جديد الموقع: كيف أتفوق في دراستي؟
مَعْنَى الفَضَائِلُ: جَمْعُ فَضِيلَةٍ، ضِدُّ الرَّذِيلَةِ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ الرَّفِيعَةُ.
الحديث (1): عن أَبي أُمَامَةَ – رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اقْرَؤُواْ القُرْآنَ؛ فَإنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ شَفِيعاً لأَصْحَابِهِ» رواه مسلم.
ترجمة راوي الحديث أَبو أُمَامَةَ: هو صُدَيُّ بْنُ عَجْلاَنَ البَاهِلِيَّ، صحابي مشهور، روي له عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مائتان وخمسون حديثاً، سكن مصر ثم حِمْصَ وتوفي بها سنة إحدى وثمانين (81).
شَرْحُ المُفْرَدَات:
شَفِيعًا: مُنْقِذًا وَنَافِعًا لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ.
لِأَصْحَابِهِ: لِأَهْلِهِ القَارِئِينَ لَهُ، الْمُتَخَلِّقِينَ بِأَخْلَاقِهِ، الْمُتَحَلِّينَ بِفَضَائِلِهِ.
الحديث (2): عن النَّوَّاسِ بنِ سَمْعَانَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقولُ: «يُؤْتَى يَوْمَ القِيَامَةِ بِالقُرْآنِ وَأهْلِهِ الذينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ في الدُّنْيَا تَقْدُمُه سورَةُ البَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ، تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا» رواه مسلم.
ترجمة راوي الحديث النَّوَّاس بن سَمْعَانَ: هو النَوَّاسُ بْنُ سَمْعَانَ الْكِلاَبِيُّ، ووقع في صحيح مسلم، أنه أنصاري وحمل على أنه حليف لهم، روى عن النبيّ سبعة عشر حديثاً، كان من أصحاب الصُّفَّة وهم فقراء المهاجرين.
شَرْحُ المُفْرَدَات:
يَعْمَلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا: يَأْتَمِرُونَ بِمَا أَمَرَ وَيَنْزَجِرُونَ عَمَّا زَجَرَ.
تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا: تُدَافِعَانِ عَنْهُ وَتَكُونَانِ حُجَّةً لَهُ.
أَوَّلًا: فَضْلُ قِرَاءَةِ القُرْآنِ
شَفَاعَةُ القُرْآنِ لِصَاحِبِهِ فِي الآخِرَةِ، لقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِقْرَؤُوا القُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ».
كَوْنُهُ حُجَّةً لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، لقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالقُرْآنِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا تَقْدُمُه سُورَةُ البَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا».
ثَانِيًا: شُرُوطُ تَحَقُّقِ فَضْلِ قِرَاءَةِ القُرْآنِ
قِرَاءَتُهُ، وَذَلِكَ بِتَحْسِينِ القِرَاءَةِ، لقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «اِقْرَؤُوا القُرْآنَ».
الإِخْلَاصُ فِي قِرَاءَتِهِ: وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْرَأَهُ مُؤْمِنًا بِمَعَانِيهِ، مُحْتَسِبًا ثوابَ قِرَاءَتِهِ، وَهَذَا مَدْلُولُ الحَدِيثِ الأَوَّلِ وَالثَّانِي.
العَمَلُ بِهِ، لقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ» وهُمْ «أَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا» كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ الثَّانِي.
الخلاصة:
مِن فَضَائِلِ قِرَاءَةِ القُرْآنِ: شَفَاعَةُ القُرْآنِ لِصَاحِبِهِ فِي الآخِرَةِ، وكَوْنُهُ حُجَّةً لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ.
وَلتَحَقُّقِ هَذِهِ الفَضَائِلِ شُرُوطُ وَهِي: قِرَاءَةُ القُرْآنِ، وَالإِخْلَاصُ فِي قِرَاءَتِهِ، مَعَ العَمَلِ بِهِ.
الحديث (1): عن أَبي سَعِيدٍ رَافِعِ بْنِ الْمُعَلَّى رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ في القُرْآنِ قَبْلَ أنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ؟» فَأخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أرَدْنَا أنْ نَخْرُجَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّكَ قُلْتَ: لأُعَلِّمَنَّكَ أعْظَمَ سُورَةٍ في القُرْآنِ. قَالَ: «الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ» رواه البخاري.
ترجمة راوي الحديث أَبو سَعِيدٍ رَافِع بن الْمُعَلَّى: قيل اسمه الحارث بن نفيع بن المعلى، وقال ابن عبد البر: إنه أصح ما قيل في اسمه، قال: ومن قال اسمه رافع فقد أخطأ، لأن رافع بن المعلى قتل ببدر، وأمه آمنة بنت قرط بن خنساء. روي له عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حديثان.
شرح المفردات:
أَعْظَمُ سُورَةٍ: أَبْلَغُهَا فِي جَمْعِ مَقَاصِدِ القُرْآنِ.
السَّبْعُ الْمَثَاني: السَّبْعُ، آيَاتُ سُورَةٍ الفَاتِحَةِ السَّبْعُ، وَالْمَثَانِيَ جَمْعُ مَثْنَى أَيْ تُعَادُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فِي الصَّلَاةِ، فَلِهَذَا سُمِّيَتْ «السَّبْعَ الْمَثَانِي».
أوتيته: أُعْطِيتُه.
الحديث (2): وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ في (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ): «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لأَصْحَابِهِ: «أَيَعْجِزُ أحَدُكُمْ أنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ القُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ» فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: أيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّه؟ فَقَالَ: «(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ): ثُلُثُ الْقُرْآنِ» رواه البخاري.
ترجمة راوي الحديث أَبو سعيد الخدري: هو سعد بن مالك بن سِنان الخُدريّ، نسبة إلى خدرة، وهو الأبجر، بالموحدة فالجيم، بطن من الخزرج، وهو من المكثرين في رواية اَلْحَدِيثُ، روي لأبي سعيد ألف ومائة وسبعون حديثاً، ومناقبه كثيرة. توفي بالمدينة يوم الجمعة سنة أربع وستين، وقيل وسبعين، ودفن بالبقيع.
شرح المفردات:
تَعْدِلُ: تُسَاوِي فِي الفَضْلِ.
أَوَّلًا: فَضْلُ سُورَةِ الفَاتِحَةِ وَمَقَاصِدُهَا
لِسُورَةِ الفَاتِحَةِ فَضْلٌ عَظِيمٌ يَفُوزُ بِهِ مَنْ وَيُوَاظِبُ عَلَى قِرَاءَتِهَا، وَهِيَ تُسَمَّى أَمَّ القُرْآنِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْآتِيَةِ:
الْمَقْصِدُ مِنْ وُجُودِ الإِنْسَانِ وَهُوَ الإِيمَانُ بِاللّهِ وَالإِقْرَارُ بِكَوْنِهِ رَبَّ العَالَمِينَ.
إِفْرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِالعِبَادَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
الْإِقْرَارُ بِالاِفْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَتَجَلَّى ذَلِكَ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ فِي قَوْلِهِ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ).
ثَانِيًا: خَصَائِصُ سُورَةِ الإِخْلَاصِ:
سُورَةُ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) -وَتُسَمَّى سُورَةَ الإِخْلَاصِ- لَهَا فَضْلٌ عَظِيمٌ لِكَوْنِهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ، وَمِنْ خَصَائِصِهَا:
إِثْبَاتُ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.
تَنْزِيهُهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ.
ما يستفاد من الحديث:
الْمُؤْمِن يَرْغَبُ فِي ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ فَهُوَ يَقْرَأُ القُرْآنَ الكَرِيمَ لَاسِيَّمَا سُوَرٌ ثَبَتَ لَهَا فَضْلٌ خَاصٌّ كَسُورَتَيْ الفَاتِحَةِ وَالإِخْلَاصِ اللَّتَيْنِ مِنْ شَأْنِ مُحِبِّهِمَا أَنْ يَرْسَخَ فضائلهما فِي ذِهْنِهِ وَتَتَجَلَّى آثَارُهُمَا فِي صَلَاحِ نفسه وَتَقْوِيمِ سُلُوكِهِ.
متن الحديث:
عن البَرَاءِ بنِ عازِبٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ، وَعِنْدَهُ فَرَسٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ فَجَعَلَتْ تَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُه يَنْفِرُ مِنْهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أتَى النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ لِلقُرْآنِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ترجمة راوي الحديث البراء بن عازِبٍ: هو أبو عُمارَة البراء بن عازب بن الحارث الأنصاري الأوسي الحارثي المدني، استصغر البراء يوم بدر، وأول مشاهده أحد، وشهد بيعة الرضوان.
شرح المفردات:
كَانَ رَجُلٌ: الْمَقْصُودُ بِالرَّجُلِ فِي الحَدِيثِ: الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ «أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْر».
شَطَنَيْنِ: مُفْرَدُهُ الشَّطَنُ وَهُوَ الحَبْلُ.
تَغَشَّتْهُ: عَلَتْهُ وَظَلَّلَتْهُ.
السَّكِينَةُ: الطُّمَأْنِينَةُ.
أَوَّلًا: الْمَقْصُودُ بِالسَّحَابَةِ فِي الحَدِيثِ: الْمَلَائِكَةُ الَّتِي نَزَلَتْ لِتَسْمَعَ قِرَاءَةَ الصَّحَابِيِّ لِلقُرْآنِ الكَرِيمِ. وَقَدْ كَانَ يَتَمَيَّزُ بِالصَّوْتِ الحَسَنِ الرَّقِيقِ.
ثَانِيًا: فَضْائل سُورَةِ الكَهْفِ منها:
نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ فِي شَكْلِ سَحَابَةٍ لِتَسْمَعَ قِرَاءَتَهَا خَاصَّةً مِنْ صَاحِبِ القِرَاءَةِ الجَيِّدَةِ وَالصَّوْتِ الحَسَنِ.
نُزُولُ السَّكِينَةِ عَلَى قَارِئِهَا وسامِعِهَا.
كَوْنُهَا نُورًا لِصَاحِبِهَا.
إنَّ قِرَاءَةَ فَواتِحِهَا أَوْ خَوَاتِمِهَا يَعْصِمُ القَارِئَ مِنَ الدَّجَّالِ.
الحديث: عَنْ عُقَبَةَ بنِ عَامِرٍ -رضي الله عنه-: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ألَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ هذِهِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ؟ (قُل أَعْوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ(وَ) قُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
عقبة بن عامِر: عقبة بن عامر الجهني القضاعي: صحابي كبير أمير شريف فصيح مقرئ فرضي شاعر، اختلف في كنيته على أقوال أشهرها أبو حماد، وكان من فضلاء الصحابة ونبلائهم، كان واليًا لمعاوية بمصر سنة أربع وخمسين (54) ومات بها سنة ثمان وخمسين (58)، روي له عن رسول اللَّه خمسة وخمسون (55) حديثاً.
شرح المفردات:
لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ: لَمْ يُوجَدْ آيَاتٌ كُلُّهُنَّ تَعْوِيذٌ غَيْرَ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ.
أَعُوذُ: أَلْتَجِئُ وَأَتَحَصَّنُ وَأَسْتَجِيرُ.
الفَلَقُ: الصُّبْحُ، وَأَصْلُهُ مِنْ فَلَقَ الشَّيْءَ إِذَا شَقَّهُ.
أَوَّلًا: سَبَبُ تَسْمِيَةِ السُّورَتَيْنِ بِالمُعَوِّذَتَيْنِ:
سُمِّيَتْ السُّورَتَانِ بِهَذَا الاِسْمِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَتَعَوَّذُ بِهِمَا مِنْ جَمِيعِ شُرُورِ الخَلْقِ. من جَانِّ، وَعَيْنِ الإِنْسَانِ. وَكَانَ عَلَيْهِ السَلَامُ إِذَا اِشْتَكَى قَرَأَ بِهِمَا وَنَفَثَ فِي يَدِهِ اليُمْنَى وَمَسَحَ بِهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَشْتَكِي مِنْهُ.
ثَانِيًا: أَهَمِّيَّةُ وَفَضْلُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ:
لأهميتهما كان رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يداوم عَلَى قِرَاءَتِهِمَا دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ.
وفِيهِمَا تَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَلْجَأُوا إِلَى حِمَى الْخَالِقِ من شر ما خلق، وأن يتَحَصَّنَ بِهِمَا عِنْدَ النَّوْمِ، وفِيهِمَا شِفَاءٌ.
الحديث: عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيَّ آيةٍ مِن كِتَابِ اللَّهِ معكَ أَعْظَمُ؟» «قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، «يَا أَبا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيَّ آيةٍ مِن كِتَابِ اللَّهِ معكَ أَعْظَمُ؟» قلت: (اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُو الحَيُّ الْقيُّومُ)، فَضَربَ فِي صَدْري وَقَال: «لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنذِرِ» رواه مسلم.
أُبَيّ بنُ كَعْبٍ: هو أبو منذر _ ويكنى أيضا أبا الطفيل _ أبيّ بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد، من بني النجار، سيد القراء، الأنصاري النجاري المدني المقرئ البدري، شهد العقبة، وبدرا، وجمع القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان رأسا في العلم والعمل، رضي الله عنه. له في الكتب الستة نيف وستون حديثا.
شَّرْحُ المفردات:
أَعْظَمُ: أَقْوَى تَمَيُّزًا فِي الفَضْلِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ بَيَانِ عَظَمَةِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ.
ليَهْنِك العِلْمُ: أَيْ لِيَجِئْكَ العِلْمُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ وَلَا تَعَبٍ، فَهُوَ دُعَاءٌ لَهُ بِذَلِكَ.
القَيُّومُ: الَّذِي يَقُومُ بنَفْسِهِ، أَيْ يَسْتَغْنِي عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ مَا سِوَاهُ.
أَوَّلًا: مَنْزِلَةُ آيَةِ الكُرْسِيِّ:
آيَةُ الكُرْسِيِّ أَعْظَمُ آيَةٍ؛ وَإِنَّمَا كَانَتْ أَعْظَمَ الآيَاتِ وَسَيِّدَتَهَا لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ عِظَمٍ مَعَانِيهَا.
ثَانِيًا: مَقَاصِدُ آيَةِ الكُرْسِيِّ:
اِشْتَمَلَتْ آيَةُ الكُرْسِيِّ عَلَى إِثْبَاتِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَمَعْرِفَةُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ هِيَ الْمَقْصِدُ الأَسْمَى؛ وَذَلِكَ لِتَضَمُّنِهَا تَقْوِيَةَ إِيمَانِ العَبْدِ بِخَالِقِهِ.
آية الكرسي:
الحديث: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: بَيْنَمَا جِبْريلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَاعِدٌ عِنْدَ النبي صلى الله عليه وسلم سَمِعَ نَقيضًا مِنْ فَوقِهِ، فَرَفَعَ رَأسَهُ، فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ اليَوْمَ وَلَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلاَّ الْيَوْمَ فنَزلَ منهُ مَلكٌ، فقالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ فَسَلَّمَ وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤتَهُمَا نَبيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الكِتَابِ، وَخَواتِيمُ سُورَةِ البَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهَا إِلاَّ أُعْطِيتَه. رواه مسلم.
شَّرْحُ المفردات:
نَقِيضًا: صَوْتًا.
أَبْشِرْ: مِنَ البِشَارَةِ وَهِيَ الخَبَرُ السَّارُّ.
أُوتِيتَهُمَا: أُعْطِيتَهُمَا.
الحَرْفُ: الْمُرَادُ بِهِ فِي الحَدِيثِ الطَّرَفُ وَالجُزْءُ، وَكَنَّى بِهِ عَنِ الجُمْلَةِ.
أُعْطِيتَهُ: نِلْتَ ثَوابَهُ وَأَجْرَهُ وَفَضْلَهُ.
أَوَّلًا: الْمَقْصُودُ بِخَوَاتِيمِ سُورَةِ البَقَرَةِ
قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(284) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(285)﴾.
ثَانِيًا: فَضْلُ خَوَاتِيمِ سُورَةِ البَقَرَةِ وَخَصَائِصُهَا
مِنْ فَضَائِلِهَا: كِفَايَتُهُمَا لِقَارِئِهِمَا بِأَمْنِهِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ؛ أَنَّهَا تَطْرُدُ الشَّيْطَانَ مِنْ بَيْتٍ تُقْرَأُ فِيهِ.
مِنْ خَصَائِصِهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْطِيهَا خَاصَّةً بِهِ مِنْ بَيْتِ كَنْزٍ تَحْتَ العَرْشِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْطِيهَا هِيَ وَالصَّلَوَاتُ الخَمْسُ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ.
الحديث: عَنْ عُثمَانَ بِنِ عَفَّانَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» رواه البخاري.
عثمان بن عفان: هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية القرشي، أمير المؤمنين رضي الله عنه، أسلم قديماً، هاجر بزوجته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة، ويقال لعثمان ذو النورين لأنه تزوج بنتي رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- بويع بالخلافة بعد عمر، قتل شهيداً يوم الجمعة لثمان عشرة (18) خلون من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين (35) وهو ابن تسعين (90) سنة.
شَّرْحُ المفردات:
خَيْرُكُمْ: أَفْضَلُكُمْ.
أَوَّلًا: فَضْلُ تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِهِ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.
ثَانِيًا: مقَاصِدُ تَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ: بِتَعَلُّمِ القُرْآنِ وَتَعْلِيمِهِ يُحْفَظُ القُرْآنُ، وَتُعَمُّ الرَّحْمَةُ وَالمَوَدَّةُ وَالمحَبَّةُ وَالتَّعَاوُنُ وَالتَّرَاحُمُ بَيْنَ النَّاسِ.
عَنْ أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «تَعَاهَدُواْ هَذَا القُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أشَدُّ تَفَلُّتاً مِنَ الإبلِ فِي عُقُلِهَا» متفقٌ عَلَيْهِ.
عَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلُ صَاحبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ الإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ، إنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أمْسَكَهَا، وَإنْ أطْلَقَهَا ذَهَبَتْ» متفقٌ عَلَيْهِ.
شَرْحُ المُفْرَدَات:
تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ: أَيْ حَافِظُوا عَلَى قِرَاءَتِهِ وَوَاظِبُوا عَلَى تِلَاوَتِهِ.
أَشَدُّ تَفَلُّتَا: أَشَدُّ تَخَلُّصًا.
عُقُلِهَا: جَمْعُ عِقَالٍ وَهُوَ حَبْلٌ يُشَدُّ بِهِ البَعِيرُ فِي وَسَطِ الذِّرَاعِ.
صَاحبِ الْقُرْآنِ: الحافظ له عن ظهر قلب.
أَوَّلًا: أَهَمِّيَّةُ التَّعَاهُدِ فِي تَرْسِيخِ حِفْظِ القُرْآنِ الْكَرِيمِ
فِي قَوْلِه r: «تَعَاهَدُوا هَذَا القُرْآنَ»، وَقَسَمِهِ عَلَى أَنَّهُ «أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإِبِلِ»، دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الإِكْثَارِ مِن التَّكْرَارِ. وحتى يستمر المغاربة على حفظ القرآن وتلاوته ويرتبطوا به ارتباطا وثيقا في سلوكهم وأخلاقهم، أوجبوا قراءة حزبين على الأقل في كل يوم، في حلقات ''الحزب الراتب''، التي يداوم على قراءته المغاربة بالمساجد بعد صلاة الفجر وصلاة المغرب.
ثَانِيًا: دِلالةُ تَشْبيهِ النَّبِيُّ r صَاحِبَ القُرْآنِ بِصَاحِبِ الإِبِلِ.
وجه الشبه أنَّ الإنسانَ إذا لم يُداومِ مُراجعةَ القرآنِ فإنَّه يَنفلِتُ مِنْ صدرِه كما تَهرُبَ الإبلُ إذا فُكَّ وِثاقُها، وهي أسرعُ الحيواناتِ نفورًا.
وَلقد ذَمَّ النَّبِيُّ r نَاسِيَ القُرْآنِ، فَقَدْ وَرَدَ عَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍt أَنَّهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ r: «بِئْسَ مَا لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ: نَسِيتُ آيَةَ كِيتَ وَكِيتَ، بَلْ نُسِّيَ. وَاسْتَذْكِرُوا القُرْآنَ فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ» رواه البُخَارِي.
الخلاصة:
أمرنا الرسول r ورغبنا في تعاهد القرآن بالحفاظ على قراءته والمواظبة على تلاوته، والحذر من تعريضه للنسيان لأن القرآن أشد انفلاتًا من الصدور من الإبل.
فحافظ القرآن إن واظب على تلاوته مرة بعد مرة بقي محفوظاً في قلبه، وإلا ذهب عنه ونَسِيَّهُ؛ ولقد كره النبي r قول نَسِيتُ آية كذا، وهي كراهة تنزيه، وأنه لا يكره قول: أُنْسِيتُهَا، وإنما نهي عن قول: نَسِيتُهَا؛ لأنه يتضمن التساهل فيها والتغافل عنها.
ويَنْبَغِي لِلحَافِظِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ وِرْدًا يَوْمِيًّا، كقِرَاءَةِ الحِزْبِ الرَّاتِبِ بَعْدَ صَلَاةِ الفَجْرِ وَصَلَاةِ الْمَغْرِبِ على الأقل.
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمَاهِرُ بِالْقُرآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أجْرَانِ» متفقٌ عَلَيْهِ.
أم المؤمنين عائشة: : أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت أبي بكر الصديق، من المكثرين من الرواية، تزوّجها رسول اللَّه r بمكة، وقبل الهجرة بثلاث سنين، وعاشت بعده أربعين سنة، وتوفيت سنة 57 أو 58 هـ.
شَرْحُ المُفْرَدَات:
مَاهِرٌ بِهِ: مُجِيدٌ لِحِفْظِهِ.
السَّفَرَةُ: الْمَلَائِكَةُ الْكَتَبَةُ لِأَنَّهُمْ بِكِتَابَتِهِمْ سَفَرَةٌ بِيْنَ اللَّهِ وَخَلْقِهِ.
الْكِرَامُ: مَعْصُومُونَ عَنْ دَنَسِ الْآثَامِ.
البَرَرَة: الْمُطِيعونَ، وَصْفٌ مِنَ البِرِّ، وَهُوَ الطَّاعَةُ وَالإِحْسَانُ.
يَتَتَعْتَعُ فِيهِ: أَيْ يَتَرَدَّدُ فِي قِرَاءَتِهِ وَيَتَبَلَّدُ فِيهِ لِسَانُهُ لِضُعْفِ حِفْظِهِ.
أَوَّلًا: مَنْزِلَةُ المُتْقِنِ لِحِفْظِ القُرْآنِ الكَرِيمِ
حِفْظُ القُرْآنِ الكَرِيمِ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَقُومُ بِهِ الإِنْسَانُ، وَهُوَ مِنَ الْمَقَاصِدِ التَّعَبُّدِيَّةِ الْجَامِعُ لِفَضَائِلَ كَثِيرَةٍ، وَيَحْظَى صَاحِبُهُ عِنْدَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةٍ رَفِيعَةٍ، فَإِتْقَانُهُ يَجْعَلُ صَاحِبَهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ أَعْمَالَ العِبَادِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّطَهُّرِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالآثَامِ، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ عِبَادٌ مُكَرَّمُونَ لِاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وَذَلِكَ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ r: «الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ...».
ثَانِيًا: ثَوَابُ الْمُتَتَعْتِعِ فِي حِفْظِهِ
الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُ القُرْآنِ الكَرِيمِ لَهُ أَجْرَانِ:
§أَجْرٌ لِقِرَاءَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ لَهُ أَجْرٌ كَمَنْ سَمِعَهُ.
§أَجْرٌ لِتَتَعْتُعِهِ، وَذَلِكَ لِبَذْلِهِ الجُهْدَ مِنْ أَجْلِ إِتْقَانِهِ، لِأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَكُونَ مَاهِراً بِهِ، فَيُثَابُ عَلَى ذَلِكَ القَصْدِ الحَسَنِ، وَالْجُهْدِ المَبْذُولِ.
وَرَغْمَ نَيْلِهِ الأَجْرَيْنِ فَالْأَوَّلُ أَكْمَلُ مَنْزِلَةً وَفَضْلًا كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْمَعِيَّةُ لِـمَزِيدِ اِعْتِنَائِهِ بِالقُرْآنِ وَكَثْرَةِ دِرَاسَتِهِ لَهُ وَإِتْقَانِهِ لِحُرُوفِهِ حَتَّى مَهَرَ بِهِ.
فَعَلَى مَنْ يَحْفَظُ القُرْآنَ الكَرِيمَ أَنْ يَتَحَلَّى بِأَخْلَاقِهِ وَسَمَاحَتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِثَالًا يُقْتَدَى بِهِ فِي حُسْنِ السُّلُوكِ، وَالصِّدْقِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَالوَفَاءِ، وَحُبِّ الخَيْرِ لِلإِنْسَانِ.
الخلاصة:
إن مَنْزِلَةُ الْمَاهِرِ المُتْقِنِ لِحِفْظِ القُرْآنِ الكَرِيمِ أن جعل مَعَ الْمَلَائِكَةِ السَّفَرَةِ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ أَعْمَالَ العِبَادِ.
أما الْمُتَتَعْتِعِ فِي حِفْظِهِ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُ القُرْآنِ الكَرِيمِ لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرٌ لِقِرَاءَتِهِ، وَأَجْرٌ لِتَتَعْتُعِهِ، وَذَلِكَ لِبَذْلِهِ الجُهْدَ مِنْ أَجْلِ إِتْقَانِهِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
أَبو هريرة: تَرْجَمَة رَاوِي الحَدِيث: أَبُو هُرَيْرَةَ هوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ t، وَسَبَبُ تَكْنيَتُهُ بِذَلِكَ مَا رَوَاه ابْنُ عَبْدِ البَرِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتَ أَحْمِلُ يَوْمًا هِرَّةً فِي كُمِّي، فَرَآنِي النَّبيُّ r فَقَالَ: «مَا هَذِهِ؟» فَقُلْتَ: هِرَّةٌ، فَقَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ». ولازِمَ النَّبيُّ r المُلازَمَةُ التّامَّةُ رَغْبَةً فِي العِلْمِ، تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ 57 أَوْ 58 أَوْ 59 عَنْ 78 سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ.
شَرْحُ المُفْرَدَات:
§مَا أَذِنَ اللَّهُ: معناه مَا اسْتَمَعَ اللَّهُ، وَهُوَ يَدُلُّ كَذَلِكَ عَلَى الرِّضَا والْقَبولِ.
§مَا أَذِنَ؛ أَيْ: كَاسْتِماعِهِ، وَهَذَا اسْتِماعٌ يَلِيقُ بِاللَّهِ لَا يُشابِهُ صِفاتِ خَلْقِهِ.
§يَتَغَنَّى: المُرادُ هوَ يُحَسِّنُ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ وَيَجودُ تَرْتيلَهُ وَقِراءَتَهُ.
أَوَّلًا: اسْتِحْبابُ تَحْسينِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ وَتَّحْبيرِ القِراءَةِ: يُبَيِّنُ الحَديثُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِي شَيْءٍ أَكْثَرَ مِمَّا أَذِنَ فِي الِاسْتِماعِ لِعَبْدِهِ اَلَّذِي يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ الكَريمِ، وَفِي هَذَا الحَديثِ حَثَّ النَّبيُّ r عَلَى التَّغَنِّي وَتَحْسينِ الصَّوْتِ عِنْدَ قِراءَةِ القُرْآنِ فِي الصَّلاةِ وَغَيْرِها.
ثَانِيًا: الحِكْمَةُ مِنْ التَّغَنِّي بِالْقُرْآنِ: إنَّ الغايَةَ مِنْ الحَثِّ عَلَى التَّغَنِّي بِقِراءَةِ القُرْآنِ هِيَ تَحْريكُ القُلوبِ بِالْقُرْآنِ؛ لِتَشْعُرَ بِالطُّمَأْنِينَةِ، وَلِيُخْشَعَ القارِئَ والْمُسْتَمِعَ، وَيَسْتَفِيدُ هَذَا وَهَذَا مِنْ القِراءَةِ.
الخلاصة:
يُسْتَفادُ مِنْ نَصِّ الحَديثِ النَّبَويِّ الشَّريفِ اسْتِحْبابُ التَّغَنِّي بِالْقُرْآنِ وَهُوَ تَحْسينُ الصَّوْتِ بِقِراءَةِ القُرْآنِ وَتَرْتيلِهِ.
وَيَتَجَلَّى التَّغَنِّي بِالْقُرْآنِ فِي أَمْرَيْنِ، هُمَا: تَحْسينُ القِراءَةِ والتِّلاوَةِ، واسْتِعْمالُ الصَّوْتِ الحَسَنِ فِي قِراءَةِ القُرْآنِ.
والْحِكْمَةُ مِنْ التَّغَنِّي بِالْقُرْآنِ تَتَمَثَّلُ فِي تَحْريكِ القُلوبِ بِالْقُرْآنِ؛ لِتَشْعُرَ بِالطُّمَأْنِينَةِ، وَلِيَخْشَعَ القارِئ والْمُسْتَمِعَ.
عَنْ اِبْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ لِي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اقْرَأْ عَلَيَّ القُرْآنَ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟! قَالَ: «إنِّي أُحِبُّ أنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ، حَتَّى جِئْتُ إِلَى هذِهِ الآيَةِ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 41]. قَالَ: «حَسْبُكَ الآنَ» فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ابن مسعودٍ: هو أبو عبد الرحمن عبد اللَّه بن مسعود t، أسلم عبد اللَّه قديما بمكة سادس ستة، وكان عبد الله بن مسعودt حسن الصوت بالقرآن، وهو أوَّل من جَهَر به بمكة بعد رسول الله r، وكانt عالما به وبتفسيره، ومات بالمدينة، سنة اثنتين وثلاثين عن بضع وستين سنة، ودفن بالبقيع.
شَرْحُ المُفْرَدَات:
qبِشَهِيدٍ: أَيْ شَاهِدٍ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا، وَهُوَ نَبِيُّهَا.
qحَسْبُكَ: يَكْفِيكِ ذَلِكَ.
qتَذْرِفَانِ: يجري دمعهما ويسيل رحمة بأمَّتِه.
§أَوَّلًا: أَهَمِّيَّةُ الاِسْتِمَاعِ لِلقُرْآنِ مِن الغَيْرِ
دل الحديث على استحباب الاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم من الآخرين، زيادة في التفكُّر والتدبُّر، ووصولاً إلى الخشوع والبكاء.
§ثَانِيًا: قُوَّةُ تَأْثِيرِ الاِسْتِمَاعِ لِلقُرْآنِ الكَرِيمِ
لسماع القرآن الكريم أثر عظيم في النفوس، ومن ذلك إصلاحها، وانشراحها، وشفاؤها من الأمراض المختلفة.
§ثَالِثًا: رَحْمَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَفَقَتُهُ عَلَى أُمَّتِهِ
بَكَى النَّبِيُّ r رَحْمَةً بِأُمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ سَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ، فَرَقَّ قَلْبُهُ خَوْفًا عَلَيْهِمْ وَرَحْمَةً بِهِمْ.
الخلاصة:
يُسْتَفادُ مِنْ نَصِّ الحَديثِ النَّبَويِّ الشَّريفِ اسْتِحْبابُ الاستماع إلى قراءة القرآن من الآخرين، وذلك أنَّ المستمع أقوى على التدبُّر ونفسُه أنشطُ من القارئ؛ لاشتغاله بالقراءة وأحكامها، وترتاح نفسه حين استماعه له، ويظهر أثر الاستماع عليه بالتَّأثُّر والخشوع والبكاء خضوعا لله. وقد تأثر النَّبِيُّ r بسماعه لتلاوة ابن مسعود t فبَكَى رَحْمَةً بِأُمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ سَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ، فَرَقَّ قَلْبُهُ خَوْفًا عَلَيْهِمْ وَرَحْمَةً بِهِمْ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ البَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ البَقرَةِ» رواه مسلم.
أَبُو هُرَيْرَةَ هوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ t، وَسَبَبُ تَكْنيَتِهِ بِذَلِكَ مَا رَوَاه ابْنُ عَبْدِ البَرِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَحْمِلُ يَوْمًا هِرَّةً فِي كُمِّي، فَرَآنِي النَّبيُّ r فَقَالَ: «مَا هَذِهِ؟» فَقُلْتُ: هِرَّةٌ، فَقَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ». ولازِمَ النَّبيُّ r المُلازَمَةُ التّامَّةُ رَغْبَةً فِي العِلْمِ، تُوُفِّيَ عَنْ ثمان وسبعين سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ.
شَرْحُ المُفْرَدَات:
§ لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ: مَقَابِرَ جمع مقبرة، والمعنى لاَ تَكُنْ كَالْمَقَابِرِ خَالِيَةً مِن القِرَاءَةِ وَالعَمَلِ فَتَكُونُوا كَالْمَوْتَى.
§يَنْفِرُ: المراد يُعرض ويبتعد ويفر.
qأولا: مَفْهُومُ نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جَعْلِ البُيُوتِ مَقَابِرَ.
ويخبرنا أبو هريرة t أن النبيr نهى عن جعل البيوت مقابر حتى لا يكون حالنا في بيوتنا كحال الموتى الذين لا يقرؤون القرآن في بيوتهم وهي القبور، فَمَنْ هجر القرآن وترك قراءته فهو كالميِّت في قبره.
qثانيا: سَبَبُ نُفُورِ الشَّيْطَانِ مِنْ البَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ البَقَرَةِ.
ثم أخبرنا r أن الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ أَيْ يَفرُّ ويَبتعِدُ ويَخْرُجُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَة، ولا شك أن المواظبة على تلاوتها بتمعن وتدبر، والسعي في امتثال أوامرها ونواهيها، كل هذا يضعف الشيطان، ويبعد تسلطه على أهل هذا البيت.
ُخلاصَةُ الدَّرْسِ:
فِي الْحَدِيثِ تَوجيهُ النَّاسِ إلى أنَّ قراءة القُرآنَ في البُيوت يُعمِّرها، فالبيت الذي لا يقرأ فيه القرآن أموات أهله؛ لعدم اشتغال من فيه بتلاوة الذكر الحكيم، فكانت بيوتهم كَالْمَقَابِرِ وكانوا كَالْمَوْتَى فِيهَا لتركهم ذلك، ووردَ فِي الْحَدِيثِ أيضا أن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة، ولا يقربه عند سماعها؛ ليأسه مِنْ إِغْوَاءِ أَهْلِهِ وإضلالهم بِبَرَكَةِ قراءتهم هَذِهِ السُّورَةِ وامتثالهم لما فيها.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «.. وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ المَلاَئِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّه فِيمَنْ عِندَهُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
شَرْحُ المُفْرَدَات:
1. بُيُوتُ اللَّهِ: الْمَسَاجِدُ.
2. يَتَدَارَسُونَهُ: يَتَشَارَكُونَ فِي دِرَاسَتِهِ.
3. السَّكِينَةُ: شيءٌ يقذفه الله في القلب، يورثه الطمأنينة والسكون والاستقرار، وعدم القلق.
4. غَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ: يعني غَطَّتْهُمْ، من الغشاء وهو الغطاء؛ أي أن الرحمة تحيط بهم من كل جانب، وشملتهم من كل جهة.
5. حفتهم الملائكة: أحاطت بهم بحيث لا يدعون للشيطان فرجة يتوصل منها للذاكرين. 6. ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ: أي أثنى عليهم فِيمَنْ عِنْدَهُ من الملائكة.
qأَوَّلًا: المُرَادُ بِالاِجْتِمَاعِ عَلَى تِلَاوَةِ القُرْآنِ وَتَدَارُسِهِ
المَقْصُودُ بِالاجْتِمَاعِ عَلَى تِلَاوَةِ القُرْآنِ وَتَدَارُسِهِ هُوَ: مَجَامِعُ وَحِلَقُ العِلْمِ، سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِطَلَبَةِ العِلْمِ أَوْ بِعَامَّةِ النَّاسِ مَعَ العُلَماءِ، فَكُلُّ اِجْتِمَاعٍ مِنْ أَجْلِ التِّلَاوَةِ وَالتَّدَبُّرِ وَتَبَادُلِ الْفَهْمِ بِالتَّدَارُسِ يَدْخُلُ فِي هَذَا الحَدِيثِ، وَأَفْضَلُ مَا يُجْتَمَعُ عَلَيْهِ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ مُتَفَرِّعٌ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الحَدِيثُ.
qثَانِيًا: فَضْلُ الاِجْتِمَاعِ عَلَى تِلَاوَةِ القُرْآنِ وَتَدَارُسِهِ:
نُزُولُ السَّكِينَةِ، غَشَيَانُ الرَّحْمَةِ، حَفُّ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُجْتَمِعِينَ، ذِكْرُ اللَّهِ لَهُمْ فِي الْمَلَإِ الأَعْلَى.
qثَالِثًا: مَقَاصِدُ وَآثَارُ الاِجْتِمَاعِ عَلَى تِلَاوَةِ القُرْآنِ وَتَدَارُسِهِ:
الْمَقَاصِدُ الْإِيمَانِيَةُ وَمِنْهَا: تَجْدِيدُ الإِيمَانِ وَالْمَقَاصِدُ الرُّوحِيَّةُ وَمِنْهَا:َنُزُولُ السَّكِينَةِ وَالرَّحْمَةِ.
والْمَقَاصِدُ التَّرْبَوِيَّةُ، وَمِنْهَا:
- التَّحْبِيبُ فِي طَلَبِ العِلْمِ.
- بَيَانُ أَنَّ الاِجْتِمَاعَ عَلَى طَلَبِ العِلْمِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسَهِّلَ الْفَهْمَ وَيُرَسِّخَ العِلْمَ.
- التَّنَافُسُ فِي حِفْظِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَفَهْمِ مَعَانِيهِ.
ُخلاصَةُ الدَّرْسِ:
يفيدنا هذا الحديث الشريف: الحث على الاجتماع على كتاب الله -عزّ وجل- وقراءته ومذاكرته. وأن المجتمعين في بيت من بيوت الله لتلاوة القرآن العزيز ومدارسته يعطيهم الله من الطمأنينة وشمول الرحمة وحضور الملائكة والثناء عليهم من الله في الملأ الأعلى.
عَنْ اِبْنٍ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الَّذِي لَيْسَ في جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ كَالبَيْتِ الخَرِبِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِي، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
- عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَمْرو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيَا، فَإنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آية تَقْرَؤُهَا» رواه أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
عبد اللَّهِ بن عمرو بن العاص: صاحب الصحيفة الصادقة، جمع فيها من أحاديث الرسول r عددا كثيرا بعد أن استأذن النبي r في أن يكتب عنه، شهد له بذلك أبو هريرة، توفي بمصر أيام فتنة مروان ابن الحكم مع الأكدر سنة ثلاث وستين هـ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «.. وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ المَلاَئِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّه فِيمَنْ عِندَهُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
شَرْحُ المُفْرَدَات:
جَوْفِهِ: قَلْبِهِ.
البَيْت الخَرِب: الخَالِي مِنْ الخَيْرِ وَالسُّكَّانِ.
اِرْتَقِ: اصْعَدْ دُرَجَ الجَنَّةِ بِمِقْدَارِ مَا حَفِظْتَهُ مِنْ آيِ القُرْآنِ.
رَتِّلْ: مِنَ التَّرْتِيلِ وَهُوَ التَّأَنِّي فِي القِرَاءَةِ وَالتَّمَهُّلُ، وَتَبْيِينُ الْحُرُوفِ وَالحَرَكَاتِ.
أَوَّلًا: حَالُ مَنْ لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنْ القُرْآنِ:
قلب الهاجر للقرآن خراب ولو كان وسيم الخلقة جميل الظاهر فاخر الثياب مُهابا بين الناس، والبيت الخرب هو قلب مريض، ولا يُعالج مرضه إلا بالقرآن.
ثَانِيًا: مَنْزِلَةُ قَارِئِ القُرْآنِ فِي الجَنَّةِ:
إن القرآن العظيم يرفع شأن صاحبه يوم القيامة، فحين يدخل المؤمنون الجنَّة فإنَّ حافِظَ القرآن يعلو غيرَه في درجات الجنَّة لتعلوَ منزلته، وترتفعَ درجته في الآخرة.
يستفاد من نصوص الحديث:
التحذير من هجر قراءة القرآن.
التَّرغيبَ في حفظ القرآن، والاجتهاد فيه.
فضيلةُ تَرتيلِ القراءةِ وتجويدِها.
فضيلةُ حَافِظِ القرآنِ العاملِ به.
وأنَّ درَجاتِ الجَنَّةِ تُضاهي عددَ الآياتِ.
عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ: رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ القُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ: لاَ رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثلُ الرَّيْحَانَةِ: رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ القُرْآنَ مَثَلُ الحَنْظَلَةِ: لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ» متفقٌ عَلَيْهِ.
ترجمة أبو موسى الأشعري: هو أبو موسى عبد بن قيس الأشعري نسبة إلى الأشعر، قبيلة مشهورة باليمن، قدم مكة على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة فأسلم ثم هاجر، وقدم المدينة مع جعفر وأصحاب السفينة بعد خيبر، وأسهم لهم منها كمن حضرها، توفي بمكة، وقيل بالكوفة، عام: 42 أو 44 هـ، عن ستين سنة.
شرح المفردات:
الأُتْرُجَّة: نَوْعٌ مِنْ الثِّمَارِ مَنْظَرُهَا جَمِيلٌ وَرَيحُهَا طَيِّب كَالبُرْتُقَالَةِ وَالتُّفَّاحَةِ.
التَّمْرَةُ: ثَمَرَةُ النَّخْلِ.
الرَّيْحَانَةُ: نَبْتٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، وَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الزُّهُورِ يُشْبِهُ الوَرْدَ وَاليَاسَمِينَ.
الْحَنْظَلَةُ: وَاحِدَةُ الحَنْظَلِ، وَهُوَ شَجَرٌ مُرٌّ خَبِيثٌ الطَّعْمِ، تَعَافُهُ حَتَّى الإِبِلُ لِمَرَارَتِهِ وَبَشَاعَتِهِ.
الْمُنَافِقُ: هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ شَيْئًا وَيُبْطِنُ شَيْئًا آخَرَ، فَظَاهِرَهُ غَيْرُ بَاطِنِهُ.
شرح الحديث:
بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَحْوَالَ النَّاسِ فِي عَلَاقَتِهِمْ بِالقُرْآنِ الكَرِيمِ أَرْبَعَةٌ وَهِيَ:
أَوَّلًا: شبه مَنْ يَقْرَأُ القُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِمَا فِيهِ بِالْأُتْرُجَّةِ؛ التي يستمتع الناس بريحها ويستلذون بطعمها، فهو مؤمن طيب باطنا وظاهرا.
ثَانِيًا: شبه مَنْ لَا يَقْرَأُ القُرْآنَ وَهُوَ مُصَدِّقٌ بِمَا فِيهِ بالتَّمْرَةِ؛ لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، فهو مؤمن طيب باطنا.
ثَالِثًا: شبه مَنْ يَقْرَأُ القُرْآنَ وَلَا يَعْمَلُ بِمَا فِيهِ بالرَّيْحَانَةِ؛ فَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مَرٌّ، فهو منافق طيب الظاهر خبيث الباطن.
رَابِعًا: شبه مَنْ لَا يَقْرَأُ القُرْآنَ كالْحَنْظَلَةِ؛ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، فهو منافق خبيث الظاهر والباطن معا.
الحديث: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الكِتَابِ أقْوَاماً وَيَضَعُ بِهِ آخرِينَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ترجمة عمر بن الخطاب: هو أبو حفص عمر بن الخطاب بن نُفيل القرشي العدوي أمير المومنين، خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يضرب به المثل في العدل والزهد والتواضع والاستماتة على الحق، ألفت في سيرته مجلدات. استشهد عام: 23 هـ.
شرح المفردات:
يَرْفَعُ: يُعِزُّ.
يَضَعُ: يُذِلُّ وَيَخْفِضُ.
أَوَّلًا: أَسْبَابُ التَّرَقِّي بِالقُرْآنِ الكَرِيمِ
الْقُرْآنُ الكَرِيمُ أَنْزَلَهُ الله لِلهِدَايَةِ وَالإِصْلَاحِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ بِتَدَبُّرِهِ (َإِمْعَانِ النَّظَرِ فِيهِ). وَالْغَايَةُ مِنْ تَدَبُّرِهِ هِيَ اِسْتِكْشَافُ أُصُولِ الحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ وَالْحَضَارَةِ الرَّاقِيَةِ الَّتِي يَسُودُهَا الخَيْرُ وَالاِطْمِئْنَانُ، وَهَذَا يَتِمُّ مِنْ خِلَالِ فَهْمِ القُرْآنِ، وَالعَمَلِ بِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الكِتَابِ أَقْوَامًا».
ثَانِيًا: عَوَاقِبُ الإِعْرَاضِ عَنِ القُرْآنِ الكَرِيمِ
مَنْ صَدَّ عَنِ الْإِيمَانِ بِالقُرْآنِ الكَرِيمِ، وَلَمْ يعمل به فَإِنَّ اللَّهَ يَخْفِضُهُ وَيُذِلُّهُ، وَيَجْعَلُهُ مُتَخَلِّفاً عَنْ التطور الحَضَارَي، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «... وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ».
ثَالِثًا: كَيْفَ يَتَمَثَّلُ المُؤْمِنُ أَخْلَاقَ القُرْآنِ الكَرِيمِ؟
الوَاجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَمَيِّزًا بِالوَسَطِيَّةِ فِي عَقِيدَتِهِ وَفِي مُعَامَلَتِهِ لِبَنِي جِنْسِهِ مِن النَّاسِ كُلِّهمْ، وَأَنْ يَكُونَ قُدْوَةً فِي سُلُوكِهِ، وَفِي سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ، فَهُوَ بِذَلِكَ يَكْتَسِبُ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَمَحَبَّةَ النَّاسِ، وَتِلْكَ هِيَ الرِّفْعَةُ الْمَرْجُوَّةُ، وَالعِزَّةُ الْمَطْلُوبَةُ.
الخلاصة:
أنزل القرآن للهداية والإصلاح، ومن أسباب الرقي الحضاري بالقرآن تدبره وفهمه لاستخراج أسباب التقدم والعمل به، أما عاقبة من امتنع عن الإيمان به والعمل بما فيه فإنه يعيش في ذل من الله وتخلف حضاري، فعلى المؤمن أن يتمثل أخلاق القرآن الكريم بالوسطية في عقيدته ومعاملته للناس لينال محبة الله والناس وتلك هي الرفعة المطلوبة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
شرح المفردات:
سَلَكَ طَرِيقًا: اتَّبَعَهُ وَسَارَ فِيهِ.
يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا: يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا.
أَوَّلًا: فَضْلُ طَلَبِ العِلْمِ
فَضْلُ طَلَبِ العِلْمِ حَسَبَ الحَدِيثِ هُوَ تَسْهِيلُ الطَّرِيقِ إِلَى الجَنَّةِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلْمِ رِضًى بِمَا يَصْنَعُ... » حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، كِتَابُ العِلْمِ، بَابُ الحَثِّ عَلَى طَلَبِ العِلْمِ.
ثَانِيًا: لِمَاذَا كَانَ لِطَلَبِ العِلْمِ هَذَا الفَضْلُ؟
لَمَّا كَانَتِ الغَايَةُ مِنْ طَلَبِ العِلْمِ هِدَايَةَ النَّاسِ، وَتَسْهِيلَ طَرِيقِهِمْ إِلَى الجَنَّةِ، كَانَ جَزَاءُ طَالِبِ العِلْمِ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ، وَهُوَ تَسْهِيلُ طَرِيقِهِ إِلَى الجَنَّةِ.
ثَالِثًا: طُرُقُ طَلَبِ العِلْمِ
فَسَوَاءٌ أكَانَ سُلُوكُ الطَّرِيقِ بِالسَّفَرِ إِلَى أَمَاكِنِ العِلْمِ كَالْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ وَالجَامِعَاتِ، أَم بِالرُّجُوعِ إِلَى العُلَمَاءِ لِلأَخْذِ عَنْهُمْ.
الخلاصة:
فَضْلُ طَلَبِ العِلْمِ هُوَ تَسْهِيلُ الطَّرِيقِ إِلَى الجَنَّةِ، وكان لطالب العلم هذا الفضل لأن الغَايَةُ مِنْ طَلَبِ العِلْمِ هِدَايَةَ النَّاسِ، وَتَسْهِيلَ طَرِيقِهِمْ إِلَى الجَنَّةِ، فكَانَ جَزَاءُ طَالِبِ العِلْمِ هُوَ تَسْهِيلُ طَرِيقِهِ إِلَى الجَنَّةِ. وطرق طلب العلم هي: السَّفَرِ إِلَى أَمَاكِنِ العِلْمِ أَو الرُّجُوعِ إِلَى العُلَمَاءِ لِلأَخْذِ عَنْهُمْ.
الحديث: عَنْ مُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ترجمة معاوية بن أبي سفيان: أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان الأموي القرشي، من الخلفاء، ولد بمكة، وأسلم قبل فتح مكة، ولما استُخلف أبو بكر الصدّيق ولاه قيادة جيش تحت إمرة أخيه يزيد بن أبي سفيان، ولما استُخلف عمر بن الخطاب جعله واليا على الأردن، ثم دمشق بعد موت أميرها، ثم ولّاه عثمان بن عفان الشام. وكانت وفاته في رجب عام: 60 هـ.
شرح المفردات:
يُفَقِّهْهُ: يَجْعَلُهُ فَاهِماً لِدَقَائِقِهِ وَمَقَاصِدِهِ وَغَايَاتِهِ، وَعَالِمًا بِهَا.
الدِّينُ: أَحْكَامُ اللَّهِ تَعَالَى فِي العَقِيدَةِ وَالعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالأَخْلَاقِ.
أَوَّلًا: التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ
التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ هُوَ العِلْمُ بِهِ وَالفَهْمُ الدَّقِيقُ لَهُ؛ بِأَنْ نُدْرِكَ مَقَاصِدَهِ وَغَايَاتِهِ الَّتِي جَاءَ مِنْ أَجْلِهَا.
ثَانِيًا: بِمَاذَا يَكُونُ التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ؟
التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ يَكُونُ بِالاِكْتِسَابِ وَالجِدِّ وَالاِجْتِهَادِ، وَيَكُونُ أَيْضًا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَهِدَايَتِهِ الإِنْسَانَ لِإِدْرَاكِ مَقَاصِدِ هَذَا الدِّينِ.
ثَالِثًا: فَضْلُ التَّفَقُّهَ فِي الدِّينِ
مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا، سَوَاءٌ أكَانَ ذَلِكَ بِالسُّؤَالِ أَم بِطَلَبِ العِلْمِ عَنِ العُلَماءِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا، فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى مِنْ سَامِعٍ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ خَرَجَ في طَلَبِ العِلْمِ فَهُوَ في سَبيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
أَنَس بنُ مَالِك: هو أبو حمزة أنس بن مالك الأنصاري الخزرجي النجاري، المدني، ثم البصري، خادم رسول اللَّه حضراً وسفراً منذ قدم المدينة إلى أن توفي. قال: قدم النبي إلى المدينة وأنا ابن عشر سنين، ومات وأنا ابن عشرين سنة، وهو من المكثرين في اَلْحَدِيثُ، والصحيح أنه توفي سنة ثلاث وتسعين وقد جاوز المائة.
شرح المفردات:
مَنْ خَرَجَ: أَيْ مِنْ بَيْتِهِ أَوْ بَلَدِهِ.
فِي طَلَبِ العِلْمِ: فِي سَبِيلِ أَخْذِ العِلْمِ وَتَحْصِيلِهِ.
فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
أَوَّلًا: الْمَقْصُودُ بِالخُرُوجِ فِي طَلَبِ العِلْمِ
الْمُرَادُ بِالخُرُوجِ فِي طَلَبِ العِلْمِ السَّفَرُ وَالرِّحْلَةُ وَالسَّعْيُ فِي سَبِيلِ تَحْصِيلِ العِلْمِ النَّافِعِ.
وَيَحْصُلُ الْخُرُوجُ فِي طَلَبِ العِلْمِ بِالْخُرُوجِ مِن الْبَيْتِ إِلَى المَسْجِدِ أَوْ الْمَدْرَسَةِ أَوْ الجَامِعَةِ أَوْ غَيْرِهَا، أَوْ بِالسَّفَرِ مِنْ مَدِينَةٍ إِلَى أُخْرَى، أَوْ مِنْ بَلَدٍ إِلَى آخَرَ، لِنَفْسِ الغَرَضِ.
ثَانِيًا: فَضْلُ الخُرُوجِ فِي طَلَبِ العِلْمِ
نَيْلُ أَجْرِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
اسْتِغْفَارُ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ لِطَالِبِ الْعِلْمِ.
فَيَزْدَادُ إِيمَانُهُ، وَيَكُونُ أَكْثَرَ النَّاسِ خَشْيَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
اكْتِسَابُهُ الثِّقَةَ فِي الذَّات، وَالاِعْتِمَادُ عَلَى النَّفْسِ أَثْنَاءَ الرِّحْلَةِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَاتَ ابنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
شرح المفردات:
انْقَطَعَ عَمَلُهُ: انْتَهَى؛ لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ يَنْتَهِي العَمَلُ.
صَدَقَة جَارِيَة: كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ يَسْتَمِرُّ ثَوَابُهُ لِلإِنْسَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
عِلْم يُنْتَفَعُ بِهِ: مَا خَلّفَهُ مِنْ تَعْلِيمٍ أَوْ تَصْنِيفٍ أَوْ رِوَايَةٍ.
أَوَّلًا: فَضْلُ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ
مِنَ الأَعْمَالِ الَّتِي يَسْتَمِرُّ نَفْعُهَا، وَيَنْتَفِعُ بِهَا صَاحِبُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ: تعليم العلم، والصَّدَقَةُ الجَارِيَةُ: كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ وَالْمُسْتَشْفَيَاتِ، وَحَفْرِ الآبَارِ، وَتَعْبِيدِ الطُّرُقِ. والْوَلَدُ الصَّالِحُ: لِأَنَّهُ مِنْ سَعْيِ الإِنْسَانِ وَكَسْبِهِ.
ثَانِيًا: شُرُوطُ الاِنْتِفَاعِ بِالْعِلْمِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَلَدِ
إن تَحَقُّقَ الاِنْتِفَاعِ بِالْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مُقَيَّدٌ بِمَا يَأْتِي:
أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ نَافِعًا.
أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ جَارِيَةً، أَيْ: يَبْقَى أَثَرُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ صَالِحا.
عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه: «فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ترجمة سهل بن سعد الساعدي: هو أبو العباس وقيل: أبو يحيى سهل بن سعد الأنصاري الساعديّ، كان اسمه حزْناً فسماه النبيّ صلى الله عليه وسلم سهلاً، قال الزهري: سمع سهل من النبيّ، وكان له في وفاة النبيّ خمس عشرة سنة، وتوفي بالمدينة سنة ثمان وثمانين وقيل سنة إحدى وتسعين. قال ابن سعد: وهو آخر من مات بالمدينة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
شرح المفردات:
يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلًا: أَيْ يُوَفِّقْهُ اللَّهُ بِسَبَبِكَ.
حُمْرُ: جَمْعُ حَمْرَاءَ، وَهِيَ النَّاقَةُ الْحَمْرَاءُ. وَكَانَتْ أَحَبَّ الْمَالِ إِلَى الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ.
النَّعَمُ: الإِبِلُ.
دَعَا: أَرْشَدَ.
هُدىً: مَا يُهْتَدَى بِهِ مِنَ الْعِلْمِ النافع وَالعَمَلِ الصَّالِحِ.
أَوَّلًا: فَضْلُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
لِلدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَكَانَةٌ عَالِيَةٌ وَمَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ، فإنَّ هِدَايَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِسَبَبِكَ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.
ثَانِيًا: فَضْلُ نَشْرِ الْعِلْمِ
لِتَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَنَشْرِهِ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا:
أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى العلم خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الأَنْبِيَاءِ.
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَدَّ لِنَاشِرِي العلم بِالتَّعْلِيمِ، أَوِ التَّأْلِيفِ، أَوِ الشَّرْحِ وَالتَّوْضِيحِ، فَضْلًا كَبِيرًا.
كُلُّ مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا أَوْ وَجَّهَ الْمُتَعَلِّمِينَ إِلَى سُلُوكِ طَرِيقَةٍ يَحْصُلُ لَهُمْ فِيهَا عِلْمٌ فَهُوَ دَاعٍ إِلَى الْهُدَى، لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ الْمُهْتَدِينَ بِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا.
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ حَسَدَ إِلاَّ في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
شَرْحُ المُفْرَدَات:
•لَا حَسَدَ: نَفْيٌ أُرِيدَ بِهِ النَّهْيُ وَالتَّحْذِيرُ، وَالْحَسَدُ: تَمَنِّي زَوَال نِعْمَةِ الْغَيْرِ سَوَاءٌ أتَمَنَّاهُ لِنَفْسِهُ أَمْ لَا. والمراد هنا الغبطة، وهي: أن يتمنى مثله.
•آتَاهُ: أَعْطَاهُ.
•سلطه: مكنه الله من إنفاقه في وجوه الخير.
•هلكته: وجوه إنفاقه ومجالات صرفه.
•في الحق: في أنواع البر ونواحي الخير.
•الْحِكْمَةُ: وضع كل شيء في موضعه. وَقِيلَ: مَا مَنَعَ مِنَ الْجَهْلِ وَزَجَرَ عَنِ الْقَبِيحِ.
•يَقْضِي بها: يحكم ويفتي بين الناس بمقتضاها. بِمَا عِنْدَهُ مِنْ عِلْمٍ صَحِيحٍ.
•آناء: الآناء أي الساعات.
qأولا: المَضْمونُ الأَوَّلُ: الْحَسَدُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ
سنبين أولا ما يتعلق بمعنى الحسد وَحَقيقَتِهِ وَأَقْسَامِهِ : قَوْلُهُ r: (لَا حَسَدَ) الْحَسَدُ تَمَنِّي زَوَالِ نعمة الغير، سواء تمناها لنفسه أم لا، وهذا النوع مذموم في القرآن والسنة، وَأَمَّا الْحَسَدُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ فَهُوَ الْغِبْطَةُ، وَهِيَ تمني مثل ما عند الغير من نعمة، من غير تمني زوالها عنه.
qثانيا: التَّرْغِيبُ فِي التَّنَافُسِ فِي تعليم الْعِلْمِ
في الحديث يُخبِرنا النبيُّ r أنَّ الحسَدَ لا يكونُ مَحمودًا مُستحبًّا شَرعيًّا إلَّا في أمْرينِ؛ وهما تعليم العلم وانفاق المال في سبيل الله، وَالْحِرْصُ عَلَى هَذَا يُسَمَّى مُنَافَسَةً.
ُخلاصَةُ الدَّرْسِ:
يُشير النبي r هنا إلى أن الحَسَدَ أنواع مختلفة فمنه حسد مَذْمُوم محرم شرعًا، وهو أن يتمنى المرء زوال النعمة عن أخيه، وحسد مباح وهو أن يرى نعمة عند غيره فيتمنى لنفسه مثلها، ولا يكون الحسد محمودًا مستحبًا شرعيًا إلا في أمرين: انفاق العلم والمال في طاعة الله، ولقد حث الإسلام على التنافس والاستكثار من هذا النوع من الحسد.
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أدْنَاكُمْ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ في جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الخَيْرَ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
شَرْحُ المُفْرَدَات:
•الْعَالِمُ: الَّذِي يَعْرِفُ الْعِلْمَ وَيَصْرِفُ وَقْتَهُ فِي طَلَبِهِ وَتَعْلِيمِهِ بَعْدَ قِيَامِهِ بِالْفَرَائِضِ.
•الْعَابِدُ: من كان مشتغلا بالعبادة غالب وقته بَعْدَ تَعَلُّمِهِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهُ مِنْ أَحْكَامٍ.
•أَدْنَاكُمْ: أَقَلُّ الْمُسْلِمِينَ رُتْبَةً فِي الْفَضْلِ.
•جُحْرُهَا: بِضَمِّ الْجِيمِ ثُقْبُهَا الَّذِي تَسْكُنُه.
•لَيُصَلُّونَ: الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ رَحْمَةٌ مقرونة بتعظيم، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ اِسْتِغْفَارٌ، وَمِنَ المؤمنين تَضْرُّعٌ وَدُعَاءٌ.
•مُعَلِّمِي النَّاسِ الخَيْرَ: هُمُ الْعُلَمَاءُ.
qأَوَّلًا: مَنْزِلَةُ الْعُلَماءِ بَيْنَ النَّاسِ
نسبة شرف العالم إلى شرف العابد؛ كنسبة شرف الرسول r إلى أدنى الناس شرفا ومنزلة، فالعالِمَ يتَقدَّمُ في الشَّرَفِ والرِّفْعةِ على العابِدِ، ولا رتبة فوق رتبة من تشتغل الملائكة وجميع المخلوقات بالاستغفار والدعاء له إلى يوم القيامة.
qثَانِيًا: سَبَبُ تَفْضِيلِ الْعُلَماءِ عَلَى غَيْرِهِمْ
للعُلماءِ فضلٌ وأجرٌ عظيمٌ؛ وذلك بما مَنَّ اللهُ عليهم مِن العِلمِ الذي تَعلَّموه ويَنشُرونَه في النَّاسِ، فيَرفَعون بهم جَهْلَهم، ويَقودُهم نحوَ مَعالِمِ الخيرِ الَّتي يَصلُحُ بها شأنُ دينِهم ودُنياهم.
خُلاصَةُ الدَّرْسِ:
في هذا الحديث ذكر النبي r أن رتبة العالم أعلى من العابد، وأن فضل العالم كفضل النبي على أقل الناس منزلة، وأن الخالق والمخلوقات في السموات والأرض يصلون على العالم؛ وذلك بسبب علمه الذي يعلمه للعباد. ويستفاد من الحديث توقير العالم وطالب العلم، والدعاء لهما، والحرص على تعلم العلم وتعليمه.
عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّه بِهِ مِنَ الهُدَى والعِلْم كَمَثَلِ غَيثٍ أَصَابَ أرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الكَلأَ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أمسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ طَائفةً مِنْهَا أُخْرَى إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
شَرْحُ المُفْرَدَات:
مَثَلُ: وَيُقَالُ مِثْلُ أي النَّظِيرُ وَالشَّبِيهُ.
بَعَثَنِي: أرسلني.
الهُدَى: أَي: الدَّلَالَة الْمُوَصِّلَة إِلَى الْمَطْلُوبِ والإِرْشَادُ إِلَيه.
العِلْم: الْمُرَاد بِهِ العلم الشرعي والمَعْرِفَة النافعة.
غَيثٍ: هُوَ الْمَطَرُ.
أَصَابَ: أَي: الْمَاء.
نَقِيَّةٌ: سَهْلَةٌ طَيِّبَةٌ.
الْكَلَأُ وَالْعُشْبُ: فَكُلُّهَا أَسْمَاءٌ لِلنَّبَاتِ، لَكِنَّ الْكَلَأُ يَقَعُ عَلَى الْيَابِس وَالرَّطْب مَعًا، أَمَّا الْعُشْبُ يُطْلَق عَلَى الرَّطْب فَقَطْ. فهُوَ مِنْ ذِكْر الْخَاصّ بَعْد الْعَامّ.
أَجَادِبُ: جَمْعُ جَدْبٍ وَهِيَ الأَرْضُ الصَّلْبَةُ الَّتِي تُمْسِكُ الْمَاءَ، فَلَا يَنْضُبُ مِنْهَا الْمَاءُ.
طَائفةً مِنْهَا أُخْرَى: أي قطعة أرض أخرى.
قِيعَانٌ: جَمْعُ قَاعٍ، وَهِيَ: الأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الْمَلْسَاءُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا.
فَقُهَ: صَارَ فَقِيهًا، وَالَفِقْهُ فِي اللُّغَةِ: الفَهْمُ وَالإِدْرَاكُ.
مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأسًا: أي: لم ينتفع بما بُعثت به.
qأولا: حَاجَةُ الإِنْسَانِ إِلَى العِلْمِ.
لَا غِنًى لِلإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ عَنْ العِلْمِ؛ إِذْ بِهِ تَحْصُلُ الحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ، وَبِهِ يَتَحَقَّقُ مَبْدَأُ الاِسْتِخْلَافِ فِي الأَرْضِ، فَحَاجَةُ الإِنْسَانِ إِلَى العِلْمِ الشَّرْعِيِّ الْمُسْتَمَدِّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ r كَحَاجَتِهِ إِلَى الْمَاءِ أَوْ أَكْثَرَ؛ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَشْبِيهُ النَّبِيِّ r الْعِلْمَ بِالْغَيْثِ فِي قَوْلِهِ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ».
qثانيا: أَحْوَالُ النَّاسِ مِنْ حَيْثُ الاِنْتِفَاعُ بِالعِلْمِ.
أَحْوَالُ النَّاسِ مِنْ حَيْثُ الاِنْتِفَاعُ بِالعِلْمِ ثلاثة:
§النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ النَّاسِ، يَبْلُغُهُ الْهُدَى وَالْعِلْمُ فَيَحْفَظُهُ ويتفقه في دين الله فَيَحْيَا قَلْبُهُ، وَيَعْمَلُ بِما تعلم، وَيُعَلِّمُهُ غَيْرَهُ، فَيَنْتَفِعُ بعلمه وَيَنْفَعُ الناس بعلمه.
§النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ النَّاسِ؛ الْجَامِع لِلْعِلْمِ الْمُسْتَغْرِق لِزَمَانِهِ فِيهِ، يسمع فيحفظ، غَيْر أَنَّهُ لَمْ يَتَفَقَّه فِيمَا جَمَعَ، لَكِنَّهُ أَدَّاهُ لِغَيْرِهِ.
§النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنَ النَّاسِ؛ يَسْمَع الْعِلْم فَلَا يَحْفَظهُ، وَلَا يَعْمَل بِهِ، وَلَا يَنْقُلهُ لِغَيْرِهِ، فَإِذَا سَمِعُوا الْعِلْمَ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلَا يَحْفَظُونَهُ لِنَفْعِ غَيْرِهِمْ.
خُلاصَةُ الدَّرْسِ:
ضَرَبَ النَّبِيّ r لِمَا جَاءَ بِهِ مِن الدِّين مَثَلًا بِالْغَيْثِ الَّذي يَنزِلُ على أنواعٍ مُختلفةٍ مِن الأرضِ:
فهكذا الناس بالنسبة لما بعث الله به النبي r من العلم والهدى، منهم من فقه في دين الله، فعَلِمَ وعَلَّمَ، وانتفع الناس بعلمه وانتفع هو بعلمه.
والقسم الثاني: قوم حملوا الهدى، ولكن لم يفقهوا في هذا الهدى شيئًا، بمعنى أنهم كانوا رواة للعلم والحديث، لكن ليس عندهم فقه.
والقسم الثالث: من لم يرفع بما جاء به النبي r من العلم والهدى رأسًا، وأعرض عنه، ولم يبال به، فهذا لم ينتفع في نفسه بما جاء به النبي r ولم ينفع غيره.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْعِلْمِ مِنْهَا ضَرْبُ الْأَمْثَالِ، وَمِنْهَا فَضْلُ الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ، وَشِدَّةُ الْحَثِّ عَلَيْهِمَا، وَذَمُّ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْعِلْمِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ ثُمَّ كَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتَّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزعهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوساً جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأضَلُّوا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.