جديد الموقع: كيف أتفوق في دراستي؟
أولا: التعريف بابن أبي زيد القيرواني
هو العالم الجليل أبو محمد عبد الله بن أبي زيد عبد الرحمن النفزي القيرواني إمام المالكية في وقته، ويلقب بالنفزاوي نسبة إلى نفزاوة من قبائل إفريقية، ولد بالقيروان سنة 310 هـــ، وبها نشأ وتربى ودرَس؛ فقد حفظ القرآن في صغره وانتقل إلى دراسة علوم الإسلام والعربية، وظهر نبوغه مبكرا حيث تذكر المصادر أنه ألف الرسالة وهو ابن سبع عشرة سنة. وقد لُقب بخليفة مالك، وبمالك الأصغر. توفي مساء الإثنين 30 شعبان سنة 386 هــ تاركا وراءه تراثا علميا ضخما يقدر بحوالي أربعين مصنفا في مختلف فنون العلم.
ثانيا: أهمية كتاب الرسالة لابن أبي زيد
كتاب الرسالة من أهم مصنفات الإمام ابن أبي زيد القيرواني، حظيت الرسالة بقبول وعناية وشهرة وانتشار في الآفاق تدريسا وشرحا وحواشي، تميزت بالاختصار والدقة، وهي من أوائل مختصرات الفقه المالكي. اشتملت على أربعة آلاف مسألة وأربعمائة حديث وبعد الفراغ من تأليفها بعث بها مؤلفها إلى الشيخ أبي بكر الأبهري الذي أظهر الفرح بها، وأشاع خبرها بين الناس، وأمر ببيعها فقال لا تباع إلا بوزنها ذهبا وزنا بوزن، فجاء وزنها ثلاثمائة دينار ونصف. وقد استمر الإقبال على الرسالة منذ تأليفها إلى عصرنا هذا وترجمت إلى اللغتين: الانجليزية والفرنسية.
المتن
"قال ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله: «بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى الله عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَءَالِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الله بْنُ أَبِي زَيْدٍ القَيْرَوَانِي رَضِيَ الله عَنْهُ وَأَرْضَاهُ: الحَمْدُ لله الّذِي ابْتَدَأَ الإِنْسَانَ بِنِعْمَتِهِ، وَصَوَّرَهُ فِي الأَرْحَامِ ِبِحِكْمَتِه ِوَأَبْرَزَهُ إِلَى رِفْقِهِ، وَمَا يَسَّرَهُ لَهُ مِنْ رِزْقِهِ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْهِ عَظِيمًا، وَنَبَّهَهُ بِآثَارِ صَنْعَتِهِ، وَأَعْذَرَ إِلَيْهِ عَلَى أَلْسِنَةِ المُرْسَلِينَ المُومِنِينَ لِلْيُسْرَى، وَشَرَحَ صُدُورَهُمْ لِلذِّكْرَى، فَآمَنُوا بِالله بِأَلْسِنَتِهِمْ نَاطِقِينَ، وَبِقُلُوبِهِمْ مُخْلِصِينَ، وَبِمَا أَتَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُ وَكُتُبُهُ عَامِلِينَ، وَتَعَلَّمُوا مَا عَلَّمَهُمْ، وَوَقَفُوا عِنْدَمَا حَدَّ لَهُمُ، وَاسْتَغْنَوْا بِمَا أَحَلَّ لَهَمْ عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ... المُومِنِينَ لِلْيُسْرَى، وَشَرَحَ صُدُورَهُمْ لِلذِّكْرَى، فَآمَنُوا بِالله بِأَلْسِنَتِهِمْ نَاطِقِينَ، وَبِقُلُوبِهِمْ مُخْلِصِينَ، وَبِمَا أَتَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُ وَكُتُبُهُ عَامِلِينَ، وَتَعَلَّمُوا مَا عَلَّمَهُمْ، وَوَقَفُوا عِنْدَمَا حَدَّ لَهُمُ، وَاسْتَغْنَوْا بِمَا أَحَلَّ لَهَمْ عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ...أما بعد: أَعَانَنَا الله وَإِيَاكَ عَلَى رِعَايَةِ وَدَائِعِهِ، وَحِفْظِ مَا أَوْدَعَنَا مِنْ شَرَائِعِهِ، فَإِنَّكَ سَأَلْتَنِي أَنْ أَكْتُبَ لَكَ جُمْلَةً مُخْتَصَرَةً مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَةِ، مِمَّا تَنْطِقُ بِهِ الأَلْسِنَةُ، وَتَعْتَقِدُهُ القُلُوبُ وَتَعْمَلُهُ الجَوَارِحُ. وَاعْلَمْ أَنَّ خَيْرَ القُلُوبِ أَوْعَاهَا لِلْخَيْرِ، وَأَرْجَى القُلُوبِ لِلْخَيْرِ مَا لَمْ يَسْبِقْ الشَّرُ إِلَيْهِ وَأَوْلَى مَا عُنِيَ بِهِ النَّاصِحُونَ، وَرَغِبَ فِي أَجْرِهِ الرَّاغِبُونَ إِيصَالُ الخَيْرِ إِلَى قُلُوبِ أَوْلَادِ المُومِنِينَ لِيَرْسَخَ فِيهَا، وتَنْبِيهُهُمْ عَلَى مَعَالِمِ الدِّيَانَةِ وَحُدُودِ الشَّرِيعَةِ لِيُرَاضُوا عليها، وما عليهم أن تعتقده من الدين قلوبهم وتعمل به جوارحهم".
شرح المفردات:
أبرزه إلى رفقه: أخرجه وأظهره إلى منفعته.
نبهه بآثار صنعته: أيقظه بالاعتبار في مصنوعاته.
الخِيَرة: المختارين من خلقه.
يُراض: يُذلل ويُخضع.
أولا: الثناء على الله سبحانه بنعمه
ابتدأ المصنف تأليفه بالحمد والثناء على الله سبحانه عملا بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» [سنن أبي داود كتاب الأدب باب: الهدي في الكلام] أي أقطع قليل البركة.
وبيان معنى الحمد هو الآتي:
أ- لغة: الوصف بالجميل على جهة التعظيم، والوصف لا يكون إلا باللسان.
ب- اصطلاحا: فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعما، والفعل أعم من الوصف؛ فهو إما فعلُ القلب؛ أي اعتقاد اتصافه سبحانه بصفات الكمال والجمال والجلال، وإما فعل اللسان؛ أي ذكر ما يدل عليه سبحانه، وإما فعل الجوارح وهو الإتيان بأفعال تدل على الثناء على الله تعالى.
ومعنى الشكر:
لغة: هو الحمد.
وأما اصطلاحا فهو: صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خُلق لأجله؛ كصرف النظر إلى مطالعة مصنوعاته والاستدلال بها عليه سبحانه.
ثانيا: سبب تأليف الرسالة ومحتواها
سبب تأليف الرسالة
قال المصنف رحمه الله: «فَإِنَّكَ سَأَلْتَنِي أَنْ أَكْتُبَ لَكَ جُمْلَةً مُخْتَصَرَةً مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَةِ» إن سبب تأليف الرسالة سؤال الشيخ محرز له أن يكتب جملة مختصرة من واجب أمور الديانة.
محتوى كتاب الرسالة لابن أبي زيد
قال المصنف رحمه الله: «مِمَّا تَنْطِقُ بِهِ الأَلْسِنَةُ، وَتَعْتَقده القُلُوبُ وَتَعْمَلُهُ الجَوَارِحُ، وَمَا يَتَّصِلُ بِالواجِبِ مِن ذَلِكَ مِنَ السُّنَنِ مِنْ مُؤَكَّدِهَا وَنَوافِلِهَا وَرَغَائِبِهَا وَشَيْءٍ مِنَ الْآدَابِ مِنْهَا وَجُمَلٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُنُونِهِ».
اشتمل كتاب الرسالة لابن أبي زيد القيرواني رحمه الله على جملة مختصرة قليلةِ اللفظ كثيرةِ المعنى من الأمور الآتية:
أ- الواجب من أمور الديانة مما تنطق به الألسنة كالشهادتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوها.
ب- الواجب من أمور الديانة مما تعتقده الأفئدة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره حلوه ومره.
ج- الواجب من أمور الديانة مما تعمله الجوارح كالصلاة والزكاة والصيام والحج والبيع والنكاح وغيرها.
د- ما يتصل بالواجب ويكمله من السنن المؤكدة والنوافل والرغائب.
هـ- شيء من الآداب وأمهات مسائل الفقه وأصوله التي ختم بها الكتاب.
ثالثا: خير القلوب وأهم ما يعتني به الناصحون
ذكر المصنف رحمه الله أن خير القلوب وأوعاها وأحفظَها وأقربَها للخير القلبُ الذي لم يسبق إليه الشر؛ لأنه إذا لم يسبق إليه الشر أحسنَ قبولَ ما يرد عليه من الخير، أما إذا سبق إليه اعتقاد الشر عظمت الحيلة في إزالته، وبَيَّن بعد ذلك أن أولى وأحق ما يعتني به الناصحون والمرشدون إلى الخير ثلاثة أشياء:
أولها: إيصال الخير وتبليغه إلى قلوب أولاد المؤمنين لكي يرسخ ويثبت فيهم.
ثانيها: تنبيههم وإيقاظهم من سِنة الجهالة والغفلة عن قواعد الدين التي هي معالم الديانة.
ثالثها: تنبيههم على الوقوف عند حدود الشريعة وهي الأحكام المتعلقة بأفعال المكلفين، وما يجب عليهم أن تعتقده قلوبهم من الدين وتعمل به جوارحهم من أحكام الشريعة.
من فوائد الدرس
استحسان افتتاح الأعمال الصالحة بآدابها الشرعية ومنها البسملة والحمدلة أداء لحق الله تعالى وتحصيلا للبركة؛ لأن الثناء على الله بنعمه مؤذن باستمرارها وزيادتها، والتذكير بأن السعادة الدنيوية والأخروية لا تتحقق إلا بحسن المعتقد وطهارة القلب وحفظ الجوارح والإخلاص في العمل.
___________________
(1) مَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ وَتَعْتَقِدُهُ الْقُلُوبُ هو ما قرر في مسائل العقيدة.
(2) وَأَمَّا مَا تَعْمَلُهُ الْجَوَارِحُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ فبيانه في باب العبادات والمعاملات ومحله كتب الفقه.
1 – تعريف علم التوحيد
التوحيد لغة: هو العلم بأن الشيء واحد.
التوحيد شرعا: علم يقتدر به على إثبات العقائد الدينية المكتسبة من أدلتها اليقينية.
وكما يسمى علم التوحيد يسمى علم أصول الدين وعلم الكلام والفقه الأكبر.
2 - أهمية علم التوحيد
الغاية من علم التوحيد معرفة وجود الله وما له من صفات، واستقامة الفرد وصلاح المجتمع الإنساني، لأن العقيدة الصحيحة تقدم للإنسان التفسير الصحيح للوجود الإنساني، أما الانحراف في العقيدة فيترتب عليه فساد في السلوك الاجتماعي.
العقائد الدينية المنسوبة إلى الدين الذي ندين الله به وننقاد له؛ هي: الأمور التي يجب على المكلف أن يصدق بها تصديقا جازما يطمئن به قلبه وترتاح إليه نفسه حتى لا يخالجه فيها شك ولا يتسرب إليه أدنى وهم.
والعقيدة تسمى أيضا ملة، وشرعا وشريعة، وصراطا مستقيما.
من مقاصد علم التوحيد معرفة الله بأسمائه وصفاته من خلال آياته في الأنفس والآفاق، وتربية المؤمن على إخلاص العبادة لله لتحصيل السعادة في الدنيا والآخرة.
قال المصنف: "بَابُ مَا تَنْطِقُ بِهِ الأَلْسِنَةُ وَتَعْتَقِدُهُ الأَفْئِدَةُ مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ مِنْ ذَلِكَ: الإِيمَانُ بِالْقَلْبِ، وَالنُّطْقُ بِاللِّسَانِ: أَنَّ اللهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلاَ شَبِيهَ لَهُ، وَلاَ نَظِيرَ لَهُ، وَلاَ وَلَدَ لَهُ، وَلاَ وَالِدَ لَهُ، وَلاَ صَاحِبَةَ لَهُ، وَلاَ شَرِيكَ لَهُ، لَيْسَ لأَوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ، وَلاَ لآخِرِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ".
إله: معبود.
الأفئدة: جمع فؤاد وهو القلب.
نظير: مثيل وند.
إن الإيمان هو: التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله إخلاصا بالقلب والإقرار به قولا باللسان.
وما يجب على العاقل البالغ الإقرار به:
أولا: اعتقاد وحدانية الله تعالى فلاَ شَبِيهَ لَهُ في ذاته، وَلاَ نَظِيرَ لَهُ فِي صِفَاتِهِ، وَلاَ شَرِيكَ لَهُ فِي أَفْعَالِهِ، منها: الخلق، والملك، والتدبير، إذْ مِنْهُ الْإِيجَادُ وَالِاخْتِرَاعُ.
ثانيا: تنزيهه سبحانه وتعالى عن جميع النقائص كالتعدد والند والشريك ولقد ابتدأ أصل الإلهيات بذكر صفات تنفي عنه ما لا يليق به من النقص، وهذه الصفات عبر عنها الأشاعرة بالصفات السلبية؛ لأنّها تسلب عن الله تعالى كلّ نقص لا يليق به عز وجل.
1 – تنزيهه عن الشبيه والنظير.
2 – تنزيهه سبحانه عن الولد والوالد والصاحبة، لاتصافه تعالى بالغنى المطلق. ويعبر الأشاعرة عن ذلك بصفة القيام بالنفس، أي عدم افتقاره تعالى إلى غيره.
ثالثا: هو أن الله هو الأول بلا ابتداء نفى عنه تعالى الحدوث فهو قديم، وهو الآخر بلا انتهاء سبحانه، نفى عن الله تعالى الفناء فالبقاء لله.
إن الغاية من وجود الإنسان هي توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة التي هي حق للخالق على كل المخلوقات.
كنه: كنه الشيء حقيقته.
يعتبر: يتأمل ويتعظ.
مائيَّة: أو ماهية، أي الحقيقة.
لا يؤده: لا يثقله ولا يشق عليه.
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يَبْلُغُ كُنْهَ صِفَتِهِ أَيْ لَا يُدْرِكُ حَقِيقَتَهُ الْوَاصِفُونَ فَعَدَمُ إدْرَاكِ حَقِيقَةِ الذَّاتِ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يُحِيطُ بِأَمْرِهِ أَيْ شَأْنِهِ الْمُتَفَكِّرُونَ أَيْ الْمُتَأَمِّلُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾[الرحمن: 29] مِنْ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْإِعْزَازِ وَالْإِذْلَالِ وَالْإِفْقَارِ وَالْإِغْنَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، [التفكر في مخلوقات الله] يَعْتَبِرُ الْمُتَفَكِّرُونَ أَيْ يَتَّعِظُ الْمُتَأَمِّلُونَ بِآيَاتِهِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، فَالْعَقْلِيَّةُ مَخْلُوقَاتُهُ وَهِيَ الْعَالَمُ بِأَسْرِهِ وَهُوَ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّرْعِيَّةُ آيَاتُ كِتَابِهِ وَأَدِلَّةُ خِطَابِهِ، وَلاَ يَتَفَكَّرُونَ فِي مَائِيَّةِ ذَاتِهِ، وَيُقَالُ: مَاهِيَّةٌ وَمَعْنَاهُمَا الْحَقِيقَةُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَفَكَّرُوا فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي ذَاتِهِ».
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ عِبَادِهِ تَعَالَى لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ بِمَعْنَى مَعْلُومَاتِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ فَيُعَلِّمُهُ لَهُمْ وَيُحِيطُونَ بِهِ.
[آية الكرسي] وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ الْكُرْسِيَّ جِرْمٌ مَحْسُوسٌ لِمَا صَحَّ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّهُ جِسْمٌ عَظِيمٌ تَحْتَ الْعَرْشِ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا أَيْ لَا يُثْقِلُهُ حِفْظُ مَا فِيهِمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ بِالْمَنْزِلَةِ الْعَظِيمُ الْقَدْرِ الرَّفِيعُ النَّعْتِ الَّذِي يَصْغُرُ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَ ذِكْرِ عَظَمَتِهِ، وَهُنَا انْتَهَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ، وَبِهَا تَمَّ قِسْمُ مَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ تَعَالَى.
تنزيه الله تعالى عن إحاطة المخلوقات بذاته وعلمه، لاستحالة إدراك حقيقة صفات الله تعالى، واستحالة إحاطة المتفكرين بأمره، وأن التفكر في مخلوقات الله لا يقتضي التفكر في ذاته، ومن بعض تجليات عظمته سبحانه، أنه لا يثقله ولا يشقّ عليه حفظ السماوات والأرض، وأن أول ما فرض الله عز وجل على جميع العباد النظر في آياته، والاعتبار بمقدوراته، والاستدلال عليه بآثار قدرته وشواهد ربوبيته.
الْعَالِمُ الْخَبِيرُ، الْمُدَبِّرُ الْقَدِيرُ، السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، وَأَنَّه فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدِ بِذَاتِهِ، وَهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِعِلْمِهِ.
المدبر: والتدبير في اللغة في حقّ البشر معناه: النظر في عواقب الأمور لتقع على الوجه الأصلح. وأما في حقّه تعالى يحتمل أحد معنيين، إما أنه العالم بمآل الأمور وعواقبها وما خفي منها، من قول العرب: لطيف التدبير في صنعته، معناه عالم بخفيات معانيها؛ وإما أن يكون بمعنى المريد المنفذ لما أراده على غاية الإحكام والإتقان، فيفيد معنى إبرام الأمر وإحكامه.
[القسم الثاني - من حيث أقسام الحكم العقلي -: الواجب العقلي في حقه تعالى]
1) وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْعَالِمُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَلَى صِفَةٍ تَنْكَشِفُ بِهَا الْمَعْلُومَاتُ الْمَوْجُودَاتُ وَالْمَعْدُومَاتُ.
2) وَمِنْهَا الْخَبِيرُ بِمَعْنَى الْمُطَّلِعُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُشَاهَدِ لَهُ، فَهُوَ تَعَالَى مُشَاهِدٌ لِمَا غَابَ وَلِمَا حَضَرَ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا ظَهَرَ وَاسْتَتَرَ.
3) وَمِنْهَا الْمُدَبِّرُ قَالَ تَعَالَى:﴿ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ﴾[السجدة: 5] وَأَصْلُ التَّدْبِيرِ النَّظَرُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ لِتَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَصْلَحِ، هَذَا فِي صِفَاتِ الْبَشَرِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْبَارِي تَعَالَى فَمَعْنَاهُ إبْرَامُ الْأَمْرِ وَتَنْفِيذُهُ وَقَضَاؤُهُ.
4) وَمِنْهَا الْقَدِيرُ مُبَالَغَةً فِي الْقُدْرَةِ؛ لِأَنَّ قُدْرَتَهُ تَعَالَى مُتَعَلِّقَةٌ بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ.
5) وَمِنْهَا السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وَرَدَ بِهِمَا الْخَبَرُ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِمَا فَهُوَ I سَامِعٌ لِكَلَامِهِ الْأَزَلِيِّ وَلِكَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ عِنْدَ وُجُودِهِمْ.
6) وَمِنْهَا الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ قَالَ تَعَالَى:﴿ فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ﴾[غافر: 12] لَيْسَ عُلُوُّهُ سُبْحَانَهُ عُلُوَّ جِهَةٍ وَلَا اخْتِصَاصٍ بِبُقْعَةٍ، وَلَا كَبِيرَ بِعِظَمِ جُثَّةٍ وَكِبَرِ بِنْيَةٍ، بَلْ الْعَلِيُّ وَصْفُهُ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُهُ لِنُعُوتِ الْجَلَالِ، وَالْكِبْرِيَاءُ نَعْتُهُ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُهُ لِصِفَاتِ الْجَمَالِ.
1 - استواؤه سبحانه على عرشه
[الفوقية والعرش]
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ تَعَالَى فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدِ بِذَاتِهِ وَفَوْقِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ فَوْقِيَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ بِمَعْنَى الشَّرَفِ وَهِيَ بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَالْمُلْكِ، فَتَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْقَهْرِ وَالْعَرْشُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا عَلَا.
[العرش وصفاته]
وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَخْلُوقٌ عَظِيمٌ وَهُوَ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى الْأَصَحِّ، دَلَّ عَلَى وُجُودِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَجِيدُ، أَيْ الْعَظِيمُ فِي ذَاتِهِ، والمعنى أن مجده وعظمته ذاتية ليست مكتسبة بالعرش ولا بغيره.
2 - معيته لخلقه سبحانه بعلمه
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَانٍ بِعِلْمِهِ أي أَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ فِي أَمَاكِنِهَا وَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ قَوْله تَعَالَى:﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾[المجادلة: 7]. الْآيَةَ أَيْ عِلْمُهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ.
1. أن من أسماء الله الحسنى الدالة على صفاته العالم الخبير المدبر القدير السميع البصير العلي الكبير.
2. استواؤه سبحانه على عرشه ومعيته لخلقه بعلمه.
3. أن الله تعالى منزه عن المكان.
4. أن الله تعالى لا يخرج شيء عن قدرته وعلمه.
خَلَقَ الإِنْسَانَ، وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا، وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وَعَلَى الْمُلْكِ احْتَوَى، وَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتُ الْعُلَى.
تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ: مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ.
حَبْلِ الْوَرِيدِ: الْوَرِيدُ عِرْقٌ بِبَاطِنِ الْعُنُقِ وهو الودج.
استوى: استولى واعتلى.
احتوى: أحاط.
1 – خلق الإنسان
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ.
2 – علمه سبحانه بأحوال الإنسان
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا الَّذِي تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ أَيْ الْإِنْسَانُ وَوَسْوَسَةُ نَفْسِهِ مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ، وَنِسْبَةُ الْوَسْوَسَةِ لِلنَّفْسِ مَجَازٌ. مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ﴾[ق: 16].
3 – قربه سبحانه من الإنسان
وَهُوَ سبحانه وتعالى أَقْرَبُ إلَيْهِ أَيْ إلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ الْمُرَادُ بِالْقُرْبِ هُنَا قُرْبُ عِلْمٍ لَا قُرْبُ مَسَافَةٍ فَهُوَ مَثَلٌ فِي فَرْطِ الْقُرْبِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى مَعْلُومَاتِ الْعِبَادِ وَسَرَائِرِهِمْ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فَكَأَنَّ ذَاتَهُ تَعَالَى قَرِيبَةٌ مِنْهُ، وَالْحَبْلُ الْعِرْقُ شُبِّهَ بِالْحَبْلِ اسْتِعَارَةً مِنْ حَيْثُ اشْتَدَّ اللَّحْمُ بِهِ وَارْتَبَطَ، وَالْوَرِيدُ عِرْقٌ بِبَاطِنِ الْعُنُقِ مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾[ق: 16]..
1 – علمه تعالى بكل شيء
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ أَيْ وَمَا تَسْقُطُ وَرَقَةٌ مِنْ أَيِّ وَرَقَةٍ كَانَتْ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ إلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا أَقَلُّ قَلِيلٍ عَبَّرَ بِهَا تَقْرِيبًا لِلْأَفْهَامِ وَلَا رَطْبٍ هُوَ مَا يَنْبُتُ وَلَا يَابِسٍ هُوَ مَا لَا يَنْبُتُ إلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، يَعْنِي أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ فِيهِ عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ مَا دَقَّ وَمَا جَلَّ حَتَّى سُقُوطِ الْوَرَقَةِ وَالْحَبَّةِ وَهِيَ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا وَلَا حِسَابَ وَلَا مُجَازَاةَ، فَمَا ظَنَّكَ بِالْأَعْمَالِ الْمُجَازَى عَلَيْهَا بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَاب مُّبِينٍ ﴾[الأنعام: 59].
2 – استواؤه على العرش واحتواؤه على الملك
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَا يَرِدُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ مَا وَرَدَ عَلَى قَوْلِهِ قَبْلُ، فَوْقَ عَرْشِهِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ أَتَى بِهِ وَهُوَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ، فَمِنْ الْعُلَمَاءِ كَابْنِ شِهَابٍ وَمَالِكٍ مَنْ مَنَعُوا تَأْوِيلَهُ وَقَالُوا: نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَتَعَرَّضُ لِمَعْنَاهُ قال الإمام مالك في الاستواء :”الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة“، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ تَأْوِيلَهُ قَصْدًا لِلْإِيضَاحِ، فَمَعْنَى اسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَوْلَى عَلَيْهِ اسْتِيلَاءَ مَلِكٍ قَادِرٍ قَاهِرٍ، وَمِنْ اسْتَوْلَى عَلَى أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ كَانَ مَا دُونَهُ فِي ضِمْنِهِ وَمُنْطَوِيًا تَحْتَهُ، وَقِيلَ: الِاسْتِوَاءُ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ أَيْ عُلُوِّ مَرْتَبَةٍ وَمَكَانَةٍ لَا عُلُوِّ مَكَان وَعَلَى الْمُلْكِ احْتَوَى حَقِيقَةُ الِاحْتِوَاءِ الِاسْتِدَارَةُ وَهِيَ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَيَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى إحَاطَةِ قُدْرَتِهِ بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَمِلْكِهِ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، وَالْمَلَكُوتُ عِبَارَةٌ عَنْ بَاطِنِ الْمُلْكِ وَالْمُلْكُ هُوَ الظَّاهِرُ.
[الأسماء والصفات]
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَصْفُ الْأَسْمَاءِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَسْمَاءَهُ تَعَالَى غَيْرُ مَحْصُورَةٍ فِي التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ الْوَارِدَةِ فِي الْحَدِيثِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمٌ إلَّا بِتَوْقِيفٍ مِنْ الشَّارِعِ. وَلَهُ سبحانه وتعالى الصِّفَاتُ الْعُلَى أَيْ الْمُرْتَفِعَةُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ.
خلق الله للإنسان وعلمه بأحواله وقربه منه وإحاطة علمه سبحانه وتعالى بكل شيء فلا يخرج شيء عن علمه وقدرته مما يشعر العبد بالمراقبة فيتقي الله. واستواؤه عز وجل على العرش واحتواؤه على الملك.
نص المتن:
لَمْ يَزَلْ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ، تَعَالَى أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ مَخْلُوقَةً، وَأَسْمَاؤُهُ مُحْدَثَةً. كَلَّمَ مُوسَى بِكَلاَمِهِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ لاَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَصَارَ دَكًّا مِنْ جَلاَلِهِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلاَمُ اللهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَيَبِيدَ، وَلاَ صِفَةٍ لِمَخْلُوقٍ فَيَنْفَدَ.
شرح المفردات:
لم يزل: نفي للنفي وهو إثبات دوام واستمرار.
دكا: مستويا مع الأرض غبارا.
فيبيد: يهلك ويذهب ويفنى.
أولا: أزلية صفاته تعالى وبقائها
وَلَمَّا بَيْنَ أَنَّ لَهُ سبحانه وتعالى أَسْمَاءَ وَصِفَاتٍ عَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّهَا قَدِيمَةٌ فَقَالَ لَمْ يَزَلْ أَيْ اللَّهُ سبحانه وتعالى يُرِيدُ وَلَا يَزَالُ مُتَّصِفًا بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ وَمُسَمًّى بِـأَسْمَائِهِ وَمَعْنَى لَمْ يَزَلْ عِبَارَةٌ عَنْ الْقِدَمِ، وَلَا يَزَالُ عِبَارَةٌ عَنْ الْبَقَاءِ، تَعَالَى أَيْ تَنَزَّهَ وَتَعَاظَمَ عَمَّا يَقُولُونَ مِنْ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ مَخْلُوقَةً وَأَنْ تَكُونَ أَسْمَاؤُهُ مُحْدَثَةً قرر ابن أبي زيد في صدد إثبات أزلية صفات الله تعالى وأسمائه، أنّه سبحانه وتعالى لم يزل متسميا بجميع أسمائه، ومتّصفا بجميع صفاته، أي إن أسماءه وصفاته قديمة كذاته عز وجل، وأنّها غير حادثة. وبذلك يكون ابن أبي زيد قد نفى عن المولى عز وجل قيام الحوادث بذاته العليا. والمراد بقيام الحوادث بالله تعالى، أي اتصافه بصفات وجودية حادثة أي طارئة بعد عدم، كالحركة والسكون، والكلام والسكوت، والاستواء والنزول، ونحو ذلك. وكذلك كون أسمائه محدثة غير أزلية، تسمى بها بعد خلق المخلوقات. وقد نفى ابن أبي زيد القيرواني عن الله تعالى كلّ ذلك، وأثبت أزلية صفاته وأسمائه، ونزهه عن أن تكون صفاته مخلوقة وأسماؤه محدثة، فالأشاعرة يثبتون صفات الله، وهي قديمة قائمة بذاته، أي لا يمكن تصور انفصالها عن ذاته، فلا يكون الله حيا بغير حياة أو عالما بغير علم أو مريد بغير إرادة أو متكلم بغير كلام، بل الله حي بحياة عالم بعلم مريد بإرادة متكلم بكلام.
[صفات الذات] وَأَمَّا صِفَاتُ الذَّاتِ قَدِيمَةٌ اتِّفَاقًا لَا تُفَارِقُ الذَّاتَ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ: الْقُدْرَةُ، وَالْإِرَادَةُ، وَالْعِلْمُ، وَالْحَيَاة،ُ وَالسَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالْكَلَامُ، وَالْبَقَاءُ.
ثانيا: تكليم الله لموسى عليه السلام وتجليه للجبل
1 – تكليم الله لموسى عليه السلام
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ إجْمَاعًا أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى كَلَّمَ مُوسَى عليه السلام بِكَلَامِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ؛ فَخَلَقَ لَهُ فَهْمًا فِي قَلْبِهِ، وَسَمْعًا فِي أُذُنَيْهِ يَسْمَعُ بِهِ كَلَامًا لَيْسَ بِصَوْتٍ وَلَا حَرْفٍ، يَسْمَعُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ بِكُلِّ جَارِحَةٍ وَلَمْ تَقَعْ لَهُ رُؤْيَةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ ويرى الأشاعرة أن كلام الله قديم غير مخلوق. ويثبتون رؤية الله سبحانه وتعالى بالأبصار في الآخرة. وَقَوْلُهُ لَا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ مُوسَى مَا كَلَّمَهُ مَخْلُوقٌ، وَإِنَّمَا كَلَّمَهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى.
2 – تجليه سبحانه للجبل
وَتَجَلَّى أَيْ ظَهَرَ لِلْجَبَلِ وَهُوَ طُورُ سَيْنَاءَ مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، فَصَارَ دَكًّا أَيْ مُسْتَوِيًا مَعَ الْأَرْضِ مِنْ جَلَالِهِ سبحانه وتعالى، وَجَلَالُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ اسْتِحْقَاقُهُ لِنُعُوتِ التَّعَالِي وَهُوَ رِفْعَتُهُ وَعُلُوُّهُ.
ثالثا: القرآن كلام الله غير مخلوق ولا هو صفة لمخلوق
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَيَبِيدَ وَلَا صِفَةً لِمَخْلُوقٍ فَيَنْفَدَ قال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يَبِيدُ مَعْنَاهُ يَذْهَبُ، وَيَنْفُدُ مَعْنَاهُ يَتِمُّ. قِيلَ: مِنْهُ نَفِدَ يَنْفَدُ نَفَادًا قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى:﴿ لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ﴾[الكهف: 109].
من جملة المسائل العقائدية المستفادة ما يلي:
أن الله تعالى له صفات أزلية قائمة بذاته؛ منها والكلام والبقاء، ومعنى صفة الكلام؛ أن الله تعالى متكلم بكلام أزلي ليس بحرف ولا صوت، وأن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق.
فينبغي التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته وتفويض معنى المتشابه منها وكيفيتها إلى علم الله تعالى.
قال المصنف: ( وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، حُلْوِهِ وَمُرِّهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ قَدَّرَهُ اللهُ رَبُّنَا، وَمَقَادِيرُ الأُمُورِ بِيَدِهِ، وَمَصْدَرُهَا عَنْ قَضَائِهِ. عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ قَبْلَ كَوْنِهِ، فَجَرَى عَلَى قَدَرِهِ ).
أولا: الإيمان بالقضاء والقدر
1 – تعريف القضاء والقدر
قال الأشاعرة وجمهور أهل السنة:
أ - إن القضاء هو إرادة الله الأزلية المتعلقة بالأشياء على وفق ما توجد عليه في وجودها الحادث. فالقضاء عند الأشاعرة راجع إلى صفة من صفات المعاني، وهي الإرادة.
ب - والقدر إيجاد الله الأشياء على قدر مخصوص ووجه معين أراده تعالى. والإيجاد عند الأشاعرة فعل من أفعال الله.
فالفرق بينهما عند الأشاعرة هو أن القضاء أزلي قديم؛ لأنه يرجع إلى صفة ذاتية هي الإرادة وهي قديمة، وأما القدر فهو حادث؛ لأنه يرجع إلى صفة فعل وهو الإيجاد وما كان كذلك فهو حادث! على طريقتهم في جعل الفعل من تعلقات القدرة دون أن يكون قائماً به.
2 – الإيمان بالقضاء والقدر
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ، إن الإيمان بالقضاء والقدر هو الركن السادس من أركان الإيمان، وحقيقته هي: التصديق الجازم بأن كل ما يقع في هذا الكون فهو بتقدير الله سبحانه وتعالى.
وَالضَّمَائِرُ فِي قَوْلِهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ حُلْوِهِ وَمُرِّهِ عَائِدَةٌ عَلَى الْقَدَرِ بِتَأْوِيلِ خَيْرِ مَقْدُورَاتِهِ وَشَرِّ مَقْدُورَاتِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِعُمُومِ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَات خَيْرًا كَانَتْ أَوْ شَرًّا حُلْوًا أَوْ مُرًّا، وَفَسَّرُوا الْخَيْرَ بِالطَّاعَاتِ وَالْحُلْوَ بِلَذَّتِهَا وَثَوَابِهَا وَالشَّرَّ بِالْمَعْصِيَةِ وَالْمُرَّ بِمَشَقَّتِهَا وَعِقَابِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ أَيْ الْخَيْرُ وَمَا بَعْدَهُ قَدْ قَدَّرَهُ اللَّهُ رَبُّنَا.
ثانيا: مقادير الأمور بيد الله تعالى ومصادرها بيده سبحانه
1 – مقادير الأمور بيد الله تعالى
وَمَعْنَى وَمَقَادِيرُ الْأُمُورِ أَيْ مَبَادِئُهَا بِيَدِهِ أَيْ قُدْرَتِهِ.
2 – صدور الأشياء عن قضاء الله تعالى
وَمَصْدَرُهَا أَيْ وُقُوعُهَا عَلَى شَكْلٍ دُونَ شَكْلٍ، وَوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ عَنْ قَضَائِهِ أَيْ قُدْرَتِهِ، عَبَّرَ بِالْقَضَاءِ عَنْ الْقُدْرَةِ؛ لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا وَعَلَى الْإِرَادَةِ.
3 - علاقة العلم بالقدر
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ قَبْلَ كَوْنِهِ أَيْ وُقُوعِهِ فَجَرَى أَيْ وَقَعَ عَلَى قَدَرِهِ أَيْ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ هَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَاعْتِقَادُ غَيْرِهِ كُفْرٌ، ويدور الإيمان بالقدر عند السلف والأشاعرة حسب ما دلت عليه نصوص القرآن والسنة على أربعة أمور وهي أصوله وأركانه التي لا يكون إلا بها: وهي العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق. والمراد بالعلم: أي أن الله علم ما الخلق عاملون بعلمه الأزلي. أما الكتابة: فالمراد بها أن الله كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ. وأما المشيئة: فيراد بها أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن ليس في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئته سبحانه وتعالى، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد. والخلق: يراد به أن الله خالق كل شيء، ومن ذلك أفعال العباد.
4 – وجوب الرضا بالقضاء والقدر
[الرضا بقضاء الله] فَإِنْ قِيلَ: الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَاجِبٌ وَالْكُفْرُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَهُوَ لَا يَجِبُ الرِّضَا بِهِ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْكُفْرَ مَقْضِيٌّ لَا قَضَاءُ وَالرِّضَا إنَّمَا يَجِبُ بِالْقَضَاءِ دُونَ الْمَقْضِيِّ.
من جملة المسائل العقائدية المستفادة ما يلي: الإيمان بالقدر وبيان أن الله تعالى لا يخرج شيء عن علمه وقدرته.
قال المصنف: لاَ يَكُونُ مِنْ عِبَادِهِ قَوْلٌ وَلاَ عَمَلٌ إِلاَّ وَقَدْ قَضَاهُ وَسَبَقَ عِلْمُه بِهِ، ﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾.
قضاء الله: إرادته وحكمه.
اللطيف: من أسمائه تعالى يطلق على عدة معان: الحليم العليم المنعم المحسن.
يخذل: يضل ويترك نصرته.
يهدي: يرشد ويوفق ويبين.
أولا: أقوال العباد وأعمالهم صادرة عن قضاء الله وعلمه
قَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ لَا يَكُونُ مِنْ عِبَادِهِ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ إلَّا وَقَدْ قَضَاهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ إلَخْ. قِيلَ إنَّمَا ذَكَرَهُ وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِيهِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ، وَيَعْلَمُ الْجُزْئِيَّ وَالْكُلِّيَّ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَيَعْلَمُ الْكُلِّيَّ لَا الْجُزْئِيَّ([1]) تَعَالَى اللَّهُ عَنْ كُفْرِهِمْ وَعَصَمَنَا مِنْ اعْتِقَادِهِمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَقَوْلِهِ: وَسَبَقَ عِلْمُهُ بِهِ([2]) هُوَ عَيْنُ قَوْلِهِ: عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ قَبْلَ كَوْنِهِ كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ:﴿ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾[الملك: 14] أَلَا أَفَادَ الْإِثْبَاتَ وَالتَّقْرِيرَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى بَابِهِ لِاسْتِحَالَتِهِ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَا يَعْلَمُ الْخَالِقُ مَخْلُوقَهُ أَوْ خَلْقَهُ، وَالْخَلْقُ عَامٌّ فِيمَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ، هَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: أَلَا يَعْلَمُ اللَّهُ مَنْ خَلَقَ وَمَنْ لَمْ يَعْقِلْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ عِبَادَهُ دُونَ أَفْعَالِهِمْ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ.
ثانيا: من أسمائه تعالى اللطيف
وَاللَّطِيفُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى يُطْلَقُ بِإِزَاءِ مَعَانٍ: بِمَعْنَى الْعَلِيمِ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ وَغَوَامِضِهَا وَمُشْكِلَاتِهَا، وَبِمَعْنَى الرَّحِيمِ وَبِمَعْنَى فَاعِلِ اللُّطْفِ.
ثالثا: الإضلال والهداية بيده سبحانه
وَقَوْلُهُ: وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ فَيَخْذُلُهُ بِعَدْلِهِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَيُوَفِّقُهُ بِفَضْلِهِ([3]) دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا يَكُونُ مِنْ عِبَادِهِ إلَخْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْهِدَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالضَّلَالُ وَالْخِذْلَانُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ضِدُّ ذَلِكَ، وَالْعَدْلُ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي مُلْكِهِ وَالْفَضْلُ إعْطَاءُ عَطِيَّةٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ.
من جملة المسائل العقائدية المستفادة ما يلي:
1. بيان أن وقوع أفعال العباد كلها بخلق الله وأن الكل بمشيئته حاصل.
2. أن الله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
3. اللطف الإلهي بالخلق.
_____________________
([1]) أثبت ابن زيد اتصاف الله تعالى بالعلم المطلق وبالسمع وبالبصر في قوله في (الرسالة): ”ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء“، وقوله: ”العالم، الخبير،... السميع، البصير“، وقوله: ”وهو في كلّ مكان بعلمه. خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد. وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلاّ في كتاب مبين“، ... وفي تقريره بأن علمه تعالى محيط بجميع الكائنات في أماكنها، وكذلك إيراده للبعض من معلومات الله الخفية والدقيقة والتفصيلية، كوسوسة النفس، وسقوط أي ورقة، ووجود أي حبة في بطون الأرض، والرطب من الحب واليابس، أي ما ينبت منها وما لا ينبت؛ فكلّ ذلك رد على الفلاسفة ومن يقول بقولهم إن الله تعالى يعلم الكلّيات ولا يعلم الجزئيات، (ابن أبي زيد القيرواني وعقيدته، ص: 83 بتصرف بسيط).
(قلت): ومسألة علم الله كانت مثار خلاف فهل يعلم الله الكليات والجزئيات أم يعلم الكليات فقط دون الجزئيات أم يعلم الجزئيات على نحو كلي؟ فالكندي وابن رشد بعامة والغزالي بخاصة جميعهم يذهبون إلى أنَّ الله تعالى عالم بالجزئيات من أجل أن يثبتوا وقوع الحساب والعقاب في الآخرة؛ لأنَّ الله تعالى إذا لم يكن عالمًا بالجزئيات فلن يثيب الناس أو يعاقبهم، وبذا يتقوّض معنى الآخرة. بينما ذهب الفارابي إلى القول إن الله يعلم الكليات دون الجزئيات. فالفلاسفة الإلهيون ينكرون علم الله بالجزئيات المعينة؛ لأن إدراكها إنما يكون بجسم أو قوة حالة في جسم، والله ذات أزلية ليس جسما. مما دفع بالغزالي إلى تكفيرهم، الشيء الذي جعل ابن رشد يرد على الغزالي في تكفيره للفلاسفة القائلين بأن الله لا يعلم الجزئيات، موضحا أن مسألة علم الله مسألة نسبية؛ لأن علم الله لا يشبه علم المخلوقين.
([2]) وأكّد ابن أبي زيد على أن علم الله تعالى سابق على وجود المخلوقات بجملتين: قوله في (الرسالة): ”علم كلّ شيء قبل كونه“، وقوله فيها أيضا: ”لا يكون من عباده قول ولا عمل إلاّ وقد قضاه وسبق به علمه، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير“، (المرجع السابق، ص: 83).
([3]) قال علماء التوحيد: ليس معنى إضلال الله لفريق وهدايته لفريق أنه تعالى يجبر كلا منهما على الضلالة والهدى، ولا أنه تعالى يكرههم على سلوك سبيلي الخير والشر، كلا فإن هذا الإكراه مناف للعدل الإلهي، بل منافٍ لحكمة التشريع السماوي، ولا يتفق مع نصوص الشريعة المتواترة القاطعة، الدالة على أن العبد له إرادة واختيار، هما مناط التكليف والمؤاخذة وكذلك فهم الصحابة والسلف الصالح، سأل رجل عليا رضي الله عنه فقال: ”أكان مسيرك إلى الشام – يعني لقتال أهلها – بقضاء الله وقدره؟! فقال له: ويحك، لعلك ظننت قضاء لازما، وقدرا حاتما، ولو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، إن الله سبحانه أمر عباده تخييرا، ونهاهم تحذيرا وكلف يسيرا ولم يكلف عسيرا، ولم ينزل الكتب للعباد عبثا، ولا خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا:﴿ ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ﴾“ - اهـ - وعلى ضوء هذا يفهم معنى الهداية والإضلال، (صفوة التفاسير للصابوني: ج/3، ص :454، الحاشية: 5).
فَكَلٌّ مُيَسَّرٌ بِتَيْسِيرِهِ إِلَى مَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ وَقَدَرِهِ مِنْ شَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ، تَعَالَى اللهُ أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مَا لاَ يُرِيدُ، أَوْ يَكُونَ لأَحَدٍ عَنْهُ غِنًى، أَوْ يَكُونَ خَالِقٌ لِكُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ هُوَ.
أولا: تيسير العباد إلى السعادة أو الشقاء
فَكُلٌّ شَيْءٍ مُيَسَّرٌ أَيْ مُسَهَّلٌ، بِتَيْسِيرِهِ إلَى مَا أَيْ الَّذِي سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ وَقَدَرِهِ مِنْ شَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ، وَالشَّقَاوَةُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَضَرَّةِ اللَّاحِقَةِ فِي الْعُقْبَى وَالسَّعَادَةُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَنْفَعَةِ اللَّاحِقَةِ فِي الْعُقْبَى.
ثانيا: إرادة الله عز وجل شاملة لكل ما في الكون
ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى قَوْلِهِ فَكُلٌّ إلَخْ بِقَوْلِهِ: تَعَالَى أَيْ تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ(1) أَوْ يَكُونَ لِأَحَدٍ عَنْهُ غِنًى لَوْ قَالَ لِشَيْءٍ بَدَلٌ لِأَحَدٍ لَكَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ، لَكِنَّهُ أَتَى بِلَفْظِ أَحَدٍ إشَارَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ﴾[فاطر: 15]؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقَعُ عَلَى غَيْرِ النَّاسِ.
[الرد على المعتزلة والقدرية]
وَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الْقَائِلِينَ إنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى إيجَادِ أَفْعَالِهِمْ قَبْلَ إيجَادِهَا، مُسْتَغْنُونَ عَنْ رَبِّهِمْ فِي حَالِ اخْتِرَاعِهِمْ لَهَا(2)، وَهَذَا هُوَ الضَّلَالُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: أَوْ يَكُونُ خَالِقٌ لِشَيْءٍ إلَّا هُوَ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ أَيْضًا دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى:﴿ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾[الأنعام: 102] وَفِيهِ عُمُومٌ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، إذْ يَخْرُجُ مِنْهُ ذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ وَأَسْمَاؤُهُ سبحانه وتعالى.
من جملة المسائل العقائدية المستفادة ما يلي:
بيان أن وقوع أفعال العباد كلها بخلق الله وأن الكل بمشيئته حاصل.
__________________
(1) في قوله: ”تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد“ توحيد للأفعال، ... وعبر ابن أبي زيد عن الإرادة أيضا بالقدر، في قوله في (الرسالة): ”والإيمان بالقدر خيره وشره“، وفي قوله فيها: ”إلى ما سبق من علمه وقدره“، وقوله فيها: ”والمقدر لحركاتهم وآجالهم“.
وعبر عنها أيضا بالقضاء في قوله فيها ...: ”قول ولا عمل إلاّ وقد قضاه“، إذ يطلق القضاء على الإرادة وعلى الفعل المقدر. كما عبر عنها بالمشيئة في قوله فيها: ”يضلّ من يشاء... ويهدي من يشاء“. وصرح بفعل الإرادة في قوله فيها: ”تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد“، (ابن أبي زيد القيرواني وعقيدته، ص: 64 و84 بتصرف).
(2) (قلت/أذ): اتفق المعتزلة على أن الإنسان قادر على خلق أفعاله، خيرها وشرها، ومستحق على ما يفعله ثوابا أو عقابا في الآخرة. فاعتبروا أن أفعال الناس من عملهم هم وباختيارهم لا من عمل الله. وبهذا الاعتبار فإن الإنسان يخلق أفعاله لشعوره بالحرية، ولضرورة التكليف والالتزام والمسؤولية، ولتحقيق الجزاء على ما فعل، لا سيما وأن الله عادل.
رَبُّ الْعِبَادِ وَرَبُّ أَعْمَالِهِمْ، وَالْمُقَدِّرُ لِحَرَكَاتِهِمْ وَآجَالِهِمْ، الْبَاعِثُ الرُّسُلَ إِلَيْهِمْ لإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.
رب: الخالق المالك السيد القائم المصلح.
آجال: جمع أجل وهو المدة والوقت.
باعث: مرسل.
الحجة: البرهان.
أولا: تجليات ربوبيته تعالى
1/2/3 – ربوبيته تعالى للعباد وأعمالهم وتقديره تعالى حركات العباد وآجالهم:
رَبُّ الْعِبَادِ أَيْ خَالِقُهُمْ وَسَيِّدُهُمْ وَرَبُّ أَعْمَالِهِمْ وَالْمُقَدِّرُ لِحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ وَآجَالِهِمْ جَمْعُ أَجَلٍ وَهُوَ مُدَّةُ الشَّيْءِ وَوَقْتُهُ، في قوله هذا توحيد للأفعال. فمما يدخل تحت القدرة، انفراد الله عز وجل بالخلق والاختراع، في كلّ ما يوجد في ملكه تعالى، ومن ذلك أفعال العباد الاختيارية والاضطرارية على السواء، وأنّه لا يشاركه فيها أحد، وأن الإنسان لا يقدر على خلق أفعاله. وقد صرح ابن أبي زيد بذلك، فقال: ”تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد، أو يكون لأحد عنه غنى، أو يكون خالقا لشيء إلاّ هو، رب العباد ورب أعمالهم“. فقد نزه ابن أبي زيد المولى عز وجل عن أن يوجد من هو مستغن عنه تعالى، أو يوجد خالق غيره. وواضح من ذلك أنّه يعني مسألة خلق أفعال العباد، التي هو بصدد تقريرها مع تفرد الله تعالى بالإرادة، لأنّه ختم كلامه بتأكيد أن الله تعالى الخالق لكلّ شيء هو رب العباد ورب أعمالهم، والرب هو الخالق، أي خالق العباد وخالق أعمالهم.
ونجد ابن أبي زيد في هذا متفقا مع مذهب الأشعري والباقلاني، في مقابل ما يقوله المعتزلة إن العباد يخلقون جميع متصرفاتهم في حركاتهم وسكونهم وكلامهم وسكوتهم وغير ذلك، وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وهم المعتزلة سموا بذلك لأنهم نفوا القدر قَائِلِينَ بِأَنَّ الْقَاتِلَ قَدْ قَطَعَ عَلَى الْمَقْتُولِ أَجَلَهُ وَمَا قَالُوهُ بَاطِلٌ بَلْ هُوَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ، إذ قرر ابن أبي زيد مسألة تتعلق بإرادة الله تعالى، وهي أن جميع الموجودات تقع مرادة لله تعالى، وأن لا شيء منها يوجد، في الدنيا أو في الآخرة، دون إرادته لها؛ من نفع، وضر، ورزق، وأجل، وطاعة، ومعصية، وكفر، وإيمان، وسائر ما يحدث في ملكه تعالى.
- قال ابن أبي زيد في (الرسالة): ”الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره؛ وكلّ ذلك قد قدره ربنا“ أي كلّ ما يوجد من الخير والشر، ومن الحلو والمر، هو مراد له تعالى.
- وقال فيها: ”لا يكون من عباده من قول ولا عمل إلاّ وقد قضاه“ أي إلاّ وقد أراده، ولو لم يرده منهم لما كان ولا وجد.
- وقال فيها: ”يضلّ من يشاء، فيخذله بعدله؛ ويهدي من يشاء، فيوفّقه بفضله“ أي فالضالّ قد أراد الله له الضلال عدلا منه، والمهتدي قد أراد الله منه الهداية فضلا منه. ...
- وقال فيها: ”فكلّ ميسر بتيسيره إلى ما سبق من علمه وقدره، من شقي أو سعيد“ أي إن شقاء من شقي وسعادة من سعد، قد جرت به إرادة الله تعالى على وفق ما سبق به علمه.
- وقال فيها: ”تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد“.
- وقال فيها: ”المقدر لحركاتهم وآجالهم“، ...
وقد اهتم ابن أبي زيد بالتأكيد على هذه المسألة، لأنّها مما يروج فيها أهل الاعتزال في عصره على خلاف معتقد أهل السنّة، من أن الشر والكفر والمعصية تقع من العباد بإراداتهم على غير مراد الله تعالى، وأن المقتول قد قطع عليه قاتله أجله الذي أراد الله تعالى له أن يموت فيه؛ وابن أبي زيد فيما ذكرناه عنه في هذه المسألة متفق مع الأشعري والباقلاني ([1]).
قَالَ تَعَالَى:﴿ إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ ﴾[نوح: 4]،﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾[الأعراف: 34]، وَهُنَا تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى مَا يَجِبُ لَهُ I وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ.
ثانيا: بعثه الرسل إلى العباد والغاية منها
1 – بعثة الرسل إلى العباد والغاية منها
ثُمَّ انْتَقَلَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ إيجَادِ الْخَلْقِ بَعْدَ عَدَمِهِمْ وَعَدَمِهِمْ بَعْدَ وُجُودِهِمْ وَبَعْثَةُ الرُّسُلِ وَبَدَأَ بِهِ [بعث الرسل] فَقَالَ: الْبَاعِثُ الرُّسُلِ أَيْ وَمِنْ الْجَائِزِ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ بَعْثَةُ الرُّسُلِ إلَيْهِمْ؛ أَيْ بَعْضِ الْعِبَادِ وَهُمْ الْمُكَلَّفُونَ مِنْهُمْ، إن الله تعالى قد أرسل الرسل لعباده. فقال في (الرسالة): ”الباعث الرسل إليهم“. وفي استعماله اسم الله تعالى "الباعث" اسم فاعل من بعث، يفهم منه أنّه يجعل بعث الرسل فعلا من أفعاله عز وجل. وهذا يعني أن ذلك إرادته التي لا يلزمها شيء ولا يمنعها شيء، وفي ذلك رد على المعتزلة وجماعة من الشيعة الذين يقولون إن إرسال الرسل واجب على الله تعالى عقلا؛ ورد على البراهمة الذين يقولون باستحالتها؛ وقد كان للأشعري والباقلاني مناقشة منهجية تستند إلى أدلّة العقل لإبطال هذه الآراء، وإثبات أن إرسال الله تعالى الرسل فعل ممكن منه عز وجل، لتعلق أفعاله بالممكنات، فلا هو واجب عليه كما تقول المعتزلة، ولا مستحيل عليه كما تقول البراهمة، وهو يفعل ذلك منّة منه وفضلا ([2]).
2 – الغاية من البعثة الرسل عليهم السلام:
يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ إذْ الْمَقَامُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّكْلِيفِ وَهِيَ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَبُلُوغُ الدَّعْوَةِ، فَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ﴾[الإسراء: 15]. وفي قوله: ”لإقامة الحجة عليهم“ إشارة إلى أن المعرفة الحاصلة للإنسان عن طريق الخبر الصادق السمعي، وهو الوحي الموحى به إلى الرسل. وبهذه الجملة يقرر ابن أبي زيد تفرد الوحي بإقامة الحجة على الإنسان ببيان ما هو حلال وحرام وواجب عليه، وما هو حسن وقبيح، وأن الإنسان قبل مجيء الوحي غير مؤاخذ، وأن عقله غير مؤهل للحكم على الأفعال ووصفها بالحسن والقبح. وهو بذلك يعارض قول المعتزلة إن العقل يحسن ويقبح؛ وقول البراهمة إن العقل يغني عن الرسل([3]).
ما يستفاد:
بيان أن وقوع أفعال العباد كلها بخلق الله وأن الكل بمشيئته حاصل.
أن الأجل واحد وأن المقتول ميت بأجله.
أن في إرسال الرسل حكمة.
___________________
(1) (ابن أبي زيد القيرواني وعقيدته، ص: 84-85 بتصرف يسير).
(2) (المرجع السابق، ص: 95).
(3) (المرجع السابق، ص: 70).
ثُمَّ خَتَمَ الرِّسَالَةَ وَالنِّذَارَةَ وَالنُّبُوَّةَ بِمُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَهُ آخِرَ الْمُرْسَلِينَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْحَكِيمَ، وَشَرَحَ بِهِ دِينَهُ الْقَوِيمَ، وَهَدَى بِهِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ.
النذارة: التحذير والتخويف.
النبوة: من النبأ وهو الخبر أو من النبوة وهي الرفعة.
سراجا: مصباحا ومصدر نور.
شرح: أفهم.
الصراط المستقيم: الطريق القويم والسبيل السوي.
أولا: رسالة سيدنا محمد خاتمة الرسالات السماوية
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ عَلَى مَا قَالَ قَوْلُهُ: ثُمَّ خَتَمَ الرِّسَالَةَ وَهِيَ اخْتِصَاصُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخِطَابِ التَّبْلِيغِ وَالنِّذَارَةِ وَهِيَ التَّحْذِيرُ مِنْ السُّوءِ، وَالنُّبُوَّة مِنْ النَّبَأِ وَهُوَ الْخَبَرُ أَوْ مِنْ النُّبُوَّةِ وَهِيَ الرِّفْعَةُ بِمُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمَّا كَانَتْ رِسَالَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَانِعَةً مِنْ ظُهُورِ نُبُوَّةٍ وَرِسَالَةٍ بَعْدَهُ شُبِّهَتْ بِالْخَتْمِ الْمَانِعِ مِنْ ظُهُورِ مَا خُتِمَ عَلَيْهِ، فَكَانَ خِتَامَهُمْ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَذَّبَ بِذَلِكَ أَوْ شَكَّ فِيهِ فَهُوَ كَافِرٌ ثُمَّ فَسَّرَ خَتْمَ الرِّسَالَةِ بِقَوْلِهِ فَجَعَلَهُ أَيْ صَيَّرَ اللَّهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم آخِرَ الْمُرْسَلِينَ بَشِيرًا مِنْ الْبِشَارَةِ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا إذَا أُطْلِقَتْ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْخَيْرِ، فَإِذَا قُيِّدَتْ جَازَ أَنْ تَكُونَ بِالشَّرِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾[آل عمران: 21] وَجَعَلَهُ نَذِيرًا مِنْ النِّذَارَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ وَهِيَ لِلْعَاصِينَ، وَالْبِشَارَةُ لِلطَّائِعِينَ وَدَاعِيًّا مِنْ الدَّعْوَةِ وَهِيَ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ وَالدُّعَاءُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِتَبْلِيغِ التَّوْحِيدِ وَمُكَافَحَةِ الْكَفَرَةِ، بِإِذْنِهِ أَيْ بِأَمْرِهِ أَيْ إلَى أَمْرِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا وَالْأَصْلُ فِيمَا ذُكِرَ قَوْله تَعَالَى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾[الأحزاب: 45] ﴿ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾[الأحزاب: 46] الْمَعْنَى ذَا سِرَاجٍ وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لِلنُّورِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ شَرْعُهُ، فَإِنَّ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ يَخْرُجُ بِنُورِهِ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ، وَشُبِّهَ بِالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ دُونَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ؛ لِأَنَّ نُورَهُمَا لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ نُورٌ، وَإِنْ أُخِذَ فَنَادِرٌ بِتَكَلُّفٍ، وَنُورُ السِّرَاجِ يُوقَدُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ أَسْرِجَةٍ وَمِنْ غَيْرِ نَقْصٍ مِنْهُ، وَإِذَا ذَهَبَ نُورُ الْأَصْلِ بَقِيَ نُورُ فَرْعِهِ وَنُورُهُ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْأَنْوَارُ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا يَذْهَبُ بِذَهَابِهِ صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: القرآن العظيم معجزة سيدنا محمد الخالدة
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تعالى أَنْزَلَ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابَهُ الْحَكِيمَ بِمَعْنَى الْمُحْكَمِ أَيْ الَّذِي أُحْكِمَتْ فِيهِ عُلُومُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، أَوْ لِأَنَّهُ أُحْكِمَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقَعُ فِيهِ اخْتِلَافٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ﴾[النساء: 82] وَشَرَحَ بِمَعْنَى فَتَّحَ وَوَسَّعَ بِهِ أَيْ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم دِينَهُ أَيْ دِينَ الْإِسْلَامِ الْقَوِيمَ أَيْ الْمُسْتَقِيمَ وَهَدَى بِهِ أَيْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الصِّرَاطَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا دِينُ الْإِسْلَامِ الْمُسْتَقِيمَ أَيْ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ.
مما يستفاد:
أن أخر الرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أن الله تعالى أنزل كتابه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من يموت، كما بدأهم يعودون، وَأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ضَاعَفَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْحَسَنَاتِ، وَصَفَحَ لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ عَنْ كَبَائِرِ السَّيِّئَاتِ، وَغَفَرَ لَهُمُ الصَّغَائِرَ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَجَعَلَ مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنَ الْكَبَائِرِ صَائِرًا إِلَى مَشِيئَتِهِ؛ ﴿ إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ ﴾.
شرح المفردات:
يبعث: يحيي ويحشر.
ضاعف: كثر وزاد.
صفح: سمح وغفر وتجاوز.
أولا: الإيمان بقيام الساعة والبعث والنشور
1 – الإيمان بالساعة
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ السَّاعَةَ وَهِيَ الْقِيَامَةُ أَيْ انْقِرَاضُ الدُّنْيَا آتِيَةٌ أَيْ جَائِيَةٌ لَا رَيْبَ أَيْ لَا شَكَّ فِيهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، مَنْ كَذَّبَ بِذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:﴿ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ﴾[الفرقان: 11] وَلَا يَعْلَمُ وَقْتَ مَجِيئِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى لَكِنْ لَهَا أَشْرَاطٌ ذَكَرْنَاهَا فِي الْأَصْلِ: مِنْهَا كَثْرَةُ الْجَهْلِ وَقِلَّةُ الْعِلْمِ وَإِمَارَةُ الصِّبْيَانِ وَكَثْرَةُ الرِّبَا وَكَثْرَةُ الزِّنَا وَالْفِتَنُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبُلْدَانِ، قِيلَ: وَهُوَ أَوَّلُ الْأَشْرَاطِ، وَقِيلَ: عِنْدَهُ يُغْلَقُ بَابُ التَّوْبَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَدَمَ قَبُولِ التَّوْبَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا.
2 – البعث والنشور
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ I يَبْعَثُ مَنْ يَمُوتُ هَذَا مِمَّا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْدِمُ الذَّوَاتَ بِالْكُلِّيَّةِ ثُمَّ يُعِيدُهَا، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ: أَحَدُهَا قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ كَمَا بَدَأَهُمْ يَعُودُونَ التِّلَاوَةُ ﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾ يَعْنِي كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ كَذَلِكَ يُنْشِئُكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ إلَى الْحَشْرِ، وَيُحْشَرُ الْعَبْدُ وَلَهُ مِنْ الْأَعْضَاءِ مَا كَانَ لَهُ يَوْمَ وُلِدَ، فَمَنْ قُطِعَ مِنْهُ عُضْوٌ يَعُودُ إلَيْهِ فِي الْقِيَامَةِ حَتَّى الْخِتَانُ.
ثانيا: مضاعفة الحسنات ومغفرة الذنوب بالتوبة
1 - مضاعفة الحسنات للمؤمنين
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى ضَاعَفَ أَيْ كَثَّرَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ مُطِيعِينَ أَوْ عَاصِينَ مُكَلَّفِينَ أَوْ غَيْرَ مُكَلَّفِينَ وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِي أَجْرِ الصَّبِيِّ لِمَنْ هُوَ الْحَسَنَاتُ جَمْعُ حَسَنَةٍ وَهِيَ مَا يُحْمَدُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا شَرْعًا عَكْسُ السَّيِّئَةِ وَهِيَ مَا يُذَمُّ عَلَيْهَا شَرْعًا، وَالْمُرَادُ مُضَاعَفَةُ جَزَائِهَا، وَالْمُضَاعَفَةُ أَنْوَاعٌ نَقَلْنَاهَا فِي الْأَصْلِ.
2 – مغفرة الذنوب بالتوبة
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَفَحَ أَيْ تَجَاوَزَ وَعَفَا عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ وَالْكَرَمِ لَهُمْ أَيْ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ بِـسَبَبِ التَّوْبَةِ عَنْ كَبَائِرِ السَّيِّئَاتِ ظَاهِرُهُ مَعَ مَا بَعْدَهُ أَنَّ الْكَبَائِرَ لَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَظَاهِرُ قَوْلِهِ آخِرُ الْكِتَابِ: وَالتَّوْبَةُ فَرِيضَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ أَنَّهَا كَذَلِكَ تَفْتَقِرُ لِتَوْبَةٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الطَّيِّبِ فَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَغَفَرَ لَهُمْ الصَّغَائِرَ أَيْ إثْمَهَا بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ([1]) أَنَّهَا تُكَفَّرُ بِتَرْكِ التَّلَبُّسِ بِالْكَبَائِرِ وَالْإِبْعَادِ عَنْهَا فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى تَوْبَةٍ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: فَيُؤْخَذُ مِنَ الرِّسَالَةِ قَوْلَانِ: وَاعْلَمْ أَنَّ التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ شَرْعًا عَلَى الْفَوْرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ مَنْ أَخَّرَهَا عَصَى ثَبَتَ وُجُوبُهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَتَوْبَةُ الْكَافِرِ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا إجْمَاعًا، وَاخْتُلِفَ فِي تَوْبَةِ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي هَلْ هِيَ مَقْبُولَةٌ شَرْعًا أَيْ ظَنًّا وَصَحَّحَ أَوْ قَطْعًا وَشُهِرَ.
وَاخْتُلِفَ إذَا أَذْنَبَ التَّائِبُ هَلْ تَعُودُ إلَيْهِ ذُنُوبُهُ أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ لَا.
وَلِلتَّوْبَةِ شُرُوطٌ ثَلَاثَةٌ:
الْأَوَّل النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى مِنْهُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ لِرِعَايَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ تَرَكَ الْمَعْصِيَةَ مِنْ غَيْرِ نَدَمٍ لَا يَكُونُ تَائِبًا شَرْعًا وَكَذَلِكَ مَنْ نَدِمَ عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا أَضَرَّتْ بِهِ فِي بَدَنِهِ.
الثَّانِي: الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
الثَّالِثُ: الْإِقْلَاعُ فِي الْحَالِ فَيَرُدُّ الْمَظَالِمَ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَيَرْجِعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّضَرُّعِ وَالتَّصَدُّقِ لِيَرْضَى عَنْهُ خَصْمُهُ وَيَكُونُ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْمَرْجُوُّ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ صِدْقَ الْعَبْدِ أَرْضَى عَنْهُ خُصَمَاءَهُ مِنْ خَزَائِنِ فَضْلِهِ وَلَا حُكْمَ عَلَيْهِ.
وَأُخِذَ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ أَنَّ الذُّنُوبَ قِسْمَانِ: صَغَائِرُ وَكَبَائِرُ، وَجَعَلَ أَيْ صَيَّرَ مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَمَاتَ مُصِرًّا عَلَيْهَا صَائِرًا أَيْ ذَاهِبًا إلَى مَشِيئَتِهِ أَيْ إرَادَتِهِ تَعَالَى إنْ شَاءَ عَاقَبَهُ فَبِعَدْلِهِ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ فَبِفَضْلِهِ.
3 – الشرك لا يغفره الله تعالى
ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى مَا قَالَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾[النساء: 48].
ما يستفاد:
أن الساعة وأشراطها حق.
أن الإيمان ببعث الموتى من القبور حق.
أن أفعال العباد الاختيارية يثابون بها ويعاقبون عليها.
أن الله تعالى يغفر ما دون الشرك والكفر لمن يشاء من الصغائر والكبائر.
أن أهل الكبائر من المؤمنين لا يخلدون في النار.
_________________________
(1) قرر كلّ من الأشعري والباقلاني مثل ابن أبي زيد قبول توبة التائبين، وقالوا: إن قبولها غير واجب عقلا، وإنّما جاء به الخبر، وذلك من الله تعالى فضل. ويفهم من سياق ابن أبي زيد رحمه الله تعالى كون قبول التوبة تفضل منه عز وجل، قال في (الرسالة): ”وأن الله سبحانه ضاعف لعباده المؤمنين الحسنات، وصفح لهم بالتوبة عن كبائر السيئات، وغفر لهم الصغائر باجتناب الكبائر“ فظاهر استعماله لفظ الصفح الدلالة على التجاوز والعفو على سبيل التفضل، لا على اللزوم. وهذا التقرير للمسألة هو في مقابل قول المعتزلة بأن قبول التوبة واجب على الله تعالى، وقد دفع الأشعري والباقلاني قولهم وما بنيت عليه من التحسين والتقبيح العقليين، (ابن أبي زيد القيرواني وعقيدته، ص: 108).
وَمَنْ عَاقَبَهُ اللهُ بِنَارِهِ أَخْرَجَهُ مِنْهَا بِإِيمَانِهِ، فَأَدْخَلَهُ بِهِ جَنَّتَهُ ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾، وَيُخْرِجُ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ شَفَعَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ.
عاقبه: أخذه بذنبه واقتص منه والعقاب الجزاء بالشر.
مثقال: ما يوزن به وهو اسم آلة، ومثقال الشيء وزنه.
ذرة: طلب الخير للغير وطلب الإعانة والمعونة له.
أولا: مصير العصاة من المومنين
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ مَنْ عَاقَبَهُ اللَّهُ عز وجل مِنْ الْمُوَحِّدِينَ بِنَارِهِ فِي دَارِ الْعِقَابِ أَخْرَجَهُ مِنْهَا بِـسَبَبِ إيمَانِهِ، فَأَدْخَلَهُ بِسَبَبِهِ جَنَّتَهُ دَارَ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنْ قُلْت: لِمَ جُعِلَ الْإِيمَانُ سَبَبًا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:« لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ الْجَنَّةَ »([1]) قُلْت: أُجِيبُ بِأَنَّ إيمَانَهُ سَبَبٌ مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ وُجُودِهِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى مَا قَالَهُ بِقَوْلِهِ:﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾[الزلزلة: 7]، وَالْمِثْقَالُ ثِقْلُ الشَّيْءِ أَيْ زِنَتُهُ، وَإِطْلَاقُ الْمِثْقَالِ هُنَا مَجَازٌ إذْ الْمَعْنَى لَا يُوزَنُ بِمِثْقَالٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَالذَّرَّةُ النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ، وَالْخَيْرُ مَا يُحْمَدُ فَاعِلُهُ شَرْعًا وَالشَّرُّ عَكْسُهُ وَمَعْنَى يَرَهُ يَرَ جَزَاءَ عَمَلِهِ.
ثانيا: الإيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ إثْبَاتُ الشَّفَاعَةِ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَـيَخْرُجُ مِنْهَا أَيْ مِنْ دَارِ الْعِقَابِ بِالنَّارِ بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم من أَيْ يَخْرُجُ الَّذِي شَفَعَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ يَعْنِي الْعُصَاةَ مِنْ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ أُمَّتِهِ صلى الله عليه وسلم. أَجْمَعَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَقِّ عَلَى ثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلِسَائِرِ الرُّسُلِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا، وَأَجَلُّهَا وَأَعْظَمُهَا شَفَاعَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهَا أَعَمُّهَا وَأَتَمُّهَا،
مما يستفاد:
أن أهل الكبائر من المؤمنين لا يخلدون في النار.
إثبات الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، بإخراجهم من النار إلى الجنّة.
___________________________
([1]) أخرجه بلفظ قريب الشيخان في صحيحيهما، وابن تيمية في الرد على البكري: « لن يدخلَ أحدٌ منكمُ الجنَّة بعملِه قيل: ولا أنتَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ولا أنا إلَّا أن يتغمَّدنِيَ اللَّهُ برحمةٍ منْهُ وفضلٍ » الصفحة461: ، وحكم الحديث صحيح.
وَأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ خَلَقَ الْجَنَّةَ فَأَعَدَّهَا دَارَ خُلُودٍ لأَوْلِيَائِهِ، وَأَكْرَمَهُمْ فِيهَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَهِيَ الَّتِي أَهْبَطَ مِنْهَا آدَمَ نَبِيَّهُ وَخَلِيفَتَهُ إِلَى أَرْضِهِ، بِمَا سَبَقَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ.
شرح المفردات:
أعد: هيأ ويسر.
خلود: دوام واستقرار.
أهبط: أنزل.
أولا: الإيمان بوجود الجنة وإعدادها للمؤمنين
خلقه سبحانه للجنة
إعداد الجنة دار خلود للمؤمنين
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ خَلَقَ الْجَنَّةَ فَأَعَدَّهَا أَيْ هَيَّأَهَا وَيَسَّرَهَا دَارَ أَيْ مَنْزِلَ خُلُودٍ وَاسْتِقْرَارٍ مُؤَبَّدٍ لِأَوْلِيَائِهِ جَمْعُ وَلِيٍّ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا الْمُؤْمِنُونَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمْ مَنْ فِيهِ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِاتِّفَاقِ الشُّيُوخِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: بَعْدُ وَخَلَقَ النَّارَ فَأَعَدَّهَا دَارَ خُلُودٍ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ.
ثانيا: الإيمان بالنظر إلى وجه الله تعالى الكريم
1 – مذهب أهل السنة في حكم النظر إلى وجه الله تعالى الكريم
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تعالى أَكْرَمَهُمْ أَيْ أَوْلِيَاءَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا أَيْ فِي الْجَنَّةِ بِالنَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ الْمُرَادُ بِالْوَجْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الذَّاتُ وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى مَعْلُومَةٌ مِنْ الشَّرْعِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا مَعَ نَفْيِ الْجَارِحَةِ الْمُسْتَحِيلَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّظَرِ مَيْلُ الْحَدَقَةِ إلَى الْمَرْئِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا مُحَالٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ صِفَةٌ تَقُومُ بِالْمَوْصُوفِ تُوجِبُ لَهُ كَوْنُهُ رَائِيًا مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تعالى حَاصِلَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ حَتَّى النِّسَاءَ وَلِمُؤْمِنِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ.
2 – الجنة الموعود بها
وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَهِيَ أَيْ الْجَنَّةُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا الَّتِي أُهْبِطَ بِمَعْنَى أُنْزِلَ مِنْهَا آدَم([1]) أَبُو الْبَشَرِ، سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ آدَمَ اللَّوْنِ وَهِيَ حُمْرَةٌ تَمِيلُ إلَى سَوَادٍ، وَكُنْيَتُهُ فِي الْجَنَّةِ أَبُو مُحَمَّدٍ كَرَامَةً لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم كَانَ هُبُوطُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَخُلِقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهَا أُخْرِجَ وَأُنْزِلَ إلَى الْأَرْضِ بِأَرْضِ الْهِنْدِ وَعَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَدَفَنَهُ وَلَدُهُ شِيثُ فِي غَارِ أَبِي قُبَيْسٍ وَسَبَبُ هُبُوطِهِ أَنَّهُ نُهِيَ عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ وَهِيَ التِّينُ أَوْ الْحِنْطَةُ أَوْ الْكَرْمُ([2])، فَأَكَلَ مِنْهَا نَاسِيًا أَوْ مُتَأَوِّلًا أَنَّهَا غَيْرُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا. وَفِي قَوْلِهِ: وَهِيَ إلَى آخِرِهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا آدَمُ جَنَّةٌ فِي الدُّنْيَا بِأَرْضِ عَدَنَ.
وَفِي قَوْلِهِ: نَبِيَّهُ وَخَلِيفَتَهُ أَيْ الْحَاكِمَ بِأَمْرِهِ، رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ الَّذِي أُهْبِطَ غَيْرُ آدَمَ أَبِي الْبِشْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ سُمِّيَ بِاسْمِهِ كَانَ فِي حَدِيقَةٍ عَلَى رَبْوَةٍ فَأُهْبِطَ مِنْهَا. إلَى أَرْضِهِ بِمَا سَبَقَ يَعْنِي أَنَّ هُبُوطَهُ إلَى الْأَرْضِ بِسَبَبِ الَّذِي سَبَقَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَخْلُقُ آدَمَ وَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِ شَرْطًا إنْ وَفَّى بِهِ أَهَّلَهُ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يُوَفِّ أَخْرَجَهُ مِنْهَا فَقَضَى اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُوَفِّيَ بِهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
مما يستفاد:
بيان أن الجنة دار خلود للمؤمنين.
إثبات رؤية المؤمنين لله سبحانه وتعالى في الآخرة بالأبصار.
هبوط آدم من الجنة.
أن أول الأنبياء سيدنا آدم عليه السلام وأن الجنة مخلوقة موجودة الآن.
___________________________________
(1) أن الجنة المعدة لجزاء المؤمنين هي ذات الجنة التي أهبط منها آدم عليه السلام، قال في (الرسالة): ”وهي التي أهبط منها آدم نبيه وخليفته إلى أرضه بما سبق في سابق علمه“. وهذا خلاف ما قاله المعتزلة من أن الجنة التي أسكن الله تعالى فيها آدم وزوجته ليست هي جنة الخلد، وإنّما بستان في الأرض بعدن، (ابن أبي زيد القيرواني وعقيدته، ص: 110).
(2) لقد ورد في الحديث كراهة تسمية العنب كرما، وترجم له بـ: "النهي عن تسمية العنب كرما"، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم »:لا تُسَمُّوا العِنَبَ الكَرْمَ، فَإنَّ الكَرْمَ المُسْلِمُ .« متفق عليه، وهذا لفظ مسلم، ح. رقم: 1740. وفي رواية»: فَإنَّمَا الكَرْمُ قَلْبُ المُؤمِنِ« وفي رواية للبخاري ومسلم»: يَقُولُونَ الكَرْمُ، إنَّمَا الكَرْمُ قَلْبُ المُؤْمِنِ .«وعن وائلِ بنِ حُجرٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال»: لا تَقُولُوا: الكَرْمُ، وَلكِنْ قُولُوا: العِنَبُ، والحَبَلَةُ.« رواه مسلم، ح. رقم:1741.
(( وَأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا؛ لِعَرْضِ الأُمَمِ وَحِسَابِهَا وَعُقُوبَتِهَا وَثَوَابِهَا.))
شرح المفردات:
- القيامة: البعث من القبور؛ أي يوم يقوم الناس لرب العالمين.
- العرض: الظهور أمام الملأ.
أولا: الإيمان بأن الله يجيء يوم القيامة والملك صفا صفا
الإيمان بأن الله يجيء يوم القيامة:
الإيمان بأن الملائكة يجيئون يوم القيامة صفا صفا:
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ أَيْ تَزَايَدَ خَيْرُهُ وَتَعَالَى أَيْ تَعَاظَمَ عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ يَجِيءُ [1] يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا قَالَ تَعَالَى:﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾[الفجر: 22] وَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْآيَةِ وَعَبَّرَ بِالْمُسْتَقْبَلِ قَصَدَ بِذَلِكَ تَفْسِيرَهَا؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ بِالْمَاضِي عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ، إذَا تَحَقَّقَ وُقُوعُهُ، وَإِسْنَادُ الْمَجِيءِ إلَيْهِ تَعَالَى مَصْرُوفٌ عَنْ ظَاهِرِهِ إجْمَاعًا إذْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْجِهَاتُ وَالْأَمْكِنَةُ وَالتَّحَوُّلُ فَالسَّلَفُ الصَّالِحُ قَالُوا: هَذَا مِنْ السِّرِّ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يُفَسَّرُ، وَكَانَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا: اقْرؤُوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ، وَجُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوَّلَهَا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَعْنَى مَجِيئِهِ تَعَالَى ظُهُورُهُ؛ لِأَنَّ الظُّهُورَ فِي الْعَادَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَجِيءٍ وَانْتِقَالٍ، فَعَبَّرَ عَنْ الْمُسَبَّبِ بِاسْمِ السَّبَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: جَاءَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، وَأَوَّلُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ إلَى اسْتِقْرَارِ الْخَلْقِ فِي الدَّارَيْنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، مَجِيءَ اللَّهِ تَعَالَى مُغَايِرٌ لِمَجِيءِ الْمَلَكِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالْمَعْنَى تَنْزِلُ مَلَائِكَةُ كُلِّ سَمَاءٍ فَيَصْطَفُّونَ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ مُحْدِقِينَ بِالْإِنْسِ وَالْجِنِّ.
ثانيا: عرض الأمم على الله تعالى وحسابها يوم القيامة
عرض الأمم على الله سبحانه:
حساب الأمم على أعمالها:
لِعَرْضِ الْأُمَمِ وَالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِهِمْ. ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ سَائِرَ الْأُمَمِ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ تُعْرَضُ، وَقِيلَ: لَا يُحْشَرُ لِلْعَرْضِ إلَّا مَنْ يُحَاسَبُ وَيُعَاقَبُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَحِسَابَهَا وَعُقُوبَتَهَا وَثَوَابَهَا فَالْبَهَائِمُ لَا تُحْشَرُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُحَاسَبُ وَلَا تُعَاقَبُ[2]، وَالْحِسَابُ هُوَ أَنْ يُعَدِّدَ عَلَيْهِ كُلَّ مَا فَعَلَ مِنْ حَسَنَةٍ وَمِنْ سَيِّئَةٍ فَيُحَاسَبُ الْمُؤْمِنُ بِالْفَضْلِ وَالْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ بِالْحُجَّةِ وَالْعَدْلِ.
[الثواب والعقاب] وَالْعُقُوبَةُ قِسْمَانِ: يَسِيرَةٌ وَهِيَ مَا يُصِيبُ الْجِسْمَ، وَشَدِيدَةٌ وَهِيَ حَجْبُهُمْ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَتَسَلُّطُ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، وَالثَّوَابُ الْجَزَاءُ فَيُجَازَى عَنْ الْإِحْسَانِ فِي الْجَنَّةِ وَعَنْ الْإِسَاءَةِ فِي النَّارِ.
مما يستفاد:
- الإيمان بأن الله تعالى منزه عن الكيفية والحركة والسكون.
- الإيمان بأن الله عز وجل يجيء يوم القيامة والملائكة صفا صفا.
- الإيمان بأن الخلائق والأمم تعرض على الله سبحانه وتعالى وحسابها على أعمالها يوم القيامة.
________________________
[1] قال القاضي عبد الوهاب :”وليس المجيء الذي أضافه إلى نفسه على سبيل ما يكون منا من الانتقال والتحرك والزوال وتفريغ الأماكن وشغلها؛ لأن ذلك من صفات الأجسام والباري سبحانه وتعالى لا يجوز عليه ذلك“، (عقيدة القاضي عبد الوهاب في شرحه الرسالة، ص: 70).
[2] (قلت): القول إن الحيوانات لا تحاسب ولا تعاقب فيه نظر لذا صدره الشارح بلفظ ”قيل“ وهو يفيد التضعيف، إذ ورد في النصوص الشرعية أن الحيوانات تحشر وتحاسب وتعاقب، لقوله سبحانه وتعالى:﴿ وإذا الوحوش حشرت ﴾[التكوير: 5] وقوله عز وجل:﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾[الأنعام: 38]، وجاء من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ رواه مسلم ( البر والصلة والآداب/4679). وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي له شواهد وطرق كثيرة - قوله:« يقضي الله بين خلقه الجن والإنس والبهائم، وإنه ليقيد يومئذ الجماء من القرناء، حتى إذا لم يبق تبعة عند واحدة لأخرى قال الله : كونوا ترابًا، فعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابًا ». صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم: 1966.
(( وَتُوضَعُ الْمَوَازِينُ لَوَزْنِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَيُؤْتَوْنَ صَحَائِفَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَأُولَئِكَ يَصْلَوْنَ سَعِيرًا.))
شرح المفردات:
توضع: تنصب وتقام وتعاد.
الموازين: جمع ميزان: آلة يوزن بها الشيء لمعرفة مقداره.
يؤتى: يعطى ويسلم.
صحائف: جمع صحيفة، الورقة المكتوبة، القرطاس، الجريدة.
يصلون: يشوون يحترقون.
أولا: الإيمان بموازين يوم القيامة
1 – وجوب الإيمان بالموازين
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ شَرْعًا أَنَّهُ تُوضَعُ أَيْ تُنْصَبُ الْمَوَازِينُ لـِأَجْلِ وَزْنِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ أَيْ الصَّحَائِفِ الَّتِي فِيهَا أَعْمَالُ الْعِبَادِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ﴾[الأنبياء: 47] الْآيَةَ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ الْعُمُومُ فِي الْمُؤْمِنِينَ مُحْسِنِينَ كَانُوا أَوْ مُسِيئِينَ.
وَفِي الْكَافِرِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِ، وَحِكْمَةُ الْوَزْنِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ امْتِحَانُ اللَّهِ عِبَادَهُ بِالْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَامَةً لِأَهْلِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ فِي الْعُقْبَى، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْمِيزَانِ فَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآخِرَةِ مِيزَانٌ حِسِّيٌّ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْعَدْلُ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ أَنَّهُ مِيزَانٌ حِسِّيٌّ لَهُ كِفَّتَانِ وَلِسَانٌ، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ جِسْمٌ هَلْ هُوَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ أَوْ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِيزَانٌ أَوْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِيزَانٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاحِدٌ وَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَلِعَظَمَتِهِ، أَوْ أُرِيدَ بِالْجَمْعِ الْمُفْرَدُ وَالصَّنْجُ يَوْمئِذٍ مَثَاقِيلُ الذَّرِّ وَالْخَرْدَلِ تَحْقِيقًا لِتَمَامِ الْعَدْلِ.
2 – وزن الأعمال للفلاح أو الخسران
وَتُطْرَحُ صَحَائِفُ الْحَسَنَاتِ فِي كِفَّةِ النُّورِ فَتَثْقُلُ بِهَا الْمِيزَانُ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتُطْرَحُ صَحَائِفُ السَّيِّئَاتِ فِي كِفَّةِ الظُّلْمَةِ فَتَخِفُّ بِهَا الْمِيزَانُ بِعَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَنْ ثَقُلَتْ أَيْ رَجُحَتْ مَوَازِينُهُ أَيْ مَوْزُونَاتُهُ؛ وَهِيَ الصَّحَائِفُ الَّتِي فِيهَا الْأَعْمَالُ، فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ أَيْ النَّاجُونَ، وَانْظُرْ لِمَ تُرِكَ قَسِيمُ هَذَا وَهُوَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ t: ”إنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا الْحَقَّ، وَإِنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا الْبَاطِلَ“، وَصِفَةُ الثِّقْلِ الِارْتِفَاعُ. والقول الصحيح أنه على صفة ميزان الدنيا.
ثانيا: كيفية إيتاء العباد صحف أعمالهم وأثره
1 - إيتاء العباد صحف الأعمال
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْأُمَمَ يُؤْتَوْنَ أَيْ يُعْطَوْنَ صَحَائِفَهُمْ جَمْعُ صَحِيفَةٍ وَهِيَ الْكُتُبُ الَّتِي كَتَبَتْ الْمَلَائِكَةُ فِيهَا أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِأَعْمَالِهِمْ أَيْ مُصَاحِبَةً لِأَعْمَالِهِمْ فَإِذَا أُعْطُوهَا يَخْلُقُ اللَّهُ لَهُمْ عِلْمًا ضَرُورِيًّا يَفْهَمُونَ بِهِ مَا فِيهَا مِمَّا فَعَلُوهُ فِي الدُّنْيَا.
2 – كيفية إيتاء الصحف وأثره
فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ الْمُؤْمِنُ الطَّائِعُ إجْمَاعًا وَالْعَاصِي عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ يَأْخُذُهُ قَبْلَ دُخُولِهِ النَّارَ، وَيَكُون ذَلِكَ عَلَامَةً لِعَدَمِ خُلُودِهِ فِيهَا، وَمِنْ لُطْفِهِ بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ وَفَضْلِهِ عَلَيْهِ أَنْ جَعَلَ كِتَابَهُ بِيَدِهِ وَلَا يُعْطِيهِ لَهُ عَلَى يَدِ مَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ حَتَّى لَا يَطَّلِعَ عَلَى سِرِّهِ أَحَدٌ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا أَيْ سَهْلًا هَيِّنًا لَا يُنَاقَشُ فِيهِ وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بِمَا يَسُوءُهُ وَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَهُمْ الْكُفَّارُ إجْمَاعًا فَأُولَئِكَ يَصْلَوْنَ سَعِيرًا التِّلَاوَةُ ﴿ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا ﴾، الْإِصْلَاءُ الِاحْتِرَاقُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى:﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ ﴾[الحاقة: 25] أَنَّ الْكَافِرَ تُغَلُّ يُمْنَاهُ إلَى عُنُقِهِ وَيُثْقَبُ صَدْرُهُ، فَيُدْخِلُ شِمَالَهُ مِنْهُ فَيَأْخُذُ بِهَا كِتَابَهُ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ فَإِنَّهُ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ.
مما يستفاد:
1. بيان أن الميزان الذي توزن عليه أعمال العباد حق.
2. أن الإيمان بالصراط حق.
وَأَنَّ الصِّرَاطَ حَقٌّ، يَجُوزُهُ الْعِبَادُ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَنَاجُونَ مُتَفَاوِتُونَ فِي سُرْعَةِ النَّجَاةِ عَلَيْهِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وقَوْمٌ أَوْبَقَتْهُمْ فِيهَا أَعْمَالُهُمْ.
متفاوت: متفاضل متسابق.
أوبق: أهلك وأسقط.
أولا: وجوب الإيمان بالصراط وكيفية المرور عليه
1 – وجوب الإيمان بالصراط وأوصافه
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ الصِّرَاطَ أَيْ وُجُودُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَالْمُرُورُ عَلَيْهِ حَقٌّ وَفِي مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا:« يُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ » الْحَدِيثَ([1]).
مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ يَضْرِبُهُ عَلَى جَهَنَّمَ وَوَقْتُ الْمُرُورِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحِسَابِ، فَمَنْ تَعَدَّاهُ نَجَا جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْ النَّاجِينَ.
2 – كيفية المرور على الصراط
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: يَجُوزُهُ الْعِبَادُ بِقَدْرِ أَيْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَفْعَلُونَهَا فِي الدُّنْيَا شُمُولُ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ؛ لِأَنَّهُمْ لِلنَّارِ، وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ r:« إنَّهُ جِسْرٌ يُضْرَبُ عَلَى ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ تَمُرُّ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ ».
ثانيا: أحوال الناس في المرور على الصراط
1 – أحوال الصالحين
فَنَاجُونَ أَيْ فَائِزُونَ مُخَلَّصُونَ مُتَفَاوِتُونَ أَيْ مُتَفَاضِلُونَ فِي سُرْعَةِ النَّجَاةِ أَيْ الْعَجَلَةِ عَلَيْهِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ مُتَعَلِّقٌ بِنَاجُونَ التَّقْدِيرُ فَنَاجُونَ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ عَلَى الصِّرَاطِ مُتَفَاوِتُونَ فِي سُرْعَةِ النَّجَاةِ.
2 – أحوال غير الصالحين
وَقَوْمٌ أَوْبَقَتْهُمْ أَيْ أَهْلَكَتْهُمْ فِيهَا أَيْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ أَعْمَالُهُمْ وَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي سُقُوطِهِمْ فِي النَّارِ، وَيَدُلُّ لِمَا قَالَ مَا فِي مُسْلِمٍ:« فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَنَاجٍ مُسْلِمٌ وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ وَمَكْدُوشٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ »، الْمَكْدُوشُ الْمَدْفُوعُ.
ما يستفاد من الدرس:
أن الإيمان بالصراط حق.
_______________________________
([1]) الحديث صحيح وأخرجه البخاري من رواية أبي هريرة مرفوعا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث طويل.
وَالإِيمَانُ بِحَوْضِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرِدُهُ أُمَّتُهُ لاَ يَظْمَأُ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ، وَيُذَادُ عَنْهُ مَنْ بَدَّلَ وَغَيَّرَ.
شرح المفردات:
حوض: الحوض مجتمع الماء، ويجمع على أحواض وحياض.
ترده: تأتيه، والمورد مكان ورود الماء للسقي، والورد هو الشرب.
يظمأ: يعطش.
يذاد: يبعد ويطرد.
أولا: الإيمان بحوض النبي صلى الله عليه وسلم ومن يرده
1 – الإيمان بحوض النبي صلى الله عليه وسلم
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ الْإِيمَانُ أَيْ التَّصْدِيقُ بِـوُجُودِ حَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
2 – من يرد حوض النبي صلى الله عليه وسلم
تَرِدُهُ أَيْ تَأْتِيهِ أُمَّتُهُ أَيْ أَتْبَاعُهُ حِينَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ عِطَاشًا يَشْرَبُونَ مِنْهُ لَا يَظْمَأُ أَيْ لَا يَعْطَشُ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ أَبَدًا.
ثانيا: من يذاد عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم
وَيُذَادُ أي يُطْرَدُ وَيُبْعَدُ عَنْهُ مَنْ بَدَّلَ بِالِارْتِدَادِ، وَغَيَّرَ فِي الْعَقَائِدِ كَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ أَوْ بِالْمَعَاصِي، لَكِنَّ الْمُبَدِّلَ بِالِارْتِدَادِ يَخْلُدُ فِي النَّارِ، وَالْمُبَدِّلَ بِالْمَعَاصِي فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَمْضِيَ فِيهِ مُرَادُهُ، وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:« إنِّي عَلَى الْحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَسَيُؤْخَذُ أُنَاسٌ دُونِي فَأَقُولُ يَا رَبِّ مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي، فَيُقَالُ: أَمَا شَعَرْت مَا عَمِلُوا بَعْدَك؟ وَاَللَّهِ مَا بَرِحُوا بَعْدَك يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِك أَنَّ الْحَوْضَ عَلَى وَجْهِ هَذِهِ الْأَرْضِ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ وُجُودُهُ فِي الْأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ وَهِيَ أَرْضٌ بَيْضَاءُ كَالْفِضَّةِ لَمْ يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ وَلَمْ يُظْلَمْ عَلَى ظَهْرِهَا أَحَدٌ قَطُّ ».
(فَائِدَةٌ): فِي التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا:« إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا وَإِنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً، وَإني أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً »(حديث صحيح أخرجه الألباني في صحيح الترمذي من رواية سمرة بن جندب).
ما يستفاد من الدرس:
الإيمان بحوض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
.أن الحوض الذي يشرب منه المؤمنون حق
وَأَنَّ الإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَإِخْلاَصٌ بِالْقَلْبِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الأَعْمَالِ، وَيَنْقُصُ بنَقْصِهَا، فَيَكُونُ فِيهَا النَّقْصُ وَبِهَا الزِّيَادَةُ، وَلاَ يَكْمُلُ قَوْلُ الإِيمَانِ إِلاَّ بِالْعَمَلِ، وَلاَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ إِلاَّ بِنِيَّةٍ، وَلاَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ إِلاَّ بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ.
شرح المفردات:
الإيمان: التصديق.
إخلاص: صفاء وهو في الطاعة ترك الرياء فيها.
الجوارح: جمع جارحة أي أعضاء الإنسان.
النية: القصد والعزم.
أولا: حقيقة الإيمان
وَقَدْ اتَّفَقَ الشُّيُوخُ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الشَّيْخِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ ذَكَرَهُ تَوْطِئَةً لِبَيَانِ أَرْبَعَةِ فَوَائِدَ.
وأعمال الجوارح التي تقتضيها التكاليف الشرعية واضح عند ابن أبي زيد أنّها ليست من حقيقة الإيمان، لكنّها بالمحلّ الذي لا يستهان بها، فاعتبرها أمرا مكملا للإيمان، وذلك في قوله في (الرسالة): ”ولا يكمل قول الإيمان إلاّ بالعمل“ وما كان مكملا للإيمان حريّ به أن يكون له نصيب من التأكيد والوجوب، لذلك لم يغفل ابن أبي زيد القيرواني عن بيان مكونات الإيمان الكامل، فجمع بين الإيمان القلبي والنطق اللساني والعمل، في سياق حديثه عما يطلب من المكلّف القيام به شرعا، وذلك لبيان أن الأعمال لها منزلة عظمى في الدين الإسلامي، وإن لم تبلغ درجة التصديق القلبي، فجاء في مقدمة (الرسالة) ... قوله فيها : ”جملة من واجب أمور الديانة مما تنطق به الألسنة، وتعتقده القلوب، وتعمله الجوارح“، وقوله فيها: ”وما عليهم أن تعتقده من الدين قلوبهم وتعمل به جوارحهم“، وقوله فيها: ”يشرفون بعلمه ويسعدون باعتقاده والعمل به“، وقوله فيها: ”فكذلك ينبغي أن يعلّموا ما فرض الله على العباد من قول وعمل قبل بلوغهم، ليأتي عليهم البلوغ وقد تمكّن ذلك من قلوبهم، وسكنت إليه أنفسهم، وأنست به من ذلك جوارحهم“، وقوله فيها: ”وقد فرض الله سبحانه على القلب عملا من الاعتقادات، وعلى الجوارح الظاهرة عملا من الطاعات“، كما جاء في نص عقيدة (الرسالة) ... قوله: ”وأن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح“. والملاحظ في هذه الجمل من (الرسالة) أن ابن أبي زيد ليس بصدد بيان ماهية الإيمان وحقيقته، من خلالها، لأنّه في ثلاثة مواضع لم يذكر الإقرار باللسان، وإنّما غرضه بيان الإيمان بالمعنى الكامل، فتنبه. ... ويجعل ابن أبي زيد بين أيدينا مؤكدات من كلامه في عقيدته، على أنه لا يرى العمل جزءا من الإيمان، بل أمرا مكملا له، وتتمثل هذه المؤكدات فيما يلي:
- في قوله في (الرسالة): ”وجعل ـ أي الله تعالى ـ من لم يتب من الكبائر صائرا إلى مشيئته ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾، ومن عاقبه بناره أخرجه منها بإيمانه، فأدخله به جنته ﴿ ومن يعمل مثقال ذر ة خيرا يره﴾، ويخرج منها بشفاعة النبي r من شفع له من أهل الكبائر من أمته“. ...
- وفي قوله في (الرسالة): ”وخلق النار فأعدها دار خلود لمن كفر به وألحد في آياته وكتبه ورسله“.
- وفي قوله فيها: ”وأنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة“.
ثانيا: زيادة الإيمان ونقصانه
أَشَارَ إلَى أَوَّلِهَا بِقَوْلِهِ يَزِيدُ أَيْ الْإِيمَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ بِـسَبَبِ زِيَادَةِ الْأَعْمَالِ وَيَنْقُصُ بِـسَبَبِ نَقْصِ الْأَعْمَالِ فَيَكُونُ فِيهَا أَيْ الْأَعْمَالِ النَّقْصُ وَبِهَا الزِّيَادَةُ[1] مَا ذَكَرَهُ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ بِاعْتِبَارِ الثَّمَرَاتِ هُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا وَهُوَ آخِرُ قَوْلِ مَالِكٍ، وَكَانَ أَوَّلًا يَقُولُ: يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْإِيمَانِ عَلَى الْأَعْمَالِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ. قَالَ تَعَالَى:﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾[البقرة: 143] أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صَلَاتُكُمْ.
ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْفَائِدَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ وَلَا يَكْمُلُ قِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَصِحُّ قَوْلُ الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّلَفُّظُ بِالشَّهَادَتَيْنِ إلَّا بِالْعَمَلِ أَيْ بِعَمَلِ الْجَوَارِحِ، وَمَا ذَكَرَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَمَلَ دَاخِلٌ فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَقِيلَ: الْكَمَالُ فِي كَلَامِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَمَلَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلَ الْبَابِ، وَعَلَيْهِ إذَا عَمِلَ كَانَ إيمَانُهُ كَامِلًا مُنَجِّيًا لَهُ مِنْ النَّارِ، وَإِذَا لَمْ يَعْمَلْ صَحَّ إيمَانُهُ وَكَانَ غَيْرَ كَامِلٍ.
ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْفَائِدَةِ الثَّالِثَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَا يَكْمُلُ بِمَعْنَى لَا يَصِحُّ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ صَحِيحٌ مِمَّا هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى نِيَّةٍ إلَّا بِنِيَّةٍ أَيْ قَصْدٍ وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا مِمَّا هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ كَزَوَالِ النَّجَاسَةِ وَرَدِّ الْوَدَائِعِ وَالْغُصُوبِ وَالْأَذَانِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.
ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْفَائِدَةِ الرَّابِعَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَا أَيْ وَلَا يَكْمُلُ بِمَعْنَى لَا يَصِحُّ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا نِيَّةٌ إلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَمُوَافَقَتِهَا اتِّبَاعَهُ r فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَاتِّبَاعَ السَّلَفِ الصَّالِحِ قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾[الحشر: 7] وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:« عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي »[2] الْحَدِيثَ. فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَا مَعْرُوضَيْنِ عَلَى السُّنَّةِ، فَمَا وَافَقَهَا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَمَا خَالَفَهَا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ وَكَانَ مَعْصِيَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا.
ما يستفاد من الدرس:
تعريف الإيمان لغة: هو التصديق. واصطلاحا: هو قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح؛ أي إن الإيمان إعلان عن التوحيد بالنطق بالشهادتين، وإذعان القلب وإخلاصه وصدقه في اعتقاد ما ينطق به اللسان وعمل بمقتضى الاعتقاد.
الفائدة الأولى: إن الإيمان يزيد وينقص والمختار عند ابن أبي زيد القيرواني أن مرجع الزيادة والنقص إلى ثمرات الإيمان فالنقص في العمل وبه الزيادة.
الفائدة الثانية: إن عمل البر هو شرط كمال في الإيمان. وإن أصل الإيمان ثابت بدون عمل ولكنه إيمان ناقص.
الفائدة الثالثة: إنما الأعمال بالنيات فلا يصح ولا يكمل قول ولا عمل إلا بالإخلاص لله تعالى وإفراده بالعبودية.
الفائدة الرابعة: لا يكمل ولا يصح قول؛ أي نطق بالشهادتين، ولا عمل أي طاعة وعبادة، ولا نية أي قصد وإخلاص إلا بموافقة السنة النبوية باتباعه صلى الله عليه وسلم الصالح.
________________________
[1] ونفهم قول ابن أبي زيد في (الرسالة): ”يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصها، فيكون فيها النقص وبها الزيادة“، أي أن النقص يرد على الأعمال لا على أصل الإيمان.
[2] الحديث صحيح من رواية العرباض بن سارية أخرجه ابن تيمية في مجموع الفتاوى والألباني في صفة الفتوى وابن باز في مجموع الفتاوى.
وَأَنَّهُ لاَ يَكْفُرُ أَحَدٌ بِذَنْبٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَأَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وَأَرْوَاحُ أَهْلِ السَّعَادَةِ بَاقِيَةٌ نَاعِمَةٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، وَأَرْوَاحُ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ مُعَذَّبَةٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ وَيُسْأَلُونَ، ﴿ يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ ﴾.
شرح المفردات:
ناعمة: رافهة العيش.
يبعثون: يرسلون ويقامون.
يفتتنون: يبتلون ويختبرون.
أولا: منع تكفير أحمد من أهل القبلة
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ أَحَدٌ بِذَنْبٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَيْ الْإِسْلَامِ. مَا قَالَهُ هُوَ مَذْهَبُ جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ سَلَفًا وَخَلَفًا([1]) خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ([2])، حَيْثُ قَالُوا: كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرَةٌ وَكُلُّ كَبِيرَةٍ مُحْبِطَةٌ لِلْعَمَلِ وَمُرْتَكِبُهَا كَافِرٌ، وَخِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ قَالُوا: كُلُّ كَبِيرَةٍ مُحْبِطَةٌ لِلْعَمَلِ وَمُرْتَكِبُهَا لَهُ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا وَلَا كَافِرًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ فَاسِقٌ وَهَذَا بِنَاءٌ مِنْهُمْ عَلَى تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ([3]).
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَيْ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ جَمْعُ شَهِيدٍ، وَهُوَ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي جِهَادِ الْكُفَّارِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَيْ فِي جَنَّةِ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ مِثْلُ مَا يُرْزَقُ الْأَحْيَاءُ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى:﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾[آل عمران: 169] سُمُّوا شُهَدَاءَ؛ لِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ أُحْضِرَتْ دَارَ السَّلَامِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ. فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ لَا تَصِلُ إلَى الْجَنَّةِ، فَالشَّهِيدُ بِمَعْنَى الشَّاهِدِ أَيْ الْحَاضِرِ لِلْجَنَّةِ، وَخُصُّوا بِأَشْيَاءَ مِنْهَا أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ فِي أَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ، وَأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ أَجْسَادَهُمْ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمُؤَذِّنِينَ، وَأَنَّهُمْ لَا يُسْأَلُونَ فِي قُبُورِهِمْ.
ثانيا: مصير أرواح السعداء ومصير أرواح الأشقياء
1 – مصير أرواح السعداء:
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ عَلَى مَا قَالَ قَوْلُهُ: وَأَرْوَاحُ أَهْلِ السَّعَادَةِ أَيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ مُحْسِنُهُمْ وَمُسِيئُهُمْ بَاقِيَةٌ أَيْ غَيْرُ فَانِيَةٍ إذْ الْمَوْتُ لَيْسَ بِفِنَاءٍ مَحْضٍ وَإِنَّمَا هُوَ انْتِقَالٌ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ، نَاعِمَةٌ أَيْ مُنَعَّمَةٌ بِرُؤْيَتِهَا لِمَقْعَدِهَا فِي الْجَنَّةِ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أَيْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
2 – مصير أرواح الأشقياء:
وَأَرْوَاحُ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ وَهُمْ الْكُفَّارُ مُعَذَّبَةٌ بِرُؤْيَتِهَا لِمَقْعَدِهَا فِي النَّارِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ أَيْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْأَرْوَاحُ جَمْعُ رُوحٍ وَهِيَ مُرَادِفَةٌ لِلنَّفْسِ عَلَى الصَّحِيحِ وَهِيَ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وتضمن كلام المصنف أمرين:
الأول: أن من الأرواح ما هو منعم بعد الموت ومنها ما هو معذب، ونعيمها وعذابها برؤية مقعدها في الجنة أو في النار.
الأمر الثاني: أن الأرواح باقية بعد الموت، ودليله الأحاديث الدالة على بقاء الأرواح وتصرفها ونعيمها وعذابها وسماعها وكلامها، وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أنها حية باقية مدركة بحيث تدرك لذاتها وآلامها.
ثالثا: فتنة القبر وأدلتها
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ أَيْ يُخْتَبَرُونَ فِي قُبُورِهِمْ الْمُرَادُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ سُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ مُنْكَرٌ بِفَتْحِ الْكَافِ وَنَكِيرٌ فَقَوْل الشَّيْخِ: وَيُسْأَلُونَ تَفْسِيرٌ لِيُفْتَنُونَ، وَدَلِيلُ مَا قَالَ قَوْله تَعَالَى:﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾[إبراهيم: 27] وَهُوَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَفِي الْآخِرَةِ السُّؤَالُ فِي الْقَبْرِ.
ما يستفاد من هذا الدرس:
1. أن المعصية الكبيرة لا تخرج العبد المؤمن من الإيمان.
2. بيان أن عذاب القبر للكافرين ولبعض عصاة المؤمنين وتنعيم أهل الطاعة والقبر وسؤال منكر ونكير ثابت بالدليل السمعي.
3. على المسلم ألا يكفر أحدا من أهل القبلة، وأن يعمل في دنياه ما ينجيه من فتنة القبر.
_______________________
(1) من القواعد الواردة في مقدمة كتاب "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز: عدم جواز تكفير المسلم بذنب فعله إذا كان دون الشرك الأكبر، وكان هذا الذنب مما اختلف فيه، ولا بخطاء أخطأ فيه.
(2) الخوارج هم جماعة خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وقد كانوا معه في حرب صفين ثم خرجوا عليه.
(3) قرر المعتزلة أن التحسين والتقبيح عقليان؛ لأن الإنسان كائن عاقل، وبعقله يستطيع معرفة الحسن والقبح (الخير والشر) من الأفعال، ولو لم يرد بهما الشرع. لأَنَّ الفعل الأخلاقي له قيمة ذاتية ثابتة وهذه القيمة جعلت الفعل الأخلاقي حسنا أو قبيحا بالنظر العقلي عند المعتزلة.
وَأَنَّ عَلَى الْعِبَادِ حَفَظَةً يَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُمْ، وَلاَ يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ عِلْمِ رَبِّهِمْ، وَأَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ يَقْبِضُ الأَرْوَاحَ بِإِذْنِ رَبِّهِ.
شرح المفردات
حفظة: جمع حافظ من حفظ الشيء صانه من التلف والضياع.
يقبض: يمسك ويأخذ.
الأرواح: مفرده روح وهو ما به حياة الأنفس.
أولا: الإيمان بالملائكة الحفظة ومهمتهم
1- الإيمان بالملائكة الحفظة
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ عَلَى الْعِبَادِ إنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا أَحْرَارًا وَأَرِقَّاءَ مِنْ وَقْتِ التَّكْلِيفِ حَفَظَةً جَمْعُ حَافِظٍ كَكِتَابٍ.
(تَنْبِيهٌ) قَوْلُهُ: "حَفَظَةً" جَمَعَهُمْ بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْعِبَادِ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيحَيْنِ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ» الْحَدِيثَ. وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ فَمَنْ جَحَدَهُ أَوْ كَذَّبَ بِهِ أَوْ شَكَّ فِيهِ فَهُوَ كَافِرٌ.
2- مهمة الملائكة الحفظة
وَكَتَبَةٍ يَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُمْ وَأَقْوَالَهُمْ حَتَّى الْمُبَاحَ وَالْأَنِينَ فِي الْمَرَضِ وَعَمَلِ الْقَلْبِ يَجْعَلُ اللَّهَ لَهُمْ عَلَامَةً عَلَى عَمَلِ الْقَلْبِ يُمَيِّزُونَ بِذَلِكَ بَيْنَ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ، وَالْأَصْلُ فِيمَا ذُكِرَ قَوْله تَعَالَى:﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ﴾[الانفطار: 10] ﴿كِرَامًا كَاتِبِينَ﴾[الانفطار: 11] ﴿يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾[الانفطار: 12] وَسُمُّوا حَفَظَةً لِحِفْظِهِمْ مَا يَصْدُرُ مِنْ الْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَعِلْمِهِمْ بِهِ وَلِحِفْظِهِمْ الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْجِنِّ وَمَحَلُّهُمْ مِنْ الْإِنْسَانِ شَفَتُهُ، وَقَلَمُهُمْ لِسَانُهُ وَمِدَادُهُمْ رِيقُهُ، لَا يُفَارِقُونَ الْعَبْدَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ إلَّا عِنْدَ الْخَلَاءِ وَعِنْدَ الْجِمَاعِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ قَعَدَ مَلَكَاهُ عَلَى قَبْرِهِ يَسْتَغْفِرَانِ لَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَيْ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ عَنْ عِلْمِ رَبِّهِمْ صَرَّحَ بِذَلِكَ دَفْعًا لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ فَائِدَةَ كَتْبِ الْحَفَظَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا فَائِدَةُ تَوْكِيلِهِمْ لُطْفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّ مَلَائِكَةً تَحْفَظُ عَلَيْهِمْ أَفْعَالَهُمْ وَيَكْتُبُونَهَا انْزَجَرُوا عَنْ الْمَعَاصِي، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ إذَا جَحَدُوا.
ثانيا: الإيمان بأن ملك الموت قابض الأرواح
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ اسْمُهُ عِزْرَائِيلُ وَقِيلَ عَبْدُ الْجَبَّارِ يَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ كُلَّهَا أَرْوَاحَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ بِإِذْنِ رَبِّهِ قَالَ تَعَالَى:﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾[السجدة: 11] وَفِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ مَلَكِ الْمَوْتِ: «وَاَللَّهِ لَوْ أَرَدْت قَبْضَ رُوحِ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرْت عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْذَنُ بِقَبْضِهَا»، فَإِنْ قِيلَ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ إسْنَادُ التَّوَفِّي إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى الْمَلَائِكَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾[الزمر: 42] وَقَالَ تَعَالَى:﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾[الأنعام: 61] فَالْجَوَابُ أَنَّ إضَافَةَ التَّوَفِّي إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ الْفَاعِلُ حَقِيقَةً وَإِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِلْقَبْضِ وَإِلَى الْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْوَانُهُ يَأْخُذُونَ فِي جَذْبِهَا مِنْ الْبَدَنِ فَهُوَ قَابِضٌ وَهُمْ مُعَالِجُونَ.
من فوائد الدرس:
الإيمان بوجود ملائكة حفظة يكتبون أعمال العباد.
وَسُمُّوا حَفَظَةً لِحِفْظِهِمْ مَا يَصْدُرُ مِنْ الْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَعِلْمِهِمْ بِهِ وَلِحِفْظِهِمْ الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْجِنِّ.
الإيمان بأن ملك الموت مكلف بقبض الأرواح.
إذا تحقق العبد أن كل نفس ذائقة الموت وأن الملائكة الحفظة يكتبون عمله فعليه أن يستحضر مراقبة الله تعالى له في سلوكه، لينجو من الحساب والعقاب.
وَأَنَّ خَيْرَ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِينَ رَأَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنُوا بِهِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. وَأَفْضَلُ الصَّحَابَةِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ: أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
شرح المفردات:
يلونهم: يتبعونهم من غير فصل.
المهديون: المستقيمون.
أولا: أفضلية القرون الهجرية الثلاثة الأولى
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ خَيْرَ أَيْ أَفْضَلَ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِينَ رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَآمَنُوا بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾[آل عمران: 110] قِيلَ خَاطَبَهُمْ خِطَابَ مُشَافَهَةٍ أَيْ أَنْتُمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ جَمِيعُ أُمَّتِهِ أَيْ كُنْتُمْ فِي الْأَزَلِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيحَيْنِ: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»، قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: ”فَلَا أَدْرِي أَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا“. وَتَقْيِيدُ الْمُصَنِّفِ الْخَيْرِيَّةَ بِالْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْكُفَّارِ كَانُوا فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ، وَرَأَوْهُ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ تَنْفَعْهُمْ رُؤْيَتُهُمْ لَهُ صلى الله عليه وسلم لِعَدَمِ إيمَانِهِمْ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَاخْتُلِفَ فِي الْقَرْنِ مَا هُوَ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْجِيلُ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ فَالْقَرْنُ الْأَوَّلُ الصَّحَابَةُ حَتَّى يَنْقَرِضُوا. وَالثَّانِي التَّابِعُونَ حَتَّى يَنْقَرِضُوا، وَالثَّالِثُ تَابِعُو التَّابِعِينَ حَتَّى يَنْقَرِضُوا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ السُّنُونَ، وَاخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مِائَةٌ وَاخْتُلِفَ هَلْ مَا بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمَمْدُوحَةِ سَوَاءٌ أَوْ مُتَفَاضِلُونَ، قَوْلَانِ، فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ تَفْضِيلِ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ يُعَارِضُهُ مَا رُوِيَ بِإِسْنَادٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ هَلْ أَحَدٌ خَيْرٌ مِنَّا؟ قَالَ:«نَعَمْ قَوْمٌ يَجِيئُونَ بَعْدَكُمْ فَيَجِدُونَ كِتَابًا بَيْنَ لَوْحَيْنِ فَيُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهِ وَيُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي وَيُصَدِّقُونَ بِمَا جِئْت وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ فَهُمْ خَيْرٌ مِنْكُمْ»([1]) قُلْت: أُجِيبُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَفْضِيلِهِمْ فِي جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ تَفْضِيلُهُمْ مُطْلَقًا.
(تَنْبِيهٌ): الْخَيْرِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ إمَّا بِاعْتِبَارِ الْبَاطِنِ وَكَثْرَةِ الثَّوَابِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، وَذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِخَبَرٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّفَاوُتِ فِي خِصَالِ الْفَضَائِلِ، فَمَنْ كَثُرَتْ فِيهِ فَهُوَ أَفْضَلُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ فَكَمْ مِنْ قَلِيلِ الْعَمَلِ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرِهِ.
ثانيا: مراتب الصحابة – رضي الله عنهم – في الفضل
1 – أفضلية الصحابة رضي الله عنهم
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا أَنَّ أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ صَحَابَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةُ الْأَصْحَابُ جَمْعُ صَاحِبٍ وَهُوَ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُسْلِمًا ثُمَّ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ مَنْ لَابَسَ الْفِتَنَ، وَغَيْرُهُمْ بِإِجْمَاعٍ مَنْ يَعْتَدُّ بِهِ، وَأَوَّلُهُمْ إسْلَامًا عَلَى الصَّحِيحِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه، وَأَفْضَل الصَّحَابَةِ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ الَّذِينَ بَايَعُوهُ رضي الله عنه وَأَفْضَلُهُمْ أَهْلُ بَدْرٍ، وَأَفْضَلُهُمْ الْعَشَرَةُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَسَعِيدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ عَامِرُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَفْضَلُهُمْ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ جَمْعُ خَلِيفَةٍ، سُمُّوا خُلَفَاءَ؛ لِأَنَّهُمْ خَلَفُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَحْكَامِ. الرَّاشِدُونَ جَمْعُ رَاشِدٍ الْمَهْدِيُّونَ جَمْعُ هَادٍ، وَاللَّفْظَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّك تَقُولُ: أَرْشَدَك أَيْ هَدَاك، وَتَقُولُ: هَدَاك اللَّهُ أَيْ أَرْشَدَك.
2 – أفضلية الخلفاء الراشدين
وَالْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْفَضِيلَةِ فَأَفْضَلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه وَلِيَ الْخِلَافَةَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَكَانَتْ مُدَّتُهُ سَنَتَيْنِ، وَقِيلَ: وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَمَاتَ وَسِنُّهُ كَسِنِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَلِيهِ فِي الْفَضِيلَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَلِيَ الْخِلَافَةَ بِاسْتِخْلَافِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، وَأَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى خِلَافَتِهِ وَكَانَتْ مُدَّتُهُا عَشْرَةَ أَعْوَامٍ وَكَسْرًا، تُوُفِّيَ وَسِنُّهُ كَسِنِّ أَبِي بَكْرٍ. ثُمَّ يَلِيه فِي الْفَضِيلَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه وَلِيَ الْخِلَافَةَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ ثَلَاثَ عَشَرَةَ سَنَةً ثُمَّ قُتِلَ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا ثُمَّ يَلِيهِ فِي الْفَضِيلَةِ عَلِيٌّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَلِيَ الْخِلَافَةَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ أَرْبَعَةَ أَعْوَامٍ وَقِيلَ: خَمْسُ سِنِينَ تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ قَتَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ وَدُفِنَ فِي مِحْرَابِ مَسْجِدِهَا. رضي الله عنه وَعَنَّا بِهِمْ أَجْمَعِينَ وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى مُدَّةِ خِلَافَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَضُوضًا»([2]) وَلِهَذَا قَالَ مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه لَمَّا وَلِيَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثِينَ سَنَةً: أَنَا أَوَّلُ الْمُلُوكِ.
ما يستفاد من الدرس:
1. أننا نشهد بالخيرية للعشرة المبشرين الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.
2. بيان أن أفضل البشر بعد نبينا: أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق ثم عثمان ذو النورين ثم عليّ المرتضى رضي الله عنه وأن خلافتهم ثابتة على هذا الترتيب.
3. بيان أن الخلافة ثلاثون سنة ثم بعد ذلك ملك.
4. وجوب الاقتداء بالصحابة والخلفاء الأربعة ومحبتهم والدفاع عنهم.
____________________________
([1]) الحديث رجاله ثقات أخرجه ابن عبد البر في الاستذكار من رواية حبيب بن سباع أبو جمعة.
([2]) الحديث أخرجه شعيب الأرناؤوط في صحيح ابن حبان من رواية سفينة بإسناد صحيح دون لفظ :(عضوضا).
وَأَلاَّ يُذْكَرَ أَحَدٌ مِنْ صَحَابَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ بِأَحْسَنِ ذِكْرٍ. وَالإِمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ أَنْ يُلْتَمَسَ لَهُمْ أَحَسَنُ الْمَخَارِجِ، وَيُظَنَّ بِهِمْ أَحْسَنُ الْمَذَاهِبِ.
شرح المفردات:
شجر: وقع.
يلتمس: يطلب.
يظن: يعتقد.
أولا: التأدب مع الصحابة رضي الله عنهم
1- ذكرهم بأحسن الذكر رضي الله عنهم
الأدب في ذكر الصحابة وَأَنْ لَا يُذْكَرَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِأَحْسَنَ ذِكْرٍ وهو مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا»([1]).
2- وجوب محبتهم رضي الله عنهم
وهي واجبة لوجوه ثلاثة:
الأول: حسن أخلاقهم وجميل أفعالهم.
الثاني: حسن صحبتهم لنبي الرحمة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثالث: محبة الله لهم، ونزول القرآن برضاه عنهم.
ثانيا: وجوب الإمساك عما شجر بينهم
وَالْإِمْسَاكُ أَيْ الْكَفُّ وَالسُّكُوتُ عَمَّا شَجَرَ أَيْ وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنْ النِّزَاعِ وَالْقِتَالِ.
ثالثا: التماس العذر والمخرج لهم وحسن الظن بهم
1- التماس العذر لهم
وَأَنَّهُمْ أَحَقُّ أَيْ أَوْجَبُ النَّاسِ أَنْ يُلْتَمَسَ أَيْ يُطْلَبَ لَهُمْ أَحْسَنُ الْمَخَارِجِ أَيْ التَّأْوِيلَاتِ.
2- حسن الظن بهم
حسن الظن بالصحابة وخلافهم وَأَحَقُّ أَنْ يُظَنَّ بِمَعْنَى يُتَيَقَّنُ بِهِمْ أَحْسَنُ الْمَذَاهِبِ أَيْ الْآرَاءِ الْمُتَّبَعَةِ فِي الدِّينِ. حَاصِلُ مَا قَالَ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَأَوَّلَ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ نَقْلًا صَحِيحًا مِمَّا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ قِتَالٍ وَخِلَافٍ أَحْسَنَ التَّأْوِيلِ، فَيُؤَوِّلُ مَا وَقَعَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ رضي الله عنهما أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه طَلَبَ انْعِقَادَ الْبَيْعَةِ أَوَّلًا إذْ لَا تُقَامُ الْحُدُودُ وَلَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُ النَّاسِ إلَّا بِالْإِمَامِ، وَطَلَبَ مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه الْقِصَاصَ مِنْ الَّذِينَ قَتَلُوا عُثْمَانَ رضي الله عنه فَوَقَعَ مَا وَقَعَ وَلَكِنْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَقِّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه اجْتَهَدَ وَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ.
(تَنْبِيهٌ): لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَالْإِمْسَاكُ إلَى آخِرِهِ وَقَوْلِهِ: وَأَنْ يُلْتَمَسَ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ، وَالثَّانِي فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ إذْ فَرْضُهُمْ الْبَيَانُ وَإِزَالَةُ الْإِشْكَالِ.
من فوائد الدرس:
معرفة مكانة الصحابة وحقهم في التقدير والمحبة، فحبهم من حب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتنزيه القلب من ظن السوء بهم، وأما ما حدث بينهم فتلك دماء نزه الله أيدينا عنها فلننزه ألسنتنا عنها.
___________________________
([1]) الحديث صحيح أخرجه الألباني في صحيح الجامع من رواية عبد الله بن مسعود وثوبان وعمر بن الخطاب.
وَالطَّاعَةُ لأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وُلاَةِ أُمُورِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ، وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَاقْتِفَاءُ آثَارِهِمْ، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ، وَتَرْكُ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ فِي الدِّينِ، وَتَرْكُ كُلِّ مَا أَحْدَثَهُ الْمُحْدِثُونَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ نبيه وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
شرح المفردات
أئمة المسلمين: جمع إمام، وأئمة المسلمين هم القائمين بأمورهم.
ولاة: جمع وال وهم من يتولى شؤون غيره.
اقتفاء: اتباع.
المراء: الجدال والخصام.
أحدث: اختراع.
أولا: حكم طاعة ولاة أمور المسلمين
وَالطَّاعَةُ أَيْ الِانْقِيَادُ وَاجِبٌ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِالِاعْتِقَادِ وَالْفِعْلِ بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَالنَّهْيِ عَنْ الزَّوَاجِرِ، وَفَسَّرَ الْأَئِمَّةَ بِقَوْلِهِ: مِنْ وُلَاةِ أُمُورِهِمْ أَيْ أَحْكَامِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ فَجَمَعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فِي تَأْوِيلِ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾[النساء: 59] قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهِمْ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ بِعِلْمِهِمْ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهِمْ أُمَرَاءُ الْحَقِّ الْعَامِلُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ السُّنَّةِ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَالْجَائِرُونَ لَا يُطَاعُونَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ»([1]) رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ، وَمِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: ”مَنْ رَأَى مِنْكُمْ فِي اعْوِجَاجًا - يَعْنِي عَنْ الْحَقِّ - فَلْيُذَكِّرْنِي، فَقَامَ إلَيْهِ بِلَالٌ أَوْ سَلْمَانُ فَقَالَ: لَوْ رَأَيْنَا فِيك اعْوِجَاجًا لَقَوَّمْنَاك بِسُيُوفِنَا. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ إذَا رَأَى فِيّ اعْوِجَاجًا قَوَّمَنِي بِسَيْفِهِ“.
ثانيا: اتباع السلف الصالح والاستغفار لهم
1 - اتباع السلف الصالح
وَكَذَلِكَ اتِّبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَهُمْ الصَّحَابَةُ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَفِيمَا تَأَوَّلُوهُ وَاسْتَنْبَطُوهُ عَنْ اجْتِهَادِهِمْ، وَاقْتِفَاءُ آثَارِهِمْ أَيْ اتِّبَاعُهُمْ وَاجِبٌ فَإِنْ أَطَاعَ بِظَاهِرِهِ دُونَ بَاطِنِهِ فَإِنَّهُ عَاصٍ وَلَيْسَ بِمُطِيعٍ.
2 - الاستغفار للسلف الصالح
وَكَذَلِكَ الِاسْتِغْفَارُ أَيْ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ﴾[الحشر: 10]؛ وَلِأَنَّهُمْ وَضَّحُوا لَنَا السَّبِيلَ فَجَزَاهُمْ اللَّهُ عَنَّا أَحْسَنَ جَزَاءٍ.
ثالثا: ترك المرء والجدال والبدع
1 - ترك المراء والجدال في الدين
وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ فِي الدِّينِ وَاجِبٌ، وَالْمُرَادُ جَحْدُ الْحَقِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ وَدَفْعُهُ بِالْبَاطِلِ، وَالْجِدَالُ مُنَاظَرَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْبَسْطِ مَعَهُمْ وَالطَّعْنِ فِي الصَّحَابَةُ وَإِيقَاعِ الشُّبْهَةِ فِي الْقَلْبِ.
قَالَ مَالِكٌ رضي الله عنه: ”إنَّ هَذَا الْجِدَالَ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ فِي شَيْءٍ“، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْجِدَالِ إظْهَارَ الْحَقِّ دُونَ التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ وَالْإِظْهَارُ عَلَى الْخَصْمِ وَنِسْبَةُ شَرَفِ الْعِلْمِ لِنَفْسِهِ فَذَاكَ جَائِزٌ، وَقِيلَ: مَنْدُوبٌ، وَلِلْمُذَاكَرَةِ الْجَائِزَةِ آدَابٌ مِنْهَا تَجَنُّبُ الِاضْطِرَابِ مَا عَدَا اللِّسَانِ مِنْ الْجَوَارِحِ، وَالِاعْتِدَالُ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ وَخَفْضِهِ وَحُسْنُ الْإِصْغَاءِ إلَى كَلَامِ صَاحِبِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ الْكَلَامَ مُنَاوَبَةً لَا مُنَاهَبَةً، وَالثَّبَاتُ عَلَى الدَّعْوَى إنْ كَانَ مُجِيبًا، وَالْإِصْرَارُ عَلَى السُّؤَالِ إنْ كَانَ سَائِلًا وَالِاحْتِرَازُ عَنْ التَّعَنُّتِ وَالتَّعَصُّبِ وَالضَّحِكِ وَاللَّجَاجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
2 - ترك ما أحدثه أهل البدع
وَكَذَلِكَ تَرْكُ كُلِّ مَا أَحْدَثَهُ الْمُحْدِثُونَ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»([2]) وَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ هُنَا لَا يُعَارِضُهُ مَا يَأْتِي فِي الْأَقْضِيَةِ، تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ؛ لِأَنَّ مَا هُنَاكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا اسْتَنَدَ إلَى كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، وَمَا هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَمْ يَسْتَنِدْ إلَى وَاحِدٍ مِنْهَا.
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا وَهَذَا آخِرُ الْكَلَامِ عَلَى مَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ وَتَعْتَقِدُهُ الْقُلُوبُ([3]).
من فوائد الدرس:
1. طاعة الولاة ولزوم الجماعة وإنكار المنكر.
2. الاعتصام بالسنة واجتناب البدعة.
3. وجوب اتباع السلف الصالح.
4. ترك الجدال والمراء في الدين.
________________________________
([1]) الحديث صحيح أخرجه السيوطي في الجامع الصغير من رواية عمران بن الحصين والحكم بن عمرو الغفاري وأخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب من رواية عبد الله بن حذافة بإسناد صحيح.
([2]) حديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه من رواية عائشة أم المؤمنين.
([3]) وَأَمَّا مَا تَعْمَلُهُ الْجَوَارِحُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ فبيانه في باب العبادات والمعاملات ومحله كتب الفقه.