جديد الموقع: كيف أتفوق في دراستي؟
التعريف بالسورة:
سورة لقمان مكية، إلا الآيات: السابعة والعشرين، والثامنة والعشرين، والتاسعة والعشرين (27-29)، فمدنية، وهي أربع وثلاثون (34) آية، نزلت بعد الصافات. سميت بهذا الاسم؛ لاشتمالها على قصة لقمان الحكيم.
عالجت سورة لقمان قضايا العقيدة، من الإيمان بالله تعالى وتوحيده، والنبوة والرسالة، والإيمان بالبعث واليوم الآخر. وتناولت أيضا مكارم الأخلاق التي جاءت في وصية لقمان لابنه، ثم أكدت على ضرورة إعمال العقل وذم التقليد.
الآيات:
﴿الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ(1) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ(2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(3) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(4)﴾ [لقمان: 1-4]
شرح المفردات
ألم: حروف متقطعة، لا يدرك معناها إلا الله تعالى.
الحكيم: الذي لا خلل فيه ولا تناقض.
المحسنين: للمتقين الذين يحسنون العمل ويراقبون الله تعالى في كل شؤونهم.
يوقنون: يصدقون تصديقا جازما.
المفلحون: الفائزون.
التفسير
أولا: خصائص القرآن الكريم:
قال تعالى: (ألم) يرى بعض المفسرين أن الله تعالى ابتدأ هذه السور بمثل هذه الحروف، ليشير إلى أن القرآن مؤَلف من جنس ما يؤلف منه العرب كلامهم، ومع ذلك عجزوا عن أن يأتوا بمثله، فتلك معجزة الله المنزلة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
(تلك آيات الكتاب الحكيم) تلك الآيات العظيمة القدر والمنزلة، آيات القرآن الكريم ذي الحكمة البالغة الذي لا نسخ ولا خلل يطرأ عليه بعد اكتمال نزوله، وهو الحكيم الذي أحكمت آياته وأحكامه.
(هدى ورحمة للمحسنين) أي: أنزلها الله عز وجل هدى وإرشادا للمحسنين، الذين أتقنوا أعمالهم وأحسنوا القصد وأخلصوا النية لله تعالى، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: أوصاف المؤمنين:
بعد الحديث عن بعض خصائص القرآن الكريم، انتقلت الآيات تبين أوصاف المؤمنين والأعمال التي يقومون بها. فقد وصفهم الله تعالى بصفة الإحسان، حيث قال سبحانه: (هدى ورحمة للمحسنين) الذين يراقبون الله تعالى في كل أقوالهم وأفعالهم وفي أمورهم كلها.
بعد ذلك وصف الله تعالى هؤلاء المحسنين بأنهم يقيمون الصلاة فقال سبحانه: (الذين يقيمون الصلاة) أي: يؤدونها في أوقاتها المحددة على الوجه الأكمل تامة دون نقص، مستوفية لشروطها وفرائضها، وسننها، وفضائلها، وآدابها وخشوعها، ويحافظون عليها في كل وقت وحين، كما كان يؤديها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» [صحيح ابن حبان، كتاب الصلاة، باب الآذان].
(ويوتون الزكاة): أي: يُعطونها لمُستحقيها الوارد ذكرهم في سورة التوبة عند قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60]
(وهم بالآخرة يوقنون) أي: وهم بالحياة الآخرة يؤمنون إيمانا ثابتا راسخا لا شك فيه ولا تردد.
(أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) أي: أولئك المحسنون الموصوفون بما سبق من الصفات مُتمَكِّنون من الهدى الذي جاءهم من ربهم، وأولئك هم الفائزون وحدهم في الدنيا والآخرة. والإتيان بحرف الاستعلاء في قوله تعالى: (على هدى) تشبيه لتمكنهم من الهدى وثباتهم عليه بهيأة الراكب في الاعتلاء والتمكن على المركوب.
ما يستفاد من الآيات:
لقد قررت هذه الآيات توحيد الله تعالى والإيمان به وباليوم الآخر، كما تضمنت جزاء الله تعالى لعباده المؤمنين المحسنين، الذين يؤدون العبادات ويتقنونها، فجازاهم الله على ذلك بهدايتهم إلى الطريق المستقيم وجعلهم من المفلحين الفائزين يوم القيامة.
قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذُهَا هُزُؤًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(5) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ(7) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(8) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ(9) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(10)﴾ [لقمان: 5-10]
المعنى الإجمالي: بيان الله تعالى فساد اعتقاد المعرضين عن القرآن الكريم الذين يعبدون غير الله تعالى ممن لا يخلق شيئا، وتقرير ظلمهم وضلالهم.
شرح المفردات:
لَهْوَ الْحَدِيثِ: الحديث الملهي عن الخير والمعروف.
وَيَتَّخِذُهَا هُزُوًا: يسخر من آيات الله ويستهزئ بها.
مُهِينٌ: مذل.
وَلَّى مُسْتَكْبِرًا: رجع متكبرا، ومنعه العناد من الانتفاع بآيات الله كأنه لم يسمعها.
وَقْرًا: ثقلا يمنع من السمع كالصمم.
رَوَاسِيَ: جبالا ثوابت أو شوامخ.
أَنْ تَمِيدَ: لئلا تضطرب وتتحرك.
وَبَثَّ: بسط ونشر.
أولا: إعراض بعض الناس عن القرآن: الآيات: (5-6)
لما ذكر الله تعالى، أوصاف المؤمنين السعداء وهم الّذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه، ذكر عقبه حال الأَشقياء الذين أعرضوا عن القرآن الكريم، ولم ينتفعوا بهديه، وأقبلوا على استماع الباطل من الحديث. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذُهَا هُزُؤًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) والمقصود بشراء لهو الحديث هنا حبه واستحسانه، فالشراء هنا مجاز. وَالْأَصَحُّ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) ''أَنَّهُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ فِي تِجَارَةٍ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ فَيَتَلَقَّى أَكَاذِيبَ الْأَخْبَارِ عَنْ أَبْطَالِهِمْ فِي الْحُرُوبِ الْمَمْلُوءَةِ أُكْذُوبَاتٍ فَيَقُصُّهَا عَلَى قُرَيْشٍ فِي أَسْمَارِهِمْ وَيَقُولُ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ يُحَدِّثُكُمْ بِأَحَادِيثِ عَادٍ وَثَمُودَ فَأَنَا أُحَدِّثُكُمْ بِأَحَادِيثِ رُسْتُمَ وَإِسْفِنْدِيَارَ وَبَهْرَامَ''.
تواصل الآيات الكريمة بيان حال المعرض عن ذكر الله وجزائه، قال سبحانه: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
ثانيا: بيان حال المؤمنين بآيات الله: (7-8)
بعد بيان حال المعرضين عن القرآن الكريم، تعرضت الآيات، لبيان ما يقابل هذا الصنف من الناس وهم المؤمنون بآياته المقبلون عليها. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ(7) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يعدهم بذلك وعدا حقا لا شك فيه، فالله تعالى لا يخلف وعده، وهو تعالى عزيز في ملكه لا يمنع من الإنعام على من أحسن وأطاع، حكيم في صنعه وتدبيره.
ثالثا: دليل وحدانية الله تعالى: (9-10)
لما ذكر الله تعالى في الآية السابقة أنه عزيز حكيم، نبه تعالى إلى دلائل قدرته وآثار عظمته لإقامة البراهين على وحدانيته، فقال تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) أي: خـلـق السّموات بغير أعمدة كما ترونها، وألقى في الأرض جبالا راسخة ثابتة، ونشر فيها مختلف أنواع الدواب والحيوانات وأنزل الماء من السماء وانبت في الأرض من كل شيء زوجا نافعا ليدل على أنه الخالق الرازق القادر المنعم على المخلوقات كلها مما يدل دلالة قاطعة على وحدانيته تعالى.
ثم توجه الله تعالى إلى المشركين الذين يعبدون المخلوقات ويتركون الخالق، فخاطبهم بقوله تعالى: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي: كل ما ذكر في الآية السابقة خلق الله، فما ذا خلقت آلهتكم التي تعبدونها من دون الله.
وفي ختام هذه الآية يقرر تعالى ضلال المشركين بوضعهم الشيء في غير موضعه لجهلهم وعماهم فيقول عز وجل: (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
الخلاصة:
بعد أن بين الله تعالى في الآيات السابقة أوصاف المؤمنين السعداء وهم الّذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه، ذكر عقبه في هذه الآيات حال الأَشقياء الذين أعرضوا عن القرآن الكريم، ولم ينتفعوا بهديه، وأقبلوا على استماع الباطل من الحديث. وتواصل الآيات الكريمة بيان حال المعرض عن ذكر الله وجزائه بالعذاب المهين.
ثم تعرضت الآيات بعد ذلك لبيان ما يقابل هذا الصنف من الناس وهم المؤمنون بآياته المقبلون عليها وأكد وعده السابق بالفلاح والنجاح لهم.
ولما ذكر الله تعالى في الآية السابقة أنه عزيز حكيم، نبه تعالى إلى دلائل قدرته وآثار عظمته لإقامة البراهين على وحدانيته. ثم توجه الله تعالى إلى المشركين المعرضين عن القرآن الكريم الذين يعبدون غير الله تعالى من المخلوقات ممن لا يخلق شيئا ويتركون الخالق، فوبخهم مقررا تعالى ظلم المشركين وضلالهم وفساد اعتقادهم.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(11) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(12) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ(13) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(14)﴾ [لقمان: 12-15].
تمهيد:
بعد بيان الله تعالى فساد اعتقاد المعرضين عن القرآن الكريم الذين يعبدون غير الله تعالى ممن لا يخلق شيئا، وتقرير ظلمهم وضلالهم، انتقل سبحانه لبيان وصايا لقمان الحكيم الذي توصل إلى إثبات توحيد الله تعالى بمقتضى الحكمة، وقدم للناس وصايا ثمينة تدعو إلى مكارم الأخلاق وحسن التعامل مع الناس والنهي عن الخصال الذميمة التي تنشر الأحقاد والضغائن بين أفراد المجتمع الإنساني.
شرح المفردات:
لُقْمَانَ: اسم رجل حكيم.
الْحِكْمَةَ: الإِصابة في القول والعمل.
وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ: ضعفا على ضعف.
وَفِصَالُهُ: فطامه.
جَاهَدَاكَ: بذلا جهدهما وألحا عليك في حملك على الشرك.
البيان والتفسير
أولا: شكر الله تعالى على نعمه:
قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) افتتح الله تعالى هذه الآيات بحرفي توكيد: لام القسم و«قد»، للتنبيه على الإخبار بشيء مهم. ولُقْمان رجل صالح ينطق بالحكمة، وجمهور المفسرين على أنه لم يكن نبيا. وقد أمره تعالى بشكره على ما أعطاه من الحكمة والرأي السديد الذي تعود فائدته على نفس الشاكر لا للمشكور، أما من كفر نعم الله تعالى وجحدها فإن الله تعالى غني لا يحتاج لشكر أحد، ولا يضره كفر أحد، وله الحمد في كل وقت وحين.
ثانيا: النهي عن الشرك بالله تعالى:
ذكر الله تعالى بعض وصايا لقمان لابنه التي استهلها بنهيه عن الشرك بالله وتنفيره منه، باعتباره من أكبر الكبائر، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).
ثالثا: الأمر ببر الوالدين:
قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) هذه الآية إرشادا إلى حق يتعلق بالوالدين اللذين كانا سببا في وجود الولد، مما يوجب عليه برهما وطاعتهما بالمعروف.
وذكّر الله تعالى الإنسان على وجه الخصوص بما عانته أمه في الحمل وفي الولادة والرضاعة التي قد تصل مدتها عامين مع ما تكابده الأم بسبب الولد من الجهد والمشقة والعناء، مما يوجب عظيم حقها، الأمر الذي يفرض عليه تخصيصها بمزيد من العناية والرعاية، وجعل حقها أعظم من حق الأب؛ ثم أمر الله تعالى الإنسان بشكره سبحانه على نعمه التي تفضل بها عليه وشكر والديه، وذكّره بحتمية العودة والرجوع إليه ليجازيه بأفعاله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
ولما حث الله تعالى الإنسان على طاعة والديه، قيد سبحانه هذه الطاعة حتى لا يتوهم أنها مطلقة في كل شيء فقال سبحانه: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي: إن حملاك وأمراك بالإشراك بالله تعالى، فلا تطعهما فيما أمراك به، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ لكن هذا لا يمنعك من مصاحبتهما والإحسان إليهما وفاء بحقهما وتعبهما من أجلك، ولو كانا مشركين.
بعد هذا وجه الله الإنسان لأن يسلك طريق من رجع إلى الله بالتوحيد والطاعة وإخلاص العبادة لله وحده؛ لأن الخلق كلهم سيرجعون إِلى الله تعالى، حينها سيخبرهم بما فعلوه في الدنيا ويجازي كل عامل بعمله.
سبب نزول الآية:
وقد نزل قوله تعالى: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) في أبي بكر -رضي الله عنه- وذلك أنه حين أسلم أتاه عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعثمان وطلحة والزبير، فقالوا لأبي بكر -رضي الله عنه- آمَنْتَ وَصَدَّقْتَ مُحَمَّدًا عليهِ الصلاةُ والسلامُ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: نَعَمْ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَآمَنُوا وَصَدَّقُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِسَعْدٍ: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. [أسباب النزول للواحدي، ص: 346].
مما يستفاد من الآيات:
والحكمةُ من ذكر الوصية بالوالدين -ضمن وصايا لقمان- تأكيد ما أفادته الآية الأولى من تقبيح أمر الشرك (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) فكأنه تعالى يقول: مع أننا وصينا الإِنسان بوالديه، وأمرناه بالإِحسان إِليهما والعطف عليهما، وألزمناه طاعتهما بسبب حقهما العظيم عليه، مع كل هذا فقد نهيناه عن طاعتهما في حالة الشرك والعصيان، لأن الإِشراك بالله من أعظم الذنوب، وهو في نهاية القبح والشناعة. [صفوة التفاسير، للصابوني: 2/ 452].
وقد قررت هذه الآيات الكريمة مبدأ توحيد الله تعالى، ونددت بالشرك الذي اعتبرته ظلما عظيما. كما حثت على وجوب بر الوالدين والإحسان إليهما في غير معصية مقررة مبدأ «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، كما أرشدت إلى ضرورة اتباع سبيل المؤمنين للنجاة عند الرجوع إلى الله تعالى يوم القيامة.
﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(15) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ(16) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(17) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ(18)﴾
تمهيد:
بعد النهي عن الشرك بالله تعالى وما صاحبه من الحث على بر الوالدين والإحسان إليهما، واصلت هذه الآيات الكريمة الحديث عن وصايا لقمان لابنه في مجال التوحيد والعبادات والمعاملات والأخلاق.
شرح المفردات:
حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ: الخردل نبات حَبُّه صغير جدا، يضرب به المثل في الصغر
مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ: مما عزمه الله وأمر به، ولفظ العزم يراد به: من معزومات الأمور.
تُصَعِّرْ خَدَّكَ: الصّعَر في اللغة: الميل، أي: تمل عنقك افتخارا
مُخْتَالٍ فَخُورٍ: متبختر في مشيته، معتز بها
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ: واجعل مشيك متوسطا بين الإسراع والبطء
التفسير
أولا: استحضار مراقبة الله تعالى وعدم الاستخفاف بالأعمال مهما صغرت:
قال تعالى حكاية عن لقمان الحكيم: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) تابع لقمان الحكيم تقديم وصاياه لابنه، مكررا نداءه له بقوله: (يَا بُنَيَّ) تجديدا لنشاطه وحثا له على الانتباه، فالله تعالى يطلع على بواطن الأمور ويصل علمه إلى كل شيء خفي. والتعبير بالصخرة يدل على المبالغة. والتعبير بحبة من خردل، يدل على أن الله يأتي بالقليل والكثير، من أعمال العباد فعبّر بحبة الخردل ليدل على ما هو أكثر.
ثانيا: الأمر بإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ذلك:
قال الله تعالى حكاية عن لقمان: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) فبعد حث لقمان ابنه على إقامة الصلاة، أرشده إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطاعة الله تعالى في كل ما أوجب عليه، والنهي عن المنكر في كل ما حرم الله تعالى برفق ولين. ثم حث لقمان ابنه على تحمل الأذى ومصائب الحياة وشدائدها عموما، أو الصبر على ما يصيبه بسبب الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر؛ فالصبر على المصائب من عزم الأمور، أي: مما أمر الله به على وجه العزم والإيجاب، أو من مكارم الأخلاق التي يعزم عليها أهل الحزم والجد.
ثالثا: حسن الآداب مع الناس والتعامل معهم:
بعد نصائح لقمان لابنه بالعبادات السابقة، نهاه عن خصال ذميمة محرمة تتمثل في قوله تعالى: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) أي: لا تولّ الناس خدك وتعرض عنهم تكبرا عليهم واستعلاء. ولا تمش في الأرض متكبرا متخايلا مزهوا بقوتك، متبخترا ومعجبا بنفسك؛ فالله تعالى لا يحب المعجب بنفسه المتباهي على غيره.
وقوله سبحانه (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) أي: اعتدل في مشيك، ولا تسرع إسراعا يدل على الطيش والخفة، ولا تبطئ إبطاء يدل على الفخر والكبر، واخفض صوتك فلا ترفعه أكثر من المطلوب وفيما لا فائدة فيه؛ فإن أقبح وأفظع الأصوات لصوت الحمير.
الخلاصة:
لقد قررت الآيات (15-18): وجوب مراقبة الله تعالى في السر والعلن، وعدم الاستخفاف بالأعمال مهما صغرت لأن الإنسان سيحاسب على أعماله يوم القيامة صغيرها وكبيرها (آية: 15). كما أكدت على وجوب إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما يصيب الإنسان من أذى (آية: 16). ثم تناولت النهي عن مجموعة من الأخلاق السيئة، من تكبر واختيال ورفع للصوت، إرشادا للإنسان إلى إحسان التعامل مع الناس والكف عن أذاهم (آية: 17-18).
نص للاستثمار:
إن تغيير المنكر ثلاث درجات: باليد، وهذا خاص بالحاكم، وباللسان وهو دور العلماء، وبالقلب وهو لعامة الناس، لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» [صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان..].
﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ(19) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ(20)﴾
تمهيد:
بعد تحذير الله تعالى الإنسان من الشرك، وحثه على مكارم الأخلاق المضمنة في وصايا لقمان الحكيم، أكد سبحانه على دلائل قدرته ووحدانيته، ونبه الإنسان إلى ما امتن به عليه من نعمه الظاهرة والباطنة، وذم من يخاصم بغير علم ويتبع الشيطان الرجيم في كل ما يوحي به إليه.
شرح المفردات:
سَخَّرَ: ذلّل.
أَسْبَغَ: أتم وأكمل.
يُجَادِلُ: يخاصم بغير علم.
عَذَابِ السَّعِيرِ: عذاب النار التي تستعر وتلتهب.
التفسير
أولا: إكرام الله تعالى للإنسان بنعمه الظاهرة والباطنة:
قال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) أي: ألم تعلموا أيها الناس أن الله العظيم الجليل ذلل لكم ما في السماوات. وسخر لكم ما في الأرض. وفي هذا تنبيه بالخلق على الخالق، ذلك أن تسخير هذه الأمور العظام؛ إنما هو بمسخر وخالق وهو الله سبحانه وتعالى. والاستفهام في (أَلَمْ تَرَوْا) تقرير لعدم الرؤية، حيث نزلهم منزلة من لم يروا آثار ذلك التسخير؛ لكونهم لم ينتفعوا بها في إثبات الوحدانية لله تعالى.
وقوله تعالى: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) أي: أكمل وأتم عليكم نعمه الكثيرة؛ والظاهرة: معناها الواضحة، والباطنة: الخفية. فكم من نعمة في بدن الإنسان لا يعلمها إلا العلماء المتخصصون، وكم من نعمة لا يعلمها أهل عصر ثم تنكشف لمن بعدهم.
ثانيا: ذم من يجادل في الله بغير علم ويتمسك بتقاليد الآباء المخالفة للشرع:
قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ) مع هذه النعم الكثيرة التي تفضل الله تعالى بها على الناس، تجد منهم من يجادل ويخاصم في الله وفي صفاته وأفعاله بغير علم ولا فهم، ولا دليل واضح ولا كتاب بين الحجة، فجدالهم ناشئ عن سوء نظر وسوء تفكير فيما تقتضيه الألوهية من الصفات كالوحدانية وغيرها.
هؤلاء المجادلون في الله بغير علم ولا حجة يتمسكون بآرائهم الباطلة مهما وصلهم من حق وصواب، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) أي: وإذا خوطب المجادلون في الله بالجهل والباطل، ودُعوا إلى اتباع ما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من شرع وهدى، أعرضوا عن ذلك وفضلوا تقليد ما كان عليه آباؤهم من شرك وعبادة للأصنام، حتى لو جرهم ذلك إلى عذاب السعير، وفي قوله تعالى: (أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) الاستفهام هنا للإِنكار والتوبيخ، أي: أيتبعونهم بلا دليل ولو كانوا ضالين، حتى ولو كان الشيطان يدعوهم إلى النار المستعرة ذات العذاب الشديد؟
الخلاصة:
وتقرر هذه الآيات وحدانية الله تعالى وقدرته على الخلق والإنعام، فإنه خلق السماوات بما فيها من مخلوقاته العظيمة، وخلق الأرض وما فيها من نعمه التامة الكاملة لنفع الإنسان. ورغم تعدد الأدلة على قدرة الله تعالى ووحدانيته، فإن بعض الناس يجادلون ويخاصمون في الله تعالى وصفاته بغير حجة ولا علم ولا دليل يرشدهم ولا كتاب بين واضح يبين لهم الحق (الآية: 19)؛ وإذا طلب منهم اتباع ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من آيات تمسكوا بتقليد آبائهم وأجدادهم حتى ولو كان الشيطان يقودهم إلى نار جهنم المستعرة، وفي هذا ذم للتقليد والجمود؛ لأنه إنكار للعقل وتعطيل له (الآية: 20).
﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ(21) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(22) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ(23) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(24) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(25)﴾
تمهيد:
بعد بيان الله تعالى حال المجادل بالباطل المقلد لدين آبائه في الآيات السابقة، أتبعه هنا بذكر حال المسلم المفوض أمره لله تعالى المتمسك بإيمانه، ثم تعرض لما يلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من عناد وإنكار وبين له أنه لا ينبغي أن يكون ذلك مدعاة لحزنه وضيق صدره؛ لأن دوره ينحصر في تبليغ الرسالة، والله تعالى هو الذي يتكفل بالمنكرين الجاحدين الذين سيجازيهم بما يستحقون من عذاب غليظ يوم القيامة.
شرح المفردات:
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ: يقبل على طاعة الله وينقاد لأوامره.
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى: بأوثق الأسباب التي لا يخشى انقطاعها.
عَاقِبَةُ الْأُمُورِ: مصير الأمور ونهايتها.
نَضْطَرُّهُمْ: نلزمهم ونلجئهم.
عَذَابٍ غَلِيظٍ: عذاب شديد ثقيل.
التفسير
أولا: الحث على التوجه إلى الله تعالى والاستسلام له:
قال تعالى: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي: ومن يخلص قصده وعبادته لله ويستسلم وينقد لأوامره، وهو محسن في أعماله متقن لها، كما ورد في حديث جبريل حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فأجابه بقوله: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» [صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم] والمراد بالوجه هنا القصد؛ لأن القاصد للشيء يستقبله بوجهه (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) أي: تمسك بأوثق الأسباب الموصلة إلى رضوان الله تعالى وإلى جناته. وتطلق العروة الوثقى على موضع الإمساك وشدّ الأيدي، وهي هنا تشبيه واستعارة في الإيمان (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي: وإِلى الله وحده نهاية وخاتمة أمور الناس، حيث سيجازي المحسنين منهم ويعاقب المسيئين. والتعريف في (الْأُمُورِ) للاستغراق، وهو تعميم يراد به أن جميع الأمور موكولة إلى الله تعالى، فهو الذي يجازي كلا بعمله.
ثانيا: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من العناد والإنكار:
قال تعالى: (وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) بعد بيان حال المؤمن المسلم أمره لله تعالى وجزائه، انتقلت الآيات لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من كفر قومه وإعراضهم عنه، حيث أخبره تعالى بأنه لا ينبغي له أن يحزن ويهتم بكفر من كفر ولا إنكار من أنكر، ذلك أن مهمة الرسل هي البلاغ، أما جزاؤهم فإن الله تعالى هو الذي يتكفل به، قال تعالى: (إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا) أي: إلينا رجوعهم ومصيرهم يوم القيامة فنخبرهم بأعمالهم ونظهرها (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أي: عليم بما تكنه قلوبهم وما تخفيه صدورهم من الكفر والتكذيب (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ) أي: نمهلهم زمنا يسيرا في الدنيا يتمتعون بها ثم نلجئهم في الآخرة إلى عذاب فظيع شاق لا تتحمله النفوس.
ولما بين الله تعالى استحقاقهم العذاب الشديد أقام عليهم الحجة في عبادتهم غير الله تعالى مع أنهم يعترفون بأن الله هو خالق المخلوقات من سماء وأرض وغيرهما، فقال سبحانه: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي: ولئن سألت أيها الرسول هؤلاء المشركين عمن خلق السماوات والأرض؟ لأجابوا: إنه الله الذي خلقهن؛ لأنهم لا يستطيعون إنكار ذلك لوضوحه، لكن مع اعترافهم هذا يستمرون في عبادة الأصنام التي لا تستحق العبادة.
وهذه الآية صريحة في تقرير عقيدة مشركي العرب بكون الله هو الخالق الرازق المتصرف في الكون، مع أنهم يعبدون غيره.
ولما تبين صدق النبي صلى الله عليه وسلم وكذب المشركين بإقامة الحجة عليهم، قال الله تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي: قل الحمد لله على ظهور الحجة على المشركين بعبادتهم الأصنام، وتركهم لعبادة الله الخالق لكل شيء (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أي: بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون من له الحمد ومن له الشكر، ومن يستحق العبادة، هل الله تعالى الخالق الرازق؟ أم الأصنام العاجزة عن نفع نفسها؟ فكيف يبتغون منها نفعهم؟!
ولما أثبت الحق سبحانه لنفسه صفات القدرة والكمال، أكد ذلك بقوله: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي: إن كل ما في السماوات والأرض ملك لله تعالى، وإنه الغني عن الناس، فلا يحتاج إلى عبادة خلقه، وهو الحميد المستوجب للحمد والشكر، سواء آمنوا به أم جحدوه.
الخلاصة:
وتؤكد هذه الآيات على ضرورة التوجه إلى الله تعالى والاستسلام له؛ لأنه هو الذي بيده الأمر كله، وله عاقبة الأمور (الآية: 21)، ثم تعرض لما يلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من عناد المشركين وإنكارهم وبين له أنه لا ينبغي أن يكون ذلك مدعاة لحزنه وضيق صدره؛ لأن دوره ينحصر في تبليغ الرسالة، والله تعالى هو الذي يتكفل بالمنكرين الجاحدين الذين سيجازيهم بما يستحقون من عذاب غليظ يوم القيامة (الآيات: 22-25).
قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(26) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(27) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(28) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ(29) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(30) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ(31)﴾ [لقمان: 26-31]
تمهيد: هذه الآيات تقرير لمعاني الآيات السابقة وتأكيد لها لإفحام المجادلين المنكرين لقدرة الله سبحانه؛ فبعد بيان الله تعالى أن المشركين يعترفون بوجوده، وأنه هو الخالق الرازق، أثبت الحق سبحانه ملكه لكل ما في السماوات وما في الأرض، وأقام الحجة والبرهان على سعة علمه وقدرته على الخلق والبعث وتعاقب الليل والنهار وتسيير الكواكب من شمس وقمر وغيرهما، ثم بين أن المشركين يلجؤون إلى الله وقت المحن والشدائد، ويعرضون عنه في حالة الرخاء بعد نجاتهم.
شرح المفردات:
نفذت: انتهت.
غشيهم: غطاهم وأحاط بهم.
كالظلل: الظلل جمع ظلة، وهو ما يعلو الشيء من فوق.
مقتصد: متوسط في الأمر.
يجحد: ينكر ويكفر.
ختار: غدار شديد الغدر.
كفور: مبالِغ في الكفر.
أولا: سعة علم الله تعالى وقصر علم الإنسان:
قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ) في هذه الآية إخبار بكثرة كلمات الله، والمراد اتساع علمه، وذكرت (سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) للدلالة على الكثرة، فيراد بها أبحر كثيرة من المداد غير محصورة في سبعة، فالعرب تذكر السبعة والسبعين والسبعمائة وتريد بذلك الكثرة (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي: إن الله عزيز في ملكه لا يغلب، حكيم لا يخرج عن علمه وحكمته شيء.
ثانيا: قدرة الله تعالى الدالة على وحدانيته:
قال تعالى: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) أي: ما خلقكم ابتداء ولا بعثكم انتهاء يوم القيامة في اليسر والسهولة، إلا كخلق نفس واحدة وبعثها، فقدرة الله تعالى يتساوى أمامها القليل والكثير والصغير والكبير (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي: إن الله سميع لأقوالكم، بصير بأعمالكم، وسيجازيكم عليها.
وفي هذه الآية بيان لقدرة الله على بعث الناس، وردّ على من استبعد ذلك.
وبعد أن أكد الله تعالى على كمال قدرته، ذكرهم بجانب من مظاهر هذه القدرة وإنعامه على الناس، فقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) الاستفهام هنا للتقرير، والمعنى: ألم تنظر أيها الإنسان نظرة اعتبار وتأمل (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي: ألم تر أنه ذلل الشمس والقمر وجعلهما لمصلحة الناس ومنفعتهم، يسير كل منهما في مداره بنظام ثابت محكم إلى يوم القيامة (وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي: وأن الله خبير بكل أعمال الخلق لا تخفى عليه خافية.
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) اسم الإشارة (ذَلِكَ) يعود إلى ما تقدم من إيلاج الليل في النهار وتسخير الشمس والقمر، والباء في قوله تعالى (بِأَنَّ اللَّهَ) للسببة، أي: ذلك الذي فعلناه مما تقدم ذكره، سببه: أن الله هو الإله الحق الذي يجب أن يعبد (وَأَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ) أي: ألم تر أن ما تدعون من دونه من الأصنام والأوثان هو الباطل (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي: وأن الله تعالى هو العلي في ذاته وصفاته، الكبير الذي يخضع له كل شيء.
ولما ذكر سبحانه ما يدل على قدرته ووحدانيته في السماء، انتقل إلى أدلة أخرى توضح للناس نعم الله في الأرض، فقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ألم تشاهد السفن العظيمة وهي تسير في البحر بمشيئة الله تعالى وقدرته وبمقتضى إنعامه على خلقه وإحسانه إليهم (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ) ليظهر لكم دلائل قدرته وعجائب خلقه وصنعه (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي: إن في هذه النعم التي أنعم الله بها على الإنسان لدلالة على عظمة الله وقدرته لكل صبار على الشدائد والمحن شكور لربه في السراء والضراء.
ثالثا: أحوال الناس في الشدة والرخاء:
لما بين الله سبحانه قدرته على تسيير السفن في البحر، أعقب ذلك بذكره حالة الناس عندما تحيط بهم الشدائد من كل جانب وهم على ظهر تلك السفن في البحر، فقال تعالى: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) أي: وإذا غطى ركاب البحر وأحاط بهم موج مرتفع يعلو فوق الإنسان، وأصابهم الخوف والذعر وأوشكوا على الغرق؛ اتجهوا جميعا إلى الله تعالى وأخلصوا له الدعاء بأن ينجيهم مما هم فيه. فلما استجاب الله تعالى لهم ووصلوا إلى بر الأمان، غلبهم سلطان النفس والهوى وانقسموا إلى فريقين، أشار إلى الفريق الأول بقوله تعالى: (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) موف بما عاهد الله عليه في البحر، متوسط في أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء. وأشار إلى الفريق الثاني بقوله تعالى: (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) أي: ومنهم جاحد راجع إلى كفره بعد نجاته، وما يجحد آيات الله ويكفر بها إلا شديد الغدر، مبالغ في كفره لنعم الله التي أنعم بها عليه.
الخلاصة:
هذه الآيات تقرير لمعاني الآيات السابقة (21-25) وتأكيد لها لإفحام المجادلين المنكرين لقدرة الله سبحانه؛ فبعد بيان الله تعالى أن المشركين يعترفون بوجوده، وأنه هو الخالق الرازق، أخبر الحق سبحانه في هذه الآيات (26-31) عن كثرة كلمات الله، والمراد اتساع علمه، وقصر علم الإنسان (الآية: 26)، وأقام الحجة والبرهان على وقدرته على الخلق والبعث (الآية: 27)، وتعاقب الليل والنهار وتسيير الكواكب من شمس وقمر وغيرهما (الآية: 28)، وفي هذه الآيات دلائل واضحة على قدرة الله تعالى على الخلق والإنعام وملكه لكل ما في السماوات وما في الأرض، مما يدل على وحدانيته تعالى واستحقاقه للعبادة، أما ما يعبد الناس من الأصنام والأوثان وغيرها فهي مخلوقات لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا، وإنما اتخذها المشركون آلهة لإنكارهم آيات الله الظاهرة الدالة على عظمته وقدرته، وجحودهم نعم الله تعالى عليهم (الآية: 29). ثم بين أن الله سبحانه قدرته على تسيير السفن في البحر (الآية: 30)، وأعقب ذلك بذكره حالة المشركين إذ يلجؤون إلى الله وقت المحن عندما تحيط بهم الشدائد من كل جانب وهم على ظهر تلك السفن في البحر، ويعرضون عنه في حالة الرخاء بعد نجاتهم (الآية: 31).
الاستثمار:
«رُوِيَ عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ فِي سَبَبِ نَزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ بَعْضَ أهْلِ الْكِتَابِ قَالُوا: يا مُحَمَّدُ، كَيْفَ عُنِينَا بِهَذَا الْقَوْلِ (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) [الإسراء: 85] وَنَحْنُ قَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ فِيهَا كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامُهُ، وَعِنْدَكَ أَنَّهَا تِبْيانُ كُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «التَّوْرَاةُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ» وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾» [المحرر الوجيز لابن عطية: 4 /353 - 354 (بتصرف)].
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(32) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(33)﴾ [لقمان: 32-33].
تمهيد:
بعد أن بين الله تعالى دلائل قدرته ووحدانيته، ومظاهر إنعامه على خلقه بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى، أمر الناس بالتقوى بأسلوب وعظي يجمع بين الترغيب والتخويف من اليوم الآخر ومن لقاء الله تعالى، يوم يقضي فيه الله بين عباده، فلا ينفع هناك والد ولده ولا مولود والده؛ لأجل هذا اليوم نبه الله تعالى عباده ونهاهم عن الاغترار بالحياة الدنيا الزائلة وبكل ما يلهي الإنسان عن عبادة ربه وطاعة مولاه، من نفس وهوى وشيطان وغير ذلك. ثم ختم هذه السورة ببيان مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها ولم يطلع أحدا على أسرارها.
شرح المفردات:
واخشوا: وخافوا.
يجزي: يغني.
تغرنكم: تخدعنكم.
الغرور: كل ما يلهي الإنسان عن طاعة الله تعالى.
الساعة: يوم القيامة.
الغيث: المطر.
أولا: الأمر بتقوى الله تعالى استعدادا لليوم الآخر:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا) خاطب الله تعالى جميع الناس وأمرهم بتقواه، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، كما أمرهم بالخوف من يوم عظيم شديد الهول يرجعون فيه إلى ربهم، بحيث لا ينفع والد ولده ولا يدفع عنه مضرة، ولا ولد يغني أو يدفع مضرة عن والده؛ لأن الأمور يوم القيامة بيد مالك الملك الذي بيده كل شيء، أما الخلائق فيكون كل واحد منهم مشغولا بنفسه عن غيره حتى ولو كان أقرب الناس إليه.
(إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) يؤكد الله تعالى في هذه الآية على أن مجيء هذا اليوم العظيم حق ثابت لا يقبل الشك أو التردد، لأنه وعد ممن يملك الوفاء بما وعد.
بعد هذا نهى الله الناس عن الانخداع بالدنيا فقال سبحانه: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) أي: فلا تخدعنكم الحياة الدنيا بشهواتها وملذاتها فتركنوا إليها.
(وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) أي: لا يخدعنكم ولا يلهينكم الشيطان وغيره مما يخدع الخلق، عن استحضار اليوم الآخر وما يحتوي عليه من ثواب وعقاب.
ثانيا: مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله:
قال عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي: إن الله تعالى انفرد بعلم وقت قيام الساعة دون خلقه، ولا يُظهرها عند وقت وقوعها إلا الله عز وجل.
(وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ) أي: أن الله تعالى هو الذي يعلم نزول الغيث في وقته المحدد ومكانه المقدر وليس لأحد من خلقه علم ذلك. وما أصبح يتوقعه الإنسان من نزول الأمطار ليس غيبا وإنما هو رصد لأشياء محسوسة تحدث في الجو بناء على حسابات علمية دقيقة.
(وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) ويختص الله تعالى بعلم ما في الأرحام، كنوع الجنين هل هو ذكر أو أنثى؟ تام الخلق أو ناقصه؟ وغيرها من الأمور التي لا يعلمها إلا الله؛ أما ما أصبح يعرفه الأطباء عن الجنين قبل ولادته بواسطة أجهزة وتحاليل خاصة، فلا يعد من عالم الغيب، بل هو من عالم الشهادة؛ أما الله سبحانه وتعالى فإنه يعلم ما في الأرحام حتى ولو كان نطفة، بل يعلم ما ستحمل به الأرحام كما حدث مع نبي الله زكرياء حين بشره سبحانه بولده يحيى قبل أن تحمل به أمه.
(وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) استأثر الله تعالى بعلم ما تكسب كل نفس في غدها من خير أو شر أو مال أو ولد أو غير ذلك.
(وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أي: إن الله تعالى وحده الذي يعلم مكان موت كل نفس، ولا يمكن لأي مخلوق معرفة ذلك مهما ارتفعت درجته في العلم.
(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) إن الله تعالى خبير بظواهر الأشياء وبواطنها لا يخفى عليه شيء منها.
سبب نزول الآية: جاء في تفسير القرطبي عن مقاتل: «أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)... الآية، نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ اسْمُهُ الْوَارِثُ ابْنُ عَمْرو بْنِ حَارِثَةَ، أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي حُبْلَى فَأَخْبِرْنِي مَاذَا تَلِدُ، وَبِلَادُنَا جَدْبَةٌ فَأَخْبِرْنِي مَتَى يَنْزِلُ الْغَيْثُ، وَقَدْ عَلِمْتُ مَتَى وُلِدْتُ فَأَخْبِرْنِي مَتَى أَمُوتُ، وَقَدْ عَلِمْتُ مَا عَمِلْتُ الْيَوْمَ فَأَخْبِرْنِي مَاذَا أَعْمَلُ غَدًا، وَأَخْبِرْنِي مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ». [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 14 /83].
الخلاصة: أمر الله الناس بالتقوى بأسلوب وعظي يجمع بين الترغيب والتخويف من اليوم الآخر ومن لقاء الله تعالى، يوم يقضي فيه الله بين عباده، فلا ينفع هناك والد ولده ولا مولود والده؛ لأجل هذا اليوم نبه الله تعالى عباده ونهاهم عن الاغترار بالحياة الدنيا الزائلة وبكل ما يلهي الإنسان عن عبادة ربه وطاعة مولاه، من نفس وهوى وشيطان وغير ذلك (الآية: 32). ثم ختم هذه السورة ببيان مفاتيح الغيب الخمس التي استأثر الله تعالى بعلمها ولم يطلع أحدا على أسرارها (الآية: 33).
قال تعالى: ﴿الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(1) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ(2) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ(3)﴾ [السجدة: 1-3]
تمهيد:
سورة السجدة مكية إلا الآيات من 16 إلى 20 فمدنية، وهي ثلاثون آية، نزلت بعد سورة المؤمنون. سميت «سورة السجدة» لما ذكر تعالى فيها من أوصاف المؤمنين الأبرار الذين إذا سمعوا آيات القرآن العظيم سجدوا لله سبحانه وتعالى تضرعا وخشوعا. وتسمى سورة المضاجع. كما تسمى سورة «سجدة لقمان» تمييزًا لها عن سورة «فصلت» فإنها تسمى أيضًا سورة السجدة.
وتناولت هذه السورة أمور العقيدة من توحيد الله تعالى والبعث والحساب، وإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
شرح المفردات:
لا ريب: لا شك.
افتراه: اختلقه وكذَبه.
لتنذر: لتخوف وتحذر.
ولي: ناصر ينصركم.
شفيع: وسيط يشفع لكم.
أولا: التنويه بشأن القرآن الكريم وأنه منزل من عند الله تعالى:
قال تعالى: (الم) هذه حروف متقطعة لا يعرف معناها إلا الله تعالى، وهذه هي السورة السادسة التي بدئت بهذه الأحرف، وقبلها سورة البقرة، وآل عمران، والعنكبوت، والروم، ولقمان.
وقد جاءت هذه السورة بعد مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها الواردة في أواخر سورة لقمان (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي: إن هذا القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لا شك أنه من عند رب العالمين، وليس بشعر وليس بسجع كاهن، ولا هو بأساطير الأولين، لما حف حوله من الدلائل القاطعة من أنه ليس بكلام بشر؛ بسبب تحديه العرب على الإتيان بمثل أقصر سورة منه وعجزهم عن ذلك.
ونفي الريب والشك باعتبار ما هو الأمر في نفسه، وما دلت عليه الآيات القاطعة وباعتبار اعتقاد أهل الحق والايمان، لا على اعتقاد أهل الباطل الذين لا يؤمنون بأن القرآن منزل من عند الله.
ثم انتقلت الآيات تفند مزاعم المشركين الذين يدعون باطلا بأن القرآن الكريم هو من عند محمد صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) الضمير لقريش، و«أم» المنقطعة بمعنى «بل وهمزة الاستفهام» والتقدير: «بل أيقولون»، وهي تدل على خروج من حديث إلى حديث آخر، ذلك أن الله تعالى أثبت أن القرآن الكريم منزل من عنده، وأن ذلك مما لا يشك فيه منصف ولا يرتاب، ثم أضرب عن ذلك إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك حيث قال: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) أي: افتعله واختلقه. ثم فنّد تكذيبهم له، وأكد أنه من لدن رب العالمين وليس الأمر كما يدعون ويزعمون فقال تعالى: (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي: بل هو الحق الثابت المنزل من ربك (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) لتخوف مشركي العرب الذين لم يأتهم من ينذرهم يا محمد، يعني مرحلة الفترة بعد عيسى عليه السلام، وقد جاء الرسل قبل ذلك كإبراهيم وغيره، ولما طالت الفترة على هؤلاء أرسل الله رسولا ينذرهم ليقيم الحجة عليهم ويخوفهم من بأس الله وعذابه الشديد أن يحل بهم إن هم استمروا في شركهم وعبادة غير الله من الأصنام والأوثان (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) رجاء أن يؤمنوا ويوحدوا الله تعالى ويعبدوه دون غيره فيهتدوا إلى الحق بعد ضلالهم.
ثانيا: قدرة الله تعالى وأدلة وحدانيته:
بعد بيان الله تعالى أن القرآن الكريم تنزيل من عنده وأنه لا ريب فيه ولا شك، شرع يعرض بعض دلائل قدرته الدالة على وحدانيته، ويعرف الناس كمال قدرته ليسمعوا القرآن ويتأملوه، فقال سبحانه: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) أي: الله الذي خلق وأبدع وأوجد السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام من أيام الله تعالى، فهي ليست من أيام الدنيا لأن خلق السموات والأرض حدث قبل خلق الدنيا والليل والنهار، ولأن اليوم في اللغة مطلق الوقت، أي: في ستة أوقات لا يعلم مقدارها إلا الله تعالى، والله سبحانه قادر على أن يخلق السموات والأرض وغيرهما في لمح البصر، لكنه خلقهما في أيام ليعلم خلقه التأني والتثبت في الأمور (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) «حمله قوم على ظاهره منهم ابن أبي زيد وغيره، وتأوّله قوم بمعنى: قَصَدَ، ولو كان كذلك لقال: ثم استوى إلى العرش. وتأوّلها الأشعرية أنّ معنى استوى: استولى بالملك والقدرة، والقول الحق: الإيمان به من غير تكييف، فإنّ السلامة في التسليم. ولله در مالك بن أنس في قوله للذي سأله عن ذلك: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة، والسؤال عن هذا بدعة. وقد روي مثل قول مالك عن أبي حنيفة، وجعفر الصادق، والحسن البصري، ولم يتكلم الصحابة ولا التابعون في معنى الاستواء، بل أمسكوا عنه، ولذلك قال مالك: السؤال عنه بدعة» [التسهيل لابن جزي، 1/290].
ثم بين الله تعالى أنه لا ناصر لهم ولا شفيع، فقال سبحانه: (مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) أي: ليس لكم من غير الله ناصر يمنعكم من عذابه، ولا وسيط يشفع لكم عنده، بل هو الذي يتولى مصالحكم ويدبر أموركم. والشفاعة للمؤمنين لا تكون إلا بإذن الله، (أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) أفلا تتعظون وتتدبرون أيها الناس فتوحدوا الله تعالى وتخلصوا له العبادة؟!
الخلاصة:
سورة السجدة مكية إلا الآيات من 16 إلى 20 فمدنية، وهي ثلاثون آية، نزلت بعد سورة المؤمنون. سميت «سورة السجدة» لما ذكر تعالى فيها من أوصاف المؤمنين الأبرار الذين إذا سمعوا آيات القرآن العظيم سجدوا لله سبحانه وتعالى تضرعا وخشوعا. وتسمى سورة المضاجع. كما تسمى سورة «سجدة لقمان» تمييزًا لها عن سورة «فصلت» فإنها تسمى أيضًا سورة السجدة.
وتهدف هذه الآيات إلى تقرير إعجاز القرآن الكريم المتمثل في الحروف المتقطعة التي افتتحت بها السورة، وإثبات صدقه فهذا القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لا ريب فيه ولا شك أنه من عند رب العالمين (الآية: 1)، ثم انتقلت الآيات تفند مزاعم المشركين الذين يدعون باطلا بأن القرآن الكريم هو من عند محمد صلى الله عليه وسلم افتراه من عنده (الآية: 2)، كما بينت الآيات مظاهر قدرة الله تعالى وعظمته الدالة على وحدانيته سبحانه، لتعرف الناس كمال قدرته ليسمعوا القرآن ويتأملوه، منبهة الناس إلى ضرورة الإيمان به وإخلاص العبودية له، فهو وحده الذي يستطيع نصرتهم وإنقاذهم؛ إذ لا ناصر لهم ولا شفيع (الآية: 3).
قال تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ(4) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(5) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ(6) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ(7) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ(8)﴾ [السجدة: 5-9]
تمهيد:
ما زال سياق هذه الآيات يواصل تقرير أمور العقيدة من توحيد الله تعالى وإثبات البعث والجزاء بالتأكيد على مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته في تدبير أمور عباده، حيث يصدر أمر تدبيره من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه ليجازي عباده على أعمالهم يوم القيامة؛ لأنه هو الذي خلقهم وأحسن صنعهم، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة وسائر الجوارح، مما يقتضي شكرهم لخالقهم وحده على فضله.
شرح المفردات:
يدبر الأمر: ينفذه بحكمة وإتقان.
يعرج: يصعد.
نسله: ذريته.
سلالة: سلالة الإنسان وهي النطفة.
ما مهين: ماء مبتذل ضعيف ذليل، وهو كناية عن النطفة التي يتكون منها الإنسان.
الأفئدة: القلوب.
أولا: تدبير الله تعالى لأمور عباده في الكون:
قال تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي: يدبر أمر الكون العلوي والسفلي تدبيرا شاملا وينفذ قضاءه بحكمة وإتقان، وحقيقة التدبير: النظر في استقامة الفعل ابتداء ونهاية، وإذا وصف به الله تعالى دل على تمام الإتقان، و(الْأَمْرَ) الشأن للأشياء ونظامها وما به تقوّمها. والتعريف فيه للجنس وهو مفيد لاستغراق الأمور كلها لا يخرج عن تصرفه شيء منها (مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ) أي: أن تدبير الأمور يصدر من السماء في اتجاه الأرض باعتبار أن أسباب هذا التدبير سماوية من الملائكة وغيرهم.
وبعد بيان تدبير الله لأمور خلقه في السماء وإنزالها إلى الأرض، أخبر سبحانه أن نتائج الأمور تصعد إليه ليفصل فيها، قال سبحانه: (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) أي: ينفذ الله ما قضاه من السماء إلى الأرض، ثم ترفع الأمور الحاصلة في الدنيا صغيرها وكبيرها إلى الله تعالى يوم القيامة ليفصل فيها ويحكم في شأنها (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي: يدبر الله تعالى أمور الخلائق في يوم مقداره ألف سنة من أيام الدنيا.
وقد فُرضت عدة احتمالات في تقدير الألف سنة المذكورة، فمن المفسرين من قدرها بقطع المسافات فقال بأن مقدار هذا اليوم لو سير فيه السير المعروف من البشر ألف سنة. ومنهم من قدرها بكثرة التصرفات، ومعنى ذلك أنه يحصل فيه من تصرفات الله ما لو كان من عمل الإنسان لكان حصول مثله في ألف سنة.
والمقصود هو التنبيه على عظم قدرة الله تعالى وسعة ملكه وحكمة تدبيره لأمور خلقه (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ذلك إشارة إلى الله تعالى المدبر لأمور خلقه يعلم الغيب ما غاب عن المخلوقين وما شاهدوه (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) الغالب الذي يخضع له كل شيء، الرحيم بعباده في تدبيره لشئونهم.
ثانيا: إبداع الله تعالى في خلق الإنسان:
قال تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي: أن الله سبحانه وتعالى الذي يدبر أمور الكون، هو الذي أتقن خلق جميع الأشياء وأحكمها (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) أي: وجعل أصل خلق الإنسان بخلق أبي البشر آدم من طين (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) أي: جعل أبناءه وذريته يتناسلون من خلاصة ماء حقير مبتذل لا يعبأ به، وهو المني الذي يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة، والسلالة مشتقة من سلّ يَسُل، فكأن الماء يسل من الإنسان، أي: ينفصل منه، والمهين الضعيف (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أي: ثم قوّمه وعدل خلقته في رحم أمه وأوجد فيه الحياة، فإذا هو في أحسن خلقة وأفضل تقويم، وهذه التسوية كانت لآدم عليه السلام الذي خلقه الله من طين. وأضيفت الروح إلى الله إضافة مِلك إلى مَالك، وقد يراد بها الاختصاص، لأن الروح لا يعلم كنهها إلا الله.
وبعد أن بين الله تعالى إتقانه في الخلق وأصل خلق الإنسان وإبداعه في تكوينه، امتن سبحانه على عباده بتعديده للنعم التي خصهم بها، فقال عز وجل: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي: وخلق لكم هذه الحواس: السمع لتسمعوا به الأصوات، والبصر لتبصروا به الأشياء، والعقل لتدركوا به الحق والهدى. وورد السمع بالإفراد لأنه من المصادر التي لا تجمع، أما الأبصار والأفئدة فقد وردت بصيغة الجمع باعتبار تعدد الناس (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) أي: قليلا ما تشكرون الله تعالى على نعمه التي أنعم بها عليكم، مثل نعمة السمع والبصر والفؤاد.
الخلاصة:
ما زال سياق هذه الآيات (4-8) يواصل تقرير أمور العقيدة من توحيد الله تعالى وإثبات البعث والجزاء؛ بالتأكيد على مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته في تدبير أمور عباده، حيث يصدر أمر تدبيره من السماء إلى الأرض، ثم تصعد إليه ليفصل فيها وليجازي عباده على أعمالهم يوم القيامة (الآيات: 4-5 )؛ ثم بين أصل خلق الإنسان وإتقانه تعالى لخلقه وإبداعه في تكوينه حيث أحسن صنعه، وامتن سبحانه على عباده بتعديده للنعم التي خصهم بها حيث جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة وسائر الجوارح، ونبهه على ضرورة شكرهم لنعم خالقهم اعترافا بفضله تعالى عليه (6-8).
قال تعالى: [وَقَالُوٓاْ أَ۟ذَا ضَلَلْنَا فِے اِ۬لَارْضِ إِنَّا لَفِے خَلْقٖ جَدِيدِۢۖ (9) بَلْ هُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ كَٰفِرُونَۖ (10) ۞ قُلْ يَتَوَفّ۪يٰكُم مَّلَكُ اُ۬لْمَوْتِ اِ۬لذِے وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَيٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَۖ (11) وَلَوْ تَر۪يٰٓ إِذِ اِ۬لْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَٰلِحاً اِنَّا مُوقِنُونَۖ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَأٓتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُد۪يٰهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ اَ۬لْقَوْلُ مِنِّے لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَ۬لْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَۖ (13) فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَآ إِنَّا نَسِينَٰكُمْۖ وَذُوقُواْ عَذَابَ اَ۬لْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَۖ (14)]
تمهيد:
ما زالت الآيات الكريمة تتابع تقرير عقيدة البعث والجزاء، وتفند أقوال المنكرين لها، وتصف حالهم يوم القيامة حين يقفون بين يدي الله تعالى أذلاء خائفين، ويعترفون بأن الله سبحانه وما أخبر به عن طريق رسله حق وصدق، حينئذ يتمنون الرجوع إلى الدنيا للقيام بالأعمال الصالحة، ولا ينفعهم ذلك لأن يوم القيامة هو يوم الجزاء، ولا مجال فيه للعودة إلى الدنيا.
شرح المفردات:
ضَلَلْنَا: تلفنا وصرنا ترابا.
نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ: مطأطئوها حياء وذلا وخزيا.
عَذَابَ اَ۬لْخُلْدِ: العذاب الدائم.
أولا: إنكار المشركين للبعث:
قال تعالى: (وَقَالُوٓاْ أَ۟ذَا ضَلَلْنَا فِے اِ۬لَارْضِ إِنَّا لَفِے خَلْقٖ جَدِيدِۢ) أي: وقال مشركو مكة المنكرون للبعث: أئذا متنا وفنيت أجسامنا واختلطت بالتراب (إِنَّا لَفِے خَلْقٖ جَدِيدِۢ) أي: أيخلقنا الله من جديد مرة أخرى ويجدد خلقنا، ونعود إلى الحياة مرة ثانية؟ والاستفهام في (أَ۟ذَا ضَلَلْنَا) للتعجب والاستحالة، لأن المنكرين تعجبوا واستبعدوا البعث بعد فناء الأجساد واختلاطها بالتراب، مغالطة للمؤمنين واستهزاء منهم بآيات الله تعالى ونشرا لكفرهم.
ولما أنكر المشركون البعث والنشور، أجابهم الله تعالى بقوله: (بَلْ هُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ كَٰفِرُونَۖ) أضرب الله تعالى عن كلامهم باستعماله «بل» التي تفيد الإضراب عن كلامهم السابق وتعيين حقيقة أخرى غير مصرح بها، والمعنى: ليس إنكارهم للبعث استبعادا واستهزاء، وإنما هي كفر المشركين بالله وجحودهم بلقاء ربهم خوفا من عقابه، وخشية مجازاتهم على معاصيهم.
وقد رد الله على المشركين وفند أقوالهم بيانا للحق وإبطالا لما زعموا من بهتان، فقال سبحانه: (قُلْ يَتَوَفّ۪يٰكُم مَّلَكُ اُ۬لْمَوْتِ اِ۬لذِے وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَيٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَۖ) أي: قل لهم ردا على مزاعمهم الواهية إن ملك الموت الذي وكل بقبض أرواحكم، سيقوم بما كلف به من قبض أرواحكم عند حضور أجلكم، ثم تبعثون وتردون إلى ربكم ليعاقبكم على إنكاركم للقائه وللبعث الذي أخبركم به.
وأصل التوفي: أخذ الشيء وافيا تاما، ثم غلب استعماله في قبض الروح، يقال: توفاه الله إذا قبض روحه واستوفى أجله.
ثانيا: حال منكري البعث يوم القيامة وجزاؤهم:
بعد أن أثبت الله تعالى البعث والرجوع إليه يوم القيامة، بين حال المجرمين المنكرين للبعث حينما يعاينون العذاب، ويقفون أمام الله تعالى أذلاء خائفين نادمين على أعمالهم في الدنيا، قال سبحانه مصورا هذا المشهد وما يشتمل عليه من الذل والهوان: (وَلَوْ تَر۪يٰٓ إِذِ اِ۬لْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ) أي: ولو ترى أيها الرسول حال المجرمين يوم القيامة وهم مطرقو رؤوسهم بين يدي ربهم ذلا وغما وندما على ما سلف منهم من إنكار البعث والنشور وغيرها من المعاصي، لرأيت أمرا مهولا وعجيبا لا يقدر هولُه لشدته وفظاعته (رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا) يقولون ربنا أبصرنا الحشر وأهواله وسمعنا ما كنا ننكر من أمر الرسل وصدقنا به (فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَٰلِحاً) أي: فارجعنا إلى الدنيا نعمل الأعمال الصالحة (اِنَّا مُوقِنُونَۖ) أي: إنا مصدّقون تصديقاً جازماً، وموقنون أن وعدك حق، ولقاءك حق.
ولما ندم المنكرون واعترفوا بالبعث بعد فوات الأوان، رد الله تعالى عليهم بقوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَأٓتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُد۪يٰهَا) أي: أن الله تعالى لو أراد أن يهدي جميع الخلائق لفعل، (وَلَٰكِنْ حَقَّ اَ۬لْقَوْلُ مِنِّے لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَ۬لْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَۖ) أي: ولكن ثبت القول مني وحق وعيدي بملء جهنم بالعصاة من الجن والناس أجمعين.
ولما بين الله تعالى للمشركين المنكرين للبعث والنشور أن لا رجوع إلى الدنيا، لأنه لا فائدة من رجوعهم إذ لو مكنهم من ذلك لعادوا لما نهو عنه، وأخبرهم بهذا، عاتبهم على ما ارتكبوه من المعاصي والذنوب في الدنيا فقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ: (فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَآ إِنَّا نَسِينَٰكُمْۖ وَذُوقُواْ عَذَابَ اَ۬لْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَۖ) أي: تمتعوا في العذاب بسبب تكذيبكم لهذا اليوم واستبعادكم وقوعه، وبسبب نسيانكم للقاء ربكم، إنا تركناكم وتخلينا عنكم، وذوقوا عذابا تخلدون فيها بغير انقطاع جزاء لكم على كفركم وتكذيبكم بربكم وبما أخبركم به من البعث والجزاء.
الخلاصة:
ما زالت الآيات الكريمة تتابع تقرير عقيدة التوحيد في شقها المتعلق بإثبات البعث والنشور والجزاء، وتفند أقوال المنكرين لها، وتصف حال المكذبين بالبعث وبلقاء الله يوم القيامة حين يقفون بين يديه تعالى رؤوسهم مطأطأة أذلاء خائفين، ويعترفون بأن الله سبحانه وما أخبر به عن طريق رسله حق وصدق، حينئذ يتمنون الرجوع إلى الدنيا للقيام بالأعمال الصالحة، ولا ينفعهم ذلك لأن يوم القيامة هو يوم الجزاء، ولا مجال فيه للعودة إلى الدنيا. وذكر ما يلاقونه من العذاب الشديد.
قال تعالى: (إِنَّمَا يُومِنُ بِـَٔايَٰتِنَا اَ۬لذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداٗ وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَۖ (15) تَتَجَاف۪يٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ اِ۬لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاٗ وَطَمَعاٗ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَۖ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٞ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَۖ (17) أَفَمَن كَانَ مُومِناٗ كَمَن كَانَ فَاسِقاٗۖ لَّا يَسْتَوُۥنَۖ (18) أَمَّا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمْ جَنَّٰتُ اُ۬لْمَأْو۪يٰ نُزُلاَۢ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَۖ (19) وَأَمَّا اَ۬لذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْو۪يٰهُمُ اُ۬لنَّارُۖ كُلَّمَآ أَرَادُوٓاْ أَنْ يَّخْرُجُواْ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ اَ۬لنّ۪ارِ اِ۬لذِے كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَۖ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ اَ۬لْعَذَابِ اِ۬لَادْن۪يٰ دُونَ اَ۬لْعَذَابِ اِ۬لَاكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَۖ (21) وَمَنَ اَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِۦ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآۖ إِنَّا مِنَ اَ۬لْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَۖ (22)).
شرح المفردات:
إِذَا ذُكِّرُواْ: وعظوا بها.
خَرُّواْ سُجَّداٗ: سقطوا على الأرض ساجدين.
تَتَجَاف۪يٰ: ترتفع وتبتعد.
قُرَّةِ أَعْيُنٖ: شيء نفيس تسر به العين وتفرح.
فَاسِقاٗۖ: الفسق: هو الخروج عن الطاعة وأحكام الشرع مطلقا.
اَ۬لْعَذَابِ اِ۬لَادْن۪يٰ: مصائب الدنيا.
اَ۬لْعَذَابِ اِ۬لَاكْبَرِ: عذاب النار.
التفسير:
أولا: صفات المؤمنين وجزاؤهم يوم القيامة
لما ذكر الله سبحانه حال الأشقياء وعاقبتهم يوم القيامة، أتبع ذلك بذكر حال السعداء وما أعدَّه لهم من نعيم في جنات الخلد، ليظل الإنسان متوسطا بين الخوف من الله تعالى وبين الطمع في رحمته، فقال سبحانه: (إِنَّمَا يُومِنُ بِـَٔايَٰتِنَا اَ۬لذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداٗ وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَۖ) (15).
إنما يصدق بحججنا وبآيات القرآن المومنون المتقون الذين إذا وعظوا بها استمعوا لها وسقطوا على وجوههم ساجدين، ونزَّهوا ربهم عن كل نقص، وهم لا يستكبرون عن عبادة الله ولا عن السجود له.
(تَتَجَاف۪يٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ اِ۬لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاٗ وَطَمَعاٗ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَۖ) (16).
ترتفع جنوب هؤلاء الذين يؤمنون بآيات الله عن فُرُشِهم التي كانوا عليها في نومهم يتركونها ويتوجهون لله، يتهجدون لربهم في صلاة الليل، يدعون ربهم خوفًا من العذاب وطمعًا في الثواب ورحمته، ومما رزقناهم من المال ينفقون في وجوه الخير في طاعة الله وفي سبيله.
(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٞ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَۖ) (17).
فلا يعلم أحد مقدار ما أعده الله وأخفاه لهم من النعيم العظيم واللذات التي لم يطلع على نظيرها أحد، جزاء لهم على أعمالهم الصالحة في الدنيا.
ثانيا: مقارنة بين جزاء المؤمنين وجزاء الفاسقين يوم القيامة:
لما ذكر تعالى حال المجرمين يوم القيامة، وحال المؤمنين المتقين، وما أعدَّه لهم في جنات النعيم، عقد مقارنة بين الفريقين، وذكر أنهما لا يستويان، لأن عدالة الله تقتضي التمييز بين المؤمن الصالح، والفاسق الفاجر.
قال تعالى: (أَفَمَن كَانَ مُومِناٗ كَمَن كَانَ فَاسِقاٗۖ لَّا يَسْتَوُۥنَۖ) (18).
أفمن كان في الحياة الدنيا مؤمنًا بالله مطيعًا له عاملًا بأوامره مجتنبًا لنواهيه، كمن كان خارجًا عن طاعته؛ لا يستوي الفريقان عند الله في الجزاء.
وورد في سبب نزول هذه الآية أنه كان بين «علي بن أبي طالب» و«والوليد بن عُقبة بن أبي مُعيط» تنازع وخصومة، فقال الوليد بن عُقبة لعلي: اسكت فإِنك صبيٌ، وأنا والله أبسط منك لساناً، وأشجع منك جناناً، وأملأ منك حشواً في الكتيبة، فقال له علي: اسكتْ فإِنك فاسق فنزلت. (أَفَمَن كَانَ مُومِناٗ كَمَن كَانَ فَاسِقاٗۖ لَّا يَسْتَوُۥنَۖ).
بعد تقرير الله تعالى عدم استواء المؤمنين والفاسقين، فصل جزاء الفريقين، وبدأ بجزاء المؤمنين، فقال سبحانه: (أَمَّا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمْ جَنَّٰتُ اُ۬لْمَأْو۪يٰ نُزُلاَۢ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَۖ) (19).
أما الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات فجزاؤهم المعدّ لهم جنات المأوى التى فيها مساكنهم، ضيافة لهم؛ جزاءً على ما قدموه في الدنيا من الاعتقاد الصحيح والعمل الصالح.
ثم بين الله تعالى جزاء الفاسقين، فقال: (وَأَمَّا اَ۬لذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْو۪يٰهُمُ اُ۬لنَّارُۖ كُلَّمَآ أَرَادُوٓاْ أَنْ يَّخْرُجُواْ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ اَ۬لنّ۪ارِ اِ۬لذِے كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَۖ) (20).
وأما الذين خرجوا عن طاعة الله وعملوا بمعاصيه فمستقرهم النار، كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها، وقيل لهم -توبيخاً وتقريعاً-: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون في الدنيا.
بعد ذلك بين سبحانه أنه سيعجل لهم عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة فقال: (وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ اَ۬لْعَذَابِ اِ۬لَادْن۪يٰ دُونَ اَ۬لْعَذَابِ اِ۬لَاكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَۖ) (21)
ولنذيقن هؤلاء الفاسقين المكذبين من العذاب الأدنى من البلاء والمحن والمصائب في الدنيا لعلهم يرجعون ويتوبون من ذنوبهم قبل العذاب الأكبر يوم القيامة، في نار جهنم.
(وَمَنَ اَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِۦ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآۖ إِنَّا مِنَ اَ۬لْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَۖ) (22).
ولا أحد أظلم لنفسه ممن وُعِظ وذُكِّرَ بآيات الله وحججه البينات وأعرض عنها ولم يتعظ بها، إننا سننتقم من المجرمين الذين أعرضوا عن آيات الله وحججه، ولم ينتفعوا بها.
الخلاصة:
بعد أن ذكر الله تعالى علامة المشركين المكذبين بآيات الله تعالى وبلقائه يوم القيامة، من طأطأة رؤوسهم ذلا وغما بما فعلوا في الدنيا، وذكر ما يلاقونه من العذاب الشديد؛ بين سبحانه علامة أهل الإيمان المتمثلة في تلذذهم بعبادة ربهم وتسبيحه وحمده، ومداومتهم على الصلاة في جوف الليل خوفا من ربهم وطمعا في رحمته، وأردف ذلك ببيان ما يلاقونه من نعيم مقيم وقرة عين لا تنقطع. ثم قارن بين حال المؤمنين وحال الفاسقين يوم القيامة وبين أنهما لا يستويان.
وقد أكدت هذه الآيات على إقرار البعث والجزاء، وفندت مزاعم المشركين المكذبين، ووعدتهم بالعذاب الأليم جزاء لهم على تكذيبهم وإنكار آيات ربهم.
قال تعالى: وَلَقَدَ اٰتَيْنَا مُوسَي اَ۬لْكِتَٰبَ فَلَا تَكُن فِے مِرْيَةٖ مِّن لِّقَآئِهِۦۖ وَجَعَلْنَٰهُ هُديٗ لِّبَنِےٓ إِسْرَآءِيلَۖ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمُۥٓ أَئِمَّةٗ يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْۖ وَكَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَۖ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَ۬لْقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَۖ (25)
تمهيد:
تناولت الآيات موضوع الدرس التأكيد على إثبات الرسالة من خلال إبراز التكامل بين رسالة موسى عليه السلام وبين رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك تثبيتا لقلبه وللمؤمنين معه، في الوقت الذي اشتد عليهم الأمر وبدأ المشركون يشددون الخناق على المسلمين. كما تناولت الآيات حكم الله وفصله بين عباده يوم القيامة في الأمور التي اختلفوا فيها في الدنيا، بحيث يجازي كلا بما يستحق.
شرح المفردات:
اَ۬لْكِتَٰبَ: التوراة.
مِرْيَةٖ: شك وتردد.
أَئِمَّةٗ: قادة هداة.
هُديٗ: مرشدا وهاديا.
يَفْصِلُ: يحكم ويقضي.
أولا: إثبات رسالة موسى عليه السلام تطمينا للنبي صلى الله عليه وسلم:
لما ذكر الله سبحانه إنكار المشركين لآيات الله وإعراضهم عنها في الآيات السابقة، انتقل إلى تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم مخبرا إياه بأن ما تعرض له من قومه من أصناف وأنواع الأذى، ليس خاصا به، بل هو شأن الأنبياء والمرسلين، ومن بينهم موسى عليه السلام الذي لقي من فرعون ما لقي.
قال تعالى: (وَلَقَدَ اٰتَيْنَا مُوسَي اَ۬لْكِتَٰبَ فَلَا تَكُن فِے مِرْيَةٖ مِّن لِّقَآئِهِۦۖ وَجَعَلْنَٰهُ هُديٗ لِّبَنِےٓ إِسْرَآءِيلَۖ) أي: ولقد أعطينا موسى بن عمران التوراة، فلماذا ينكر عليك المشركون أن يؤتيك كتابا آخر؟ والمراد بقوله: (وَلَقَدَ اٰتَيْنَا) أرسلنا موسى، فذكر إيتائه الكتاب كناية عن إرساله: (فَلَا تَكُن فِے مِرْيَةٖ مِّن لِّقَآئِهِۦ) أي: فلا تكن في شك من لقاء موسى عليه السلام ليلة الإسراء والمعراج أو يوم القيامة. والكتاب على هذا: التوراة. وقيل: الكتاب هنا جنس، والمعنى: ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تشك أنت في لقائك الكتاب الذي أنزل عليك، وعبر باللقاء عن إنزال. والمقصود تقرير رسالته صلى الله عليه وسلم، وتحقيق أن ما معه من الكتاب وحي من الله تعالى أنزل عليه، كما أنزلت التوراة على نبي الله موسى عليه السلام.
وذكر موسى في هذه الآيات من بين سائر الرسل لقرب العهد به، ولوجود من كان يؤمن به من اليهود والنصارى بين المسلمين، ليثبت لهم أن القرآن وحي من الله تعالى مثل التوراة، ولم يذكر عيسى عليه السلام مع قربه لعدم اعتراف اليهود بنبوته.
(وَجَعَلْنَٰهُ هُديٗ لِّبَنِےٓ إِسْرَآءِيلَۖ) أي: جعلنا التوراة هدايةً لبني إِسرائيل من الضلالة، فالضمير في (وَجَعَلْنَٰهُ هُديٗ) يجوز أن يعود على الكتاب أو على موسى عليه السلام، وكلاهما سبب هدى، فوصف بأنه هدى للمبالغة في حصول الاهتداء به.
(وَجَعَلْنَا مِنْهُمُۥٓ أَئِمَّةٗ يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْۖ) أي: وجعلنا منهم قادةً يُتبعون في الخير ويدعون الخلق إِلى طاعتنا ويرشدونهم إِلى الدين بأمرنا وتكليفنا (لَمَّا صَبَرُواْۖ) لما تحملوا مشاق الدعوة في سبيل الله، وصبروا على ما لقوه من فرعون وقومه من العذاب والاضطهاد (وَكَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَۖ) وكانوا يصدقون بآياتنا أشد التصديق وأبلغه.
ثانيا: فصل الله في أمور عباده يوم القيامة:
قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَ۬لْقِيَٰمَةِ) أي: إِن ربك يقضي ويحكم بين المؤمنين وغيرهم يوم القيامة، فيميز بين المحقِّ والمبطل، حتى يكون الجزاء لكل بما يستحقه قسطًا وعدلا، وفق العمل الذي عمله. ولا يستطيع أن يحكم بينهم أحد إلا الله سبحانه وتعالى (فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَۖ) أي: فيما يختلفون فيه من أمور الدين من البعث والجزاء وغيرهما.
والضمير في (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) لجميع الخلق، وقيل: لبني إسرائيل خاصة. واستعمل الضمير المنفصل ﴿هو﴾ ليدل على التأكيد والاختصاص.
والآية تقتضي أن اختلافهم أبطل ما جاءهم من الهدى والحق؛ لأنه اختلاف في العقيدة وأصل الدين، ولأنه لا يستند إلى أدلة، بل هو مبني على اتباع الهوى والتعصب للرأي.
وليس من هذا الاختلاف، اختلاف الأئمة في الفروع وفي فهم الأحكام، مما لا يناقض الأصول، فكل هذا محمود غير مذموم لوقوعه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت أن الصحابة اختلفوا في زمان الرسالة ولم ينكر ذلك عليهم.
وتخاطب هذه الآية النبي صلى الله عليه وسلم ومن خلاله أمته، وتوجههم إلى تجنب الاختلاف بينهم الذي يسبب الشقاق والنزاع ويقضي على روح التآلف والمودة بين المسلمين.
الخلاصة:
تقرر هذه الآيات أصلا من أصول العقيدة وهو الرسالة والنبوة، حيث أثبتت الرسالة لموسى عليه السلام، وبينت للنبي صلى الله عليه وسلم أن الله جعل من بني إسرائيل أئمة يدعون الناس إلى الخير ويرشدونهم إلى الطريق المستقيم بعدما تحملوا وصبروا على إيذاء فرعون وجنوده، وبعدما صدقوا تصديقا جازما بما أنزل على موسى عليه السلام. وفي هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيت له، بأن ما يلاقيه من قومه من إنكار رسالته وتعريضه للأذى لن يدوم كثيرا، فكما وفق الله تعالى بني إسرائيل وجعل منهم من يرشد الناس ويعلمهم دينهم، سيجعل من هذه الأمة من يتولى نشر الإسلام والدفاع عنه.
قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْماَۢ بِجَهَٰلَةٖ فَتُصْبِحُواْ عَلَيٰ مَا فَعَلْتُمْ نَٰدِمِينَۖ (6) وَاعْلَمُوٓاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اَ۬للَّهِۖ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِے كَثِيرٖ مِّنَ اَ۬لَامْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اَ۬للَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اُ۬لِايمَٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِے قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ اُ۬لْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَۖ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لرَّٰشِدُونَ (7) فَضْلاٗ مِّنَ اَ۬للَّهِ وَنِعْمَةٗۖ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞۖ (8)﴾ [الحجرات: 6-8]
تمهيد: في هذه الآيات أمر بوجوب التثبت من الأخبار، والتحذير من قبول كل الأقوال، منعا من وقوع الفتنة بين أفراد المجتمع. وهذا أدب اجتماعي عام ضروري للحفاظ على وحدة الأمة وتماسكها، واستئصال أسباب المنازعات فيما بينها.
شرح المفردات:
فاسق: خارج عن حدود الدين أو الشرع، من الفسوق وهو الخروج من الشيء والانسلاخ منه.
بنبإ: بخبر.
فتبينوا: أي: اطلبوا بيان الحقيقة ومعرفة الصدق من الكذب.
فتصبحوا: فتصيروا.
نادمين: مغتمين غما لازما، متمنين أنه لم يقع.
لعنتم: لوقعتم في العنت وهو الجهد والهلاك والإثم.
أولا: سبب نزول الآية:
جمهور المفسرين على أن هذه الآية نزلت في شأن الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط، حينما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق ليأخذ منهم زكاتهم، حيث واعدهم عليه الصلاة والسلام أن يرسل إليهم رجلاً ليأخذ منهم الزكاة، فلما حان الوقت أرسل إليهم الوليد بن عقبة، فلما رأوه أقبلوا إليه جميعاً فرحاً برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخاف رضي الله عنه منهم، قيل بسبب إحنة كانت بينه وبينهم، فرجع إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وأخبره أنهم ارتدوا عن الإسلام، فلما قص الخبر على النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم خالد بن الوليد وأمره ألاّ يتسرع وأن يتثبت من الخبر، فأتاهم ليلاً وبعث أناسا يدخلون بينهم لاستكشاف حالهم، فلما أتوهم وجدوهم متمسكين بالإسلام، وسمعوا الأذان، ورأوهم يؤدون الصلاة، فأتوا خالد بن الوليد رضي الله عنه فأخبروه، فعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فنزلت هذه الآية الكريمة: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ)﴾ [الحجرات: 6].
وقد اتفق المفسرون القائلون بنزولها في شأن الوليد بن عقبة على أنه ظنّ ذلك فأخطأ، وليس في الروايات ما يقتضي أنه تعمد الكذب حتى يكون فاسقا، والآية وإن وردت على سبب خاص فهي عامة لبيان التثبت وترك الاعتماد على قول الفاسق، لقاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ثانيا: وجوب التثبت في نقل الخبر وقبوله:
قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْماَۢ بِجَهَٰلَةٖ فَتُصْبِحُواْ عَلَيٰ مَا فَعَلْتُمْ نَٰدِمِينَۖ﴾ [الحجرات: 6]
هذا ثالث نداء للمومنين في هذه السورة، ابتدئ به غرض آخر يتعلق بالآداب في علاقات الناس بعضهم مع بعض. ومعنى الآية: يا أيها المؤمنون إن جاءكم فاسق بأي نبإ فتوقفوا فيه، وتطلّبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا على قوله دون تثبت؛ مخافة أن تصيبوا قوما بالأذى وأنتم جاهلون حالهم، فتندموا على ما صدر منكم وتتمنّوا أن لو لم تكونوا فعلتم ذلك.
وقد استدل الجمهور بهذه الآية للقول بحجية خبر الواحد العدل، لأن الآية بمفهومها المخالف تقتضي أن خبر غير الفاسق مقبول، كما استدلوا بهذه الآية أيضا على أن المسلمين ليسوا كلهم عدولا، لأن الله أمر بالتبين قبل القبول، فالمجهول الحال يخشى أن يكون فاسقا.
ثالثا: وجوب طاعة الرسول واتباعه:
قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوٓاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اَ۬للَّهِۖ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِے كَثِيرٖ مِّنَ اَ۬لَامْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اَ۬للَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اُ۬لِايمَٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِے قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ اُ۬لْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَۖ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لرَّٰشِدُونَ﴾ [الحجرات: 7]
تضمنت هذه الآية موعظة لهؤلاء المؤمنين الذين كانوا يريدون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبع رأيهم في الحوادث والأخبار، بأن عليهم طاعة الرسول واتباعه وليس العكس، حتى لا يقعوا في العنت والحرج، لأنه رسول يوحى إليه، قال تعالى: (وَاعْلَمُوٓاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اَ۬للَّهِۖ) أي: واعلموا أن بين أظهركم رسول اللّه فعظموه ووقروه وتأدبوا معه وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم، وأشفق عليكم منكم، وأنه: (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِے كَثِيرٖ مِّنَ اَ۬لَامْرِ لَعَنِتُّمْ) أي: لو سارع إلى ما أردتم منه قبل وضوح الأمر، وانقاد لما أشرتم به عليه من الآراء لوقعتم في الحرج والإثم، ولكنه لا يطيعكم في غالب ما تريدون قبل وضوح وجهه له، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه.
(وَلَٰكِنَّ اَ۬للَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اُ۬لِايمَٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِے قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ اُ۬لْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَۖ) أي: ولكنّ جمعا منكم بريئون مما أنتم عليه من تصديق الكاذب وتزيين الإيقاع بالبريئ، وإرادة أن يتبع الحق أهواءهم، لأن اللّه تعالى جعل الإيمان أحب الأشياء إليهم، فلا يقع منهم إلا ما يوافقه ويقتضيه من الأمور الصالحة وترك التسرع في الأخبار، وكرّه إليهم هذه الأمور الثلاثة: الكفر والفسوق والعصيان.
(أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لرَّٰشِدُونَ) أي: هؤلاء المتصفون بهذه الصفة هم الراشدون، السالكون طريق السعادة الملتزمون بالاستقامة.
(فَضْلاٗ مِّنَ اَ۬للَّهِ وَنِعْمَةٗۖ) أي: هذا العطاء الذي منحكم الله تفضل منه عليكم وإنعام منه سبحانه.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞۖ) أي: واللّه عليم بمن يستحق الهداية ومن يستحق الغواية، حكيم في تدبير شؤون خلقه وصرفهم فيما شاء من قضائه.
ما يستفاد من الآيات:
تهدف هذه الآيات إلى وضع قواعد نقل الأخبار وتلقيها، وهي صدق الناقل وتثبت المتلقي، وهو أمر من شأنه أن يسهم في التآلف والتماسك الاجتماعي، ويحد من أسباب الضغينة والبغضاء الذي يسببه إطلاق الإشاعات والأقوال الكاذبة، خاصة تلك التي تمس بالأعراض أو تعرض حقوق الناس للضياع فيصبح المتسرع في التصديق والحكم على الناس نادما على العجلة وترك التأني والتثبت.
الدرس (17): سورة الحجرات الآيات: [9-10]
قال تعالى: وَإِن طَآئِفَتَٰنِ مِنَ اَ۬لْمُومِنِينَ اَ۪قْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتِ اِحْد۪يٰهُمَا عَلَي اَ۬لُاخْر۪يٰ فَقَٰتِلُواْ اُ۬لتِے تَبْغِے حَتَّيٰ تَفِےٓءَ ا۪لَيٰٓ أَمْرِ اِ۬للَّهِۖ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوٓاْۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ يُحِبُّ اُ۬لْمُقْسِطِينَۖ (9) إِنَّمَا اَ۬لْمُومِنُونَ إِخْوَةٞ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْۖ وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَۖ (10)
تمهيد:
وبعد أن حذر المولى عز وجل المؤمنين في الآيات السابقة من نبأ الفاسق، بين في هاتين الآيتين ما قد يترتب عن هذا الخبر من الفتن التي قد تصل إلى الاقتتال، فأمر عز وجل في حالة حدوث ذلك بالإصلاح بين الفئتين المتنازعتين بالوسائل السلمية كالنصيحة والوعظ والإرشاد والتحكيم، فإن طغت إحدى الفئتين على الأخرى، فيتعين على الدولة قتالها حتى ترجع عن غيها واعتدائها وتعود إلى رشدها حماية لرباط الأخوة بين الطائفتين. ثم أمر الوسطاء والأطراف المتنازعة بتقوى الله وطاعة أوامره.
شرح المفردات:
طائفتان: تثنية طائفة وهي الجماعة من الناس.
اقتتلوا: قاتل بعضهم بعضا.
بغت: تعدت وجارت، من البغي وهو الظلم.
تفيء إلى أمر الله: ترجع إلى الحق.
فأصلحوا بينهما بالعدل: أزيلوا آثار النزاع بالإنصاف وضمان المتلفات.
وأقسطوا: اعدلوا، من الإقساط الذي هو إزالة الظلم والجور.
يحب المقسطين: يحمد العادلين بحسن الجزاء على فعلهم.
أولا: سبب نزول الآيتين:
روي في سبب نزول الآيتين مجموعة من الروايات منها: ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله بن أبي، (فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم وركب حمارا، فانطلق المسلمون يمشون معه وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار منهم: والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، فشتمه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنها أنزلت: « وَإِن طَآئِفَتَٰنِ مِنَ اَ۬لْمُومِنِينَ اَ۪قْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَاۖ...) صحيح البخاری.
وقد ذكر المفسرون أسبابا أخرى لنزول الآيتين يمكن الجمع بينها بأنه قد تتعدد أسباب النزول ويكون النازل واحدا، فتكون الآيتان قد نزلنا لهذه الأسباب كلها. والقاعدة أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قال ابن جزي: ثم حكمها باق إلى آخر الدهر.
ثانيا: وسائل فض المنازعات بين المسلمين:
قال تعالى: (وَإِن طَآئِفَتَٰنِ مِنَ اَ۬لْمُومِنِينَ اَ۪قْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتِ اِحْد۪يٰهُمَا عَلَي اَ۬لُاخْر۪يٰ فَقَٰتِلُواْ اُ۬لتِے تَبْغِے حَتَّيٰ تَفِےٓءَ ا۪لَيٰٓ أَمْرِ اِ۬للَّهِۖ) أي: إذا تقاتلت فئتان من المسلمين، فعلى ولي الأمر أن يسلك ما يلي:
الوسيلة الأولى: الإصلاح بينهما بالنصح والدعوة إلى الله والإرشاد إلى الحق ورفع أسباب الخلاف.
وقد عبر القرآن الكريم ب (إن) للدلالة على ندرة وقوع ذلك بين المومنين، والخطاب موجه لولاة الأمور لأن هذا من التزاماتهم بمقتضى البيعة الشرعية، ولأنهم وحدهم من يملك الحق في استعمال القوة عند الحاجة إليها لحماية الأفراد والمجتمع.
ووصف المتقاتلين بالمؤمنين يدل على أن المعصية، مهما عظمت لا تخرج صاحبها من الإيمان. وإنما قال اقتتلوا ولم يقل اقتتلا لأن الطائفتين في معنى القوم أو الناس، أو لأن أقل الجمع اثنان.
الوسيلة الثانية: إلزام الفئة المعتدية وحملها بالقوة على الرجوع إلى جادة الصواب والرجوع عن غيها واعتدائها؛ لكن القوة لا يلجأ إليها ولي الأمر إلا إذا اعتدت أو تجاوزت إحدى الفئتين على الأخرى، ولم تتقبل النصيحة، ففي هذه الحالة يتعين على المسلمين في شخص الحاكم أو الدولة بمؤسساتها المختصة أن يقاتلوا الطائفة الباغية حتى ترجع إلى حكم الله وتترك البغي والعدوان، ويكون القتال بالسلاح وغيرها مما يحقق المصلحة، وهي إرغام الفئة المعتدية على الرجوع عن اعتدائها، فإن تحقق المطلوب سلما بغير سلاح فذلك أفضل، وكانت الزيادة إسرافا وتجاوزا، وإن تعين السلاح، فيكون مغيا بالفيئة والرجوع، لما تقرر أن الضرورة تقدر بقدرها.
ثالثا: العدل أساس نجاح الصلح وتثبيته:
قال تعالى: (فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوٓاْۖ)، أي: اعدلوا بينهم فيما كان أصاب بعضهم بعضا، بالقسط، وهو العدل. وتقييد الإصلاح بالعدل لأن الصلح بعد المقاتلة مظنة للحيف، (إِنَّ اَ۬للَّهَ يُحِبُّ اُ۬لْمُقْسِطِينَۖ) أي لأن الله يحب العادلين ويجازيهم أحسن الجزاء.
وتدل الآية على أن رجوع الفئة المعتدية عن اعتدائها وإلقاءها لسلاحها ليس غاية في حد ذاته، بل الغاية الكبرى هي إزالة أسباب النزاع وإرجاع المظالم وإقامة العدل بين الطائفتين في الحكم، وتحري الصواب المطابق لحكم الله، حتى لا يتجدد القتال بینهما مرة أخرى، فالإسلام يأمر بالعدل في كل الأمور،
رابعا: وجوب الإصلاح بين المومنين للمحافظة على الأخوة الإيمانية:
علل القرآن الكريم الأمر بالإصلاح بين المومنين بالأخوة التي تجمع بينهم، قال تعالى: (إِنَّمَا اَ۬لْمُومِنُونَ إِخْوَةٞ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْۖ وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَۖ) أي: إنما المؤمنون إخوة في الدين، فأصلحوا بين أخويكم إذا اقتتلا وخافوا الله في جميع أموركم؛ رجاء أن ترحموا.
وإنما ذكر أخويكم بلفظ التثنية لأن أقل من يقع بينهم البغي اثنان، وقيل أراد بالأخوين الأوس والخزرج، وقرأ ابن عامر: (بين إخوتكم)، بالتاء على الجمع، وقرئ (بين إخوانكم) بالنون على الجمع أيضا.
الخلاصة:
تهدف هذه الآيات إلى تعزيز الأخوة بين المسلمين والتعايش بينهم والقضاء على كل أنواع الخلافات، کما تجعل العدل أساس التآلف بينهم، والإصلاح وسيلة لحل ما يحصل بينهم من نزاع.
الدرس (18): سورة الحجرات الآية: [11]
قال تعالى: يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٞ مِّن قَوْمٍ عَس۪يٰٓ أَنْ يَّكُونُواْ خَيْراٗ مِّنْهُمْ وَلَا نِسَآءٞ مِّن نِّسَآءٍ عَس۪يٰٓ أَنْ يَّكُنَّ خَيْراٗ مِّنْهُنَّۖ وَلَا تَلْمِزُوٓاْ أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُواْ بِالَالْقَٰبِۖ بِيسَ اَ۬لِاسْمُ اُ۬لْفُسُوقُ بَعْدَ اَ۬لِايمَٰنِۖ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لظَّٰلِمُونَۖ (11)
تمهيد:
تأتي الآية موضوع الدرس لبيان بعض ما ينبغي أن تكون عليه علاقة المؤمن مع أخيه المؤمن مما يقوى الرابطة الأخوية بينهم، من الامتناع عن السخرية، واللمز والتنابز بالألقاب.
شرح المفردات:
لا يسخر: من السخرية: الازدراء والاحتقار عن طريق محاكاة القول أو الفعل أو الإشارة أو غيرها.
قوم من قوم: القوم في الآية هم الرجال خاصة.
لا تلمزوا أنفسكم: لا يعب بعضكم بعضا.
ولا تنابزوا بالألقاب: لا تتداعوا بالمكروه من الألقاب.
بيس الاسم: ساء الاسم.
نهت الآية المؤمنين عن ثلاث صفات مذمومة، لأنها تؤذي الناس في حضورهم وتزدري بأحوالهم وأسمائهم وصفاتهم، وذلك على الشكل الآتي:
أولا: السخرية من الناس:
نهى الحق سبحانه وتعالى عباده المومنين عن السخرية من الناس، والاستهزاء بهم واحتقارهم، فقال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٞ مِّن قَوْمٍ) أي: يا أيها المؤمنون بالله ورسوله لا يهزأ قوم من قوم، والمراد بالقوم هنا الرجال خاصة.
وقد روي في سبب نزول قوله تعالى: (لَا يَسْخَرْ قَوْمٞ مِّن قَوْمٍ) روايات كثيرة، قال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم، استهزؤوا بفقراء الصحابة، مثل عمار وخباب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلیمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم. وقيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلما، وكان المسلمون إذا رأوه قالوا: ابن فرعون هذه الأمة، فشكا ذلك إلى رسول الله، فنزلت.
وقد علل القرآن الكريم نهيه عن السخرية بالناس واحتقارهم فقال جل من قائل: (عَس۪يٰٓ أَنْ يَّكُونُواْ خَيْراٗ مِّنْهُمْ) أي: عسى أن يكون المسخور منهم خيرا عند الله تعالى من الساخرين؛ لأن الناس لا يطلعون إلا على الظواهر.
قال تعالى: (وَلَا نِسَآءٞ مِّن نِّسَآءٍ عَس۪يٰٓ أَنْ يَّكُنَّ خَيْراٗ مِّنْهُنَّۖ) أي: ولا يسخر نساء من نساء عسى أن يكون المسخور منهن خيرا من الساخرات، لأن مناط الخيرية ليس هو ما يظهر من الصور والأشكال، التي عليها يدور أمر السخرية، وإنما هي الأمور الكامنة في القلوب، من تحقيق الإيمان والإخلاص والعمل الصالح، والكثير من هذه الأمور خفية، فقد يسخر الإنسان ممن عظمه الله، ويحتقر من وقره الله، لذلك ينبغي ألا يجترئ أحد على الاستهزاء بأحد إذا رآه رث الحال، أو ذا عاهة في بدنه.
وسبب نزول قوله تعالى: (وَلَا نِسَآءٞ مِّن نِّسَآءٍ)، أن صفية بنت حيي بن أخطب أتت رسول الله، فقالت: يا رسول الله، إن النساء يعيرنني، ويقلن لي: يا يهودية بنت يهوديين! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلا قلت: إن أبي هارون، وإن عمي موسى، وإن زوجي محمد، فأنزل الله هذه الآية. وقيل: نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم عيرن أم سلمة بالقصر.
وتنكير قوم ونساء في الآية؛ إما لإرادة البعض، أي: لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض، وإما لإرادة الشيوع، فتكون كل جماعة منهم منهية عن السخرية.
ثانيا: لمز الناس والطعن فيهم:
نهی الحق سبحانه عن اللمز بقوله: (وَلَا تَلْمِزُوٓاْ أَنفُسَكُمْ)، أي: ولا تلمزوا الناس، ولا يطعن بعضكم على بعض، ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو فعل أو إشارة. وقد جعل الله لمز بعض المؤمنين لمزا للنفس، لأنهم كنفس واحدة، فمتى عاب المؤمن أخاه، فكأنما عاب نفسه.
وقيل لا تفعلوا ما تلمزون به؛ فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه.
والفرق بين السخرية واللمز: أن السخرية احتقار الشخص مطلقا، على وجه مضحك بحضرته، واللمز: التنبيه على معایبه، سواء كان على شيء مضحك أم غيره، وسواء أكان بحضرته أم لا، وعلى هذا يكون اللمز أعم من السخرية، ويكون من عطف العام على الخاص، لإفادة الشمول.
والفرق بين الهمز واللمز أن الهمز يكون بالفعل، واللمز يكون بالقول، وقد عاب الله من اتصف بذلك.
ثالثا: التنابز بالألقاب وتسمية الناس بما يكرهون من الأسماء
نهى الحق سبحانه عن التنابز بالألقاب، فقال: (وَلَا تَنَابَزُواْ بِالَالْقَٰبِۖ) والتنابز بالألقاب التداعي بها، أي: لا يدع أحد أحدا بلقب يكرهه.
روي عن أبي جبيرة بن الضحاك رضي الله عنه قال: فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة (وَلَا تَنَابَزُواْ بِالَالْقَٰبِۖ بِيسَ اَ۬لِاسْمُ اُ۬لْفُسُوقُ بَعْدَ اَ۬لِايمَٰنِۖ) قال: قدم علينا رسول الله لا وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يا فلان» فيقولون: مه یا رسول الله، إنه يغضب من هذا الاسم، فأنزلت هذه الآية (وَلَا تَنَابَزُواْ بِالَالْقَٰبِۖ). سنن أبي داود
وقد ختم الحق سبحانه هذه الآية بما يدل على التنفير من هذه الصفات الذميمة، ودعوة من صدرت منه عن جهالة إلى التوبة إلى الله من ذلك، قال تعالى: (بِيسَ اَ۬لِاسْمُ اُ۬لْفُسُوقُ بَعْدَ اَ۬لِايمَٰنِۖ) أي: ساء الوصف أن يسمى الرجل فاسقا أو كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته، أو أن يذكر بالفسوق بعد الدخول في الإيمان.
ثم قال تعالى: (وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لظَّٰلِمُونَۖ) أي: ومن لم يتب عما نهى الله عنه من الأمور الثلاثة (السخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب) فهو من الظالمين، بسبب العصيان بعد الطاعة، وتعریض النفس للعذاب.
وتهدف الآية إلى المحافظة على الألفة والمحبة بين أفراد المجتمع، ونبذ كل أسباب الفرقة والنزاع والعداوة والبغضاء، التي منها السخرية بالناس والاستهزاء بأحوالهم وهيآتهم واللمز فيهم وتسميتهم بها يكرهون من الأسماء، حتى يكون المجتمع الإسلامي متماسکا متعاونا على الخير، تسود فيه المحبة والتآلف.
قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ اُ۪جْتَنِبُواْ كَثِيراٗ مِّنَ اَ۬لظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ اَ۬لظَّنِّ إِثْمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاًۖ اَيُحِبُّ أَحَدُكُمُۥٓ أَنْ يَّاكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيِّتاٗ فَكَرِهْتُمُوهُۖ وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞۖ).
تمهيد:
هذه الآية لما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن ومع الناس كافة، فهذه الآية تنهى المؤمن عن إساءة الظن بالناس وتتبع عوراتهم، واغتيابهم.
شرح المفردات
اجتنبوا: ابتعدوا.
الظن: التهمة بدون دليل.
إثم: ذنب مؤثم.
ولا تجسسوا: ولا تبعثوا عن عورات الناس، وكشف ما ستروه.
ولا يغتب: ولا تذكر أخاك بما يكره في غيبته.
نهت الآية المؤمنين عن ثلاث صفات مذمومة تتعلق بعلاقة الإنسان بأخيه، لتكون منظومة أخلاقية إسلامية متميزة، وهي:
أولا: سوء الظن بالناس:
قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ اُ۪جْتَنِبُواْ كَثِيراٗ مِّنَ اَ۬لظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ اَ۬لظَّنِّ إِثْمٞۖ). أي: يا أيها المصدقون باللّه ورسوله، ابتعدوا عن كثير من ظن السوء بأهل الخير، ومن ظاهره الصلاح والتقوى والأمانة. وقد علل القرآن الكريم النهي عن سوء الظن بالناس بأنه ذنب. وقيل: المراد بالإثم هنا الكذب، وقيل: إنما يكون إثما إذا تكلم به، وأما إذا لم يتكلم به فلا حرج فيه؛ لأن الإنسان قد لا يقدر على دفع الخواطر.
واستدل بعض العلماء بهذه الآية على صحة سد الذرائع في الشرع، لأنه أمر باجتناب كثير من الظن، للسلامة من الوقوع في بعض الظن الذي هو إثم.
ثانيا: التجسس على الناس:
قال تعالى: (وَلَا تَجَسَّسُواْ). أي: ولا تبحثوا عن عورات الناس ومعايبهم، وتستكشفوا ما ستروه، وتستطلعوا أسرارهم ومثالبهم لتذيعوها بين الناس، وقرأ الحسن: تحسسوا بالحاء، فالتحسس بالحاء يكون في الخير والتجسس بالجيم في الشر.
ثالثا: الغيبة:
قال تعالى: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاًۖ اَيُحِبُّ أَحَدُكُمُۥٓ أَنْ يَّاكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيِّتاٗ فَكَرِهْتُمُوهُۖ وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞۖ). أي: لا يذكر بعضكم بعضا في غيبته بما يكره، وتنفيرا من هذه الصفة الذميمة، شبه الله تعالى المغتاب بمن يأكل لحم أخيه الإنسان الميت، وإذا كانت النفس تعاف ذلك بالطبيعة، فعليكم أن تكرهوا أن تغتابوه في حياته، وهذا تنفير وتوبيخ وتقبيح شديد، فضلا عن كونه محرما شرعا، فالغيبة حرام شرعا، وقبيحة عقلا وعرفا ودينا.
وقد رخص في الغيبة في بعض المواضع على سبيل الاستثناء، منها: التجريح في الشهادة، والرواية، والنكاح وشبهه، وفي التحذير من أهل الضلال.
وقد اختتمت الآية بأمر الناس بتقوى الله عز وجل والتوبة إلى الله مما يكون قد صدر منهم من ظن السوء بالناس والتجسس عليهم واغتيابهم.
الخلاصة:
هذه الآية لما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن ومع الناس كافة، فهذه الآية تنهى المؤمن عن إساءة الظن بالناس وتتبع عوراتهم، واغتيابهم.
وتهدف هذه الآية إلى حماية الكرامة الإنسانية والتعايش بين الناس، ونشر ثقافة احترام خصوصية الأشخاص وعدم وصاية أحد على الآخر؛ لأن ذلك يؤدي إلى التنافر والتباغض ويمس بتماسك المجتمع وتعايشه.
قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنث۪يٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوباٗ وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۖ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اَ۬للَّهِ أَتْق۪يٰكُمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞۖ).
تمهيد:
جاءت هذه الآية الكريمة لتذكر عموم الناس بأنهم من أصل واحد، ذكر وأنثى، وأنهم متساوون في أصل الخليقة، لا فضل لأحد على آخر إلا بتقوى الله عز وجل الخبير وحده بأحوالنا وأعمالنا وتقوانا وسيجازي كلا عن عمله.
شرح المفردات:
شعوبا: جمع شعب وهم الجماعة من الناس.
وقبائل: جمع قبيلة وهي ما دون الشعب وأعظم من القبيلة.
لتعارفوا: ليعرف بعضكم بعضا.
أتقاكم: أكثركم تقوى.
أولا: المساواة بين الناس في الأصل والمنشأ:
قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنث۪يٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوباٗ وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۖ).
إن النداء هنا بصفة الناس لأن الخطاب يتناول جميع الناس مؤمنين وغير مؤمنين، أي: لقد خلقناكم جميعا من أصل واحد، ذكر وأنثى، فأنتم متساوون في أصلكم، لأن نسبكم واحد، وأباكم واحد، وأمكم واحدة، لذلك لا يجوز لكم أن تتفاخروا بأصولكم وأنسابكم، لأن الكل في ذلك سواء. والمراد بالذكر والأنثى في الآية آدم وزوجه، وقيل جنس الذكر والأنثى، والأول أظهر.
وقد جعلنا الله تعالى شعوبا ليعرف بعضكنا بعضا لا للتناكر، ولا للتفاخر بالأنساب، والمقصود بذلك التسوية بين الناس، والمنع مما كانت العرب تفعله من التفاخر بالأحساب، والتباهي بالأنساب، بأن لا يكون هناك فرد أفضل من غيره، أو جماعة تفوق غيرها بحسب عنصرها الإنساني، أو انحدارها من سلالة معينة. وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية عن ابن أبي مليكة قال: لما كان يوم الفتح، رقي بلال على ظهر الكعبة، فأذّن، فقال بعض الناس: أهذا العبد الأسود يؤذّن على ظهر الكعبة؟ فقال بعضهم: إن يسخط الله هذا يغيّره أو إن يرد الله شيئا يغيره، فأنزل الله: (ٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنث۪يٰ ... الآية)، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم وزجرهم على التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء. [تفسير ابن أبي حاتم : 10 /3306]
ثانيا: التقوى أساس التفاضل بين الناس:
قل تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اَ۬للَّهِ أَتْق۪يٰكُمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞۖ). أي: إن أكرمكم وأفضلكم عند اللّه هو أكثركم تقوى وخوفا من الله عز وجل، وإن الله عليم بكم وبأعمالكم، خبير بأحوالكم وأموركم.
فنصت الآية الكريمة على أن تقوى الله عز وجل هي معيار التفاضل وألغت كل المعايير الأخرى السائدة للتفاضل، كالحسب والنسب القوة والضعف، والموقع الاجتماعي أو الاقتصادي، أو الطبقة التي ينتمي إليها الإنسان أو الجنس واللون.
الخلاصة:
جاءت هذه الآية الكريمة لتذكر عموم الناس بأنهم من أصل واحد، ذكر وأنثى، وأنهم متساوون في أصل الخليقة، لا فضل لأحد على آخر إلا بتقوى الله عز وجل الخبير وحده بأحوالنا وأعمالنا وتقوانا وسيجازي كلا عن عمله. وتهدف هذه الآية إلى تقرير المساواة بين الناس في القيمة البشرية.
قال تعالى: (قَالَتِ اِ۬لَاعْرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمْ تُومِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ اِ۬لِايمَٰنُ فِے قُلُوبِكُمْۖ وَإِن تُطِيعُواْ اُ۬للَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتْكُم مِّنَ اَعْمَٰلِكُمْ شَيْـٔاٗۖ اِنَّ اَ۬للَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌۖ (14) اِنَّمَا اَ۬لْمُومِنُونَ اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِۖ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لصَّٰدِقُونَۖ (15) قُلَ اَتُعَلِّمُونَ اَ۬للَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِے اِ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِے اِ۬لَارْضِۖ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَےْءٍ عَلِيمٞۖ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنَ اَسْلَمُواْۖ قُل لَّا تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلَٰمَكُمۖ بَلِ اِ۬للَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمُۥٓ أَنْ هَد۪يٰكُمْ لِلِايمَٰنِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَۖ (17) إِنَّ اَ۬للَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ اَ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِۖ وَاللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا تَعْمَلُونَۖ (18))
تمهيد:
بعد أن امتن الأعراب على رسول الله بإيمانهم، ذمّهم الله سبحانه، وأبان ضعف إيمانهم، ووضح لهم حقيقة الإيمان الصحيح المتمثل في الاعتقاد بالقلب والقول باللسان والعمل بالجوارح. وأكد سبحانه بأن الله يعلم السر والعلانية، وأنه لا ينبغي للمؤمن أن يمتن بإيمانه، بل الله تعالى هو الأحق بالامتنان عليه لما هداه لذلك وأرشده للحق.
شرح المفردات:
الأعراب: الأعراب سكان البادية والمراد هنا وفد من بني أسد.
أسلمنا: استسلمنا وانقدنا.
لا يلتكم من أعمالكم: لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا.
لم يرتابوا: لم يشكوا فيما آمنوا به.
يمنون عليك أن أسلموا: يعدون إسلامهم مِنَّة عليك تستوجب حمدهم وشكرهم.
أولا: حقيقة الإيمان الصحيح:
قال تعالى: (قَالَتِ اِ۬لَاعْرَابُ ءَامَنَّاۖ) زعمت الأعراب وقالوا: صدقنا بالله ورسوله ونحن له مؤمنون فكذبهم الله تعالى ورد عليهم بقوله (قُل لَّمْ تُومِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ اِ۬لِايمَٰنُ فِے قُلُوبِكُمْۖ) أي: قل لهم يا محمد لم تؤمنوا؛ لأن الإيمان هو تصديق بالله ورسوله مع اطمئنان القلب، وهذا لم يحصل لكم بعد؛ لأنكم مننتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم مقاتلته، ولأن الله تعالى مطلع على قلوبكم، ولكن قولوا: انقدنا لك واستسلمنا لك خوف القتل والأسر، ولا ندخل معك في حرب، ولا نكون عونا لعدوك عليك.
وقد نزلت هذه الآيات في أعراب قدموا المدينة في سنة جدب ببلادهم فأسلموا وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والعيال والذراري، ولم نقاتلك كما قاتلك الآخرون، يمنون عليه بهذه المقالة، ويريدون أن تصرف إليهم الصدقات، فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا، فنزلت فيهم هذه الآيات إلى آخر السورة، فكذبهم الله في قولهم آمنا، وصدقهم حين قالوا أسلمنا.
(وَإِن تُطِيعُواْ اُ۬للَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتْكُم مِّنَ اَعْمَٰلِكُمْ شَيْـٔاٗۖ) أي: وإن تطيعوا الله ورسوله في الأوامر والنواهي لا ينقصكم من أعمالكم شيئا. فالمعنى إن رجعتم عما أنتم عليه من الإيمان بألسنتكم دون قلوبكم، وعملتم أعمالا صالحة، فإن الله لا ينقصكم منها شيئا.
وقد ذكر بعض المفسرين أن هؤلاء الأعراب ليسوا منافقين.
(اِنَّ اَ۬للَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌۖ) أي: عظيم المغفرة واسع الرحمة.
ثانيا: صفات المؤمنين بالله ورسوله:
ثم انتقلت الآيات تبين حقيقة المؤمنين بالله ورسوله وصفاتهم، فقال سبحانه: (اِنَّمَا اَ۬لْمُومِنُونَ اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦ) أي: إنما المؤمنون الصادقون في إيمانهم، هم الذين صدّقوا الله ورسوله في كل ما أخبرا به، فسلموا لله بالوحدانية، وأقروا لرسوله بالرسالة (ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ) أي: لم يشكوا في إيمانهم، بل ثبتوا على التصديق واليقين، وفي ذلك تعريض بالأعراب المذكورين بأنهم في شك (وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِۖ) وبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله (أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لصَّٰدِقُونَۖ) هؤلاء المتصفون بالصفات المتقدمة هم الصادقون حقا، لا من أسلم خوف القتل وبحثا عن الغنائم.
ولما نزلت هذه الآية أقسم الأعراب – كاذبين - أنهم مؤمنون بالله في السر والعلانية، فرد الله سبحانه عليهم بقوله: (قُلَ اَتُعَلِّمُونَ اَ۬للَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِے اِ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِے اِ۬لَارْضِۖ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَےْءٍ عَلِيمٞۖ) أي: قل لهم: أتخبرون الله بما في ضمائركم وما تنطوي عليه سرائركم، والله غني عن ذلك فهو يعلم كل ما في السموات وما في الأرض، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
ثالثا: ذم المن على الله سبحانه، وعلى ورسوله صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنَ اَسْلَمُواْۖ) أي: يعدّون إسلامهم ومتابعتهم لَكَ ونصرتهم إياك منّة يطلبون منك أجرها وينتظرون منك حمدهم وشكرهم على ذلك (قُل لَّا تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلَٰمَكُمۖ) أي: قل لا تمتنوا علي بإسلامكم فنفعه عائد عليكم لا على غيركم (بَلِ اِ۬للَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمُۥٓ أَنْ هَد۪يٰكُمْ لِلِايمَٰنِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَۖ) أي: بل لله المنة العظيمة عليكم بهدايتكم للإسلام إن كنتم صادقين في ذلك.
وقوله: (يَمُنُّ عَلَيْكُمُۥٓ) بمعنى: يذكر إنعامه.
ثم أكد الله تعالى مضمون الآية (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِے اِ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِے اِ۬لَارْضِۖ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَےْءٍ عَلِيمٞۖ) بقوله: (إِنَّ اَ۬للَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ اَ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِۖ وَاللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا تَعْمَلُونَۖ) أي: يعلم ما غاب عن الأبصار في السموات والأرض، وعلمه محيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية.
الخلاصة:
بعد أن امتن الأعراب على رسول الله بإيمانهم، ذمّهم الله سبحانه، وأبان ضعف إيمانهم، ووضح لهم حقيقة الإيمان الصحيح الذي لا يقتصر على ما ظهر من الأعمال، بل يرتكز على التصديق بالقلب والامتثال لأوامر الله تعالى واجتناب نواهيه بجميع الأركان والجوارح، وأكد سبحانه بأن الله يعلم غيب السموات والأرض ويعلم السر والعلانية، وأنه لا ينبغي للمؤمن المن على الله ورسوله بالإسلام والإيمان، بل الله تعالى هو صاحب الجود والإنعام وهو الأحق بالامتنان عليهم لما هداهم لذلك وأرشدهم للحق، فالله سبحانه يعلم غيب السموات والأرض ويعلم السر وأخفى.