جديد الموقع: كيف أتفوق في دراستي؟
قال تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(1) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(2) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(3) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(4) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(5) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ(6) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ(7)﴾ [الفاتحة: 1-7].
تمهيد: سورة الفاتحة مكية، نزلت بعد المدثر، عدد آياتها سبع باتفاق، من أسمائها: أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، وهي سورة يجب على كل مسلم مكلف حفظها والتعبد بها في أهم ركن من أركان الإسلام الذي هو الصلاة.
الشرح والتفسير
أولا: الثناء على الله تعالى
الحمد لله: الثناء على الله تعالى الجامع لوصفه بجميع المحامد، وتنزيهه عن جميع النقائص.
رب العالمين: ملك جميع المخلوقات من الإنس والجن والملائكة والدواب وغيرهم.
الرحمن: الرحمان في الدنيا بالكافرين والمؤمنين.
الرحيم: الرحيم في الأخرة بالمؤمنين.
ملك: الملك الآمر الناهي.
يوم الدين: يوم الجزاء على الأعمال، وهو يوم القيامة.
ثانيا: تخصيص الله عز وجل وحده بالعبادة
إياك نعبد وإياك نستعين: أي نخصك وحدك بالعبادة من توحيد وغيره، ونطلب منك المعونة على العبادة وغيرها.
ثالثا: الدعاء بالهداية والاستقامة
اهدنا الصراط المستقيم: أي أرشدنا إلى الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، وهو طريق الإسلام.
صراط الذين أنعمت عليهم: أي الذين تكرمت عليهم بأنواع النعم، ومنها الهداية إلى الإسلام.
غير المغضوب عليهم ولا الضالين: غير صراط المغضوب عليهم، الذين فسدت إرادتهم فعملوا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين، وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق.
قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى(1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى(4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى(5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى(6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى(7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى(8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى(9)﴾ [الأعلى: 1-9].
تعريف بالسورة: سُورَةُ الأَعْلَى مَكِّيَّةٌ، وَهِيَ تِسْعَ عَشْرَةَ آيَةً (19)، سُمِّيَتْ بِهَذَا الاِسْمِ؛ لِوُرُودِ صِفَةِ الأَعْلَى فِي مُسْتَهَلِّهَا.
موضوعها الآيات: وَقَدْ قَرَّرَتْ هَذِهِ ٱلْآيَاتُ دَلَائِلَ مُتَعَدِّدَةً عَلَى قُدْرَةِ ٱللَّهِ تَعَالَى الوَاحِدِ ٱلْأحَدِ، وَإِبْدَاعَهُ فِي خَلْقِ ٱلْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ، وَبِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةِ ٱلهِدَايَةِ وَبَعْثِ الرُّسُلِ الَّذِينَ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِفْظَ الرِّسَالَةِ وَعَصَمَهُمْ مِنَ ٱلْخَطَأِ فِيهَا.
الشرح والتفسير:
قَال تَعَالَى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)؛ سبح: أي نَزِّهْ ٱللَّه تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ. والأعلى: صِفَةٌ لِـ (ربك) دَالَّةٌ عَلَى عُلُوِّ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
بَعْدَ تَنْزِيهِ ٱللَّه تَعَالَى وَتَعْظِيمِهِ، اِنْتَقَلَتِ الآيَاتُ الكَرِيمَةُ لِتُؤَكِّدَ عَلَى دلائل قُدْرَةِ ٱللَّه تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ.
قَال تَعَالَى: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) خلق: أَيْ أَنْشَأَ وَأَوْجَدَ خَلْقَهُ، فسوى: أي وَجَعَلَهُمْ مُتَنَاسِبِي ٱلْأَجْزَاءِ غَيْرَ مُتَفَاوِتِينَ.
(والذي قدر فهدى) أي قَدَّرَ مَا شَاءَ مِنَ ٱلْأمُورِ، فهدى: أي فَأَرْشَدَ مَخْلُوقَاتِهِ إِلَى مَا قَدَّرَهُ لَهُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ .
(والذي أخرج المرعى) والذِي أَنْبَتَ المرعى: أي العُشْبَ الأخضر.
(فجعله غثاء أحوى) فَجَعَلَهُ بَعْدَ الخُضْرَةِ غثاء: أي جَافًّا هَشِيمًا، أحوى: أي أَسْوَدَ يَابِسًا.
ثم بَشَّرَتْ الآيات رَسُولَ ٱللَّه صَلَّى ٱللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِشَارَتَيْنِ:
الأولى في قوله تعالى: (سنقرئك فلا تنسى) وَعَدَ ٱللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّهُ سَيُنْزِلُ عَلَيْهِ قُرْآنًا لَنْ يَنْسَى ما يقرؤ منه أَبَدًا.
(إلا ما شاء الله) بِاِسْتِثْنَاءِ مَا أَرَادَ ٱللَّهُ للنبي أن ينساه.
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى ٱللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ مَعَ قِرَاءَةِ جِبْرِيلَ خَوْفَ النِّسْيَانِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ لَا تَعْجَلْ بِهَا إِنَّكَ لَا تَنْسَى، فَلَا تُتْعِبْ نَفْسَكَ بِالجَهْرِ بِهَا.
(إنه يعلم الجهر وما يخفى) إِنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الجَهْرَ مِنَ القَوْلِ وَالفِعْلِ وَمَا يَخْفَى مِنْهُمَا، لِذَلِكَ وَجَبَتْ مُرَاقَبَتُهُ تَعَالَى فِي السِّرِّ وَالعَلَنِ.
(ونيسرك لليسرى) ولليسرى: أي لِلشَّرِيعَةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ وَهِيَ ٱلْاِسْلَامُ، وَهَذِهِ بِشَارَةٌ ثَانِيَةٌ لِرَسُولِ ٱللَّهِ صَلَّى ٱللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى(9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى(10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى(11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى(12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى(13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى(14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى(15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى(18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى(19)﴾ [الأعلى: 9-19].
تَمْهِيدٌ: حَثَّتِ ٱلْآيَاتُ عَلَى ٱلْوَعْظِ وَالتَّذْكِرَةِ؛ لِمَا لَهُمَا مِنْ أَثَرٍ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ ٱلْمُوصِلَةِ لِلْفَلَاحِ، وَخُتِمَتْ بِبَيَانِ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَبَقَاءِ ٱلْآخِرَةِ، وَأَنَّ الدِّينَ وَاحِدٌ مَهْمَا ٱخْتَلَفَتْ شَرَائِعُهُ.
شرح المفردات:
النَّارَ الْكُبْرَى: نَارَ ٱلْآخِرَةِ.
أَفْلَحَ: فَازَ وَظَفِرَ.
تَزَكَّى: تَطَهَّرَ بِالإِيمَانِ.
تُؤْثِرُونَ: تُقَدِّمُونَ وَتُفَضِّلُونَ.
الشرح والتفسير:
أَوَّلًا: الْحَثُّ عَلَى ٱلْوَعْظِ وَالتَّذْكِرَةِ وَبَيَانُ آثَارِهِمَا (9-13)
قَال تَعَالَى: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) أيْ: عِظِ النَّاسَ بِالقُرْآنِ ٱلْكَرِيمِ، وَخُصَّ بِالتَّذْكِيرِ مَنْ تَتَوَقَّعُ مِنْهُمْ قَبُولَ دَعْوَتِكَ (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى) ٱللَّه تَعَالَى (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) ٱلْمُصِرَّ عَلَى ٱلْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى) فِي ٱلْآخِرَةِ (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى) لَا يَلْحَقُهُ ٱلْمَوْتُ بِسَبَبِ شِدَّةِ عَذَابِهَا فَيَسْتَرِيحُ، وَلَا يَحْيَي حَيَاةً هَنِيئَةً.
ثَانِيًا: جَزَاءُ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ (14-17)
قَال تَعَالَى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) قَدَ افْلَحَ وَفَازَ مَنْ تَطَهَّرَ بِالإِيمَانِ وَصَالِحِ ٱلْأَعْمَالِ وَذَكَرَ ٱللَّهُ تَعَالَى فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، وَأَقَامَ الصَّلَوَاتِ كَمَا شَرَعَهَا ٱللَّهُ تَعَالَى بَلْ (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) تُفَضِّلُونَ وَتُقَدِّمُونَ ٱلْحَيَاةَ الدُّنْيَا ٱلْفَانِيَةَ الزَّائِلَةَ، عَلَى ٱلْآخِرَةِ الدَّائِمَةِ ٱلْبَاقِيَةِ ٱلْمُشْتَمِلَةِ عَلَى ٱلْجَنَّةِ وَمَا فِيهَا مِنْ نَعِيمٍ لَا يَنْفَدُ.
ثَالِثًا: وَحْدَةُ الدِّينِ مَهْمَا ٱخْتَلَفَتِ الشَّرَائِعُ (18-19)
قَال تَعَالَى: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) أَيْ: إِنَّ مَا أَخْبَرْنَاكُمْ بِهِ مِنْ فَوْزِ وَنَجَاحِ مَنْ تَزَكَّى بِالإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَكَوْنِ ٱلْآخِرَةِ ٱلْبَاقِيَةِ خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا ٱلْفَانِيَةِ، مَوْجُودٌ فِي الصُّحُفِ ٱلْأولَى ٱلْمنْزَلَةِ قَبْلَ ٱلْقُرْآنِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى.
يستفاد من الآيتين:
إِرْشَادٌ لِلمُؤْمِنِينَ لِلتَّصْدِيقِ بِالكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ السَّابِقَةِ، وَأَنَّ الدِّينَ وَاحِدٌ مُنْذُ آدَمَ عَلَيْهِ السَلَامُ إِلَى خَاتِمِ ٱلْأنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَّى ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ الَّذِي يَخْتَلِفُ هُوَ الشَّرَائِعُ. وَذَكَرَ ٱللَّه تَعَالَى: (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) لِبَيَانٍ فَضْلِهِمَا عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الرُّسُلِ.
الخلاصة:
حَثَّتِ ٱلْآيَاتُ (9-13) عَلَى ٱلْوَعْظِ وَالتَّذْكِرَةِ؛ لِمَا لَهُمَا مِنْ أَثَرٍ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ ٱلْمُوصِلَةِ لِلْفَلَاحِ (14-15)، وَخُتِمَتْ ٱلْآيَاتُ (16-19) بِبَيَانِ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَبَقَاءِ ٱلْآخِرَةِ، وَأَنَّ مُنْذُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى ٱللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ الَّذِي يَخْتَلِفُ هُوَ الشَّرَائِعُ.
بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ(1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ(2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ(3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً(4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ(5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ(6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ(7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ(8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ(9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً(11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ(12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ(13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ(14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ(15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ(16)﴾.
تَمْهِيدٌ
سُورَةُ ٱلْغَاشِيَةِ مَكِّيَّةٌ، وَهِيَ سِتٌّ وَعِشْرُونَ (26) آيَةً، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى لَفْظِ ٱلْغَاشِيَةِ وهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ، وتتحدث هذه السورة عن بعض أصول العقيدة والإيمان، وَتَنَاوَلَ النصفُ ٱلْأَوَّلُ مِنْهَا ٱلْحَدِيثَ عَنْ وَصْفِ ٱلْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا وَمَا يجد الإنسان فِيهَا مِنْ سَعَادَةٍ وَشَقَاءٍ.
شَّرْحُ المفردات:
الْغَاشِيَةِ: ٱلْقِيَامَةِ، لِأَنَّهَا تَغْشَى ٱلْخَلاَئِقَ بِأَهْوَالِهَا.
خَاشِعَةٌ: ذَلِيلَةٌ خَاضِعَةٌ.
عَيْنٍ آنِيَةٍ: عَيْنٍ شَدِيدَةِ ٱلْحَرَارَةِ.
ضَرِيعٍ: شَوْكٍ فِي جَهَنَّمَ خَبِيثٍ كَرِيهِ ٱلرَّائِحَةِ.
التَّفْسِيرُ:
أَوَّلًا: أَهْوَالُ يَومِ ٱلْقِيَامَةِ وَأَوْصَافُ أَهْلِ الشَّقَاءِ فِيهِ
قَال تَعَالَى (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (يُخَاطِبُ ٱللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ٱلْكَرِيمَ بِقَوْلِهِ: هَلْ بَلَغَكَ خَبَرُ ٱلْقِيَامَةِ ٱلَّتِي تُسَمَّى ٱلْغَاشِيَةَ؟ وَالهَدَفُ مِنَ ٱلاِسْتِفْهَامِ هُوَ تَشْوِيقُ ٱلسَّامِعِ لِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدُ، ثُمَّ شَرَعَ ٱللَّه تَعَالَى يُبَيِّنُ أَوْصَافَ أَهْلِ ٱلشَّقَاءِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ، حَيْثُ قَالَ سُبْحَانَهُ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ) أَيْ: ذَلِيلَةٌ، ذَاتُ نَصَبٍ وَتَعَبٍ، بِسَبَبِ ٱلسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ. وَعَبَّرَ بِالْوُجُوهِ عَنْ ذَوَاتِهَا وَأَصْحَابِهَا وَهُمُ ٱلْأَشْقِيَاءُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ (تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً) أَيْ: تَدْخُلُ هَذِهِ ٱلْوُجُوهَ نَارًا شَدِيدَةَ ٱلْحَرَارَةِ (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) إِذَا طَلَبَ أَهْلُ ٱلنَّارِ ٱلْمَاءَ لِيَشْرَبُوا، أُتِيَ لَهُمْ بِمَاءٍ مِنْ عَيْنٍ بَلَغَتِ ٱلغَايَةَ فِي ٱلْحَرَارَةِ (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) وَإِذَا رَغِبُوا فِي ٱلطَّعَامِ قُدِّمَ لَهُمْ نَوْعٌ مِنْ ٱلشَّوْكِ لَا تَرْعَاهُ دَابَّةٌ لِنَتْنِهِ وَخُبْثِهِ )لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (أَيْ: لَا يُسْمِنُ جِسْمَ صَاحِبِهِ وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُ ٱلْجُوعَ.
ثَانِيًا: وَصْفُ نَعِيمِ أَهْلِ ٱلْجَنَّةِ
قَال تَعَالَى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ) أَيْ: وُجُوهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ حَسَنَةٌ ذَاتُ نَضَارَةٍ وَبَهْجَةٍ (لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ) رَاضِيَةٌ فِي ٱلْآخِرَةِ لِمَا أَحْرَزَتْ مِنْ ثَوابٍ، جَزَاءَ سَعْيِهَا وَعَمَلِهَا في ٱلدُّنْيَا (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) فِي جَنَّةٍ رَفِيعَةِ ٱلْقَدْرِ وَالمَكَانَةِ) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (لَا يَسْمَعُ فِيهَا أَهْلُ ٱلْجَنَّةِ كَلِمَةَ لَغْوٍ وَهَذَيَانٍ مِنَ ٱلْكَلَامِ (فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ( أَيْ: فِيهَا عُيُونٌ جَارِيَةٌ فِي جَنَبَاتِهَا (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) فِيهَا أَسِرَّةٌ مُرْتَفِعَةٌ ذَاتًا وَقَدْرًا وَمَحَلًّا (وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ) أَقْدَاحٌ لَا مَقَابِضَ لَهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى حَافَّاتِ ٱلْعُيُونِ مُعَدَّةٌ لِشُرْبِهِمْ (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ) وَوَسَائِدُ بَعْضُهَا بِجَنْبِ بَعْضٍ يُسْتَنَدُ إِلَيْهَا (وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) بُسُطٌ فَاخِرَةٌ مَمْدُودَةٌ وَمَفْرُوشَةٌ.
الخلاصة:
تتحدث ٱلْآيَاتُ (1-7) عَنْ وَصْفِ يوم ٱلْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا، وَمَا يجد أهل الشقاء فِيهَا مِنْ وَشَقَاءٍ وأوصافهم.
كما تشير الآيات (8-16) إلى نِعَمِ ٱللَّهِ تَعَالَى وَجُودِهِ عَلَى أَهْلِ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ؛ حَيْثُ حَبَاهُمْ سُبْحَانَهُ بِمَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
قال تعالى:﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ(21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ(22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ(23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ(24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)﴾
تَمْهِيدٌ
تَنَاوَلَتِ ٱلْآيَاتُ مَوْضُوعُ الدَّرْسِ تَوْحِيدَ ٱللَّه تَعَالَى، وَإِثْبَاتَ قُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ فِي إِيجَادِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَدَعْوَتَهُ إِلَى ضَرُورَةِ ٱلتَّفَكُّرِ وَٱلتَّأَمُّلِ فِيهَا، كَمَا أَرْشَدَتْ إِلَى أسْلُوبٍ مِنْ أَسَالِيبِ ٱلدَّعْوَةِ ٱلْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَى ٱلتَّذْكِرَةِ وَٱلْـمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ دُونَ عُنْفٍ أَوْ إِكْرَاهٍ، وَخُتِمَتْ ٱلْآيَاتُ بِدَعْوَةِ ٱلرَّسُولِ صَلَّى ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَذْكِيرِ ٱلنَّاسِ بِالرُّجُوعِ إِلَى ٱللَّهِ تَعَالَى.
شَّرْحُ المفردات
أَفَلَا يَنْظُرُونَ: أَفَلَا يَرَوْنَ عَظَمَةَ ٱلْخَلْقِ.
سُطِحَتْ: بُسِطَتْ.
بِمُصَيْطِرٍ: بِجَبَّارٍ، تُلْزِمُهُمْ بِالإِيمَانِ.
الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ: عَذَابَ ٱلآخِرَةِ.
إِيَابَهُمْ: مَجِيئَهُمْ وَرُجُوعَهُمْ.
التَّفْسِيرُ
أَوَّلًا: التَّأَمُّلُ فِي مَخْلُوقَاتِ ٱللَّهِ تَعَالَى وَتَرْكِيبَاتِهَا ٱلْعَجِيبَةِ
قَال تَعَالَى: للْمُكَذِّبينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) نَظَرَ ٱعْتِبَارٍ بهَذَا ٱلْخَلْقَ ٱلْغَرِيبَ (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) عَنِ ٱلْأَرْضِ بِلَا عَمَدٍ (وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) شَامِخَةً لَا تَهْتَزُّ وَلَا تَمِيلُ (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) أَيْ بُسِطَتْ، فَيَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى قُدْرَةِ ٱللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتِهِ. وَصُدِّرَتِ ٱلْآيَاتُ بِالْإِبِلِ؛ لِأَنَّ ٱلْعَرَبَ أَشَدُّ تَعَلُّقًا بِهَا.
ثَانِيًا: الْأَمْرُ بِالتَّذْكِرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ
قَال تَعَالَى (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ(21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) فِي هَاتَيْنِ ٱلْآيَتَيْنِ يَأْمُرُ ٱللَّهُ ٱلرَّسُولَ صَلَّى ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُذَكِّرَ ٱلنَّاسَ بِنِعَمِ ٱللَّهِ وَدَلَائِلِ تَوْحِيدِهِ، وَيُنَبِّهُهُ إِلَى ضَرُورَةِ اقْتِصَارِهِ عَلَى تَذْكِيرِهِمْ، دُونَ إِكْرَاهِهِمْ عَلَى ٱلْإِيمَانِ وَالاِمْتِثَالِ، فَهُوَ لَيْسَ بِمُسَلَّطٍ عَلَيْهِمْ (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ(23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ) لَكِنْ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ ٱلْإِيمَانِ وَجَحَدَ ٱلْقُرْآنَ فَيُعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ٱلْعَذَابَ ٱلْأَكْبَرَ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ بِإِدْخَالِهِ جَهَنَّمَ.
ثَالِثًا: تَذْكِيرُ ٱلنَّاسِ بِالرُّجُوعِ إِلَى ٱللَّهِ تَعَالَى
قَال تَعَالَى: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) خَتَمَ ٱللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ ٱلسُّورَةَ بِتَذْكِيرِ ٱلنَّاسِ بِرُجُوعِهِمْ إِلَيْهِ بَعْدَ ٱلْمَوْتِ حَيْثُ سَيُحَاسَبُونَ وَيُجَازَوْنَ عَلَى مَا عَمِلُوهُ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا.
الخلاصة:
تَنَاوَلَتِ ٱلْآيَاتُ (17-26) مَوْضُوعُ الدَّرْسِ تَوْحِيدَ ٱللَّه تَعَالَى، وَإِثْبَاتَ قُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ فِي إِيجَادِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَدَعْوَتَهُ إِلَى ضَرُورَةِ ٱلتَّفَكُّرِ وَٱلتَّأَمُّلِ فِيهَا (الآيات: 17-20)، كَمَا أَرْشَدَتْ إِلَى أسْلُوبٍ مِنْ أَسَالِيبِ ٱلدَّعْوَةِ ٱلْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَى ٱلتَّذْكِرَةِ وَٱلْـمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ دُونَ عُنْفٍ أَوْ إِكْرَاهٍ (الآيات: 21-24)، وَخُتِمَتْ ٱلْآيَاتُ بِدَعْوَةِ ٱلرَّسُولِ صَلَّى ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَذْكِيرِ ٱلنَّاسِ بِالرُّجُوعِ إِلَى ٱللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَجْلِ ٱلاِسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ بِتَقْوِيَةِ ٱلْإِيمَانِ والإِكْثَارِ مِنَ ٱلْأَعْمَالِ ٱلصَّالِحَةِ (الآيتين: 25-26).
قال تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ(1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ(3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ(4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ(5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ(6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ(7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ(8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ(9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ(10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ(11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ(12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ(13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ(15) فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ(16) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ(17) فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ(18)﴾.
تمهيد: سُورَةُ ٱلْفَجْرِ مَكِّيَّةٌ، وَهِيَ ٱثْنَانِ وَثَلَاثُونَ (32) آيَةً، وَقَدْ بَدَأَتْ الآيات موضوع الدرس بِقَسَمِ ٱللَّهِ تَعَالَى بِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ، ثُمَّ أَتْبَعَتْ ذَلِكَ بِذِكْرِ قَصَصِ بَعْضِ ٱلْأُمَمِ ٱلسَّابِقَةِ ٱلْمُكَذِّبَةِ لِرُسُلِ ٱللَّهِ، وَبَيَّنَتْ عَاقِبَتَهُمْ. وَخُتِمَتْ هَذِهِ ٱلْآيَاتُ بِسُنَّةِ اِبْتِلاَءِ ٱللَّهِ لِعِبَادِهِ بِالشِّدَّةِ وَٱلرَّخَاءِ، ٱمْتِحَانًا وَاِخْتِبَارًا لَهُمْ.
شَرْحُ المفردات:
حِجْرٍ: عَقْلٍ.
إِرَمَ: مَدِينَةُ عَادٍ.
وَثَمُودَ: قَوْمُ صَالِحٍ.
جَابُوا: قَطَعُوا.
طَغَوْا: تَجَبَّرُوا.
الْفَسَادَ: ٱلْغَيَّ وَالضَّلَالَ.
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ: إن ربك ليراقب أعمال العباد.
ابْتَلَاهُ: اخْتَبَرَهُ.
فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ: لَمْ يَجْعَلْهُ فِي سَعَةٍ مِنْ رِزْقِهِ.
أَهَانَنِ: اِحْتَقَرَنِي وَأَذَلَّنِي.
التَّفْسِيرُ
أَوَّلًا: قَسَمُ ٱللَّهِ تَعَالَى بِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ
أَقْسَمَ ٱللَّهُ تَعَالَى بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ وَهي: (وَالْفَجْرِ) أَيْ: فَجْرِ كُلِّ يَوْمٍ (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) أَيْ: عَشْرِ ذِي ٱلْحِجَّةِ (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) أَيْ كُلِّ زَوْجٍ وَكُلِّ فَرْدٍ (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) مُقْبِلاً وَمُدْبِرًا (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) هَلْ فِي ٱلْقَسَمِ بِذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي عَقْلٍ وَلُبٍّ، يَمْنَعُهُ مِنَ ٱلْمُكَابَرَةِ، فَيَعْلَمُ أَنَّ ٱلْمُقْسِمَ بِهَذَا ٱلْقَسَمِ صَادِقٌ فِيمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ، وَجَوَابُ ٱلْقَسَمِ، أَيْ: لَتُعَذَّبُنَّ يَا كُفَّارَ مَكَّةَ.
ثَانِيًا: قَصَصُ بَعْضِ ٱلْأُمَمِ ٱلسَّابِقَةِ
قَال تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ) أَيْ: أَلَمْ تَعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِقَوْمِ عَادٍ بمَدِينَةُ (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ) أي ٱلْأَعْمِدَةِ ٱلطَّوِيلَةِ ٱلضَّخْمَةِ (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) لِضَخَامَتِهَا، وَبِمَا تَمْتَازُ بِهِ مِنْ أَبْنِيَةٍ عَظِيمَةٍ (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) أَيْ: أَلَمْ تَنْظُرْ أَيْضًا كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِثَمُودَ ٱلَّذِينَ قَطَعُوا ٱلصَّخْرَ بَوَادِي ٱلْقُرَى وَاتَّخَذُوهَا بُيُوتًا (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ) وَكَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِفِرْعَوْنَ ٱلَّذِي كَانَ يَتِدُ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ، يَشُدُّ إِلَيْهَا يَدَيْ وَرِجْلَيْ مَنْ يُعَذِّبُهُ (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ) هَؤُلاَءِ ٱلَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ (عَادٌ، وَثَمُودُ، وَفِرْعَوْنُ) طَغَوْا وَتَجَبَّرُوا فِي ٱلْبِلَادِ (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ) بِالْقَتْلِ وَغَيْرِهِ (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) فَسَلَّطَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ نَوْعَ عَذَاب (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) يَرْصُدُ أَعْمَالَ ٱلْعِبَادِ، فَلاَ يَفُوتُهُ مِنْهَا شَيْءٌ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا.
ثَالِثًا: سُنَّةُ ٱلاِبْتِلَاءِ فِي ٱلْحَيَاةِ
قَال تَعَالَى: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ(15) فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) أَيْ: فَأَمَّا ٱلْإِنْسَانُ إِذَا يَسَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ نِعَمَهُ ٱلْمُخْتَلِفَةَ، فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ لِيَخْتَبِرَهُ، فَيَظُنُّ أَنَّ رَبَّهُ أَكْرَمَهُ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِذَاكَ ٱلْإِكْرَامِ، وَلَيْسَ مِنْ أَجْلِ ٱخْتِبَارِهِ وَاِمْتِحَانِهِ (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ(17) فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) وَأَمَّا ٱلْإِنْسَانُ إِذَا ٱخْتَبَرَهُ ٱللَّـهُ تَعَالَى فَضَيَّقَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، اعْتَبَرَ ذَلِكَ إِهَانَةً لَهُ مِنَ ٱللَّهِ تَعَالَى.
الخلاصة:
سُورَةُ ٱلْفَجْرِ مَكِّيَّةٌ، وَهِيَ ٱثْنَانِ وَثَلَاثُونَ (32) آيَةً، وَقَدْ بَدَأَتْ الآيات بِقَسَمِ ٱللَّهِ تَعَالَى بِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ، ثُمَّ أَتْبَعَتْ ذَلِكَ بِذِكْرِ قَصَصِ بَعْضِ ٱلْأُمَمِ ٱلسَّابِقَةِ ٱلْمُكَذِّبَةِ لِرُسُلِ ٱللَّهِ، وَبَيَّنَتْ عَاقِبَتَهُمْ حَيْثُ شَمِلَ سُبْحَانَهُ بِنِعَمِهِ الكَثِيرَةِ قَوْمَ عَادٍ ٱلَّذِينَ قَابَلُوهَا بِالْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ، وَخُتِمَتْ هَذِهِ ٱلْآيَاتُ بِسُنَّةِ اِبْتِلاَءِ ٱللَّهِ لِعِبَادِهِ بِالشِّدَّةِ وَٱلرَّخَاءِ، ٱمْتِحَانًا وَاِخْتِبَارًا لَهُمْ وبها يَتَأَكَّدُ جُودُ ٱللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ مِنْ خِلَالِ ابْتِلَائِهِمْ بِالخَيْرِ وَالشَّرِّ زِيَادَةً لَهُمْ فِي ٱلْأَجْرِ وَٱلثَّوَابِ إِنْ شَكَرُوا ٱللَّه تَعَالَى عَلَى فَضْلِهِ، وَصَبَرُوا عَلَى ٱبْتِلاَئِهِ.
نص للاستثمار:
يَجُوزُ عَلَى ٱللَّه سُبْحَانَهُ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا يَشَاءُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، مِثْلَ: ٱلطُّورِ وَٱلنَّجْمِ وَٱلتِّينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا ٱلْمَخْلُوقُ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْسِمَ بِغَيْرِ خَالِقِهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» [صحيح البخاري، كتاب الشهادات، باب كيف يستحلف].
قال تعالى:﴿كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ(19) وَلَا تَحُضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(20) وَتَاكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا(21) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا(22) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا(23) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا(24) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ(25) يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى(26) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(27) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ(28) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ(29) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(30) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً(31) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي(32)﴾ [الفجر: 19-32]
تمهيد: تَنَاوَلَتِ ٱلْآيَاتُ مَوْضُوعُ الدَّرْسِ نَظْرَةَ ٱلْإِنْسَانِ لِلْمَال وَطَمَعَهُ فِي الدُّنْيَا، وَسُوءَ مُعَامَلَتِهِ لِلْيَتَامَى وَالْـمَحْرُومِينَ، كَمَا تَنَاوَلَتْ وَصْفَ نُزُولِ ٱلرَّحْمَانِ وَٱلمَلَائِكَةِ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ وَٱلأَهْوَالِ ٱلْـمُرْتَبِطَةَ بِذَلِكَ، إِضَافَةً إِلَى اِنْقِسَامِ ٱلنَّاسِ إِلَى سُعَدَاءَ وَأَشْقِيَاءَ.
شرْحُ المفردات:
كَلَّا: أَدَاةٌ لُغَوِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ.
التُّرَاثَ: الْمِيرَاثَ.
لَمًّا: شَدِيدًا.
حُبًّا جَمًّا: حُبًّا كَثِيرًا.
وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى: مِنْ أَيْنَ لَهُ فِي يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ أَنْ يَتَذَكَّرَ فَيُصْلِحَ مَا أَفْسَدَهُ فِي الدُّنْيَا.
يُوثِقُ: يَشُدُّ بِالسَّلَاسِلِ وَالأَغْلَال.
وَثَاقَهُ أَحَدٌ: لَا يُقَيِّدُ أَحَدٌ بِالسَّلَاسِلِ وَالأَغْلَالِ مِثْلَ تَقْيِيدِ اللَّهِ لِلكَافِرِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ.
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ: النَّفْسُ الَّتي تَأْتِي يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ مُسْتَبْشِرَةً نَاجِيَةً مِنَ ٱلْعَذَابِ.
أَوَّلًا: تَعَلُّقُ ٱلْإِنْسَانِ بحُبِّ ٱلْمَالِ وَسُوءُ مُعَامَلَتِهِ لِليَتَامَى وَالْـمَحْرُومِينَ
بَعْدَ أَنْ زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ بِأَنَّ ٱبْتِلاَءَ ٱللَّهِ تَعَالَى للإِنْسَانِ بِالْخَيْرِ لِقِيمَتِهِ وَمَكَانَتِهِ، وَأَنَّ ابْتِلَاءَهُ بِالشَّرِّ يُعَدُّ إِهَانَةً لَهُ؛ رَدَّ ٱللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ زَاجِرًا وَرَادِعًا فَقَالَ: (كَلَّا) أَيْ لَيْسَ ٱلْإِكْرَامُ بِالْغِنَى، وَالْإِهَانَةُ بِالفَقْرِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ بِالطَّاعَةِ وَالـمَعْصِيَّةِ (بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) لَا تُحْسِنُونَ إِليْهِ مَعَ غِنَاكُمْ، أَوْ لاَ تُعْطُونَهُ حَقَّهُ مِنَ ٱلْمِيرَاثِ (وَلَا تَحُضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (وَلاَ تَحُثُّونَ أَنْفُسَكُمْ وَغَيْرَكُمْ عَلَى إِطْعَامِ ٱلْمِسْكِينِ (وَتَاكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا) وَتَأْكُلُونَ مِيرَاثَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ أَكْلاً شَدِيدًا (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) أَيْ: تُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبًّا كَثِيرًا فَلاَ تُنْفِقُونَهُ.
ثَانِيًا: أَحْدَاثُ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ وَاِنْقِسَامُ النَّاسِ إِلَى أَشْقِيَاءَ وَسُعَدَاءَ
يُنْكِرُ ٱللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ يَهْضِمُ حُقُوقَ ٱلْيَتِيمِ، وَلاَ يَحُثُّ عَلَى إِطْعَامِ ٱلْمَسَاكِينِ وَالْـمُحْتَاجِينَ، وَيَغْصِبُ حُقُوقَ النِّسَاءِ وَالأَطْفَال مِنَ ٱلْمِيرَاثِ؛ وَيُخَاطِبُهُمْ بِقَوْلِهِ (كَلَّا) رَادِعًا وَزَاجِرًا لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَيُذَكِّرُهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ هَذِهِ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ، الَّذِي وَصَفَهُ بِقَوْلِهِ (إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) أَيْ: زُلْزِلَتْ حَتَّى يَنْهَدِمَ كُلُّ بِنَاءٍ عَلَيْهَا وَيَنْعَدِمَ (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (أَيْ: جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَالـمَلَائِكَةُ مُصْطَفِّينَ فِي صُفُوفٍ كَثِيرَةٍ لِلفَصْلِ بَيْنَ ٱلْخَلاَئِقِ (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) جِيءَ فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ ٱلْعَظِيمِ بِجَهَنَّمَ (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) حِينَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلْإِنْسَانُ مَا فَرَّطَ فِي حَيَاتِهِ ٱلدُّنْيَا وَيَنْدَمُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَنْفَعُهُ تَذَكُّرُهُ وَلَا نَدَمُهُ (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (يَتَمَنَّى ٱلْإِنْسَانُ عِنْدَ تَذَكُّرِهِ بَعْدَ فَوَاتِ ٱلْأَوَانِ لَوْ أَنَّهُ قَدَّمَ ٱلْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مِنْ خَيْرٍ وَإِيمَانٍ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا ٱلْفَانِيَةِ، لِحَيَاتِهِ ٱلْأُخْرَى ٱلْبَاقِيَةِ (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ) فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُعَذِّبَ مِثْلَ عَذَابِ ٱللَّهِ مَنْ عَصَاه (وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (وَلَيْسَ أَحَدٌ أَشَدَّ وَثْقًا بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ مِثْلَ إِيثَاقِ ٱللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ عَصَاهُ (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(30) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً(31) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي(32) (تُخَاطَبُ النَّفْسُ ٱلْآمِنَةُ ٱلْـمُؤْمِنَةُ عِنْدَ ٱلْـمَوْتِ وَيُقَالَ لَهَا: اِرْجِعِي إِلَى أَمْرِ رَبِّكِ وَإِرَادَتِهِ رَاضِيَةً بِالثَّوَابِ، مَرْضِيَّةً عِنْدَ ٱللَّهِ بِعَمَلِكِ، وَيُقَالُ لَهَا فِي ٱلْقِيَامَةِ ادْخُلِي فِي جُمْلَةِ عِبَادِي الصَّالحِينَ، وَادْخُلِي جَنَّتِي مَعَهُمْ.
الخلاصة: تتحدث هذه الآيات: (19-32) عن نَظْرَةَ ٱلْإِنْسَانِ لِلْمَال وَطَمَعَهُ فِي الدُّنْيَا، وَسُوءَ مُعَامَلَتِهِ لِلْيَتَامَى وَالْـمَحْرُومِينَ، وتحثه عَلَى إِكْرَامِ ٱلْيَتَامَى وَإِطْعَامِ ٱلْجِيَاعِ، وَأَمْرِهِ إِعْطَاءَ ٱلْمَوَارِيثِ لِمُسْتَحِقِّيهَا؛ مِنْ أَجْلِ ٱلْحِفَاظِ عَلَى حُقُوقِ النَّاسِ الَّتي زَكَّاهَا الله تعالى بِتَنْدِيدِهِ بِحُبِّ ٱلْمَالِ الَّذِي يَحْمِلُ عَلَى مَنْعِ حُقُوقِ النَّاسِ وَالاِعْتِدَاءِ عَلَيْهَا (19-22). كَمَا تَنَاوَلَتْ وَصْفَ نُزُولِ ٱلرَّحْمَانِ وَٱلمَلَائِكَةِ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ وَٱلأَهْوَالِ ٱلْـمُرْتَبِطَةَ بِذَلِكَ، إِضَافَةً إِلَى اِنْقِسَامِ ٱلنَّاسِ إِلَى سُعَدَاءَ وَأَشْقِيَاءَ (23-32).
﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ(1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ(2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ(3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ(4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ(5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا(6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ(7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ(8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ(9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(10)﴾ [البلد: 1-10].
تَمْهِيدٌ
سُورَةُ ٱلْبَلَدِ مَكِّيَّةٌ، وَآيَاتُهَا عِشْرُونَ (20)، تَنَاوَلَتِ ٱلْآيَاتُ مَوْضُوعُ الدَّرْسِ قَسَمَ ٱللَّهِ تَعَالَى بِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ، عَلَى أَنَّ ٱلْإِنْسَانَ فِي تَعَبٍ وَنَصَبٍ وَشِدَّةٍ، ثُمَّ حَذَّرَتْهُ مِنْ خَطَرِ ٱغْتِرَارِهِ بِقُوَّتِهِ وَمَالهِ، وَخُتِمَتْ هَذِهِ ٱلْآيَاتُ، بِتَذْكِيرِ ٱلْإنْسَانِ بِفَضْلِ ٱللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَبِمَا ٱمْتَنَّ عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِهِ ٱلْكَثِيرَةِ.
شرْحُ المفردات:
الْبَلَدِ: البلد مَكَّةَ.
الْإِنْسَانَ: الانسان اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى جِنْسِ بَنِي آَدَمَ.
كَبَدٍ: كبد نَصَبٍ وَشِدَّةٍ، أَيْ يُوَاجِهُ مَصَاعِبَ الدُّنْيَا وَعَقَبَةِ ٱلْآخِرَةِ.
لُبَدًا: لبدا كَثِيرًا.
وَهَدَيْنَاهُ: وهديناه بَيَّنَّا لَهُ.
النَّجْدَيْنِ: النجدين الطَّرِيقَيْنِ، طَرِيقِ ٱلْخَيْرِ وَطَرِيقِ الشَّرِّ.
أَوَّلًا: قَسَمُ ٱللَّهِ تَعَالَى عَلَى اِبْتِلَاءِ ٱلْإِنْسَانِ بِالنَّصَبِ وَالتَّعَبِ
قَال تَعَالَى: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) يُقْسِمُ ٱللَّهُ تَعَالَى بِمَكَّةَ ٱلْبَلَدِ ٱلْحَرَامِ (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ حَالٌّ مُقِيمٌ بِهَذَا ٱلْبَلَدِ، فَحَصَلَ الشَّرَفُ لَهُ بِإِقَامَةِ النَّبِيِّ صَلَّى ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ حَتَّى أَقْسَمَ ٱللَّهُ تَعَالَى بِهِ (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) وَيُقْسِمُ ٱللَّه تَعَالَى أَيْضًا بِكُلِّ وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنْسَانَ فِي نَصَبٍ وَشِدَّةٍ، يُكَابِدُ مَصَائِبَ الدُّنْيَا، مُنْذُ وِلَادَتِهِ إِلَى وَفَاتِهِ، وَيُوَاجِهُ شَدَائِدَ ٱلْآخِرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ.
ثَانِيًا: اِغْتِرَارُ ٱلْإِنْسَانِ بِقُوَّتِهِ وَمَالهِ
قَال تَعَالَى: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) أَيَظُنُّ ٱلْإِنْسَانُ ٱلْمُغْتَرُّ بِقُوَّتِهِ وَمَالهِ أَنَّهُ بَلَغَ مِنَ ٱلْقُوَّةِ دَرَجَةً لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟ فالله تَعَالَى الَّذِي مَنَحَهُ ٱلْقُوَّةَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُذْهِبَ بِهِ وَبِمَالهِ وَبِقُوَّتِهِ.
وَهَذِهِ ٱلْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَبِي ٱلْأَشَدِّ بْنِ كِلْدَةَ، الَّذِي سُمِّيَ بِذَلِكَ لِشِدَّةِ بَطْشِهِ وَقُوَّتِهِ (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا) يَقُولُ مُتَبَاهِيًا أَنْفَقْتُ عَلَى عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ مَالاً كَثِيرًا (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) أَيَظُنُّ فِي فِعْلِهِ هَذَا أَنَّ ٱللَّه عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَرَاهُ، وَلاَ يُحَاسِبُهُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ؟
ثَالِثًا: امْتِنَانُ ٱللَّهِ تَعَالَى عَلَى ٱلْإِنْسَانِ بِنِعَمِهِ ٱلْكَثِيرَةِ
بَعْدَ تَقْرِيعِ ٱلْمَفْتُونِينَ بِقُوَّتِهِمْ وَمَالِهِمْ وَتَنْبِيهِهِمْ عَلَى عَدَمِ الاِغْتِرِارِ بِمَا أَتَاهُمُ ٱللَّهُ تَعَالَى، شَرَعَ سُبْحَانَهُ يُذَكِّرُهُمْ بِنِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ(8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ(9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(10)) هَذَا اِسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ، أَيْ جَعَلْنَا لَهُ عَيْنَيْنِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلِسَانًا يُعَبِّرُ بِهِ عَمَّا يُرِيدُ، وَشَفَتَيْنِ لِلْكَلاَمِ وَحَبْسِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَبَيَّنَّا لَهُ طَرِيقَ ٱلْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِمَا أَوْدَعْنَا فِيهِ مِنْ فِطْرَةِ التَّمْيِيزِ وَالْإِدْرَاكِ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ.
الخلاصة:
سُورَةُ ٱلْبَلَدِ مَكِّيَّةٌ، وَآيَاتُهَا عِشْرُونَ (20)، تَنَاوَلَتِ ٱلْآيَاتُ مَوْضُوعُ الدَّرْسِ قَسَمَ ٱللَّهِ تَعَالَى بِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ، عَلَى أَنَّ ٱلْإِنْسَانَ فِي تَعَبٍ وَنَصَبٍ وَشِدَّةٍ (الآيات: 1-4)، وبَعْدَ تَقْرِيعِ ٱلْمَفْتُونِينَ بِقُوَّتِهِمْ وَمَالِهِمْ حَذَّرَتْهُ مِنْ خَطَرِ ٱغْتِرَارِهِ بِمَا أَتَاهُمُ ٱللَّهُ تَعَالَى من قوة ومال (الآيات: 5-7)، ثمم شَرَعَ سُبْحَانَهُ بِتَذْكِيرِ ٱلْإنْسَانِ بِفَضْلِ ٱللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَبِمَا ٱمْتَنَّ عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِهِ ٱلْكَثِيرَةِ، مِنْهَا: نِعْمَةُ ٱلْعَيْنَيْنِ وَاللِّسَانِ، وَالشَّفَتَيْنِ، وَنِعْمَةُ ٱلْهِدَايَةِ الَّتي يَعْرِفُ بِهَا طَرِيقَ ٱلْخَيْرِ فَيَسْلُكُهَا، وَطَرِيقَ الشَّرِّ فَيَتَجَنَّبُهَا (الآيات: 8-10).
قال تعالى: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ(11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ(12) فَكُّ رَقَبَةٍ(13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ(14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ(15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ(16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ(17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ(18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ(19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ(20)﴾ [البلد: 11-20].
تَمْهِيدٌ
لَمَّا كَانَ ٱلْإِنْسَانُ مُبْتَلًى بِشَتَّى أَنْوَاعِ هُمُومِ ٱلْحَيَاةِ وَمَصَائِبِهَا، وَمَفْتُونٌ بِقُوَّتِهِ وَمَالهِ، وَجَّهَهُ اللَّهُ فِي ٱلْآيَاتِ مَوْضُوعِ الدَّرْسِ إِلَى ضَرُورَةِ ٱقْتِحَامِ ٱلْمَصَاعِبِ، وَمُجَاهَدَةِ ٱلنَّفْسِ وَٱلشَّيْطَانِ وَٱلْهَوَى؛ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَشُكْرًا لِأَنْعُمِهِ، بِالْإِنْفَاقِ وَٱلْعَمَلِ ٱلصَّالِحِ ٱلَّذِي عَلَى أَسَاسِهِ يَنْقَسِمُ ٱلنَّاسُ إِلَى أَصْحَابِ ٱلْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابِ ٱلْمَشْأمَةِ.
شَرْح المفردات:
اقتحم: تَجَاوَزَ.
العقبة: لُغَةً: هِيَ السبِيلُ ٱلْوَعْرُ فِي ٱلْجَبَلِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا كُل ٱلْمَصَاعِبِ ٱلْمَصَاعِبِ الَّتِي تُوَاجِهُ ٱلْإنْسَانَ وَتُبْعِدُهُ عَنْ جَادَّةِ ٱلْصَّوَابِ.
فك رقبة: تَحْرِيرُ ٱلْإِنْسَانِ مِنَ ٱلْعُبُودِيَةِ.
مسغبة: مَجَاعَةٍ.
مقربة: ذَوِي ٱلْقُرْبَى.
متربة: مُلْتَصِقٍ بِالتُّرَابِ لِفَقْرِهِ.
وتواصوا بالمرحمة: تَنَاصَحُوا بِالشَّفَقَةِ عَلَى الضُّعَفَاءِ.
أصحاب الميمنة: أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ النَّاجُونَ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ.
أصحاب المشئمة: أَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ ٱلْخَاسِرُونَ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ.
موصدة: مُطْبِقَةٌ لَا مَنْفَذَ فِيهَا لِلهَوَاءِ.
أَوَّلًا: أَمْرُ ٱلْإِنْسَانِ بِطَاعَةِ ٱللَّه وَٱلصَّبْرِ عَلَيْهَا
قَال تَعَالَى (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ(11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) فَهَلاَّ أَقْدَمَ عَلَى ٱلْمَشَقَّةِ وَجَاوَزَهَا بِمُجَاهَدَةِ ٱلنَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ، ثُمَّ أَعْلَى مِنْ شَأْنِ ٱلْعَقَبَةِ وَعَظَّمَ أَمْرَهَا فقَال تَعَالَى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) أَيْ: وَمَا أَعْلَمَكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ ٱلَّتِي يَقْتَحِمُهَا ٱلْإِنْسَانُ. ثُمَّ أَخْبَرَ ٱللَّه تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ اقْتِحَامَ ٱلْعَقَبَةِ يَكُونُ بِأَمْرَيْنِ:
الأَمْرُ ٱلْأَوَّلُ: (فَكُّ رَقَبَةٍ) أَيْ: عِتْقُ رَقَبَةٍ مِنَ ٱلرِّقِّ وَتَحْرِيرُ ٱلْإِنْسَانِ مِنَ ٱلْعُبُودِيَّةِ، وَهَذَا سَبَبٌ مُؤَدٍّ إِلَى ٱقْتِحَامِ ٱلْعَقَبَةِ.
الأَمْرُ ٱلثَّانِي: (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمِ جُوعٍ وَعَوَزٍ (يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ) أَيْ: يُطْعِمُ يَتِيمًا مِنَ ٱلْأَقَارِبِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ حَقِّ ٱلْيُتْمِ وَٱلْقَرَابَةِ (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) أَيْ: إِطْعَامُ مِسْكِينٍ مُلْتَصِقٍ بِٱلتُّرَابِ، لِفَقْرِهِ وَشِدَّةِ حَاجَتِهِ.
ثَانِيًا: اِنْقِسَامُ ٱلنَّاسِ إِلَى أَصْحَابِ ٱلْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابِ ٱلْمَشْأَمَةِ
وَضَّحَ ٱللَّهُ تَعَالَى شُرُوطَ حُصُولِ ٱلثَّوَابِ لِلْإِنْسَانِ بِاِقْتِحَامِهِ لِلعَقَبَةِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، قَال تَعَالَى: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) أَيْ: أَنْ يَكُونَ مُقْتَحِمُ ٱلْعَقَبَةِ مُسْتَجْمِعًا لِأَرْكَانِ ٱلْإِيمَانِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنَ ٱلْمُتَوَاصِينَ بِٱلصَّبْرِ عَلَى فِعْلِ ٱلطَّاعَةِ وَتَرْكِ ٱلْمَعْصِيةِ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَتَوَاصَوْنَ بِرَحْمَةِ ٱلْخَلْقِ وَمُسَاعَدَتِهِمْ (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) هَؤُلاَءِ ٱلْمَوْصُوفُونَ بِٱلصِّفَاتِ ٱلْمُتَقَدِّمَةِ هُمْ أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ ٱلَّذِينَ يَنْجَوْنَ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ(19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ) لَمَّا كَانَ ٱلْإِيمَانُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالحُ مِنْ صِفَاتِ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ ٱلنَّاجِينَ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ، ذَكَرَ ٱللَّهُ تَعَالَى مَا يُقَابِلُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلشِّمَالِ، ٱلَّذِينَ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ نَارًا مُطْبَقَةً مُغْلَقَةً؛ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ تَعَالَى.
الخلاصة:
وَجَّهَهُ اللَّهُ فِي ٱلْآيَاتِ مَوْضُوعِ الدَّرْسِ الإنسان إِلَى ضَرُورَةِ ٱقْتِحَامِ ٱلْمَصَاعِبِ، وَمُجَاهَدَةِ ٱلنَّفْسِ وَٱلشَّيْطَانِ وَٱلْهَوَى؛ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَشُكْرًا لِأَنْعُمِهِ، بِحَثِّه عَلَى تَحْرِيرِ ٱلْإِنْسَانِ مِنْ عُبُودِيَّةِ أَخِيهِ ٱلْإِنْسَانِ، وأَيْضًا بِالتَّشْجِيعِ عَلَى إِطْعَامِ ٱلْجِيَاعِ وَٱلْمُحْتَاجِينَ مِنَ ٱلْيَتَامَى وَٱلْمَحْرُومِينَ وَمُجَازَاةِ مَنْ قَامَ بِهَذِهِ ٱلْأَعْمَالِ ٱلتَّضَامُنِيَّةِ بِجَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ وهم أَصْحَابِ ٱلْمَيْمَنَةِ وأما من كفر وَهم أَصْحَابِ ٱلْمَشْأمَةِ فلهم عذاب النار.
﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا(1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا(2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا(3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا(4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا(5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا(6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا(11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا(12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا(13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا(14) فَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا(15)﴾ [الشمس: 1-15].
تَمْهِيدٌ
سُورَةُ ٱلشَّمْسِ مَكِّيَّةٌ وَهِيَ خَمْسَ عَشْرَةَ (15) آيَةً، سُمِّيَتْ بِهَذَا ٱلاِسْمِ لاِفْتِتَاحِهَا بِالْقَسَمِ ٱلْإِلَهِيِّ بِالشَّمْسِ، وَتَتَنَاوَلُ ٱلسُّورَةُ أَحْوَالَ ٱلنَّفْسِ ٱلْإِنْسَانِيَّةِ، إِذْ تُؤَكِّدُ عَلَى فَلاَحِ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ وَطَهَّرَهَا، وَخَيْبَةِ وَخُسْرَانِ مَنْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ بِالْمَعَاصِي، كَمَا تَتَحَدَّثُ ٱلسُّورَةُ عَنْ تَكْذِيبِ ثَمُودَ لِنَبِيِّهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ، فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ أَنْ نَزَلَ ٱلْعِقَابُ بِصَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ.
شرح المفردات:
جلاها: أضاءها.
يغشاها: يُخْفِي الشَّمْسَ وَيَحْجُبُهَا حَتَّى يَعُمَّ الظَّلَامُ.
طحاها: بَسَطَهَا.
فألهمها فجورها وتقواها: فَكَشَفَ لَهَا طَرِيقَ ٱلْخَيْرِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ تَتْبَعَهُ وَطَرِيقَ وَطَرِيقَ الشَّرِّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تَتَجَنَّبَهُ.
زكاها: نَقَّاهَا مِنَ ٱلْخَطَايَا بِفِعْلِ ٱلْخَيْرَاتِ وَالْإِيمَانِ.
خاب: فشل في الحصول على ملاده وبغيته وخسر في ذلك.
دساها: أَجْهَزَ عَلَى نَفْسِهِ بِالذُّنُوبِ وَالآثَامِ حَتَّى صَارَتْ خَفِيَّةً لَا تَكَادُ تُرَى.
ثمود: قَوْمُ نَبِيِّ ٱللَّهِ صَالحٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
بطغواها: بِتَمَادِيهَا فِي الشِّرْكِ وَالمَعْصِيَةِ.
انبعث: نَهَضَ وَسَارَ بِسُرْعَةٍ فَائِقَةٍ.
فعقروها: فَذَبَحُوهَا.
فدمدم: فأَطْبَقَ عَلَيْهِمُ ٱلْعَذَابَ.
فسواها: سَلَّطَ عَلَيْهِمُ ٱلْعَذَابَ جَمِيعًا فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُمْ أَحَدًا.
أَوَّلًا: ٱلْفَلاَحُ لِمَنْ زَكَّى نَفْسَهُ وَالشَّقَاءُ لِمَنْ دَسَّاهَا
اِسْتَهَلَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِقَسَمِهِ بِسَبْعَةِ أَشْيَاءَ مِنْ أَعْظَمِ مَخْلُوقَاتِهِ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: (والشمس وضحاها) أَقْسَمَ ٱللَّه تَعَالَى بِالشَّمْسِ وَضَوْئِهَا وَإِشْرَاقِهَا (والقمر إذا تلاها) وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَبِعَ ٱلشَّمْسَ طَالِعًا عِنْدَ غُرُوبِهَا (والنهار إذا جلاها) وٱلنَّهارِ إِذَا كَشَفَ ٱلظُّلْمَةَ عَنِ ٱلْأَرْضِ بِاِرْتِفَاعِهِ (والليل إذا يغشاها) وَٱللّيْلِ إِذَا غَطَّى ٱلشَّمْسَ بِظُلْمَتِهِ (والسماء وما بناها) وَالسَّمَاءِ وَبِنَائِهَا (والأرض وما طحاها) وَالأَرْضِ وَانْبِسَاطِهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) وَبِكُلِّ نَفْسٍ خَلَقَهَا ٱللَّه فِي صُورَتِهَا ٱلسَّوِيَّةِ، وَبَيَّنَ لَهَا طَرِيقَ ٱلْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
بَعْدَ أَنْ أَقْسَمَ ٱللَّه تَعَالَى بِمَا سَبَقَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ؛ ذَكَرَ جَوَابَ ٱلْقَسَمِ، بِقَوْلِهِ: (قد أفلح من زكاها) أَيْ: قَدْ فَازَ مَنْ طَهَّرَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ ٱلصَّالحِ وَٱلْأَخْلَاقِ ٱلْحَسَنَةِ، وَبِاجْتِنَابِ ٱلذُّنُوبِ وَٱلْمَعَاصِي وَٱلْأَخْلَاقِ ٱلسَّيِّئَةِ (وقد خاب من دساها) أَمَّا مَنْ أَخْفَى نَفْسَهُ وَأَهَانَهَا بِٱلْمَعْصِيَّةِ وَٱلْفُجُورِ، فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا.
ثَانِيًا: جَزَاءُ ثَمُودَ عَلَى طُغْيَانِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ لِنَبِيِّهِمْ
قَال تَعَالَى: (كذبت ثمود بطغواها) كَذَّبَتْ ثَمُودُ نَبِيَّ ٱللَّه صَالحًا بِسَبَبِ طُغْيَانِهَا وَعِصْيَانِهَا (إذ انبعث اشقاها) إِذْ أَسْرَعَ أَشْقَى ٱلنَّاسِ في ثَمُودَ إِلَى عَقْرِ ٱلنَّاقَةِ بِرِضَى قَوْمِهِ (فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ صَالحٌ: اتْرُكُوا نَاقَةَ ٱللَّهِ، لِتَشْرَبَ فِي يَوْمِهَا ٱلْمُخَصَّصِ لَهَا (فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها) لَمَّا أَخْبَرَ صَالحٌ عَلَيْهِ ٱلسَّلَامُ قَوْمَهُ بِأَنَّهُ رَسُولُ ٱللَّهِ، وَأَنَّ ٱلنَّاقَةَ مُرْسَلَةٌ مِنْ عِنْدِ ٱللَّه مُعْجِزَةً مِنْهُ، وَأَنَّهُمْ إِذَا خَالفُوا ذَلِكَ سَيَنْزِلُ بِهِمُ ٱلْعَذَابُ؛ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ وَقَتَلُوا ٱلنَّاقَةَ، فَعَذَّبَهُمْ ٱللَّهُ بِذَنْبِهِمْ ٱلَّذِي اِرْتَكَبُوهُ، وَأَهْلَكَهُمْ جَمِيعًا صَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ (فلا يخاف عقباها) أَيْ: أَنَّ ٱللَّه تَعَالَى لَا يَخَافُ عَاقِبَةَ فِعْلِهِ حِينَ أَهْلَكَهُمْ وَدَمَّرَهُمْ، لِأَنَّهُ عَزِيزٌ قَوِيٌّ لَا يَخْشَى أَحَدًا. وَتُقْرَأُ (ولا) بِالْوَاوِ وَالْفَاءِ.
الخلاصة:
سُورَةُ ٱلشَّمْسِ مَكِّيَّةٌ وَهِيَ خَمْسَ عَشْرَةَ (15) آيَةً، سُمِّيَتْ بِهَذَا ٱلاِسْمِ لاِفْتِتَاحِهَا بِالْقَسَمِ ٱلْإِلَهِيِّ بِالشَّمْسِ، وَموضوع ٱلسُّورَةُ أَحْوَالَ ٱلنَّفْسِ ٱلْإِنْسَانِيَّةِ. إذ تُشِيرُ هَذِهِ السورة إِلَى عَظَمَةِ ٱللَّه تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ مِنْ خِلَال قَسَمِهِ بِسَبْعَةِ أَشْيَاءَ مِنْ أَعْظَمِ مَخْلُوقَاتِهِ، ٱلْمُتَمَثِّلَةِ فِي ٱلشَّمْسِ وَالقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَغَيْرِهَا؛ وجواب القسم هو فَلاَحِ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ وَطَهَّرَهَا، وَخَيْبَةِ وَخُسْرَانِ مَنْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ بِالْمَعَاصِي، كَمَا تَتَحَدَّثُ ٱلسُّورَةُ عَنْ تَكْذِيبِ ثَمُودَ لِنَبِيِّهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ، فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ أَنْ نَزَلَ ٱلْعِقَابُ بِصَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْأَحَدُ ٱلْمُسْتَحِقُّ لِلعِبَادَةِ طَمَعًا فِي رَحْمَتِهِ وَخَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ ٱلَّذِي لَحِقَ بِٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلْجَاحِدِينَ لِنِعَمِهِ ٱلَّتِي جَادَ بِهَا عَلَيْهِمْ حَيْثُ خَصَّهُمْ بِمُعْجِزَةِ ٱلنَّاقَةِ الَّتي تَمَيَّزُوا بِهَا عَنْ بَاقِي ٱلْأُمَمِ.
تَمْهِيدٌ
سُورَةُ ٱللَّيْلِ مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ ٱلْجُمْهُورِ، نَزَلَتْ بَعْدَ ٱلْأَعْلَى، عَدَدُ آيَاتِهَا إِحْدَى وَعِشْرُونَ (21)، نَزَلَ مَطْلَعُ ٱلسُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ( إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتّ۪يٰۖ) فِي شَأْنِ أَبِي بَكْرٍ ٱلصِّدِّيقِ رَضِيَ ٱللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَقَدْ تَنَاوَلَتْ فِي ٱلْآيَاتِ مَوْضُوعِ الدَّرْسِ سَعْيَ ٱلْإِنْسَانِ وَعَمَلَهُ في الدنيا وَجَزَاءَهُ فِي ٱلْآخِرَةِ.
شرح المفردات
وَاليْلِ إِذَا يَغْش۪يٰ: يُغَطِّي كُلَّ شَيْءٍ بِظَلاَمِهِ.
تَجَلّ۪يٰ: ظَهَرَ وَانْكَشَفَ.
سَعْيَكُمْ: عَمَلَكُمْ أَوْ مَسْعَاكُمْ.
لَشَتّ۪يٰۖ: جَمْعُ شَتِيتٍ، وَهُوَ ٱلتَّفَرُّقُ ٱلشَّدِيدُ، وَأُرِيدُ بِهِ هُنَا ٱلتَّنَوُّعُ وَالاِخْتِلاَفُ فِي ٱلْأَحْوَالِ.
بِالْحُسْن۪يٰ: كَلِمَةُ ٱلتَّوْحِيدِ: لَا إِلَهَ إِلاَّ ٱللَّهُ.
بَخِلَ: أَمْسَكَ ٱلْمَالَ وَشَحَّ بِهِ وَلَمْ يُؤَدِّ حقَّ ٱللَّهِ فِيهِ.
تَرَدّ۪يٰٓۖ: هَوَى وَسَقَطَ فِي ٱلنَّارِ أَوْ فِي ٱلْقَبْرِ.
أَوَّلًا: أَعْمَالُ ٱلْإِنْسَانِ مُخْتَلِفَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ بَيْنَ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرِّ:
قال تعالى: (وَاليْلِ إِذَا يَغْش۪يٰ (1) وَالنَّه۪ارِ إِذَا تَجَلّ۪يٰ (2) وَمَا خَلَقَ اَ۬لذَّكَرَ وَالُانث۪يٰٓ (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتّ۪يٰۖ (4)).
أقسم الله سبحانه بالليل عندما يغطي ما بين السماء والأرض وما عليها بظلامه، وأقسم بالنهار إذا انكشف عن ظلام الليل وظهر ضوؤه ساطعا، وأقسم بخلقه الزوجين وَهُمَا: آَدَمُ وَحَوَّاءُ وَكُلُّ ذَكَرٍ وَكُلُّ أُنْثَى بَعْدَهُمَا؛ وَمِنْ مَقَاصِدِ ٱلْقَسَمِ ٱلتَّنْبِيهُ عَلَى نِظَامِ ٱللَّهِ ِٱلْبَدِيعِ وقُدْرَتِهِ عَلَى ٱلتَّصَرُّفِ فِي هَذَا ٱلْكَوْنِ، وَتِلْكَ دَلَائِلُ ٱلْوُجُودِ وَٱلْوَحْدَانِيَّةِ لِلهِ عَزَّ وَجَلَّ. والمقسم عليه هو: إن عملكم أيها الناس لمختلف بين عامل للحسنات فيسعد بها في الجنة وعامل للسيئات فيشقى بها في للنار.
ثَانِيًا: صِفَاتٌ تُيَسِّرُ لِلإِنْسَانِ دُخُولَ ٱلْجَنَّة:
(فَأَمَّا مَنَ اَعْط۪يٰ وَاتَّق۪يٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْن۪يٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلْيُسْر۪يٰۖ (7)).
فأما مَن أنفق من ماله في سبيل الله، وخاف ربه فاجتنب ما نهى الله عنه، وصدَّق بـ «لا إله إلا الله» وما دلت عليه من الإيمان بالله وبما وعده الله به من الجزاء، فسنهيئه ونوفقه إلى أعمال الخير التي تؤدي إلى طريق الجنة.
ثَالِثًا: بَعْضُ ٱلصِّفَاتِ تُعَرِّضُ صَاحِبَهَا لِنَارِ جَهَنَّمَ:
(وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَاسْتَغْن۪يٰ (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْن۪يٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلْعُسْر۪يٰۖ (10) وَمَا يُغْنِے عَنْهُ مَالُهُۥٓ إِذَا تَرَدّ۪يٰٓۖ (11))
وأما مَن بخل بماله فلم ينفقه في الخير في سبيل الله واستغنى بماله عن جزاء ربه، وكذَّب بـ «لا إله إلا الله» وما دلت عليه وما ترتب عليها من الثواب، فسنُسَهِّل عليه أسباب عمل الشرّ المؤدي إلى الشقاء في النار، ولا ينفعه ماله الذي بخل به إذا وقع في النار.
الخلاصة:
أقسم الله عز وجل في الآيات (1-4) بالليل، والنهار، وخلق الذكر والأنثى على أنواع أعمال الإنسان في الدنيا واختلافها وتنوعها بين صنفين وهما: الخير، والشر.
وبينت الآيات (5-7) صفات تسهل وتيسر للإنسان دخول الجنة وهي: إنفاق المال في سبيل الله، والإيمان بلا إله إلا الله.
وبينت الآيات (8-11) أيضا صفات تسهل وتيسر للإنسان دخول جهنم وهي: البخل بالمال وعدم الإنفاق في سبيل الله، والكفر بلا إله إلا الله. وأن جزاء من استغنى بماله في الدنيا عن ثواب الله في الآخرة، أن ماله لن ينفعه يوم يسقط في النار.
قالى تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُد۪يٰ (12) وَإِنَّ لَنَا لَلَاخِرَةَ وَالُاول۪يٰۖ (13) فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراٗ تَلَظّ۪يٰ (14) لَا يَصْلَيٰهَآ إِلَّا اَ۬لَاشْقَي (15) اَ۬لذِے كَذَّبَ وَتَوَلّ۪يٰۖ (16) وَسَيُجَنَّبُهَا اَ۬لَاتْقَي (17) اَ۬لذِے يُوتِے مَالَهُۥ يَتَزَكّ۪يٰۖ (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُۥ مِن نِّعْمَةٖ تُجْز۪يٰٓ (19) إِلَّا اَ۪بْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ اِ۬لَاعْل۪يٰۖ (20) وَلَسَوْفَ يَرْض۪يٰۖ (21)).
تَمْهِيدٌ:
بَعْدَ أَنْ تَعَرَّفْنَا فِي ٱلدَّرْسِ ٱلسَّابِقِ عَلَى سَعْيِ ٱلْإِنْسَانِ وَعَمَلِهِ فِي ٱلدُّنْيَا وَجَزَائِهِ فِي ٱلْآخِرَةِ، يُؤَكِّدُ ٱلْقُرْآنُ ٱلْكَرِيمُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ ٱلْآيَاتِ فِي مُقَابَلَةٍ بِيَن ٱلْأَشْقِيَاءِ ٱلَّذِينَ يُعَرِّضُونَ أَنْفُسَهُمْ لِنَارِ جَهَنَّمَ، وَٱلْأَتْقِيَاءِ ٱلنَّاجِينَ مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ ٱلْفَائِزِينَ بِرِضَاهُ وَعَطَائِهِ.
شرح المفردات:
للهدى: مِنَ ٱلْهِدَايَةِ، وَهِيَ تَبْيِينُ طَرِيقِ ٱلْحَقِّ مِنْ طَرِيقِ ٱلضَّلاَلِ.
والأولى: الدُّنْيَا.
فأنذرتكم: خَوَّفْتُكُمْ.
تلظى: تَتَوَقَّدُ.
لا يصلاها: لاَ يَدْخُلُهَا.
يتزكى: يَتَطَهَّرُ بِزَكَاتِهِ وَإِنْفَاقِهِ فِي أَبْوَابِ ٱلْخَيْرِ.
أَوَّلًا: عَوْنُ ٱللَّهِ سُبْحَانَهُ لِطَالبِ ٱلْهُدَى
قَال تَعَالَى: (إن علينا للهدى) أَيْ: إن علينا أن نبيّن للخلق طريق الحق الموصل إلى الله وجنته من طريق الضلال.
ثَانِيًا: كُلُّ مَا فِي هَذَا ٱلْكَوْنِ مِلْكٌ لِلهِ وَحْدَهُ
قَال تَعَالَى: (وإن لنا للآخرة والأولى) أَيْ وإن لنا ملك الحياة الآخرة والحياة الدنيا، نتصرّف فيهما بما نشاء، وليس ذلك لأحد غيرنا.
ثَالثًا: النَّارُ مُسْتَقَرُّ أَهْلِ الشَّقَاءِ، وَٱلنَّجَاةُ مَصِيرُ أَهْلِ ٱلسَّعَادَةِ
قَال تَعَالَى: (فأنذرتكم نارا تلظى) أَيْ: فَخَوَّفْتُكُم يا أهل مكة من ناراً تتوقد وتتلهب وهي نار جهنم إن أنتم عصيتم الله.
(لَا يَصْلَيٰهَآ إِلَّا اَ۬لَاشْقَي (15) اَ۬لذِے كَذَّبَ وَتَوَلّ۪يٰۖ) أَيْ: لا يدخل هذه النار الملتهبة إلا الشقي الكافر، الذي كذَّب بآيات ربه ورسوله وأعرض عن الإيمان بالله ورسوله وطاعتهما وامتثال أمر الله.
(وَسَيُجَنَّبُهَا اَ۬لَاتْقَي (17) اَ۬لذِے يُوتِے مَالَهُۥ يَتَزَكّ۪يٰۖ) أَيْ: وسيُبعد عنها أتقى الناس الأكثر خشية لله وإعراضا عن معاصيه، الَّذي يعطي ماله في سبيل الله ليتطهر من الذنوب وليطهر ماله من الحرام وينميه ويكثره بهذا الإنفاق في وجوه الخير.
(وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُۥ مِن نِّعْمَةٖ تُجْز۪يٰٓ (19) إِلَّا اَ۪بْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ اِ۬لَاعْل۪يٰۖ (20) وَلَسَوْفَ يَرْض۪يٰۖ (أَيْ: ولا يبذل من ماله ليكافئ من أسدى إليه معروفا، لا يريد بما يبذله من ماله إلا وجه ربه الأعلى ورضاه، ولسوف يرضى بما يعطيه الله من الجزاء في الجنة.
سبب النزول:
ذكر ابن كثير في تفسيره أن هذه الآيات: (وَسَيُجَنَّبُهَا اَ۬لَاتْقَي (17) اَ۬لذِے يُوتِے مَالَهُۥ يَتَزَكّ۪يٰۖ (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُۥ مِن نِّعْمَةٖ تُجْز۪يٰٓ (19)) نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، والآيات تعم الأمة بلفظها، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص سبب النزول.
الخلاصة:
في هَذِهِ ٱلْآيَاتُ بَيَانِ سُنَنِ ٱللَّهِ فِي هَذَا ٱلْكَوْنِ ٱلَّذِي هُوَ مِلْكٌ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ فِيهِ ٱلْإِنْسَانَ، وَبَيَّنَ لَهُ طَرِيقَ ٱلْخَيْرِ وَٱلصَّلاَحِ بِإِرْسَال ٱلرُّسُلِ وَإِنْزَالِ ٱلْكُتُبِ، لَكِنْ مِنْ هَذَا ٱلْإِنْسَانِ مَنِ اخْتَارَ طَرِيقَ ٱلشَّقَاءِ، وهم ٱلَّذِينَ يُعَرِّضُونَ أَنْفُسَهُمْ لِنَارِ جَهَنَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَارَ طَرِيقَ ٱلْفَلاَحِ، وَهم ٱلْأَتْقِيَاءِ ٱلنَّاجِينَ مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ ٱلْفَائِزِينَ بِرِضَاهُ وَعَطَائِهِ.
قال تعالى: (وَالضُّح۪يٰ (1) وَاليْلِ إِذَا سَج۪يٰ (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَل۪يٰۖ (3) وَلَلَاخِرَةُ خَيْرٞ لَّكَ مِنَ اَ۬لُاول۪يٰۖ (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْض۪يٰٓۖ (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماٗ فَـَٔاو۪يٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَآلّاٗ فَهَد۪يٰ (7) وَوَجَدَكَ عَآئِلاٗ فَأَغْن۪يٰۖ (8) فَأَمَّا اَ۬لْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْۖ (9) وَأَمَّا اَ۬لسَّآئِلَ فَلَا تَنْهَرْۖ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثَۖ .((11)
تَمْهِيدٌ
سُورَةُ ٱلضُّحَى مَكِّيَّةٌ بِاِتِّفَاقٍ، نَزَلَتْ بَعْدَ ٱلْفَجْرِ، عَدَدُ آيَاتِهَا إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً (11). وموضوعها ذكر رعاية الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - والامتنان عليه بنعمة الوحي ودوامها له، تأنيسًا له، وتذكيرًا له وللمؤمنين بالشكر.
سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ ٱلسُّورَةِ أَنَّهُ: «اِشْتَكَى رَسُولُ ٱللَّهِ صَلَّى ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَجَاءَتْهُ ٱمْرَأَةٌ فَقَالتْ يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ، لَمْ أَرَهُ قَرَبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، قَال: فَأَنْزَلَ ٱللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَالضُّح۪يٰ (1) وَاليْلِ إِذَا سَج۪يٰ (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَل۪يٰۖ (3)).
شرح المفردات:
الضُّحَى: أَوَّلُ ٱلنَّهَارِ.
سَجَى: أَيْ غَطَّى بِظَلاَمِهِ ٱلْـمَعْمُورَةَ.
قلى: أَبْغَضَ.
فأوى: فَضَمِنَ لَكَ مَأْوَى تَسْتَقِرُّ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِكَ.
عائلا: فَقِيرًا
فأغنى: فَيَسَّرَ لَكَ أَسْبَابَ ٱلْغِنَى مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ.
فلا تقهر: فلا تُهِنْهُ وَلَا تُعَامِلْهُ بِالْقَسْوَةِ بِمَنْعِهِ مِنْ حُقُوقِهِ.
تنهر: تَزْجُرْ.
أَوَّلًا: إِبْطَالُ زَعْمِ ٱلْمُشْرِكِينَ أَنَّ ٱلنَّبِيَّ صَلَّى ٱللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَّعَهُ رَبُّهُ
قال تعالى: (وَالضُّح۪يٰ (1) وَاليْلِ إِذَا سَج۪يٰ (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَل۪يٰۖ (3)
أَقْسَمَ ٱللَّهُ سُبْحَانَهُ بِوَقْتِ ٱلْضُّحَى، وَبِاللَّيْلِ إِذَا ٱشْتَدَّ ظَلاَمُهُ أَنَّهُ مَا تَرَكَ نَبِيَّهُ، وَمَا أَبْغَضَهُ بِإِبْطَاءِ ٱلْوَحْيِ عَنْهُ.
ثَانِيًا: بِشَارَاتُ ٱللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى ٱللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنِعَمُهُ ٱلْكَثِيرَةُ عَلَيْهِ
قَال تَعَالَى: وَلَلَاخِرَةُ خَيْرٞ لَّكَ مِنَ اَ۬لُاول۪يٰۖ (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْض۪يٰٓۖ (5)
هَذِهِ بِشَارَةٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى ٱللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنّهُ إِذَا كَانَ يُعَانِي فِي ٱلدُّنْيَا مِنْ أَذَى ٱلْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ ٱللَّه تَعَالَى سَيُعَوِّضُهُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا أَعَدَّ لَهُ فِي ٱلدَّارِ ٱلْآخِرَةِ الَّتي هِيَ خَيْرٌ مِنْ دَارِ ٱلْدُّنْيَا، وَأَنَّهُ سَيُعْطِيهِ فِي ٱلْآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَيْرَاتِ عَطَاءً جَزِيلاً يَرْضَى بِهِ.
(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماٗ فَـَٔاو۪يٰ): ذَكَّرَ ٱلْمَوْلَى عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ بِبَعْضِ نِعَمِهِ عَلَيْهِ بِصِيغَةِ ٱلاِسْتِفْهَامِ ٱلَّذِي يُرَادُ بِهِ ٱلتَّقْرِيرُ، أَيْ: وَجَدَكَ يَتِيمًا بِفَقْدِ أَبِيكَ فآوَاكَ وَرَعَاكَ بِأَنْ ضَمَّكَ إِلَى عَمِّكَ أَبِي طَالبٍ.
(وَوَجَدَكَ ضَآلّاٗ فَهَد۪يٰ) أَيْ: وَجَدَكَ تَائِهًا عَمَّا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلشَّرِيعَةِ فَهَدَاكَ إِلَيْهَا
(وَوَجَدَكَ عَآئِلاٗ فَأَغْن۪يٰۖ) أَيْ: وَجَدَكَ فَقِيرًا، فَأَغْنَاكَ بِمَا سَاقَ لَكَ مِنْ رِزْقٍ، وَأَغْنَى نَفْسَكَ بِالقَنَاعَةِ وَٱلصَّبْرِ.
ثَالثًا: وُجُوبُ شُكْرِ ٱلنِّعَمِ بِمَا يُنَاسِبُهَا
أَرْشَدَنَا ٱلْقُرْآنُ ٱلْكَرِيمُ إِلَى وُجُوبِ شُكْرِ نِعَمِ ٱللَّهِ بِمَا يُنَاسِبُ كُلَّ نِعْمَةٍ، وَقَدْ ذَكَرَتِ ٱلْآيَاتُ نَوْعَيْنِ مِنَ ٱلشُّكْرِ:
الْأَوَّلُ: النَّفْعُ لِلْعِبَادِ وَحُسْنُ مُعَامَلَتِهِمْ.
الثَّانِي: ٱلثَّنَاءُ عَلَى ٱللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ تَعَالى: (فَأَمَّا اَ۬لْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْۖ) أَيْ: فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْهُ بِأَخْذِ مَالهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا تُسِئْ مُعَامَلَتَهُ.
(وَأَمَّا اَ۬لسَّآئِلَ فَلَا تَنْهَرْۖ) أَيْ: وَأَمَّا ٱلسَّائِلَ فَلاَ َتزجُرْهُ لِفَقْرِهِ، بَلْ أَطْعِمْهُ، وَٱقْضِ حَاجَتَهُ.
(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثَۖ ) أَيْ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ الَّتِي أَسْبَغَهَا عَلَيْكَ فَحَدِّثْ بِهَا.
الخلاصة:
وَتَهْدِفُ هَذِهِ ٱلسُّورَةُ إِلَى تَحْقِيقِ ٱلْإِيمَانِ بِنُبُوَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خِلَالِ ٱلتَّأْكِيدِ عَلَى أَنَّ ٱلْوَحْيَ مُسْتَمِرٌّ وَلَمْ يَنْقَطِعْ إِلَى أَنْ يَكْتَمِلَ ٱلدِّينُ، كَمَا تَهْدِفُ إِلَى ٱلتَّذْكِيرِ بِنِعَمِ ٱللَّهِ ٱلْكَثِيرَةِ وَٱلْـمُتَنَوِّعَةِ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَيْفَ يَشْكُرُهَا بِٱلاِعْتِرَافِ لِلْخَالقِ وَٱلنَّفْعِ لِلْمَخْلُوقِ.
قال تعالى: (اَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) اَ۬لذِےٓ أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَۖ (4) فَإِنَّ مَعَ اَ۬لْعُسْرِ يُسْراً (5) اِنَّ مَعَ اَ۬لْعُسْرِ يُسْراٗۖ (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَيٰ رَبِّكَ فَارْغَبْۖ (8)).
التعريف بالسورة: سُورَةُ ٱلشَّرْحِ مَكِّيَّةٌ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ ٱلضُّحَى، وَهِيَ ثَمَانُ آيَاتٍ(8)، وموضوعها متمم لِمَا جَاءَ فِي سُورَةِ ٱلضُّحَى مِنْ حيث تَعْدَادِ ٱلنِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ ٱللَّهُ بِهَا عَلَى رَسُولِ ٱللَّهِ صَلَّى ٱللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَذْكِيرِهِ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَعَهُ وَنَاصِرُهُ فِي ٱلْعُسْرِ وَاليُسْرِ.
شرح المفردات:
نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ: أَفْرَحْنَاكَ بِتَطْهِيرِ صَدْرِكَ بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِيمَانِ
وَوَضَعْنَا: حَطَطْنَا.
أَنقَضَ: أَثْقَلَ.
اَ۬لْعُسْرِ: الشِّدَّةِ.
يُسْراٗۖ: سُهُولَةً.
فَانصَبْ: فَاجْتَهِدْ فِي ٱلدُّعَاءِ.
فَارْغَبْۖ: فتَضَرَّعْ.
أَوَّلًا: التَّذْكِيرُ بِبَعْضِ نِعَمِ ٱللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى ٱللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال تَعَالَى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)(1) اِفْتُتِحَتِ ٱلسُّورَةُ بِالتَّذْكِيرِ بِمَزِيدٍ مِنْ النِّعَمِ ٱلَّتِي أَنْعَمَ ٱللَّهُ بِهَا عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى ٱللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ جَاءَتِ ٱلْآيَةُ بِصِيغَةِ ٱلاِسْتِفْهَامِ (أَلَمْ نَشْرَحْ) وَٱلْمُرَادُ بِهِ إِثْبَاتُ ٱلْأَمْرِ ٱلْمَنْفِيِّ، أَيْ: شَرَحْنَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ صَدْرَكَ بِالنُّبُوَّةِ وَغَيْرِهَا (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) اَ۬لذِےٓ أَنقَضَ ظَهْرَكَ) (3) أَيْ: حَطَطْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ٱلذِي أَثْقَلَ ظَهْرَكَ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالى: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَۖ) (4) لِأَنَّكَ تُذْكَرُ مَعَ ذِكْرِي فِي ٱلْأذَانِ وَٱلْإِقَامَةِ وٱلتَّشَهُّدِ وَٱلْخُطْبَةِ وَغَيْرِهَا، فَنِلْتَ بِذَلِكَ مَنْزِلَةً رَفِيعَةً عَاليَةً.
ثَانِيًا: وَعْدُ ٱللَّهِ لِنَبِيِّهِ بِاليُسْرِ بَعْدَ ٱلْعُسْرِ
قَال تَعَالَى: (فَإِنَّ مَعَ اَ۬لْعُسْرِ يُسْراً (5) اِنَّ مَعَ اَ۬لْعُسْرِ يُسْراٗۖ) (6) هَذَا وَعْدٌ مِنَ ٱللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ بِٱلنَّصْرِ وَٱلتَّمْكِينِ وٱلْيُسْرِ بَعْدَ ٱلْعُسْرِ وَٱلْفَرَجِ بَعْدَ ٱلْضَّيْقِ ٱلَّذِي قَاسَاهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِمَكَّةَ مِنَ ٱلْأَذَى وَٱلْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّعْوَةِ، وَقَدْ كُرِّرَتِ ٱلْآيَةُ تَوْكِيدًا لِلوَعْدِ.
ثَالثًا: ٱلْأمْرُ بِالْإِقْبَالِ عَلَى ٱللَّهِ وُدَعَائِهِ وَالرَّغْبَةِ فِي عَوْنِهِ سُبْحَانَهُ
قَال تَعَالَى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَيٰ رَبِّكَ فَارْغَبْۖ) (8) أَيْ: فَإِذَا انْتَهَيْتَ مِنَ ٱلصَّلَاةِ فَاجْتَهِدْ فِي ٱلدُّعَاءِ وَتَضَرَّعْ إِلَى ٱللَّهِ وَحْدَهُ، وَارْغَبْ فِيمَا عِنْدَهُ عَزَّ وَجَلَّ.
الخلاصة:
وَتَهْدِفُ هَذِهِ ٱلسُّورَةُ إِلَى تَقْوِيَةِ ٱلْإِيمَانِ بِٱللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحُسْنِ ٱلظَّنِّ بِهِ، حَيْثُ أَنْعَمَ عَلَى ٱلْإنْسَانِ بِنِعَمٍ لاَ تُحْصَى. لِذَلِكَ عَلَى ٱلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى رَبِّهِ عِنْدَ كُلِّ ضِيقٍ أَوْ حَرَجٍ، وَيُقْبِلَ عَلَيْهِ وَحْدَهُ بِالعِبَادَةِ وَٱلدُّعَاءِ، وَيَرْجُوَ مِنْهُ وَحْدَهُ ٱلْأَجْرَ وَٱلثَّوَابَ، وَسَيَجْعَلُ ٱللَّهُ لَهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسَرًا.
قال تعالى: (لَمْ يَكُنِ اِ۬لذِينَ كَفَرُواْ مِنَ اَهْلِ اِ۬لْكِتَٰبِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّيٰ تَاتِيَهُمُ اُ۬لْبَيِّنَةُۖ (1) رَسُولٞ مِّنَ اَ۬للَّهِ يَتْلُواْ صُحُفاٗ مُّطَهَّرَةٗ (2) فِيهَا كُتُبٞ قَيِّمَةٞۖ (3) وَمَا تَفَرَّقَ اَ۬لذِينَ أُوتُواْ اُ۬لْكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ اُ۬لْبَيِّنَةُۖ (4) وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ اُ۬للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اُ۬لدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ اُ۬لصَّلَوٰةَ وَيُوتُواْ اُ۬لزَّكَوٰةَۖ وَذَٰلِكَ دِينُ اُ۬لْقَيِّمَةِۖ (5) إِنَّ اَ۬لذِينَ كَفَرُواْ مِنَ اَهْلِ اِ۬لْكِتَٰبِ وَالْمُشْرِكِينَ فِے ن۪ارِ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآۖ أُوْلَٰٓئِكَ هُمْ شَرُّ اُ۬لْبَرِيَٓٔةِۖ (6) إِنَّ اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمْ خَيْرُ اُ۬لْبَرِيَٓٔةِۖ (7) جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّٰتُ عَدْنٖ تَجْرِے مِن تَحْتِهَا اَ۬لَانْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَداٗۖ رَّضِيَ اَ۬للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُۖ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُۥٓۖ (8)
تَمْهِيدٌ
التعريف بالسورة: سُورَةُ ٱلْبَيِّنَةِ مَدَنِيَّةٌ عَلَى ٱلْمَشْهُورِ، وَعَدَدُ آيَاتِهَا ثَمَانٌ، وَقَدْ سُمِّيَتْ بِأَسْمَاءٍ أُخْرَى مِنْهَا: سُورَةُ ٱلْمُنْفَكِّينَ، وَسُورَةُ ٱلْبَرِيَّةِ، وَسُورَةُ لَمْ يَكُنِ.
موضوع السُّورَةُ: هو بَيَانِ عَلَاقَةِ أَهَلِ ٱلْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ بِرِسَالةِ ٱلنَّبِيِّ صَلَّى ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْقِفِهِمْ مِنْهَا، وَحَدَّدَتِ ٱلْهَدَفَ ٱلْجَوْهَرِيَّ مِنَ الدِّينِ وَالإِيمَانِ وَهُوَ إِخْلَاصُ ٱلْعِبَادَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَوَضَّحَتْ مَصِيرَ كُلٍّ مِنَ ٱلْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ.
شرح المفردات:
اَهْلِ اِ۬لْكِتَٰبِ: ٱلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
الْمُشْرِكِينَ: عَبَدَةِ ٱلْأَصْنَامِ وَالأَوْثَانِ.
مُنفَكِّينَ: زَائِلِينَ عَمًّا هُمْ عَلَيْهِ.
اُ۬لْبَيِّنَةُۖ: ٱلْحُجَّةُ ٱلْوَاضِحَةُ، وَالْمُرَادُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمَ وَمُعْجِزَتُهُ ٱلْقُرْآنُ ٱلْكَرِيمُ.
صُحُفاٗ: الصُّحُفُ وَاحِدُهَا صَحِيفَةٌ، وَهِيَ مَا يُكْتَبُ فِيهِ.
مُّطَهَّرَةٗ: مُبَرَّأَةً مِنَ الزُّورِ وَالضَّلَالِ.
حُنَفَآءَ: تَارِكِينَ ٱلْأَدْيَانَ كُلَّهَا مُعْتَنِقِينَ دِينَ ٱلْإِسْلَامِ.
دِينُ اُ۬لْقَيِّمَةِۖ: دِينُ ٱلْإِسْلَامِ وَهُوَ الصِّرَاطُ ٱلْمُسْتَقِيمُ.
اُ۬لْبَرِيَٓٔةِۖ: ٱلْخَلِيقَةِ.
أَوَّلًا: إِنْكَارُ ٱللَّهِ عَلَى أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ تَمَسُّكَهُمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ
قَال تَعَالَى: (لَمْ يَكُنِ اِ۬لذِينَ كَفَرُواْ مِنَ اَهْلِ اِ۬لْكِتَٰبِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّيٰ تَاتِيَهُمُ اُ۬لْبَيِّنَةُۖ) أي: إِنَّ الَّذِينَ جَحَدُوا رِسَالةَ النَّبِيِّ صَلَّى ٱللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْكَرُوا نُبُوَّتَهُ، لَمْ يَرْجِعُوا عَنْ ضَلالهِمْ حَتَّى بَعْدَ مَجِيءِ ٱلنَّبِيِّ صَلَّى ٱللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالبُرْهَانِ وَالبَيِّنَةِ وَهِيَ ٱلْقُرْآنُ ٱلْكَرِيمُ.
(فِيهَا كُتُبٞ قَيِّمَةٞۖ (3) وَمَا تَفَرَّقَ اَ۬لذِينَ أُوتُواْ اُ۬لْكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ اُ۬لْبَيِّنَةُۖ) أَيْ: هَذِهِ ٱلْبَيِّنَةُ هِيَ رِسَالةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى ٱللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ صُحُفًا مُنَزَّهَةً عَنِ ٱلْبَاطِلِ مُسْتَقِيمَةً لاَ عِوَجَ فِيهَا.
(وَمَا تَفَرَّقَ اَ۬لذِينَ أُوتُواْ اُ۬لْكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ اُ۬لْبَيِّنَةُۖ) أَيْ: وَمَا اخْتَلَفَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ فِي شَأْنِ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ ٱلْحُجَّةُ ٱلْوَاضِحَةُ الدَّالةُ عَلَى صِدْقِ رِسَالتِهِ، وَأَنَّهُ الرَّسُولُ ٱلْمَوْعُودُ بِهِ فِي كُتُبِهِمْ.
ثَانِيًا: أَمْرُ ٱللَّهِ تَعَالَى بِتَوْحِيدِ ٱللَّهِ وَإِخْلَاصِ ٱلْعِبَادَةِ لَهُ
قَال تَعَالَى: (وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ اُ۬للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اُ۬لدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ اُ۬لصَّلَوٰةَ وَيُوتُواْ اُ۬لزَّكَوٰةَۖ وَذَٰلِكَ دِينُ اُ۬لْقَيِّمَةِۖ) أَيْ: وَمَا أُمِرُوا بِهِ فِي كُتُبِهُمْ هُوَ أَنْ يَعْبُدُوا ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مُسْتَقِيمِينَ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ٱلْمَكْتُوبَةَ فِي أَوْقَاتِهَا، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، وَذَلِكَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ هُوَ ٱلْمِلَّةُ وَالشَّرِيعَةُ ٱلْمُسْتَقِيمَةُ.
ثَالثًا: وَعِيدُ ٱللَّهِ تَعَالَى لِلْكُفَّارِ وَوَعْدُهُ لِلْأبْرَارِ
قَالَ ٱللَّه تَعَالَى: (إِنَّ اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمْ خَيْرُ اُ۬لْبَرِيَٓٔةِۖ) أي: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِٱلقُرْآن وَبِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ ٱلصَلَاةُ وَٱلسَلَامُ، مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، خَالدِينَ فِيهَا أَبَداً، وَهَؤُلَاءِ هُمْ شَرُّ خَلْقِ ٱللَّهِ.
(إِنَّ اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمْ خَيْرُ اُ۬لْبَرِيَٓٔةِۖ) أَيْ: إِنَّ ٱلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ ٱلْإِيمَانِ وَصَالحِ ٱلْأَعْمَال هُمْ خَيْرُ النَّاسِ.
(جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّٰتُ عَدْنٖ تَجْرِے مِن تَحْتِهَا اَ۬لَانْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَداٗۖ) أَيْ: ثَوَابُهُمْ فِي ٱلْآخِرَةِ عَلَى مَا قَدَّمُوا مِنَ ٱلْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ ٱلصَّالحَةِ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ قُصُورِهَا أَنْهَارٌ، مَا كِثِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَمُوتُونَ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا (رَّضِيَ اَ۬للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُۖ) أَيْ: رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ بِمَا قَدَّمُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الطَّاعَاتِ، وَرَضُوا عَنْهُ بِمَا أَعْطَاهُمْ مِنَ ٱلْخَيْرَاتِ وٱلْكَرَامَاتِ. (ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُۥٓۖ) أَيْ: ذَلِكَ ٱلْجَزَاءُ وَالثَّوَابُ ٱلْحَسَنُ لِمَنْ خَافَ ٱللَّهَ وَٱتَّقَاهُ، وَٱنْتَهَى عَنْ مَعْصِيَّةِ مَوْلاَهُ.
الخلاصة:
إِنْكَارُ ٱللَّهِ عَلَى أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ تَمَسُّكَهُمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ، وأَمْرهُ تَعَالَى بِتَوْحِيدِه وَإِخْلَاصِ ٱلْعِبَادَةِ لَهُ، ووَعِيدُه تَعَالَى لِلْكُفَّارِ وَوَعْدُهُ لِلْأبْرَارِ. وهَذِهِ ٱلْآيَاتُ تُبَيِّنُ مَقْصِدَ ٱلْعَدْلِ ٱلَّذِي وَصَفَ ٱللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَالَّذِي قَامَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَعَدْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَتَجَلَّى فِي أَنَّهُ لاَ يُضِيعُ لِلإِنْسَانِ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ كَانَ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا.
قال تعالى: (إِذَا زُلْزِلَتِ اِ۬لَارْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ اِ۬لَارْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ اَ۬لِانسَٰنُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٖ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْح۪يٰ لَهَاۖ (5) يَوْمَئِذٖ يَصْدُرُ اُ۬لنَّاسُ أَشْتَاتاٗ (6) لِّيُرَوَاْ اَعْمَٰلَهُمْۖ (7) فَمَنْ يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراٗ يَرَهُۥۖ (8) وَمَنْ يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرّاٗ يَرَهُۥۖ. ((9)
تَمْهِيدٌ
التعريف بالسورة: سُورَةُ ٱلزَّلْزَلَةِ مَدَنِيَّةٌ عَلَى ٱلْـمَشْهُورِ، وَهِيَ تِسْعُ آيَاتٍ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ ٱلنِّسَاءِ.
موضوعها: وَقَدْ تَحَدَّثَتْ هَذِهِ ٱلسُّورَةُ عَنْ بَيَانِ حُدُوثِ ٱلزِّلْزَالِ وَٱلاِضْطِرَابِ الشَّدِيدِ لِلأَرْضِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ، وَتَنَاوَلَتْ أَيْضًا ذَهَابَ ٱلْخَلاَئِقِ لِمَوْقِفِ ٱلْعَرْضِ وَٱلحِسَابِ، ومِقْدَارَ ٱلْعَمَلِ وَٱلجَزَاءِ.
شرح المفردات:
زلزلت: حُرِّكَتْ وَاهْتَزَّتْ.
أثقالها: مَا فِي جَوْفِ ٱلْأَرْضِ مِنَ ٱلْكُنُوزِ وَالأَمْوَاتِ.
مالها: صِيغَةُ اِسْتِفْهَامٍ تَدُلُّ عَلَى اِنْدِهَاشِ ٱلْقَائِلِ ٱلَّذِي يَتَعَجَّبُ مِنْ زَلْزَلَةِ ٱلْأَرْضِ.
تحدث أخبارها: تُصَرِّحُ لَكَ بِمَا جَرَى فِيهَا مِنْ أَفْعَالِ ٱلْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
يصدر: يَنْصَرِفُ وَيَخْرُجُ.
أشتاتا: مُتَفَرِّقِينَ.
ذرة: نَمْلَةٍ صَغِيرَةٍ، وَتُطْلَقُ عَلَى أَصْغَرِ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ.
أَوَّلاً: حُدُوثُ ٱلزِّلْزَال فِي ٱلْأَرْضِ
قال تعالى: (إِذَا زُلْزِلَتِ اِ۬لَارْضُ زِلْزَالَهَا (1)) أَيْ: إِذَا تَحَرَّكَتِ ٱلْأَرْضُ مِنْ أَسْفَلِهَا حَرَكَةً شَدِيدَةً، وَاضْطَرَبَتِ ٱضْطِرَابًا هَائِلاً حَتَّى يَتَكَسَّرُ كُلُّ شَيْءٍ عَلَيْهَا، قال تعالى: (وَأَخْرَجَتِ اِ۬لَارْضُ أَثْقَالَهَا (2)) أَيْ أَلْقَتْ مَا فِي جَوْفِهَا مِنْ ٱلْأَمْوَاتِ وَالدَّفَائِنِ، (وَقَالَ اَ۬لِانسَٰنُ مَا لَهَا (3)) أَيْ: قَالَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ ٱلْإِنْسَانِ، مَا لِهَذِهِ ٱلْأَرْضِ، وَلِأَيِّ شَيْءٍ زُلْزِلَتْ، وَأَخْرَجَتْ أَثْقَالهَا؟
ثَانِيًا: إِخْبَارُ ٱلْأَرْضِ بِمَا وَقَعَ عَلَى ظَهْرِهَا
قال تعالى: (يَوْمَئِذٖ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)) أَيْ: فِي ذَلِكَ ٱلْوَقْتِ ٱلْمُضْطَرِبِ، وَقْتَ الزَّلْزَلَةِ، تُخْبِرُ ٱلْأَرْضُ بِأَخْبَارِهَا، وَتُحَدِّثُ بِمَا عَمِلَ ٱلْإِنْسَانُ عَلَى ظَهْرِهَا، يُنْطِقَهَا ٱللَّهُ سُبْحَانَهُ، لِتَشْهَدَ عَلَى ٱلْعِبَادِ، (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْح۪يٰ لَهَاۖ (5)) أَيْ: أَذِنَ لَهَا وَأَمَرَهَا بِأَنْ تَتَحَدَّثَ وَتَشْهَدَ بِوَحِي ٱللَّه وَإِذْنِهِ، (يَوْمَئِذٖ يَصْدُرُ اُ۬لنَّاسُ أَشْتَاتاٗ (6)) أَيْ: فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ تَرْجِعُ ٱلْخَلاَئِقُ مِنْ مَوْقِفِ ٱلْحِسَابِ، وَيَنْصَرِفُونَ مُتَفَرِّقِينَ فِرَقًا فِرَقًا، (لِّيُرَوَاْ اَعْمَٰلَهُمْۖ (7)) أَيْ: لِيَنَالُوا جَزَاءَ أَعْمَالهِمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ.
ثَالثًا: عَدْلُ ٱللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ عِبَادِهِ فِي ٱلْجَزَاءِ وَالحِسَابِ
قال تعالى: (فَمَنْ يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراٗ يَرَهُۥۖ(8)) أَيْ: فَمَنْ يَفْعَلْ مِنَ ٱلْخَيْرِ مِقْدَارَ نَمْلَةٍ صَغِيرَةٍ، أَوْ جُزْءٍ صَغِيرٍ لاَ يَكَادُ يُرَى يَجِدْهُ فِي صَحِيفَتِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَيَلْقَ جَزَاءَهُ عَلَيْهِ، قال تعالى: (وَمَنْ يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرّاٗ يَرَه ((9)أَيْ: وَمَنْ يَفْعَلْ مِنَ ٱلشَّرِّ مِقْدَارَ نَمْلَةٍ صَغِيرَةٍ، يَجِدْهُ كَذَلِكَ وَيَلْقَ عِقَابَهُ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ ٱللَّهُ تَعَالَى فِي أَنَّهُ لاَ يَغْفُلُ مِنْ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً.
الخلاصة:
تُشِيرُ هَذِهِ السُّورَةُ إِلَى تَذْكِيرِ ٱلْإِنْسَانِ بِقُرْبِ قِيَامِ السَّاعَةِ وَوُقُوفِ كُلِّ شَخْصٍ عَلَى مَا قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، كَمَا تُؤَكِّدُ أَنَّ عَدْلَ ٱللَّهِ تَعَالَى يَقْتَضِي أَنْ يُظْهِرَ لِلإِنْسَانِ كُلَّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ وَأَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ ٱلْحُجَّةَ بِالشُّهُودِ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ ٱلْأَرْضِ الَّتِي كَانَ يَعْمَلُ عَلَى ظَهْرِهَا.
قال تعالى: (وَالْعَٰدِيَٰتِ ضَبْحاٗ (1) فَالْمُورِيَٰتِ قَدْحاٗ (2) فَالْمُغِيرَٰتِ صُبْحاٗ (3) فَأَثَرْنَ بِهِۦ نَقْعاٗ (4) فَوَسَطْنَ بِهِۦ جَمْعاً (5) اِنَّ اَ۬لِانسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٞ (6) وَإِنَّهُۥ عَلَيٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٞ (7) وَإِنَّهُۥ لِحُبِّ اِ۬لْخَيْرِ لَشَدِيدٌۖ (8) ۞اَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِے اِ۬لْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِے اِ۬لصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٖ لَّخَبِيرٌۖ .((11)
تَمْهِيدٌ
التعريف بالسورة: سُورَةُ ٱلْعَادِيَاتِ مَكِّيَّةٌ، وَعَدَدُ آيَاتِهَا إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ ٱلْعَصْرِ.
موضوعها: تَحَدَّثَتْ عَنْ جُحُودِ ٱلْإِنْسَانِ لِنِعَمِ رَبِّهِ عَلَيْهِ وَغَرِيزَتِهِ فِي حُبِّهِ الشَّدِيدِ لِلثَّرْوَةِ وَٱلْـمَال، وَحَضَّتْ عَلَى فِعْلِ ٱلْخَيْرِ وَٱلْعَمَلِ ٱلصَّالحِ ٱلَّذِي يَنَفَعُ ٱلْإِنْسَانَ حِينَ رُجُوعِ ٱلْخَلاَئِقِ إِلَى ٱللَّهِ لِلْحِسَابِ وَٱلْجَزَاءِ، يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ.
شرح المفردات:
والعاديات: ٱلْخَيْلُ تَعْدُو فِي ٱلْغَزْوِ.
ضبحا: صَوْتُ أَنْفَاسِ ٱلْخَيْلِ إِذَا جَرَتْ.
فالموريات: ٱلْخَيْلُ الَّتي تُورِي النَّارَ أَيْ تُوقِدُهَا بِحَوَافِرِهَا.
قدحا: الضَّرْبُ لِإِخْرَاجِ النَّارِ.
فالمغيرات صبحا: ٱلْخُيُولُ الَّتي تَهْجُمُ عَلَى ٱلْعَدُوِّ فِي الصَّبَاحِ ٱلْبَاكر.
نقعا: غُبَارًا.
لكنود: لَكَفُورٌ بِنِعَمِ ٱللَّهِ.
لشهيد: لَشَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ بِاسْتِمْرَارٍ.
الخير: ٱلْمَالِ.
بعثر: أُخْرِجَ مَا فِي ٱلْقُبُورِ بِقُوَّةٍ.
أَوَّلًا: قَسَمُ ٱللَّهِ عَلَى جُحُودِ ٱلْإِنْسَانِ لِنِعَمِ رَبِّهِ تَعَالَى
قال تعالى: (وَالْعَٰدِيَٰتِ ضَبْحاٗ (1)) أَيْ أُقْسِمُ بِخَيْلِ ٱلْمُجَاهِدِينَ ٱلْمُسْرِعَاتِ فِي ٱلْكَرِّ عَلَى ٱلْعَدُوِّ وَالتِي يُسْمَعُ لأَنْفَاسِهَا صَوْتٌ عِنْدَ عَدْوِهَا، (فَالْمُورِيَٰتِ قَدْحاٗ (2)) أَيْ: ٱلْخَيْلِ الَّتي تُخْرِجُ شَرَرَ النَّارِ مِنَ ٱلْأَرْضِ بِوَقْعِ حَوَافِرِهَا عَلَى ٱلْحِجَارَةِ مِنْ شِدَّةِ ٱلْجَرْيِ، (فَالْمُغِيرَٰتِ صُبْحاٗ (3)) أَيْ: ٱلْخَيْلِ الَّتي تُغِيرُ عَلَى ٱلْعَدُوِّ وَقْتَ الصَّبَاحِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، (فَأَثَرْنَ بِهِۦ نَقْعاٗ (4)) أَيْ: فَأَثَارَتِ ٱلْخَيْلُ ٱلْغُبَارَ ٱلْكَثِيفَ لِشِدَّةِ ٱلْعَدْوِ فِي ٱلْمَوْضِعِ الَّذِي أَغَارَتْ فِيهِ، (فَوَسَطْنَ بِهِۦ جَمْعاً (5)) أَيْ: فَتَوَسَّطْنَ بِهِ جُمُوعَ ٱلأَعْدَاءِ، وَأَصْبَحْنَ وَسَطَ ٱلْمَعْرَكَةِ، (اِنَّ اَ۬لِانسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٞ (6)) أَيْ: إِنَّ ٱلْإِنْسَانَ لَجَاحِدٌ لِنِعَمِ رَبِّهِ، شَدِيدُ ٱلْكُفْرَانِ، (وَإِنَّهُۥ عَلَيٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٞ (7)) أَيْ: وَإِنَّ ٱلْإِنْسَانَ لَشَاهِدٌ عَلَى كُفْرِهِ، لاَ يَقْدِرُ أَنْ يُنْكِرَهُ لِظُهُورِ أَثَرِهِ عَلَيْهِ، (وَإِنَّهُۥ لِحُبِّ اِ۬لْخَيْرِ لَشَدِيدٌۖ (8)) أَيْ: وَإِنَّهُ لَشَدِيدُ ٱلْحُبِّ لِلْمَالِ، حَرِيصٌ عَلَى جَمْعِهِ.
ثَانِيًا: عِلْمُ ٱللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِجَمِيعِ أَحْوَالِ ٱلْعِبَادِ وَأَعْمَالهِمْ
قال تعالى: (اَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِے اِ۬لْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِے اِ۬لصُّدُورِ (10)) أَيْ: أَفَلاَ يَعْلَمُ هَذَا ٱلْجَاهِلُ إِذَا أُثِيرَ مَا فِي ٱلْقُبُورِ وَأُخْرِجَ مَا فِيهَا مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ، وَجُمِعَ وَأُبْرِزَ مَا فِي ٱلصُّدُورِ مِنَ ٱلْأَسْرَارِ وَالخَفَايَا الَّتي كَانُوا يُسِرُّونَهَ، (إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٖ لَّخَبِيرٌ ((11)أَيْ: إِنَّ رَبَّهُمْ لَعَالمٌ بِجَمِيعِ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ، وَمُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ أَوْفَرَ ٱلْجَزَاءِ.
الخلاصة:
تُشِيرُ هَذِهِ ٱلسُّورَةُ إِلَى مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ نِعَمِ ٱللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ ٱلَّتِي تَتَجَلَّى فِي نِعْمَةِ ٱلْخَيْلِ ٱلَّتي جَعَلَهَا ٱللَّهُ تَعَالَى فِي خِدْمَةِ ٱلْإِنْسَانِ، كَمَا تُشِيرُ إِلَى تَحْذِيرِ ٱلْإِنْسَانِ مِنْ جُحُودِ ٱلْنِّعْمَةِ وَعَدَمِ شُكْرِ ٱللَّهِ عَلَيْهَا، وَتَهْدِفُ أَيْضًا إِلَى تَحْرِيرِ ٱلْإِنْسَانِ مِنْ عُبُودِيَّةِ ٱلْمَالِ وَاِتِّخَاذِهِ غَايَةً فِي ٱلْحَيَاةِ.
قال تعالى: (اِ۬لْقَارِعَةُ مَا اَ۬لْقَارِعَةُۖ (1) وَمَآ أَدْر۪يٰكَ مَا اَ۬لْقَارِعَةُۖ (2) يَوْمَ يَكُونُ اُ۬لنَّاسُ كَالْفَرَاشِ اِ۬لْمَبْثُوثِ (3) وَتَكُونُ اُ۬لْجِبَالُ كَالْعِهْنِ اِ۬لْمَنفُوشِۖ (4) فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُۥ (5) فَهُوَ فِے عِيشَةٖ رَّاضِيَةٖۖ (6) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُۥ (7) فَأُمُّهُۥ هَاوِيَةٞۖ (8) وَمَآ أَدْر۪يٰكَ مَا هِيَهْۖ (9) نَارٌ حَامِيَةٌۖ (10)
تَمْهِيدٌ:
التعريف بالسورة: سُورَةُ ٱلْقَارِعَةِ مَكِّيَّةٌ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ قُرَيْشٍ، عُدَدُ آيَاتِهَا إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً.
موضوعها: أَهْوَالِ ٱلْقِيَامَةِ وَشَدَائِدِهَا، وَأَشَارَتْ إِلَى بَعْضِ أَمَارَاتِ السَّاعَةِ، وَاخْتُتِمَتْ بِالحَدِيثِ عَنْ نَصْبِ ٱلْمَوَازِينِ لِلحِسَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ، حَيْثُ يَعْدِلُ ٱللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ عِبَادِهِ فَتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا عَمِلَتْ.
شرح المفردات:
القارعة: مِنْ أَسْمَاءِ ٱلْقِيَامَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَقْرَعُ ٱلْقُلُوبَ بِهَوْلِهَا.
ما القارعة: اِسْتِفْهَامٌ يَدُلُّ عَلَى التَّهْوِيلِ.
كٱلْفَرَاش: ٱلْحَشَرَةُ الَّتي تَتَرَامَى عَلَى ضَوْءِ السِّرَاجِ لَيْلا.
المبثوث: ٱلْمُفَرَّقِ ٱلْمُنْتَشِرِ.
كالعهن: كَالصُّوفِ ذِي ٱلْألْوَانِ.
المنفوش: الَّذِي نُفِشَ فَفُرِّقَتْ شَعَرَاتُهُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ.
فأمه هاوية: فَمَرَدُّهُ وَمَصِيرُهُ النَّارُ الَّتي يَهْوِي فِيهَا.
أَوَّلًا: هَوْلُ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ وَبَعْضُ أَحْوَالِهِ
قال تعالى: (اِ۬لْقَارِعَةُ مَا اَ۬لْقَارِعَةُۖ) أَيْ: ٱلْقِيَامَةُ وَأَيُّ شَيْءٍ هِيَ ٱلْقِيَامَةُ؟ إِنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُوَصَفَ أَوْ تُصَوَّرَ، (وَمَآ أَدْر۪يٰكَ مَا اَ۬لْقَارِعَةُۖ) زِيَادَةُ تَهْوِيلٍ لَهَا، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَعْلَمَكَ مَا شَأْنُ ٱلْقِيَامَةِ فِي هَوْلِهَا عَلَى ٱلنُّفُوسِ (يَوْمَ يَكُونُ اُ۬لنَّاسُ كَالْفَرَاشِ اِ۬لْمَبْثُوثِ) أَيْ: يَحْدُثُ ذَلِكَ عِنْدَمَا يَخْرُجُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهُمْ فَزِعِينَ هَذَا وَصْفٌ ثَانٍ مِنْ أَوْصَافِ ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ ٱلْمَهُولِ، (وَتَكُونُ اُ۬لْجِبَالُ كَالْعِهْنِ اِ۬لْمَنفُوشِۖ) أَيْ: وَتَصِيرُ ٱلْجِبَال كَالصُّوفِ ٱلْمُنْتَثِرِ ٱلْمُتَطَايِرِ، تَتَفَرَّقُ أَجْزَاؤُهُ وَتَتَطَايَرُ فِي ٱلْجَوِّ.
ثَانِيًا: عَدْلُ ٱللَّهِ تَعَالَى فِي ٱلْحِسَابِ وَالجَزَاءِ
ذَكَرَ تَعَالَى حَالةَ النَّاسِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ، وَانْقِسَامَهُمْ إِلَى شَقِّيٍّ وَسَعِيدٍ فقَال: (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُۥ) أَيْ رَجَحَتْ مَوَازِينُ حَسَنَاتِهِ، وَزَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ (فَهُوَ فِے عِيشَةٖ رَّاضِيَةٖۖ) أَيْ: فَهُوَ فِي ٱلْجَنَّةِ يَنْعَمُ فِي عَيْشٍ هَنِيءٍ رَغِيدٍ سَعِيدٍ (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُۥ) أَيْ: نَقَصَتْ حَسَنَاتُهُ عَنْ سَيِّئَاتِهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ يُعْتَدُّ بِهَا (فَأُمُّهُۥ هَاوِيَةٞۖ) أَيْ: فَمَسْكَنُهُ وَمَصِيرُهُ نَارُ جَهَنَّمَ يَهْوِي فِي قَعْرِهَا، وَتَضُمُّهُ إِليْهَا كَمَا تَضُمُّ ٱلْأُمُّ ٱلْأَوْلَادَ إلَيْهَا.
ثَالثًا: بَعْضُ أَوْصَافِ جَهَنَّمَ:
قَال تَعَالَى: (وَمَآ أَدْر۪يٰكَ مَا هِيَهْۖ) اِسْتِفْهَامٌ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّهْوِيلِ، أَيْ: وَمَا أَعْلَمَكَ مَا ٱلْهَاوِيَةُ؟ ثُمَّ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: (نَارٌ حَامِيَةٌۖ) أَيْ هِيَ نَارٌ شَدِيدَةُ ٱلْحَرَارَةِ.
الخلاصة:
وَهَذِهِ ٱلْآيَاتُ تُبَيِّنُ هَوْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ الَّذِي وَصَفَهُ ٱللَّه بِأَوْصَافٍ كَثِيرَةٍ، وَتُقَسِّمُ ٱلنَّاسَ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ بِحَسَبِ أَعْمَالهِمْ وَتَدْعُو إِلَى لَفْتِ اِنْتِبَاهِ ٱلْإِنْسَانِ فِي ٱلْحَيَاةِ لِتَحْقِيقِ وَظِيفَتِهِ ٱلْأَسَاسِيَّةِ فِي ٱلْوُجُودِ وَهِيَ عِبَادَةُ ٱللَّهِ تَعَالَى وَالاِسْتِعْدَادُ لِلِقَائِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ بِالإِكْثَارِ مِنْ فِعْلِ ٱلْخَيْرِ.
سورة التكاثر
قال تعالى: (اَلْه۪يٰكُمُ اُ۬لتَّكَاثُرُ (1) حَتَّيٰ زُرْتُمُ اُ۬لْمَقَابِرَۖ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَۖ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَ۬لْيَقِينِۖ (5) لَتَرَوُنَّ اَ۬لْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اَ۬لْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْـَٔلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ اِ۬لنَّعِيمِۖ.(8)
تَمْهِيدٌ:
سُورَةُ ٱلتَّكَاثُرِ مَكِّيَّةٌ، وَعَدَدُ آيَاتِهَا ثَمَانٌ، وَقَدْ تَحَدَّثَتْ سُورَةُ ٱلتَّكَاثُرِ عَنْ بَيَانِ اِنْشِغَالِ ٱلنَّاسِ بِمَلَذَّاتِ ٱلْحَيَاةِ وَمُغْرَيَاتِهَا، وَاشْتَمَلَتْ عَلَى إِنْذَارِ ٱللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ.
شرح المفردات:
ألهاكم: شَغَلَكُمْ وَأَنْسَاكُمْ طَاعَةَ ٱللَّهِ.
التكاثر: ٱلتَّفَاخُرُ بِٱلأَمْوَالِ وَٱلْأَوْلاَدِ وَٱلرِّجَالِ.
أَوَّلًا: اِشْتِغَالُ ٱلنَّاسِ بِجَمْعِ ٱلْمَالِ وَتَكْثِيرِهِ وَنِسْيَانُ ٱلْآخِرَةِ
قَال تَعَالَى: (اَلْه۪يٰكُمُ اُ۬لتَّكَاثُرُ * حَتَّيٰ زُرْتُمُ اُ۬لْمَقَابِرَۖ) َأيْ: شَغَلَكُمُ ٱلتَّفَاخُرُ وَٱلتَّبَاهِي بِٱلْأَمْوَال وَٱلْأَوْلاَدِ وَٱلْاِعْتِنَاءُ بِكَثْرَتِهَا وَتَحْصِيلِهَا عَنْ طَاعَةِ ٱللَّهِ وَالعَمَلِ لِلآخِرَةِ، حَتَّى أَدْرَكَكُمْ ٱلْمَوْتُ، وَأَنْتُمْ عَلَى تِلْكَ ٱلْحَالِ.
ثَانِيًا: وَعِيدُ ٱللَّه تَعَالَى لِمَنْ شَغَلَتْهُ ٱلْدُّنْيَا عَنِ ٱلْآخِرَةِ
قَال تَعَالَى: (كلاَّ) هَذَا رَدْعٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلإِنْسَانِ أَنْ تَكُونَ الدُّنْيَا جَمِيعَ هَمِّهِ، وَيُضَيِّعَ دِينَهُ وَآخِرَتَهُ. (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَۖ) َأيْ سَوْفَ تَعْلَمُونَ عِنْدَ ٱلْمَوْتِ سُوءَ عَاقِبَةِ مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا التَّكَاثُرِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى ٱلتَّدَابُرِ وَٱلْأَحْقَادِ، وَإِهْمَال ٱلْعَمَلِ لِلآخِرَةِ (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَ۬لْيَقِينِۖ) هَذَا تَكْرِيرٌ لِلرَّدْعِ وَالتَّخْوِيفِ، أَيْ: لَوْ تَعْلَمُونَ حَالَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ لَمَا انْشَغَلْتُمْ بِجَمْعِ ٱلْمَالِ وَمُرَاكَمَتِهِ (لَتَرَوُنَّ اَ۬لْجَحِيمَ) أَيْ لَتُشَاهِدُنَّ ٱلنَّارَ فِي ٱلْآخِرَةِ (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اَ۬لْيَقِينِ) أيْ: ثُمَّ لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ بِأَعْيُنِكُمُ ٱلرُّؤْيَةَ الَّتِي لاَشَكَّ فِيهَا (ثُمَّ لَتُسْـَٔلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ اِ۬لنَّعِيمِۖ) أَيْ: إِنَّكُمْ سَوْفَ تُسْأَلُونَ عَنْ نِعَمِ ٱللَّهِ فِي ٱلدُّنْيَا ٱلَّتِي أَنْسَتْكُمُ ٱلْآخِرَةَ.
سورة العصر
قال تعالى: (وَالْعَصْرِ إِنَّ اَ۬لِانسَٰنَ لَفِے خُسْرٍ (1) اِلَّا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ (2) وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِۖ.(3)
تَمْهِيدٌ:
وَسُورَةُ ٱلْعَصْرِ مَكِّيَّةٌ أَيْضًا وَعَدَدُ آيَاتِهَا ثلَاثٌ، وَتَضَمَّنَتْ سُورَةُ ٱلْعَصْرِ قَسَمَ ٱللَّهِ ٱلْعَظِيمَ بِالعَصْرِ عَلَى أَنَّ ٱلْإِيمَانَ وَٱلْعَمَلَ ٱلصَّالحَ، وَٱلتَّوَاصِي بِٱلْحَقِّ وَٱلصَّبْرِ هُوَ ٱلسَّبِيلُ ٱلْوَحِيدُ لِلنَّجَاةِ مِنَ ٱلْخُسْرَانِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ.
شرح المفردات:
والعصر: ٱلْوَاوُ وَاوُ ٱلْقَسَمِ، وَ"ٱلْعَصْرُ" هَوَ ٱلدَّهْرُ.
خسر: نُقْصَانٍ.
ثَالثًا: قِيمَةُ ٱلْإِيمَانِ وَٱلْعَمَلِ ٱلْصَّالحِ
قَال تَعَالَى: (وَالْعَصْرِ إِنَّ اَ۬لِانسَٰنَ لَفِے خُسْرٍ) أَقْسَمَ ٱللَّهُ تَعَالَى بِالدَّهْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ أَحْدَاثٍ وَعِبَرٍ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى قُدْرَةِ ٱللَّهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ (اِلَّا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ) أَيْ: جَمَعُوا بِيْنَ ٱلْإِيمَانِ وَصَالحِ ٱلْأَعْمَالِ، فَهَؤُلَاءِ هُمْ ٱلْفَائِزُونَ، لأِنَّهُمْ قَدَّمُوا ٱلْعَمَلَ لِلآخِرَةِ ٱلْبَاقِيَةِ عَلَى ٱلْعَمَلِ لِلدُّنْيَا ٱلْفَانِيَةِ (وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ) أَيْ: أَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِالحَقِّ وَهُوَ ٱلْأَمْرُ ٱلثَّابِتُ الَّذِي لاَ يَسُوغُ إِنْكَارُهُ، وَهُوَ ٱلْخَيْرُ كُلُّهُ مِنْ تَوْحِيدِ ٱللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَاِتِّبَاعِ كُتُبُهِ وَرُسُلِهِ (وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ) َأيْ: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ عَلَى الشَّدَائِدِ وَالمَصَائِبِ، وَعَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَتَرْكِ ٱلْمُحَرَّمَاتِ.
الخلاصة:
وَتُقَرِّرُ ٱلْآيَاتُ أَنَّ ٱللَّهِ حَكَمَ بِالْخُسْرَانِ عَلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ إلاَّ مَنْ أَتَى بِهَذِهِ ٱلْأَشْيَاءِ ٱلْأَرْبَعَةِ، وَهِيَ: ٱلْإِيمَانُ، وَٱلعَمَلُ الصَّالحُ، وَٱلتَّوَاصِي بِٱلْحَقِّ، وَٱلتَّوَاصِي بِٱلصَّبْرِ، فَيَكُونُ ٱلْعَبْدُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ القِيَامِ بِحقِّ ٱللَّهِ، وَحَقِّ ٱلْعِبَادِ.