يُجْزِئُ أَكْبَار بِالْمَدِّ لِتَغَيُّرِ الْمَعْنَى.
3. الْقِيَامُ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، فَلَا يُجْزِئُ قَوْلُهَا مِنْ جُلُوسٍ ثُمَّ الْقِيَامُ لِلْقِرَاءَةِ.
وَفِي هَذِهِ الْفَرَائِضِ قَالَ النَّاظِمُ: (تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ وَالْقِيَامُ *** لَهَا وَنِيَّةٌ بِهَا تُرَامُ).
4. قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ؛ وَهِي وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُصَلِّي إِمَاماً أَوْ فَذّاً لَا مَأْمُوماً؛ وَيَجِبُ تَعَلُّمُهَا عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْهَا، فَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهَا اِئْتَمَّ بِمَنْ يُحْسِنُهَا، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَقَطَ عَنْهُ وُجُوبُهَا.
5. الْقِيَامُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ؛ فَلَا يُجْزِئُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ مِنْ جُلُوسٍ ثُمَّ الْقِيَامُ لِلرُّكُوعِ.
6. الرُّكُوعُ؛ وَأَقَلُّهُ الِانْحِنَاءُ بِقَدْرِ مَا تَقْرُبُ رَاحَتَاهُ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْصِبَ رُكْبَتَيْهِ، وَيَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَيْهِمَا، وَيُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ، وَيُسَوِّيَ ظَهْرَهُ وَرَأْسَهُ.
7. الرَّفْعُ مِنَ الرُّكُوعِ؛ فَإِنْ أَخَلَّ بِهِ وَخَرَجَ مِنَ اَلصَّلَاةِ وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلرَّجُلِ الذِي لَمْ يُحْسِنْ صَلَاتَهُ: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ... ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِماً» [صَحِيحُ ابْنِ خُزَيْمَةَ].
وَفِي هَذِهِ الْفَرَائِضِ قَالَ النَّاظِمُ: (فَاتِحَةٌ مَعَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعْ وَالرَّفْعُ مِنْهُ).
8. السُّجُودُ؛ وَيَنْبَغِي فِيهِ الْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ مَعَ اسْتِحْضَارِ الْمُثُولِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَجِبُ فِيهِ تَمْكِينُ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ مِنَ الْأَرْضِ، فَمَنْ سَجَدَ عَلَى الْأَنْفِ دُونَ الْجَبْهَةِ أَعَادَ أَبَداً، وَعَلَى الْجَبْهَةِ دُونَ الْأَنْفِ أَجْزَأَهُ، وَيُعِيدُ اسْتِحْبَاباً.
9. الرَّفْعُ مِنَ السُّجُودِ؛ وَيَنْبَغِي رَفْعُ الْيَدَيْن عَنِ الْأَرْضِ فِي الْجُلُوسِ بَعْدَهُ.
10. الْجُلُوسُ لِلسَّلَامِ؛ وَالْفَرْضُ مِنْهُ الْجُلُوسُ لِلتَّسْلِيمِ، ومَا زَادَ عَلَيْهِ سُنَّةٌ.
11. السَّلَامُ؛ وَيَتَعَيَّنُ فِيهِ لَفْظُ: السَّلَامُ عَلَيكُمْ. وَيَنْوِي بِالسَّلَامِ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ، كَمَا يَنْوِي الدُّخُولَ فِيهَا بِالْإِحْرَامِ.
12. تَرْتِيبُ أَدَاءِ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ، بِتَقْديمِ الْقِيَامِ عَلَى الرُّكُوعِ، وَالرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، وَالسُّجُودِ عَلَى الْجُلُوسِ؛ فَلَوْ عَكَسَ فَبَدَأَ بِالْجُلُوسِ قَبْلَ الْقِيَامِ، أَوْ بِالسُّجُودِ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَمَا أشْبَهَ ذَلِكَ، لَمْ تُجْزِهِ صَلاَتُهُ بِإِجْمَاعٍ.
وَفِي هَذِهِ الْفَرَائِضِ قَالَ النَّاظِمُ: (وَالسُّجُودُ بِالْخُضُوعْ ** وَالرَّفْعُ مِنْهُ وَالسَّلاَمُ وَالْجُلُوسْ** لَهُ وَتَرْتِيبُ أَدَاءٍ فِي الْأُسُوسْ).
ثَالِثاً: رُوحُ عِبَادَةِ الصَّلَاةِ
وَمِنْ أَسْرَارِ الصَّلَاةِ وَلُبِّهَا وَأَثَرِهَا؛ أَنَّهَا صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَلَا يَلِيقُ أَنْ تَرْبِطَهُ بِخَالِقِهِ وَرَازِقِهِ وَالْمُنْعِمِ عَلَيْهِ صَلاَةٌ جَوْفَاءُ فَارِغَةٌ مِنْ رُوحِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ، قَالَ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ: (وَتَعْتَقِدُ الْخُضُوعَ بِذَلِكَ بِرُكُوعِكَ وَسُجُودِكَ): حَضٌّ عَلَى الْخُشُوعِ، وَقَدْ عَدَّهُ عِيَاضٌ فِي فَرَائِضِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ اَبْنُ رُشْدٍ رحمه الله: وَهُوَ مِنَ الْفَرَائِضِ الَّتِي لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهَا. وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: مَنْ لَمْ يَخْشَعْ فِي صَلَاتِهِ فَهُوَ إِلَى الْعُقُوبَةِ أَقْرَبُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: حُضُورُ الْقَلْبِ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ بِإِجْمَاعٍ، وَلَا يَجِبُ فِي كُلِّهَا إِجْمَاعاً، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي جُزْءٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَالتَّفَكُّرُ بِالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ مَكْرُوهٌ.
أَنَّهَا تَجْمَعُ النَّاسَ مِنْ أَجْلِ أَدَائِهَا، فَيَلْتَقِي بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَيَتَعَرَّفُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَخْبَارِ اِلْبَعْضِ الْآخَرِ؛ فَيُهَنَّأُ الْمَوْفُورُ، وَيُعَزَّى اَلْمُصَابُ، وَيُجْبَرُ حَالُ الْمَكْرُوبِ، وَيُعَلَّمُ الْجَاهِلُ، وَيُرْشَدُ الْحَيْرَانُ، وَيُبْرَمُ الصُّلْحُ بَيْنَ اَلْمُتَخَاصِمَيْنِ، وَتُمْحَى اَلْعَدَاوَةُ بَيْنَ اَلْمُتَشَاحِنَيْنِ؛ فَالصَّلَاةُ فُرْصَةٌ لِلتَّوَاصُلِ، وَالْتِحَامِ الْمُجْتَمَعِ اِلْمُسْلِمِ، وَرَبْطِ عَلَاقَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْأُخُوَّةِ بَيْنَ أَفْرَادِهِ، وَنَشْرِ اِلسَّلَامِ فِيمَا بَيْنَهُمْ.
التقويم:
أَذْكُرُ مَفْهُومَ الصَّلَاةِ مَعَ بَيَانِ مَشْرُوعِيَّتِهَا.
أُبَيِّنُ أَحْكَامَ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ الْمُسْتَفادَةَ مِنَ الدَّرْسِ.
أُلَخِّصُ بَعْضَ الْفَوَائِدِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ لِلصَّلَاةِ.
الاستثمار:
عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَكَعَ جَعَلَ يَقُولُ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ»، ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ اَلْأَعْلَى».
عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ اِلرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» [صحيح مسلم].
1. أَقْرَأُ الْحَدِيثَيْنِ، وَأُوَفِّقُ بَيْنَهُمَا فِيمَا يُقَالُ فِي السُّجُودِ.
2. أَبْحَثُ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي الْأَمْرِ بِالِاجْتِهَادِ فِي السُّجُودِ.
تمهيد:
بَقِيَ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ بَقِيَّةٌ، مِنْهَا: نِيَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ نِيَّةِ الصَّلَاةِ.
فَمَا بَقِيَّةُ الْفَرَائِضِ؟ وَمَا هِيَ هَذِهِ النِّيَّةُ الْأُخْرَى؟ وَمَا حُكْمُهَا؟ وَأَيْنَ مَحَلُّهَا؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وَالاِعْتِدَالُ مُطْمَئِنّاً بالْتِزَامْ *** تَبَعُ مَأْمُومٍ بِإِحْرَامٍ سَلاَمْ
نِيَّتُهُ اقْتِدَا كَذَا الْإِمَامُ فِي *** خَوْفٍ وَجَمْعٍ جُمْعَةٍ مُسْتَخْلَفِ
شرح المفردات:
الِاعْتِدَالُ: الِاسْتِوَاءُ.
مُطْمَئِنّـاً: مُسْتَقِرَّ الْأَعْضَاءِ.
اِقْتِـداً: أَيْ اِتِّبَاعٌ.
أَوَّلاً: بقية فرائض الصلاة
بَقِيَ مِنْ فَرَائِضُ الصَّلَاةِ أَرْبَعَةٌ: اِثْنَانِ مِنْهَا كَمَالٌ وَتَمْكِينٌ لِلْأَرْكَانِ السَّابِقَةِ، وَهُمَا اَلِاعْتِدَالُ وَالِاطْمِئْنَانُ؛ وَاثْنَانِ تَقْتَضِيهِمَا عَلَاقَةُ الْمَأْمُومِ بِالْإِمَامِ، وَهُمَا مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ، وَنِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ. وَبَقِيَّةُ فَرَائِضِ اِلصَّلَاةِ هِيَ:
13. الِاعْتِدَالُ؛ وَهُوَ نَصْبُ الْقَامَةِ فِي الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي الْجُلُوسِ مِنَ السُّجُودِ.
14. الطُّمَأْنِينَةُ؛ وَهِيَ اسْتِقْرارُ الْأَعْضَاءِ وَسُكُونُهَا فِي الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَلَا مُلَازَمَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِاعْتِدَالِ؛ إِذْ قَدْ يَعْتَدِلُ بِنَصْبِ قَامَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْكُنَ أَعْضَاؤُهُ، وَقَدْ يَطْمَئِنُّ بِسُكُونِ أَعْضَائِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْصِبَ قَامَتَهُ.
15. مُتَابَعَةُ الْمَأْمُومِ إِمَامَهُ فِي الْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ؛ فَيُحْرِمُ بَعْدَ إِحْرَامِ إمَامِهِ، وَيُسَلِّمُ بَعْدَ سَلَامِ إِمَامِهِ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ يَسْتَلْزِمُ الِاتِّبَاعَ، لَا الْمُسَاوَاةَ، وَلَا الْمُسَابَقَةَ؛ فَمُسَاوَاةُ الْمَأْمُومِ إمَامَهُ أَوْ سَبْقُهُ فِي الْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ، فَيُعِيدُ الصَّلَاةَ إِنْ سَبَقَهُ أَوْ سَاوَاهُ فِي الْإِحْرَامِ، وَتَبْطُلُ إِنْ سَاوَاهُ أَوْ سَبَقَهُ فِي السَّلَامِ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ:
إِنْ بَدَأَ بَعْدَ بَدْءِ الْإمَامِ صَحَّتْ صَلاَتُهُ، أَتَمَّ بَعْدَهُ، أَوْ مَعَهُ؛
إِنْ أَتَمَّ قَبْلَهُ فَالْأَظْهَرُ بُطْلانُهَا، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ كُلُّ التَّكْبِيرِ لَا بَعْضُهُ؛
إِنْ بَدَأَ قَبْلَ إمَامِهِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، سَوَاءٌ أَتَمَّ قَبْلَهُ، أَوْ مَعَهُ، أَوْ بَعْدَهُ؛
إِنْ بَدَأَ مَعَهُ أَعَادَ، فَإِنْ لَمْ يُعِدْ وَأَتَمَّ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ؛
إِنْ بَدَأَ مَعَهُ وَأَتَمَّ قَبْلَهُ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.
أَمَّا مُتَابَعَةُ الْمَأْمُومِ إِمَامَهُ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ فَمُسْتَحَبَّةٌ، وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، وَمُسَاوَاتُهُ مَكْرُوهَةٌ، وَسَبْقُهُ إِسَاءَةٌ.
مَنْ رَفَعَ سَهْواً قَبْلَ إِمَامِهِ فِي رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ رَجَعَ لُزُوماً إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُدْرِكُ الْإِمَامَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُ الْإمَامَ رَاكِعاً أَوْ سَاجِداً بَقِي وَلَا يَرْجِعُ مَنْ خَفَضَ قَبْلَهُ لِرُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ، وَقَامَ بَعْدَ رُكُوعِ الْإِمَامِ رَاكِعاً أَوْ سَاجِداً مِقْدَارَ فَرْضِهِ صَحَّتْ صَلاَتُهُ. وَأَسَاءَ مَنْ تَعَمَّدَ الرَّفْعَ أَوِ الْخَفْضَ قَبْلَ إِمَامِهِ.
16. نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ؛ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَأْمُومِ مُطْلَقاً، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ مُقْتَدٍ بِالْإِمَامِ وَمُتَّبِعٌ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ لِعَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَذِّ، فَلَا يُعْلَمُ أَيٌّ مِنْهُمَا هُوَ الْإِمَامُ؟
وَفِي هَذِهِ الْفَرَائِضِ قَالَ النَّاظِمُ: (وَالِاعْتِدَالُ مُطْمَئِنّاً بالْتِزَامْ *** تَبَعُ مَأْمُومٍ بِإِحْرَامٍ سَلَامْ *** نِيَّتُهُ اقْتِدَا).
وَمِنَ حِكَمِ إِتْقَانِ الصَّلَاةِ، وَتَوَقِّي مَا يُفْسِدُهَا أَوْ يَنْقُصُهَا: اِلْتِزَامُ الْمُسْلِمِ بِإِتْقَانِ كُلِّ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَلْتَزِمُ بِهَا لِغَيْرِهِ، أَوْ يَقُومُ بِهَا لِنَفْسِهِ، وَاقْتِنَاعُهُ بِأَنَّ كُلَّ أَعْمَالِهِ فِي حَيَاتِهِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَلَى هَذَا الْمُسْتَوَى مِنَ الْإِتْقَانِ. وَمَا الصَّلَاةُ إِلَّا مَدْرَسَةٌ تُرَبِّي عَلَى الْإِتْقَانِ لِكُلِّ الْأَعْمَالِ.
ثَانِياً: أَحْكَامُ النِّيَّةِ فِي صَلَوَاتٍ مُعَيَّنَةٍ
مِنَ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ نِيَّةٌ خَاصَّةٌ غَيْرُ النِّيَّةِ السَّابِقَةِ، وَذَلِكَ فِي صَلَوَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، تَتَعَلَّقُ بِالْإمَامِ خَاصَّةً، وَتَلْزَمُهُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ:
صَلاَةُ الْخَوْفِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا كَانَ إِمَاماً.
صَلاَةُ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ فِيهِ وَتَتَوَقَّفُ عَلَى الْإمَامَةِ.
صَلاَةُ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ فِيهَا وَتَتَوَقَّفُ عَلَى الْإمَامَةِ.
صَلاَةُ الِاسْتِخْلَافِ؛ لِلتَّمْييزِ فِيهَا بَيْنَ نِيَّةِ الْمَأْمُومِيَّةِ وَالْإِمَامِيَّةِ.
فَمَنِ اِسْتَخْلَفَهُ الْإمَامُ لَزِمَهُ أَنْ يَنْوِيَ انْتِقَالَهُ مِنْ نِيَّةِ الْمَأْمُومِيَّةِ إِلَى نِيَّةِ الْإِمَامَةِ. وَنِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِالْإمَامِ، وَنِيَّةُ الْإمَامَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَذْكُورَةِ، نِيَّةٌ خَاصَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى نِيَّةِ الصَّلَاةِ، فَتِلْكَ لِتَمْيِيزِ الصَّلَاةِ، وَهَذِهِ لِتَمْيِيزِ حَالَةِ الصَّلَاةِ أَوْ الْمُصَلِّي، وَتِلْكَ فَرْضٌ فِي كُلِّ الصَّلَوَاتِ، وَهَذِهِ نِيَّةٌ خَاصَّةٌ فِي صَلَوَاتٍ خَاصَّةٍ.
وَلَا تَلْزَمُ نِيَّةُ الْإمَامَةِ فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ، إِذْ لَيْسَتْ مَشْرُوطَةً لِصِحَّةِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مُحَقِّقَةٌ لِتَحْصِيلِ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ؛ فَلَوِ اقْتَدَى رَجُلٌ بِآخَرَ دُونَ عِلْمِهِ حَصَلَتْ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ لِلْمَأْمُومِ وَالْإِمَامِ مَعاً. وَفِي النِّيَّةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْإِمَامِ قَالَ النَّاظِمُ: (كَذَا الْإِمَامُ فِي *** خَوْفٍ وَجَمْعٍ جُمْعَةٍ مُسْتَخْلَفِ).
وَيَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ الْأَحْكَامُ الآتية:
مِنْ أَحْكَامِ النِّيَّةِ
أَنَّ مَنِ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَحْدَهُ مُنْفَرِداً ثُمَّ وَجَدَ جَمَاعَةً لَا يَنْتَقِلُ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الِاقْتِدَاءِ فَاتَ مَحَلُّهَا وَهُوَ أَوَّلُ الصَّلَاةِ؛
أَنَّ مَنِ اِفْتَتَحَ الصَّلَاةَ مَعَ جَمَاعَةٍ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى الِانْفِرادِ، لِأَنَّ الْمَأْمُومَ أَلْزَمَ نَفْسَهُ نِيَّةَ الِاقْتِدَاءِ.
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ يُصَلِّي فَرِيضَةً أَنْ يَأْتَمَّ بِمَنْ يُصَلِّي نَافِلَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَأْتَمَّ الْمُتَنَفِّلُ بِالْمُفْتَرِضِ.
أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَتَّحِدَ نِيَّةُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ ظُهْراً أَوْ عَصْراً أَوْ غَيْرَهُمَا، فَلَا يُصَلِّي الظُّهْرَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْعَصْرَ، وَلَا الْعَكْسُ.
وَيَجِبُ أَنْ تَتَّحِدَ نِيَّتُهُمَا فِي الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ، فَلَا يُصَلِّي ظُهْراً قَضَاءً خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي ظُهْراً أَدَاءً، وَلَا الْعَكْسُ.
مِنْ أَحْكَامِ الْقِيَامِ:
أَنَّ الْقِيَامَ لِلْإِحْرَامِ وَالْفَاتِحَةِ فَرْضٌ فِي حَقِّ الْقَادِرِ عَلَيْهِ بِلَا مَشَقَّةٍ؛ أَمَّا الْعَاجِزُ عَنْهُ، أَوْ الْقَادِرُ عَلَيْهِ بِمَشَقَّةٍ، أَوْ مَنْ خَافَ مَعَ الْقِيَامِ ضَرَراً مِنْ حُدُوثِ مَرَضٍ أَوْ زِيادَتِهِ أَوْ تَأَخُّرِ بُرْءٍ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْقِيَامُ، فَيَجُوزُ لَهُ الِاتِّكَاءُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاتِّكَاءِ جَازَ لَهُ الْجُلُوسُ.
أَنَّهُ يَسْتَوِي فِي هَذَا مَنْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ الْعَجْزُ الْمَذْكُورُ، أَوْ تِلْكَ الْمَشَقَّةُ، أَوْ ذَلِكَ الْخَوْفُ مِنَ الضَّرَرِ، قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ.
أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْجُلُوسِ فِي النَّافِلَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ جُلُوسُ التَّرَبُّعِ، وَلَهُ أَنْ يَجْلِسَ كَجُلُوسِ التَّشَهُّدِ.
مِنَ الْحِكَمِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ قِيَامِ الْمُسْتَطِيعِ وَجُلُوسِ الْعَاجِزِ فِي الصَّلَاةِ: اَلتَّوْجِيهُ إِلَى مَبْدَإِ الْحَزْمِ وَالضَّبْطِ فِي حَقِّ السَّوِيِّ الْقَادِرِ، وَمَبْدَإِ التَّيْسِيرِ وَالتَّخْفِيفِ عَلَى الضَّعِيفِ الْعَاجِزِ، حَتَّى نُعَامِلَ كُلًّا مِنَ الْعِبَادِ بِمَا يَلِيقُ مِنَ الْحَزْمِ أَوِ التَّيْسِيرِ.
التقويم:
أُعَدِّدُ فَرَائِضَ الصَّلَاةِ.
أُبَيِّنُ فَائِدَةَ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ.
أُلَخِّصُ أَحْكَامَ النِّيَّةِ الْخَاصَّةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَاصَّةِ، مَعَ التَّعْلِيلِ.
الاستثمار:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا جَمِيعًا: اللهمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَلا تَسْجُدُوا قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ فَارْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ، وَلا تَرْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ»[سنن البيهقي].
أُحَرِّرُ شَرْحَ هَذَا الْحَديثِ، ثُمَّ أَذْكُرُ مَا اسْتَفَدْتُهُ مِنْهُ مِنَ اَلْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ.
تمهيد: شُرُوطِ الصَّلَاةِ، وَهِي شُرُوطُ الصِّحَّةِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ الصَّلَاةُ عَلَى صِحَّةِ أَدَائِهَا.
مَا شُرُوطُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ؟ وَمَا أَحْكَامُهَا؟ وَمَا حُكْمُ الْإِخْلَالِ بِشَيْءٍ مِنْهَا؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
شَرْطُهَا الِاسْتقْبَالُ طُهْرُ الْخَبَثِ *** وَسَتْرُ عَوْرَةٍ وَطُهْرُ الْحَدَثِ
بِالذِّكْرِ وَالْقُدرَةِ فِي غَيْرِ الَاخِيرْ *** تَفْرِيعُ نَاسِيهَا وَعَاجِزٍ كَثِيرْ
نَدْباً يُعِيدَانِ بِوَقْتٍ كَالْخَطَا *** فِي قِبْلَةٍ لَا عَجْزِهَا أَوِ الْغِطَا
وَمَا عَدَا وَجْهَ وَكَفَّ *** يَجِبُ سَتْرُهُ كَمَا فِي الْعَوْرَهْ
لكِنْ لَدَى كَشْفٍ لِصَدْرٍ أَوْ شَعَرْ *** أَوْ طَرَفٍ تُعِيدُ فِي الْوَقْتِ الْمُقَرْ
شرح المفردات:
الْخَبَـثِ: النَّجَاسَةِ.
عَـوْرَةٍ: مَا يَقْبُحُ كَشْفُهُ وَيُسْتَحْيَى مِنْهُ.
تَفْرِيـعُ: تَفْصِيلُ.
أَوَّلاً: شروط الصلاة
تَنْقَسِمُ شُرُوطُ الصَّلَاةِ إِلَى قِسْمَيْنِ: شُرُوطُ وُجُوبٍ، وَشُرُوطُ صِحَّةٍ؛ وَتُسَمَّى شُرُوطَ الْأَدَاءِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ:
طَهَارَةُ الْخَبَثِ؛ وَهِيَ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ عَنِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْمَكَانِ. وَهِيَ شَرْطٌ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ دُونَ الْعَجْزِ وَالنِّسْيَانِ.
فَمَنْ صَلَّى بِنَجَاسَةٍ فِي ثَوْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ أَوْ مَكَانِهِ ذَاكِراً قَادِراً عَلَى إِزَالَتِهَا، أَوْ مُتَعَمِّداً مُخْتَاراً، أَعَادَ أَبَداً؛ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَيْهِ قَبْلَ اَلصَّلَاةِ وَالْوَاقِعَةِ عَلَيْهِ أَثْنَاءَ أَدَائِهَا؛ فَمَنْ افْتَتَحَهَا طَاهِراً فَسَقَطَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ زَالَتْ عَنْهُ مِنْ حِينِهَا؛ وَمَنْ صَلَّى بِهَا نَاسِياً، أَوْ ذَاكِراً وَلَكِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ إِزَالَتِهَا، أَعَادَ فِي الْوَقْتِ.
طَهَارَةُ الْحَدَثِ؛ فَمِنْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ مُحْدِثاً أَوْ مُتَطَهِّراً ثُمَّ أَحْدَثَ فِيهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِحَديثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ صَلَاةَ بِغَيْرِ طُهُورٍ...». [سنن البيهقي]
سَتْرُ الْعَوْرَةِ؛ وَهُوَ شَرْطٌ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ، كَالِاسْتِقْبَالِ وَطُهْرِ الْخَبَثِ. وَيَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي مِنْ حِينِ إِرَادَةِ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ إِلَى حِينِ الْخُرُوجِ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ الْمُصَلِّي وَحْدَهُ، أَوْ كَانَ فِي الظَّلَامِ، فَهُوَ لِحُرْمَةِ الصَّلَاةِ، وَمُقْتَضَى أَدَبِ الْمُثُولِ بَيْنَ يَدَيِ الْمَعْبُودِ فِي مَقَامِ الْمُنَاجَاةِ. وَدَلِيلُ وُجُوبِ سَتْرِ اِلْعَوْرَةِ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: 92] قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: فَقِيلَ، وَاللهُ أَعْلَمُ: اَلثِّيَابُ. [سنن البيهقي]
وَفِيمَنْ صَلَّى مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ التَّفْصِيلُ الآتِي:
فَمَنْ صَلَّى مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ ذَاكِراً قَادِراً عَلَى سَتْرِهَا، فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ؛
وَمَنْ صَلَّى نَاسِيًا أَعَادَ إِنْ تَذَكَّرَ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، فَإِنْ خَرَجَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛
وَمَنْ عَجَزَ عَمَّا يَتَسَتَّرُ بِهِ وَوَجَدَ ثَوْباً فِي الْوَقْتِ، فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ.
وَكَمَا يَجِبُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّه يَجِبُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ خَارِجَ الصَّلَاةِ، فَلَا يَجُوزُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ أَمَامَ أَعْيُنِ النَّاسِ، وَيَأْثَمُ فَاعِلُ ذَلِكَ؛ أَمَّا فِي الْخَلْوَةِ فَمِنْ حِكَمِ أَهْلِ التَّرْبِيَةِ وَالسُّلُوكِ: أَنْ لَا تَفْعَلَ فِي خَلْوَتِكَ مَا تَسْتَحْيِي أَنْ تَفْعَلَهُ فِي جَلْوَتِكَ.
اِسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ؛ وَهُوَ شَرْطٌ فِي الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرَ، مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ، دُونَ الْعَجْزِ وَالنِّسْيَانِ.
فَمَنْ صَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ عَامِداً قَادِراً عَلَى اسْتِقْبَالِهَا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ؛
وَمَنْ صَلَّى لِغَيْرِهَا نَاسِياً أَعَادَ فِي الْوَقْتِ عَلَى الْمَشْهُورِ؛
وَمَنْ عَجَزَ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا لِمَرَضٍ أَوْ خَوْفٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ.
وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَوَّلِ الصَّلَاةِ وَأَثْنَائِهَا؛ فَمِنْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ لِلْقِبْلَةِ ثُمَّ تَحَوَّلَ عَنْهَا كَمَنْ اِبْتَدَأَهَا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ.
وَلَا يُشْتَرَطُ الذِّكْرُ وَالْقُدْرَةُ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ كَمَا فِي الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ الْأُخْرَى، بَلْ تَجِبُ حَتَّى مَعَ الْعَجْزِ وَالنِّسْيَانِ؛ فَمَنْ صَلَّى مُحْدِثاً أَعَادَ أَبَداً، سَواءٌ ذَكَرَ الطَّهَارَةَ أَوْ نَسِيَهَا، أَوْ قَدَرَ عَلَى رَفْعِ الْحَدَثِ أَوْ عَجَزَ عنْهُ.
وَفِي هَذِهِ الشُّرُوطِ قَالَ النَّاظِمُ: (شَرْطُهَا الِاسْتقْبَالُ طُهْرُ الْخَبَثِ *** وَسَتْرُ عَوْرَةٍ وَطُهْرُ الْحَدَثِ *** بِالذِّكْرِ وَالْقُدرَةِ فِي غَيْرِ الَاخِيرْ).
ثَانِياً: أَحْكَامُ الْإِخْلالِ بِشُرُوطِ الصَّلَاةِ
إِذَا وَقَعَ خَلَلٌ فِي أَحَدِ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ (طَهَارَةِ الْخَبَثِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ واسْتقْبَالِ الْقِبْلَةِ) بِنِسْيَانِهِ، أَوْ الْعَجْزِ عَنْهُ، أَوْ الْخَطَإِ فِيهِ، تَفَرَّعَ الْأَمْرُ إِلَى حَالَاتٍ يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِحَسَبِهَا، وَهِي:
أَرْبَعُ حَالَاتٍ يُسْتَحَبُّ فِيهَا الْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ:
أَنْ يَنْسَى اسْتقْبَالَ الْقِبْلَةِ، فَيُصَلِّيَ لِغَيْرِهَا.
أَنْ يَنْسَى أَوْ يَعْجِزَ عَنْ طَهَارَةِ الْخَبَثِ، فَيُصَلِّيَ بِنَجَاسَةٍ.
أَنْ يَنْسَى سَتْرَ الْعَوْرَةِ، فَيُصَلِّي مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ.
أَنْ يُخْطِئَ الْقِبْلَةَ مَنْ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِهَا، فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى غَيْرِ جِهَتِهَا فَصَلَّى إِلَيْهَا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ.
فَهَؤُلاَءِ كُلُّهُمْ يُعِيدُونَ فِي الْوَقْتِ: فِي الظُّهْرَيْنِ: إِلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ، وَفِي الْعِشَاءَيْنِ: إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَفِي الصُّبْحِ: إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ.
حَالَتَانِ لَا إِعَادَةَ فِيهِمَا:
أَنْ يَعْجِزَ عَنِ اسْتقْبَالِ الْقِبْلَةِ، فَيُصَلِّيَ لِغَيْرِهَا.
أَنْ يَعْجِزَ عَنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، فَيُصَلِّيَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ.
حَالَةٌ يَجِبُ إِعادَةُ الصَّلَاةِ فِيهَا أَبَداً، وَهِيَ مَا إِذَا صَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ مُتَعَمِّداً، أَوْ جَاهِلاً.
حَالَةٌ يَقْطَعُ فِيهَا وَيَبْتَدِئُ صَلَاتَهُ مِنْ جَدِيدٍ؛ وَهِيَ مَا إِذَا عَلِمَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَنَّ الْقِبْلَةَ خَلْفَهُ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ شِمَالِهِ.
حَالَةٌ يَجِبُ فِيهَا التَّحَوُّلُ إِلَى الْقِبْلَةِ؛ وَهِيَ مَا إِذَا عَلِمَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ انْحَرَفَ يَسِيراً عَنِ الْقِبْلَةِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ لِلْقِبْلَةِ وَيُتِمُّ الصَّلَاةَ.
وَفِي أَحْكَامِ الْإِخْلَالِ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ قَالَ النَّاظِمُ: (تَفْرِيـعُ نَاسِيهَا وَعَاجِزٍ... إلى: تُعِيدُ فِي الْوَقْتِ الْمُقَـرّْ).
وَمِنَ حِكَمِ شُرُوطِ اِلصَّلَاةِ وَمَقَاصِدِهَا: أَنَّهَا آدَابٌ تُهَيِّئُ الْمُسْلِمَ لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ وَخَالِقِهِ، فَيَمْتَلِئُ قَلْبُهُ فِي صَلاَتِهِ يَقِيناً، وَيَنْشَرِحُ صَدْرُهُ طُمَأْنِينَةً، وَيُحِسُّ بِالسَّلاَمَةِ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ، وَمُبَادَرَةِ نَفْسِهِ إِلَى الِاسْتِقامَةِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا، وَالْبُعْدِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْهُرُوبِ مِنْ مَسَالِكِهَا، مِمَّا يَغْنَمُ بِهِ الْخَيْرَ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَيَسْلَمُ بِهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ وَمُجْتَمَعِهِ.
ثَالِثاً: عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ والرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا
يَخْتَلِفُ حَدُّ الْعَوْرَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ:
فَفِي الصَّلَاةِ؛ يَسْتُرُ الرَّجُلُ مِنَ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَتَيْنِ، وَتَسْتُرُ الْمَرْأَةُ كُلَّ جَسَدِهَا مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ.
وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ؛ عَوْرَةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ: مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتَيْهِ. وَمَعَ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ: مَا عَدَا وَجْهَهُ وَأَطْرَافَهُ.
وَعَوْرَةُ الْمَرْأَةِ مَعَ اَلْأَجْنَبِيِّ: جَمِيعُ بَدَنِهَا إِلَّا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَمَعَ الْمَحْرَمِ: مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْأَطْرَافَ، وَمَعَ النِّسَاءِ: كَالرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ، مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَتَيْنِ.
وَمِنَ الْحِكَمِ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ: سَتْرُ مَا يُسْتَحْيَى وَيُتَحَرَّجُ مِنْهُ، وَحِفْظُ كَرَامَةِ الْإِنْسَانِ، وَعَدَمُ إِثَارَةِ مُيُولَاتِ الْغَرَائِزِ وَالنُّفُوسِ إِلَى الْعَلَاقَاتِ الْمُحَرَّمَةِ.
التقويم:
عدد شُرُوطَ الصَّلَاةِ وَأُوَضِّحُ أَحْكَامَهَا.
بين حُكْمَ مَنْ صَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ عَمْداً أَوْ نِسْيَاناً أَوْ خَطَأً.
مييز الْعَوْرَةَ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مَعَ مِثْلِهِمَا، وَمَعَ الْمَحْرَمِ وَالْأَجْنَبِيِّ.
الاستثمار:
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِى لِحَافٍ لاَ يَتَوَشَّحُ بِهِ، وَنَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِى سَرَاوِيلَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ». [سنن البيهقي]
عَنْ أَمِّ سَلَمَة رَضِيَ الله عَنْهَا أَنَّهَا سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ: أَتُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي دِرْعِ وَخِمَارٍ لَيْسَ عَلَيْهَا إِزَارٌ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ الدِّرْعُ سابِغاً يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا. [مستدرك الحاكم]
تمهيد:
شُرُوطُ الْوُجُوبِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا وُجُوبُ الصَّلَاةِ.
فَمَا هِي شُرُوطُ الْوُجُوبِ؟ وَمَا الأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَا؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
شَرْطُ وُجُوبِهَا النَّقَا مِنَ الدَّمِ *** بِقَصَّةٍ أَوِ الْجُفُوفِ فَاعْلَمِ
فَلَا قَضَا أَيَّامَهُ ثُمَّ دُخُولْ *** وَقْتٍ فَأَدِّهَا بِهِ حَتْماً أقُولْ
شرح المفردات:
النَّقَـاءُ: الطَّهَارَةُ.
بِقَصَّـةٍ: الْقَصَّةُ مَاءٌ أَبْيَضُ كَالْجِيرِ.
قَضـا: الْمُرَادُ: قَضَاء، وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالْفَائِتِ.
فَأَدِّهَا بِهِ: اِفْعَلْهَا فِي وَقْتِهَا.
حَتْمـاً: وُجُوباً.
أَوَّلاً: شروط وجوب الصلاة
شُرُوطُ وُجُوبِ الصَّلَاةِ خَمْسَةٌ: الْإِسْلَامُ، وَالْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالنَّقَاءُ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَدُخُولُ الْوَقْتِ. وَلَمْ يَذْكُرِ النَّاظِمُ هُنَا إِلَّا اَثْنَيْنِ مِنْهَا لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّكْلِيفِ وَأَحْكَامِ الطَّهَارَةِ.
الإِسْلَامُ: فَلَا تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ وُجُوبَ أَدَاءٍ، وَلَا تَصِحُّ مِنْهُ لَوْ فَعَلَهَا، وَتَجِبُ عَلَيْهِ وُجُوبَ تَكْلِيفٍ؛ وَلَا تَجِبُ عَلَى الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ؛ وَلَا عَلَى الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ؛ وَلَا عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ حَتَّى يَطْهُرَا مِنْ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.
وَفِي شَرْطِ النَّقَاءِ مِنَ الدَّمِ قَالَ النَّاظِمُ: (شَرْطُ وُجُوبِهَا النَّقَا مِنَ الدَّمِ).
وَعَلَامَةُ الطُّهْرِ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ الْقَصَّةُ أَوِ اِلْجُفُوفُ؛ وَالْقَصَّةُ: مَاءٌ أَبْيَضُ كَالْجِيرِ، وَالْجُفُوفُ: خُرُوجُ الْخِرْقَةِ جَافَّةً.
وَفِي عَلَامَةِ النَّقَاءِ قَالَ النَّاظِمُ: (بِقَصَّةٍ أَوِ الْجُفُوفِ فَاعْلَمِ).
دُخُولُ الوَقْت: فَلَا تَجِبُ الصَّلَاةُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ بِإِجْمَاعٍ؛ وَلَا يُجْزِئُ أَدَاؤُهَا قَبْلَهُ عَنِ الْفَرْضِ.
وَذَلِكَ قَوْلُ النَّاظِمِ: (ثُمَّ دُخُولْ وَقْتٍ فَأَدِّهَا بِهِ حَتْماً أَقُولْ).
ثَانِياً: أَحْكَامُ شُرُوطِ وُجُوبِ اِلصَّلَاةِ
أَحْكَامُ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ
إِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ، وَقَدْ بَقِيَ مِقْدَارُ أَدَاءِ خَمْسِ رَكَعَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الْوَقْتِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، صَلَّتِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، لِإِدْرَاكِ الْأُولَى(الظُّهْرِ) بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، وَالثَّانِيَةِ (الْعَصْرِ) بِرَكْعَةٍ؛ وَلَوْ حَاضَتْ لِذَلِكَ الْقَدْرِ سَقَطَ عَنْهَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ لِحَيْضِهَا فِي وَقْتِهِمَا.
إِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ لِبَقَاءِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ أَوْ أَقَلَّ قَبْلَ الْمَغْرِبِ صَلَّتِ الْعَصْرَ فَقَطْ، لِعَدَمِ إِدْرَاكِ الظُّهْرِ بِرَكْعَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى رَكَعَاتِ الْعَصْرِ؛ وَلَوْ حَاضَتْ لِذَلِكَ الْقَدْرِ سَقَطَتْ عَنْهَا الْعَصْرُ لِحَيْضِهَا فِي وَقْتِهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ الظُّهْرِ لِتَفْرِيطِهَا فِي وَقْتِهَا.
إِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ لِبَقَاءِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْفَجْرِ صَلَّتِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، لِإِدْرَاكِ الْأُولَى (الْمَغْرِبِ) بِثَلَاثٍ، وَالثَّانِيَةِ (الْعِشَاءِ) بِرَكْعَةٍ.
لَوْ حَاضَتِ الْمَرْأَةُ الْحَاضِرَةُ لِبَقَاءِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الْفَجْرِ سَقَطَتِ الصَّلَاتَانِ لِحَيْضِهَا فِي وَقْتِهِمَا، وَيَجِبَانِ عَلَيْهَا لَوْ طَهُرَتْ.
لَوْ طَهُرَتْ لِبَقَاءِ خَمْسِ رَكَعَاتٍ فَأَكْثَرَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْفَجْرِ وَجَبَ عَلَيْهَا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ لِإِدْرَاكِ وَقْتِهِمَا؛ وَلَوْ حَاضَتْ لِذَلِكَ الْقَدْرِ سَقَطَتَا لِحَيْضِهَا فِي وَقْتِهِمَا.
لَوْ طَهُرَتِ الْمَرْأَةُ الْحاضِرَةُ لِبَقَاءِ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَأَقَلَّ أَدْرَكَتِ الْأَخِيرَةَ فَقَطْ، وَهِيَ الْعِشَاءُ، فَتَجِبُ عَلَيْهَا وَحْدَهَا؛ وَلَوْ حَاضَتْ لِذَلِكَ الْقَدْرِ سَقَطَتِ الْأَخِيرَةُ فَقَطْ، وَهِيَ الْعِشَاءُ لِحَيْضِهَا فِي وَقْتِهَا، وَتَجِبُ عَلَيْهَا الْمَغْرِبُ لِطُهْرِهَا فِي وَقْتِهَا وَالتَّفْرِيطِ بِعَدَمِ أَدَائِهَا فِيهِ.
الْوَقْتُ الشَّرْعِيُّ لِلصَّلَاةِ
الْوَقْتُ مِنَ التَّوْقِيتِ، وَهُوَ التَّحْدِيدُ؛ وَوَقْتُ الصَّلَاةِ: الزَّمَنُ الْخَاصُّ الْمُحَدَّدُ لِأَدَائِهَـا. وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: 201]، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: 78]
فَلَا يَنْبَغِي الِاسْتِهَانَةُ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا. وَقَدْ وَرَدَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اِنْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ فَلَقِيَ رَجُلاً لَمْ يَشْهَدِ الْعَصْرَ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا حَبَسَكَ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ؟ فَذَكَرَ لَهُ الرَّجُلُ عُذْراً، فَقَالَ عُمَرُ: طَفَّفْتَ». قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَيُقَالُ: لِكُلِّ شَيْءٍ وَفَاءٌ وَتَطْفِيفٌ. [الموطأ]
عَلَى أَنْ تَوْقِيتَ الصَّلاَةِ قَدْ يَحْمِلُ حِكْمَةَ التَّنْبِيهِ وَالتَّوْجِيهِ إِلَى مُرَاقَبَةِ الْمُسْلِمِ نَفْسَهُ وَأَوْقَاتَهُ وَحُظُوظَهُ وَحُقُوقَهُ، حَتَّى يَتَعَوَّدَ عَلَى حُسْنِ الِانْضِبَاطِ، وَلَا يَغْفُلَ عَنْ مُخْتَلِفِ الْأَعْمَالِ وَالْحُقُوقِ حِينَ يَنْغَمِسُ فِي أَعْمَالِ الْحَيَاةِ وَمَتَاعِبَهَا، وَلَا يَنْسَى أَنَّ هُنَاكَ حُقوقًا للهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَجِبُ أَنْ تَأْخُذَ حَظَّهَا مِنْ أَوْقَاتِهِ، فَيَأْتِيَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي وَقْتٍ مُحَدَّدٍ لِأَدَاءِ حَقٍّ هُوَ أَوْجَبُ الْحُقُوقِ، وَلِشُكْرٍ مُجَدَّدٍ عَلَى نِعَمٍ مُتَجَدِّدَةٍ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَلِطَلَبِ عَوْنٍ مُؤَبَّدٍ عَلَى حُسْنِ الطَّاعَةِ وَخَالِصِ الْعِبَادَةِ حَتَّى الْيَقِينِ.
أَقْسَامُ وَقْتِ الصَّلَاةِ
الْوَقْتُ أَقْسَامٌ: وَقْتُ اخْتِيَارٍ، وَوَقْتُ اِضْطِرارٍ، وَوَقْتُ أَدَاءٍ، وَوَقْتُ قَضَاءٍ.
فَوَقْتُ الِاخْتِيَارِ هُوَ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لِفِعْلِ الصَّلَاةِ عَزِيمَةً.
وَوَقْتُ الْاِضْطِرارِ هُوَ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لِأَدَاءِ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ لِلصَّلَاةِ.
وَوَقْتُ الْأَدَاءِ هُوَ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لِفِعْلِ الصَّلَاةِ امْتِثَالاً دُونَ إِثْمٍ أَوْ حَرَجٍ.
وَوَقْتُ الْقَضَاءِ هُوَ الْوَقْتُ الخَارِجُ عَنِ اِلْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ.
وَالْوَقْتُ الْمُخْتَارُ:
لِلظُّهْرِ: مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ.
وَلِلْعَصْرِ: مِنْ آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ إِلَى اَصْفِرَارِ اِلشَّمْسِ.
وَلِلْمَغْرِبِ: مِنْ غُرُوبِ اِلشَّمْسِ إِلَى قَدْرِ فِعْلِهَا بَعْدَ تَحْصِيلِ شُرُوطِهَا.
وَلِلْعِشَاءِ: مِنْ غُرُوبِ حُمْرَةِ اِلشَّفَقِ إِلَى الثُّلُثِ الْأَوَّلِ مِنَ اَليْلِ.
وَلِلصُّبْحِ: مِنَ اَلْفَجْرِ الصَّادِقِ إِلَى الْإِسْفَارِ اِلْأَعْلَى.
وَالْوَقْتُ الضَّرُورِيُّ هُوَ التَّالِي لِلِاخْتِيَارِيِّ؛ فَهُوَ فِي النَّهَارِيَّتَيْنِ إِلَى الْغُرُوبِ، وَفِي الْعِشَاءَيْنِ إِلَى الْفَجْرِ، وَفِي الصُّبْحِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ.
وَالْمُصَلِّي فِي الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ:
إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ، فَهُوَ مُؤَدٍّ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ وَلَا عِصْيَانٍ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مُؤَدٍّ عَاصٍ.
وَمِنْ أَعْذَارِ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنِ الْوَقْتِ: الْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ، وَالصِّبَا، وَالنَّوْمُ، وَالنِّسْيَانُ، وَالْإِغْمَاءُ، وَالْجُنُونُ. وَلَيْسَ مِنْهَا السُّكْرُ، لِأَنَّهُ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ.
اَلصَّلَوَاتُ الْمَعْنِيَّةُ بِتَحْدِيدِ الْوَقْتِ
مَا تَقَدَمَ مِنْ َالْأَوْقَاتِ الْمُحَدَّدَةِ لِلصَّلَوَاتِ إِنَّمَا هُوَ لِلْفَرَائِضِ الْوَقْتِيَّةِ؛ أَمَّا الْفَوَائِتُ مِنْهَا فَيُؤْتَى بِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ؛ وَأَمَّا النَّوَافِلُ فَمِنْهَا مَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِوَقْتِهِ كَالْوِتْرِ وَالْفَجْرِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُطْلَقٌ لَمْ يُعَيَّنْ لَهُ وَقْتٌ فَيُفْعَلُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، سِوَى مَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تُصَلَّى الْمَغْرِبُ، وَمَا بَعْدَ الْفَجْرِ إِلَى ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رُمْحٍ.
وَالْمُبَادَرَةُ لِأَدَاءِ الصَّلَوَاتِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَسَارِعُوا﴾ [آل عمران: 133] وقوله سبحانه: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [المائدة: 50]، وَلِحَديثِ أُمِّ فَرْوَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّها سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ الْأَعْمَالَ، فَقَالَ: «أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اَللهِ عَزَّ وَجَلَّ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا». [مُسْنَدُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ].
التقويم:
أذكر شُرُوطَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ.
بين عَلاَمَاتِ الطُّهْرِ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.
لخص الِاخْتِيَارِيَّ وَالضَّرُورِيَّ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ.
الاستثمار:
قَالَ الْمِرْدَاسِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: تَنْبِيهٌ: وَصَلاَةُ الصُّبْحِ هِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. وَمَا مِنْ صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ إِلَّا وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا هِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى، وَقيلَ: هِيَ صَلاَةُ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَقِيلَ: صَلاَةُ الْجُمُعَةِ، وَقيلَ: صَلاَةُ الْوِتْرِ، وَقِيلَ: هِيَ مَجْمُوعُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَقِيلَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْفَاهَا لِيَجْتَهِدَ الْعَبْدُ فِي الْجَمِيعِ، كَمَا قِيلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَفِي سَاعَةِ الْجُمُعَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة: 236][عمدة البيان في معرفة فروض الأعيان]
تمهيد:
لِلصَّلَاةِ فَرَائِضُ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا وَلَا تَصِحُّ بِدُونِهَا، وَسُنَنٌ مَطْلُوبَةٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا، وَتُسَمَّى سُنَناً مُؤَكَّدَةً.
مَا هِيَ هَذِهِ السُّنَنُ الْمُؤَكَّدَةُ؟ وَمَا حُكْمُهَا؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
سُنَنُها السُّورَةُ بَعْدَ الْوَافِيَةْ *** مَعَ الْقِيَامِ أَوَّلاً وَالثّانِيَةْ
جَهْرٌ وسِرٌّ يِمَحَلٍّ لَهُمَا *** تَكْبِيرُهُ إِلَّا الَّذِي تَقَدَّمَا
كُلُّ تَشَهُّدٍ جُلُوسٌ أَوَّلُ *** وَالثَّانِي لَا مَا لِلسَّلَامِ يَحْصُلُ
وَسَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ *** فِي الرَّفْعِ مِنْ رُكُوعِهِ أَوْرَدَهُ
اَلْفَذُّ وَالْإِمَامُ هَذَا أُكِّدَا ***
شرح المفردات:
الْوَافِيَة: الْمُرَادُ بِهَا سُورَةُ الْفَاتِحَةِ.
أَوْرَدَهُ: جَاءَ بِهِ.
أَوَّلاً: سنن الصلاة المؤكدة
ذَكَرَ النَّاظِمُ رَحِمَهُ اللهُ فِي هَذِهِ الْأبْيَاتِ السُّنَنَ الثَّمَانَ الْمُؤَكَّدَةَ (8/22) مِنِ اِثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ، وَهِيَ:
قِرَاءةُ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ؛
قِيَامُ الْإمَامِ وَالْفَذِّ لِقِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مِنَ الرَّكَعَاتِ؛
الْجَهْرُ بِمَحَلِّ الْجَهْرِ؛
السِّرُّ بِمَحَلِّ السِّرِّ؛
تَكْبيرَاتُ الْاِنْتِقالِ بَيْنَ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، إِلَّا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ؛
التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي؛
الْجُلُوسُ لِلتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي؛
قَوْلُ الْإمَامِ والْفَذِّ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فِي الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ.
وَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ أَحْكَامٍ فِي هَذِهِ السُّنَنِ؛ وَهِيَ مَا يَأْتِي:
أَمَّا قِرَاءةُ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، فَهِيَ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْفَذِّ؛ أَمَّا الْمَأْمُومُ فَيُسَنُّ لَهُ الْإِنْصَاتُ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ، وَتُسْتَحَبُّ لَهُ الْقِرَاءَةُ فِي السِرِّيَّةِ.
وَالْمُرَادُ قِرَاءَةُ شَيْءٍ زَائِدٍ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى الْفَاتِحَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ قِرَاءَةُ سُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَلَا إِكْمَالُ السُّورَةِ، كَمَا لَا يَضُرُّ الزِّيَادَةُ عَلَى السُّورَةِ وَلَا تَكْرَارُهَا، وَلَا يُغْنِي تَكْرَارُ الْفَاتِحَةِ عَنْهَا. وَقَدْ جَاءَ عَنْ نَافِعٍ: «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقْرَأُ بِالسُّورَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ فِي رَكْعَةٍ». [مصنف أبي بكر عبد الرزاق الصنعاني]
وَأَمَّا الْقِيَامُ لِقِرَاءَةِ السُّورَةِ فَفِي حَقِّ الْإمَامِ وَالْفَذِّ؛ أَمَّا الْمَأْمُومُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ. وَفِي هَاتَيْنِ السُّنَّتَيْنِ قَالَ النَّاظِمُ:
(سُنَنُها السُّورَةُ بَعْدَ الْوَاقِيَةْ *** مَعَ الْقِيَامِ أَوَّلاً وَالثّانِيَهْ).
وَأَمَّا الْجَهْرُ فَمَحَلُّهُ الْأُولَيَانِ مِنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَرَكْعَتَا الصُّبْحِ.
وَأَمَّا السِّرُّ فَمَحَلُّهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَكُلُّ الرَّكَعَاتِ الْأَوَاخِرِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. قَالَ فِي التَّلْقِينِ: الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي مَوْضِعِ الْجَهْرِ، وَالْإِسْرَارُ بِهَا فِي مَوْضِعِ الْإِسْرَارِ، سُنَّتَانِ. وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: يُسْمِعُ نَفْسَهُ فِي الْجَهْرِ وَفَوْقَهُ قَلِيلاً، وَالْمَرْأَةُ دُونَهُ فِيهِ، وَتُسْمِعُ.
أَمَّا تَكْبيرَاتُ الْاِنْتِقالِ فَيَتَعَلَّقُ تَأْكِيدُ سُنِّيَّتِهَا بِمَجْمُوعِ التَّكْبِيرَاتِ لَا بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَتَرْكُ تَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُعَدُّ مِنْ تَرْكِ السُّنَنِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي تَعَمُّدُ تَرْكِهَا. وَفِي السُّنَنِ قَال النَّاظِم: (جَهْرٌ وسِرٌّ يِمَحَلٍّ لَهُمَا ** تَكْبِيرُهُ إِلَّا الَّذِي تَقَدَّمَا).
وَأَمَّا التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي؛ فَالْمُرَادُ بِهِ فِعْلُ مُطْلَقِ التَّشَهُّدِ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ، وَأَمَّا تَعْيِينُ لَفْظٍ خَاصٍّ بِهِ فَسَيَأْتِي.
وَأَمَّا الْجُلُوسُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي؛ فَالْمُرَادُ بِهِ جُلُوسُ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَجُلُوسُ التَّشَهُّدِ الثَّانِي الذِي قَبْلَ السَّلَامِ، أَمَّا الْقَدْرُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ السَّلَامُ، فَهُوَ فَرْضٌ لَا سُنَّةٌ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْإمَامِ والْفَذِّ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فِي الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ؛ فَالْحُكْمُ فِي سُنِّيَّتِهِ كَالْحُكْمِ فِي سُنِّيَّةِ التَّكْبِيرِ، يَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ فِيه بِالْمُتَعَدِّدِ مِنْهُ لَا بِالْمُتَّحِدِ؛ وَذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَأْمُومِ، أَمَّا هُوَ فَيُسْتَحَبُّ فِي حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، كَمَا يَأْتِي فِي الْمَنْدُوبَاتِ. وَفِي هَذِهِ السُّنَنِ قَال النَّاظِم:(كُلُّ تَشَهُّدٍ... إلى: اَلْفَذُّ وَالْإِمَامُ).
وَمِنَ الْحِكَمِ الَّتِي يُوحِي بِهِ تَجَاوُبُ الْإمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ: أَنَّ صَلاَتَهُمَا كَصَلاَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهُمَا بِرَابِطَةِ الْاِقْتِدَاءِ كَمُصَلٍّ وَاحِدٍ.
ثَانِياً: حُكْمُ سُنَنِ الصَّلَاةِ الْـمُؤَكَّدَةِ
حُكْمُ السُّنَنِ الْمَذْكُورَةِ الْاِسْتِنَانُ الْمُؤَكَّدُ، وَلِذَلِكَ يَسْجُدُ الْمُصَلِّي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ لِتَرْكِهَا، وَأَمَّا مَا عَدَاهَا مِنَ السُّنَنِ فَغَيْرُ مُؤَكَّدَةٍ، وَحُكْمُ مَنْ تَرَكَهَا كَمَنْ تَرَكَ مَنْدُوباً، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا.
وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمُ السُّنَنَ اَلْمُؤَكَّدَةَ فِي قَوْلِهِ: (سِينَانِ شِينَانِ كَذَا جِيمَانِ *** تَاءَانِ عَدُّ السُّنَنِ اِلثَّمَانِ)
وَيَعْنِي بِالسِّينَيْنِ: السِّرَّ وَالسُّورَةَ، وَبِالشِّينَيْنِ: التَّشَهُّدَ اَلْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ، وَبِالْجِيمَيْنِ: الْجَهْرَ وَالْجُلُوسَ، وَبِالتَّاءَيْنِ: التَّكْبِيرَ وَالتَّسْمِيعَ.
التقويم:
أسرد سُنَنَ الصَّلَاةِ الْمُؤَكَّدَةَ.
لخص أَحْكَامَ سُنَنِ الصَّلَاةِ الْمُؤَكَّدَةِ.
بين مَا تَتَمَيَّزُ بِهِ سُنَنُ الصَّلَاةِ الْمُؤَكَّدَةُ عَنِ الْفَرَائِضِ وَالْمَنْدُوبَاتِ.
الاستثمار:
قَالَ الْإِمَامُ الْقَرَافِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: وَالسُّنَّةُ فِي الشَّرْعِ لَهَا خَمْسَةُ مَعَانٍ: تُطْلَقُ عَلَى مَا يُلْفَى شَرْعُهُ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ؛... وَعَلَى فِعْلِهِ الذِي هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ نَحْوُ الْوِتْرِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ؛ وَعَلَى مَا تَأَكَّدَ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ مُطْلَقاً؛ وَعَلَى مَا يَقْتَضِي تَرْكُهُ سُجُودَ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ. [الذخيرة 2/802 بتصرف]
أَسْتَخْلِصُ مَضْمُونَ قَوْلِ الْإِمَامِ الْقَرَافِيِّ رَحِمَهُ اللهُ.
تمهيد:
تَعَرَّفْتُ عَلَى السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَالَّتِي يَقْتَضِي نِسْيَانُهَا السُّجُودَ لَهَا سُجُوداً قَبْلِيّاً، وَسَأَتَعَرَّفُ فِي هَذَا الدَّرْسِ عَلَى السُّنَنِ الْخَفِيفَةِ وَحُكْمِهَا.
مَا هِيَ السُّنَنُ الْخَفِيفَةُ فِي الصَّلَاةِ؟ وَمَا هُوَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ عِنْدَ نِسْيَانِهَا؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وَالْبَاقِي كَالْمَنْدُوبِ فِي الْحُكْمِ بَدَا *** ......................
إِقَامَةٌ سُجُودُهُ عَلَى الْيَدَيْنْ *** وَطَرَفِ الرِّجْلَيْنِ مِثْلَ الرُّكْبَتَيْنْ
إنْصَاتُ مُقْتَدٍ بِجَهْرٍ ثُمَّ رَدّْ *** عَلَى الْإِمَامِ وَالْيَسَارِ وَأَحَدْ
بِهِ وَزَائِدُ سُكُونٍ لِلْحُضُورْ *** سُتْرَةُ غَيْرِ مُقْتَدٍ خَافَ الْمُرُورْ
جَهْرُ السَّلَامِ كَلِمُ التَّشَهُّدِ *** وَأَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدِ
شرح المفردات:
طَرَفِ الرِّجْليْنِ: اَلطَّرَفُ: مُنْتَهَى كُلِّ شَيْءٍ.
إنْصَاتُ: اَلْإِنْصَاتُ: اَلسُّكُوتُ لِاسْتِمَاعِ شَيْءٍ.
مُقْـتَـدٍ: مِنْ اِقْتَدَى بِفُلَانٍ: اِتَّبَعَهُ وَفَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ.
أَوَّلاً: السنن الخفيفة وأقسامها
اَلسُّنَنُ الْخَفِيفَةُ فِي الصَّلَاةِ هِيَ الَّتِي لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَى نِسْيَانِهَا سُجُودٌ قَبْلِيٌّ؛ وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَنْدُوبِ، كَمَا قَالَ النَّاظِمُ: (وَالْبَاقِي كَالْمَنْدُوبِ فِي الْحُكْمِ بَدَا).
وَهِيَ قِسْمَانِ:
قِسْمٌ قَبْلَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالْمُرَادُ بِهَذَا النَّوْعِ: مَا يَقَعُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ لِلصَّلَاةِ،
وَهُوَ سُنَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ، وَهِيَ: اَلْإِعْلَامُ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ بِأَلْفَاظٍ مَشْرُوعَةٍ. وَالْكَلَامُ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
حُكْمُهَا: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ سُنَّةٌ كِفَائِيَّةٌ لِكُلِّ فَرْضٍ، صُلِّيَ فِي وَقْتِهِ أَوْ فَاتَ وَقْتُهُ، قَالَ سُحْنُونٌ رَحِمَهُ اللهُ فِى الْمُدَوَّنَةِ: «مَنْ صَلَّى بِغَيْرِ إقَامَةٍ عَامِداً أَوْ سَاهِياً أَجْزَأَهُ، وَيَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَامِدُ».
صِفَتُهَا: قَالَ سُحْنُونٌ رَحِمَهُ اللهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ: اَلْإِقَامَةُ مُعْرَبَةُ الْجُمَلِ، أَيْ لاَ يُسَكَّنُ آخِرُهَا، عَكْسَ الْأَذَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ رَحِمَهُ اللهُ: لَفْظُ الْإِقَامَةِ كَالْأَذَانِ غَيْرُ مُثَنَّاةِ الْجُمَلِ إلَّا التَّكْبِيرَ، فَإِنَّهُ يُذْكَرُ مَرَّتَيْنِ؛ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَأَنْ يُوتِرَ الْإِقَامَةَ». [ صحيح مسلم].
وقَالَ الزُّرْقَانِي فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ: «وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَثْنِيَةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَمَتَى يَجِبُ الْقِيَامُ عَلَى النَّاسِ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي فِي النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ إِلَّا مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَإِنَّهَا لَا تُثَنَّى، وَذَلِكَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا، وَأَمَّا قِيَامُ النَّاسِ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ فَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْ فِي ذَلِكَ بِحَدٍّ يُقَامُ لَهُ، إِلَّا أَنِّي أَرَى ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ النَّاسِ؛ فَإِنَّ مِنْهُمْ اَلثَّقِيلَ وَالْخَفِيفَ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَكُونُوا كَرَجُلٍ وَاحِدٍ». [ شرح الزرقاني على الموطإ]
لَفْظُهَا: اَللهُ أَكْبَرُ اَللهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، اَللهُ أَكْبَرُ اَللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
قِسْمٌ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالْمُرَادُ بِهَذَا النَّوْعِ: مَا يُفْعَلُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ تِسْعُ سُنَنٍ، وَهِيَ:
اَلسُّجُودُ عَلَى الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافِ الرِّجْلَيْنِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ عَلَى الْجَبْهَةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ، وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ». [صحيح البخاري]. وَفِي الرِّسَالَةِ: «وَتَكُونُ رِجْلَاكَ فِي سُجُودِكَ قَائِمَتَيْنِ، بُطُونُ إِبْهَامَيْهِمَا إِلَى الْأَرْضِ».
وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: إِقَامَةٌ سُجُودُهُ عَلَى الْيَدَيْنْ *** وَطَرَفِ الرِّجْلَيْنِ مِثْلَ الرُّكْبَتَيْنْ.
إِنْصَاتُ الْمَأْمُومِ لِقرَاءَةِ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ؛ فَيَعُمُّ الْفَاتِحَةَ وَغَيْرَهَا، وَمَنْ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ وَمَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ٢٠٤﴾ [الأعراف: 204]
وَلِحَدِيثِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «... وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا». [ صحيح مسلم]، وَلِحَدِيثِ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ: «كَانَ إِذَا سُئِلَ هَلْ يَقْرَأُ أَحَدٌ خَلْفَ الْإِمَامِ؟ قَالَ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ خَلْفَ الْإِمَامِ فَحَسْبُهُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ، وَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيَقْرَأْ، قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ». [الموطأ]. وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (إنْصَاتُ مُقْتَدٍ بِجَهْرٍ).
رَدُّ الْمَأْمُومِ السَّلَامَ عَلَى الْإِمَامِ؛ فَلَيْسَ وَاجِباً كَمَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ قَصَدَ بِهِ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ، لَا السَّلَامَ عَلَى اَلْمَأْمُومِ؛ وَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْإِمَامِ، بَلْ يَرُدُّ الْمَأْمُومُ وَلَوْ كَانَ مَسْبُوقاً وَلَمْ يُسَلِّمْ حَتَّى ذَهَبَ إِمَامُهُ.
رَدُّ الْمَأْمُومِ السَّلَامَ عَلَى يَسَارِهِ إِنْ كَانَ فِيهِ أَحَدَ الْمُصَلِّينَ؛ فَلَا يُطْلَبُ بِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ؛ فَإِنْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ مَسْبُوقٌ، وَقَامَ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ، لَمْ يَرُدَّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا قَضَى تَشَهُّدَهُ وَأَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ قَالَ: اَلسَّلَامُ عَلَيْكُمْ عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَى الْإِمَامِ، فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ عَنْ يَسَارِهِ رَدَّ عَلَيْهِ. [الموطأ]. وَهَذَا مُرَادُ النَّاظِمِ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ رَدّْ عَلَى الْإِمَامِ وَالْيَسَارِ وَأَحَدْ بِهِ).
وَالْحِكْمَةُ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ: زَرْعُ الْأُلْفَةِ وَالتَّآلُفِ وَالْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
اَلْمُكْثُ الزَّائِدُ عَلَى الْقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ؛ فَيَنْبَغِي عَلَى الْمُصَلِّي أَنْ يَزِيدَ وَقْتاً وَجِيزاً بَعْدَ سُكُونِ الْأَعْضَاءِ، قَصْدَ حُضُورِ الْقَلْبِ وَخُشُوعِهِ؛ لِقَوْلِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنَا، فَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ اِنْتَصَبَ قَائِماً حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ قَدْ نَسِيَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ مَكَثَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ قَدْ نَسِيَ». [صحيح مسلم]. وَفِي ذَلِكَ قَالَ النَّاظِمُ: (وَزَائِدُ سُكُونٍ لِلْحُضُورْ).
سُتْرَةُ الْمُصَلِّي؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إِلَى سُتْرَةٍ وَلْيَدْنُ مِنْهَا». [سنن أبي داود]. وَهِيَ مَطْلُوبَةٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْفَذِّ إِذَا خَافَا الْمُرُورَ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: «سُتْرَةُ الْمُصَلِّي غَيْرِ الْمُؤْتَمِّ إِذَا تَوَقَّعَ مَارّاً، فَإِنْ أَمِنَ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّىَ دُونَهَا». وَتَسْقُطُ عَنِ الْمَأْمُومِ لِأَنَّ سُتْرَةَ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لَهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةُ مَنْ خَلْفَهُ» [ المعجم الأوسط الطبراني].
وَلِلسُّتْرَةِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ أَنْ تَكُونَ: طَاهِرَةً، ثَابِتَةً لَا تَتَحَرَّكُ، فِي غِلَظِ الرُّمْحِ، وَطُولِ الذِّرَاعِ، مِمَّا لَا يَشْغَلُ الْمُصَلِّيَ.
وَالْحِكْمَةُ مِنَ السُّتْرَةِ: كَفُّ الْبَصَرِ عَمَّا وَرَاءَهَا، وَمَنْعُ مَنْ يَجْتَازُ بِقُرْبِ الْمُصَلِّي. وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (سُتْرَةُ غَيْرِ مُقْتَدٍ خَافَ الْمُرُورْ).
اَلْجَهْرُ بِالسَّلَامِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «... ثُمَّ يَجْلِسُ فَيَتَشَهَّدُ وَيَدْعُو ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً، اَلسَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ» [مسند الإمام أحمد]. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: «يَجْهَرُ الْإِمَامُ بِتَسْلِيمَةِ التَّحْلِيلِ جَهْراً يُسْمِعُ مَنْ يَلِيهِ».
لَفْظُ التَّشَهُّدِ؛ وَهُوَ:" التَّحِيَّاتُ لِلهِ، الزَّاكِيَاتُ لِلهِ، اَلطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلهِ، اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، اَلسَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ" [ الموطأ].
اَلصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَلَفْظُهَا كَمَا رَوَاهُ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُولُوا: اللهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ». [ سنن الترمذي].
وَإِلَى جَمِيعِ ذَلِكَ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (جَهْرُ السَّلَامِ كَلِمُ التَّشَهُّدِ *** وَأَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدِ).
التقويم:
أبرز الْحِكْمَةَ مِنَ إِنْصَاتِ الْمَأْمُومِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ.
بين حُكْمَ صَلَاةِ شَخْصٍ صَلَّى بِدُونِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ.
استدل عَلَى كُلٍّ مِنَ السُّنَنِ الْأَرْبَعِ الْأَخِيرَةِ بِمَا يُنَاسِبُهَا مِنْ أَبْيَاتِ الدَّرْسِ.
الاستثمار:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْصَرَفَ مِنْ صَلاَةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: «هَلْ قَرَأَ مَعِى أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفاً»؟ قَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «إِنِّى أَقُولُ: مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ؟». قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الْقِرَاءَةِ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِرَاءَةِ مِنَ الصَّلاَةِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ. [سنن النسائي]
مِنْ خِلَالِ هَذَا الْحَدِيثِ، أُوَضِّحُ لِشَخْصٍ يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ، الْحِكْمَةَ مِنْ تَرْكِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ إِذَا جَهَرَ فِي الصَّلَاةِ.
تمهيد:
الْإِسْلَامُ دِينُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْفَلَاحِ، والْيُسْرِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ؛ لِذَلِكَ شَرَعَ الْأَذَانَ لِلصَّلَاةِ، وَشَرَعَ قَصْرَ الصَّلَاةِ لِلْمُسَافِرِ.
مَا حُكْمُ الْأَذَانِ، وَمَا هِيَ شُرُوطُهُ؟ وَمَا حُكْمُ قَصْرِ الصَّلَاةِ، وَمَا هِيَ أَسْبَابُهُ؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
سُنَّ الْأَذَانُ لِجَمَاعَةٍ أَتَتْ *** فَرْضاً بِوَقْتِهِ وَغَيْراً طَلَبَتْ
وَقَصْرُ مَنْ سَافَرَ أَرْبَعَ بُرُدْ *** ظُهْراً عِشاً عَصْراً اِلَى حِينِ يَعُودْ
مِمَّا وَرَا السُّكْنَى إِلَيْهِ إنْ قَدِمْ *** مُقِيمُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يُتِمّْ
شرح المفردات:
لِجَمَاعَةٍ: اَلْجَمَاعَةُ: اَلْفِرْقَةُ مِنَ النَّاسِ.
بُــرُد: جَمْعُ بَرِيدٍ، وَالْبَرِيدُ مَسَافَةٌ تُسَاوِي حَوَالَيْ: (21.5) كِيلُومِتْراً.
أَوَّلاً: الأذان وحكمه
تَعْرِيفُهُ: اَلْأَذَانُ لُغَةً: اَلْإِعْلَامُ، وَشَرْعاً: الْإِعْلَامُ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِأَلْفَاظٍ مَشْرُوعَةٍ.
حُكْمُهُ: هُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ كِفَائِيَّةٌ، إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ الْأُمَّةِ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِي؛ لِقَوْلِ مَالِكِ ابْنِ الْحُوَيْرِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي، فَلَمَّا أَرَدْنَا الاِنْصِرَافَ قَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا». [صحيح البخاري].
وَمِنْ حِكَمِ تَشْرِيعِ الْأَذَانِ لِلصَّلاَةِ: إِظْهارُ شَعَائِرِ الدِّينِ، وَإعْلاَنُ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَتَذْكيرُ الْغَافِلِ عَنْ وَقْتِ حَقِّ اللهِ الْمُتَمَثِّلِ فِي عِبَادَةِ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالْمُنَاجَاةِ، وَالنِّدَاءُ إِلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْفَلاَحِ.
ثَانِياً: شُرُوطُ الْأَذَانِ
يُشْتَرَطُ فِي الْأَذَانِ شُرُوطٌ أَرْبَعَةٌ، وَهِيَ:
أَنْ يَكُونَ لِلْجَمَاعَةِ فَلَا يُسَنُّ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ، وَاسْتَحَبَّهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَمَالِكٌ لِلْفَذِّ الْمُسَافِرِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...». [صحيح البخاري]. وَفِي ذَلِكَ قَال النَّاظِم: (سُنَّ الْأَذَانُ لِجَمَاعَةٍ).
أَنْ تَكُونَ الْجَمَاعَةُ طَالِبَةً غَيْرَهَا: فَيُشْتَرَطُ فِي الْجَمَاعَةِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهَا بِالْأَذَانِ طَلَبَ غَيْرِهَا مِنَ النَّاسِ، فَلَا يُسَنُّ الْأَذَانُ فِي حَقِّ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ لَا يَطْلُبُونَ غَيْرَهُمْ، كَأَهْلِ الزَّوَايَا، وَلَكِنْ يُنْدَبُ فِي حَقِّهِمْ، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ الْفِقْهِيَّةِ: «وَيُنْدَبُ لِلْمُنْفَرِدِ وَالْجَمَاعَةِ الَّتِي لَا تَطْلُبُ غَيْرَهَا». وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (وَغَيْراً طَلَبَتْ).
أَنْ تَكُونُ اَلصَّلَاةُ مَفْرُوضَةً فَلَا يُسَنُّ الْأَذَانُ لِصَلَاةِ النَّوَافِلِ مِثْلِ الْعِيدَيْنِ، وَالتَّرَاوِيحِ وَغَيْرِهِمَا.
أَنْ تَكُونُ اَلصَّلَاةُ قَدْ دَخَلَ وَقْتُهَا فَلَا يُسَنُّ لِلصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ، أَوِ الَّتِي دَخَلَ وَقْتُهَا الضَّرُورِيُّ، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ الْفِقْهِيَّةِ: «وَيُكْرَهُ لِلصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ، وَالَّتِي دَخَلَ وَقْتُهَا الضَّرُورِيُّ، وَلِصَلَاةِ الْجَنَازَةِ وَلِلنَّافِلَةِ». [الخلاصة الفقهية].
وَعَلَى هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، نَبَّهَ النَّاظِمُ رَحِمَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: (أَتَتْ فَرْضاً بِوَقْتِهِ).
ثَالِثاً: أَحْكَامُ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَأَسْبَابُهُ
حُكْمُ الْقَصْرِ اَلَّذِي يُقْصَرُ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ هُوَ الصَّلَاةُ الرُّبَاعِيَّةُ، وَهِىَ: صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ، وَقَصْرُهَا: أَنْ تُصَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَدَلَ أَرْبَعٍ.
وَهُوَ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ». [صحيح البخاري].
وَهُوَ رُخْصَةٌ تَفَضَّلَ اللهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ». [صحيح مسلم]
وَمِنْ حِكَمِ تَشْرِيعِ قَصْرِ الصَّلَاةِ:
التَّخْفِيفُ وَالتَّيْسيرُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَةِ وَالْقِيَامِ بِالتَّكْليفِ، لِمَا يَغْلِبُ فِي حالَةِ السَّفَرِ مِنْ ضِيقِ الْوَقْتِ، وَكَثْرَةِ الْمَشَقَّةِ، وَطُرُوِّ تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ، حَتَّى لَا تَنْزِعَ النَّفْسُ إِلَى تَرْكِ الْعِبَادَةِ أَوْ تَتَحَرَّجَ لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ.
تَعْوِيدُ الْمُكَلَّفِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ الْعِبَادَةِ مَهْمَا كَانَتِ الْأَحْوَالُ، مَعَ اعْتِبارِ مَا تَقْتَضِيهِ تِلْكَ الظُّرُوفُ مِنْ يُسْرِ الْأَدَاءِ وَعَدَمِ الْعَنَتِ.
أَسْبَابُ الْقَصْرِ
لِقَصْرِ الصَّلَاةِ أَسْبَابٌ، مِنْهَا:
اَلسَّفَرُ مَسَافَةَ الْقَصْرِ
لَا بُدَّ لِمَنْ أَرَادَ قَصْرَ اَلصَّلَاةِ، أَنْ يَكُونَ مُسَافِراً، وَأَنْ يُسَافِرَ مَسَافَةَ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَهِيَ نَحْوُ [84 كِيلُومِتْراً]؛ لِأَنَّ كُلَّ بَرِيدٍ فِيهِ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ فالْمَجْمُوعُ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخاً، وَفِي كُلِّ فَرْسَخٍ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، فَإِذَا ضَرَبْنَا سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخاً فِي ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، نَحْصُلُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلاً، وَالْمِيلُ: يُجَاِوزُ[1700 مِتْرٍ]. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِي: «وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما يَقْصُرَانِ وَيُفْطِرَانِ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخاً». [صحيح البخاري].
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمَسَافَةِ الْمَذْكُورَةِ: اَلذَّهَابُ فَقَطْ، فَلَا يَجْمَعُ مَسَافَةَ الرُّجُوعِ مَعَ مَسَافَةِ الذَّهَابِ، بَلْ يُعْتَبَرُ الرُّجُوعُ سَفَراً مُسْتَقِلًّا. وَإِلَى جَمِيعِ ذَلِكَ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ:
(وَقَصْرُ مَنْ سَافَرَ أَرْبَعَ بُرُدْ *** ظُهْراً عِشاً عَصْراً اِلَى حِينِ يَعُودْ).
عَدَمُ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ
يُشْتَرَطُ فِي الْمُسَافِرِ أَنْ لَا يَنْوِيَ إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَأَكْثَرَ مُتَّصِلَةً، سَوَاءٌ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي بِدَايَةِ السَّفَرِ أَوْ فِي آخِرِهِ؛ لِقَوْلِ ابْنِ حِبَّانَ: «اَلْمُسَافِرُ لَهُ الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ مَا لَمْ يَعْزِمْ عَلَى إِقَامَةِ أَرْبَعٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ» [صحيح ابن حبان].
وَقَدِ احْتَجَّ الْمَالِكِيَّةُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا». [ صحيح مسلم].
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ رَحِمَهُ اللهُ: «إِقَامَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا تَسْلُبُ عَنِ الْمُقِيمِ فِيهَا اسْمَ السَّفَرِ، وَهِيَ النُّكْتَةُ الَّتِي ذَهَبَ الْجَمِيعُ إِلَيْهَا».[ بداية المجتهد1/181]. وَذَلِكَ قَوْلُ النَّاظِمِ: (مُقِيمُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يُتِمّْ).
بِدَايَةُ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَنِهَايَتُهُ
بِدَايَةُ قَصْرِ الصَّلَاةِ
يَبْتَدِئُ الْمُسَافِرُ قَصْرَ الصَّلَاةِ مِنْ آخِرِ بِنَايَاتِ الْقَرْيَةِ أَوِ الْمَدِينَةِ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا، وَأَمَّا الَّذِي يَسْكُنُ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ يَقْصُرُ بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِهِ عَنْ مَنْزِلِهِ؛ لِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «صَلَّيْتُ الظُّهْرَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعاً وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ». [ صحيح البخاري].
نِهَايَةُ قَصْرِ الصَّلَاةِ
لَا يَزَالُ يُقَصِّرُ الْمُسَافِرُ إِلَى أَنْ يَعُودَ وَيَرْجِعَ مِنْ سَفَرِهِ، وَيَنْتَهِي القَصْرُ عِنْدَ وُصُولِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ: «خَرَجَ فَقَصَرَ وَهُوَ يَرَى الْبُيُوتَ فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ هَذِهِ الْكُوفَةُ، قَالَ: لَا، حَتَّى نَدْخُلَهَا». [صحيح البخاري].
وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (مِمَّا وَرَا السُّكْنَى إِلَيْهِ إنْ قَدِمْ).
التقويم:
سَافَرْتُ مَعَ زُمَلَائِي مَسَافَةَ مِاْئَةِ كِيلُومِتْرٍ، وَلَمَّا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ طَلَبَ أَحَدُهُمْ أَنْ يُؤَذَّنَ لِلصَّلَاةِ، فَقِيلَ لَهُ: السُّنَّةُ فِي حَقِّنَا قَصْرُ الصَّلَاةِ، أَمَّا الْأَذَانُ فَلَا. َبين الْحُكْمَ الصَّحِيحَ مُسْتَنِداً إِلَى مكتسباتك فِي الدَّرْسِ.
بين حُكْمَ شَخْصٍ نَوَى السَّفَرَ، وَقَبْلَ خُرُوجِهِ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ.
كَيْفَ تجِيبُ مَنْ لَا يَرَى الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ، لِتَوَفُّرِ الْمَرْكَبَاتِ الْمُرِيحَةِ؟
هَلْ يَجُوزُ الْأَذَانُ لِصَلَاةِ الْجَنَازَةِ وَالنَّافِلَةِ؟ أجب مَعَ التَّعْلِيلِ.
الاستثمار:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَذَّنَ سَبْعَ سِنِينَ مُحْتَسِباً كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ». [ سنن الترمذي،].
وَقَالَ مَالِكٌ: فِي رَجُلٍ نَسِيَ الظُّهْرَ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَذَكَرَهَا وَهُوَ مُقِيمٌ، قَالَ: «يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ ذَكَرَ صَلَاةَ الْحَضَرِ فِي السَّفَرِ صَلَّى أَرْبَعاً».[ المدونة].
استخلص مِنَ الْحَدِيثِ فَضْلَ الْأَذَانِ.
وضح مِنْ خِلَالِ قَوْلِ مَالِكٍ: كَيْفِيَّةَ قَضَاءِ السَّفَرِيَّةِ فِي الْحَضَرِ، وَكَيْفِيَّةَ قَضَاءِ الْحَضَرِيَّةِ فِي السَّفَرِ.
تمهيد:
مَا هِيَ مَنْدُوبَاتُ الصَّلَاةِ؟ وَمَا حُكْمُ صَلَاةِ مَنْ تَرَكَهَا؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
مَنْدُوبُهَا تَيَامُنٌ مَعَ السَّلَامْ *** تَأْمِينُ مَنْ صَلَّى عَدَا جَهْرَ الْإِمَامْ
وَقَوْلُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ عَدَا *** مَنْ أَمَّ وَالْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ بَدَا
رِداً وَتَسْبِيحُ السُّجُودِ وَالرُّكُوعْ *** سَدْلُ يَدٍ تَكْبِيرُهُ مَعَ الشُّرُوعْ
وَبَعْدَ أَنْ يَقُومَ مِنْ وُسْطَاهُ *** وَعَقْدُهُ الثَّلَاثَ مِنْ يُمْنَاهُ
لَدَى التَّشَهُّدِ وَبَسْطُ مَا خَلَاهْ *** تَحْرِيكُ سَبَّابَتِهَا حِينَ تَلَاهْ
شرح المفردات:
تَيَامـُنٌ: التَّيَامُنُ: الْبَدْءُ بِالْيَمِينِ فِي الْأَعْمَالِ الشَّرِيفَةِ.
تَأْمِـينُ: التَّأْمِينُ: قَوْلُ الْمُصَلِّي آمِينَ.
اَلْقُنُوتُ: الْقُنُوتُ: اَلدُّعَاءُ.
رِداً؛ اَلرِّدَاءُ: ثَوْبٌ يُوضَعُ عَلَى الْكَتِفِ (اَلسَّلْهَامُ).
سَـدْلُ يَـدٍ: السَّدْلُ: إِرْسَالُ الْمُصَلِّي يَدَيْهِ إِلَى جَانِبَيْهِ.
أَوَّلاً: مندوبات الصلاة
تَعْرِيفُ الْمَنْدُوبَاتِ
اَلْمَنْدُوبَاتُ هِيَ الْفَضَائِلُ، وَهِيَ مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ؛ أَيْ لَا إِثْمَ عَلَى مَنْ تَرَكَهَا، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى فِعْلَهَا؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَضْلِ وَالثَّوَابِ.
اَلْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْدُوبَاتِ وَالسُّنَنِ: فَرَّقَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بَيْنَ الْمَنْدُوبِ وَالسُّنُّةِ حَسَبَ الْآتِي:
اَلسُّنَّةُ: مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَاظَبَ عَلَيْهِ وَأَظْهَرَهُ فِي جَمَاعَةٍ وَلَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ.
اَلْمَنْدُوبُ: مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُظْهِرْهُ أَمَامَ الْمَلَإٍ. [منح الجليل شرح مختصر خليل].
مَنْدُوبَاتُ الصَّلَاةِ هِيَ:
اَلتَّيَامُنُ بِالسَّلَامِ؛ فَيُسَلِّمُ الْمُصَلِّي قُبَالَةَ وَجْهِهِ وَيَمِيلُ إِلَى الْيَمِينِ قَلِيلاً؛ لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «كَانَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، يَمِيلُ إِلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ شَيْئاً». [ سنن الترمذي]
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ صَالِحٌ: «وَيَكُونُ التَّيَامُنُ عِنْدَ النُّطْقِ بِالْكَافِ وَالْمِيمِ مِنْ عَلَيْكُمْ».
وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (مَنْدُوبُهَا تَيَامُنٌ مَعَ السَّلَامْ).
قَوْلُ آمِينَ عِنْدَ خَتْمِ الْفَاتِحَةِ؛ وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَذِّ عَلَى قِرَاءَةِ نَفْسِهِ فِى السِّرِّ وَالْجَهْرِ. لِلْمَأْمُومِ عَلَى قِرَاءَةِ نَفْسِهِ فِي السِّرِّ، وَعَلَى قِرَاءَةِ إِمَامِهِ فِي الْجَهْرِ. لِلْإِمَامِ عَلَى قِرَاءَةِ نَفْسِهِ فِي السِّرِّ دُونَ الْجَهْرِ.
وَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِ النَّاظِمِ: (تَأْمِينُ مَنْ صَلَّى عَدَا جَهْرَ الْإِمَامْ) أَيْ يُسْتَحَبُّ تَأْمِينُ كُلِّ مُصَلٍّ مَاعَدَا الْإِمَامَ فِي حَالَةِ الْجَهْرِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». [ الموطأ].
قَوْلُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ لِلْمَأْمُومِ وَالْفَذِّ دُونَ الْإِمَامِ فِي الصَّلاَةِ الْجَهْرِيَّةِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: اللهمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». [صحيح البخاري].
وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (وَقَوْلُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ عَدَا مَنْ أَمَّ).
اَلْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ؛ قَالَ عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللهُ: مِنْ فَضَائِلِ الصَّلاَةِ وَمُسْتَحَبَّاتِهَا: اَلْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ؛ لِمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: «أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ سُئِلَ هَلْ قَنَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ؟ قَالَ: نَعَمْ». [سنن النسائي]. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «مَا زَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا». [مسند الإمام أحمد].
وَلَفْظُهُ مَا وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يَقْنُتُ بِهَذَا الدُّعَاءِ: «اللهمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ، وَنَسْتَغْفِرُكَ، وَنُؤْمِنُ بِكَ، وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْكَ، وَنَخْنَعُ لَكَ، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَكْفُرُكَ، اللهمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَكَ، وَنَخَافُ عَذَابَكَ اَلْجِدَّ، إِنَّ عَذَابَكَ بِالْكَافِرِينَ مُلْحِقٌ». [ الجامع لمسائل المدونة لابن يونس].
أَمَّا مَحَلُّهُ فَالْمَشهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْقُنُوتَ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، وَقَبْلَ الرُّكُوعِ، جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: «قَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ الْقُنُوتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ، وَاَلَّذِي آخُذُ بِهِ فِي نَفْسِي قَبْلَ الرُّكُوعِ، رَحْمَةً بِالْمَسْبُوقِ. وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَرَى الْقُنُوتَ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، وَقَبْلَ الرُّكُوعِ فِي الْفَجْرِ، وَيَرْوِي ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ». [ معرفة السنن والآثار].
وَلاَ سُجُودَ عَلَى مَنْ نَسِيَهُ، وَمَنْ سَجَدَ لَهُ قَبْلَ السَّلَامِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.
وَالْحِكْمَةُ مِنْ كَوْنِ الْقُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ: أَنْ يُدْرِكَ الْمَسْبُوقُ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ.
اَلرِّدَاءُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَأْتَزِرْ وَلْيَرْتَدِ». [سنن البيهقي].
قَالَ عِيَاضٌ: «وَاتِّخَاذُ الرِّدَاءِ عِنْدَ الصَّلَاةِ مُسْتَحَبٌّ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ، وَالِاسْتِحْبَابُ فِي الْإِمَامِ آكَدُ، وَمِثْلُ الرِّدَاِء: اَلْبُرْنُسُ (اَلسَّلْهَامُ) وَشِبْهُهُ».
وَالْحِكْمَةُ مِنِ اتِّخَاذِ الْإِمَامِ الرِّدَاءَ: إِظْهَارُ هَيْبَةِ الْإِمَامِ وَوَقَارِهِ وَتَمَيُّزِهِ.
وَإِلَى هَذَيْنِ الْمَنْدُوبَيْنِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (وَالْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ بَدَا، رِداً).
التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدِ عَدَدٍ؛ لِقَول عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «لَمَّا نَزَلَتْ: (فسبح باسم ربك العظيم)، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اِجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: (سبح اسم ربك الأعلى) قَالَ: اِجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ».[سنن أبي داود]. وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ». [صحيح مسلم].
وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (وَتَسْبِيحُ السُّجُودِ وَالرُّكُوعْ).
سَدْلُ الْيَدَيْنِ، أَيْ إِرْسَالُهُمَا لِلْجَنْبِ فِي الصَّلاَةِ؛ قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: «كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِذَا صَلَّى يُرْسِلُ يَدَيْهِ»، وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنِ يَزِيدَ: «مَا رَأَيْتُ ابْنَ الْمُسَيِّبِ قَابِضاً يَمِينَهُ فِي الصَّلَاةِ، كَانَ يُرْسِلُهَا؛ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ». [مصنف ابن أبي شيبة]. وقَالَ الصَّاوِي: «كُرِهَ الْقَبْضُ؛ لِكَوْنِهِ مُخَالِفاً لِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ». [حاشية الصاوي على شرح الدردير].
وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (سَدْلُ يَدٍ).
اَلتَّكْبِيرُ عِنْدَ بِدَايَةِ كُلِّ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، إِلَّا فِي الْقِيَامِ مِنَ الْجَلْسَةِ الْوُسْطَى، فَحَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِماً؛
لِقَوْلِ النَّاظِمِ: (وَبَعْدَ أَنْ يَقُومَ مِنْ وُسْطَاهُ).
وَذَلِكَ مَطْلُوبٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْفَذِّ وَالْمَأْمُومِ؛ لِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي بَيَانِ صِفَةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي سَاجِداً، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا حَتَّى يَقْضِيَهَا، وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنَ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ». [ صحيح مسلم]. وَذَلِكَ لِشَبَهِهِ بِالْمُفْتَتِحِ لِصَلَاةٍ أُخْرَى، وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ بَعْدَ الْجَلْسَةِ الْأُولَى وَقَعَ بَيْنَ سُنَّةِ الْجُلُوسِ وَفَرْضِ الْقِيَامِ، فَأُتِيَ بِهِ عِنْدَ اَلْفَرْضِ؛ وَفِى غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ وَقَعَ بَيْنَ فَرْضَيْنِ، فَجُعِلَ بَيْنَهُمَا.
وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (تَكْبِيرُهُ معَ الشُّرُوعْ وَبَعْدَ أَنْ يَقُومَ مِنْ وُسْطَاهُ).
عَقْدُ الْأَصَابِعِ الثَّلاَثِ مِنَ الْيَدِ الَيُمْنَى فِي التَّشَهُّدِ، وَهِيَ الْوُسْطَى وَالْخِنْصِرُ وَالْبِنْصِرُ وَبَسْطُ مَا عَدَاهَا مِنَ السَّبَّابَةِ وَالْإِبْهَامِ؛ لِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: لَأَحْفَظَنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... ثُمَّ عَقَدَ أَصَابِعَهُ، وَجَعَلَ حَلْقَةً بِالإِبْهَامِ، وَالْوُسطَى ثُمَّ جَعَلَ يَدْعُو بِالأُخْرَى». [المعجم الكبير للطبراني]. قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: «وَيَبْسُطُ الْمُسَبِّحَةَ وَيَجْعَلُ جَانِبَهَا مِمَّا يَلِي السَّمَاءَ، يَمُدُّ الْإِبْهَامَ عَلَى الْوُسْطَى، وَأَمَّا الْيَدُ الْيُسْرَى فَيَبْسُطُهَا وَلاَ يُحَرِّكُهَا»؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَرَفَعَ أُصْبُعَهُ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ فَدَعَا بِهَا، وَيَدُهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ بَاسِطَهَا عَلَيْهَا». [سنن النسائي].
وَوَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي هَذَا: شَغْلُ كُلِّ عُضْوٍ بِعِبَادَةِ اللهِ.
وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (وَعَقْدُهُ الثَّلَاثَ مِنْ يُمْنَاهُ *** لَدَى التَّشَهُّدِ وبَسْطُ مَا خَلَاهْ).
تَحْرِيكُ السَّبَّابَةِ فِي التَّشَهُّدِ؛ لِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍرَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «... ثُمَّ قَبَضَ اثْنَتَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ وَحَلَّقَ حَلْقَةً ثُمَّ رَفَعَ أُصْبُعَهُ فَرَأَيْتُهُ يُحَرِّكُهَا يَدْعُو بِهَا». [سنن النسائي]. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ رَحِمَهُ اللهُ: «وَتُسْتَحَبُّ الْإِشَارَةُ بِالْإِصْبَعِ فِي التَّشَهُّدِ كُلِّهِ، أَوْ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَيُحَرِّكُهَا يَمِيناً وَشِمَالاً. وَقِيلَ: إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ».
وَهَذَا قَوْلُ النَّاظِمِ: (تَحْرِيكُ سَبَّابَتِهَا حِينَ تَلَاهْ) أَيْ قَرَأَهُ.
التقويم:
استخرج مَضْمُونَ قَوْلِ النَّاظِمِ:
وَعَقْدُهُ الثَّلَاثَ مِنْ يُمْنَاهُ *** لَدَى التَّشَهُّدِ وَبَسْطُ مَا خَلَاهْ.
أوضح مِنَ النَّظْمِ أَحْكَامَ تَأْمِينِ الْمُصَلِّي عَلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ.
أبرز مَا تَضَمَّنَتْهُ الْأَبْيَاتُ مِنْ مَنْدُوبَاتِ الصَّلَاةِ.
وجه شَخْصاً يُحَرِّكُ جَمِيعَ أَصَابِعِهِ فِي التَّشَهُّدِ.
أبرز الْحِكْمَةَ مِنِ اخْتِيَارِ مَالِكٍ اَلْقُنُوتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ.
أوضح عِلَّةَ التَّكْبِيرِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْفَرْضِ، وَبَعْدَ الْقِيَامِ مِنِ اثْنَتَيْنِ.
الاستثمار:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ: (سبح اسم ربك الأعلى) «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ». [سنن أبي داود].
وقال صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ». [صحيح مسلم]. (معنى فَقَمِنٌ: أي حَرِي).
كَيْفَ أَجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ؟
مَاهِيَ بَقِيَّةُ الْمَنْدُوبَاتِ الَّتِي تُبْرِزُ جَمَالَ الصَّلَاةِ وَتُحَقِّقُ كَمَالَ صِفَتِهَا؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وَالْبَطْنَ مِنْ فَخْذٍ رِجَالٌ يُبْعِدُونْ *** وَمَرْفِقاً مِنْ رُكْبَةٍ إِذْ يَسْجُدُونْ
وَصِفَةُ الْجُلُوسِ تَمْكِينُ الْيَدِ *** مِنْ رُكْبَتَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَزِدِ
نَصْبَهُمَا قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ فِي *** سِرِّيَّةٍ وَضْعُ الْيَدَيْنِ فَاقْتَفِي
لَدَى السُّجُودِ حَذْوَ أُذْنٍ وَكَذَا *** رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الِاحْرَامِ خُذَا
تَطْوِيلُهُ صُبْحاً وَظُهْراً سُورَتَيْنْ *** تَوَسُّطُ الْعِشَا وَقَصْرُ الْبَاقِيَيْنْ
كَالسُّورَةِ الْأُخْرَى كَذَا الوُسْطَى اَسْتُحِبّْ *** سَبْقُ يَدٍ وَضْعاً وَفِي الرَّفْعِ الرُّكَبْ
شرح المفردات:
مَرْفِقــاً: اَلْمَرْفِقُ: مَا بَيْنَ السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ مِنَ الْيَدِ.
تَمْكِينُ الْيَدِ: اِسْتِحْكَامُ قَبْضَةِ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ.
حَـذْوَ أُذْنٍ: إِزَاءَ وَمُقَابِلَ الْأُذْنِ.
بَقِيَّةِ مَنْدُوبَاتِ اِلصَّلَاةِ وَهِيَ:
أَنْ يُبَاعِدَ الرَّجُلُ فِي سُجُودِهِ بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ، وَمَرْفِقَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ؛ لِقَوْلِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «... وَإِذَا سَجَدَ فَرَّجَ بَيْنَ فَخِذَيْهِ غَيْرَ حَامِلٍ بَطْنَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَخِذَيْهِ». [سنن أبي داود]، وَلِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَجَدَ جَافَى بَيْنَ يَدَيْهِ». [سنن أبي داود]. وَقَالَ عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللهُ: «مِنْ فَضَائِلِ الصَّلاَةِ وَمُسْتَحَبَّاتِهَا، أَنْ يُبَاعِدَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ إِبْطَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَلاَ يَفْتَرِشَ ذِرَاعَيْهِ».
وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: وَالْبَطْنَ مِنْ فَخْدٍ رِجَالٌ يُبْعِدُونْ *** وَمَرْفِقاً مِنْ رُكْبَةٍ إِذْ يَسْجُدُونْ.
صِفَةُ الْجُلُوسِ؛ الْجُلُوسُ لِلتَّشَهُّدِ سُنَّةٌ، وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَاجِبٌ، وَصِفَتُهُ مُسْتَحَبَّةٌ، وَهِيَ: أَنْ يَجْلِسَ الْمُصَلِّي عَلَى وَرِكِهِ الْيُسْرَى، وَيَجْعَلُ قَدَمَهُ الْيُسْرَى تَحْتَ سَاقِهِ الْيُمْنَى، وَهَذِهِ الصِّفَةُ تُسَمَّى: (اَلتَّوَرُّكَ). وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: «أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ أَرَاهُمُ الْجُلُوسَ فِي التَّشَهُّدِ، فَنَصَبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَثَنَى رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَجَلَسَ عَلَى وَرِكِهِ اِلْأِيْسَرِ، وَلَمْ يَجْلِسْ عَلَى قَدَمِهِ. ثُمَّ قَالَ: أَرَانِي هَذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَحَدَّثَنِي: أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ» [الموطأ].
وَفِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّاظِمِ: (وَصِفَةُ الْجُلُوسِ).
تَمْكِينُ الْيَدَيْنِ مِنَ الرُّكْبَتَيْنِ فِي الرُّكُوعِ؛ لِقَوْلِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «...وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ». [ سنن البيهقي]. قَالَ الْبَاجِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: «الْمُجْزِئُ مِنْهُ تَمْكِينُ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ".
نَصْبُ الرُّكْبَتَيْنِ فِي الرُّكُوعِ؛ قَالَ ابْنُ شَاسٍ رَحِمَهُ اللهُ: «وَيُسْتَحَبُّ نَصْبُ رُكْبَتَيْهِ عَلَيْهِمَا يَدَاهُ». وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ رَحِمَهُ اللهُ: «وَلاَ يُنَكِّسُ رَأْسَهُ إِلَى الْأَرْضِ؛ لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْهُ وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ». [صحيح مسلم].
وَهَذَا قَوْلُ النَّاظِمِ: (تَمْكِينُ الْيَدِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَزِدِ نَصْبَهُمَا).
قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ فِى الصَّلاَةِ السِّرِّيَّةِ؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلَّى اَلظُّهْرَ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَرَأَ خَلْفَهُ بِ: (سبح اسم ربك الأعلى) فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: أَيُّكُمْ قَرَأَ؟ قَالُوا: رَجُلٌ. قَالَ: قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا». [سنن أبي داود]
وَيَشْمَلُ ذَلِكَ قِرَاءَةَ الْمَأْمُومِ الْفَاتِحَةَ وَالسُّورَةَ؛ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ: «الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنْ يَقْرَأَ الرَّجُلُ وَرَاءَ الْإِمَامِ فِيمَا لَا يَجْهَرُ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ، وَيَتْرُكَ الْقِرَاءَةَ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ».[الموطأ].
وَهَذَا مُرَادُ النَّاظِمِ بِقَوْلِهِ: (قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ فِي سِرِّيَّةٍ).
وَضْعُ الْيَدَيْنِ فِي السُّجُودِ مُقَابِلَ الْأُذُنَيْنِ؛ لِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ الْحَضْرَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي بَيَانِ صِفَةِ صَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «... ثُمَّ سَجَدَ فَوَضَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ» وَهَذَا هُوَ قَوْلُ النَّاظِمِ: (وَضْعُ الْيَدَيْنِ فَاقْتَفِي لَدَى السُّجُودِ حَذْوَ أُذْنٍ).
رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ». [الموطأ]. وَيُسْتَحَبُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ وَبُطُونُهُمَا إِلَى الْأَرْضِ، كَمَا يَنْبَغِي تَلَازُمُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ مَعَ النُّطْقِ بِالتَّكْبِيرِ.
وَإِلَى هَذَا الْمَنْدُوبِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (وَكَذَا *** رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الِاحْرَامِ خُذَا).
تَطْوِيلُ السُّورَتَيْنِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالظُّهْرِ؛ فَيَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهُمَا بِسُورَةٍ مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ، وَبِسُورَةٍ مُتَوَسِّطَةٍ فِى الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَبِسُورَةٍ قَصِيرَةٍ فِى الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ بَاقِي الصَّلَوَاتِ وَهُمَا اَلْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطِيلُ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَيُخَفِّفُ الْأُخْرَيَيْنِ، وَيُخَفِّفُ الْعَصْرَ، وَيَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ، وَيَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ بِوَسَطِ الْمُفَصَّلِ، وَيَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ». [سنن النسائي]. وَالْمُفَصَّلُ: مِنْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ إِلَى النَّاسِ؛ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْفَصْلِ فِيهِ بِالْبَسْمَلَةِ.
وَإِلَى هَذَا الْمَنْدُوبِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: تَطْوِيلُهُ صُبْحاً وَظُهْراً سُورَتَيْنْ *** تَوَسُّطُ الْعِشَا وَقَصْرُ الْبَاقِيَيْنْ.
تَقْصِيرُ سُورَةِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ سُورَةِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنَا... وَكَانَ يُطَوِّلُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى مِنَ الظُّهْرِ وَيُقَصِّرُ الثَّانِيَةَ، وَكَذَلِكَ فِي الصُّبْحِ».[ صحيح مسلم].
وَهَذَا مُرَادُ النَّاظِمِ بِقَوْلِهِ: (كَالسُّورَةِ الْأُخْرَى).
تَقْصِيرُ الْجَلْسَةِ الْوُسْطَى؛ لِقَوْلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّدَ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ وَفِي آخِرِهَا، قَالَ: ثُمَّ إِنْ كَانَ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ نَهَضَ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ تَشَهُّدِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهَا دَعَا بَعْدَ تَشَهُّدِهِ مَا شَاءَ الله أَنْ يَدْعُوَ، ثُمَّ يُسَلِّمُ».[ مسند الإمام أحمد]. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: «تَقْصِيرُ الْجَلْسَةِ الْأُولَى فَضِيلَةٌ».
وَفِي هَذَا قَوْلُ النَّاظِمِ: (كَذَا الْوُسْطَى).
تَقْدِيمُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الرُّكْبَتَيْنِ فِي الْهُوِيِّ إِلَى السُّجُودِ، وَتَأْخِيرُهُمَا عَنْ رُكْبَتَيْهِ فِي قِيَامِهِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ وَلَا يَبْرُكْ بُرُوكَ الْبَعِيرِ». [سنن النسائي].
وَفِي أَدَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ مِنَ الْحِكَمِ امْتِثَالِ أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي». [سنن البيهقي].
التقويم:
بين مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُ النَّاظِمِ:
... وَضْعُ الْيَدَيْنِ فَاقْتَفِ *** لَدَى السُّجُودِ حَذْوَ أُذْنٍ.
أبرز مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُ النَّاظِمِ:
تَطْوِيلُهُ صُبْحاً وَظُهْراً سُورَتَيْنْ *** تَوَسُّطُ الْعِشَا وَقَصْرُ الْبَاقِيَيْنْ.
ضَمَّنَتِ الْأَبْيَاتُ مَوَاضِعَ يُطْلَبُ فِيهَا تَقْصِيرُ السُّورَةِ، أذكرها.
مِنْ بَيْنِ هَذِهِ الْمَنْدُوبَاتِ مَنْدُوبٌ يُعَدُّ مِنْ فِقْهِ الْإِمَامِ، بينه.
أبرز الْحِكْمَةَ مِنْ تَقْدِيمِ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ فِي الْهُوِيِّ لِلسُّجُودِ.
أَيَّ الْمَنْدُوبَاتِ يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلَا يَفْتَرِشْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ» [سنن أبي داود].
الاستثمار:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: «جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الْأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ. قَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِأَمْرٍ إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ: تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، وَتَخْتِمُونَ الْمِاْئَةَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» [صحيح البخاري].
أستخلص مِنَ الْحَدِيثِ بَعْضَ مَنْدُوبَاتِ الصَّلَاةِ الَّتِي لَمْ يَذْكُرْهَا النَّاظِمُ.
تمهيد:
هُنَاكَ أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ، تُعْتَبَرُ مِمَّا يُكْرَهُ فِعْلُهُ فِي الصلاة. فَمَا هِيَ مَكْرُوهَاتُ الصَّلاَةِ؟ وَمَا حُكْمُ صَلَاةِ مَنْ فَعَلَهَا؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وَكَرِهُوا بَسْمَلَةً تَعَوُّذَا *** فِي الْفَرْضِ والسُّجُودَ فِى الثَّوْبِ كَذَا
كَوْرُ عِمَامَةٍ وَبَعْضُ كُمِّهِ *** وَحَمْلُ شَيْءٍ فِيهِ أَوْ فِي فَمِهِ
قِرَاءَةٌ لَدَى السُّجُودِ وَالرُّكُوعْ *** تَفَكُّرُ الْقَلْبِ بِمَا نَافَى الْخُشُوعْ
وَعَبَثٌ وَالاِلْتِفَاتُ وَالدُّعَا *** أَثْنَا قِرَاءَةٍ كَذَا إِنْ رَكَعَا
تَشْبِيكُ أَوْ فَرْقَعَةُ الْأَصَابِعْ *** تَخَصُّرٌ تَغْمِيضُ عَيْنٍ تَابِعْ
شرح المفردات:
بَسْمـَلَـةً: هِيَ قَوْلُ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
تـَعَوُّذَا: هُوَ قَوْلُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.
كَوْرُ عِمَامَةٍ: اَلْكَوْرُ بِفَتْحِ الْكَافِ: مُجْتَمَعُ طَاقَتِهَا.
كُـمِّهِ: الْكُمُّ: مَدْخَلُ الْيَدِ وَمَخْرَجُهَا مِنَ الثَّوْبِ.
اَلْخُشُـوعُ: اَلْخُضُوعُ، وَخَشَعَ فِي صَلَاتِهِ: أَقْبَلَ بِقَلْبِهِ عَلَيْهَا.
عَــبَــثٌ: اللَّعِبُ وَالْهَزْلُ.
فَرْقَعَةُ الْأَصَابِعِ: غَمْزُهَا حَتَّى يُسْمَعَ لِمَفَاصِلِهَا صَوْتٌ.
تَــخَصُّــرٌ: وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْخَاصِرَةِ، وَهِيَ جَنْبُ الْبَطْنِ مِنَ الْإِنْسَانِ.
الْمَكْرُوهُ شَرْعاً هُوَ: مَا يُثَابُ تَارِكُهُ، وَلاَ يُعَاقَبُ فَاعِلُهُ، أَيْ لاَ إِثْمَ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ، مَعَ أَنَّ اَلْأَوْلَى عَدَمُ فِعْلِهِ.
وَمَكْرُوهَاتُ الصَّلَاةِ هِيَ:
اَلْبَسْمَلَةُ وَالتَّعَوُّذُ فِي صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ دُونَ النَّافِلَةِ؛ لِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِــــ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 1]». [صحيح البخاري]. قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: «لاَ يُبَسْمِلُ فِي الْفَرِيضَةِ لاَ سِرّاً وَلاَ جَهْراً، وَأَمَّا فِي النَّافِلَةِ فَوَاسِعٌ إِنْ شَاءَ قَرَأَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ».
وَفِي ذَلِكَ قَالَ النَّاظِمُ: (وَكَرِهُوا بَسْمَلَةً تَعَوُّذَا فِي الْفَرْضِ).
السُّجُودُ عَلَى ثَوْبٍ غَلِيظٍ لِلتَّرَفُّعِ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: «وَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ أَنْ يَسْجُدَ الرَّجُلُ عَلَى الطَّنَافِسِ... وَلَا يَضَعُ كَفَّيْهِ عَلَيْهَا» وَفِي ذَلِكَ قال النَّاظِمُ: (والسُّجُودَ فِى الثَّوبِ).
اَلسُّجُودُ عَلَى كَوْرِ الْعِمَامَةِ؛ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: «مَنْ صَلَّى وَعَلَيْهِ عِمَامَتُهُ، فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَرْفَعَ عَنْ بَعْضِ جَبْهَتِهِ حَتَّى يَمَسَّ بَعْضُ جَبْهَتِهِ الْأَرْضَ، فَإِنْ سَجَدَ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ كَرِهْتُهُ لَهُ، وَلاَ يُعِيدُ صَلَاتَهُ». قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: «هَذَا إِنْ كَانَ الْمُحِيطُ بِالْجَبْهَةِ خَفِيفاً، فَإِنْ كَانَ كَثِيفاً أَعَادَ الصَّلَاةَ؛ لِعَدَمِ تَمَكُّنِ الْجَبْهَةِ مِنَ الْأَرْضِ».
اَلسُّجُودُ عَلَى طَرَفِ الْكُمِّ؛ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدَ الْمُصَلِّي عَلَى يَدَيْهِ وَهُمَا فِي كُمَّيْهِ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: «اَلْمُسْتَحَبُّ مُبَاشَرَةُ الْأَرْضِ بِالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ».
وَإِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَدْعَاةٌ لِلرَّفَاهِيَةِ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ ضَرُورَةٌ مِنْ بَرْدٍ أَوْ حَرَارَةٍ، فَلاَبَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِقَوْلِ أَنَسٍ: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ وَجْهَهُ مِنَ الْأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ». [ سنن أبي داود]، وَلِقَوْلِ الْحَسَنِ: «كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُونَ وَأَيْدِيهِمْ فِي ثِيَابِهِمْ، وَيَسْجُدُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ عَلَى عِمَامَتِهِ وَقَلَنْسُوَتِهِ». [ مصنف ابن أبي شيبة] وَفِي هَذَا قَوْلُ النَّاظِمِ: (كَذَا كَوْرُ عِمَامَةٍ وَبَعْضُ كُمِّهِ).
حَمْلُ شَيْءٍ فِي الْكُمِّ أَوْ فِي الْفَمِ؛ لِئَلَّا يَنْشَغِلَ الْمُصَلِّي بِمَا يُشَوِّشُهُ، وَيُذْهِبُ خُشُوعَهُ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: «فَإِنْ كَانَ مَا حَمَلَهُ فِي فَمِهِ مُتَحَلِّلاً مَائِعاً، يَمْنَعُ مِنَ الْقِرَاءَةِ، فَالصَّلَاةُ بَاطِلَةٌ». وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (وَحَمْلُ شَيْءٍ فِيهِ أَوْ فِي فَمِهِ).
الْقِرَاءَةُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ فَفِي الصَّحِيحِ: «أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعاً أَوْ سَاجِداً، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ». [ صحيح مسلم]. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ». [ الموطأ]. وَقَالَ عِيَاضٌ: «إِلَى النَّهْيِ عَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ذَهَبَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ». وَهَذَا مُرَادُ النَّاظِمِ بِقَوْلِهِ: (قِرَاءَةٌ لَدَى السُّجُودِ وَالرُّكُوعْ).
تَفَكُّرُ الْقَلْبِ بِمَا يُنَافِي الْخُشُوعَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلَامِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: اِذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ، وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ؛ فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفاً عَنْ صَلَاتِي». [ صحيح البخاري]. وَقَالَ عِيَاضٌ: «مِنْ مَكْرُوهَاتِ الصَّلاَةِ: تَحَدُّثُ النَّفْسِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا».
وَهَذَا فِيمَا تَسْتَرْسِلُ النَّفْسُ مَعَهُ، أَمَّا مَا يَخْطُرُ مِنَ الْخَطَرَاتِ وَالْوَسَاوِسِ وَيَتَعَذَّرُ دَفْعُهُ، فَذَلِكَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. وَأَمَّا التَّفَكُّرُ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ فَغَيْرُ مَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّهُ لاَ يُنَافِي الْخُشُوعَ.
وَهَذَا مُرَادُ النَّاظِمِ بِقَوْلِهِ: (تَفَكُّرُ اْلقَلْبِ بِمَا نَافَى الْخُشُوعْ).
الْعَبَثُ فِي الصَّلَاةِ؛ وَهُوَ لَعِبُ الْمُصَلِّي بِلِحْيَتِهِ أَوْ ثِيَابِهِ أَوْ خَاتَمِهِ أَوْ سَاعَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي الْخُشُوعَ؛ لِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَمَا رَأَى رَجُلاً يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلاَةِ: «لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ». [مصنف ابن أبي شيبة]. وَقَالَ عِيَاضٌ: «مِنْ مَكْرُوهَاتِ الصَّلاَةِ: اَلْعَبَثُ بِأَصَابِعِهِ أَوْ بِخَاتَمِهِ أَوْ بِلِحْيَتِهِ».
الِالْتِفَاتُ فِي الصَّلاَةِ؛ وَقَدْ نَهَى الشَّرْعُ عَنِ الاِلْتِفَاتِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَى الْعَبْدِ فِي صَلاَتِهِ؛ فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزَالُ الله عَزَّ وَجَلَّ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ». [سنن أبي داود]. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ». [ صحيح البخاري]. وَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: «لاَ يَلْتَفِتُ الْمُصَلِّي، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَقْطَعْ ذَلِكَ صَلاَتَهُ، وَإِنْ كَانَ بِجَمِيعِ جَسَدِهِ إِلَّا أَنْ يَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ».
وَإِلَى هَذَيْنِ الْمَكروهيْنِ يُشِيرُ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ:(وَعَبَثٌ وَالاِلْتِفَاتُ).
الدُّعَاءُ أَثْنَاءَ الْقِرَاءَةِ أَوِ الرُّكُوعِ أو السجود؛ لِئَلاَّ يَشْتَغِلَ عَنِ الْفَرِيضَةِ وَالسُّنَّةِ بِمَا لَيْسَ فِي مَرْتَبَتِهِمَا، إِلَّا إِذَا قَصَدَ بِالْقِرَاءَةِ فِي السُّجُود الدُّعَـاءَ فَلَا كَرَاهَـةَ، كَأَنْ يَقُولَ: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران: 8].
وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (وَالدُّعَا أَثْنَا قِرَاءَةٍ كَذَا إِنْ رَكَعَا).
تَشْبِيكُ الْأَصَابِعِ وَفَرْقَعَتُهَا؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ، فَإِنَّ التَّشْبِيكَ مِنَ الشَّيْطَانِ...». [مسند الإمام أحمد]. وَلِحَدِيثِ عَلِيٍّ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تُفَقِّعْ أَصَابِعَكَ وَأَنْتَ فِي الصَّلَاةِ». [ سنن ابن ماجة]. وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: «كَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُفَرْقِعَ الرَّجُلُ أَصَابِعَهُ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ عَنِ الصَّلاَةِ». وَهَذَا قَوْلُ النَّاظِمِ: (تَشْبِيكُ أَوْ فَرْقَعَةُ الْأَصَابِعْ).
التَّخَصُّرُ؛ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: «هُوَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمُصَلِّي وَيَدُهُ عَلَى خَاصِرَتِهِ». وَقَالَ عِيَاضٌ: «مِنْ مَكْرُوهَاتِ الصَّلاَةِ: اَلاِخْتِصَارُ، وَهُوَ: وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْخَاصِرَةِ فِي الْقِيَامِ»؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِراً». [صحيح البخاري].
تَغْمِيضُ الْبَصَرِ فِي الصَّلاَةِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلاَ يُغْمِضْ عَيْنَيْهِ». [المعجم الكبير للطبراني].
وَفِي الْمَكْرُوهَيْنِ قَالَ النَّاظِمُ: (تَخَصُّرٌ تَغْمِيضُ عَيْنٍ تَابِعْ).
وَهَذَا إِذَا كَانَ فَتْحُ عَيْنَيْهِ لاَ يُثِيرُ عَلَيْهِ تَشْوِيشاً؛ أَمَّا إِنْ كَانَ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخُشُوعِ، لِمَا فِي قِبْلَتِهِ أَوْ فِرَاشِهِ مِنَ الزَّخْرَفَةِ وَالتَّزْوِيقِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا يُشَوِّشُ، فَالتَّغْمِيضُ حَسَنٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ الْمُصَلِّي فِي صَلَاتِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ.
التقويم:
بين مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُ النَّاظِمِ: (تَشْبِيكُ أَوْ فَرْقَعَةُ الْأَصَابِعْ *** تَخَصُّرٌ تَغْمِيضُ عَيْنٍ تَابِعْ).
أبرز مَا تَضَمَّنَهُ النَّظْمُ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ فِي الصَّلَاةِ.
أوضح الْمُرَادَ بقَوْلِ النَّاظِمِ: (تَفَكُّرُ الْقَلْبِ بِمَا نَافَى الْخُشُوعْ).
مَا هُوَ التَّعَامُلُ الْأَمْثَلُ عِنْدَ رَنِّ الْهَاتِفِ فِي الصَّلَاةِ؟
مَا هُوَ التَّوْجِيهُ لِمَنِ اِشْتَغَلَ بِالنَّظَرَ فِي السَّاعَةِ لِمَعْرِفَةِ الْوَقْتِ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ؟
فِي مَوْسِمِ الْبَرْدِ يَضَعُ النَّاسُ أَيْدِيَهِمْ فِي قُفَّازَاتٍ، فَمَا حُكْمُ الصَّلَاةِ بِهَا؟
إِذَا كَانَتِ الْقِرَاءَةُ مَكْرُوهَةً فِي السُّجُودِ، فَكَيْفَ أُوَجِّهُ قِرَاءَةَ الْمُصَلِّي فِي سُجُودِهِ آيَةً تَشْتَمِلُ عَلَى دُعَاءٍ؟
الاستثمار:
قَالَ الْقَرَوِيُّ فِي مَكْرُوهَاتِ الصَّلاَةِ: «... وَالْجَهْرُ بِالدُّعَاءِ فِي السُّجُود وَفِي غَيْرِهِ، وَالْجَهْرُ بِالتَّشَهُّدِ، وَالسُّجُودُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَلْبُوسِ الْمُصَلِّي أَوْ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ، وَالْقِرَاءَةُ فِي الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ، وَالِالْتِفَاتُ فِي الصَّلَاةِ، وَتَشْبِيكُ الْأَصَابِعِ وَفَرْقَعَتُهَا، وَرَفْعُهُ رِجْلاً عَنِ الْأَرْضِ وَاعْتِمَادُهُ عَلَى الْأُخْرَى لِضَرُورَةٍ، وَوَضْعُ الْقَدَمِ عَلَى الْأُخْرَى، وَتَرْكُ سُنَّةٍ خَفِيفَةٍ عَمْداً، وَقِرَاءَةُ السُّورَةِ أَوْ آيَةٍ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ، وَالتَّصْفِيقُ فِي الصَّلَاةِ، لِحَاجَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ». [الخلاصة الفقهية]
تمهيد:
صَلَاةُ الْفَرْضِ أَنْوَاعٌ، مِنْهَا اَلْفَرْضُ الْعَيْنِيُّ اَلَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ الْقِيَامُ بِهِ، وَالْفَرْضُ الْكِفَائِيُّ الَّذِي إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ عَنْ بَاقِيهِمْ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَحْكَامٌ.
فَمَا هُوَ الْفَرْضُ الْعَيْنِيُّ؟ وَمَا هُوَ الْفَرْضُ الْكِفَائِيُّ؟ وَمَا هِيَ أَحْكَامُ الْجَنَازَةِ؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَصْلٌ وَخَمْسُ صَلَوَاتٍ فَرْضُ عَيْنْ *** وَهْىَ كِفَايَةٌ لِمَيْتٍ دُونَ مَيْنْ
فُرُوضُهَا التَّكْبِيرُ أَرْبَعاً دُعَا *** وَنِيَّةٌ سَلاَمُ سِرٍّ تَبِعَا
وَكَالصَّلاَةِ الْغَسْلُ دَفْنٌ وَكَفَنْ *** .................
شرح المفردات:
عَيْنٌ: اَلْعَيْنُ: اَلذَّاتُ.
مَيْنٌ: اَلْمَيْنُ: اَلْكَذِبُ.
أَوَّلاً: أَنْوَاعُ صَلاَةِ الْفَرْضِ وَأَحْكَامُهَا
اَلْفَرْضُ فِي الشَّرْعِ عَلَى قِسْمَيْنِ:
فَرْضُ عَيْنٍ؛ وَهُوَ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ، بِحَيْثُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ فِيهِ أَحَدٌ عَنِ الآخَرِ، وَهُوَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ؛ لِحَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَمِ اِفْتَرَضَ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الصَّلَوَاتِ؟ قَالَ: اِفْتَرَضَ الله عَلَى عِبَادِهِ صَلَوَاتٍ خَمْساً، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ قَبْلَهُنَّ أَوْ بَعْدَهُنَّ شَيْء؟ قَالَ اِفْتَرَضَ الله عَلَى عِبَادِهِ صَلَوَاتٍ خَمْساً، فَحَلَفَ الرَّجُلُ: لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ شَيْئاً، وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْئاً. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ».[ سنن النسائي]
وَذَلِكَ قَوْلُ النَّاظِمُ: (فَصْلٌ وَخَمْسُ صَلَوَاتٍ فَرْضُ عَيْنْ).
فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ وَهُوَ مَا أَوْ جَبَهُ اللهُ عَلَى الْجَمَاعَةِ كُلِّهَا، بِحَيْثُ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ مِنَ الْجَمَاعَةِ قِيَاماً تَحْصُلُ بِهِ اِلْكِفَايَةُ، سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ. وَمِنْهُ: اَلصَّلاَةُ عَلَى الْمَيِّتِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ-: «إِنَّ أَخاً لَكُمْ قَدْ مَاتَ فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ، قَالَ: فَقُمْنَا فَصَفَّنَا صَفَّيْنِ». [ صحيح مسلم].
وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (وَهْىَ كِفَايَةٌ لِمَيْتٍ دُونَ مَيْنْ).
ثَانِياً: أَحْكَامُ صَلَاةِ الْجَنَازَةِ
فُرُوضُ صَلَاةِ الْجَنَازَةِ أَرْبَعَةُ لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِهَا، وَهِيَ:
اَلتَّكْبِيرُ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ؛ لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى النَّجَاشِيَّ لِلنَّاسِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ». [الموطأ].
قَالَ عِيَاضٌ: «وَمِنْ فُرُوضِهَا وَشُرُوطِ صِحَّتِهَا: تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ وَثَلاَثُ تَكْبِيرَاتٍ بَعْدَهَا». وَقَالَ غَيْرُهُ: «كُلُّ تَكْبِيرَةٍ بِمَنْزِلَةِ رَكْعَةٍ».
اَلدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ عَقِبَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ». [أبو داود].
وَلَفْظُ الدُّعَاءِ: «اللهمَّ إِنَّهُ عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ. اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مُحْسِناً فَزِدْ فِي إِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئاً فَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِهِ، اَللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ». [الموطأ]. وَيُغَيَّرُ ضَمِيرُ الْخِطَابِ حَسَبَ الْمَيِّتِ ذَكَراً أَوْ أُنْثَى.
اَلنِّيَةُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ». [صحيح البخاري]. وقَالَ عِيَاضٌ: «مِنْ فُرُوضِ صَلَاةِ الْجَنَازَةِ وَشُرُوطِ صِحَّتِهَا: اَلنِّيَةُ».
اَلسَّلَامُ سِرّاً؛ وَالْمُرَادُ أَنْ يُسْمِعَ مَنْ بِجَانِبِهِ؛ لِحَدِيثِ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ: «كَانَ إِذَا صَلَّى عَلَى الْجَنَائِزِ يُسَلِّمُ حَتَّى يُسْمِعَ مَنْ يَلِيهِ». [الموطأ، كتاب الجنائز]
قَالَ عِيَاضٌ: «مِنْ فُرُوضِ صَلَاةِ الْجَنَازَةِ وَشُرُوطِ صِحَّتِهَا: اَلسَّلَامُ آخِراً».
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: «يُسَلِّمُ الْإِمَامُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً وَيُسْمِعُ مَنْ يَلِيهِ، وَيُسَلِّمُ الْمَأْمُومُونَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً فِي أَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ أَسْمَعُوا مَنْ يَلِيهِمْ لَمْ أَرَ بِذَلِكَ بَأْساً». وَعَلَى هَذَا فَيَعْرِفُ بَاقِي الْمَأْمُومِينَ اِنْقِضَاءَ الصَّلاَةِ بِانْصِرَافِ الْإِمَامِ.
وَفِي هَذِهِ الْفُرُوضِ قَوْلُ النَّاظِمُ: (فُرُوضُهَا التَّكْبِيرُ أَرْبَعاً دُعَا وَنِيَّةٌ سَلاَمُ سِرٍّ تَبِعَا).
غَسْلُ الْمَيِّتِ وَدَفْنُهُ وَتَكْفِينُهُ، مِثْلُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ فَرْضَ كِفَايَةٍ، يَكْفِي أَنْ يَقُومَ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْآتِي:
غَسْلُ الْمَيِّتِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَجُلٍ مَاتَ بِعَرَفَةَ: «اِغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْر». [ صحيح البخاري] وَلِقَوْلِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَتِ اِبْنَتُهُ: «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثاً أَوْ خَمْساً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُوراً». [الموطأ].
وَصِفَتُهُ: أَنْ يُعَمَّمَ بَدَنُ الْمَيِّتِ بِالْمَاءِ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَوْ كَانَ جُنُباً أَوْ حَائِضاً.
تَكْفِينُ الْمَيِّتِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ». [صحيح مسلم].
دَفْنُ الْمَيِّتِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ [عبس: 21]. وَيُسْتَحَبُّ فِيهِ إِعْمَاقُ الْقَبْرِ؛ لِحَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اِحْفِرُوا وَأَعْمِقُوا وَأَحْسِنُوا». [ سنن النسائي].
وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ قَوْلُ النَّاظِمِ: (وَكَالصَّلَاةِ اْلغَسْلُ دَفْنٌ وَكَفَنْ).
التقويم:
ميز فَرْضَ الْعَيْنِ عَنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ، اِنْطِلَاقاً مِنَ الْبَيْتِ الْأَوَّلِ.
استخرج مَا تَضَمَّنَهُ الْبَيْتُ الثَّانِي مِنْ فُرُوضِ صَلَاةِ الْجَنَازَةِ.
أبرز مَضْمُونَ قَوْلِ النَّاظِمِ: (وَكَالصَّلَاةِ اْلغَسْلُ دَفْنٌ وَكَفَنْ).
قوم مكتسباتك وأجب عما يلي عَمَّا يَلِي:
أدركت مَعَ الإِمَامِ تَكْبِيرَتَيْنِ فِي صَلَاةِ الْجَنَازَةِ؛ فَكَيْفَ تتِمُّ صَلَاتك؟
مَاتَ اَلنَّجَاشِيُّ مَلِكُ الْحَبَشَةِ بِالْحَبَشَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ؛ مَا الْحُكْمُ الْمُسْتَنْبَطُ مِنْ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ؟
أذْكُرُ مَظَاهِرَ تَكْرِيمِ الْإِسْلَامِ لِلْإِنْسَانِ وَرِعَايَةِ حُرْمَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
الاستثمار:
قَالَ عِيَاضٌ: «مِنْ فُرُوضِ صَلَاةِ الْجَنَازَةِ وَشُرُوطِهَا: اَلْقِيَامُ لَهَا، يَقُومُ الْإِمَامُ عِنْدَ وَسَطِ الْجَنَازَةِ فِي الرَّجُلِ، وَعِنْدَ مَنْكِبَيِ الْمَرْأَةِ، وَيَجْعَلُ رَأْسَهُ عَلَى يَمِينِ الْمُصَلِّي». وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: «مِنْ شُرُوطِ صِحًّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَازَةِ: اَلْإِمَامَةُ؛ فَإِنْ صُلِّيَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِمَامٍ أُعِيدَتِ الصَّلَاةُ». [ شرح ميارة الكبير]
تمهيد:
صَلَاةُ النَّافِلَةِ أَنْوَاعٌ وَأَقْسَامٌ، مِنْهَا النَّفْلُ الْعَيْنِيُّ، وَالنَّفْلُ الْكِفَائِيُّ، وَمِنْهَا النَّفْلُ الْمُؤَكَّدُ، وَالنَّفْلُ الْمُطْلَقُ.
فَمَا حُكْمُ النَّفْلِ الْعَيْنِيِّ وَالْكِفَائِيِّ؟ وَمَا هِيَ أَقْسَامُ النَّفْلِ الْمُؤَكَّدِ وَالْمُطْلَقِ؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وِتْرٌ كُسُوفٌ عِيدٌ اِسْتِسْقَا سُنَنْ ***.........................
فَجْرٌ رَغِيبَةٌ وَتُقْضَى لِلزَّوَالْ *** وَاْلفَرْضُ يُقْضَى أَبَداً وَبِالتَّوَالْ
نُدِبَ نَفْلٌ مُطْلَقاً وَأُكِّدَتْ *** تَحِيَّةٌ ضُحىً تَرَاوِيحُ تَلَتْ
وَقَبْلَ وِتْرٍ مِثْلَ ظُهْرٍ عَصْرِ *** وَبَعْدَ مَغْرِبٍ وَبَعْدَ ظُهْرِ
شرح المفردات:
وِتْرٌ: الْوِتْرُ: الْفَرْدُ.
كُسُوفٌ: الْكُسُوفُ: ذَهَابُ ضَوْءِ الشَّمْسِ.
اِسْتِسْقَا: الِاسْتِسْقَاءُ: طَلَبُ السُّقْيَا بِنُزُولِ الْمَطَرِ.
عِيـدٌ: الْعِيدُ: كُلُّ يَوْمٍ فِيهِ فَرَحٌ.
رَغِيبَةٌ: الرَّغِيبَةُ: اَلْأَمْرُ الْمَرْغُوبُ وَالْمُرَغَّبُ فِيهِ.
اَلتَّوَالْ: التَّوَالِي: التَّتَابُعُ.
نَفْلٌ: مَا طُلِبَ مِنَ الْإِنْسَانِ زِيَادَةً عَلَى الْفَرَائِضِ.
ضُحىً: الضُّحَى: ضُحْوَةُ النَّهَارِ؛ وَالْمُرَادُ بِهَا: نَافِلَةُ صَلَاةِ الضُّحَى.
تَرَاوِيحُ: التَّرَاوِيحُ: جَمْعُ تَرْوِيحَةٍ، وَهِيَ مِنْ رَوَّحَ الرَّجُلَ: أَرَاحَهُ وَجَعَلَهُ.
يَسْتَرِيحُ: وَالْمُرَادُ بِهَا: صَلَاةُ اللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ.
النَّفْلُ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أولا: مَالَهُ اسْمٌ خَاصٌّ: لِتَأَكُّدِهِ، كَالْوِتْرِ، وَالْكُسُوفِ، وَالْعِيدِ، وَالاِسْتِسْقَاءِ، وَالْفَجْرِ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
1. نَوْعٌ عَيْنِيٌّ؛ وَهُوَ الذِي يَتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ أَنْ يَقُومَ بِهِ بِنَفْسِهِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ فِيهِ أَحَدٌ عَنِ الآخَرِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
أ- الْوِتْرُ بِالْمُثَنَّاةِ وَبِكَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا؛ وَهُوُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لاَ يَسَعُ أَحَداً تَرْكُهَا؛ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ؛ أَوْتِرُوا، فَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ». [سنن أبي داود].
وَيَجُوزُ الْوِتْرُ بِرَكْعَةٍ، أَوْ بِخَمْسٍ، أَوْ بِثَلاَثٍ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ». [سنن أبي داود]
وَاخْتِيَارُ مَالِكٍ: أَنْ تُفْصَلَ رَكْعَةُ الْوِتْرِ عَنِ الْأَشْفَاعِ السَّابِقَةِ عَلَيْهَا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ، فَإِذَا فَرَغَ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ». [الموطأ] وَكُلُّ هَذَا مُرَادُ النَّاظِمِ بِقَوْلِهِ: (وِتْرٌ).
ب- الْفَجْرُ؛ وَتُسَمَّى: اَلرَّغِيبَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَغَّبَ فِيهَا بِقَوْلِهِ: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» [صحيح مسلم].
وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِسُورَةِ الْكَافِرُونَ وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةِ الْإِخْلَاصِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قـَرَأَ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ و ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ١﴾ [صحيح مسلم].
وَوَقْتُهُمَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَمَنْ فَاتَتْهُ رَكْعَتَا الْفَجْرِ، فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَهُمَا. وَتَسْتَمِرُّ فَتْرَةُ الْقَضَاءِ إِلَى الزَّوَالِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ لَهُ... فَقَالَ: «احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلَاتَنَا يَعْنِي صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَضُرِبَ عَلَى آذَانِهِمْ، فَمَا أَيْقَظَهُمْ إِلَّا حَرُّ الشَّمْسِ، فَقَامُوا فَسَارُوا هُنَيَّةً، ثُمَّ نَزَلُوا فَتَوَضَّؤُوا، وَأَذَّنَ بِلَالٌ فَصَلَّوْا رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ثُمَّ صَلَّوْا الْفَجْرَ وَرَكِبُوا...». [سنن أبي داود]
وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ الصُّبْحَ وَلاَ الْفَجْرَ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يًقَدِّمُ الصُّبْحَ عَلَى الْفَجْرِ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ يُخْشَى فَوَاتُهُ بِالْمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ. وَإِلَى رَغِيبَةِ الْفَجْرِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (فَجْرٌ رَغِيبَةٌ وَتُقْضَى لِلزَّوَالْ).
ج- الْعِيدُ؛ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَوْدِ؛ لِتَكَرُّرِهِ كُلَّ عَامٍ، وَلِعَوْدِ السُّرُورِ بِعَوْدَتِهِ.
وَصَلاَةُ الْعِيدَيْنِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وًهِيَ رَكْعَتَانِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلاَ إِقَامَةٍ، وَيُكَبِّرُ فِي الْأُولَى سَبْعاً بِالْإِحْرَامِ، وَفِي الثَّانِيَةِ سِتّاً بِالْقِيَامِ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «شَهِدْتُ الْأَضْحَى وَالْفِطْرَ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَكَبَّرَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَفِي الْأَخِيرَةِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ».[الموطأ]. يَعْنِي خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ بِدُونِ تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ.
وَوَقْتُهَا مِنْ وَقْتِ جَوَازِ النَّافِلَةِ إِلَى الزَّوَالِ، وَمِنْ سُنَنِهَا: اَلِاغْتِسَالُ، وَالتَّزَيُّنُ، وَالتَّطَيُّبُ، وَالْمَشْيُ إِلَيْهَا، وَالرُّجُوعُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى. وَإِلَى سُنَّةِ الْعِيدِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (عِيدٌ).
2. نَوْعٌ كِفَائِيٌّ: وَهُوَ الذِي يَقُومُ بِهِ الْبَعْضُ فَيَسْقُطُ عَنِ الْبَاقِينَ. وَمِنْهُ:
أ- الْكُسُوفُ؛ وَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ تُصَلَّى عِنْدَ حُدُوثِ ظَاهِرَةِ الْكُسُوفِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَقُومُوا فَصَلُّوا». [صحيح البخاري].
وَهِيَ رَكْعَتَانِ: فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ وَسَجْدَتَانِ، وَالْجَمَاعَةُ فِيهَا مُسْتَحَبَّةٌ، وَيُؤْمَرُ بِهَا كُلُّ مُصَلٍّ حَاضِراً أَوْ مُسَافِراً. وَإِلَى سُنَّةِ الْكُسُوفِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (كُسُوفٌ).
ب- الِاسْتِسْقَاءُ؛ وَهِيَ سُنَّةٌ تُقَامُ لِطَلَبِ السَّقْيِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَاءِ لِزَرْعٍ أَوْ شُرْبٍ. وفِي صِفَتِهَا قَالَ اللَّخْمِيُّ: «وَيَخْرُجُونَ إِلَى الْمُصَلَّى فِي ثِيَابٍ بَالِيَةٍ أَذِلَّةً رَاجِلِينَ، وَيُصَلِّى الْإِمَامُ رَكْعَتَيْنِ كَالنَّوَافِلِ جَهْراً، ثُمَّ يَخْطُبُ عَلَى الْأَرْضِ بَعْدَهُمَا، وَيُبْدِلُ التَّكْبِيرَ بِالاِسْتِغْفَارِ، وَيُبَالِغُ فِي الدُّعَاءِ آخِرَ الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ، وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ حِينَئِذٍ وَيُحَوِّلُ رِدَاءَهُ تَفَاؤُلاً بِأَنْ يُحَوِّلَ اللهُ الْحَالَ مِنَ السَّيِّءِ إِلَى الْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَبَذِّلًا مُتَوَاضِعاً مُتَضَرِّعاً حَتَّى أَتَى الْمُصَلَّى فَرَقِىَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَلَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّكْبِيرِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيدِ». [سنن أبي داود]. وَلِحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ».[صحيح البخاري]. وَإِلَى سُنِّةِ الاِسْتِسْقَاءِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (اسْتِسْقَا سُنَنْ).
ثانيا : مَالَهُ اسْمٌ عَامٌّ: وَهُوَ النَّفْلُ، كَالرَّوَاتِبِ قَبْلَ الصَّلَوَاتِ وَبَعْدَهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ. وَهُوَ كُلُّهُ عَلَى الْأَعْيَانِ أَيْ مَنْدُوبٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ، وَيَنْقَسِمُ إِلَى نَوْعَيْنِ:
1. نَوْعٌ مُؤَكَّدٌ؛ وَهُوَ:
أ- تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ؛ وَهِيَ: صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ». [صحيح البخاري].
وَهَذَا فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ النَّهْيِ عَنْهَا، كَمَا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ بِقَدْرِ الرُّمْحِ (قَدْرِ مِتْرَيْنِ)، وَمَا بَعْدَ أَدَاءِ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تُصَلَّى الْمَغْرِبُ.
ب- صَلاَةُ الضُّحَى؛ وَهِيَ مِنَ النَّوَافِلِ الَّتِي حَثَّ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَعَلَهَا، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَى شُفْعَةِ الضُّحَى غُفِرَ لَهُ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ». [سنن الترمذي].
وَأَكْثَرُ الضُّحَى: ثَمَانُ رَكَعَاتٍ، وَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ.
ج- تَرَاوِيحُ رَمَضَانَ؛ وَهِيَ صَلَاةُ الْقِيَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَسُمِّيَتْ بِالتَّرَاوِيحِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا إِذَا صَلَّوْا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، اِسْتَرَاحُوا.
وَقَدْ حَثَّ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ». [صحيح البخاري].
وَفِي نَدْبِ الْمُؤَكَّدِ مِنَ النَّفْلِ يَقُولُ النَّاظِمُ: (وَأُكِّدَتْ تَحِيَّةٌ ضُحىً تَرَاوِيحُ تَلَتْ).
2. نَوْعٌ يُسَمَّى اَلرَّوَاتِبَ؛ وَهِيَ:
النَّوَافِلُ الَّتِي تُصَلَّى قَبْلَ الْوِتْرِ (الشَّفْعُ)، وَقَبْلَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَعْدَ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً سِوَى الْمَكْتُوبَةِ بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ: أَرْبَعاً قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ». [سنن ابن ماجة] وَإِلَى نَدْبِ الرَّوَاتِبِ يُشِيرُ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (وَقَبْلَ وِتْرٍ مِثْلَ ظُهْرٍ عَصْرِ *** وَبَعْدَ مَغْرِبٍ وَبَعْدَ ظُهْرِ).
3. نَوْعٌ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ؛ وَهُوَ:
اَلنَّفْلُ الْمُطْلَقُ، وَحُكْمُهُ النَّدْبُ، وَلاَ تَحْدِيدَ فِيهِ لِعَدَدٍ وَلاَ زَمَانٍ، بَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَنَفَّلَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلاَّ فِي الْوَقْتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ لِحَدِيثِ: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ». [صحيح البخاري] وَفِي هَذَا النَّوْعِ قَوْلُ النَّاظِمِ: (نُدِبَ نَفْلٌ مُطْلَقاً).
وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ أَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ صَلاَةُ فَرْضٍ لَمْ يُصَلِّهَا نَوْماً أَوْ نِسْيَاناً، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا مُرَتَّبَةً كَمَا فَاتَتْهُ، وَيَقْضِيهَا بِالصِّفَةِ الَّتِي فَاتَتْهُ بِهَا مِنَ السِّرِّ وَالْجَهْرِ، وَالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ. وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي١٤﴾ [طه: 14]». [صحيح مسلم]. وَإِلَى قَضَاءِ الْفَائِتَةِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (وَالْفَرْضُ يُقْضَى أَبَداً وَبِالتَّوَالْ).
التقويم:
اسْتَخْلِص مَا تَضَمَّنَهُ النَّظْمُ مِنَ النَّوَافِلِ الَّتِي تُقْضَى.
مَيِّز النَّوَافِلَ الْعَيْنِيَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ عَنْ غَيْرِهَا.
حَدِّد مِنَ النَّظْمِ، زَمَنَ قَضَاءِ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ.
رَجَعْت مِنَ السَّفَرِ، وَعَليك صَلاَةُ الظُّهْرِ، كَيْفَ تقْضِيهَا؟
أُبْرِز الْحِكْمَةَ مِنْ تَقْدِيمِ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ.
الاستثمار:
عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَصِيَامُ رَمَضَانَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ؛ قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ. قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ». [صحيح البخاري]
أُبْرِز مِنَ الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى صَلَاةِ الْفَرْضِ وَصَلَاةِ النَّافِلَةِ.
تمهيد:
قَدْ يَسْهُو الْإِنْسَانُ فِي صَلاَتِهِ فَيَزِيدُ فِيهَا أَوْ يَنْقُصُ مِنْهَا، وَلِكُلِّ حَالَةٍ حُكْمُهَا.
فَمَاحُكْمُ الزِّيَادَةِ فِي الصَّلَاةِ؟ وَمَاحُكْمُ نَقْصِ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهَا؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَصْلٌ لِنَقْصِ سُنَّةٍ سَهْواً يُسَنّْ *** قَبْلَ السَّلاَمِ سَجْدَتَانِ أَوْ سُنَنْ
إنْ أُكِّدَتْ وَمَنْ يَزِدْ سَهْواً سَجَدْ *** بَعْدُ كَذَا وَالنَّقْصَ غَلِّبْ إِنْ وَرَدْ
وَاسْتَدْرِكِ الْقَبْلِيَّ مَعْ قُرْبِ السَّلَامْ *** وَاسْتَدْرِكِ الْبَعْدِي وَلَوْ مِنْ بَعْدِ عَامْ
............................ *** عَنْ مُقْتَدٍ يَحْمِلُ هَذَيْنِ الْإِمَامْ
شرح المفردات:
اَلْقَبْلِيُّ: مَا جَاءَ قَبْلَ الشَّيْءِ، وَالْمُرَادُ: (سُجُودٌ يَقَعُ قَبْلَ السَّلَامِ مِنَ الصَّلَاةِ).
اَلْبَعْدِيُّ: مَا جَاءَ بَعْدَ الشَّيْءِ، وَالْمُرَادُ: (سُجُودٌ يَقَعُ بَعْدَ السَّلَامِ مِنَ الصَّلَاةِ).
أَوَّلاً: اَلسَّهْوُ فِي الصَّلَاةِ: اَلسَّهْوُ فِي الصَّلَاةِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
1. سَهْوُ نَقْصٍ؛ فَمَنْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ بِنَقْصِ سُنَّةٍ وَاحِدَةٍ مُؤَكَّدَةٍ كَالْإِسْرَارِ فِي مَحَلِّ الْجَهْرِ فِي الْفَرِيضَةِ، أَوْ بِنَقْصِ سُنَنٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَالتَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدِ وَالْجُلُوسِ، أَوْ بِنَقْصِ سُنَّةٍ تَتَضَمَّنُ ثَلَاثَ سُنَنٍ فَأَكْثَرَ كَالسُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي الْفَرِيضَةِ، فَإِنَّهُ يُسَنُّ فِي حَقِّهِ أَنْ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ السَّلَامِ، بَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنْ تَشَهُّدِهِ، ثُمَّ يُعِيدُ التَّشَهُّدَ ثُمَّ يُسَلِّمُ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُحَيْنَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ لَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلَاةَ وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ». [صحيح البخاري].
وَمِنَ الْمَلْحُوظِ أَنَّ السُّورَةَ تَتَضَمَّنُ ثَلَاثَ سُنَنٍ: القِرَاءَةَ. وَصِفَةَ الْقِرَاءَةِ مِنْ سِرٍّ أَوْ جَهْرٍ، وَاَلْقِيَامَ لِلْقِرَاءَةِ. وَهَذَا كُلُّهُ هُوَ مُرَادُ النَّاظِمِ بِقَوْلِهِ: (فَصْلٌ لِنَقْصِ سُنَّةٍ سَهْواً يُسَنّْ ** قَبْلَ السَّلاَمِ سَجْدَتَانِ أَوْ سُنَنْ ** إِنْ أُكِّدَتْ).
2. سَهْوُ زِيَادَةٍ؛ فَمَنْ سَهَا بِزِيَادَةٍ، كَمَنْ جَهَرَ فِي مَحَلِّ السِّرِّ فِي الْفَرِيضَةِ، أَوْ زَادَ رَكْعَةً أَوْ سَجْدَةً، فَإِنَّهُ يُسَنُّ فِي حَقِّهِ أَنْ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَيَتَشَهَّدَ وَيُسَلِّمَ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَفِيهَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلَّى صَلاَةَ الْعَصْرِ، فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ. فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ، فَقَالَ: أَقَصُرَتِ الصَّلاَةُ يَا رَسُولَ اللهِ، أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ». فَقَالَ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ! فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: «أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟» فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَامَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَمَّ مَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ جَالِسٌ». [الموطأ] وَفِي سَهْوِ الزِّيَادَةِ قَوْلُ النَّاظِمِ: (وَمَنْ يَزِدْ سَهْواً سَجَدْ بَعْدُ كَذَا).
3. سَهْوُ نَقْصٍ وَزِيَادَةٍ؛ فَمَنْ سَهَا بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، كَمَنْ تَرَكَ السُّورَةَ مِنَ الْفَرِيضَةِ، وَقَامَ لِلرَّكْعَةِ الْخَامِسَةِ، فَإِنَّهُ يُغَلِّبُ النُّقْصَانَ وَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ. وَفِي اجْتِمَاعِ سَهْوِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ قَالَ النَّاظِمُ: (وَالنَّقْصَ غَلِّبْ إِنْ وَرَدْ).
وَقَدْ يَسْهُو الْمُصَلِّي عَنْ سُجُودِ السَّهْوِ، فَيَكُونُ عَلَى وَضْعَيْنِ:
أ- السَّهْوُ عَنِ السُّجُودِ الْقَبْلِيِّ؛ فَمَنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ سُجُودٌ قَبْلِيٌّ فَنَسِيَهُ حَتَّى سَلَّمَ، فَهُوَ بَيْنَ حَالَتَيْنِ:
أَنْ يَتَذَكَّرَهُ بِقُرْبِ السَّلَامِ، أَيْ بَعْدَ السَّلَامِ مُبَاشَرَةً، فَإِنَّهُ يَسْجُدُهُ حِينَئِذٍ.
أَنْ يَتَذَكَّرَهُ مَعَ طُولِ مَا بَيْنَ التَّذَكُّرِ وَالنِّسْيَانِ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَدْرِكُهُ وَيَفُوتُ، وَيُعْتَبَرُ الطُّولُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَطُولُ الزَّمَانِ.
فَمَنْ لَمْ يَتَذَكَّرِ السُّجُودَ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، أَوْ طَالَ الزَّمَانُ، فَصَلاَتُهُ:
- بَاطِلَةٌ، إِنْ كَانَ قَدْ تَرَتَّبَ السُّجُودُ عَنْ تَرْكِ ثَلاَثِ سُنَنٍ، كَتَرْكِ السُّورَةِ.
- صَحِيحَةٌ، وَلاَ سُجُودَ عَلَيْهِ، إِنْ تَرَتَّبَ عَنْ نِسْيَانِ أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثِ سُنَنٍ.
وَفِي السَّهْوِ عَنِ الْقَبْلِيِّ قَوْلُ النَّاظِمِ: (وَاسْتَدْرِكِ الْقَبْلِيَّ مَعْ قُرْبِ السَّلَامْ).
ب- اَلسَّهْوُ عَنِ السُّجُودِ الْبَعْدِيِّ؛ فَمَنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ سُجُودٌ بَعْدِيٌّ، وَنَسِيَهُ، سَجَدَهُ حِينَ تَذَكَّرَهُ، وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ، وَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ.
وَفِي السَّهْوِ عَنِ الْبَعْدِيِّ قَوْلُ النَّاظِمِ: (وَاسْتَدْرِكِ الْبَعْدِي وَلَوْ مِنْ بَعْدِ عَامْ).
ثَانِياً: حُكْمُ سَهْوِ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ
إِذَا سَهَا الْمَأْمُومُ بِنَقْصٍ أَوْ زِيَادَةٍ، وَهُوَ خَلْفَ إِمَامِهِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَحْمِلُ عَنْهُ سَهْوَهُ وَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ؛ قَالَ فِي الرِّسَالَةِ: «وَكُلُّ سَهْوٍ سَهَاهُ الْمَأْمُومُ، فَالْإِمَامُ يَحْمِلُهُ عَنْهُ إِلاَّ رَكْعَةً أَوْ سَجْدَةً أَوْ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ أَوِ السَّلَامَ»؛ لِحَدِيثِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ عَلَى مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ سَهْوٌ، فَإِنْ سَهَا الْإِمَامُ فَعَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ السَّهْوُ، وَإِنْ سَهَا مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ سَهْوٌ، وَالْإِمَامُ كَافِيهِ». [سنن الدارقطني]. وَفِي تَحَمُّلِ الْإِمَامِ السَّهْوَ عَنِ الْمَأْمُومِ يَقُولُ النَّاظِمُ: (عَنْ مُقْتَدٍ يَحْمِلُ هَذَيْنِ الْإمَامْ).
التقويم:
اَسْتَخْرِجُ مِنَ الْبَيْتَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَنْوَاعَ سُجُودِ السَّهْوِ.
أبْرِز مَا تَضَمَّنَهُ النَّظْمُ مِنْ شَرْطِ السُّنَّةِ الَّتِي يُسْجَدُ لِتَرْكِهَا.
أوَضِح مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُ النَّاظِمِ: (عَنْ مُقْتَدٍ يَحْمِلُ هَذَيْنِ الإْمَامْ).
مَا حُكْمُ صَلَاةِ شَخْصٍ تَرَكَ سَجْدَةً مِنَ الصَّلَاةِ وَسَجَدَ لَهَا سُجُوداً قَبْلِيّاً؟
مَا هُوَ السُّجُودُ الْمَطْلُوبُ عِنْدَ نِسْيَانِ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ الْخَفِيفَةِ؟
هَلْ تَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ زَادَ فِي صَلَاتِهِ سَجْدَةً عَامِداً، وَلَمْ يَسْجُدْ لَهَا؟
الاستثمار:
عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهَا قَبْلَ التَّمَامِ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، وَقَالَ: مَنْ سَهَا قَبْلَ التَّمَامِ سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، وَإِذَا سَهَا بَعْدَ التَّمَامِ سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ بَعْدَ أَنْ يُسَلِّمَ». [المعجم الأوسط للطبراني، 3957].
تَدَبَّر الْحَدِيثَ، وَأجِب عَنِ الْآتِي:
مَا نَوْعُ السُّجُودِ الَّذِي سَجَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَهْوِهِ؟
ضَع كُلَّ فَقْرَةٍ مِنَ الْحَدِيثِ أَمَامَ النَّوْعِ الَّذِي يُنَاسِبُهَا مِنَ:
- السُّجُودِ الْقَبْلِيِّ ...
- السُّجُودِ الْبَعْدِيِّ ...
تمهيد: مَا هِيَ مُبْطِلَاتُ الصَّلَاةِ؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وَبَطَلَتْ بِعَمْدِ نَفْخٍ أَوْ كَلاَمْ ***....
لِغَيْرِ إِصْلَاحٍ وَبِالْمُشْغِلِ عَنْ *** فَرْضٍ وَفِي الْوَقْتِ أَعِدْ إذَا يُسَنّ
وَحَدَثٍ وَسَهْوِ زَيْدِ الْمِثْلِ *** قَهْقَهَةٍ وَعَمْدِ شُرْبٍ أَكْلِ
وَسَجْدَةٍ قَيْءٍ وَذِكْرِ فَرْضِ *** أَقَلَّ مِنْ سِتٍّ كَذِكْرِ الْبَعْضِ
وَفَوْتِ قَبْلِيِّ ثَلاَثِ سُنَنِ *** بِفَصْلِ مَسْجِدٍ كَطُولِ الزَّمَنِ
شرح المفردات:
قَهْقَهَةٍ: اَلْقَهْقَهَةُ: مَا يَكُونُ مَسْمُوعاً مِنَ الضَّحِكِ.
قَـيْءٍ: اَلْقَيْءُ: إِلْقَاءُ مَا فِي الْبَطْنِ مِنَ الْفَمِ.
تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا:
تَعَمُّدُ النَّفْخِ بِالْفَمِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّهُ كَانَ يَخْشَى أَنْ يَكُونَ كَلَاماً. يَعْنِي النَّفْخَ فِي الصَّلَاةِ». [سنن البيهقي]. وَفِي الرِّسَالَةِ: «وَالنَّفْخُ فِي الصَّلَاةِ كَالْكَلَامِ، وَالْعَامِدُ لِذَلِكَ مُفْسِدٌ لِصَلَاتِهِ». وَإِلَى هَذَا أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ:(وَبَطَلَتْ بِعَمْدِ نَفْخٍ).
تَعَمُّدُ الْكَلاَمِ لِغَيْرِ إِصْلَاحِ الصَّلَاةِ؛ لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ». [صحيح مسلم]. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: «وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ سَاهِياً سَجَدَ لِسَهْوِهِ بَعْدَ السَّلَامِ».
وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِ النَّاظِمِ: (لِغَيْرِ إِصْلَاحٍ) أَنَّ تَعَمُّدَ الْكَلَامِ مِنْ أَجْلِ إِصْلَاحِ الصَّلَاةِ لاَ يُبْطِلُهَا. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (أَوْ كَلاَمْ لِغَيْرِ إِصْلاَحٍ).
مَا يَشْغَلُ الْمُصَلِّيَ عَنْ فَرْضٍ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ الاِشْتِغَالِ لاَ يُوَفِّي الصَّلَاةَ حَقَّهَا مِنَ الْخُشُوعِ، كَمَنْ يُصَلِّي وَهُوَ يُدَافِعُ الْبَوْلَ أَوِ الْغَائِطَ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ» (اَلْبَوْلُ وَالْغَائِطُ). [صحيح مسلم] وَقَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ حَقِنٌ». [سنن الترمذي] وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ وَهُوَ ضَامٌّ بَيْنَ وَرِكَيْهِ». [الموطأ].
أَمَّا مَا يَشْغَلُ الْمُصَلِّيَ عَنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ لاَ يُبْطِلُهَا، إِلَّا أَنَّهُ يُعِيدُهَا فِي الْوَقْتِ، وَمِثْلُهُ مَنْ شُغِلَ عَنِ الْفَضَائِلِ.
قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: «مَنْ أَصَابَهُ حَقْنٌ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَفِيفاً فَلْيُصَلِّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَشْغَلُهُ، أَوْ يُعَجِّلُهُ فِي صَلَاتِهِ، فَلَا يُصَلِّي حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي، فَإِنْ صَلَّى بِذَلِكَ أَحْبَبْتُ لَهُ الْإِعَادَةَ أَبَداً». وَإِلَى هَذَا الْحُكْمِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (وَبِالْمُشْغِلِ عَنْ فَرْضٍ وَفِي الْوَقْتِ أَعِدْ إذَا يُسَنّْ).
طُرُوُّ الْحَدَثِ عَلَى الْمُصَلِّي وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ؛ سَهْواً كَانَ، أَوْ عَمْداً، أَوْ غَلَبَةً؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْحَدَثِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ؛ لِحَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ إِلَّا الْحَدَثُ».[مسند الإمام أحمد] وَهَذَا مُرَادُ النَّاظِمِ بِقَوْلِهِ: (وَحَدَثٍ).
الزِّيَادَةُ فِي الصَّلَاةِ إِلَى حَدِّ مِثْلِهَا سَهْواً؛ كَأَنْ يُصَلِّيَ الرُّبَاعِيَّةَ ثَمَانِياً، أَوِ الثُّنَائِيَّةَ أَرْبَعاً، وَتُلْحَقُ الْمَغْرِبُ بِالرُّبَاعِيَّةِ، فَلَا تَبْطُلُ إِلَّا بِزِيَادَةِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ. وَهَذَا مُرَادُ النَّاظِمِ بِقَوْلِهِ: (وَسَهْوِ زَيْدِ الْمِثْلِ).
وَعِلَّةُ الْبُطْلَانِ: أَنَّ زِيَادَةَ الْمِثْلِ مُشْعِرٌ بِعَدَمِ حُضُورِ عَقْلِ الْمُصَلِّي فِيمَا يَفْعَلُ.
الْقَهْقَهَةُ؛ وَهِيَ: اَلضَّحِكُ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ، وَهِيَ مِنْ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَمْداً أَوْ نِسْيَاناً أَوْ غَلَبَةً؛ لِحَدِيثِ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَشْرُ، وَلَكِنْ تَقْطَعُهَا الْقَهْقَهَةُ». [المعجم الصغير للطبراني]. وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ: أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَضْحَكُ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: «يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَلاَ يُعِيدُ الْوُضُوءَ». [سنن البيهقي].
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَالِكٌ: «إِنْ قَهْقَهَ الْمُصَلِّي قَطَعَ وَابْتَدَأَ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كَانَ مَأْمُوماً تَمَادَى مَعَ الْإِمَامِ، فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ أَعَادَ صَلَاتَهُ». وَإِلَى حُكْمِ الْقَهْقَهَةِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (قَهْقَهَةٍ).
تَعَمُّدُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ؛ قَالَ الْإِمَامُ التَّتَائِيُّ نَاقِلاً عَنِ الذَّخِيرَةِ: وَذَلِكَ؛ لِشُبْهَةِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الصَّلَاةِ وَالاِنْصِرَافِ عَنْهَا، وَإِذَا بَطَلَتْ بِتَعَمُّدِ أَحَدِهِمَا فَأَحْرَى أَنْ تَبْطُلَ بِتَعَمُّدِهِمَا مَعاً. وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ (عَمْدِ): أَنَّ الْأَكْلَ أَوِ الشُّرْبَ سَهْواً لاَ تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ، بَلْ يَنْجَبِرُ ذَلِكَ بِالسُّجُودِ الْبَعْدِيِّ. وَفِي تَعَمُّدِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ قَوْلُ النَّاظِمِ: (وَعَمْدِ شُرْبٍ أَكْلِ).
تَعَمُّدُ زِيَادَةِ سَجْدَةٍ وَنَحْوِهَا؛ وَأَحْرَى فِي الْبُطْلاَنِ زِيَادَةُ رَكْعَةٍ كُلِّهَا عَمْداً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». [صحيح مسلم]. وَقَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي». [صحيح البخاري]. وَمَفْهُومُهُ أَنَّ زِيَادَةَ السَّجْدَةِ وَنَحْوِهَا إِنْ كَانَ سَهْواً لاَ تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ، مَالَمْ يَزِدْ فِي الصَّلَاةِ مِثْلَهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِي تَعَمُّدِ زِيَادَةِ السَّجْدَةِ قَوْلُ النَّاظِمِ: (وَسَجْدَةٍ).
تَعَمُّدُ الْقَيْءِ؛ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قَالَ مَالِكٌ: «مَنْ تَقَيَّأَ عَامِداً، اِبْتَدَأَ الصَّلَاةَ». وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: «اَلْمَشْهُورُ أَنَّ مَنْ غَلَبَهُ قَيْءٌ أَوْ قَلْسٌ فَلَمْ يَرُدَّهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ وَلَا فِي صِيَامِهِ، وَإِنْ رَدَّهُ مُتَعَمِّداً وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى طَرْحِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي فَسَادِ صَوْمِهِ وَصَلَاتِهِ».
تَذَكُّرُ صَلَاةٍ فَائِتَةٍ فِي صَلَاةٍ؛ فَإِذَا تَذَكَّرَ الْمُصَلِّي فِي صَلَاتِهِ فَوَائِتَ مِنَ الْفَرَائِضِ خَمْساً فَأَقَلَّ، وَجَبَ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْفَائِتَةِ؛ لِوُجُوبِ تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ الْيَسِيرَةِ مَعَ الْحَاضِرَةِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَذَكَرَهَا، وَهُوَ مَعَ الْإِمَامِ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ، وَلْيَقْضِ الَّذِي نَسِيَ، ثُمَّ لِيُعِدِ الَّتِي صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ». [المعجم الأوسط، للطبراني]. قَالَ فِي الرِّسَالَةِ: «وَمَنْ ذَكَرَ صَلَاةً فِي صَلَاةٍ فَسَدَتْ عَلَيْهِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ مَعَ إِمَامٍ تَمَادَى وَأَعَادَ».
تَذَكُّرُ بَعْضِ الصَّلَاةِ؛ فَمَنْ تَذَكَّرَ فِي صَلَاتِهِ بَعْضَ صَلَاةٍ قَبْلَهَا، كَأَنْ يَكُونَ فِي الْعَصْرِ فَيَتَذَكَّرَ رَكْعَةً أَوْ سَجْدَةً أَوْ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ مِنَ الظُّهْرِ، وَقَدْ طَالَ مَا بَيْنَ الصَّلَاةِ الْمَتْرُوكِ مِنْهَا وَالَّتِي تَذَكَّرَ فِيهَا، بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ، أَوْ بِطُولِ الزَّمَانِ وَلَوْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ الْفَاسِدَةِ عَلَى الْحَاضِرَةِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: «صَلَّى عُمَرُ الْمَغْرِبَ فَلَمْ يَقْرَأْ فِيهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالُوا لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ لَمْ تَقْرَأْ... قَالَ: ثُمَّ أَعَادَ الصَّلَاةَ وَالْقِرَاءَةَ». [مصنف ابن أبي شيبة]. وَفِي ذِكْرِ الصَّلَاةِ، أَوْ بَعْضِهَا، يَقُولُ النَّاظِمُ: (وَذِكْرِ فَرْضِ أَقَلَّ مِنْ سِتٍّ كَذِكْرِ الْبَعْضِ).
تَذَكُّرُ السُّجُودِ الْقَبْلِيِّ فِي صَلَاةٍ سَابِقَةٍ؛ فَإِنْ تَذَكَّرَ الْمُصَلِّي وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، سُجُوداً قَبْلِيّاً تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فِي صَلَاةٍ سَابِقَةٍ بِسَبَبِ نَقْصِ سُنَّةٍ مُرَكَّبَةٍ مِنْ ثَلَاثِ سُنَنٍ، كَتَرْكِ السُّورَةِ مَثَلاً، وَلَمْ يَتَذَكَّرْ حَتَّى طَالَ الزَّمَانُ، أَوْ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، بَطَلَتَا مَعاً:
- الصَّلَاةُ الْأُولَى؛ لِعَدَمِ سُجُودِهِ لِمَا تَرَكَ مِنْهَا بِالْقُرْبِ مِنَ السَّلَامِ.
- وَالصَّلَاةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تَذَكَّرَ السُّجُودَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ ذَاكِراً لِصَلَاةٍ فِي صَلَاةٍ.
وَإِلَى تَذَكُّرِ السُّجُودِ الْقَبْلِيِّ يُشِيرُ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ:
وَفَوْتِ قَبْلِيِّ ثَلاَثِ سُنَنِ *** بِفَصْلِ مَسْجِدٍ كَطُولِ الزَّمَنِ.
التقويم:
بين حُكْمَ الصُّوَرِ التَّالِيَةِ مَعَ تَعْلِيلِ الْجَوَابِ:
شَخْصٌ يُصَلِّي وَهُوَ يَبْتَسِمُ فِي صَلَاتِهِ.
شَخْصٌ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ، فَنَسِيَ وَشَرِبَ.
إِمَامٌ سَهَا وَصَلَّى الْمَغْرِبَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ.
شَخْصٌ يَنْفُخُ بِأَنْفِهِ بَعْدَ مَا عَطَسَ فِي صَلَاتِهِ.
الاستثمار:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ، فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللهِ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَمَّ مَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ جَالِسٌ».[الموطأ]
استخلص فَوَائِدَ الْحَدِيثِ، وَأُقَارِنُ ذَلِكَ بِمَا فِي الدَّرْسِ.
تمهيد: قَدْ يَعْتَرِي الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ فِي صَلَاتِهِ مَا يُؤَدِّي بِهِ إِلَى الْحَيْلُولَةِ عَنْ فِعْلِ الرُّكْنِ أَوْ نِسْيَانِهِ، أَوِ الشَّكِّ فِي فِعْلِهِ.
فَمَا حُكْمُ مَنْ فَاتَهُ فِعْلُ رُكْنٍ أَوْ نَسِيَهُ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ شَكَّ فِي الْإِتْيَانِ بِالرُّكْنِ؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رحمه الله:
§ وَاسْتَدْرِكِ الرُّكْنَ فَإِنْ حَالَ رُكُوعْ *** فَأَلْغِ ذَاتَ السَّهْوِ وَالبِنَا يَطُوعْ
§ كَفِعْلِ مَنْ سَلَّمَ لَكِنْ يُحْرِمُ *** لِلْبَاقِي وَالطُّولُ الْفَسَادَ مُلْزِمُ
§ مَنْ شَكَّ فِي رُكْنٍ بَنَى عَلَى الْيَقِينْ *** وَلْيَسْجُدِ الْبَعْدِيَّ لَكِنْ قَدْ يَبِينْ
§ لِأَنْ بَنَوْا فِي فِعْلِهِمْ وَالْقَوْلِ *** نَقْصٌ بِفَوْتِ سُورَةٍ فَالْقَبْلِي
§ كَذَاكِرِ الْوُسْطَى وَالَا يْدِي قَدْ رَفَعْ *** وَرُكَباً لَا قَبْلَ ذَا لَكِنْ رَجَعْ
شرح المفردات:
1. اَلرُّكْنُ: اَلْجَانِبُ الْأَقْوَى مِنَ الشَّيْءِ، وَالْمُرَادُ: اَلْفَرْضُ.
2. اَلشَّكُّ: اَلِارْتِيَابُ وَالتَّرَدُّدُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ.
3. اَلْيَقِينُ: اَلْعِلْمُ الْجَازِمُ بِالشَّيْءِ.
4. فَأَلْغِ: مِنْ أَلْغَى الشَّيْءَ: أَبْطَلَهُ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِهِ.
أَوَّلاً: حُكْمُ مَنْ نَسِيَ رُكْناً مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ
مَنْ نَسِيَ رُكْناً مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، أَيْ فَرْضاً مِنْ فَرَائِضِهَا كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَوْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِعْلِهِ، ثُمَّ تَذَكَّرَ، فَإِنَّهُ يَسْتَدْرِكُهُ حِينَئِذٍ؛ أَيْ يَأْتِي بِهِ، وَلِذَلِكَ صُورَتَانِ:
أَنْ يَتَذَكَّرَ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ الرَّكْعَةَ التَّالِيَةَ لِلَّتِي نَسِيَ فِيهَا؛ فَيَرْجِعُ وَيَفْعَلُ الرُّكْنَ الْمَتْرُوكَ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ لِلزِّيَادَةِ.
أَنْ لَا يَتَذَكَّرَ إِلَّا بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ رُكُوعِ الرَّكْعَةِ الَّتِي تَلِي الرَّكْعَةَ الْمَتْرُوكَ مِنْهَا؛ فَيُلْغِي الرَّكْعَةَ الَّتِي سَهَا عَنْ بَعْضِهَا وَيَبْنِي عَلَى غَيْرِهَا؛ لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُدَيْجٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْماً فَسَلَّمَ وَقَدْ بَقِيَتْ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةٌ، فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: نَسِيتَ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً، فَرَجَعَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى لِلنَّاسِ رَكْعَةً». [ سنن النسائي]. وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ: وَاسْتَدْرِكِ الرُّكْنَ فَإِنْ حَالَ رُكُوعْ *** فَأَلْغِ ذَاتَ السَّهْوِ وَالْبِنَا يَطُوعْ.
فَإِنْ سَهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ، تَدَارَكَ مَا تَرَكَ مِنْهَا كَذَلِكَ، وَلَهُ حَالَتَانِ:
أَنْ يَتَذَكَّرَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ؛ فَيَرْجِعُ وَيَأْتِي بِالْمَتْرُوكَ، وَيَسْجُدُ الْبَعْدِيَّ لِلزِّيَادَةِ.
أَنْ لَا يَتَذَكَّرَ حَتَّى يُسَلِّمَ وَيَحُولَ السَّلَامُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَدَارُكِ مَاسَهَا عَنْهُ؛ فَيُلْغِي الرَّكْعَةَ الْمَتْرُوكَ بَعْضُهَا أَيْضاً، وَيَبْنِي عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَيَجِبُ أَنْ يُحْرِمَ لِمَا بَقِيَ لَهُ مِنْ صَلَاتِهِ، وَهُوَ قَضَاءُ الرَّكْعَةِ الْفَاسِدَةِ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ لِلزِّيَادَةِ، فَإِنْ سَلَّمَ وَلَمْ يُحْرِمْ إِلاَّ بَعْدَ طُولٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ يَدُلُّ لِذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلَّى صَلَاةَ الْعَصْرِ فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ، فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللهِ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالُوا نَعَمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَمَّ مَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ جَالِسٌ». [الموطأ]. وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِالْبَيْتِ الثَّانِي: كَفِعْلِ مَنْ سَلَّمَ لَكِنْ يُحْرِمُ *** لِلْبَاقِي وَالطُّولُ الْفَسَادَ مُلْزِمُ.
ثَانِياً: حُكْمُ مَنْ شَكَّ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ
لِمَنْ شَكَّ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، هَلْ فَعَلَهُ أَمْ لَا؟ حَالَتَانِ:
1. اَلْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ وَالسُّجُودُ الْبَعْدِيُّ؛ فَمَنْ شَكَّ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ؛ أَيْ فَرْضٍ مِنْ فَرَائِضِهَا، هَلْ أَتَى بِهِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّهُ يَبْنِى عَلَى الْيَقِينِ الْمُحَقَّقِ عِنْدَهُ، وَيَأْتِي بِمَا شَكَّ فِيهِ وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ.
فَإِذَا شَكَّ هَلْ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً أَوِ اِثْنَتَيْنِ، بَنَى عَلَى أَنَّهَا وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا الْمُحَقَّقَةُ عِنْدَهُ، وَيَأْتِي بِمَا شَكَّ فِيهِ وَهُوَ الثَّانِيَةُ، وَيُكْمِلُ صَلَاتَهُ وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ.
وَإِذَا شَكَّ هَلْ صَلَّى اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً، بَنَى عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اثْنَتَيْنِ، وَإِنْ شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلاَثاً أَوْ أَرْبَعاً بَنَى عَلَى ثَلاَث،ٍ وَهَكَذَا ...
وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ السَّهْوُ فِي السُّجُودِ مَثَلاً، فَمَنْ شَكَّ هَلْ سَجَدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ؟ بَنَى عَلَى الْمُحَقَّقِ عِنْدَهُ، وَهُوَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ، وَيَفْعَلُ مَاشَكَّ فِيهِ وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلاَمِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُلْقِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى الْيَقِينِ...». [سنن أبي داود]. وَهَذَا مُرَادُ النَّاظِمِ بِقَوْلِهِ: (مَنْ شَكَّ فِي رُكْنٍ بَنَى عَلَى الْيَقِينْ فَلْيَسْجُدِ الْبَعْدِيَّ).
وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُوَسْوَسِ، أَمَّا الْمُوَسْوَسُ فَشَكُّهُ كَالْعَدَمِ، فَمَنْ شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلاَثاً أَوْ أَرْبَعاً بَنَى عَلَى الْأَرْبَعِ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ.
2. اَلْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ وَالسُّجُودُ الْقَبْلِيُّ؛ فَإِذَا شَكَّ الْمُصَلِّي بَعْدَ أَنْ رَفَعَ مِنْ رُكُوعِ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ، أَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ قَدْ نَسِيَ الرُّكْنَ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنَّهُ يُلْغِي الثَّانِيَةَ، وَتَصِيرُ الثَّالِثَةُ هِيَ الثَّانِيَةَ، وَيَسْجُدُ السُّجُودَ الْقَبْلِيَّ؛ لِسَبَبِ النَّقْصِ بِفَوَاتِ قِرَاءَةِ السُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ قَرَأَ الثَّالِثَةَ الَّتِي جَعَلَهَا مَكَانَ الثَّانِيَةِ بِالْفَاتِحَةِ فَقَطْ، وَالزِّيَادَةُ مُلْغَاةٌ؛ لِأَنَّهُ يُغَلَّبُ جَانِبُ النَّقْصِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ النَّقْصِ وَالزِّيَادَةِ.
وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: مَنْ نَسِيَ الْجَلْسَةَ الْوُسْطَى، وَلَهَا ثَلاَثُ حَالَاتٍ:
اَلْأُولَى: أَنْ يَتَذَكَّرَ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَ الْأَرْضَ بِيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ، فَيَرْجِعُ وَلاَ سُجُودَ عَلَيْهِ؛ فَاِنْ قَامَ وَلَمْ يَرْجِعْ، فَإِنْ كَانَ نَاسِياً سَجَدَ قَبْلَ السَّلاَمِ، وَإِنْ كَانَ عَامِداً أَسَاءَ، وَهُوَ كَتَارِكِ السُّنَّةِ مُتَعَمِّداً، وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً فَهُوَ كَالَعَامِدِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
اَلثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَذَكَّرَ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ الْأَرْضَ بِيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ، وَقَبْلَ أَنْ يَسْتَوِيَ قَائِماً، فَلاَ يَرْجِعُ، إِذْ لاَ يَرْجِعُ مِنْ فَرْضٍ لِسُنَّةٍ، وَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ، فَإِنْ خَالَفَ وَرَجَعَ عَمْداً أَوْ سَهْواً أَوْ جَهْلاً، فَصَلاَتُهُ صَحِيحَةٌ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ لِلزِّيَادَةِ.
اَلثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَذَكَّرَ بَعْدَ رَفْعِهِ مِنَ السُّجُودِ وَاسْتِوَائِهِ قَائِماً، فَإِنَّهُ يَتَمَادَى عَلَى قِيَامِهِ وَلاَ يَرْجِعُ لِلْجُلُوسِ كَالذِي قَبْلَهُ، إِذْ لَا يَرْجِعَ مِنْ فَرْضٍ لِسُنَّةٍ، وَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ لِنَقْصِ الْجُلُوسِ الْوَسَطِ؛ فَإِنْ رَجَعَ إِلَى الْجُلُوسِ بَعْدَ أَنْ فَارَقَ الْأَرْضَ بِيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ، فَإِنَّهُ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ لِتَمَحُّضِ الزِّيَادَةِ. وَإِلَى جَمِيعِ ذَلِكَ يُشِيرُ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (لَكِنْ قَدْ يَبِينْ لِأَنْ بَنَوْا فِي فِعْلِهِمْ... إلى لَا قَبْلَ ذَا لَكِنْ رَجَعْ).
التقويم:
1. أَذْكُرُ حُكْمَ مَنْ شَكَّ فِي رُكْنِ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ.
2. أُبَيِّنُ: مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ إِمَامٌ نَسِيَ التَّشَهُّدَ الْوَسَطَ، فَقَامَ ثُمَّ رَجَعَ؟
3. مَا حُكْمُ مَنْ نَسِيَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَلنِ صَلَاتِهِ، وَسَجَدَ لَهُ السُّجُودَ الْقَبْلِيَّ؟
الاستثمار: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُلْقِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى الْيَقِينِ، فَإِذَا اسْتَيْقَنَ التَّمَامَ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ تَامَّةً كَانَتِ الرَّكْعَةُ نَافِلَةً وَالسَّجْدَتَانِ، وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً كَانَتِ الرَّكْعَةُ تَمَاماً لِصَلَاتِهِ، وَكَانَتِ السَّجْدَتَانِ مُرْغِمَتَيِ الشَّيْطَانِ». [سنن أبي داود]
أَتَدَبَّرُ الْحَدِيثَ، وَأُبَيِّنُ مَعْنَى الْفَقَرَاتِ اِلْآتِيَةِ:
1. فَإِذَا اسْتَيْقَنَ التَّمَامَ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ.
2. فَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ تَامَّةً كَانَتِ الرَّكْعَةُ نَافِلَةً وَالسَّجْدَتَانِ.
3. وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً كَانَتِ الرَّكْعَةُ تَمَاماً لِصَلَاتِهِ وَكَانَتِ السَّجْدَتَانِ مُرْغِمَتَيِ الشَّيْطَانِ.
تمهيد: مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ: صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، فَمَا حُكْمُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ؟ وَمَا أَحْكَامُهَا وَشُرُوطُهَا؟ وَمَا حُكْمُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رحمه الله:
§ فَصْلٌ بمَوْطِنِ الْقُرَى قَدْ فُرِضَتْ *** صَلَاةُ جُمْعَةٍ لِخُطْبَةٍ تَلَتْ
§ بِجَامِعٍ عَلَى مُقِيمٍ مَا انْعَذَرْ *** حر قَرِيبٍ بِكَفَرْسَخٍ ذَكَرْ
§ وَأَجْزَأَتْ غَيْراً نَعَمْ قَدْ تُنْدَبُ *** عِنْدَ النِّدَا السَّعْيُ إِلَيْهَا يَجِبُ
§ وَسُنَّ غَسْلٌ بِالرَّوَاحِ اِتَّصَلَا *** نُدِبَ تَهْجِيرٌ وَحَالٌ جَمُلَا
§ بِجُمْعَةٍ جَمَاعَةٌ قَدْ وَجَبَتْ *** سُنَّتْ بِفَرْضٍ وَبِرَكْعَةٍ رَسَتْ
§ وَنُدِبَتْ إِعَادَةُ الْفَذِّ بِهَا *** لَا مَغْرِباً كَذَا عِشاً مُوتِرُهَا
شرح المفردات:
1. اَلْجُمُعَةُ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا.
2. بِمَوْطِنِ: اَلْمَوْطِنُ: مَنْزِلُ إِقَامَةِ الْإِنْسَانِ، وُلِدَ فِيهِ أَوْلَمْ يُولَدْ.
3. اَلْقُرَى: جَمْعُ قَرْيَةٍ، وَهِيَ مَجْمَعُ النَّاسِ.
4. فَرْسَخٌ: اَلْفَرْسَخُ: ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، وَهِيَ مَا يُعَادِلُ حَوَالَيْ [5.5 كِيلُومِتْرَاتٍ].
5. اَلرَّوَاِحُ: مُطْلَقُ الذَّهَابِ وَالْمُضِيِّ.
6. تَهْجِيرٌ: اَلتَّهْجِيرُ: اَلسَّيْرُ فِي الْهَاجِرَةِ، وَهِيَ اشْتِدَادُ الْحَرِّ.
7. حَـالٌ: صِفَةٌ وَهَيْئَةٌ.
8. رَسَتْ: ثَبَتَتْ وَرَسَخَتْ.
9. اَلْفَـذِّ: هُوَ اَلْفَرْدُ الْوَاحِدُ.
أَوَّلاً: الْجُمُعَةُ وَحُكْمُهَا وَشُرُوطُهَا
1. حُكْمُ الْجُمُعَةِ
الْجُمُعَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِهَا كَمَا فِي النَّظْمِ، مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْجَمْعِ؛ لاِجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا، وَأَوَّلُ وَقْتِهَا كَالظُّهْرِ، وَإِقَامَتُهَا أَوَّلَ الْوَقْتِ إِثْرَ الزَّوَالِ.
وَهِيَ وَاجِبَةٌ، وَلاَ خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ٩﴾ [الجمعة: 9]
وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «رَوَاحُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ». [سنن النسائي].
وَمِنْ حِكَمِ تَشْرِيعِهَا: اِرْتِقَاءُ الْمُسْلِمِ بِرُوحِهِ وَأَخْلَاقِهِ، لِيُصْبِحَ ذَلِكَ اَلْإِنْسَانَ اَلْمُتَحَلِّيَ بِالْقِيَمِ وَالْأَخْلَاقِ اِلْفَاضِلَةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ خَلْقَ اِللهِ، لِمَا يَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ كُلَّ أُسْبُوعٍ مِنِ اِجْتِمَاعٍ لِلصَّلَاةِ، وَذِكْرٍ للهِ، وَسَمَاعٍ لِلْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ وَالْمَوَاعِظِ، وَتَعَلُّمٍ لِلْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ.
2. شُرُوطُهَا
لِلْجُمُعَةِ شُرُوطُ وُجُوبٍ وَشُرُوطُ أَدَاءٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ:
شُرُوطَ الْأَدَاءِ يُطْلَبُ مِنَ الْمُكَلَّفِ فِعْلُهَا وَالْإِتْيَانُ بِهَا، كَالْخُطْبَةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَشُرُوطُ الْوُجُوبِ لاَ يُطْلَبُ مِنَ الْمُكَلَّفِ الْإِتْيَانُ بِهَا، كَالذُّكُورِيَّةِ وَعَدَمِ الْعُذْرِ.
أ. فَشُرُوطُ الْأَدَاءِ خَمْسَةٌ، وَتُسَمَّى شُرُوطَ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ بِوُجُودِهَا تُعْتَبَرُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ صَحِيحَةً، وَيُعْتَبَرُ الْمُصَلِّي مُؤَدِّياً لَهَا، وَهِيَ:
اَلْأَوَّلُ: اَلِاسْتِيطَانُ؛ وَهُوَ الْإِقَامَةُ بِبَلَدٍ مَبْنِيِّ كَالْمُدُنِ وَالْقُرَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لَمْ يَأُمُرْ بِهَا أَهْلَ الْبَوَادِي، وَعَلَى كَثْرَةِ أَسْفَارِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَثْبُتْ صَلَاتُهُ لَهَا، وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «بَابُ الْجُمُعَةِ فِي الْقُرَى وَالْمُدُنِ». وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: «لاَ جُمُعَةَ وَلاَ تَشْرِيقَ وَلاَ صَلَاةَ فِطْرٍ وَلاَ أَضْحَى إِلَّا فِي مَصْرٍ جَامِعٍ أَوْ مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ». [مصنف ابن أبي شيبة]. وَإِلَى وُجُوبِ الْجُمُعَةِ، وَبَيَانِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (فَصْلٌ بِمَوْطِنِ الْقُرَى قَدْ فُرِضَتْ صَلَاةُ جُمْعَةٍ).
اَلثَّانِي: اَلْخُطْبَةُ قَبْلَ الصَّلَاةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 9]
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: «وَالذِّكْرُ هَاهُنَا: اَلصَّلَاةُ وَالْخُطْبَةُ بِإِجْمَاعٍ». [الاستذكار]. وَلِفِعْلِ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم ، إِذْ ثَبَتَ ثُبُوتاً مُسْتَمِرّاً أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: «كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ إِذَا جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِذَا نَزَلَ أَقَامَ». [سنن النسائي].
وَأَقَلُّهَا: حَمْدُ اللهِ وَالصَّلَاةُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَتَحْذِيرٌ وَتَبْشِيرٌ وَقُرْآنٌ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَمِنْ شَرْطِهَا: وَصْلُهَا بِالصَّلَاةِ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: «وَيَسِيرُ الْفَصْلِ مُغْتَفَرٌ». وَعَلَى كُلِّ ذَلِكَ نَبَّهَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (لِخُطْبَةٍ تَلَتْ).
اَلثَّالِثُ: اَلْجَامِعُ؛ لِثُبُوتِ ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنَ الْبَحْرَيْنِ». [صحيح البخاري] وَقَالَ الْبَاجِي: «مِنْ شَرْطِ الْمَسْجِدِ: اَلْبُنْيَانُ الْمَخْصُوصُ عَلَى صِفَةِ الْمَسَاجِدِ». وَفِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّاظِمِ: (بِجَامِعٍ).
وَتَصِحُّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ فِي رِحَابِ الْمَسَاجِدِ وَالطُّرُقِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ، سَوَاءٌ ضَاقَ الْمَسْجِدُ أَمْ لَا، اِتَّصَلَتِ الصُّفُوفُ أَمْ لَا.
اَلرَّابِعُ: اَلْإِمَامُ؛ لِثُبُوتِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءَ بَعْدَهُ كَانُوا أَئِمَّةَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ.
وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مُقِيماً؛ فَلَا تَصِحُّ خَلْفَ مُسَافِرٍ لَمْ يَنْوِ إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ؛ إِذْ لاَ تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ، وَلِأَنَّ الْمُقِيمَ يَكُونُ أَكْثَرَ اطِّلاَعاً وَفَهْماً لِمُحِيطِهِ.
اَلْخَامِسُ: اَلْجَمَاعَةُ الْحَاضِرَةُ الْبَالِغَةُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً بَاقِينَ لِسَلَامِهَا؛ لِأَنَّهُ الْعَدَدُ الَّذِي بَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَأَى النَّاسُ التِّجَارَةَ؛ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، إِذْ أَقْبَلَتْ عِيرٌ تَحْمِلُ طَعَاماً، فَالْتَفَتُوا إِلَيْهَا حَتَّى مَا بَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾ [الجمعة: 11]»، [صحيح البخاري]. وَإِلَى هَذَا الشَّرْطِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (بِجُمْعَةٍ جَمَاعَةٌ قَدْ وَجَبَتْ).
ب- وَأَمَّا شُرُوطُ الْوُجُوبِ، فَهِيَ الَّتِي إِذَا تَوَفَّرَتْ فِي الشَّخْصِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ:
الْأَوَّلُ: اَلْإِقَامَةُ؛ فَلاَ تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مُسَافِرٍ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: «لَا جُمُعَةَ عَلَى مُسَافِر». [سنن البيهقي] وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ:(عَلَى مُقِيمٍ).
اَلثَّانِي: عَدَمُ وُجُودِ عُذْرٍ يَمْنَعُ الْمُصَلِّيَ مِنْ حُضُورِهَا؛ كَالْمَرَضِ الَّذِي يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الذَّهَابُ إِلَى الْجُمُعَةِ، أَوْ يَقْدِرُ بِمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، وَكَتَمْرِيضِ الْقَرِيبِ، وَالزَّوْجَةِ، أَوْ خَوْفِ ضَيَاعِ الْمَالِ؛ لِحَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا عِلَّةٍ طَبَعَ الله عَلَى قَلْبِهِ». [الموطأ].
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: «فَلَوْ زَالَ الْعُذْرُ وَجَبَتْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلاَ يُصَلِّى الظُّهْرَ جَمَاعَةً إِلاَّ أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ». وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (مَا انْعَذَرْ).
الثَّالِثُ: اَلْقُرْبُ؛ بِأَنْ لاَ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ أَكْثَرُ مِنْ فَرْسَخٍ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، وَهِيَ حَوَالَيْ [خَمْسَةِ كِيلُومِتْرَاتٍ وَنِصْفٍ]؛ لِقَوْلِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَالْعَوَالِي، فَيَأْتُونَ فِي الْغُبَارِ يُصِيبُهُمْ الْغُبَارُ وَالْعَرَقُ، ...». [صحيح البخاري]. وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (قَرِيبٍ بِكَفَرْسَخٍ).
اَلرَّابِعُ: اَلذُّكُورِيَّةُ؛ فَلاَ تَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إِلَّا أَرْبَعَةً؛ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أَوِ اِمْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ». [سنن أبي داود]. وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (ذَكَرٍ).
ثَانِياً: أَحْكَامُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ
1. حُكْمُهَا فِي حَقِّ مَنْ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِمْ
لاَ تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى اَلْمُسَافِرِ وَالْمَعْذُورِ وَالصَّبِيِّ وَالْبَعِيدِ مِنْهَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَلَا عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلَكِنَّهَا مَنْدُوبَةٌ فِي حَقِّهِمْ، فَيُصَلُّونَهَا وَتُجْزِئُهُمْ عَنِ الظُّهْرِ. وَهَذَا مُرَادُ النَّاظِمِ بِقَوْلِهِ: (وَأَجْزَأَتْ غَيْراً، نَعَمْ قَدْ تُنْدَبُ).
2. حُكْمُ السَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ
مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيباً أَوْ بَعِيداً، وَحُكْمُهُمَا كَالْآتِي:
اَلْبَعِيدُ: يَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ قَبْلَ النِّدَاءِ بِمِقْدَارِ مَا يُدْرِكُهَا وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
اَلْقَرِيبُ: يَجِبُ ذَهَابُهُ إِلَيْهَا عِنْدَ النِّدَاءِ أَيْ اَلْأَذَانِ؛ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّاظِمِ: (عِنْدَ النِّدَا السَّعْيُ إِلَيْهَا يَجِبُ).
وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ وَقْتَ السَّعْيِ إِلَيْهَا بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يُفَوِّتُ حُضُورَ الْمُكَلَّفِ لِأَدَائِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ [الجمعة: 9]
وَمِنْ حِكَمِ ذَلِكَ التَّوْجِيهُ إِلَى تَقْديمِ أَمْرِ الدِّينِ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا، وَعَدَمِ التَّقْصِيرِ فِي أَمْرِ اِلدِّينِ وَالْعِبَادَةِ وَمَا يُقَرِّبُ مِنَ اَللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
3. سُنَنُ الْجُمُعَةِ
يُسَنُّ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ غَسْلٌ مُتَّصِلٌ بِالذَّهَابِ إِلَيْهَا، وَالْفَصْلُ الْيَسِيرُ مُغْتَفَرٌ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ». [صحيح البخاري]. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: «الْغُسْلُ لَهَا مَطْلُوبٌ، وَصِفَتُهُ وَمَاؤُهُ كَالْجَنَابَةِ، وَهُوَ سُنَّةٌ لِمَنْ يَأْتِيهَا». وَهَذَا قَوْلُ النَّاظِمِ: (وَسُنَّ غَسْلٌ بِالرَّوَاحِ اتَّصَلَا).
وَفِي هَذَا تَوْجِيهٌ إِلَى حِفْظِ الصِّحَّةِ بِتَطْهِيرِ الْبَدَنِ كُلَّ أُسْبُوعٍ عَلَى اَلْأَقَلِّ، مِمَّا يَكُونُ مَدْعَاةً إِلَى تَجَنُّبِ أَسْبَابِ الْمَرَضِ، وَمَدْعَاةً إِلَى حُسْنِ السَّمْتِ وَالْمَظْهَرِ، وَالِابْتِعَادِ عَنْ كُلِّ مَا يَنْقُصُ مِنْ كَرَامَةِ الْمُسْلِمِ فِي الْمَجَامِعِ وَالْمُلْتَقَيَاتِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ.
4. مَنْدُوبَاتُ الْجُمُعَةِ
يُسْتَحَبُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمْرَانِ:
أ- اَلتَّهْجِيرُ إِلَى الْجُمُعَةِ؛ وَهُوَ الْإِسْرَاعُ وَالذَّهَابُ إِلَيْهَا بَاكِراً؛ لِمَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً...». [صحيح البخاري] وَذَلِكَ قَوْلُ النَّاظِمُ: (نُدِبَ تَهْجِيرٌ).
ب- اَلْهَيْئَةُ الْحَسَنَةُ؛ فَيُسْتَحَبُّ لِمُصَلِّي الْجُمُعَةِ تَحْسِينُ هَيْئَتِهِ، وَذَلِكَ بِالتَّجَمُّلِ بِالثِّيَابِ الْحَسَنَةِ وَاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ؛ لِمَا فِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوِ اتَّخَذَ ثَوْبَيْنِ لِجُمُعَتِهِ سِوَى ثَوْبَيْ مَهْنَتِهِ أَيْ خِدْمَتِهِ». [الموطأ]. وَفِيهِ أَيْضاً: «وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلاَ يَضُرُّهُ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ». [الموطأ]. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّاظِمِ: (وَحَالٌ جَمُلَا).
ثَالِثاً: حُكْمُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ
يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ بِاخْتِلَافِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ حَسَبَ الْآتِي:
1. اَلْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْجُمُعَةِ؛ بِمَعْنَى أَنَّ إِيقَاعَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الْجَمَاعَةِ وَاجِبٌ؛ لِقَوْلِهِ r: «اَلْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ». [سنن أبي داود].
2. اَلْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ مِنْ سَائِرِ الْفَرَائِضِ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: «صَلَاةُ الْخَمْسِ جَمَاعَةً سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ».
ويُدْرَكُ فَضْلُ الْجَمَاعَةِ بِإدْرَاكِ رَكْعَةٍ كَامِلَةٍ بِسَجْدَتَيْهَا؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ». [الموطأ].
قَالَ مَالِكٌ: «وَحَدُّ إِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ أَنْ يُمَكِّنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ مُطْمَئِنّاً قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ». وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: «لاَ يَنْتَظِرُ الْإِمَامُ الْمَسْبُوقَ إِنْ أَحَسَّ بِهِ دَاخِلاً؛ لِأَنَّ مَنْ وَرَاءَهُ أَعْظَمُ عَلَيْهِ حَقّاً مِمَّنْ يَأْتِي، إِلاَّ إِنْ كَاَنتِ الرَّكْعَةَ الْأَخِيرَةَ». وَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: «لاَ يَجُوزُ تَعَدِّي الْمَسْجِدِ الْمُجَاوِرِ إِلَى غَيْرِهِ إِلاَّ لِتَجْرِيحِ إِمَامِهِ». وَفِي حُكْمِ الْجَمَاعَةِ، وَإِدْرَاكِ فَضْلِهَا بِرَكْعَةٍ يَقُولُ النَّاظِمُ: (بِجُمْعَةِ جَمَاعَةٌ قَدْ وَجَبَتْ *** سُنَّتْ بِفَرْضٍ وَبِرَكْعَةٍ رَسَتْ).
وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَلَّى وَحْدَهُ أَنْ يُعِيدَ فِي الْجَمَاعَةِ إِلاَّ صَلاَةَ الْمَغْرِبِ فَلاَ يُعِيدُهَا؛ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ وِتْرُ النَّهَارِ، وَكَذَا الْعِشَاءُ إِنْ أَوْتَرَ بَعْدَهَا؛ لِئَلاَّ يُصَلِّيَ وِتْرَيْنِ، وَأَمَّا إِنْ صَلَّى الْعِشَاءَ وَحْدَهُ وَلَمْ يُوتِرْ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ إِعَادَتُهَا مَعَ جَمَاعَةٍ. وَإِلَى جَمِيعِ ذَلِكَ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: وَنُدِبَتْ إِعَادَةُ الْفَذِّ بِهَا *** لاَ مَغْرِباً كَذَا عِشاً مُوتِرُهَا.
التقويم:
1. أُبْرِزُ الْحِكْمَةَ مِنْ اشْتِرَاطِ كَوْنِ إِمَامِ الْجُمُعَةِ مُقِيماً بِبَلَدِ الْجُمُعَةِ.
2. كَيْفَ أُجِيبُ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى الْبَعِيدِ لِتَوَفُّرِ الْمُوَاصَلَاتِ؟
3. أَطَالَ إِمَامٌ الرُّكُوعَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُدْرِكَ الْمَسْبُوقُ الرَّكْعَةَ، مَا حُكْمُ هَذَا الْفِعْلِ؟
4. أُوَضِّحُ عِلَّةَ عَدَمِ إِعَادَةِ مَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بَعْدَ الْوِتْرِ فِي جَمَاعَةٍ.
الاستثمار: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً». [صحيح البخاري]
وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ أَجْراً فِي الصَّلَاةِ أَبْعَدُهُمْ إِلَيْهَا مَمْشىً فَأَبْعَدُهُمْ، وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْإِمَامِ أَعْظَمُ أَجْراً مِنَ الَّذِي يُصَلِّيهَا ثُمَّ يَنَامُ». [صحيح مسلم]
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ، وَمَا كَثُرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالَى». [سنن أبي داود].
أَتَدَبَّرُ الْأَحَادِيثَ، وَأَقُومُ بِمَا يَلِي:
1. أَسْتَخْلِصُ فَوَائِدَ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.
2. أُضِيفُ بَعْضَ الْفَوَائِدِ الاِجْتِمَاعِيَّةِ لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.
تمهيد: اَلْإِمَامَةُ مَنْصِبُ كَمَالٍ وَشَرَفٍ؛ فَمَا هِيَ شُرُوطُ الْإِمَامَةِ؟ وَمَا الْأَوْصَافُ الَّتِي تُكْرَهُ فِي الْإِمَامِ؟ وَمَا الْأَوْصَافُ الَّتِي لاَ تُكْرَهُ فِيهِ؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رحمه الله:
§ شَرْطُ الْإِمَامِ ذَكَرٌ مُكَلَّفُ *** آتٍ بِالَا رْكانِ وَحُكْماً يَعْرِفُ
§ وَغَيْرُ ذِي فِسْقٍ وَلَحْنٍ وَاقْتِدَا *** فِي جُمْعَةٍ... مُقِيمٌ عُدِّدَا
§ وَيُكْرَهُ السَّلَسُ وَالقُرُوحُ مَعْ *** بَادٍ لِغَيْرِهِ وَمَنْ يُكْرَهُ دَعْ
§ وَكَالْأَشَلِّ وَإِمَامَةٌ بِلاَ *** رِداً بِمَسْجِدٍ صَلاَةٌ تُجْتَلَى
§ بَيْنَ الْأَسَاطِينِ وَقُدَّامَ الْإِمَامْ *** جَمَاعَةٌ بَعْدَ صَلاَةِ ذِي الْتِزَامْ
§ ....................... *** ........... وَرَاتِبٌ مَجْهُولٌ
شرح المفردات:
1. اَلْأَشَـلُّ: يَابِسُ الْيَدِ بِسَبَبِ جُرْحٍ أَوْ غَيْرِهِ.
2. اَلْأَسَاطِينُ: جَمْعُ أُسْطُوَانَةٍ، وَهِيَ اَلْأَعْمِدَةُ.
3. اَلْقُـرُوحُ: اَلْجِرَاحَاتُ الَّتِي اجْتَمَعَ فِيهَا الْقَيْحُ.
أَوَّلاً: شُرُوطُ الْإِمَامِ
شُرُوطُ الْإِمَامِ عَلَى قِسْمَيْنِ:
شُرُوطُ صِحَّةٍ؛ وَهِيَ الَّتِي إِنْ عُدِمَتْ بَطَلَ الاِقْتِدَاءُ بِذَلِكَ الْإِمَامِ، وَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ، وَتُعَادُ أَبَداً.
وَشُرُوطُ كَمَالٍ؛ وَهِيَ الَّتِي لاَ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بدِونِهَا. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْآتِي:
1. شُرُوطُ الصِّحَّةِ
بَيَّنَ النَّاظِمُ شُرُوطَ الصِّحَّةِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْآتِي:
أ- اَلذُّكُورِيَّةُ؛ فَيُشْتَرَطُ فِي الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ ذَكَراً، فَمَنْ صَلَّى خَلْفَ امْرَأَةٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ رَجُلاً كَانَ الْمَأْمُومُ أَوِ امْرَأَةً؛ لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «... أَلَا لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا». [سنن ابن ماجة].
ب- اَلتَّكْلِيفُ؛ فَيُشْتَرَطُ فِي الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفاً؛ أَيْ عَاقِلاً بَالِغاً، فَمَنِ ائْتَمَّ بِمَجْنُونٍ أَوْ بِسَكْرَانٍ غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ، أَوْ بِصَبِىٍّ أَعَادَ أَبَداً؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ». [ سنن أبي داود]. وَإِلَى هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (شَرْطُ الْإِمَامِ ذَكَرٌ مُكَلَّفُ).
ج- اَلْقُدْرَةُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْأَرْكَانِ؛ فَيُشْتَرَطُ فِي الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ قَادِراً عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَالْإِتْيَانِ بِأَرْكَانِهَا، مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلاَ يَصِحُّ ائْتِمَامُ الْقَادِرِ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَاجِزِ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: «وَيَؤُمُّ الْجَالِسُ لِعُذْرٍ مِثْلَهُ اتِّفَاقاً، فَإِنْ عَرَضَ لِلْإِمَامِ مَا يَمْنَعُهُ الْقِيَامَ، اِسْتَخْلَفَ وَرَجَعَ إِلَى الصَّفِّ مَأْمُوماً، فَإِنْ أَمَّ أَعَادَ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ أَبَداً».
د- مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ؛ فَيُشْتَرَطُ فِي الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ عَالِماً بِالْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالصَّلاَةِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ...». [صحيح مسلم]. وَإِلَى هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (آتٍ بِالَا رْكَانِ وَحُكْماً يَعْرِفُ).
هـ- عَدَمُ الْفِسْقِ؛ فَيُشْتَرَطُ فِي الْإِمَامِ كَوْنُهُ غَيْرَ فَاسِقٍ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «... وَلَا يَؤُمَّ فَاجِرٌ مُؤْمِناً». [سنن ابن ماجة] وَذَلِكَ لِأَنَّ الإِمَامَةَ مَنصِبُ كَمَالٍ وَشَرَفٍ وَشَفَاعَةٍ يُخْتَارُ لَهَا الْأَقْدَرُ وَالْأَفْقَهُ وَالْأَصْلَحُ مِنَ النَّاسِ.
و- عَدَمُ اللَّحْنِ؛ فَيُشْتَرَطُ فِي الْإِمَامِ كَوْنُهُ غَيْرَ لَحَّانٍ، وَمِنَ اللَّحْنِ عَدَمُ تَمْيِيزِ الضَّادِ مِنَ الظَّاءِ، وَرَفْعُ الْمَنْصُوبِ، وَنَصْبُ الْمَرْفُوعِ، وَتَغْيِيرُ الْحَرْفِ لِلْعُجْمَةِ؛ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ حَدِيثُ عَطَاءٍ قَالَ: «اجْتَمَعَتْ جَمَاعَةٌ فِي الْحَجِّ، فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ أَعْجَمِيُّ اللِّسَانِ، فَأَخَّرَهُ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَقَدَّمَ غَيْرَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ.. فَقَالَ لَهُ أَصَبْتَ». [سنن البيهقي].
ز- عَدَمُ الاِقْتِدَاءِ بِغَيْرِهِ؛ فَيُشْتَرَطُ فِي الْإِمَامِ أَنْ لَا يَكُونَ مُقْتَدِياً بِغَيْرِهِ؛ فَمَنِ ائْتَمَّ بِمَأْمُومٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ كَالْمَسْبُوقِ الَّذِي يَقْضِى مَافَاتَهُ، فَيَأْتَمُّ بِهِ آخَرُ. وَإِلَى الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (وَغَيْرُ ذِي فِسْقٍ وَلَحْنٍ وَاقْتِدَا).
وَيُضَافُ فِي حَقِّ إِمَامِ الْجُمُعَةِ لِشُرُوطِ صِحَّةِ الْإِمَامَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ شَرْطٌ آخَرُ، وَهُوَ:
ي- اَلْإِقَامَةُ؛ فَلاَ تَصِحُّ الْجُمُعَةُ خَلْفَ مُسَافِرٍ إِذْ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَنْوِىَ إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَأَكْثَرَ. وَفِي هَذَا الشَّرْطِ قَالَ النَّاظِمُ: (فِي جُمْعَةٍ *** مُقِيمٌ عُدِّدَا).
2. شُرُوطُ الْكَمَالِ
يُسْتَحْسَنُ فِي الْإِمَامِ الاِتِّصَافُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَقَدْ يَتَّصِفُ الْإِمَامُ بِصِفَاتٍ لاَ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِمَامَةِ، وَلَكِنْ تَرْكُ إِمَامَةِ الْمُتَّصِفِ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَوْلَى؛ لِمَكَانَةِ مَنصِبِ الإمَامَةِ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ هِيَ مَا يَأْتِي:
أ- إِمَامَةُ صَاحِبِ السَّلَسِ وَالْقُرُوحِ لِلسَّالِمِ مِنْ ذَلِكَ؛ قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: «اخْتُلِفَ فِي مَنْ بِهِ قُرُوحٌ؛ هَلْ تَجُوزُ لَهُ إِمَامَةُ غَيْرِهِ، وَتَرْكُ إِمَامَتِهِ أَحْسَنُ إِلاَّ لِذِي صَلاَحٍ». وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (وَيُكْرَهُ السَّلَسُ وَالْقُرُوحُ).
ب- إِمَامَةُ مَنْ تَكْرَهُهُ الْجَمَاعَةُ؛ لِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةً: رَجُلٌ أَمَّ قَوْماً وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ...». [سنن الترمذي].
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: «إِنْ كَرِهَهُ أَكْثَرُ الْجَمَاعَةِ أَوْ أَفْضَلُهُمْ وَجَبَ تَأْخِيرُهُ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ غَيْرَ ظَالِمٍ، فَإِثْمُهُ عَلَى مَنْ كَرِهَهُ». وَإِلَى هَذَا الشَّرْط أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ يُكْرَهُ دَعْ).
ج- إِمَامَةُ الْأَشَلِّ وَمَقْطُوعِ الْيَدِ، قَالَ الْبَاجِي: «جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِإِمَامَةِ الْأَقْطَعِ وَالْأَشَلِّ» إِلاَّ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَفْقَهَ وَالْأَقْرَأَ، فَيَكُونُ أَوْلَى بِالإِمَامَةِ.
د- اَلْإِمَامَةُ فِي الْمَسْجِدِ بِلَا رِدَاءٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَأْتَزِرْ وَلْيَرْتَدِ». [سنن البيهقي]. وَفِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَالِكٌ: «أَكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ بِغَيْرِ رِدَاءٍ». وَيَقُومُ مَقَامَ الرِّدَاءِ كُلُّ مَا تَحْصُلُ بِهِ الزِّينَةُ وَالْهَيْبَةُ وَالْوَقَارُ، مِثْلُ الْجِلْبَابِ وَالسَّلْهَامِ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (وَإمَامَةٌ بِلاَ رِداً).
هـ- اِتِّخَاذُ مَنْ جُهِلَ حَالُهُ (لَمْ يُعْرَفْ) إِمَاماً رَاتِباً؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ زَارَ قَوْماً فَلَا يَؤُمُّهُمْ، وَلْيَؤُمَّهُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ». [سنن أبي داود]. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: «لَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْتَمَّ بِمَجْهُولٍ إِنْ كَانَ إِمَاماً رَاتِباً». وَهَذَا مُرَادُ النَّاظِمِ بِقَوْلِهِ: (وَرَاتِبٌ مَجْهُولٌ)، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ رَاتِبٍ جَازَتْ إِمَامَتُهُ.
وَقَدِ اسْتَطْرَدَ النَّاِظِمُ أَثْنَاءَ شُرُوطِ الْكَمَالِ، فَذَكَرَ مَسَائِلَ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ شَارَكَتْ مَا قَبْلَهَا فِي الْكَرَاهَةِ وَهِيَ:
الصَّلَاةُ بَيْنَ الْأَسَاطِينِ أَيْ اَلسَّوَارِي؛ لِتَقَطُّعِ الصُّفُوفِ، لِحَدِيثِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ مَحْمُودٍ قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَدُفِعْنَا إِلَى السَّوَارِي فَتَقَدَّمْنَا وَتَأَخَّرْنَا، فَقَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نَتَّقِي هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ».[سنن أبي داود]. قَالَ مَالِكٌ: «لَا بَأْسَ بِالصُّفُوفِ بَيْنَ الْأَسَاطِينِ إِذَا ضَاقَ الْمَسْجِدُ، وَإِنَ كَانَ الْمَسْجِدُ مُتَّسِعاً كَرِهْتُ الصَّلَاةَ بَيْنَهُمَا». وَهَذَا هُوَ قَوْلُ النَّاظِمِ: (بِمَسْجِدٍ صَلاَةٌ تُجْتَلَى بَيْنَ الْأَسَاطِينِ).
الصَّلَاةُ قُدَّامَ الْإِمَامِ بِلَا ضَرُورَةٍ؛ وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِضِيقِ الْمَسْجِدِ. وَذَلِكَ مُرَادُ النَّاظِمِ بِقَوْلِهِ: (وَقُدَّامَ الْإِمَامْ).
وَمِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ: أَنَّهُمْ قَدْ يُخْطِئُونَ فِي تَرْتِيبِ الرَّكَعَاتِ.
الصَّلَاةُ جَمَاعَةً بَعْدَ صَلَاةِ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ؛ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: «وَلَا تُجْمَعُ صَلَاةٌ فِي مَسْجِدٍ لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ مَرَّتَيْنِ». يَعْنِي صَلَاةَ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ، أَمَّا إِقَامَةُ الصَّلَاةِ جَمَاعَةً قَبْلَ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ، أَوْ مَعَهُ، فَحَرَامٌ. وَذَلِكَ قَوْلُ النَّاظِمُ: (جَمَاعَةٌ بَعْدَ صَلاَةِ ذِي الْتِزَامْ). قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: «إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَسْجِداً لَيْسَ لَهُ إمَامٌ رَاتِبٌ، فَلِكُلِّ مَنْ جَاءَ أَنْ يَجْمَعَ فِيهِ». يَعْنِي كَمَسَاجِدِ مَحَطَّاتِ الاِسْتِرَاحَةِ.
وَالْحِكْمَةُ فِي كَرَاهَةِ ذَلِكَ: دَفْعُ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنَ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
ثَانِياً: ما لَا يَمْنَعُ مِنْ الْإِمَامَةِ:
قَدْ يَتَّصِفُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ تَبْدُو فِي ظَاهِرِهَا نَقْصاً، وَيُتَوَهَّمُ مَعَهَا عَدَمُ جَوَاِز إِمَامَةِ مَنِ اِتَّصَفَ بِهَا كَالعَمَى وَالُّلكْنَةِ وَالْجُذَامِ الْخَفِيفِ، وَالْحُكْمُ جَوَازُ إِمَامَةِ مَنِ اتَّصَفَ بِهَا؛ فَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: «اِسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يَؤُمُّ النَّاسَ وَهُوَ أَعْمَى». [سنن أبي داود]، وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: «إِمَامَةُ الْمَجْذُومِ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ، إِلَّا أَنْ يَتَفَاحَشَ جُذَامُهُ وَيَتَأَذَّى بِهِ مَنْ يُخَالِطُهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنِ الْإِمَامَةِ، فَإِنْ أَبَى أُجْبِرَ عَلَى الْعَزْلِ».
وَالحَاصِلُ أَنَّ إِمَامَةَ الصَّلَاِة مُهِمَّةٌ جَلِيلَةٌ، وَدَرَجَةٌ شَرِيفَةٌ، وَمَسْؤُولِيَّةٌ كَبِيرَةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، تَسْتَوْجِبُ تَعْظِيمَ مَقَامِهَا، وَاسْتِجْمَاعَ شَرَائِطِهَا، وَالتَّخَلُّقَ بآدَابِهَا، والْوَفَاءَ بِحُقُوقِ اللهِ وحُقُوقِ الْعِبَادِ فِيهَا، وَتَنْزِيهَهَا مِنْ كُلِّ الْمَوَانِعِ الَّتِي تُخِلُّ بِمَكَانَتِهَا وَرِسَالَتِهَا وَحُرْمَتِهَا.
التقويم:
1. أُبَيِّنُ شُرُوطَ الْإِمَامِ مَعَ الاِسْتِدْلَالِ بِالْمَتْنِ.
2. أُوَضِّحُ الْمَقْصِدَ الشَّرْعِيَّ مِنِ اشْتِرَاطِ شُرُوطِ الْكَمَالِ فِي الْإِمَامِ.
3. أُبْرِزُ الْحِكْمَةَ مِنْ كَرَاهَةِ الْجَمَاعَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ.
الاستثمار: قَالَ الْأَجْهُورِيُّ رحمه الله:
أَجِزْ صَلَاةَ جُلُوسٍ خَلْفَ كَامِلَةٍ *** وَعَكْسُ هَـذَا وَلَوْ فِي النَّفْلِ مُمْتَنِعٌ
إِلَّا إِذَا جَلَسَ الْمَأْمُومُ مَعْهُ بِـلَا *** عَجْزٍ يَجُوزُ بِنَفْلٍ وَالسِّوَى مَنَعـُوا
وَإِنْ يَكُنْ مِنْهُمَا عَجْزٌ فَسَوِّ إِذاً *** فَرْضاً وَنَفْلاً فـَإِنَّ الْأَمْـرَ مُتَّسِعُ
[حاشية الطالب ابن الحاج على الدر الثمين لميارة]
أَقْرَأُ الْأَبْيَاتَ، وَأَقُومُ بِالْآتِي:
1. أُبَيِّنُ حَالَاتِ الْإِمَامَةِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا الْأَبْيَاتُ.
2. أُمَيِّزُ الْحَالَاتِ الْجَائِزَةَ عَنِ الْمَمْنُوعَةِ.
تمهيد: مِنْ حِكْمَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَاةِ؛ إِظْهَارُ تَمَامِ التَّآلُفِ وَالاِتِّحَادِ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِذَلِكَ أَوْجَبَ الشَّرْعُ عَلَى الْمَأْمُومِ تَمَامَ اتِّبَاعِ الْإِمَامِ، وَشَرَعَ لِلْمَسْبُوقِ أَحْكَاماً تَرْتَبِطُ بِهِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ.
فَمَا حُكْمُ اقْتِدَاءِ الْمَأْمُومِ بِالْإِمَامِ؟ وَمَا هِيَ أَحْكَامُ الْمَسْبُوقِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رحمه الله:
§ وَالْمُقْتَدِي اِلْإِمَامَ يَتْبَعُ خَلاَ *** زِيَادَةٍ قَدْ حُقِّقَتْ عَنْهَا اَعْدِلاَ
§ وَأَحْرَمَ اَلْمَسْبُوقُ فَوْراً وَدَخَلْ *** مَعَ اَلْإِمَامِ كَيْفَمَا كَانَ اَلْعَمَلْ
§ مُكَبِّراً إنْ سَاجِداً أَوْ رَاكِعَا *** أَلْفَاهُ لَا فِي جَلْسَةٍ وَتَابِعَا
§ إِنْ سَلَّمَ اَلْإِمَامُ قَامَ قَاضِيَا *** أَقْوَالَهُ وَفِي الْفِعَالِ بَانِيَا
شرح المفردات:
1. الْمُقْتَدِي: مِنْ اِقْتَدَى بِفُلَانٍ: اِتَّبَعَهُ وَفَعَلَ فِعْلَهُ.
2. خَــلاَ: أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ بِمَعْنَى إِلاَّ.
3. الْمَسْبُوقُ: مَنْ سُبِقَ بِرَكْعَةٍ فَأَكْثَرَ مِنَ الصَّلَاةِ.
4. أَلْـفَـاهُ: وَجَدَهُ.
أَوَّلاً: أَحْكَامُ الْمَأْمُومِ
يَجِبُ عَلَى الْمُقْتَدِي بِالْإِمَامِ- وَهُوَ الْمَأْمُومِ- أَنْ يَتْبَعَ إِمَامَهُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ؛ لِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «رَكِبَ فَرَساً فَصُرِعَ فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، فَصَلَّى صَلَاةً مِنَ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُوداً، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا صَلَّى قَائِماً فَصَلُّوا قِيَاماً، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى جَالِساً فَصَلُّوا جُلُوساً أَجْمَعُونَ». [صحيح البخاري].
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا زَادَ الْإِمَامُ فِي صَلَاتِهِ زِيَادَةً مُحَقَّقَةً، تَحَقَّقَ الْمَأْمُومُ أَنَّهَا لِغَيْرِ مُوجِبٍ، فَإِنَّهُ لَا يَتْبَعُ إِمَامَهُ فِيهَا.
وَصُورَةُ ذَلِكَ: أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ لِلرَّكْعَةِ الْخَامِسَةِ فِي الصَّلاَةِ الرُّبَاعِيَّةِ، أَوْ يَقُومَ لِلرَّكْعَةِ الرَّابِعَةِ فِي الصَّلَاةِ الثُّلَاثِيَّةِ، أَوْ يَقُومَ لِلرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ فِي الصَّلَاةِ الثُّنَائِيَّةِ. وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَأْمُومِينَ يَنْقَسِمُونَ إِلَى قِسْمَيْنِ:
اَلْأَوَّلُ: مَنْ تَيَقَّنَ انْتِفَاءَ مُوجِبِ الْخَامِسَةِ؛ لِعِلْمِهِ بِتَمَامِ صَلَاتِهِ وَصَلَاةِ إِمَامِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْجُلُوسُ، وَيُسَبِّحُ لِإِمَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْقَهْ أَوْ شَكَّ، كَلَّمَهُمْ أَوْ كَلَّمَهُ بَعْضُهُمْ، وَعَمِلَ بِكَلَامِهِمْ، وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ مُغْتَفَرٌ مَا لَمْ يَكْثُرْ.
اَلثَّانِي: مَنْ لَمْ يَنْتَفِ عِنْدَهُ مُوجِبُ الْخَامِسَةِ، وَتَيَقَّنَ الْمُوجِبَ، أَوْ ظَنَّ ذَلِكَ، أَوْ شَكَّ فِيهِ، أَوْ تَوَهَّمَهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ فِي قِيَامِهِ لِلْخَامِسَةِ. وَمَنْ جَلَسَ مِنْهُمْ عَمْداً بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِمُخَالَفَتِهِ مَا أُمِرَ بِهِ، وَسَهْواً لَا تَبْطُلُ، وَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ مَكَانَ الَّتِي بَطَلَتْ.
وَالْمُرَادُ بِالْمُوجِبِ أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ لِلْخَامِسَةِ لِبُطْلَانِ إِحْدَى الرَّكَعَاتِ الْأَرْبَعِ قَبْلَهَا. وَفِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ قَوْلُ النَّاظِمِ: (وَالْمُقْتَدِي الْإِمَامَ... إلى عَنْهَا اعْدِلاَ).
ثَانِياً: أَحْكَامُ الْمَسْبُوقِ
اَلْمَسْبُوقُ هُوَ: الَّذِي سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَتَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
1. كَيْفِيَّةُ دُخُولِ الْمَسْبُوقِ مَعَ الْإِمَامِ:
إِذَا دَخَلَ اَلْمَسْبُوقُ فَوَجَدَ الْإِمَامَ يُصَلِّي، فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ فَوْراً، وَيَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ كَيْفَمَا وَجَدَهُ، قَائِماً أَوْ رَاكِعاً أَوْ سَاجِداً أَوْ جَالِساً؛ لِحَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: «كَانُوا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ وَقَدْ سَبَقَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِبَعْضِ الصَّلَاةِ، فَيُشِيرُ إِلَيْهِمْ كَمْ صَلَّى بِالْأَصَابِعِ وَاحِدَةً اِثْنَتَيْنِ، فَجَاءَ مُعَاذٌ وَقَدْ سَبَقَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِبَعْضِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: لَا أَجِدُهُ عَلَى حَالٍ إِلَّا كُنْتُ عَلَيْهَا ثُمَّ قَضَيْتُ، فَدَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ مُعَاذٌ يَقْضِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" قَدْ سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ، فَهَكَذَا فَافْعَلُوا». [سنن البيهقي] وَفِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّاظِمِ:
وَأَحْرَمَ الْمَسْبُوقُ فَوْراً وَدَخَلْ *** مَعَ الْإِمَامِ كَيْفَمَا كَانَ الْعَمَلْ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ قَدْ وَجَدَهُ رَاكِعاً أَوْ سَاجِداً كَبَّرَ تَكْبِيرَةً أُخْرَى لِلرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَجَدَهُ فِي الْجُلُوسِ وَأَحْرَمَ فِي الْقِيَامِ، فَلَا يُكَبِّرُ إِلَّا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ فَقَطْ. وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ النَّاظِمُ: (مُكَبِّراً إنْ سَاجِداً أَوْ رَاكِعاً *** أَلْفَاهُ لَا فِي جَلْسَةٍ وَتَابِعاً)
2. قَضَاءُ الْمَسْبُوقِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ
إِذَا سَلَّمَ اَلْإِمَامُ وَأَرَادَ الْمَسْبُوقُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا فَاتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ مَعَ الْإِمَامِ، فَإِنَّهُ: يَقْضِي الْأَقْوَالَ كَمَا فَاتَتْهُ، يَعُدُّ مَا أَدْرَكَ آخِرَ صَلَاتِهِ، وَمَا فَاتَهُ أَوَّلَهَا، فَيَقْضِيهِ وَيَبْنِى فِي الْأَفْعَالِ عَلَى مَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ، يَجْعَلُهُ أَوَّلَ صَلَاتِهِ، وَيَأْتِي بِآخِرِهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَلَا تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا». [صحيح البخاري] وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «صَلِّ مَا أَدْرَكْتَ، وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ». [صحيح مسلم].
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: «وَقَدْ عَمِلَ الْجُمْهُورُ بِمُقْتَضَى اللَّفْظَيْنِ؛ فَمَا أَدْرَكَ الْمَأْمُومُ مَعَ الْإِمَامِ هُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَقْضِي مِثْلَ الَّذِي فَاتَهُ مِنْ قِرَاءَةِ السُّورَةِ مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ». [فتح الباري]
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ: «كَانَ إِذَا فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ، أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، قَامَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ عُمَرَ فَقَرَأَ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَقْضِي، وَجَهَرَ». [الموطأ].
وَذَلِكَ قَوْلُ النَّاظِمِ: إِنْ سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ قَاضِيَا *** أَقْوَالَهُ وَفِي الَافْعَالِ بَانِيَا.
التقويم:
1. أُفَصِّلُ حُكْمَ جُلُوسِ الْمَأْمُومِ بَعْدَ قِيَامِ إِمَامِهِ لِخَامِسَةٍ.
2. أُقَوِّمُ صَلَاةَ مَنْ كَلَّمَ الْإِمَامَ لِيُوَضِّحَ لَهُ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ سَهْوٍ.
3. أُبْرِزُ الْحِكْمَةَ مِنْ إِتْيَانِ الصَّلَاةِ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ.
الاستثمار: قَالَ الْقَرَوِيُّ رحمه الله: «إِذَا سُبِقَ الْمَأْمُومُ بِالتَّكْبِيرِ فِي صَلَاةِ الْجَنَازَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُكَبِّرُ، بَلْ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حَتَّى يُكَبِّرَ فَيُكَبِّرُ مَعَهُ، وَلَا يُكَبِّرُ حَالَ اشْتِغَالِ الْمُصَلِّينَ بِالدُّعَاءِ، فَإِنْ كَبَّرَ صَحَّتْ وَلَا يَعْتَدُّ بِهَا، وَيَدْعُو الْمَسْبُوقُ بَعْدَ تَكْبِيرِهِ الْوَاقِعِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ إِنْ تُرِكَتِ الْجَنَازَةُ، فَإِنْ رُفِعَتْ وَالَى التَّكْبِيرَ بِدُونِ دُعَاءٍ». [الخلاصة الفقهية]
§ أَتَمَعَّنُ النَّصَّ، وَأَسْتَخْلِصُ مِنْهُ أَحْكَامَ الْمَسْبُوقِ فِي صَلَاةِ الْجَنَازَةِ.
تمهيد: الِاقْتِدَاءُ بِالْإِمَامِ يَقْتَضِي اِرْتِبَاطَ الْمَأْمُومِ بِالْإِمَامِ، وَيَقْتَضِي ارْتِبَاطُهُمَا تَلَازُمَ صَلَاتَيْهِمَا فِي الصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ إِلاَّ فِي مَسَائِلَ لَا تَبْطُلُ فِيهَا صَلَاةُ الْمَأْمُومِ، وَلَوْ بَطَلَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ.
فَمَا هِيَ بَقِيَّةُ أَحْكَامِ الْمَسْبُوقِ بَعْدَ سَلَامِ اِلْإِمَامِ؟ وَمَا هِيَ الْمَسَائِلُ الَّتِي لَا تَبْطُلُ فِيهَا صَلاَةُ الْمَأْمُومِ، وَلَوْ بَطَلَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ؟
النظم: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَاشِرٍ رحمه الله:
§ كَبَّرَ إِنْ حَصَّلَ شَفْعاً أَوْ أَقَلّ *** مِنْ رَكْعَةٍ وَالسَّهْوَ إِذْ ذَاكَ احْتَمَلْ
§ وَيَسْجُدُ الْمَسْبُوقُ قَبْلِيَّ الْإِمَامْ *** مَعْهُ وَبَعْدِيّاً قَضَى بَعْدَ السَّلَامْ
§ أَدْرَكَ ذَاكَ السَّهْوَ أَوْلَا قَيَّدُوا *** مَنْ لَمْ يُحَصِّلْ رَكْعَةً لَا يَسْجُد
§ وَبَطَلَتْ لِمُقْتَدٍ بِمُبْطِلِ *** عَلَى الْإِمَامِ غَيْرَ فَرْعٍ مُنْجَلِ
§ مَنْ ذَكَرَ الْحَدَثَ أَوْ بِهِ غُلِبْ *** إِنْ بَادَرَ الْخُرُوجَ مِنْهَا وَنُدِبْ
§ تَقْدِيمُ مُؤْتَمٍّ يُتِمُّ بِهِمُ *** فَإِنْ أَبَاهُ انْفَرَدُوا أَوْ قَدَّمُوا
شرح المفردات:
1. شَفْعاً: الشَّفْعُ؛ الزَّوْجُ مِنَ الْعَدَدِ: اِثْنَانِ، أَرْبَعَةٌ، سِتَّةٌ، ثَمَانِيَةٌ، ....
2. مُنْجَلٍ: مُنْكَشِفٌ ظَاهِرٌ.
3. اَلْحَدَثُ: هُوَ الْوَصْفُ الْحُكْمِيُّ الْمَانِعُ مِنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا.
4. بَادَرَ: بَادَرَ إِلَى الشَّيْءِ: أَسْرَعَ.
5. مُؤْتَمٍّ: الْمُؤْتَمُّ: الْمُقْتَدِي الْمُتَّبِعُ لِغَيْرِهِ.
6. أَبَاهُ: أَبَى الشَّيْءَ: اِمْتَنَعَ مِنْهُ.
أَوَّلاً: أَحْكَامُ الْمَسْبُوقِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ
1. كَيْفِيَّةُ قِيَامِهِ
لِلْمَسْبُوقِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ عِنْدَ الْقِيَامِ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ حَالَتَانِ:
أ- قِيَامُهُ بِالتَّكْبِيرِ إِنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَتَيْنِ؛ كَأَنْ يُدْرِكَ الرَّكَعَةَ الثَّالِثَةَ مِنَ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَةِ، أَوْ يُدْرِكَ الرَّكَعَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، فَإِنَّهُ يَقُومُ بِالتَّكْبِيرِ إِذْ ذَاكَ؛ لِأَنَّ جُلُوسَ الْإِمَامِ الَّذِي سَلَّمَ مِنْهُ، وَافَقَ ثَانِيَةَ هَذَا الْمَسْبُوقِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ قَامَ لِلثَّالِثَةِ.
وَكَذَا إِنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ رُكُوعِ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ، فَإِنَّهُ يَقُومُ بِالتَّكْبِيرِ؛ لِكَوْنِهِ شَبِيهاً بِالْمُسْتَفْتِحِ لِلصَّلَاةِ.
ب- قِيَامُهُ بِغَيْرِ تَكْبِيرٍ إِنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً، أَوْ ثَلاَثَ رَكَعَاتٍ؛ كَأَنْ يُدْرِكَ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ، أَوْ رَابِعَتَهَا، أَوْ يُدْرِكَ الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ مِنَ الصَّلَاةِ الثُّلاَثِيَّةِ أَوْ يُدْرِكَ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الصَّلَاةِ الثُّنَائِيَّةِ؛ لِجُلُوسِهِ بِالتَّكْبِيرَةِ الَّتِي كَانَ سَيَقُومُ بِهَا. وَإِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (كَبَّرَ إِنْ حَصَّلَ شَفْعاً أَوْ أَقَلّْ مِنْ رَكْعَةٍ).
سَهْوُهُ فِي الْقَضَاءِ
إِذَا سَهَا الْمَسْبُوقُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَقِيَامِهِ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يَحْمِلُ عَنْهُ سَهْوَهُ، لِانْفِصَالِهِ عَنْ إِمَامِهِ بِالسَّلَامِ وَاسْتِقْلَالِهِ كَالْفَذِّ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَتَحَمَّلُ السَّهْوَ عَنِ الْمَأْمُومِ مَا دَامَ مُقْتَدِياً بِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ عَلَى مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ سَهْوٌ، فَإِنْ سَهَا الْإِمَامُ فَعَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ السَّهْوُ، وَإِنْ سَهَا مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ سَهْو،ٌ وَالْإِمَامُ كَافِيهِ». [سنن الدارقطني]. وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (وَالسَّهْوَ إذْ ذَاكَ احْتَمَلْ).
سُجُودُهُ لِسَهْوِ الْإِمَامِ
فِي الْمَسْبُوقِ -إِذَا سَجَدَ إِمَامُهُ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلاَمِ أَوْ بَعْدَهُ- تَفْصِيلٌ هُوَ الْآتِي:
إِنْ أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً فَأَكْثَرَ، وَتَرَتَّبَ عَلَى الْإِمَامِ السُّجُودُ، فَهُوَ بَيْنَ حَالَتَيْنِ:
إِنْ كَانَ السُّجُودُ قَبْلِيّاً، سَجَدَهُ مَعَهُ.
إِنْ كَانَ السُّجُودُ بَعْدِيّاً، فَلاَ يَسْجُدُهُ مَعَ الْإِمَامِ، بَلْ يَقْضِيهِ بَعْدَ سَلَامِهِ هُوَ، فَإِنْ سَجَدَهُ مَعَ الْإِمَامِ مُتَعَمِّداً بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ سَجَدَهُ مَعَهُ سَهْواً، أَعَادَهُ بَعْدَ سَلَامِهِ. وَهَذَا مُرَادُ النَّاظِمِ بِقَوْلِهِ:
وَيَسْجُدُ الْمَسْبُوقُ قَبْلِيَّ الْإِمَامْ *** مَعْهُ وَبَعْدِيّاً قَضَى بَعْدَ السَّلَامْ .
وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يُدْرِكَ هَذَا الْمَسْبُوقُ السَّهْوَ مَعَ الْإِمَامِ أَوْ لَا؛ بِأَنْ كَانَ الْإِمَامُ سَهَا قَبْلَ دُخُولِ هَذَا الْمَسْبُوقِ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ.
وَإِلَى كُلِّ ذَلِكَ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (أَدْرَكَ ذَاكَ السَّهْوَ أَوْ لاَ).
إِنْ أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ، فَلاَ سُجُودَ عَلَيْهِ أَصْلاً، فَلَا يَسْجُدُ مَعَ الْإِمَامِ لَا سُجُوداً قَبْلِيّاً وَلَا سُجُوداً بَعْدِيّاً، بَلْ يَقُومُ لِأَدَاءِ صَلَاتِهِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ. وَفِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّاظِمِ: (قَيَّدُوا مَنْ لَمْ يُحَصِّلْ رَكْعَةً لاَ يَسْجُدُ).
ثَانِياً: حُكْمُ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ إِذَا بَطَلَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ
أ- إِذَا بَطَلَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ سَرَى الْبُطْلَانُ لِصَلَاةِ الْمَأْمُومِ فَتَبْطُلُ أَيْضاً؛ لاِرْتِبَاطِ صَلَاتِهِ بِصَلَاةِ إِمَامِهِ، إِلاَّ فِى مَسْأَلَتَيْنِ تَبْطُلُ فِيهِمَا صَلَاةُ الْإِمَامِ، وَلاَ تَبْطُلُ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ، وَهُمَا:
إِذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ مُحْدِثٌ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَصَفَّ النَّاسُ صُفُوفَهُمْ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ مَقَامَهُ، ثُمَّ أَوْمَأَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ أَنْ مَكَانَكُمْ، فَخَرَجَ وَقَدِ اِغْتَسَلَ وَرَأْسُهُ يَنْطِفُ، فَصَلَّى بِهِمْ». [الإمام أحمد، مسند أبي هريرة].
ب- إِذَا غَلَبَ الْحَدَثُ الْإِمَامَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيُعِدِ الصَّلَاةَ». [سنن أبي داود]. وَهَذَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ:
(وَبَطَلَتْ لِمُقْتَدٍ بِمُبْطِلِ *** عَلَى الْإِمَامِ غَيْرَ فَرْعٍ مُنْجَلِ *** مَنْ ذَكَرَ الْحَدَثَ أَوْ بِهِ غُلِبْ).
وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِبُطْلَانِ صَلَاةِ اِلْإِمَامِ دُونَ اَلْمَأْمُومِ أَحْكَامٌ:
أ- أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ فِي هَذَيْنِ الْفَرْعَيْنِ، مُبَادَرَةُ الْإِمَامِ بِالْخُرُوجِ مِنَ الصَّلَاةِ؛ فَإِنْ لَمْ يُبَادِرْ بِالْخُرُوجِ بَطَلَتْ عَلَى الْمَأْمُومِينَ أَيْضاً؛ لاِقْتِدَائِهِمْ بِمُحْدِثٍ مُتَعَمِّداً. قَالَ النَّاظِمِ: (إِنْ بَادَرَ الْخُرُوجَ مِنْهَا).
ب- أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إِذَا خَرَجَ مِنَ الصَّلاَةِ لِعُذْرٍ أَنْ يَسْتَخْلِفَ أحَداً مِنَ الْمَأْمُومِينَ يُتِمُّ بِهِمْ بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: «أَمَّنَا عَلِيٌّ فَرَعَفَ، فَالْتَفَتَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ فَقَدَّمَهُ فَصَلَّى، وَخَرَجَ». [ مصنف عبد الرزاق].
ج- أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ أَحَداً، فَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ:
أَنْ يَنْفَرِدُوا وَيُتِمُّوا صَلَاتَهُمْ أَفْذَاذاً فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ، أَمَّا فِي الْجُمُعَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَخْلِفُوا إِنْ لَمْ يَسْتَخْلِفِ الْإِمَامُ، إِذْ لَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إِلَّا بِجَمَاعَةٍ.
أَنْ يُقَدِّمُوا وَاحِداً مِنْهُمْ، يَسْتَخْلِفُونَهُ لِيُتِمَّ بِهِمُ الصَّلَاةَ. وَفِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ اِلْمُتَعَلِّقَةِ بِالِاسْتِخْلَافِ يَقُولُ النَّاظِمُ:
وَنُدِبْ *** تَقْدِيمُ مُؤْتَمٍّ يُتِمُّ بِهِمُ *** فَإِنْ أَبَاهُ انْفَرَدُوا أَوْ قَدَّمُوا.
التقويم:
1. إِمَامٌ صَلَّى بِالنَّاسِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَضِّئٍ، مَاحُكْمُ صَلَاةِ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ؟
2. أُصَوِّرُ حَالَتَيِ الْمَسْبُوقِ فِي التَّكْبِيرِ عِنْدَ قِيَامِهِ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ.
3. أُقَوِّمُ عَمَلَ مَنْ يَقْضِي مَا فَاتَهُ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ.
4. أُلَخِّصُ حَالَتَيِ الْمَأْمُومِينَ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ مِنَ الصَّلَاةِ لِعُذْرٍ.
الاستثمار: قَالَ الْقَرَوِيُّ رحمه الله: «إِذَا أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى وَوَجَدَ الْإِمَامَ فِي الْقِرَاءَةِ، فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ سَبْعاً بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ كَبَّرَ خَمْساً زِيَادَةً عَلَى تَكْبِيرَة الْإِحْرَامِ، ثُمَّ إِذَا قَامَ لِقَضَاءِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى كَبَّرَ سَبْعاً بِتَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ. وَهَذَا الْحُكْمُ يَجْرِي فِيمَنْ أَدْرَكَ التَّشَهُّدَ؛ فَإِنَّ مَنْ فَاتَتْهُ مَعَ اَلْإِمَامِ صَلَاةُ الْعِيدِ وَأَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي السُّجُودِ مِنَ الثَّانِيَةِ أَوْ فِي التَّشَهُّدِ، فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ سَبْعاً بِتَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ». [الخلاصة الفقهية]