جديد الموقع: كيف أتفوق في دراستي؟
الحج خامس أركان الإسلام، والجمهور على أنه فُرِضَ سنة 6 هـ، وللحج ميزة خاصة عن باقي الأركان؛ لأنه عبادة مالية وبدنية.
نصوص الحديث:
مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنَّهَا وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِالْبَيْدَاءِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مُرْهَا فَلْتَغْتَسِلْ ثُمَّ لِتُهْلِلْ» [الموطأ رقم: 901].
مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ «يَغْتَسِلُ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِدُخُولِهِ مَكَّةَ، وَلِوُقُوفِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ» [الموطأ رقم: 903].
مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِيَعْلَى بْنِ مُنْيَةَ وَهُوَ يَصُبُّ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَاءً، وَهُوَ يَغْتَسِلُ: «اصْبُبْ عَلَى رَأْسِي»، فَقَالَ يَعْلَى: أَتُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَهَا بِي؟ إِنْ أَمَرْتَنِي صَبَبْتُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «اصْبُبْ فَلَنْ يَزِيدَهُ الْمَاءُ إِلَّا شَعَثًا» [الموطأ رقم: 905].
مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ «إِذَا دَنَا مِنْ مَكَّةَ بَاتَ بِذِي طُوًى بَيْنَ الثَّنِيَّتَيْنِ حَتَّى يُصْبِحَ. ثُمَّ يُصَلِّي الصُّبْحَ. ثُمَّ يَدْخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ. وَلَا يَدْخُلُ إِذَا خَرَجَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، حَتَّى يَغْتَسِلَ، قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ، إِذَا دَنَا مِنْ مَكَّةَ بِذِي طُوًى، وَيَأْمُرُ مَنْ مَعَهُ فَيَغْتَسِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا» [الموطأ رقم: 906].
ترجمة الرواة
عطاء بن أبي رَبَاح: أسلمُ القرشي أبو محمد مولاهم المكي، فقيه ثقة فاضل كثير الإرسال، مات عام 114 هـ على المشهور.
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي أبو عبد الرحمن المكي، أسلم مع أبيه وهو صغير، وهو أول مولود في الإسلام، توفي عام 73 أو 74 هـ.
شرح المفردات:
- البيداء: موضع بطرف ذي الحليفة.
- تهلل: تحرم وتلبي.
- أن تجعلها بي: أي تجعلني أفتيك وتنحي الفتيا عن نفسك إن كان في هذا الفدية.
- طوی: واد بقرب مكة.
- شعثا: تلبدا واغبرارا.
- بين الثنيتين: مثنی ثنية وهي الكدية.
أولا: تعريف الحج وحكمه
1- تعريف الحج: الحَج أو الحِج لغة هو: القصد.
واصطلاحا: عرفه ابن عرفة بأنه: «عبادة يلزمها الوقوف بعرفة ليلة عاشر ذي الحجة»، واقتصر في التعريف على عرفة لأنه أهم أركان الحج، لقوله صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة». (أخرجه البخاري ومسلم).
2. حكم الحج: الحج واجب مرة في العمر ووجوبه معلوم من الدين بالضرورة، ولا يجب تكرره إجماعا إلا لنذر. وفي أنه على الفور لخوف الفوات أو التراخي خلاف. وإنما يجب على المستطيع بالمال والبدن؛ لقوله عز وجل: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97].
ثانيا: الغسل للحج
يختلف حكم الغسل في الحج حسب الحالات الآتية:
1- الغسل للإحرام: الغسل للإحرام سنة مؤكدة لا يرخص في تركها إلا لعذر، وهو أكد اغتسالات الحج، ويدل على سنيته ما جاء في الموطأ: «من أن أسماء بنت عُمَيْسٍ ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «مرها فلتغتسل ثم لتُهْلِل». وفي رواية: «فأمرها أبو بكر أن تغتسل ثم تُهِل» [الموطأ رقم: 902]. والأمر في الحديث ليس للوجوب عند الجمهور، ويدل على سنيته أيضا ما رواه مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر: «كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم، ولدخوله مكة ولوقوفه عشية عرفة».
ما يستفاد من الحديث:
في قوله صلى الله عليه وسلم: «مرها فلتغتسل..» قاعدة الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر به أم لا؟ والمشهور أنه ليس أمرا للطرف الثالث إلا كما في قوله صلى الله عليه وسلم في قضية ابن عمر رضي الله عنهما: «مره فليراجعها». فالرسول -صلى الله عليه وسلم- هنا أمر، وعمر طرف ثاني مبلغ للأمر فقط، وابنه طرف ثالث مأمور بإرجاع زوجته بعد طلاقها.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «مرها فلتغتسل ثم لتُهْلِل». صحة إحرام النفساء ومثلها الحائض، وأولى منهما الجنب؛ لأنهما شاركتاه في شمول اسم الحدث، وزادتا عليه بسيلان الدم، ولذا صح صومه دونهما. وفيه تأكيد الاغتسال للإحرام مطلقا للنفساء وغيرها؛ لأن النفساء إذا أمرت به مع أنها غير قابلة للطهارة كالحائض فغيرهما أولى، وفيه قاعدة القياس في العبادات عند من أجازه وهو فرع ظهور المعنى.
قال الخطابي في الحديث: فيه استحباب التشبه من أهل التقصير بأهل الفضل والكمال والاقتداء بأفعالهم؛ طمعا في درك مراتبهم ورجاء لمشاركتهم في نيل المثوبة. ومعلوم أن اغتسال الحائض والنفساء قبل أوان الطهر لا يطهرهما ولا يخرجهما عن حكم الحدث، وإنما هو لفضيلة المكان والوقت. والمقصود من اغتسال الحائض هو تحقيق المعنى الذي شرع الغسل لأجله وهو التنظيف وقطع الرائحة الكريهة لدفع أذاها عن الناس عند اجتماعهم.
2- غسل المحرم للجنابة أو التبرد
أ- غسل المحرم للجنابة: الإجماع على أن المحرم إذا كان جنبا يغتسل وكذلك المرأة إذا كانت حائضا أو نفساء فإنها تغتسل؛ لما رواه مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر: «كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من الاحتلام» [الموطأ رقم: 907]
ب- غسل المحرم رأسه تبردا: اختلف في غسل المحرم رأسه تبردا، فأجازه الجمهور بلا كراهة؛ لحديث مالك عن زيد بن أسلم، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه أن عبد الله بن عباس، والمسور بن َمخْرَمَة اختلفا بالأبواء، فقال عبد الله: «يغسل المحرم رأسه» وقال المسور بن مخْرَمَة: لا يغسل المحرم رأسه. قال فأرسلني عبد الله بن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري، فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يُسْتَرُ بثوب، فسلمت عليه. فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن حُنين، أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم؟ قال: وضع أبو أيوب يده على الثوب، فطأطأة حتى بدا لي رأسه، ثم قال لإنسان يصب عليه: اصبب. فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل» [الموطأ رقم: 904].
ويدل على جواز غسل الرأس أيضا ما رواه مالك من «أن عمر بن الخطاب قال ليعلى بن مُنَيَةَ، وهو يصب على عمر بن الخطاب ماء وهو يغتسل: اصبب على رأسي. فقال له يعلى: أتريد أن تجعلها بي إن أمتني صببت. فقال له عمر بن الخطاب: اصبب فلن يزيده الماء إلا شعثا».
ودل قول أبي أيوب: «هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل» [الموطة رقم: 904]. على جواز ذلك ما لم يؤد إلى نتف الشعر، وفيه البيان بالفعل وهو أبلغ من القول.
يستفاد من الحديث:
رجوع المختلفين إلى من يظنان أن عنده علم ما اختلفا فيه، وقبول خبر الواحد وأنه كان مشهورا عند الصحابة؛ لأن ابن عباس أرسل ابن حنين ليسأل أبا أيوب، ومن ضرورة ذلك قبول خبر أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقبول خبر ابن حنين عن أبي أيوب،
الرجوع إلى النص عند الاختلاف، وترك الاجتهاد والقياس عند النص.
قال ابن عبد البر: وفيه أن الصحابة إذا اختلفوا لم يكن أحدهما حجة على الآخر إلا بدليل، وهي إشارة إلى أن قاعدة: حجية قول الصحابي متعلقها غير الصحابي.
3- غسل المحرم لدخول مكة
يستحب للمحرم الاغتسال لدخول مكة بحسب الإمكان لغير الحائض والنفساء؛ لأنه للطواف، ولذلك لم يندب لهما، وهما لا يدخلان المسجد، ويغتسلان للإحرام والوقوف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «وافعلي ما يفعل الحاج غير أنك لا تطوفي بالبيت» (صحيح البخاري).
يستفاد من الدرس: أن الحج عبادة عظيمة، وللمكان الذي تؤدي فيه حرمة، ولذلك ندب الشرع الحكيم مريد الحج إلى أن يغتسل للإحرام أداء لحق هذه العبادة، واستشعارا الضرورة تنظيف النفس وتطهيرها من الدنيا، والإقبال على الله بنفس طاهرة وبدن طاهر ونية صادقة طلبا للأجر والثواب.
نصوص الحديث
عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ. إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ» [الموطأ رقم: 909]
مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ «يَكْرَهُ لُبْسَ الْمِنْطَقَةِ لِلْمُحْرِمِ» [الموطأ رقم: 915]
مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: «مَا فَوْقَ الذَّقَنِ مِنَ الرَّأْسِ فَلَا يُخَمِّرْهُ الْمُحْرِمُ» [الموطأ رقم: 918]
عندما يحرم الإنسان بأحد النسكين تجب عليه شرعا مجموعة من الأحكام من أجل تحقيق التجرد الحسي والمعنوي، وأداء مناسك الحج وفق مقاصد تهدف إلى الابتعاد عن الترف وملذات الدنيا، كما تهدف إلى تحقيق الوحدة بين المسلمين في اللباس أملا في توحيد القلوب.
شرح المفردات:
العمائم: جمع عمامة سميت بذلك لأنها تعم جميع الرأس.
السراويلات: جمع سروال فارسي معرب، والسراوين بالنون وبالشين لغة.
البرانس: جمع برنس، قلنسوة طويلة أو كل ثوب رأسه منه، دراعة كان أو جبة.
الورس: نبت أصفر طيب الريح يصبغ به.
المنطقة: بكسر الميم، ما يشد به الوسط.
أولا: أنواع الثياب المنهي عن لبسها في الإحرام
1. لبس القمص: نهى الشرع عن لبس القمص؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تلبوا القمص» وفي رواية التنيسي: لا يلبسُ بالرفع على الأشهر، خبر عن حكم الله؛ إذ هو جواب السؤال أو خبر بمعنى النهي، وبالجزم على النهي. ومن القواعد أن صيغة الخبر قد تأتي للطلب كما تقرر في البلاغة في فن المعاني. ونبه بالقميص على كل ما في معناه، وهو المخيط المعمول على قدر البدن. والمراد بتحريم المخيط ما يلبس على الوضع الذي جعل له ولو في بعض البدن.
2 – لبس العمائم والبرانس: لا يجوز للمحرم لبس العمائم والبرانس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تلبوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس»، ونبه بالعمائم والبرانس على كل ما يغطي الرأس مخيطا أو غيره.
قال الخطابي: ذكر العمامة والبرنس معا ليدل على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بالمعتاد ولا بالنادر، ومنه المكتل يحمله على رأسه وما يشبهه. قال الحافظ: إن أراد لبسه كالقبع صح ما قال، وإلا فمجرد وضعه على رأسه على هيئة الحامل له لا يضر في مذهبه كالانغماس في الماء، فإنه لا يسمى لابسا، وكذا ستر الرأس باليد. وأجمعوا على اختصاص النهي بالرجل، فيجوز للمرأة ليس جميع ما ذكر حكاه ابن المنذر.
3- لبس السراويلات: لا يجوز للمحرم لبس السراويلات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات» ونبه بالسراويل على المخيط المعمول على قدر عضو من البدن كالتبان والقفاز وغيرهما. ومن لم يجد إزارا فلا يلبس السراويلات على هيأتها، قال يحيى: سئل مالك عما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل» فقال: لم أسمع بهذا، ولا أرى أن يلبس المحرم سراويل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن لبس السراويلات، فيما نهى عنه من لبس الثياب التي لا ينبغي للمحرم أن يلبسها، ولم يستثن فيها كما استثنى في الخفين» [الموطأ رقم: 910]. والحديث أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من طريق جابر بن زيد عن ابن عباس، فيحمل حديث ابن عباس وجابر على ما إذا فتقه وجعل منه شبه إزار، فيجوز كما جاز لبس الخفين المقطوعين أو على حاله لضرورة ستر العورة، ولكن تجب الفدية عند مالك وأبي حنيفة كما لو اضطر إلى تغطية رأسه فيغطيها ويفتدي جمعا بينه وبين حديث ابن عمر.
4. لبس الخفاف: لا يجوز لبس الخفاف لقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين». ونبه بالخفاف على كل ما يستر الرجل كالجورب وغيرها. ومن لبس الخفاف فليقطعهما أسفل من الكعبين، وهنا فرق في التسوية بين الخفين والجوربين في الإحرام والفرق بينهما في الوضوء حيث لا يمسح على الجوربين؛ لأن العلة هنا بتمامها موجودة في الجوربين وهي الستر، وأما مسح الجوربين في الوضوء فمن باب الرخصة، والقاعدة أن الرخصة لا تتعدى موردها فتختص بالخفاف، ويؤخذ من الحديث أن واجد النعلين لا يلبس الخفين المقطوعين، وهو قول الجمهور.
ثانيا: حكم لبس الثياب المصبغة والمطيبة في الإحرام
1- لبس ما فيه صباغة أو طيب: لا يجوز لبس الثياب التي مسها الزعفران والورس وما في حكمهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران والوس»، ولما رواه مالك عن عبيد الله بن عمر أنه قال: «نهی رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلبس المحرم ثوبا مصبوغا بزعفران أو ورس» [الموطة رقم: 911]. والورس نبت أصفر طيب الريح يصبغ به، وقال ابن العربي: ليس الورس بطيب، ولكنه نبه به على اجتناب الطيب وما يشبهه في ملاءمة الشم، فيؤخذ منه تحريم أنواع الطيب على المحرم، وهو مجمع عليه فيما يقصد به التطيب، وهذا الحكم شامل للنساء؛ لأنه يتنافي مع ما تقتضيه عبادة الحج من تذلل وخضوع وتجرد عن ملذات الدنيا وزينتها.
2- لبس الثوب الذي فيه ما يشبه الصباغة: يكره لبس الثوب الذي فيه ما يشبه الصباغة؛ لما رواه مالك: «أن عمر بن الخطاب رأي على طلحة بن عبيد الله ثوبا مصبوغا وهو محرم، فقال عمر: ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة؟ فقال طلحة: يا أمير المؤمنين، إنما هو مدر، فقال عمر: إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس، فلو أن رجلا جاهلا رأى هذا الثوب، قال: إن طلحة بن عبيد الله كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام، فلا تلبسوا أيها الرهط شيئا من هذه الثياب المصبغة» [الموطا رقم: 912]. وإنما كره عمر ذلك لئلا يقتدي به جاهل فيظن جواز لبس المورس والمزعفر. وأما ما روي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: «أنها كانت تلبس الثياب المعصفرات المشبعات، وهي محرمة ليس فيها زعفران» [الموطأ رقم: 913]. فمحمول على الثياب المعصفرات المشبعات التي لا ينفض صبغها كما فسره ابن حبيب عن مالك، فإذا نفض کره للرجال والنساء؛ لأن ما ينفض منه يشبه الطيب.
ثالثا: لبس المحرم المنطقة وتخمير وجهه
1- حكم لبس المحرم المنطقة: كان الإمام مالك يكره لبس المنطقة للمحرم؛ لما رواه عن نافع: «أن عبد الله بن عمر كان يكره لبس المنطقة لمحرم». وروي عنه الجواز فكأنه رجع عن الكراهة، هذا على رأي من فرق بين الجواز والكراهة وهو اصطلاح معروف في المذهب على أن الجائز مرادف للمباح، وإلا فالمكروه من قبيل الجائز كما هو معروف عند المتأخرين.
والقول بالكراهة ما لم يلبسها تحت ثيابه ويعقد بعضها ببعض وإلا فيجوز؛ لما رواه مالك عن يحيى بن سعيد «أنه سمع سعيد بن المسيب يقول في المنطقة يلبسها المحرم تحت ثيابه: أنه لا بأس بذلك، إذا جعل طرفيها جميعا سيورة، يعقد بعضها إلى بعض. قال مالك: وهذا أحب ما سمعت إلي في ذلك» [الموطأ رقم: 916]. قال ابن عبد البر: فلا يكره عند مالك وعند فقهاء الأمصار، وأجازوا عقده إذا لم يكن إدخال بعضه في بعض ولم ينقل كراهته إلا عن ابن عمر وعنه جوازه.
2. تخمير المحرم وجهه: منع مالك تغطية الوجه؛ لما رواه عن نافع: «أن عبد الله بن عمر كان يقول: ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم». وفيه الفدية على مشهور المذهب وأنكر الإمام مالك ما يخالفه مما راواه عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد «أنه قال: أخبرني الفرافصة بن عمير الحنفي: أنه رأى عثمان بن عفان بالعرج يغطي وجهه وهو محرم» [الموطأ رقم: 917]. أما الرأس فلا يجوز تغطيته إجماعا.
أما ما رواه مالك عن نافع: «أن عبد الله بن عمر كفن ابنه واقد بن عبد الله، ومات بالجحفة محرما، وخمر رأسه ووجهه وقال: لولا أنا حرم لطيبناه» [الموطأ رقم: 919]. فيفسره قول الإمام مالك رحمه الله تعالى: «وإنما يعمل الرجل ما دام حيا فإذا مات فقد انقضى العمل» [الموطأ رقم: 920]. فلا يمتنع تطييب الميت المحرم ولا تغطية وجهه، لأنه أصبح غير مكلف، وبهذا قال أبو حنيفة وأتباعهما، وأجابوا عن حديث ابن عباس في الصحيحين: «وقصت برجل محرم ناقته فقتلته فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اغسلوه وكفنوه ولا تغطوا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث ملبيا» بأنها واقعة عين لا عموم لها؛ لأنه علل ذلك بقوله: «فإنه يبعث ملبيا»، ومعلوم أن «إن» من ألفاظ النص على العلة، وهذا الأمر لا يتحقق وجوده في غيره، فيكون خاصا بذلك الرجل، ولو استمر بقاؤه على إحرامه لأمر بقضاء بقية مناسكه، ولو أريد التحريم في كل محرم لقال : فإن المحرم يبعث ملبيا.
يستفاد من الدرس:
أن لأداء عبادة الحج لباسا خاصا يناسب مقاصدها وغاياتها، ومنها اختبار الإنسان بالخروج عن الهيأة المألوفة في لباسه، كما أن في توحيد لباس الحج بين الرجال إعلانا للمساواة بين الناس ولو اختلفت أجناسهم.
نصوص الحديث:
مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ «أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» [الموطأ رقم: 923].
مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِحُنَيْنٍ، وَعَلَى الْأَعْرَابِيِّ قَمِيصٌ. وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ. فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْزَعْ قَمِيصَكَ، وَاغْسِلْ هَذِهِ الصُّفْرَةَ عَنْكَ، وَافْعَلْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَفْعَلُ فِي حَجِّكَ» [الموطأ رقم: 924].
عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الصَّلْتِ بْنِ زُيَيْدٍ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَجَدَ رِيحَ طِيبٍ وَهُوَ بِالشَّجَرَةِ، وَإِلَى جَنْبِهِ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ، فَقَالَ عُمَرُ: «مِمَّنْ رِيحُ هَذَا الطِّيبِ؟» فَقَالَ كَثِيرٌ: مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَأَرَدْتُ أَنْ لَا أَحْلِقَ. فَقَالَ عُمَرُ: «فَاذْهَبْ إِلَى شَرَبَةٍ. فَادْلُكْ رَأْسَكَ حَتَّى تُنْقِيَهُ فَفَعَلَ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ» قَالَ مَالِكٌ: «الشَّرَبَةُ حَفِيرٌ تَكُونُ عِنْدَ أَصْلِ النَّخْلَةِ» [الموطأ رقم: 926].
قَالَ مَالِكٌ: «لَا بَأْسَ أَنْ يَدَّهِنَ الرَّجُلُ بِدُهْنٍ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ. وَقَبْلَ أَنْ يُفِيضَ مِنْ مِنًى بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ» [الموطأ رقم: 928].
ترجمة الراوي:
كثير بن الصلت: بن معد يكرب الكندي المدني التابعي الكبير، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان له شرف وحال جميلة، ووهم من عده في الصحابة. توفي نحو 70 هـ.
شرح المفردات:
أثر صفرة: أي من زعفران.
شربة: قال مالك: الشربة حفير تكون عند أصل النخلة فهو حوض كمقدار ريها.
لبدت رأسي: أي جعلت فيه شيئا نحو الصمغ ليجتمع شعره لئلا يتشعث في الإحرام.
أولا: حكم تطييب البدن في الحج
تطيب البدن في الحج فيه ثلاث حالات، وتفصيل الحكم فيه كما يلي:
1- حكم تطييب البدن قبل الإحرام جائز؛ لقول عائشة رضي الله عنها: «كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم». والمراد: إرادة الإحرام؛ لرواية النسائي «حين أراد أن يحرم»؛ لمنع التطيب في الإحرام، والمراد تطييب بدنه لا ثيابه.
يستفاد من الحديث:
استحباب التطيب عند إرادة الإحرام، وجواز استدامته بعده، وأنه لا يضر بقاء لونه ورائحته، وإنما يحرم ابتداؤه في الإحرام، وبه قال الأئمة الثلاثة والجمهور.
وقال مالك والزهري وجماعة من الصحابة والتابعين: يحرم التطيب عند الإحرام بطيب يبقى له رائحة بعده. قال عياض: وتأولوا هذا الحديث على أنه: طيب لا يبقى له ريح، أو أنه أذهبه غسل الإحرام، ويعضد التفسير الثاني رواية مسلم: «طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه ثم طاف على نسائه ثم أصبح محرما».
2- حكم تطييب البدن بعد الإحرام لا يجوز؛ لأن حديث أمنا عائشة رضي الله عنها محمول على أنه لا تطيب عند إرادة الإحرام، ولما رواه مالك عن نافع، عن أسلم مولى عمر بن الخطاب: «أن عمر بن الخطاب وجد ريح طيب وهو بالشجرة، فقال: ممن ريح هذا الطيب؟ فقال معاوية بن أبي سفيان: مني يا أمير المؤمنين، فقال: منك لعمر الله. فقال معاوية: إن أم حبيبة طيبتي يا أمير المؤمنين. فقال عمر: عزمت عليك لترجع فلتغسله» (الموطأ رقم: 925). ولما رواه مالك أيضا عن الصلت بن زيد. فهذا عمر رضي الله عنه مع منزلته في حفظ السنة لم يأخذ بحديث عائشة على ظاهره فتعين تأويله بما تقدم؛ فقد أنكر على صحابيين وتابعي كبير الطيب بمحضر الجمع الكثير من الناس صحابة وغيرهم، وما أنكر عليه منهم أحد، فهو من أقوى الأدلة على تأويل حديث عائشة رضي الله عنها.
يستفاد من الحديث:
حسن الاعتذار لأولي الأمر، حيث قال معاوية معتذرا: «إن أم حبيبة طيبتني يا أمير المؤمنين».
وحسن مناداتهم بألقابهم.
والاستجابة لما يأمرون به.
أما الادهان بدهن ليس فيه طيب فجائز، قال مالك: «لا بأس أن يدهن الرجل بذهن ليست فيه طيب، قبل أن يحرم وقبل أن يفيض من منى بعد رمي الجمرة» (الموطأ رقم: 928). وما يوجد من بعض الأنواع التي يدهن بها مما فيه طيب حكمه حكم استعمال الطيب.
3 - حكم تطييب البدن بعد رمي جمرة العقبة والحلق وقبل طواف الإفاضة جائز؛ لقول أمنا عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: «كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت»، ففي هذا إباحة الطيب بعد رمي الجمرة والحلق وقبل طواف الإفاضة، وقاله كافة العلماء إلا أن مالكا كرهه قبل الإفاضة؛ لما رواه من «أن الوليد بن عبد الملك، سأل سالم بن عبد الله، وخارجة بن زيد بن ثابت، بعد أن رمي الجمرة وحلق رأسه، وقبل أن يفيض عن الطيب فنهاه سالم، وأرخص له خارجة بن زيد بن ثابت» الموطأ رقم: 927). فنهاه سالم لكراهته قبل الإفاضة، وأرخص له خارجة، إما لأنه يرى جوازه بلا كراهة، وإما لأن المكروه من الجائز.
ثانيا: حكم تطييب الثوب
1 - حكم لبس الثوب الذي مسه طيب
لا يستحب تطييب الثياب عند إرادة الإحرام اتفاقا، ويدل على عدم استحبابه ما رواه مالك: «أن أعرابيا جاء إلى رسول الله وهو بحنين، وعلى الأعرابي قميص وبه أثر ضفرة، فقال: يا رسول الله، إني أهل بعمرة فكيف تأمرني أن أصنع؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم انزع قميصك، واغسل هذه الصفرة عنك، وافعل في عمرتك ما تفعل في حجك».
يستفاد من الحديث:
أن من أصابه طيب في إحرامه ناسيا أو جاهلا ثم علم فبادر إلى إزالته فلا كفارة عليه. وقال مالك: إن طال ذلك عليه لزمه.
2 - لبس الثوب الذي مسه طيب وذهب منه ريح الطيب يجوز الإحرام فيه؛ لقول يحيى: سئل مالك عن ثوب منه طيب، ثم ذهب ريح الطيب منه، هل يخرم فيه؟ فقال: نعم ما لم يكن فيه صباغ زعفران أو ورس» (الموطأ رقم: 914]. فإذا كان فيه صباغ زعفران أو ورس فيحرم ولو ذهب ريحه على ظاهر الحديث المتقدم في النهي.
مقصود الشرع من منع تطيب المحرم
والقصد من منع المحرم من الطيب هو الابتعاد عن الترفه وزينة الدنيا وملذاتها وجمع المحرم همه لمقاصد الآخرة والاتصاف بصفة الخاشع، وليتذكر القدوم على ربه فيكون أقرب إلى مراقبته وامتناعه من ارتكاب المحظورات.
تمهيد:
الإحرام أنواعا متعددة، وهي الإفراد والتمتع والقِرَان، فما أنواع الإحرام؟ وما أحكامها؟ وما الأفضل منها؟
نصوص الحديث:
عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَّلَ بِالْحَجِّ،»، «وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ»، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ، وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يُحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ» [الموطأ رقم: 945].
عَنْ مَالِكٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ دَخَلَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالسُّقْيَا وَهُوَ يَنْجَعُ بَكَرَاتٍ لَهُ دَقِيقًا وَخَبَطًا، فَقَالَ هَذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يَنْهَى عَنْ أَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَلَى يَدَيْهِ أَثَرُ الدَّقِيقِ وَالْخَبَطِ - فَمَا أَنْسَى أَثَرَ الدَّقِيقِ وَالْخَبَطِ عَلَى ذِرَاعَيْهِ - حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَقَالَ: أَنْتَ تَنْهَى عَنْ أَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: ذَلِكَ رَأْيِي. فَخَرَجَ عَلِيٌّ مُغْضَبًا وَهُوَ يَقُولُ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا» [الموطأ رقم: 949].
قَالَ مَالِكٌ: «مَنِ اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ أَوْ ذِي الْقَعْدَةِ، أَوْ ذِي الْحِجَّةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ. فَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ. إِنَّمَا الْهَدْيُ عَلَى مَنِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. ثُمَّ أَقَامَ حَتَّى الْحَجِّ. ثُمَّ حَجَّ» [الموطأ رقم: 986].
مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: «الصِّيَامُ لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، لِمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا. مَا بَيْنَ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ، إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ. فَإِنْ لَمْ يَصُمْ، صَامَ أَيَّامَ مِنًى» [الموطأ رقم: 1282].
ترجمة الراوي:
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، التيمية الفقيهة من المكثرين من الرواية، قال عروة: ما رأيت أحدا أعلم بفقه ولا شعر من عائشة، توفيت رضي الله عنها سنة 57 أو 58 هـ.
شرح المفردات:
يُحِلُّوا: بفتح الياء وضمها، يقال: حل المحرم وأحل بمعنى واحد، خرج من الإحرام.
السقيا: قرية جامعة بطريق مكة.
ينجع بكرات: أي يسقي. و«بكرات» جمع بكرة ولد الناقة.
خبطا: الخبط ورق ينفض بالمخابط ويجفف ويطحن ويخلط بدقيق أو غيره ويوخف بالماء ويسقى للإبل.
الإحرام أنواع ثلاثة: الإفراد والقران والتمتع، وبيان أحكامها فيما يأتي:
أولا: الإفراد
1- تعريف الإفراد وحكمه
الإفراد هو: الإهلال والإحرام بالحج وحده في أشهره، ودليله ما روته أمنا عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجة وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج». أي فمنا من أهل بعمرة فقط، ومنا من أهل بحجة وعمرة جمع بينهما فكان قارنا، ومنا من أهل بالحج وحده مفردا. فإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لكل هذا يدل على جواز الأنواع الثلاثة.
2- أفضلية الإفراد على غيره
جاء في حديث الموطأ: «وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج». أي على الصحيح الذي تظاهرت عليه الروايات. منها حديث آخر لعائشة أم المؤمنين: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج» (الموطأ رقم: 946]. ورجح الإفراد بالحج؛ لأنه صح عن جابر وابن عمر وابن عباس وعائشة، وهؤلاء لهم مزية في حجة الوداع على غيرهم، فأما جابر فهو أحسن الصحابة سياقا لحديث حجة الوداع، فإنه ذكرها من حين خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى آخرها فهو أضبط لها من غيره.
وأما ابن عمر فصح عنه أنه كان آخذا بخطام ناقة النبي في حجة الوداع وأنكر على من رجح قول أنس على قوله وقال: كان أنس يدخل على النساء وهن مكشفات الرؤوس وإني كنت تحت ناقة النبي لا يمسني لعابها أسمعه يلبي بالحج. وأما عائشة فقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم معروف وكذلك اطلاعها على باطن أمره وظاهره وفعله في خلوته وعلانيته مع كثرة فقهها وعظيم فطنتها. وأما ابن عباس فمحله من العلم والفقه في الدين والفهم الثاقب معروف مع كثرة بحثه وحفظه أحواله صلى الله عليه وسلم التي لم يحفظها غيره وأخذه إياها من كبار الصحابة، وبأن الخلفاء الراشدين واظبوا على الإفراد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، أبو بكر وعمر وعثمان، واختلف عن علي، فلو لم يكن أفضل وعلموا أنه صلى الله عليه وسلم حج مفردا لم يواظبوا عليه مع أنهم الأئمة المقتدي بهم في عصرهم وبعدهم فكيف يظن بهم المواظبة على خلاف فعله.
ثانيا: القِرَان في الحج
1- تعريف القِرَان وحكمه
القِرَان هو: الإهلال بالحج والعمرة معا، وهذا لا خلاف في جوازه، أو الإهلال بالعمرة ثم يدخل عليها الحج أو عكسه وهذا مختلف فيه. ودليل جوازه حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «وما من أهل بحجة وعمرة» وما رواه مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه: «أن المقداد بن الأسود، دخل على علي بن أبي طالب بالسقيا، وهو ينجع بكرات له دقيقا وخبطا، فقال: هذا عثمان بن عفان ينهى عن أن يقرن بين الحج والعمرة، فخرج علي وعلى يديه أثر الدقيق والخبط - فما أنسى أثر الدقيق والخبط على ذراعيه- حتى دخل على عثمان بن عفان فقال: أنت تنهى عن أن يقرن بين الحج والعمرة؟ فقال عثمان ذلك رأيي، فخرج علي مغضبا وهو يقول: لبيك اللهم لبيك بحجة وعمرة معا». وغضب علي رضي الله عنه؛ لأن معارضة النص بالرأي شديدة عندهم، فخرج وهو يقول: لبيك اللهم لبيك بحجة وعمرة معا. وعن مالك عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب، «أنه حدثه أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك بن قيس: لا يفعل ذلك إلا من جهل أمر الله. فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي، فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك. فقال سعد: قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه». (الموطأ رقم: 980]. وفي قصة عثمان وعلي رضي الله عنهما من الفوائد إشاعة العالم ما عنده من العلم وإظهاره، والبيان بالفعل مع القول، وجواز الاستنباط من النص؛ لأن عثمان لم يخف عليه جواز القران والتمتع وإنما نهى عنهما ليعمل بالأفضل كما وقع لعمر، لكن خشي علي أن يحمل غيره النهي على التحريم فأشاع جواز ذلك، فكل منهما مجتهد مأجور، وفيه أن المجتهد لا يلزم مجتهدا آخر بتقليده؛ لعدم إنكار عثمان - مع أنه الإمام حينئذ - على علي رضي الله عنهما.
2- وقت إحلال المحرم بالقِرَان
من قَرَنَ بين الحج والعمرة بأن أحرم بهما معا، أو أردف الحج بالعمرة لم يأخذ من شعره شيئا، ولم يتحلل من شيء بعد العمرة؛ لأنه محرم حتى ينحر هديا إن كان معه ويحل بمنى يوم النحر برمي جمرة العقبة لقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان معه هذي ليهلل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا». (الموطأ رقم: 933]. ولحديث أمنا عائشة رضي الله عنها: «وأما من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة فلم يُحِلُّوا حتى كان يوم النحر». ولقول الإمام مالك: «الأمر عندنا أن من قرن الحج والعمرة لم يأخذ من شعره شيئا، ولم يحلل من شيء حتى ينحر هذيا إن كان معه ويحل بمنى يوم النحر» الموطأ رقم: (950).
3- حكم إدخال الحج والعمرة أحدهما على الآخر
اتفق الجمهور على جواز إدخال الحج على العمرة؛ فعن مالك أنه سمع بعض أهل العلم يقولون: «من أهل بعمرة ثم بدا له أن يهل بحج معها، فذلك له ما لم يطف بالبيت وبين الصفا والمروة، وقد صنع ذلك عبد الله بن عمر حين قال: إن صددت عن البيت، صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت إلى أصحابه فقال: ما أمرهما إلا واحد، أشهدكم أني أوجبت الحج مع العمرة» (الموطأ رقم: 952]. وقوله: «ما لم يطف بالبيت وبين الصفا والمروة» فإن طاف وصلى ركعتيه فليس له الإرداف ولا ينعقد، وأولى إن سعی لها ولا قضاء عليه ولا دم؛ لأنه يصح الإهلال بالحج بعد سعي العمرة وقبل حلاقها، لكن يحرم عليه الحلق حتى يفرغ من الحج وعليه الهدي، فلو حلق وجب عليه هدي وفدية. وقوله: «أشهدكم أني أوجبت الحج مع العمرة» يعني أنه أدخل الحج على العمرة قبل أن يعمل شيئا من عملها، وهو جائز باتفاق، وإنما أشهد بذلك ولم يكتف بالنية؛ لأنه أراد الإعلام لمن يريد الاقتداء به.
واختلف في إدخال العمرة على الحج فمنعه الإمام مالك، وروى أنه سمع أهل العلم يقولون: «من أهل بحج مفرد ثم بدا له أن يهل بعده بعمرة فليس له ذلك. قال مالك: وذلك الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا» (الموطأ رقم: 948]. وإنما لم يجز الإمام مالك إدخال العمرة على الحج؛ لضعفها وقوته، ولأن أعمال العمرة داخلة في أعمال الحج فلا فائدة في إردافها عليه، بخلاف عكسه فيستفيد به الوقوف والرمي والمبيت.
ثالثا: التمتع بالعمرة
1- تعريف التمتع وحكمه:
التمتع هو: الاعتمار في أشهر الحج، ثم التحلل من تلك العمرة، والإهلال بالحج في تلك السنة في سفر واحد بالنسبة للآفاقي.
قال أبو عمر بن عبد البر: ومن التمتع أيضا القران؛ لأنه تمتع بسقوط سفر للنسك الآخر من بلده، ومنه أيضا: فسخ الحج إلى العمرة، ويدل على مشروعيته ما رواه مالك عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب، «أنه حدثه أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكر ان التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك بن قيس: لا يفعل ذلك إلا من جهل أمر الله» فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي، فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك، فقال : قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه» (الموطأ رقم: 980). وروی الشيخان، واللفظ لمسلم عن أبي موسى: «كنت أفتي الناس بذلك»، أي بجواز التمتع في إمارة أبي بكر وعمر.
وقول سعد رضي الله عنه: «صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه» يدل على أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حجة مقدمة على الاستنباط بالرأي، ومن القواعد: لا اجتهاد مع النص، وهو شامل للفعل النبوي، فإن الآية إنما دلت على وجوب إتمام الحج والعمرة، وذلك صادق بأنواع الإحرام الثلاثة.
ما يستفاد من الدرس:
يستفاد من تعدد أنواع الإحرام يسر شريعة الإسلام وسماحتها ومراعاتها لحال المكلف فقد يناسب البعض التمتع بالعمرة وقد يناسب الآخر الإفراد بالحج وهكذا.
نصوص الحديث:
عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ». قَالَ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ لَبَّيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ» [موطأ رقم: 935].
عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ: «يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ. فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَهَلَّ» [موطأ رقم: 936].
مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ خَلَّادِ بْنِ السَّائِبِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي - أَوْ مَنْ مَعِي - أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ أَوْ بِالْإِهْلَالِ» يُرِيدُ أَحَدَهُمَا. [موطأ رقم: 941].
ترجمة الراوي:
عروة: هو عروة بن الزبير بن العوام الأسدي أبو عبد الله المدني أحد الفقهاء السبعة بالمدينة المنورة، قال عنه ابن عيينة: أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة: القاسم وعروة وعَمرة بنت عبد الرحمن، مات سنة 94 هـ.
شرح المفردات:
تلبية: مصدر لبي، أي قال لبيك.
النِّعمة: بكسر النون، الإحسان والمنة مطلقا، وبالفتح التنعيم.
أولا: العمل في الإهلال
1. تعريف الإهلال والتلبية
الإهلال في اللغة: هو رفع الصوت، وكل رافع صوته بشيء فهو مهل به.
وشرعا: هو رفع الصوت بالتلبية. والتلبية مصدر لبى؛ أي قال لبيك، ولا يكون عامله إلا مضمرا. ولبيك لفظ مثنی عند سيبويه ومن تبعه، وهذه التثنية ليست حقيقية بل للتكثير أو للمبالغة، ومعناه إجابة بعد إجابة لازمة. وهو الأظهر والأشهر؛ لأن المحرم مستجيب لدعائه تعالى إياه في حج بَيَّتَه. ومنه اللهم لبيك، أي يا الله أجبناك فيما دعوتنا.
2- حكم التلبية:
دل الحديث المذكور على مشروعية التلبية، وهي واجبة من واجبات الحج، وأوجب مالك في تركها الدم. وقال أبو حنيفة يجزي ما في معناها من تسبيح وتهليل وسائر الأذكار.
ثانيا: أحكام التلبية
1- عمل النبي صلى الله عليه وسلم في التلبية
روى الإمام مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن تلبية رسول الله: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك». قال: «وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها: لبيك لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك لبيك، والرغباء إليك والعمل» وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي أربعتهم عن مالك. إلا أن البخاري لم يذكر زيادة ابن عمر.
وقوله: «إن الحمد والنعمة لك والملك» قال الزين بن المنير: قرن الحمد والنعمة وأفرد الملك؛ لأن الحمد متعلق النعمة، ولهذا يقال: الحمد لله على نعمه فجمع بينهما، كأنه قال: لا حمد إلا لك، وأما الملك فهو معنی مستقل بنفسه ذكر لتحقيق أن النعمة كلها لله؛ لأنه صاحب الملك.
وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها: «لبيك لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك لبيك، والرغباء إليك والعمل» قال عياض: «وسعديك» إفرادها وتثنيتها كَلَبَّيْكَ، ومعناه ساعدت طاعتك مساعدة بعد مساعدة وإسعادا بعد إسعاد ولذا ثني، وهو من المصادر المنصوبة بفعل لا يظهر في الاستعمال. «والرغباء إليك» معناها الطلب والمسألة إلى من بيده الأمر. «والعمل» أي القصد به والانتهاء به إليك، ويحتمل أن يقدر والعمل لك.
2 - الإهلال عند التوجه نحو المناسك
روى الإمام مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يصلي في مسجد ذي الحليفة ركعتين، فإذا استوت به راحلته أهل» ومثل ذلك كان يفعل ابن عمر رضي الله عنهما؛ فعن مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر: «كان يصلي في مسجد ذي الحليفة ثم يخرج فيركب فإذا استوت به راحلته أحرم» (الموطأ رقم: 939). وعن مالك أنه بلغه: «أن عبد الملك بن مروان أهل من عند مسجد ذي الحليفة، حين استوت به راحلته، وأن أبان بن عثمان أشار عليه بذلك» [الموطأ رقم: 940].
ومعنى «أهل» أي رفع صوته بالتلبية عند الدخول في الإحرام، وفيه دليل لمالك والشافعي والجمهور أن الأفضل أن يهل إذا انبعثت به راحلته.
3- حكم رفع الصوت بالإهلال
يندب رفع الصوت بالتلبية لما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أو من معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية، أو بالإهلال، يريد أحدهما». وفي رفع الصوت بالتلبية إظهار لشعار الإحرام وتعليم للجاهل ما يستحب في ذلك. ولا يرفع المحرم صوته بالتلبية في مساجد الجماعات، لقول مالك: «لا يرفع المحرم صوته بالإهلال في مساجد الجماعات، يسمع نفسه ومن يليه، إلا في المسجد الحرام ومسجد منى فإنه يرفع صوته فيهما» [الموطأ رقم: 943]. ووجه استثناء المسجد الحرام ومسجد منى أن المسجد الحرام جعل للحاج والمعتمر وغيرهما فكأن الملبي إنما يقصد إليه فكان وجه الخصوصية وكذلك مسجد منى.
وتستحب التلبية دبر كل صلاة ولو كانت نافلة، وعلى مكان مرتفع من الأرض، قال مالك: «سمعت بعض أهل العلم يستحب التلبية دبر كل صلاة، وعلى كل شرف من الأرض» [الموطأ رقم: 944]، وكذا يندب لقيام وقعود ونزول وركوب وصعود وهبوط وملاقاة رفاق وسماع ملب.
نصوص الحديث:
مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّامِ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ»، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ» [الموطأ رقم: 930].
عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ مَا شَأْنُ النَّاسِ يَأْتُونَ شُعْثًا وَأَنْتُمْ مُدَّهِنُونَ أَهِلُّوا إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ» [الموطأ رقم: 961].
قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: «وَإِنَّمَا يُهِلُّ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ بِالْحَجِّ إِذَا كَانُوا بِهَا، وَمَنْ كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ» [الموطأ رقم: 963].
ترجمة الراوي:
عبد الرحمن بن القاسم: الإمام المشهور أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي المصري، أشهر من أخذ وروی عن إمامنا مالك والليث وعبد العزيز بن الماجشون وغيرهم، وروى عنه أصبغ وسحنون وعيسى بن دينار والحارث بن مسكين ويحيى بن يحيى الأندلسي توفي 191هـ.
شرح المفردات:
الجحفة: قرية بينها وبين مكة خمس مراحل أو ست.
ذي الحليفة: قرية بينها وبين مكة مائتا میل وبها بئر يقال لها: بئر علي.
نجد: كل مكان مرتفع وهو اسم لعشرة مواضع، والمراد هنا التي أعلى تهامة واليمن، وأسفلها الشام والعراق.
قرن: بفتح القاف وسكون الراء، اسم مكان والمراد به قرن المنازل لا قرن الثعالب.
يلملم: ويقال: ألملم بالهمزة، مكان على مرحلتين من مكة.
أولا: تعريف مواقيت الإهلال
المواقیت جمع ميقات كمواعيد وميعاد، وأصله أن يجعل للشيء وقت يختص به، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان. وقال ابن دقيق العيد: قيل: التوقيت لغة التحديد والتعيين، فعلى هذا فالتحديد من لوازم الوقت.
ومواقيت الحج نوعان: مواقيت زمانية، ومواقيت مكانية.
فالزمانية هي شوال وذو القعدة وذو الحجة.
والمكانية خمسة حسب جهات الحرم، وهي: ذو الحليفة، وقرن المنازل، والجحفة، ويلملم، وذات عرق.
ثانيا: أسماء المواقيت المكانية ومن يحرم منها
يبين هذه الأنواع وأهلها الذين يحرمون منها ما رواه مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهل أهل الشام من الجحفة، ويهل أهل نجد من قرن». قال عبد الله بن عمر: وبلغني أن سول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويهل أهل اليمن من يلملم». وهذه المواقيت المكانية هي:
1- ذو الحليفة: وهي ميقات لأهل المدينة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «هل أهل المدينة من ذي الخليفة». ويهل بضم أوله: يحرم، وهو بصيغة الخبر مرادا به الأمر؛ لحديث عبد الله بن عمر أنه قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المدينة أن يهلوا من ذي الخليقة» [الموطأ رقم: 931]. والمراد بأهل المدينة: مدينته صلى الله عليه وسلم. وذو الحليفة أبعد المواقيت من مكة، فقيل: حكمة ذلك أن يعظم أجور أهل المدينة، ويسمى هذا المكان أبيار علي.
2 - الجحفة: وهي ميقات لأهل الشام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ويهل أهل الشام من الجحفة». زاد النسائي من حديث عائشة: «ومصر». وزاد الشافعي في روايته: «والمغرب».
3- قرن المنازل، وهو ميقات أهل نجد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ويه أهل نجد من قرن». ونجد تطلق على مواضع، والمراد هنا التي أعلى تهامة واليمن، وأسفلها الشام والعراق.
4- يلملم، وهو ميقات أهل اليمن؛ لقول عبد الله بن عمر: وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويهل أهل اليمن من يلملم». قال ابن عبد البر: اتفقوا على أن ابن عمر لم يسمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف بين العلماء أن مرسل الصحابي صحيح حجة.
5 - ذات عرق، وهي ميقات لأهل العراق، روي الشافعي عن طاوس قال: لم يوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات عرق، ولم يكن حينئذ أهل المشرق، وكذا قال مالك في المدونة.
6- ميقات أهل مكة، يهل أهل مكة منها ويندب الإهلال من المسجد؛ فإذا كانوا بغيرها وأرادوا الحج أحرموا من الميقات الذي يمرون به إن كان، وإلا فمن المحل الذي هم فيه؛ لقول يحيى: «قال مالك: وإنما يهل أهل مكة بالحج إذا كانوا بها، ومن كان مقيما بمكة من غير أهلها من جوف مكة لا يخرج من الحرم»؛ لأنه سيخرج له للوقوف بعرفة، فقد جمع بين الحل والحرم في إحرامه.
ومن أهل من مكة بالحج فليؤخر طواف الإفاضة والسعي بين الصفا والمروة ليوقعه عقب الطواف حتى يرجع من مني يوم النحر، قال مالك: «ومن أهل من مكة بالحج فليؤخر الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى، وكذلك صنع عبد الله بن عمر» [الموطأ رقم: 964]. وسئل مالك عمن أهل بالحج من أهل المدينة أو غيرهم من مكة لهلال ذي الحجة كيف يصنع بالطواف؟ «قال مالك: أما الطواف الواجب فليؤخره، وهو الذي يصل بينه وبين السعي بين الصفا والمروة، وليطف ما بدا له، وليصل ركعتين كلما طاف سبعا، وقد فعل ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أهلوا بالحج من مكة، فأخروا الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، حتى رجعوا من منى، وفعل ذلك عبد الله بن عمر، كان يهل لهلال ذي الحجة بالحج من مكة، ويؤخر الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى» [الموطأ رقم: 965].
وما تقدم بالنسبة لمن أهل بالحج، أما من أهل بعمرة فيخرج إلى الحل ليحرم، فقد سئل مالك عن رجل من أهل مكة، هل يهل من جوف مكة بعمرة؟ قال: «بل يخرج إلى الحل فيحرم منه» [الموطأ رقم: 966]. وذلك لأن شرط الإحرام الجمع بين الحل والحرام، لأن العمرة زيارة البيت، وإنما يزار الحرم من خارج، كما يزار المزور في بيته من غير بيته.
ثالثا: حكم مجاوزة المواقيت المكانية والحكمة من تحديدها
1. حكم مجاوزة المواقيت
لا تجوز مجاوزة هذه المواقيت بلا إحرام لمريد الحج أو العمرة، وبه قال الأئمة الأربعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «هل أهل المدينة من ذي الحليفة» الحديث. ولقول عبد الله بن عمر: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المدينة أن يهلوا من ذي الحليفة وأهل الشام من الجحفة وأهل نجد من قرن». قال عبد الله بن عمر: أما هؤلاء الثلاث فسمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويهل أهل اليمن من يلملم» (الموطأ رقم: 931). والأمر في الحديث يقتضي الوجوب، ومن جاوز هذه المواقيت يجب عليه الدم. قال ابن عبد البر: فلو رجع للميقات قبل التلبس بالنسك سقط عنه الدم عند الجمهور، قال مالك: بشرط أن لا يبعد. وهذا فيمن لم يكن بين يديه ميقاته. فأما كمصري وشامي أراد النسك فمر بالمدينة فميقاته ذو الحليفة لاجتيازه عليها، ولا يؤخر حتى يأتي الجحفة التي هي ميقاته الأصلي، فإن أخر أساء ولزمه دم عند الجمهور.
2 - الحكمة من تحديد المواقيت
المواقيت محيطة بالحرم؛ فذو الحليفة شامية، ويلملم يمانية، فهي تقابله، وإن كانت إحداهما أقرب إلى مكة من الأخرى، وقرن شرقية، والجحفة غربية فهي تقابلها، وذات عرق تحاذي قرنا، فعلى هذا لا تخلو بقعة من بقاع الأرض من أن تحاذي ميقاتا من هذه المواقيت، ثم المحاذاة مختصة بمن ليس ميقاته أمامه كالمصري يمر ببدر وهي تحاذي ذا الحليفة فليس عليه الإحرام منها بل يؤخر إلى الجحفة.
وفي تخصيص كل بلد بمیقات حكمة خاصة، قال القاضي عياض - رحمه الله -: فيه رفق النبي صلى الله عليه وسلم بأمته في توقيت هذه المواقيت، فجعل الأمر لأهل الآفاق بالقرب، ولأهل المدينة أبعد المواقيت؛ لأنها أقرب الآفاق إلى مكة. قال: وفي الحديث معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم، وهي ما تضمنه توقيت الجحفة لأهل الشام من الإشارة إلى أنها تصير دار الإسلام يحج المسلمون منها، ولم تكن ذلك الوقت قد فتحت.
رابعا: المواقيت الزمانية
الميقات الزماني للإحرام يبتدئ من فاتح شوال إلى ما قبل طلوع الفجر من يوم الأضحى. ويستحب لأهل مكة الإحرام عند رؤية هلال ذي الحجة؛ لقول عمر رضي الله عنه: «يا أهل مكة ما شأن الناس يأتون شعتا وأنتم مدهنون، أهلوا إذا رأيتم الهلال». ولما رواه مالك عن هشام بن عروة «أن عبد الله بن الزبير أقام بمكة تسع سنين وهو يهل بالحج لهلال ذي الحجة، وعروة بن الزبير معه يفعل ذلك» (الموطأ رقم: 962]. وهذا الحكم يشمل أهل مكة والمقيمين بها ممن ليسوا من أهل مكة، قال يحيى: «قال مالك: وإنما يهل أهل مكة بالحج إذا كانوا بها، ومن كان مقيما بمكة من غير أهلها من جوف مكة لا يخرج من الحرم» [الموطأ رقم: 963].
تمهيـد:
الإحرام بالحج فيه نوع من التجرد من ملذات الدنيا وشهواتها وتفرغ لعبادة الحج ومقاصدها، ومن أجل ذلك منع الشرع بعض التصرفات تحقيقا لمقاصد الحج، وابتلاء للمحرم وتقديسا للحرم وما فيه. وأجاز بعض التصرفات لعدم منافاتها لمقاصد الحج تيسيرا على المحرم وتخفيفا عليه.
نصوص الحديث:
مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ، أَخِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ أَرْسَلَ إِلَى أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَأَبَانُ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْحَاجِّ، وَهُمَا مُحْرِمَانِ، إِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أُنْكِحَ طَلْحَةَ بْنَ عُمَرَ بِنْتَ شَيْبَةَ بْنِ جُبَيْرٍ. وَأَرَدْتُ أَنْ تَحْضُرَ. فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَبَانُ، وَقَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْكِحِ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ وَلَا يَخْطُبُ» [الموطأ رقم: 999].
مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ. تَخَلَّفَ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِينَ. وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ. فَرَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا. فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ. فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ. فَأَبَوْا عَلَيْهِ. فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ. فَأَبَوْا. فَأَخَذَهُ. ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ. فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَى بَعْضُهُمْ. فَلَمَّا أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ: «إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ» [الموطأ رقم: 1007].
- أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه: السلمي فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد أحدا والحديبية وله عدة أحاديث اسمه الحارث بن ربعي على الصحيح، حدث عنه أنس بن مالك وسعيد بن المسيب وعطاء بن يسار وعلي بن رباح، توفي بالمدينة عام 54 هـ.
شرح المفردات:
لا يَنْكِحُ: أي لا يعقد لنفسه.
ولا يُنْكِحُ: أي لا يعقد لغيره.
أولا: نكاح المحرم وخطبته ورجعته
1 - نكاح المحرم وخطبته
لا يجوز للمحرم أن يعقد لنفسه ولا لغيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب». فلا يجوز للمحرم أن يعقد لغيره بولاية ولا وكالة، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينكح المحرم ولا ينكح». بالجزم فيهما على النهي، كما ذكر الخطابي أنه الرواية الصحيحة. «ولا يخطب» فيمنع من الخطبة أيضا، كما هو ظاهر الحديث، وبه قال الجمهور.
وفي الحديث حرمة عقد المحرم نكاحا لنفسه أو غيره، وبه قال الجمهور من الصحابة، فمن بعدهم، فلو عقد لم يصح، ويفسخ أيضا بطلقة عند مالك للاختلاف فيه، فيزال الاختلاف بالطلاق احتياطا، وفي ذلك قال ابن عاصم في التحفة: "وفـسـخ فـاسـد بـلا وفـاق *** بـطـلـقـة تعـد في الطـلاق". ويؤيده أيضا ما رواه مالك عن داود بن الحصين: «أن أبا غطفان بن طريف المري أخبره أن أباه طريفا تزوج امرأة وهو محرم فرد عمر بن الخطاب نكاحه» [الموطأ رقم: 1000]. وما رواه مالك عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان يقول: «لا ينكح المحرم ولا يخطب على نفسه ولا على غيره» [الموطأ رقم: 1001]. وعن مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار سئلوا عن نكاح المحرم فقالوا: "لا ينكح المحرم ولا ينكح". [الموطأ رقم: 1002].
2 - مراجعة المحرم
قال مالك في الرجل المحرم: «إنه يراجع امرأته إن شاء إذا كانت في عدة منه» [الموطأ رقم:1003]؛ لأن الرجعة ليست بنكاح، فلم تدخل في حديث النهي عن النكاح والخطبة، فأما إن خرجت من عدتها، فلا يعيدها؛ لأنه نكاح فيدخل في الحديث، قال أبو عمر: لا خلاف في ذلك بين أئمة الفتوى بالأمصار؛ لأن المراجعة لا تحتاج إلى ولي ولا صداق.
ثانيا: ما يحل للمحرم أكله من الصيد وما لا يحل
1. ما يحل للمحرم أكله من الصيد
أ- صيد البر الذي صاده غيره: يجوز للمحرم أكل صيد البر إذا صاده غير المحرم؛ الحديث مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله التميمي عن نافع مولى أبي قتادة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانوا يبغض طريق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين، وهو غير محرم، فرأى حمارا وحشيا فاستوى على فرسه فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا عليه، فسألهم رمحه فأبوا، فأخذه ثم شد على الحمار فقتله، فأكل منه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى بعضهم، فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك فقال: «إنما هي طعمة أطعموها الله». وفيه جواز الاجتهاد في الفروع، والاختلاف فيها إذا استند كل إلى دليل في ظنه.
وفي حديث زيد بن أسلم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هل معكم من لحمه شيء؟» الموطأ رقم: 1009]. فدل الحديث على جواز أكل المحرم لحم الصيد إذا لم يكن منه دلالة أو إعانة عليه أو إشارة إليه، فإن صاده أو صيد لأجله بإذنه أو بغير إذنه حرم عند الجمهور؛ لحديث جابر، مرفوعا: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه، أو يصاد لكم» رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي وعلى هذا مالك رحمه الله.
ب- تزود المحرم بما صاده قبل إحرامه: يجوز للمحرم أن يتزود مما قد صاده قبل إحرامه؛ فعن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه: «أن التزبير بن العوام كان يتزود صفيف الظباء وهو محرم. قال مالك: والصفيف القديد» [الموطأ رقم: 1008].
ج- من أحرم وعنده صيد: قال مالك فيمن أحرم وعنده صيد قد صاده أو ابتاعه: ليس عليه أن يرسله، ولا بأس أن يجعله عند أهله» (الموطأ رقم: 1015]. فقوله: «ليس عليه أن يرسله» أي إذا كان في بيته «ولا بأس أن يجعله عند أهله»، أي يبقيه عندهم، وليس المراد أنه يبعث به بعد إحرامه، وهو معه إلى أهله. قال ابن وهب: وسألت مالكا عن الحلال يصيد الصيد، أو يشتريه، ثم يحرم وهو معه في قفص، فقال: يرسله بعد أن يحرم، ولا يمسكه بعد إحرامه.
2 - ما لا يحل للمحرم أكله من الصيد
لا يجوز للمحرم أكل صيد البر سواء صاده بنفسه أو صيد من أجله؛ لما رواه مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس، عن الصعب بن جثامة الليثي، أنه أهدى لرسول اللہ صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان، فرده عليه رسول اللہ صلى الله عليه وسلم، فلما رأى رسول اللہ صلى الله عليه وسلم ما في وجهي قال: «إنّا لم نرده عليك إلّا أنا حرم» [الموطأ رقم: 1017]. فيمنع على المحرم أكل الصيد إذا صيد لأجله. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم». تطييب لقلب الرجل الذي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم. والإجماع على أنه يحرم على المحرم قبول صيد وهب له، وأصل الإجماع قوله تعالى: ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾ [المائدة: 98]
وينبغي للمحرم أن يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه، ويترك ما شك فيه، وحاك في صدره؛ لما رواه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت له: يا ابن أختي، إنما هي عشر ليال، فإن تخلج في نفسك شيء فدعه. تعني أكل لحم الصيد» [الموطأ رقم: 1019].
ومن أكل ما صيد لأجله وهو يعلم فإن عليه جزاء ذلك الصيد كله، لا بقدر أكله؛ لأن الجزاء لا يتبعض، قال مالك في الرجل المحرم يصاد من أجله صيد، فيصنع له ذلك الصيد، فيأكل منه وهو يعلم أنه من أجله صيد: فإن عليه جزاء ذلك الصيد كله» [الموطأ رقم: 1020].
الاستثمار:
سئل مالك عن الرجل يضطر إلى أكل الميتة وهو محرم، أيصيد الصيد فيأكله أم يأكل الميتة؟ فقال: بل يأكل الميتة، وذلك أن الله تبارك وتعالى لم يرخص للمحرم في أكل الصيد ولا في أخذه في حال من الأحوال، وقد أرخص في المميتة على حال الضرورة» [الموطأ رقم: 1021].
نصوص الحديث:
قَالَ مَالِكٌ: «كُلُّ شَيْءٍ صِيدَ فِي الْحَرَمِ، أَوْ أُرْسِلَ عَلَيْهِ كَلْبٌ فِي الْحَرَمِ، فَقُتِلَ ذَلِكَ الصَّيْدُ فِي الْحِلِّ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ. وَعَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ جَزَاءُ الصَّيْدِ. فَأَمَّا الَّذِي يُرْسِلُ كَلْبَهُ عَلَى الصَّيْدِ فِي الْحِلِّ. فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يَصِيدَهُ فِي الْحَرَمِ. فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ جَزَاءٌ. إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرْسَلَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْحَرَمِ فَإِنْ أَرْسَلَهُ قَرِيبًا مِنَ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ» [الموطأ رقم: 1024].
قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ. وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا. فَجَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ، هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ، أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ، أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] قَالَ مَالِكٌ: «فَالَّذِي يَصِيدُ الصَّيْدَ وَهُوَ حَلَالٌ. ثُمَّ يَقْتُلُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ. بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَبْتَاعُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ. ثُمَّ يَقْتُلُهُ. وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِ. فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ أَصَابَ الصَّيْدَ وَهُوَ مُحْرِمٌ حُكِمَ عَلَيْهِ»[الموطأ رقم: 1025].
مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ "[الموطأ رقم: 1028].
تمهيد:
على المحرم أن يجتهد في العبادة بكل أنواعها ما وسعه الأمر، وأن يتجنب ما يشغله عن الخضوع والتذلل وتوحيد القصد الله تعالى، فيمتنع عن مطاردة الصيد وغيره من الصوارف، وعن قتل أي حيوان إلا ما أُذن له في قتله.
فما حكم وجزاء الصيد في الحرم؟ وما هي الدواب التي أذن للمحرم في قتلها؟ وما علة ذلك؟
ترجمة الراوي:
يحيى: هو يحيى بن يحيى بن كثير الليثي، سمع الموطأ من زياد بن عبد الرحمن المعروف بشبطون، ثم رحل إلى مالك رحمه الله فسمع منه الموطأ، سماه مالك عاقل الأندلس، انتهت إليه رئاسة الفقه بالأندلس، توفي يحيى عام 234هـ.
شرح المفردات:
الصيد: المراد به هنا ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل، إلا المستثنيات.
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ: وقد أحرمتم بأحد النسكين، أو دخلتم الحرم.
الحدأَةُ: جمعها حدى كعنب، من أخس الطير يخطف أطعمة الناس.
الْكَلْبُ الْعَقُورُ: كل ما عقر الناس وأخافهم، مثل الأسد والنمر والفهد والذئب.
أولا: الصيد في الحرم
1 - حكم أكل ما صيد في الحرم
كل صَيْدٍ صِيدَ في الحرم وإن من حلال، أو أرسل عليه كلب أو نحوه من الحل فأخرجه من الحرم وقتله في الحلِّ فإنه لا يؤكل، وعلى من فعل ذلك جزاء الصيد، قَالَ مَالِكٌ: «كُلِّ شَيْءٍ صِيدَ فِي الْحَرَمِ، أَوْ أُرْسِلَ عَلَيْهِ كَلْبٌ فِي الْحَرَمِ، فَقُتِلَ ذَلِكَ الصَّيْدُ فِي الْحِلّ، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَعَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ جَزَاءُ ذَلِكَ الصَّيْدِ».
2 - طلب الصيد في الحل واصطياده في الحرم
إذا طلب غير المحرم صيدا في الحل وصاده في الحرم فإنه لا يؤكل، وليس عليه في ذلك جزاء؛ لأن دخول المعلم ليس من فعله ولا مقدوره، فإن أرسله عليه وهو قريب من الحرم فعليه جزاء الصيد؛ لأن القرب صير الدخول كأنه من فعله؛ لقول مالك في الموطأ: «فَأَمَّا الَّذِي يُرْسِلُ كَلْبَهُ عَلَى الصَّيْدِ فِي الْحِلّ، فَيَطْلُبُهُ حَتّى يَصِيدَهُ فِي الْحَرَمِ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ جَزَاءً، إلا أَنْ يَكُونَ أَرْسَلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْحَرَمِ، فَإِنْ أَرْسَلَهُ قَرِيباً مِنَ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ».
ثانيا: جزاء قتل الصيد
1 - حكم من قتل صيدا وهو حرام أو في الحرم
ذهب الجمهور سلفا وخلفا إلى أن من قتل صيدا وهو محرم أو في الحرم عامدا أو ناسيا يجب عليه الجزاء، فالقرآن دل على وجوب الجزاء على العامد، وعلى إثمه بقوله: ﴿لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ﴾ [المائدة: 97] وجاءت السنة بوجوب الجزاء في الخطأ، قال ابن شهاب: «يجب على العامد الجزاء بالآية، وعلى المخطئ بالسنة» [المنتقى شرح الموطأ للباجي]. ويحكم على من قتل الصيد في الحرم وهو حلال بمثل ما يحكم به على المحرم من الجزاء؛ لتناول الآية لهما، قال مالك: سَمِعْتُ أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَى مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ وَهُوَ حَلَالٌ بِمِثْلِ مَا يُحْكَمُ بِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ الَّذِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ وَهُوَ مُحْرِمٌ» [الموطأ رقم: 1027]. وكذا الذي يصيد الصيد وهو حلال ثم يقتله وهو محرم، قال مالك: «فَالَّذِي يَصِيدُ الصَّيْدَ وَهُوَ حَلاَلٌ، ثُمّ يَقْتُلُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَبْتَاعُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، ثُمَّ يَقْتُلُهُ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِ، فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ».
2 - جزاء صيد المحرم
يجب على من قتل صيدا وهو محرم أو في الحرم أن يُحَكِّمَ عدلين فقيهين بذلك من المسلمين، قَالَ مَالِكٌ: «وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا: أَنّ مَنْ أَصَابَ الصَّيْدَ وَهُوَ مُحْرِمٌ حُكِمَ عَلَيْهِ»، ويخيره العدلان بين:
أ- إخراج مثل الصيد أو مقاربه في الصورة من النعم إن كان له مثل أو مقارب، والمثلية باعتبار الخلقة والهيئة.
ب إخراج قيمة الصيد طعاما، وتعتبر القيمة بالموضع الذي قتله به.
ج- صيام يوم عن كل مد، وينظر عدة المساكين، فإن كانوا عشرة صام عشرة أيام عددهم وهكذا قلُّوا أو كثروا، وإن كانوا أكثر من ستين مسكينا؛ لقوله تعالى: ﴿أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا﴾ [المائدة: 97]، يخير بين هذه الثلاثة، وفي ذلك قيل: ظهارا وقتلا رتـبـوا وتمتعا *** كما خيروا بين الصوم والصيد والأذى وفي حلف بالله خير ورتبن ... فدونك سبعا إن حفظت فحبذا.
قال مالك: «أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي الَّذِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ فِيهِ: أَنْ يُقَوْمَ الصَّيْدُ الَّذِي أَصَابَ، فَيُنْظَرَ كَمْ ثَمَنُهُ مِنَ الطَّعَامِ، فَيُطْعِمَ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًا، أَوْ يَصُومَ مَكَانَ كُلِّ مُدٍ يَوْماً، وَيُنْظَرَ كَمْ عِدَةُ الْمَسَاكِينِ، فَإِنْ كَانُوا عَشَرَةً صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانُوا عِشْرِينَ مِسْكِيناً، صَامَ عِشْرِينَ يَوْماً، عَدَدَهُمْ مَا كَانُوا، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ مِسْكِيناً» [الموطأرقم: 1026].
ثالثا: ما أذن الشرع في قتله في الحرم
1 - حكم قتل الدواب الست
يجوز للمحرم وفي الحرم قتل الدواب الست؛ لحديث الباب، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ الْفَارَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» [الموطا رقم: 1030]، وعن ابن شهاب: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَاتِ فِي الْحَرَمِ» [الموطأ رقم: 1031]، فهي ست فواسق أذن في قتلها في الحل والحرم ومثله في صحيح مسلم عن ابن عمر.
2 - علة الإذن في قتل الفواسق الست
العلة عند مالك في قتل الفواسق المذكورة في الحديث كونهن مؤذيات، فكل مؤذ يجوز للمحرم وفي الحرم قتله قياسا على هذه المذكورات، ولا فدية عليه، ولا يقتل المحرم ما ضر من الطير إلا الغراب والحدأة، فإن قتل غيرهما فداه، قال مالك: «وَأَمّا مَا ضَرٌ مِنَ الطَّيْرِ، فَإِنَّ الْمُحْرِمَ لا يَقْتُلُهُ، إِلا مَا سَمّى النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْغُرَابُ، وَالْحَدَأَةُ، وَإِنْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ شَيْئًا مِنَ الطَّيْرِ سِوَاهُمَا فَدَاهُ» [الموطا رقم: 1033]، إلا أن يخاف منه ولا يندفع إلا بقتله، قال الباجي: لا خلاف أنه لا يجوز قتل سباع الطير غير ما في الحديث ابتداء، ومن قتلها فعليه الفدية، فإن ابتدأت بالضرر، فلا جزاء على قاتلها على المشهور من المذهب فيمن عدت عليه سباع الطير، وغيرها».
وأما ما لا يؤذي من السباع فلا يقتله المحرم، فإن قتله فداه، قال مالك: «وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ السبَاعِ لَا يَعْدُو، مِثْلُ الضَّبُعِ، وَالثَّعْلَبِ، وَالْهِرِ، وَمَا أَشْبَهَهُنَّ مِنَ السَّبَاعِ فَلَا يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ، فَإِنْ قَتَلَهُ فَدَاهُ» [الموطأ رقم: 1032].
يستفاد مما سبق حرمة البيت الحرام فمن دخله كان آمنا من إنسان أو حيوان، ولا يستثنى من ذلك إلا ما كان مؤذيا للإنسان فيجوز قتله دفعا لضرره الواقع أو المتوقع.
التقويم:
1 - بين مع التعليل حكم قتل المحرم الحمام - العقرب - النسر – الحية.
2 - ما جزاء من قتل صيدا وهو محرم؟
نصوص الحديث:
مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ. فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا. لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ. أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟» قَالَ: «نَعَمْ». وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ [الموطأ رقم: 1041].
مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ. فَنَحَرُوا الْهَدْيَ، وَحَلَقُوا رُءُوسَهُمْ، وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ. وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ الْهَدْيُ» ثُمَّ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا، وَلَا يَعُودُوا لِشَيْءٍ " [الموطأ رقم: 1043].
مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُحْصَرُ بِمَرَضٍ لَا يَحِلُّ. حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. فَإِذَا اضْطُرَّ إِلَى لُبْسِ شَيْءٍ مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا، أَوِ الدَّوَاءِ، صَنَعَ ذَلِكَ وَافْتَدَى» [الموطأ رقم: 1046].
تمهيد:
العبادة أقسام ثلاثة: بدنية محضة تمنع فيها الاستنابة، كالصلاة والصيام، ومالية محضة تجوز فيها الاستنابة، كالزكاة والصدقة، وعبادة تجمع بين المال والبدن وهي
الحج.
فما حكم الاستنابة في الحج الفرض؟ وما حكم من أحصر عن الحج بعدو أو بغيره؟
ترجمة الراوي:
عبد الله بن عباس رضي الله عنه: هو عبد الله بن عَبَّاس بن عبد المطلب الْهَاشِمِي، ابن عم رَسُول الله وترجمان الْقُرْآن كَانَ يُقَال لَهُ الحبر وَالْبَحْرِ، دعا لَهُ النبي صلى الله عليه وسلم بالحكمة. مَاتَ بِالطَّائِف سنة: 68 هـ، وَهُو ابن 71 أَو 72 سنة.
شرح المفردات:
المحصَر: المحبوس والممنوع من المُضِي إلى الحج.
أولا: الاستنابة في الحج الفرض
قول الخثعمية: «إِنّ فَرِيضَةَ اللهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخاً كَبِيراً، لا يَسْتَطِيعُ أن يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجَّ عَنْهُ؟» سؤالٌ منها عن صحة النيابة في الحج، وقول النبي: «نعم» يقتضي صحة النيابة في الحج الفرضِ عن العاجز عنه. واستدل بهذا الحديث من قال بوجوب الاستنابة على العاجز، قال عياض ولا حجة فيه؛ لأن قولها: «فَرِيضَةَ اللهِ» لا يوجب دخول أبيها في هذا الفرض، وإنما الظاهر من الحديث أنها أخبرت أن فرض الحج بالاستطاعة نزل وأبوها غير مستطيع، فسألت هل يباح لها أن تحج عنه، ويكون له في ذلك أجر، ولا يخالفه قوله في رواية: «فَحُجِّي عَنْهُ»؛ لأنه أمر ندب وإرشاد ورخصة لها أن تفعل؛ لما رأى من حرصها على تحصيل الخير لأبيها. وقال ابن عبد البر: حديث الخثعمية خاص بها، لا يجوز أن يتعدى إلى غيرها؛ لقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97]، وكان أبوها ممن لا يستطيع، فلم يكن عليه الحج، فكانت ابنته مخصوصة بذلك الجواب، وممن قال بذلك مالك، وأصحابه، ومن القواعد أن من شروط حكم الأصل في القياس عدم العدول عن سنن القياس.
ثانيا: الإحصار عن الحج
يتبين من أحاديث الدرس أن حكم الإحصار عن الحج يختلف باختلاف سببه، وسببه أمران وبيانهما في الآتي:
1 - الإحصار بعدو
إِذا مَنَعَ عدوٌّ مُريدَ الحج أو العمرة من الوصول إلى البيت فإنه يُحل مكانه من كل ممنوعات الإحرام، ويحلق رأسه، وينحر هديه، وليس عليه قضاء؛ لفعله صلى الله عليه وسلم ذلك لما أحصر عام الحديبية، قال مالك: «مَنْ حُبِسَ بِعَدُوٍّ فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَإِنَّهُ يُحِلُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَيَنْحَرُ هَدْيَهُ، وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ حَيْثُ حُبِسَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءً» [الموطا رقم: 1042]، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: «مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ» [الموطأ رقم: 1044]، يقصد الحج والعمرة، فإذا جاز التحلل في العمرة مع أنها غير محدودة بوقت فهو في الحج أجوز، قال مالك: فَهَذَا الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ، كَمَا أُحْصِرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ» [الموطا رقم: 1045]، ولا قضاء؛ لأن الله قال: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة: 195].
2 - الإحصار بغير عدو
من أحصر بغير عدو كمرض ونحوه فإنه لا يحل إلا عند البيت، قال مالك: «فَأَمَّا مَنْ أُحْصِرَ بِغَيْرِ عَدُوٍّ، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ دُونَ الْبَيْتِ» [الموطا رقم: 1045]؛ لأن الآية وردت في حكم إحصاره وأصحابه، وكان بالعدو، وقال في سياق الآية: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ [سورة البقرة: الآية 195]، فعلم أن مشروعية الإحلال كان لتحصيل الأمن من العدو، والإحلال لا يجوز من المرض، فلا يكون النص الوارد في العدو واردا في المرض، فلا يُلحق به دلالة ولا قياسا؛ لأن مشروعية التحلل بعد الإحرام وقبل أداء الأفعال على خلاف القياس، فلا يقاس عليه. وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: «الْمُحْرِمُ لَا يُحِلُّهُ إِلَّا الْبَيْتُ» [الموطأ رقم: 1047].
ومن صور الإحصار بغير عدو: الخطأ في العدد، وخفاء الهلال، وكسر بعض الأعضاء، وإسهال البطن، ووجع الولادة، ومن أصابه أمر منعه من الوقوف بعرفة، ومن فاته الحج فأتى يوم النحر. قَالَ مَالِكٌ : «وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا أَيُّوب الْأَنْصَارِيِّ وَهَبَارَ بْنَ الْأَسْوَدِ حِينَ فَاتَهُمَا الْحَجُّ، وَأَتَيَا يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ يَحِلًّا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ يَرْجِعَانِ حَلَالًا، ثُمَّ يَحُجَانِ عَامًا قَابِلا وَيُهْدِيَانِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ» [الموطا رقم: 1051]، وقال أيضا: «وَكُلُّ مَنْ حُبِسَ عَنِ الْحَجِّ بَعْدَ مَا يُحْرِمُ، إِمَّا بِمَرَضِ أَوْ بِغَيْرِهِ، أَوْ بِخَطَإٍ مِنَ الْعَدَدِ، أَوْ خَفِي عَلَيْهِ الْهِلَالُ، فَهُوَ مُحْصَرٌ، عَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُحْصَرِ» [الموطأ رقم: 1052].
التقويم:
بين طريقة المالكية في التوفيق بين الآية التي تشترط الاستطاعة لوجوب الحج وحديث الخثعمية.
بين حكم ما يأتي مع الاستدلال والتعليل:
- محرم بحج أصابه إغماء منعه من إدراك عرفة.
- أحرم رجل بعمرة، فمنع من الوصول إلى البيت.
الاستثمار:
مَالِكَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرٌ بِامْرَأَةٍ وَهِيَ فِي مَحَفَتِهَا، فَقِيلَ لَهَا: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ، فَأَخَذَتْ بِضَبْعَيْ صَبِي كَانَ مَعَهَا فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ» [الموطا رقم: 1269].
معنى: بِضَبْعَيْ: ما بين الإِبط إِلى نصف العضُدِ من أَعلاها.
ابحث في شرح الزرقاني وأجيب عن الأسئلة:
اشرح: وَهِيَ فِي مَحَفَّتِهَا – فَأَخَذَتْ بِضَبْعَيْ صَبِيِّ.
بين حكم حج الصبي.
نصوص الحديث:
مَالِكٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ» قَالَ مَالِكٌ: «وَذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا» [الموطأ رقم: 1059].
مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: «كَيْفَ صَنَعْتَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ فِي اسْتِلَامِ الرُّكْنِ؟» فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: «اسْتَلَمْتُ وَتَرَكْتُ»، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصَبْتَ» [الموطأ رقم: 1065].
مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ لِلرُّكْنِ الْأَسْوَدِ: " إِنَّمَا أَنْتَ حَجَرٌ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَبَّلَكَ، مَا قَبَّلْتُكَ. ثُمَّ قَبَّلَهُ " [الموطأ رقم: 1067].
مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ الْقَارِيَّ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَلَمَّا «قَضَى عُمَرُ طَوَافَهُ، نَظَرَ فَلَمْ يَرَ الشَّمْسَ طَلَعَتْ. فَرَكِبَ حَتَّى أَنَاخَ بِذِي طُوًى. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ» [الموطأ رقم: 1075].
ترجمة الراوي:
جابر بن عبد الله رضي الله عنه: هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن صاحبه أحد المكثرين. وفي الصحيح عنه أنه كان مع من شهد العقبة. توفي سنة 78 هـ.
شرح المفردات:
- استلام: افتعال من السَّلام، وهو التحية، وقيل من السلام، وهي الحجارة.
- رَمَلَ: أسرع في المشي مع تقارب الخطى.
- أَنَاخَ: الإِبلَ، أَبركها فبرَكت.
- بِذِي طُوًى: مُثَلَّثُ الطاء، ويُنَوَّنُ، موضع قرب مكة.
اشتملت أحاديث الدرس على أحكام وفضائل خاصة بالطواف، منها:
أولا: الرمل في الطواف
عن ابن عمر رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: «كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ، يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافِ، وَيَمْشِي أَرْبَعَةً» [صحيح البخاري]، وكذلك كان يفعل عبد الله ابن عمر، وابنا الزبير عبد الله وعروة رضي الله عنهم، وفي الموطأ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ: «كَانَ يَرْمُلُ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، وَيَمْشِي أَرْبَعَةَ أَطْوَافٍ» [الموطأ رقم: 1060]، وعن هشام بن عروة أَنّ أَبَاهُ عُرْوَةَ: «كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ يَسْعَى الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ يَقُولُ:
"اللهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَا *** وَأَنْتَ تُحْيِي بَعْدَ مَا أَمَتّا"
يَخْفِضُ صَوْتَهُ بِذَلِكَ» [الموطأ رقم 1061]، كي لا يشغل الناس بسماعه عما هم فيه، قال مالك: «وَذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا»، فالرمل سنة في الثلاثة الأول من الطواف، فلو تركه فيها ولو عمدا لم يرمل فيما بقي. ولم يخالف إلا ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «لَيْسَ هُوَ بِسُنَّةٍ، مَنْ شَاءَ رَمَلَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَرْمُلُ» [فتح الباري لابن حجر 270/4]. ويستثنى من ذلك من أحرم من مكة فلا يستحب له الرمل، فعن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: «كَانَ لَا يَرْمُلُ إِذَا طَافَ حَوْلَ الْبَيْتِ إِذَا أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ» الموطأ رقم: 1063].
ثانيا: الاستلام في الطواف
1 - تقبيل الركن الأسود عند الاستلام
يسن تقبيل الركن الأسود لمن قدر عليه مع اعتقاد أنه مخلوق لا يضر ولا ينفع، قال عمر رضي الله عنه وهو يطوف بالبيت للركن الأسود: «إِنَّمَا أَنْتَ حَجَرٌ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَكَ مَا قَبلْتُكَ، ثُمّ قَبْلَهُ»؛ لأن متابعته صلى الله عليه وسلم مطلوبة وإن لم يُعقل معناها، وفيها نفع وثواب، وهذا يدل على الحرص الشديد من عمر رضي الله عنه على العمل بكل ما ورد من نص أو فعل، وعليه يراجع كل ما ينسب إليه من اجتهادات يُدعى أنها مخالفة، فالصواب أنه يجتهد وفق قواعد شرعية، لا عبرة بكلام من لا يفقهها. أما الركن اليماني فلا يقبل بالفم، وإنما توضع اليد عليه ثم توضع على الفم دون تقبيل، قال مالك: «سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُ إِذَا رَفَعَ الَّذِي يَطُوفُ بِالْبَيْتِ يَدَهُ عَنِ الرُّكْنِ الْيَمَانِي، أَنْ يَضَعَهَا عَلَى فِيهِ» [الموطأ رقم: 1068].
2 - المزاحمة على استلام الركن
المراد باستلام الركن تقبيله، فإن زُحم عن تقبيله لمسه بيده ثم وضعها على فيه من غير تقبيل، فإن لم تصل يده فَبِعُود إن كان لا يؤذي به أحدا، ولا يزاحم على استلام الركن، فقد كان عبد الرحمن بن عوف إذا أتى الركن فوجدهم يزدحمون عليه استقبله وكبر ودعا، فإذا وجد خلوة استلمه، قال عروة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عَوْفٍ: «كَيْفَ صَنَعْتَ يَا أَبَا مُحَمّدٍ فِي اسْتِلَام الرُّكْنِ؟» فقال عبد الرحمن: استلمت وتركت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَصَبْتَ».
3 - استلام الأركان الأربعة
الجمهور على أنه لا يُستلم إلا الركن الأسود واليماني، ولا يستلم الركنان الشاميان، أما ما ثبت من طريق هشام بن عروة: «أَنّ أَبَاهُ عُرْوَةَ كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ، يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا، وَكَانَ لَا يَدَعُ الْيَمَانِي، إِلَّا أَنْ يُغْلَبَ عَلَيْهِ» [الموطأ رقم: 1066]، وكذلك كان يفعل عبد الله بن الزبير، فلأن عبد الله لما عمر الكعبة أتم البيت على قواعد إسماعيل، وبقي الأمر على هذا حتى قتل عبد الله.
4 - استلام الركن الأسود بعد الطواف
يُسن استلام الركن الأسود بعد أداء الطواف وصلاة الركعتين، وقبل الخروج إلى الصفا؛ لما روى مالك: «أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كَانَ إِذَا قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ، وَرَكَعَ الرِّكْعَتَيْنِ، وَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ [الموطأ رقم: 1064]. وهذا إن أمكن ذلك دون إذاية للنفس أو الناس.
ثالثا: ركعتا الطواف
1 - حكم ركعتي الطواف بعد الصبح والعصر
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يرى النفل بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، فعن عبد الرحمن بن عبد القاري: «أَنَّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَلَمَّا قَضَى عُمَرُ طَوَافَهُ نَظَرَ فَلَمْ يَرَ الشَّمْسَ، فَرَكِبَ حَتَّى أَنَاخَ بِذِي طُوىً، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ»، قال مالك: «وَلَا بَأْسَ أَنْ يَطُوفَ الرّجُلُ طَوَافًا وَاحِداً بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ، لَا يَزِيدُ عَلَى سَبْعِ وَاحِدٍ، وَيُؤَخِّرُ الرِّكْعَتَيْنِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، كَمَا صَنَعَ عُمَرُ ابْنُ الْخَطَّابِ، وَيُؤَخِّرُهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ صَلَاهُمَا إِنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ أَخْرَهُمَا حَتَّى يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ، لَا بَأْسَ بِذَلِكَ» (الموطا رقم: 1079].
2 - إذا أقيمت صلاة الصبح أو العصر والطائف لم يتم سبعه
قال مالك: «وَمَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ بَعْضَ أَسْبُوعِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ، أَوْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي مَعَ الإِمَامِ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَى مَا طَافَ حَتَّى يُكْمِلَ سُبْعاً، ثُمَّ لَا يُصَلِّي حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ أَوْ تَغْرُبَ. قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ أَخْرَهُمَا حَتَّى يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ، فَلَا بَأْسَ بذلك» [الموطأ رقم: 1078].
تنبيه: بعض أسبوعه أي لم يكمل سبع أطواف وليس المراد أيام الأسبوع.
الاستثمار:
مَالِكَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَخْبَرَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنّ النَّبِيِّ قَالَ: «أَلَمْ تَرَيْ أَنْ قَوْمَكِ حِينَ بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ». قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا تَرُدُهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ». قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ اللّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ، إِلَّا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمِّمْ عَلَى قوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ» [الموطأ رقم: 1056].
نصوص الحديث
مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: «لَا يَصْدُرَنَّ أَحَدٌ مِنَ الْحَاجِّ، حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، فَإِنَّ آخِرَ النُّسُكِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ» [الموطأ رقم: 1080].
قَالَ مَالِكٌ: فِي قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ " فَإِنَّ آخِرَ النُّسُكِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، إِنَّ ذَلِكَ فِيمَا نُرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ، فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، وَقَالَ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33]، فَمَحِلُّ الشَّعَائِرِ كُلِّهَا، وَانْقِضَاؤُهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ " [الموطأ رقم: 1081].
مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَ «إِذَا دَخَلَ مَكَّةَ مُرَاهِقًا خَرَجَ إِلَى عَرَفَةَ. قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ يَطُوفُ بَعْدَ أَنْ يَرْجِعَ» قَالَ مَالِكٌ: " وَذَلِكَ وَاسِعٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. [الموطأ رقم: 1087].
مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ. فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى تَطْهُرِي» [الموطأ رقم: 1230].
تمهيد:
للطواف، آداب، منها: عدم الوقوف للحديث؛ فقد سئل مالك رحمه الله: هل يقف الرجل في الطواف بالبيت الواجب عليه يتحدث مع الرجل؟ فقال: «لاَ أُحِبُّ ذَلِكَ لَهُ» [الموطأ رقم: 1088].
ترجمة الراوي:
عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هو أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي أمير المومنين خليفة رسول الله، يُضرب به المثل في العدل والزهد والتواضع والاستماتة على الحق، ألفت في سيرته المجلدات. استشهد عام: 23 هـ.
شرح المفردات:
لَا يَصْدُرَنَّ: لَا يَنصَرِفَنَّ.
مَحِلُّهَا: مكان حل نحرها.
مُرَاهِقًا: - بكسر الهاء وفتحها - ضاق عليه الوقت حتى يخاف فَوْت الوقوف بعرفة.
أولا: طواف الوداع
1 - حكم طواف الوداع
طواف الوداع مستحب عند مالك؛ لقول عمر رضي الله عنه: «لَا يَصْدُرَنٌ أَحَدٌ مِنَ الْحَاجِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَإِنّ آخِرَ النُّسُكِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ»، فسماه نسكا لكونه عبادة، وذكر مالك أن ذلك مأخوذ من قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 30] ، وقوله: ﴿ ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 31]، قال مالك: «فَمَحِلُ الشَّعَائِرِ كُلَّهَا وَانْقِضَاؤُهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ»، والمراد بالشعائر أَعْلَامُ الحج وأفعاله.
2 - الرجوع لطواف الوداع بعد مغادرة البيت
الرجوع لطواف الوداع بعد مغادرة البيت مستحب مندوب إليه عند مالك، إن لم تلحق الراجع مشقة، ويدل له ما رُوي عن عائشة رضي الله عنها: أَنْ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيّ حَاضَتْ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟». فَقِيلَ: إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ. فَقَالَ: «فَلا إذاً» الموطأ رقم 1232]، فلم يُلزمها بدم ولا أمرها بالمقام ويدل للاستحباب أيضا ما رُوي عن عروة أنه قال: «مَنْ أَفَاضَ فَقَدْ قَضَى اللَّهُ حَجَّهُ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَبَسَهُ شَيْءٌ فَهُوَ حَقِيقٌ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، وَإِنْ حَبَسَهُ شَيْءٌ أَوْ عَرَضَ لَهُ فَقَدْ قَضَى اللهُ حَجَّهُ» [الموطأ رقم: 1083].
ثانيا: طواف القدوم للمراهق
طوافُ القدوم من واجبات الحج، فمن تركه مع القدرة فعليه الدم عند ابن القاسم؛ أما المراهق الذي يضيق وقته عما يحتاج إليه من الطواف والسعي، ويرى أنه إن اشتغل بطواف القدوم فاته الحج فإنه يتوجه إلى عرفة للوقوف الركن، ثم يطوف الإفاضة بعد الرجوع من عرفة، ويسقط عنه طواف القدوم؛ لأنه واجب على غير المراهق؛ فعن مالك أنه بلغه: «أَنّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَاصٍ كَانَ إِذَا دَخَلَ مَكّةَ مُرَاهِقاً، خَرَجَ إِلَى عَرَفَةً قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمّ يَطُوفُ بَعْدَ أَنْ يَرْجِعَ» قَالَ مَالِكٌ: «وَذَلِكَ وَاسِعٌ إِنْ شَاءَ الله»، يعني: لا حرج عليه في ترك طواف القدوم.
ثالثا: طواف الحائض
1 - حكم طواف الحائض
مذهب الجمهور أنه لا يجوز للحائض أن تطوف حتى تطهر من حيضها؛ لنهيه عائشة رضي الله عنها عن ذلك؛ ففي الموطأ: «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُ، غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، حَتّى تَطْهُرِي»، وعلة النهي عند الجمهور هي عدم الطهارة، فيعم الحائض والجنب والمحدثَ ، قال مالك: «لاَ يَطُوفُ أَحَدٌ بِالْبَيْت وَلَا بَيْنَ الصِّفَا وَالْمَرْوَةِ إِلا وَهُوَ طَاهِرٌ» [الموطأ رقم: 1089]، أما ما روي عن ابن عمر ضي الله عنهما أنه: «جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تَسْتَفْتِيهِ فَقَالَتْ: إِنِّي أَقْبَلْتُ أُرِيدُ أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ هَرِقْتُ الدِّمَاءَ، فَرَجَعْتُ حَتَّى ذَهَبَ ذَلِكَ عَنِّي، ثُمّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ هَرِقْتُ الدِّمَاءَ، فَرَجَعْتُ حَتَّى ذَهَبَ ذَلِكَ عَنِّي، ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ هَرَقْتُ الدِّمَاءَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِنَّمَا ذَلِكَ رَكْضَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَاغْتَسِلِي، ثُمَّ اسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ، ثُمّ طُوفِي» [الموطأ رقم: 1086]، فقد أول بأنه أفتاها فتوى مَن عَلِم أنه ليس بحيض، وقد رواه جماعة من رواة الموطأ بلفظ: «أَنَّ عَجُوزاً اسْتَفْتَتْ...»، ودل جوابه على أنها ممن لا تحيض؛ لقوله: «رَكْضَةٌ»، يريد الاستحاضة، ولذا قال لها: «طُوفِي»، وإنما يحل الطواف لمن تحل له الصلاة. وأما قوله: «اغْتَسِلِي»، فعلى مذهبه من ندب الاغتسال للطواف، لا أنه اغتسال للحيض.
2 - المتمتعة إذا حاضت وخشيت فوات الحج وأفعال العمرة
إذا أحرمت المرأة بالعمرة من الميقات، ثم دخلت مكة متمتعة، وهي حائض، وخشيت فوات الحج بانتظار الطهر وأفعالِ العمرة بعده فإنها تهل بالحج وتهدي، قال مالك: «إِنَّهَا إِذَا خَشِيَتِ الْفَوَاتَ أَهَلّتْ بِالْحَجِّ وَأَهْدَتْ، وَكَانَتْ مِثْلَ مَنْ قَرَنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةَ، وَأَجْزَأَ عَنْهَا طَوَافٌ وَاحِدٌ» [الموطأ رقم: 1231].
3 - إذا حاضت المرأة بعد ركعتي الطواف
قال مالك: «وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ إِذَا كَانَتْ قَدْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّتْ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ، فَإِنَّهَا تَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَتَقِفُ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ، وَتَرْمِي الْجِمَارَ، غَيْرَ أَنَّهَا لَا تُفِيضُ حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضَتِهَا» [الموطأ رقم: 1231].
يستفاد من الدرس: حرمة العبادات ومنها الحج فلا تصح إلا على طهارة لما فيها من المناجاة والاتصال بالخالق سبحانه طلبا لرحمته كما يستفاد منه يسر الشريعة وقيامها على الرفق ومراعاة الأحوال الخاصة للناس.
الاستثمار:
مَالِكَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهَا قَالَتْ: «شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي فَقَالَ: طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ. قَالَتْ: فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ يُصَلِّي إِلَى جَانِبِ الْبَيْتِ، وَهُوَ يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتَابِ مَسْطُورٍ»
نصوص الحديث:
مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ، أَرأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ﴾ [البقرة: 157] عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا، فَمَا عَلَى الرَّجُلِ شَيْءٌ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا. فَقَالَتْ عَائِشَةُ كَلَّا. " لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ، لَكَانَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا. إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ وَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ. سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة: 157]" [الموطأ رقم: 1093].
مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، كَانَتْ عِنْدَ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ «فَخَرَجَتْ تَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، مَاشِيَةً، وَكَانَتِ امْرَأَةً ثَقِيلَةً. فَجَاءَتْ حِينَ انْصَرَفَ النَّاسُ مِنَ الْعِشَاءِ. فَلَمْ تَقْضِ طَوَافَهَا. حَتَّى نُودِيَ بِالْأُولَى مِنَ الصُّبْحِ. فَقَضَتْ طَوَافَهَا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ» وَكَانَ عُرْوَةُ، إِذَا رَآهُمْ يَطُوفُونَ عَلَى الدَّوَابِّ، يَنْهَاهُمْ أَشَدَّ النَّهْيِ. فَيَعْتَلُّونَ بِالْمَرَضِ حَيَاءً مِنْهُ، فَيَقُولُ لَنَا، فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ: «لَقَدْ خَابَ هَؤُلَاءِ وَخَسِرُوا» [الموطأ رقم: 1094].
تمهيد:
السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج التي لا يسوغ تركها بحال، ولا ينجبر بالدم والحكمة منه امتثال أمر الله تعالى، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ترجمة الراوي: عروة سبقت ترجمته.
شرح المفردات:
- مَنَاة: صنم كانت في الجاهلية، سميت بذلك لأن النسائك كانت تُمْنَى عندها.
- حَذْوَ: مقابل.
- قَدَيد: قرية بين مكة والمدينة، كثيرة المياه.
- ثقيلة: ضد خفيفة، كناية عن سمنها، أو بطئها في المشي.
- يَعْتَلُونَ: يتمسكون له بالمرض حياء منه، لا حقيقة.
أولا: حكم السعي بين الصفا والمروة
يتبين من الحديث الأول من أحاديث الدرس أن عروة رضي الله عنه فهم من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة: 157] أنه ليس على الرجل شيء إن لم يسع بين الصفا والمروة؛ إذ مفهوم الآية أن السعي ليس بواجب؛ لأن رفع الجناح يقتضي الإباحة، فصححت له عائشة رضي الله عنها ما فهم فقالت: «كَلَّا»، وفي رواية: «بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا بْنَ أُخْتِي، لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ، لَكَانَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوفَ بِهِمَا»، أي لا جناح على من ترك الطواف بينهما، أما ولفظها دون «لا» فهي ساكتة على الوجوب وعدمه، مصرحة بعدم الإثم على الفاعل، والحكمة مطابقة جواب السائلين؛ لأنهم توهموا من فعلهم ذلك في الجاهلية أن لا يستمر ذلك في الإسلام، فجاء الجواب مطابقا لسؤالهم، أما الوجوب أدلة أخرى، كمواظبته عليه في حجه وعُمَره، مع قوله: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» [صحيح مسلم]. وهذا من فقه عائشة ومعرفتها بأحكام الألفاظ؛ لأن الآية إنما اقتضى ظاهرها رفع الحرج عن الطائف بينهما، وليست نصا في سقوط الوجوب، ولو كانت نصا لقال: «أَلَّا يَطَّوفَ بِهِمَا»، وقد يكون الفعل واجبا، ويعتقد إنسان أنه قد يمنع من إيقاعه على صفة،كمن عليه الظهر فظن أنه لا يشرع له صلاتها عند الغروب، فسأل فقيل: لا حرج عليك إن صليته، فالجواب صحيح، ولا يقتضي نفي وجوب الظهر عليه. وقد ذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن السعي ركن لا يصح الحج إلا به، ولا يجبر بدم ولا غيره.
ثانيا: صفة السعي
1 - البدء بالصفا في السعي
عن جابر بن عبد الله أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ حِينَ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يُرِيدُ الصِّفَا وَهُوَ يَقُولُ: «نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ». فَبَدَأَ بِالصَّفَا [الموطا رقم: 1090]؛ لأن الله بدأ بالصفا في السعي قبل المروة فقال: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 157]؛ ولأن الصفا أقرب إلى البيت، يخرج إليها الحاج أو المعتمر بخطوات يسيرة.
2 - الرقي على الصفا والمروة والدعاء
الرقي على الصفا والمروة والدعاء سنة عند الجمهور، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا وقف على الصفا يستقبل القبلة ويكبر ثلاثا ويقول: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » [الموطأ رقم: 1091]، يصنع ذلك ثلاث مرات، ويدعو، ويصنع على المروة مثل ذلك. ولا حد في الذكر والدعاء عند أحد من العلماء، وإنما هو بحسب ما يقدر عليه المرء ويحضره؛ فقد سمع نافع عبد الله بن عمر وهو على الصفا يدعو، يقول: «اللهُمْ إِنَّكَ قُلْتَ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ﴾ [غافر: 60] وَإِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَإِنِّي أَسْأَلُكَ كَمَا هَدَيْتَنِي لِلإِسْلامِ، أَنْ لاَ تَنزِعَهُ مِنِّي حَتَّى تَتَوَفَّانِي وَأَنَا مُسْلِمٌ» [الموطأ رقم: 1092].
3 - الإسراع ببطن الوادي
يسن الإسراع ببطن الوادي؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَانَ إِذَا نَزَلَ مِنَ الصِّفَا وَالْمَرْوَةِ مَشَى حَتَّى إِذَا انْصَبَتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ» [الموطا رقم: 1098]. وانصباب القدم انحدارها، والصبب الموضع المنحدر.
ثالثا: الركوب والوقوف في السعي
1 - الركوب للسعي
السعي مشيا واجب على القادر عليه؛ لأنه: «كَانَ إِذَا نَزَلَ مِنَ الصِّفَا وَالْمَرْوَةِ مَشَى»، وكانت سودة رضي الله عنها لا تكمل طوافها إلا بين العشاء وبين الأذان للصبح؛ لثقل جسمها ولم تكن تركب، وكان عروة إذا رأى الناس يسعون على الدواب ينهاهم أشد النهي؛ لما ورد في حديث هشام بن عروة.
2 - الوقوف للحديث خلال السعي
سئل مالك عن الرجل يلقاه الرجل بين الصفا والمروة، فيقف معه يحدثه، فقال: «لا أُحِبُّ لَهُ ذَلِكَ» الموطأ رقم: 1096]، أي يكره؛ لأن المطلوب حينئذ الذكر والدعاء.
رابعا: حكم من جهل فبدأ بالسعي قبل الطواف
من جهل فبدأ بالسعي بين الصفا والمروة قبل الطواف فهو كمن لم يَسْعَ؛ لأن تقدم الطواف شرط في صحة السعي، قال مالك في رجل جهل فبدأ بالسعي بين الصفا والمروة قبل أن يطوف بالبيت. قال: «لِيَرْجِعْ فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لْيَسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ مَكَةَ وَيَسْتَبْعِدَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى مَكَةَ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَسْعَى بَيْنَ الصِّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنْ كَانَ أَصَابَ النِّسَاءَ رَجَعَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصِّفَا وَالْمَرْوَةِ، حَتَّى يُتِمٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ أُخْرَى وَالْهَدْيُ» [الموطأ رقم: 1099].
الاستثمار:
قَالَ مَالِكٌ: «وَمَنْ نَسِيَ مِنْ طَوَافِهِ شَيْئاً، أَوْ شَكٍّ فِيهِ، فَلَمْ يَذْكُرْ إِلَّا وَهُوَ يَسْعَى بَيْنَ الصِّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ سَعْيَهُ، ثُمّ يُتِمُ طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عَلَى مَا يَسْتَيْقِنُ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَي الطَّوَافِ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ سَعْيَهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» [الموطأ رقم: 1097].
نصوص الحديث:
مالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: «مَنْ لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ، مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ، قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ، مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ» [الموطأ رقم: 1157].
مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ، " أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ. فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ فَشَرِبَ " [الموطأ رقم: 1100].
مالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ أَنْ لَا تُخَالِفَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ جَاءَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، وَأَنَا مَعَهُ، فَصَاحَ بِهِ عِنْدَ سُرَادِقِهِ: أَيْنَ هَذَا؟ فَخَرَجَ عَلَيْهِ الْحَجَّاجُ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالَ: «الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ»، فَقَالَ: أَهَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: فَأَنْظِرْنِي حَتَّى أُفِيضَ عَلَيَّ مَاءً، ثُمَّ أَخْرُجَ. فَنَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ. حَتَّى خَرَجَ الْحَجَّاجُ. فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي فَقُلْتُ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُصِيبَ السُّنَّةَ الْيَوْمَ، فَاقْصُرِ الْخُطْبَةِ وَعَجِّلِ الصَّلَاةَ». قَالَ: فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. كَيْمَا يَسْمَعَ ذَلِكَ مِنْهُ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: «صَدَقَ سَالِمٌ» [الموطأ رقم: 1188].
تمهيد:
مَالِكَ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشٍ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ طَلْحَةَ ابْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ كَرِيزٍ : أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيئُونَ مِنْ قَبْلِي : لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ» [الموطا رقم: 1271].
ترجمة الرواة:
أُمُّ الْفَضْلِ بِنْتُ الْحَارِث رضي الله عنها: هي لبابة الكبرى بنت الحارث الهلالية، أم بني العباس الستة النجباء، كُنّيَتْ كأبيهم باسم أكبرهم. قال ابن حبان: "توفيت في خلافة عثمان قبل زوجها العباس".
سالم بْنُ عَبْدِ الله: هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي. قال مالك: "لم يكن أحد في زمان سالم بن عبد الله أشبه من مضى من الصالحين في الزهد والفضل والعيش منه". توفي سنة 106هـ، في ذي القعدة أو ذي الحجة.
شرح المفردات:
تَمَارَوُا: اختلفوا.
سُرادقه: السرادق ما يحيط بالخيمة، وله باب يُدخل منه إليها.
ملْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ: إزار كبير مصبوغ بالعصفر.
فَأَنْظُرْني: أخرني.
أولا: موقف عرفة
1 - مكان الوقوف
عرفة كلها موقف؛ فالواقف بأي جزء منها آت بسنة إبراهيم عليه السلام، قال : «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْن عُرَنَةَ» الموطا رقم: 1152]، (عُرَنَة بضم العين وفتح الراء، موضع بين منى وعرفات) والأفضل أن يقف عند الصخرات التي وقف عندها النبي صلى الله عليه وسلم قال النووي: وأما ما اشتهر عند العوام من الاعتناء بصعود الجبل، وتوهمهم أنه لا : يصح الوقوف إلا فيه فغلط، بل الصواب جواز الوقوف في كل جزء من أرض عرفات، وأن الفضيلة في موقفه عند الصخرات، فإن عجز عنه فليقرب منه بحسب الإمكان.
2 - وقت الوقوف
يبدأ وقت الوقوف من زوال تاسع ذي الحجة، ويمتد إلى قرب فجر يوم الأضحى، غير أنه لابد من الوقوف بعد الغروب ولو زمنا يسيرا لتحصيل الركن، فمن لم يقف ليلة مزدلفة قبل طلوع الفجر فلا وقوف له، وقد فاته الحج ؛ لأن الوقوف الركن لا يجزئ بالنهار عند مالك، فقد رَوَى عن نافع، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يقول: «مَنْ لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَمَنْ وَقَفَ بعَرَفَةَ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ» [الموطأ رقم: 1157]. ومن فاته الوقوف بالليل فليتحلل بعمرة وعليه القضاء في عام قابل.
ثانيا: آداب يوم عرفة
1 - تعجيل الرواح إلى عرفة
من السنة تعجيل الرواح من منى إلى عرفة؛ فعن سالم بن عبد الله، أنه قال: «كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ إِلَى الْحَجّاج بْنِ يُوسُفَ أَنْ لَا تُخَالِفَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ، جَاءَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ وَأَنَا مَعَهُ، فَصَاحَ بِهِ عِنْدَ سُرَادِقِهِ: أَيْنَ هَذَا؟ فَخَرَجَ عَلَيْهِ الْحَجَّاجُ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالَ: الرّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ. فَقَالَ: أَهَذِهِ السّاعَةَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ»، وفي صحيح مسلم: «ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ».
2 - الطهارة للوقوف
يستحب للحاج عند الوقوف بعرفة أن يكون متوضئا؛ لفعله، ولكن إذا ترك الطهارة فلا شيء عليه؛ فقد سئل مالك هل يقف أحد بعرفة، أو بالمزدلفة، أو يرمي الجمار، أو يسعى بين الصفا والمروة، وهو غير طاهر؟ فقال: «كُلُّ أَمْرٍ تَصْنَعُهُ الْحَائِضُ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ فَالرّجُلُ يَصْنَعُهُ وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ، ثُمّ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ، وَالْفَضْلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ فِي ذَلِكَ كُلَّه طَاهِراً، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَمَّدَ ذَلِكَ» [الموطأ رقم: 1155].
3 - الفطر يوم عرفة
عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ: «أَنّ نَاساً تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةً فِي صِيَامٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِصَائِمٍ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَدَحٍ لَبَنٍ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرٍ بِعَرَفَةَ، فَشَرِبَ»، ولذلك كان فطر يوم عرفة للحاج أفضل من صومه؛ لأنه الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، وللتقوي على أعمال الحج؛ ولذا قال الجمهور: يستحب فطره للحاج وإن كان قويا. وكانت عائشة رضي الله عنها لا ترى استحباب فطر يوم عرفة، قال القاسم: «وَلَقَدْ رَأَيْتُهَا عَشِيّةَ عَرَفَةَ يَدْفَعُ الْإِمَامُ، ثُمَّ تَقِفُ حَتَّى يَبْيَضٌ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ النّاسِ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمّ تَدْعُو بِشَرَابٍ فَتُفْطِرُ» [الموطأ رقم: 1101]، ولعلها حملت فعل النبي صلى الله عليه وسلم على الجواز والتسهيل على الناس.
ثالثا: الصلاة والخطبة يوم عرفة
1 - صلاة الظهر والخطبة يوم عرفة
لا يجهر الإمام بالقراءة في صلاة الظهر يوم عرفة؛ لأن الظهر سرية، ويخطب
فِيهِ بجامع نمرة، يُعلِّم الناس ما يفعلونه بعد ذلك، قال مالك: «وَالأَمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلافَ. عِنْدَنَا، أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجْهَرُ بِالْقِرَاءةِ فِي الظُّهْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَأَنَّهُ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَأَنْ الصَّلَاةَ يَوْمَ عَرَفَةَ إِنَّمَا هِيَ ظُهْرٌ، وَإِنْ وَافَقَتِ الْجُمُعَةَ فَإِنَّمَا هِيَ ظُهْرٌ، وَلَكِنّهَا قُصِرَتْ مِنْ أَجْلِ السِّفَرِ» [الموطأ رقم: 1190]، ولا تصلى الجمعة إذا وافقت يوم عرفة؛ لأنه يوم لا جمعة على مسافر. قال مالك في إمام الحاج إذا وافق يوم الجمعة يوم عرفة أو يوم النحر أو بعض أيام التشريق: «إِنَّهُ لاَ يُجْمَعُ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الأَيَّام» [الموطأ رقم: 1191].
2 - قصر الصلاة وتعجيل الخطبة يوم عرفة
يستفاد من قول سالم للحجاج في حديث الدرس: «إنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُصِيبَ السُنَّةَ الْيَوْمَ، فَاقْصُرِ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلِ الصَّلاَةَ، قَالَ: فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَيْ مَا ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُ اللهِ قَالَ: صَدَقَ»، أن تعجيل الصلاة، وتقصير الخطبة من السنة.
يستفاد من الدرس: أن الإسلام دين الوحدة والاجتماع على الهدى؛ ففي الاجتماع في عرفة أسمى مظاهر الوحدة والمساواة بين الناس.
الاستثمار:
مَالِكَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كرِيزٍ أَنْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا رَأَى الشَّيْطَانُ يَوْماً، هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمٍ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنزَّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، إِلَّا مَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ». قِيلَ وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ؟
قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ» [الموطأ رقم: 1270].
نصوص الحديث:
مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَنَا جَالِسٌ مَعَهُ، كَيْفَ كَانَ يَسِيرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: كَانَ «يَسِيرُ الْعَنَقَ. فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ» قَالَ مَالِكٌ: " قَالَ هِشَامٌ: وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ " [الموطأ رقم: 1165].
مَالِكٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ نَزَلَ فَبَالَ فَتَوَضَّأَ، فَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ. فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: «الصَّلَاةُ أَمَامَكَ»، فَرَكِبَ فَلَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ. ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ. ثُمَّ أُقِيمَتِ الْعِشَاءُ فَصَلَّاهَا، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا. [الموطأ رقم: 1193].
مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ سَالِمٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ أَبَاهُمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ «يُقَدِّمُ أَهْلَهُ وَصِبْيَانَهُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى. حَتَّى يُصَلُّوا الصُّبْحَ بِمِنًى وَيَرْمُوا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ النَّاسُ» [الموطأ رقم: 1160].
تمهيد:
من مناسك الحج النزول بالمُزْدَلِفَةُ وهي موضع بين عَرَفَاتٍ وَمِني؛ وسميت بذلك لأَنه يُتَقَرَّبُ فِيهَا إِلَى اللَّهِ تعالى، أو لاقْتِرابِ النَّاسِ إِلَى مِنى بعد الإفاضَةِ، أَوْ لِمَجِيء النَّاسِ إِلَيْهَا فِي زُلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ، أَوْ لأَنَّهَا أَرْضٌ مُسْتَوِيَةٌ مَكْنُوسَةٌ، وَهَذَا أَقْرَبُ. وَتَزَلَّفُوا: تقدموا، وتَفَرَّقوا.
ترجمة الراوي:
أسامة بن زيد رضي الله عنه: هو أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي، مولى رسول الله، وحِبُّه وابنُ حِبّه، ولد بعد البعثة، وعاش في كنف النبي صلى الله عليه وسلم. كان كثير البر بأمه، ما تطلب منه شيئا يستطيعه إلا أحضره لها. استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش فيه أبو بكر وعمر بن الخطاب. توفي بالمدينة سنة 59هـ على بعض الأقوال.
شرح المفردات:
الْعَلَقَ: سير بين الإبطاء والإسراع، وقيل: الذي يتحرك به عنق الدابة.
نَصَّ: أسرع.
دفع: انصرف من عرفة إلى مزدلفة، وسمي دفعا لازدحامهم إذا انصرفوا.
الصَّلَاةُ أَمَامَكَ: موضع هذه الصلاة قدامك، وهو مزدلفة.
أولا: الدفع إلى مزدلفة والوقوف بها
1 - السير من عرفة إلى مزدلفة
إذا تحقق غروب الشمس يوم عرفة انصرف الإمام والناس معه إلى مزدلفة بسكينة ووقار، فإذا وجدوا متسعا أسرعوا استعجالا للصلاة؛ لأن المغرب لا تصلى إلا مع العشاء جمع تأخير بالمزدلفة بعد الشفق؛ فعن عروة رضي الله عنه قال: «سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَنَا جَالِسٌ مَعَهُ: كَيْفَ كَانَ يَسِيرُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، حِينَ دَفَعَ؟ فَقَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةٌ نَصَ».
وفي هذه الكيفية الجمع بين مصلحة الوقار والسكينة عند الزحمة، ومصلحة الإسراع عند عدمها لأجل الصلاة، وكان ابن عمر يحرك راحلته في بطن محسر، روى مالك عن نافع: «أَنّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُحَرِّكُ رَاحِلَتَهُ فِي بَطْنِ مُحَسِرٍ قَدْرَ رَمْيَةٍ بِحَجَرٍ» [الموطأ: رقم 1166]. وبطن محسّر وادٍ قرب المزدلفة يسميه أهل مكة وادي النار.
2 - الوقوف بمزدلفة
مزدلفة كلها موقف إلا بطن، محسر، قال: «وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسّرِ» الموطأ رقم: 1152]، وفي حديث جابر: «قَدْ وَقْفت هَهُنَا وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» [سنن أبي داود]، واستمر عليه العمل، وحكم هذا الوقوف يدور في المذهب بين السنية والاستحباب، والاستحباب ظاهر مختصر خليل، قال عاطفا على المندوبات: «ووقوفه بالمشعر الحرام يكبر ويدعو للإسفار» [مختصر خليل].
ثانيا: أحكام مزدلفة
1 - صلاة المغرب ليلة الأضحى بمزدلفة
السنة بعد الدفع من عرفة تأخيرُ صلاة المغرب وجمعها مع صلاة العشاء بالمزدلفة تأخير، وهذا مجمع عليه، فقد ثبت أنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ جَمِيعاً» [الموطأ رقم: 1192]، وعن نافع أَنّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ: «كَانَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ جَمِيعاً» [الموطأ رقم: 1195]، فمن صلى المغرب قبل دخول وقت العشاء فنقل ابن القاسم أن عليه الإعادة، والجمهور على الإجزاء.
2 - صفة الجمع بمزدلفة وسببه
ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء مزدلفة نزل عن ناقته القصواء، فتوضأ بماء زمزم، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب بالناس قبل حط الرحال، ثم أناخ كل إنسان بعيره رفقا بالدواب، ثم أقيمت العشاء فصلاها بالناس، ولم يتنفل بينهما؛ لأن الجمع بينهما يجعلهما كالصلاة الواحدة، فوجب الولاء؛ ففي حديث أسامة بن زيد: «دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشَّعْبِ، نَزَلَ فَبَالَ فَتَوَضَّأَ، فَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ، فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ أَمَامَكَ. فَرَكِبَ، فَلَمّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الْعِشَاءُ فَصَلاهَا، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئاً». وهذا الجمع عند المالكية تعبدي لا يعقل معناه.
3 - الأذان والإقامة للعشاءين بمزدلفة
ظاهر حديث أسامة بن زيد السابق أنه لم يؤذن لهما؛ لأنه اقتصر على الإقامة، وفي البخاري والنسائي عن ابن مسعود: أنه أتى المزدلفة فأمر رجلا فأذن وأقام، ثم صلى المغرب، ثم أمر فأذن وأقام، ثم صلى العشاء ركعتين، فذكر الحديث، وقال في آخره: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ»، ففيه مشروعية الأذان والإقامة لهما، وبه أخذ مالك، واختاره البخاري.
4 - النزول بمزدلفة
النزول بمزدلفة واجب بقدر حط الرحال، فإن لم ينزل فعليه الدم على الأشهر، أما المبيت بها فسنة، ويسن إحياء هذه الليلة بالعبادة، ويصلي بها الصبح أول وقته، ثم يقف بالمشعر الحرام مستقبل القبلة والمشعرُ الحرام عن يساره يكبر ويدعو إلى الإسفار، ثم يلتقط سبع حصيات لجمرة العقبة من مزدلفة، ثم يدفع إلى منى.
ويُرخص للنساء والصبيان وذوي الأعذار في ترك المبيت بالمزدلفة خوف التأذي بالعجلة والزحام؛ فقد روى سالم وعبيد الله ابنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه: «أَنّ أَبَاهُمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُقَدِّمُ أَهْلَهُ وَصِبْيَانَهُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةٍ إِلَى مِنِّي، حَتَّى يُصَلُّوا الصِّبْحَ بِمِنِّي، وَيَرْمُوا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ النّاسُ» [الموطأ رقم: 1160]، وعن عطاء بن أبي رباح: «أَنّ مَوْلَاةً لَأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: جِئْنَا مَعَ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ مِنِّي بِغَلَسٍ، قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهَا: لَقَدْ جِئْنَا مِنّى بِغَلَسٍ، فَقَالَتْ: قَدْ كُنّا نَصْنَعُ ذَلِكَ مَعَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكِ» الموطأ رقم 1161]، وعن مالك أنه بلغه : «أَنّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ كَانَ يُقَدِّمُ نِسَاءَهُ وَصِبْيَانَهُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنِّى» [الموطأ رقم: 1162].
الاستثمار:
قَالَ مَالِكَ: «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي﴾ [البقرة: 196] [البقرة: 196] قَالَ: فَالرّفَثُ إِصَابَةُ النِّسَاء وَاللهُ أَعْلَمُ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ [البقرة: 186]. قَالَ: وَالْفُسُوقُ الذِّبْحُ لِلأَنْصَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿أو فسقا أهل لغير الله به﴾. قَالَ: وَالْجِدَالُ فِي الْحَجَ أَنْ قُرَيْشَاً كَانَتْ تَقِفُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِقُزَحَ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ وَغَيْرُهُمْ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ، فَكَانُوا يَتَجَادَلُونَ، يَقُولُ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَصْوَبُ، وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَصْوَبُ، فَقَالَ اللَّهُ: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ﴾ [الحج: 65]. فَهَذَا الْجِدَالُ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ» (الموطا رقم: 1154].
نصوص الحديث:
مَالِكَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْهَادِي، عَنْ أَبِي مُرَّةَ مَوْلَى أُمَ هَانِيَّ، امْرَأَةِ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: «أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِيهِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَوَجَدَهُ يَأْكُلُ، قَالَ: فَدَعَانِي، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي صَائِمٌ. فَقَالَ لِي: هَذِهِ الأَيَّامُ الَّتِي نَهَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِهِنَّ وَأَمَرَنَا بِفَطْرِهنَ. قَالَ مَالِكٌ: وَهِيَ أَيَامُ التَشْرِيقِ» [الموطأ رقم: 1105].
مَالِكَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصَّلَاةَ بِمنِيً رَكْعَتَيْنِ، وَأَنّ أَبَا بَكْرٍ صَلَاهَا بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَابِ صَلَاهَا بِمِنًي رَكْعَتَيْنِ، وَأَنَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ صَلَاهَا بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ شَطْرَ إِمَارَتِهِ، ثُمَّ أتَمَهَا بَعْدُ» [الموطأ رقم: 1197].
قَالَ مَالِكٌ: «وَالتَّكْبِيرُ فِي أَيَّامِ التَشْرِيقِ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، مَنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ أَوْ وَحْدَهُ بِمِنًى، أَوْ بِالآفَاقِ كَلَهَا وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا يَأْتَمُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ بِإِمَامِ الْحَاجِّ وَبِالنَّاسِ بِمِنًى؛ لأَنَّهُمْ إِذَا رَجَعُوا وَانْقَضَى الْإِحْرَامُ ائْتَمُوا بِهِمْ، حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي الْحِلَّ، فَأَمَا مَنْ لَمْ يَكُنْ حَاجًا، فَإِنَّهُ لَا يَأْتَمُ بِهِمْ إِلَّا فِي تَكْبِيرِ أَيَّامٍ التشريق. قَالَ مَالِكٌ: الأَيَامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَامُ التَّشْرِيقِ» [الموطأ رقم: 1204].
تمهيـد:
الحج عبادة لها أركان وواجبات، ومن واجباته المبيت بمنى بعد الرجوع من عرفة ليلتين للمتعجل وثلاث ليال لغير المتعجل، وقد أمر الله سبحانه الحجاج بذكر الله أيام منى فقال: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 201].
فما أعمال أيام منى؟ وما صفة ذكر الله تعالى في أيام منى؟ وما حكم الصيام في هذه الأيام؟
ترجمة الراوي:
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: هو عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي، كنيته أبو محمد، أحد العبادلة الصحابي ابن الصحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، كثيرا، وعن عمر، وأبي الدرداء، ومعاذ وغيرهم، وحدث عنه بعض الصحابة وكثير من التابعين، أسلم قبل أبيه مات بالشام سنة 65 هـ.
شرح المفردات:
منى: واد تحيط به الجبال، يقع شرق مكة في الطريق إلى جبل عرفة.
أَيَّامُ مِنّى: أيام رمي الجمار بمنى، وهي يومان للمتعجل وثلاثة لغير المتعجل.
أَيَّامُ التَّشْرِيقِ: هي أيام مِنًى، سميت بذلك ؛ «لأن الناس يشرقون اللحم فيها أي يشرحونه، وقيل: لأن الصلاة تصلى في أولها عند شروق الشمس».
حاشية العدوي على كفاية الطالب: شرح الرسالة].
أولا: صيام أيام مِنًى والتكبير فيها
1 - حكم صيام أيام مِنًى
لا يجوز صيام أيام منى تطوعا إجماعا؛ فعن سلمان بن يسار: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامٍ أَيَّامٍ مِنِّي» [الموطأ رقم: 1102]، وعن ابن شهاب: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ أَيَّامَ مِنًى يَطُوفُ يَقُولُ: إِنَّمَا هِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّهِ» [الموطأ رقم: 1103]، وعقب الأكل والشرب بذكر الله؛ لئلا يستغرق العبد في حظوظ نفسه وينسى حقوق الله، وقد علل ذلك علي رضي الله عنه بأن القوم زاروا الله، وهم في ضيافته في هذه الأيام، وليس للضيف أن يصوم دون إذن من أضافه أما صيام المتمتع أيام منى إذا لم يجد هديا فجائز، وهو المشهور عن مالك؛ لقوله تعالى: ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 196].
2 - التكبير أيام التشريق
أ- وقت التكبير: خص مالك رحمه الله التكبير أيام التشريق بأعقاب الصلوات، وأطلق في نوع الصلاة فيعم المكتوبة،والنافلة، والمؤداة والمقضية، فقال رحمه الله: «الْأَمْرُ عِنْدَنَا: أَنَّ التَّكْبِيرَ فِي أَيَّامِ التّشْرِيقِ، دُبُرَ الصَّلَوَاتِ» [الموطأ رقم: 1203]. وقال ابن حبيب من المالكية: «ينبغي لأهل منى وغيرهم أن يكبروا أول النهار، ثم إذا ارتفع، ثم إذا زالت الشمس بالعشي، وكذلك فعل عمر رضي الله عنه» [المنتقى للباجي 4 /81]، فعن يحيى بن سعيد، أنه بلغه: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ شَيْئاً فَكَبِّرَ، فَكَبِّرَ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِ، ثُمّ خَرَجَ الثَّانِيَةَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فَكَبَرَ، فَكَبَرَ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِ، ثُمَّ خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ فَكَبَرَ، فَكَبِّرَ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِ، حَتَّى يَتَّصِلَ التَّكْبِيرُ وَيَبْلُغَ الْبَيْتَ، فَيُعْرَفَ أَنْ عُمَرَ قَدْ خَرَجَ يَرْمِي» [الموطأ رقم: 1202].
ب- ابتداء التكبير وانتهاؤه: قال مالك: «وَأَوّلُ ذَلِكَ تَكْبِيرُ الْإِمَامِ وَالنَّاسُ مَعَهُ، دُبُرَ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَآخِرُ ذَلِكَ تَكْبِيرُ الإِمَامِ وَالنَّاسُ مَعَهُ، دُبُرَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، ثُمَّ يَقْطَعُ التَّكْبِيرَ » [الموطأ رقم: 1203]. واحتج رحمه الله بالعمل؛ لأنه لم يرو في ذلك حديثا.
وصفة التكبير أيام منى: «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر» [ المنتقى للباجي – 4 /82]، وروى عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان رضي الله عنه قال: «كبروا الله أكبر الله أكبر كبيرا»، وزاد الشافعي: «والله الحمد». ومن زاد أو نقص فلا حرج عليه. ويجهرون بالتكبير عند مالك.
ج- المخاطبون بالتكبير أيام التشريق: مذهب مالك أن التكبير أيام التشريق مندوب للرجال والنساء، والمنفرد والجماعة، بِمِنّى أو بالآفاق، كل ذلك مندوب إليه، قال مالك: "وَالتَّكْبِيرُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، مَنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ أَوْ وَحْدَهُ بِمِنًى، أَوْ بِالْآفَاقِ كُلِّهَا وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا يَأْتَمُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ بِإِمَامِ الْحَاجَ وَبِالنَّاسِ بِمِنًى؛ لَأَنَّهُمْ إِذَا رَجَعُوا وَانْقَضَى الإحْرَامُ ائْتَمُوا بهمْ، حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي الْحِلِّ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ حَاجَاً، فَإِنَّهُ لا يَأْتُمُ بهم إلا في تَكْبير أَيَّام التشريق».
ثالثا: قصر الصلاة بمنى
يسن للحاج أن يقصر الرباعية بمنى ما دام بها، وإن كان مكيا؛ لأن أهل مكة حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقصروا معه، بمنى، ولم يقل لهم أتموا، فدل على أنه قصرُ نسُك وعبادة؛ إذ ليس بين مكة ومنى مسافة قصر، روى عروة: «أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصَّلَاةَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَأَنّ أَبَا بَكْرٍ صَلَاهَا بِمِنِّى رَكْعَتَيْنِ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ صَلَاهَا بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَأَنْ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ صَلَاهَا بِمِنِّى رَكْعَتَيْنِ شَطْرَ إِمَارَتِهِ، ثُمَّ أَتَمَهَا بَعْدُ»، وعن سعيد بن المسيب: «أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمّا قَدِمَ مَكَةَ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ: يَا أَهْلَ مَكّةَ أَتِمُوا صَلَاتَكُمْ، فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ، ثُمّ صَلّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَكْعَتَيْنِ بِمِنًى، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ شَيْئاً» [الموطأ رقم: 1198]، فدل فعله صلى الله عليه وسلم وفعلُ الخلفاء بعده على سنية القصر بمنى، وأن هذا الحكم لم ينسخ.
التقويم:
ما صفة التكبير أيام منى؟
بين المخاطب بالتكبير أيام التشريق مع الاستدلال.
بين حكم قصر الصلاة بمنى.
بين حكم صيام أيام منى مع الاستدلال.
بين مع التعليل حكم المسألة الآتية: رجل من أهل منى قصر الصلاة أيام التشريق، محتجا بأنه لا فرق بينه وبين أهل مكة؛ إذ ليس بين مكة ومنى مسافة قصر.
الاستثمار:
سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ أَهْلِ مَكَةَ، كَيْفَ صَلَاتُهُمْ بِعَرَفَةَ، أَرَكْعَتَانِ أَمْ أَرْبَعٌ، وَكَيْفَ بِأَمِيرِ الْحَاجَ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَةَ، أَيُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِعَرَفَةَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، أَوْ رَكْعَتَيْنِ، وَكَيْفَ صَلاةُ أَهْلِ مَكَةَ بمِنَى فِي إِقَامَتِهِمْ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: «يُصَلِّي أَهْلُ مَكَّةَ بِعَرَفَةَ وَبِمِني مَا أَقَامُوا بِهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ، حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى مَكَّةَ. قَالَ مَالِكٌ: وَأَمِيرُ الْحَاجَ أَيْضاً إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَةَ قَصَرَ الصَّلَاةَ بِعَرَفَةَ وَأَيَّامَ مِنِّي، قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ سَاكِناً بِمِنًى مُقِيماً بِهَا، فَإِنْ ذَلِكَ يُتِمُ الصَّلَاةَ بِمِنًى. قَالَ: وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ سَاكِناً بِعَرَفَةَ مُقِيماً بِهَا، فَإنّ ذَلِكَ يُتِمُ الصَّلَاةَ بِهَا أَيْضاً»[الموطأ رقم: 1200].
تأمل النص واستخرج منه خصائص الصلاة بمنى وعرفات في الأحكام.
نصوص الحديث:
مَالِكَ، عَنْ نَافِعِ، أَنَّهُ قَالَ: زَعَمُوا أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَابِ قَالَ: «لَا يَبِيتَنَ أَحَدٌ مِنَ الْحَاجَ لَيَالِيَ مِنِّى مِنْ وَرَاءِ الْعَقَبَةِ» [الموطأ رقم: 1209].
مَالِكَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا الْبَدَاحِ عَاصِمَ بْنَ عَدِي أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِيهِ: «أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرْخَصَ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ خَارِجِينَ عَنْ مِنَى، يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَ، وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ لِيَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ» [الموطأ رقم: 1221].
مَالِكَ، عَنْ نَافِعٍ: «أَنّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وُقُوفاً طَوِيلاً، يُكَبِّرُ اللَّهَ، وَيُسَبِّحُهُ وَيَحْمَدُهُ، وَيَدْعُو اللَّهَ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَ جَمْرَةٍ العقبة» [الموطأ رقم: 1212].
مَالِكَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ نَافِعِ، عَنْ أَبِيهِ: «أَنَ بِنْتَ أَحْ لِصَفِيَةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدِ نُفِسَتْ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَتَخَلَفَتْ هِيَ وَصَفِيَةُ حَتَّى أَتَتَا مِنَيَّ، بَعْدَ أَنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، فَأَمَرَهُمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ أَنْ تَرْمِيَا الْجَمْرَةَ حِينَ أَتَتَا، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِمَا شَيْئًا» [الموطأ رقم: 1224].
تمهيد:
رمي الجمار أيام منى أحد مناسك الحج وشعيرة من شعائره، يقوم به المسلم تقربا إلى الله سبحانه، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم هي تَذَكَّر لقصة إبراهيم عليه السلام.
فما هي صفة رمي الجمار؟ وما أحكامه وآدابه؟ وما حكم المبيت بمنى أيام رمي الجمار؟
ترجمة الراوي:
نافع: هو أبو عبد الله نافع مولى عبد الله بن عمر وراويته، من أئمة التابعين
بالمدينة، ديلمي الأصل، كان علامة في الفقه، كثير الرواية للحديث، ثقة، ويعد مالك بن أنس أشهر من لازمه وحدّث عنه، قال عنه مالك: «إذا قال نافع شيئاً فاختم عليه». وقال البخاري: أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر. ولاَّهُ عمر بن عبد العزيز صدقات اليمن، وأرسله إلى مصر ليعلم أهلها السنن. توفي سنة 117هـ.
شرح المفردات:
الْعَقَبَةُ: مكان مبايعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة.
الْجَمَارُ: جمع جمرة، وهي الحجر الصغير، وهي اسم لمجتمع الحصى.
نُفِسَتْ: ونَفِسَت ولدت، وأما بمعنى حاضت فيضم النون فقط.
الْبَيْتُوتَة: مصدر باتَ يَبيتُ ويَباتُ بَيْتوتَةً إِذا دخل في الليل.
يَوْمَ النَّفْرِ: يوم الانصراف من منى.
أولا: المبيت بمنى أيام الرمي
1 - حكم المبيت بمنى أيام الرمي
المبيت بمنى أيام الرمي ثلاثَ ليال لمن لم يتعجل، وليلتين للمتعجل واجب من واجبات الحج، فمن تركه رأسا أو جل ليلة فعليه الدم هدي عن كل ليلة، ويدل للوجوب ما رواه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال في البيتوتة بمكة ليالي منى: «لا يَبِيتَن أَحَدٌ إِلَّا بِمِنِّى» [الموطأ رقم: 1210]، ويجب على الحاج المبيت بمنى ولو لضرورة كالمرض والخوف على المتاع، ومن حبسه مرض فبات بمكة فعليه هدي، إلا من رخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم
2 - الرخصة لأهل الأعذار في البيات خارج منى
أرخص النبي صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في المبيت خارج منى؛ ففي الموطأ: «أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْخَصَ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ خَارِجِينَ عَنْ مِنِّي، يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَ، وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ لِيَوْمَيْنِ، ثُمّ يَرْمُونَ يَوْمَ النّفْرِ»، قال مالك: «وَتَفْسِيرُ الْحَدِيثِ الَّذِي أَرْخَصَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِرِعَاءِ الإِبِلِ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ فِيمَا نَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُمْ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ النّحْرِ رَمَوْا مِنَ الْغَدِ، وَذَلِكَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ، يَرْمُونَ لِلْيَوْمِ الَّذِي مَضَى، ثُمَّ يَرْمُونَ لِيَوْمِهِمْ ذَلِكَ؛ لَأَنَّهُ لَا يَقْضِي أَحَدٌ شَيْئًا حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَمَضَى كَانَ الْقَضَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ بَدَا لَهُمُ النَّفْرُ فَقَدْ فَرَغُوا، وَإِنْ أَقَامُوا إِلَى الْغَدِ، رَمَوْا مَعَ النَّاسِ يَوْمَ النَّفْرِ الْآخِرِ وَنَفَرُوا» [الموطأ رقم: 1223]، ويلحق برعاء الإبل أهل الأعذار الأخرى غير الرعي.
ثانيا: رمي الجمار
1 - مكان وزمان الرمي
أ- وقت رمي الجمار: لا ترمى الجمار في الأيام الثلاثة لغير المتعجل، واليومين للمتعجل حتى تزول الشمس، ويستحب رميها قبل صلاة الظهر، فإن رماها قبل الزوال أعاد رميها عند الأئمة الأربعة؛ فقد روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يقول: «لاَ تُرْمَى الْجِمَارُ فِي الأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ» [الموطأ رقم 1220].
ب- مكان رمي جمرة العقبة: عن مالك أنه سأل عبد الرحمن بن القاسم من أين كان القاسم يرمي جمرة العقبة؟ فقال: «مِنْ حَيْثُ تَيَسَرَ» [الموطأ رقم: 1217]، وقد رماها من بطن الوادي، وتمتاز جمرة العقبة بأربعة أشياء: اختصاصها بيوم النحر، وأن لا يوقف عندها، وترمى ضحى إن أمكن، ومن أسفلها ندبا عند الإمكان.
2 - صفة الرمي وآدابه
أ- صفة الرمي: إذا زالت الشمس ثاني أيام النحر يذهب الحاج ماشيا متوضئا قبل صلاة الظهر، ومعه إحدى وعشرون حصاة فيبتدئ بالجمرة الأولى، وهي التي تلي مسجد منی فيرميها وهو مستقبل القبلة، ويدعو، ثم يأتي الجمرة الوسطى فيرميها بسبع حصيات أيضا، ثم يتقدم أمامها شمالا ويدعو، ثم يأتي جمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات، وهكذا يفعل ثالث أيام النحر، ثم إن شاء تعجل وسقط عنه المبيت ليلة الرابع ورَمْيُ يومها بشرط الخروج من منى قبل الغروب من اليوم الثالث، وإلا لزمه المبيت بمنى ورمي اليوم الرابع؛ فعن مالك، أنه بلغه: «أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ الأُولَيَيْن وُقُوفاً طويلاً، حَتَّى يَمَلَ الْقَائِمُ» [الموطأ: رقم: 1211]، وعن نافع: «أنّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُكَبِّرُ عِنْدَ رَمْي الْجَمْرَةِ، كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ» [الموطأ رقم: 1213].
ب- الحصاة التي ترمى بها الجمار: عن مالك أنه سمع بعض أهل العلم يقول: «الْحَصَى الَّتِي يُرْمَى بِهَا الْجِمَارُ مِثْلُ حَصَى الْخَذْفِ. قال مالك: وَأَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ قَلِيلاً أَعْجَبُ إِلَيَّ» [الموطأ رقم: 1214]، فاستحب مالك رحمه الله في الحصيات أن تكون أكبر من الحذف، وهو احتياط منه رحمه الله؛ لئلا ينقص الرامي منه. ولا يجزئ في حصى الرمي ما لا يصدق عليه اسم حجر.
ج- الطهارة للرمي: تستحب الطهارة عند رمي الجمار، قال مالك: «لاَ أَرَى عَلَى الَّذِي يَرْمِي الْجِمَارَ، أَوْ يَسْعَى بَيْنَ الصِّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَوَفِضئ إِعَادَةً، وَلَكِنْ لَا يَتَعَمّدُ ذلك» [الموطأ رقم: 1219].
د- المشي عند الرمي: عن عبد الرحمن بن القاسم عن أَبيه: «أَنَّ النَّاسَ كَانُوا إِذَا رَمَوُا الْجِمَارَ مَشَوْا، ذَاهِبِينَ وَرَاجِعِينَ، وَأَوّلُ مَنْ رَكِبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ» [الموطا رقم: 1216]، ومراده بالناس الصحابة رضي الله عنهم، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، أما ركوب معاوية ابن أبي سفيان فكان للضرورة.
3- الرمي عن الصبي والمريض:
يصح الرمي عن الصبي والمريض إن لم يمكن حملهما، فإن أمكن حُمِلا ورَمَيا بأنفسهما، فقد سئل مالك هل يرمى عن الصبي والمريض فقال: «نَعَمْ، وَيَتَحَرِّى الْمَرِيضُ حِينَ يُرْمَى عَنْهُ، فَيُكَبِّرُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ، وَيُهْرِيقُ دَماً، فَإِنْ صَحَ الْمَرِيضُ فِي أَيَّامِ التّشْرِيقِ رَمَى الَّذِي رُمِيَ عَنْهُ، وَأَهْدَى» [الموطأ رقم: 1218].
ثالثا: تأخير رمي جمرة العقبة لعذر
عن أبي بكر بن نافع عن أبيه: «أَنّ بِنْتَ أَخِ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ نُفِسَتْ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَتَخَلَّفَتْ هِيَ وَصَفِيَةُ حَتَّى أَتَنَا مِنًي، بَعْدَ أَنْ غُرَبَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، فَأَمَرَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنْ تَرْمِيَا الْجَمْرَةَ حِينَ أَتَتا، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِمَا شَيْئًا»؛ لأَنهما أدركتا وقت قضاء الرمي، وقد حبسهما العذر لكن يستحب عند مالك لمن عرض له مثل ما عرض لصفية أن يهدي؛ لأنه لم يرم في الوقت المطلوب.
التقويم:
أبين حكم المبيت بمنى أيام الرمي.
أبين صفة الرمي وآدابه.
أبين حكم تأخير الرمي.
أبين صفة رمي الجمار.
أبين حكم ما يأتي مع الاستدلال والتعليل:
حاج يحضر نهارا لرمي الجمرات، وفي المساء يذهب ليبيت بمكة ثم يعود صباحا إلى مني.
انتقض وضوء حاج أثناء رمي الجمرة الوسطى.
الاستثمار:
سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مَنْ نَسِيَ جَمْرَةً مِنَ الْجِمَارِ فِي بَعْضِ أَيَّامٍ مِنِّى حَتَّى يُمْسِيَ قَالَ: «لِيَرْمِ أَي سَاعَةٍ ذَكَرَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارِ، كَمَا يُصَلِّي الصَّلَاةَ إِذَا نَسِيَهَا، ثُمّ ذَكَرَهَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا صَدَرَ وَهُوَ بِمَكَّةَ، أَوْ بَعْدَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ» [الموطأ رقم: 1225].
أتأمل النص وأبين نوع الدليل الذي تضمنه جواب الإمام مالك عما سئل عنه.
نصوص الحديث:
مَالِكَ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: «إِذَا نُتِجَتِ الْبَدَنَةُ، فَلْيُحْمَلْ وَلَدُهَا حَتَّى يُنْحَرَ مَعَهَا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ مَحْمَلٌ، حُمِلَ عَلَى أُمِّهِ حَتَّى يُنْحَرَ مَعَهَا» [الموطأ رقم: 1111].
مَالِكَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَقُولُ: «مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي شَاةٌ» [الموطأ رقم: 1141].
مَالِكَ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَهْدَى هَدْيَا مِنَ الْمَدِينَةِ قَلَدَهُ وَأَشْعَرَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، يُقَلِدُهُ قَبْلَ أَنْ يُشْعِرَهُ، وَذَلِكَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُوَجَةٌ لِلْقِبَّلَةِ، يُقَلِّدُهُ بِنَعْلَيْنِ، وَيُشْعِرَهُ مِنَ الشَّقَ الأَيْسَرِ، ثُمَّ يُسَاقُ مَعَهُ، حَتَّى يُوقَفَ بِهِ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ، ثُمَ يَدْفَعُ بِهِ مَعَهُمْ إِذَا دَفَعُوا، فَإِذَا قَدِمَ مِنَى غَدَاةَ النَّحْرِ نَحَرَهُ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصَرَ، وَكَانَ هُوَ يَنْحَرُ هَدْيَهُ بِيَدِهِ يَصُفَهُنَّ قِيَامًا، وَيُوَجَهُهُنَّ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ» [الموطأ رقم: 1113].
مالك، عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «أَنَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَهْدَى جَمَلاً كَانَ لأبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ فِي حَجَ أَوْ عُمْرَةٍ» [الموطأ رقم: 1106].
تمهيد:
جعل الله سبحانه الهدي إلى الحرم منسكا من مناسك الحج وشعيرة من شعائره وتقرباً إليه سبحانه، فقال: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ٣٦﴾ [الحج: 36].
ما هي السن المجزئة في الهدي؟ وكيف يساق؟ وما حكم الانتفاع به؟ وما مقاصده؟
ترجمة الرواة:
علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هو علي بن أبي طالب، ابن عم رسول الله وزوج ابنته فاطمة رضي الله عنها، الخليفة الرابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ذو المناقب الكثيرة، والمواقف العظيمة، توفي عام: 40 هـ.
عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه: هو عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني، تابعي روى عنه الزُهري وابن جريج وابن إسحاق ومالك بن أنس وغيرهم. كان من الرواة الأوائل الذين اهتموا برواية الأحاديث المتعلقة بالسير، حتى عده الذهبي من أصحاب المغازي. توفي سنة 135 هـ.
شرح المفردات:
نُتِجَتِ: وَضَعَتْ.
قَلَدَهُ: علق في عنق الهدي نعلين من النعال التي تُلبس في الإحرام.
أَشْعَرَهُ: شق سنامه.
الْبَدَنَةُ: تقع على الناقة والجَمَل والبقرة، وكثر استعمالها فيما كان هديا.
أولا : ما يجوز من الهدي
الهدي لغير ترك واجب خاص بالتمتع والقران، إلا من أهله حاضرو المسجد الحرام. وليس على الحاج بالإفراد هدي إلا لترك واجب.
1 - السن المجزئ في الهدي
عن نافع: «أن عبد الله بن عمر كان يقول: في الضحايا والبُدْنِ، الثَّنِيُ فما فوقه» [الموطأ رقم: 1118]. وتفصيل ذلك عند المالكية كالآتي:
2 - إهداء ما استيسر من الهدي
قال الله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة: 196]، والمستيسر من الهدي فسره ابن عمر رضي الله عنه ببقرة أو بدنة، روى مالك عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان يقول: «مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي بَدَنَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ» [الموطأ رقم: 1144]، وفسره علي وابن عباس رضي الله عنهما بشاة؛ فعن مالك، أنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقول: «مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي شَاةٌ» [الموطأ رقم: 1142]، قال مالك: «وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ؛ لأَنَّ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ [المائدة: 95]. فَمِمّا يُحْكَمُ بِهِ فِي الْهَدْي شَاةٌ، وَقَدْ سَمَاهَا اللَّهُ هَدْياً، وَذَلِكَ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَكَيْفَ يَشُكُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ؟ وَكُلُّ شَيْءٍ لَا يَبْلُغُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِبَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ شَاةٌ، وَمَا لا يَبْلُغُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بشَاة فَهُوَ كَفَّارَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ إِطْعَامِ مَسَاكِينَ» [الموطأ رقم: 1143].
ثانيا: سَوْقُ الهدي
1 - تعظيم الهدي
قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32] والشعائر الهدي والأنعام المُشعَرة، وتعظيمها تسمينها والمغالاة بها، وكان عروة يقول لبنيه: «يَا بَنِي لَا يُهْدِيَنَ أَحَدُكُمْ لِلَّهِ مِنَ الْبُدْنِ شَيْئاً، يَسْتَحْيِي أَنْ يُهْدِيَهُ لِكَرِيمِهِ، فَإِنَّ اللَّهُ أَكْرَمُ الْكُرَمَاءِ، وَأَحَقُّ مَنِ اخْتِيرَ لَهُ» [الموطأ رقم: 1120].
2 - العمل في الهدي
عن عبد الله بن عمر: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَهْدَى هَدْياً مِنَ الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، يُقَلِّدُهُ قَبْلَ أَنْ يُشْعِرَهُ، وَذَلِكَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُوَجّةٌ لِلْقِبْلَةِ، يُقَلِّدُهُ بِنَعْلَيْنِ، وَيُشْعِرُهُ مِنَ الشَّقِّ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ يُسَاقُ مَعَهُ، حَتَّى يُوقَفَ بِهِ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ، ثُمَّ يَدْفَعُ بِهِ مَعَهُمْ إِذَا دَفَعُوا، فَإِذَا قَدِمَ مِنِّي غَدَاةَ النَّحْرِ نَحَرَهُ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ، وَكَانَ هُوَ يَنْحَرُ هَدْيَهُ بِيَدِهِ يَصُفُهُنَّ قِيَاماً، وَيُوَجَهُهُنَّ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ»، وعن نافِعٍ: «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا طَعَنَ فِي سَنَامِ هَدْيِهِ، وَهُوَ يُشْعِرُهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» [الموطأ رقم: 1114]، امتثالا لقوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: 185]
ثالثا: الانتفاع بالهدي
1 - ركوب الهدي
عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: ارْكَبْهَا. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا بَدَنَةٌ. فَقَالَ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ. فِي الثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ» [الموطأ رقم: 1107]، فاحتج بإطلاق هذا الحديث وبقوله تعالى: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾ [الحج: 33] من أجاز ركوب الهدي اختيارا حيث لا يضرها، وكرهه الجمهور ومالك في المشهور عنه إلا لضرورة.
وسوق الهدي وركوبه قد آل في الغالب الأعم إلى بدائل أخرى تحقق مقصد الشرع وحاجة المكلف، غير أن هذا لا يرفع الأصل عند إمكانه.
2 - شرب لبن الهدي
كرهه مالك في الاختيار ولو فضل عن ري فصيله؛ لأنه نوع من الرجوع في الصدقة، ومحل الكراهة حيث لا ضرر، وإلا غرم؛ فعن هشام بن عروة أن أباه قال: «إِذَا اضْطُرِرْتَ إِلَى بَدَنَتِكَ فَارْكَبُهَا رُكُوباً غَيْرَ فَادِحٍ، وَإِذَا اضْطُرِرْتَ إِلَى لَبَنِهَا فَاشْرَبْ بَعْدَ مَا يَرْوَى فَصِيلُهَا، فَإِذَا نَحَرْتَهَا فَانْحَرْ فَصِيلَهَا مَعَهَا» [الموطأ رقم: 1112].
3 - أكل صاحب الهدي من هديه
عن مالك : أنه سمع أهل العلم يقولون : «لاَ يَأْكُلُ صَاحِبُ الْهَدْيِ مِنَ الْجَزَاءِ وَالنُّسُكِ» [الموطأ رقم: 1126]، والمشهور من المذهب أنه يأكل من كل هدي بلغ محله إلا ثلاثة جزاء الصيد، وفدية الأذى، وما نُذر للمساكين.
يستفاد من الدرس: أن الشريعة الغراء مبنية على اليسر ورفع الحرج فقد أذنت في التمتع بالعمرة إلى الحج بهدي لبيت الله الحرام تعظيما لشعائر الله، وتكرمة لضيوف الرحمن، وتوسعة على فقراء مكة.
التقويم:
استخلص من الأحاديث صفة سَوْق الهدي.
بين ما يجزئ من السن في الهدي/ بين السن المجزئ في الهدي.
بين حكم الانتفاع بالهدي مع التفصيل والاستدلال
الاستثمار:
مَالِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ: «أَنَّهُ كَانَ يَرَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يُهْدِي فِي الْحَجِّ بَدَنَتَيْنِ بَدَنَتَيْنِ، وَفِي الْعُمْرَةِ بَدَنَةً بَدَنَةً. قَالَ: وَرَأَيْتُهُ فِي الْعُمْرَةِ يَنْحَرُ بَدَنَةً وَهِيَ قَائِمَةٌ فِي دَارِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، وَكَانَ فِيهَا مَنْزِلُهُ. قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ طَعَنَ فِي لَبِّةِ بَدَنَتِهِ، حَتَّى خَرَجَتِ الْحَرْبَةُ مِنْ تَحْتِ كَتِفِهَا» [الموطأ رقم: 1108].
استخرج أحكام الهدي التي يشير إليها الأثر.
نصوص الحديث:
مَالِكَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنْ صَاحِبَ هَدْي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا عَطِبَ مِنَ الْهَدْي؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ بَدَنَةٍ عَطِبَتْ مِنَ الْهَدْيِ فَانحَرْهَا، ثُمَ أَلْقِ قِلَادَتَهَا فِي دَمِهَا، ثُمَّ خَلَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ يَأْكُلُونَهَا» [الموطأ رقم: 1121].
مَالِكَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: «أَنَّ هَبَارَ بْنَ الْأَسْوَدِ جَاءَ يَوْمَ النَّحْرِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَنْحَرُ هَدْيَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْطَأْنَا الْعِدَةَ، كُنَّا نُرَى أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمُ عَرَفَةَ. فَقَالَ عُمَرُ : اذْهَبْ إِلَى مَكَةَ، فَطُفْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ، وَانْحَرُوا هَدْياً إِنْ كَانَ مَعَكُمْ، ثُمَ احْلِقُوا أَوْ قَصَرُوا وَارْجِعُوا، فَإِذَا كَانَ عَاماً قَابِلا فَحُجُوا وَأَهْدُوا، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجَ وَسَبْعَةِ إِذَا رجع» [الموطأ رقم: 1135].
تمهيد:
الهدي أحد مناسك الحج، يقوم به المحرم تقربا إلى الله تعالى، وامتثالا لأمره، وشكرا لنعمة إتمام النسك، وتكرمة لضيوف الرحمن، وتوسعة على فقراء مكة، قال تعالى: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ [الحج: 28]، وقد يكون جبرا لما يشوب الحج من نقصان كترك بعض الواجبات، أو لترفُه في الحج كالتمتع والقران، أو لارتكاب بعض محظورات الإحرام وقد يعطب الهدي قبل بلوغ محله.
ما أحكام عطب الهدي قبل بلوغه محله ؟ وماذا يفعل من فاته الحج؟
ترجمة الراوي:
سليمان بن يسار الهلالي المدني مولى ميمونة، وقيل أم سلمة، ثقة فاضل كثير الحديث، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة وعلمائها وصلحائها، مات سنة 104 هـ. في بعض الأقوال عن 73 سنة.
شرح المفردات:
عَطِبَ: أصيب بآفة تمنعه من السير ويخاف عليه الهلاك بسببها.
أولا : حكم الهدي إذا عطب أو ضل
1 - عطب الهدي فبل بلوغه محله
إذا عطب الهدي قبل بلوغ محله نُحر وجوبا، سواء أكان هدي وجوب أم تطوع، ولا يأكل منه صاحبه ولا أهل رفقته إن كان هدي تطوع؛ سدا لذريعة التساهل في نحره قبل أوانه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ بَدَنَةٍ عَطِبَتْ مِنَ الْهَدْيِ فَانْحَرْهَا، ثُمَّ أَلْقِ قِلَادَتَهَا فِي دَمِهَا، ثُمَّ خَلَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ يَأْكُلُونَهَا»، ولا يجب عليه بدله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر صاحب هديه ببدل ما هلك من هدي التطوع؛ ولقول سعيد بن المسيب: «مَنْ سَاقَ بَدَنَةً تَطَوُّعًا فَعَطِبَتْ فَنَحَرَهَا، ثُمَّ خَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ يَأْكُلُونَهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهَا، أَوْ أَمَرَ مَنْ يَأْكُلُ مِنْهَا غَرِمَهَا» [الموطأ رقم: 1122]. أما الهدي الواجب إذا عطب قبل محله فيأكل منه صاحبه والأغنياء؛ لأن صاحبه يضمنه لتعلقه بذمته، قال ابن شهاب: «مَنْ أَهْدَى بَدَنَةً جَزَاءً أَوْ نَذْراً أَوْ هَدْيَ تَمَتَّع فَأُصِيبَتْ فِي الطَّرِيقِ فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ» [الموطأ رقم: 1124].
2 - ضياع الهدي
إذا ضل الهدي أو مات قبل وصول محله فإن كان واجبا أخرج بدله، وإن كان تطوعا فهو مخير؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما: «مَنْ أَهْدَى بَدَنَةً، ثُمَّ ضَلَّتْ أَوْ مَاتَتْ، فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ نَذْراً أَبْدَلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَطَوُّعاً، فَإِنْ شَاءَ أَبْدَلَهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا» [الموطأ رقم: 1125].
ثانيا : أحكام من فاته الحج
1 - فوات الحج بغير مباشرة الزوجة
من فاته الحج بسبب إضلال رواحله، أو بخطأ في عدد، أو بمرض، أو بخفاء هلال، أو بشغل، فليتحلل من حجه الذي فاته بعمرة كاملة ويحج قابلا ويهدي، ومن لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، فقد ثبت: «أنّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ خَرَجَ حَاجًا، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالنّازِيَةِ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ أَضَلَّ رَوَاحِلَهُ، وَإِنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَوْمَ النَّحْرِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ عُمَرُ : اصْنَعْ مَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ، ثُمّ قَدْ حَلَلْتَ، فَإِذَا أَدْرَكَكَ الْحَجُ قَابِلا فَاحْجُجُ، وَأَهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي» [الموطأ رقم: 1134]، وروي مثله عن هبار، كما في أحاديث الدرس.
ومثل المفرد في ذلك القارن؛ فقد قال مالك: «وَمَنْ قَرَنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةَ، ثُمّ فَاتَهُ الْحَجُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجِّ قَابِلَا، وَيَقْرُنُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَيُهْدِي هَدْيَيْنِ، هَدْيًا لِقِرَانِهِ الْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، وَهَدْياً لِمَا فَاتَهُ مِنَ الْحَقِّ» [الموطأ رقم: 1136].
2 - فوات الحج بمباشرة الزوجة
إذا باشر المحرم بالحج أهله قبل رمي جمرة العقبة، فقد أفسدا حجهما وعليهما إتمامه، ثم عليهما قضاء الحج الذي أفسداه، وعلى كل واحد منهما هدي جبرا لفعلهما؛ أنه فعن يحيى بن سعيد، سمع سعيد بن المسيب يقول: «مَا تَرَوْنَ فِي رَجُلٍ وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَلَمْ يَقُلْ لَهُ الْقَوْمُ شَيْئاً : فَقَالَ سَعِيدٌ : إِنَّ رَجُلاً وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ؛ فَبَعَثَ إِلَى الْمَدِينَةِ يَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا إِلَى عَامِ قَابِلِ. فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لِيَنْفُذَا لِوَجْهِهِمَا فَلْيُتِمَا حَجَهُمَا الَّذِي أَفْسَدَا، فَإِذَا فَرَغَا رَجَعًا، فَإِنْ أَدْرَكَهُمَا قَابِلٌ فَعَلَيْهِمَا الْحَجِّ وَالْهَدْيُ، وَيُهِلاَنِ مِنْ حَيْثُ أَهَلاً بِحَجَهِمَا الَّذِي أَفْسَدَا. وَيَتَفَرَّقَانِ حَتَّى يَقْضِيَا حَجِّهُمَا قَالَ مَالِكٌ : يُهْدِيَان جَمِيعاً بَدَنَةً بَدَنَةً» [الموطأ رقم: 1128].
وإن باشر الحاج زوجته بعد رمي جمرة العقبة وقبل طواف الإفاضة فعليه العمرة والهدي، وليس عليه حج قابل، وحجه الأول صحيح؛ لوقوعه بعد التحلل، غايته أنه وقع فيه نقص جبر بالعمرة والهدي، ووجبت عليه العمرة؛ لأن عليه أن يأتي بطواف الإفاضة في نسك لم يدخل عليه نقص بالوطء، ولا حج عليه فتعينت العمرة. قال مالك في رجل وقع بامرأته في الحج ما بينه وبين أن يدفع من عرفة ويرمي الجمرة: «إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَحَجٌ قَابِلٌ، قَالَ: فَإِنْ كَانَتْ إِصَابَتُهُ أَهْلَهُ بَعْدَ الْجَمْرَةِ، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ رمي أَنْ يَعْتَمِرَ وَيُهْدِيَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ حَجٌ قَابِلِ» [الموطأ رقم: 1129]، وهو المشهور عن ابن عباس، فعن ثور بن زيد الديلي عن عكرمة مولى ابن عباس قال: لا أظنه إلا عن عبد الله بن عباس أنه قال: «الَّذِي يُصِيبُ أَهْلَهُ قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ يَعْتَمِرُ وَيُهْدِي» [الموطأ رقم: 1138]، وهو قول ربيعة بن عبد الرحمن، قال مالك: «وَذَلِكَ أَحَبُ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ» الموطأ رقم: 1139].
يستفاد مما سبق: أن الحج عبادة تقتضي التجرد من متع الدنيا وملذاتها والإقبال على العبادة إلا ما أذن فيه الشرع من المباحات، وفي ذلك تربية للنفس على الابتعاد المؤقت عن بعض الملذات المباحة طلبا لرضا الله تعالى.
التقويم:
بين حكم الهدي إذا عطب أو ضل.
ماذا يفعل المحرم الذي فاته الحج؟ وماذا يجب عليه؟
بين أحكام عطب الحج قبل بلوغ محله مع الاستدلال.
تعطلت الحافلة بوفد من الحجاج المغاربة بعد أن أحرموا من الميقات مفردين بالحج، فوصلوا مكة صبيحة يوم الأضحى. فماذا يصنعون؟ مع الاستدلال.
الاستثمار:
سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلِ نَسِيَ الإِفَاضَةَ حَتَّى خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَرَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ فَقَالَ: «أَرَى إِنْ لَمْ يَكُنْ أَصَابَ النِّسَاءَ أَنْ يَرْجِعَ فَيُفِيضَ، وَإِنْ كَانَ أَصَابَ النِّسَاءَ، فَلْيَرْجِعْ فَلْيُفِضْ، ثُمَّ لِيَعْتَمِرْ وَلْيُهْدِ» [الموطأ رقم: 1140].
تأمل النص واستعين بشرح الزرقاني لبيان حكم من نسي طواف الإفاضة حتى رجع إلى بلده.
تمهيد:
من أيام الحج المشهودة يوم النحر؛ فقد سماه الله تعالى يوم الحج الأكبر فقال تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة: 3] يقوم فيه الحاج بمجموع من مناسك الحج.
ما هي أعمال يوم النحر؟ ومتى يتحلل المحرم بالنسك في هذا اليوم؟
نصوص الحديث:
قَالَ مَالِكٌ: «لَا يَجُوزُ لأَحَد أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، وَلَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَنْحَرَ قَبْلَ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا الْعَمَلُ كُلَّهُ يَوْمَ النَّحْرِ الذِّبْحُ، وَلُبْسُ الثَّيَابِ، وَإِلْقَاءَ التَفَثِ، والْحِلَاقُ، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ» [الموطأ رقم: 1173].
مَالِكِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عِيسَى بْن طَلْحَةَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: وَقَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلنَّاسِ بِمِنًى وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: «انْحَرْ وَلَا حَرَجَ». ثُمَّ جَاءَهُ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ فَقَالَ: «ارْم وَلَا حَرَجَ». قَالَ: فَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ قَدَمَ وَلَا أُخَرَ إِلَّا قَالَ: «افْعَلْ وَلَا حَرَجَ» [الموطأ رقم: 1267].
مَالِكَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ أُمَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ: مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُوا وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ فَقَالَ: «إِنِّي لَبَدْتُ رَأْسِي وَقَلَدْتُ هَدْيِي فَلَا أُحِلَّ حَتَّى أَنْحَرَ» [الموطأ رقم: 1169].
ترجمة الراوي:
حفصة رضي الله عنها: أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، وشقيقة الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهم، أسلمت رضي الله عنها في مكة، ثم هاجرت مع زوجها الأول خنيس بن حذافة السهمي إلى المدينة المنورة، ثم تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة زوجها الأول إثر جروح أصابته في غزوة أحد، توفيت سنة 41 هـ، وقيل: سنة 45 هـ.
شرح المفردات:
إِلْقَاءُ التَّفَث: حِلاق الشعر ولبس الثياب وقص الأظافر وإزالة الأوساخ...
لَبَدْتُ رَأْسِي: من التلبيد، وهو جعل شيء فيه من نحو صَمْغ؛ ليجتمع الشعر.
أولا: أعمال يوم النحر
1- ما يفعله الحاج يوم النحر
أعمال يوم النحر على الترتيب هي رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة.
وقد سئل النبي اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن تقديم وتأخير بعض هذه الأعمال على بعضها فكان جوابه «افْعَلْ وَلَا حَرَجَ»؛ فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: «وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلنَّاسِ بِمِنًى وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: انْحَرْ وَلَا حَرَجَ». ثُمَّ جَاءَهُ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ فَقَالَ: «ارْم وَلاَ حَرَجَ». قَالَ: فَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ قَدَمَ وَلَا أُخْرَ، إِلا قَالَ: «افْعَلْ وَلَا حَرَجَ». وأجمع العلماء على الإجزاء في التقديم والتأخير، واختلفوا في الدم، فأوجبه مالك في تقديم طواف الإفاضة على الرمي؛ لئلا يكون وسيلة إلى النساء قبل الرمي. وأوجب الفدية في تقديم الحلق على الرمي؛ لإلقاء التفث قبل فعل شيء من التحلل قياسا على من برأسه أذى.
2- أحكام نحر الهدي
أ- النحر قبل فجر يوم العاشر من ذي الحجة: لا يجوز لأحد أن ينحر قبل الفجر يوم النحر، قَالَ مَالِكٌ: «وَلَا يَنْبَغِي لَأَحَدٍ أَنْ يَنْحَرَ قَبْلَ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا الْعَمَلُ كُلُّهُ النَّحْرِ الذِّبْحُ، وَلُبْسُ الثَّيَابِ، وَإِلْقَاءُ التَّفَثِ، وَالْحِلَاقُ لا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ يَوْمٍ النَّحْرِ».
ب- مكان النحر: قال صلى الله عليه وسلم في منى: «هَذَا الْمَنْحَرُ، وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرِّ» [الموطأ رقم: 1167]. والمراد: هذا المكان الذي نحرت فيه هو المنحر الأفضل، وكل منى يجوز النحر فيه.
ج- مباشرة نحر الهدي: الأفضل أن يباشر من أهدى نحر هديه بنفسه، ويجوز أن ينيب عنه غيره، فقد ثبت عن علي رضي الله عنه: «أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ بَعْضَ هَدْيهِ بيَدِهِ، وَنَحَرَ غَيْرُهُ بَعْضَهُ» [الموطأ رقم: 1170].
وفي هذا العصر لا يذبح ولا ينحر الحاج بنفسه، بل ينيب بدفع تكلفة الهدي للجهات المختصة هناك.
ثانيا: أحكام التحلل
1- وقت التحلل
التحلل الأصغر يحصل برمي جمرة العقبة يوم العيد؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ النَّاسَ بِعَرَفَةَ، وَعَلَّمَهُمْ أَمْرَ الْحَجِّ، وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: إِذَا جِئْتُمْ مِنًى فَمَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ مَا حَرُمَ عَلَى الْحَاجِّ إِلَّا النِّسَاءَ وَالطَّيبَ، لَا يَمَسٌ أَحَدٌ نِسَاءً وَلاَ طيباً، حَتَّى يَطُوفَ ِبالْبَيْتِ» [الموطأ رقم: 1226]، فأول التحلل رمي جمرة العقبة، فمن رماها استحل بها إلقاء التفث ولُبس الثياب وغير ذلك من محظورات الإحرام، إلا النساء والطيب والصيد، أما النساء فلا خلاف في بقاء تحريمهن حتى يطوف طواف الإفاضة؛ لأنه نهاية التحلل، وكذلك الطيب عند ابن عمر، وكرهه مالك فقط. ويحرم الصيد؛ لقوله تعالى: ﴿لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: 95] وأما التحلل الأكبر من جميع محظورات الإحرام فلا يحصل إلا بطواف الإفاضة.
2- تحلل من لبد شعره أو عقصه أو ظفره
من لبد شعره أو عقصه أو ظفره وجب عليه الحلق ولا يجوز له التقصير؛ فعن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب الله الله قال: «مَنْ عَقَصَ رَأْسَهُ، أَوْ ضَفَرَ، أَوْ لَبَدَ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحِلَاقُ» [الموطأ رقم: 1186]، وإلى هذا ذهب الجمهور. ويجوز التقصير عند عمر رضي الله عنه لمن لَبَّد دون من ضفر، قال رضي الله عنه: «مَنْ ضَفَرَ رَأْسَهُ فَلْيَحْلِقُ، وَلَا تَشَبّهوا بالتَّلْبِيدِ» [الموطأ :رقم: 1185]، فإن من تشبه به وجب عليه ما وجب على الملبد من الحلاق.
الاستثمار:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: «أَنَّهُ لَقِيَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِهِ يُقَالُ لَهُ الْمُجَبِّرُ، قَدْ أَفَاضَ وَلَمْ يَحْلِقُ وَلَمْ يُقَصِّرْ، جَهِلَ ذَلِكَ، فَأَمَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَرْجِعَ فَيَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ، ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى الْبَيْتِ فَيُفِيضَ» [الموطأ رقم: 1183].
تمهيد:
الحلق أو التقصير نسك من مناسك الحج، قال تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ﴾ [الفتح: 27]، ولو لم يكن نسكا مقصودا لما وصف دخولهم بذلك.
ما هي أحكام الحلق والتقصير؟ لماذا خص النبي المحلقين بالدعاء ثلاثا؟
نصوص الحديث:
مَالِكَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللهُمَ أَرْحَم الْمُحَلَقِينَ». قَالُوا: وَالْمُقَصَرينَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «اللهُمَّ ارْحَم الْمُحَلَقِينَ». قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «وَالْمُقَصِّرِينَ» [الموطأ رقم: 1174].
قَالَ مَالِكٌ: «الأَمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلافَ فِيهِ أَنْ أَحَداً لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ وَلَا يَأْخُذُ مِنْ شَعَرِهِ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَا إِنْ كَانَ مَعَهُ، وَلَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحِلَّ بِمِنِّى يَوْمَ النَّحْرِ، وَذَلِكَ أَنّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ [البقرة: 195] [الموطأ رقم: 1178].
مَالك أَنَّهُ بَلَغَهُ: «أَنّ سَالَمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ دَعَا بِالْجَلَمَيْنِ فَقَصَ شَارِبَهُ وَأَخَذَ مِنْ لحْيَتِه قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ وَقَبْلَ أَنْ يُهِلَّ مُحْرِماً» [الموطأ رقم: 1184].
وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ نَسِيَ الْحِلَاقَ بِمِنًى فِي الْحَجَ، هَلْ لَهُ رَخْصَةٌ فِي أَنْ يَحْلِقَ بِمَكَةَ؟ قَالَ: «ذَلِكَ وَاسِعٌ، وَالْحِلَاقُ بِمِنّى أَحَبُّ إِلَيَّ» [الموطأ رقم: 1177].
ترجمة الراوي:
عبد الله بن عمر رضي الله عنه: سبقت ترجمته.
شرح المفردات:
بِالْجَلَمَيْنِ: تثنية الجَلَم، وهو المِقْراض، يقال فيه: الجلم، والجلمان.
وَالْمُقَصِّرِينَ: أي قل: وارحم المقصرين، فالعطف على محذوف، ويسمى العطف التلقيني.
أولا: أحكام الحلاق والتقصير
1- حكم الحلاق والتقصير
الحلاق أو التقصير واجب من واجبات الحج، فإذا تركه الحاج حتى طال أو رجع إلى بلده فعليه الدم. والتقصير سنة المرأة؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ إِنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ» [سنن أبي داود]، ويجزئ الرجل عن الحلاق، وهذا مجمع عليه.
2- زمان ومكان الحلاق أو التقصير
وقت الحلاق والتقصير بعد طلوع الفجر بعد رمي جمرة العقبة صبيحة يوم النحر، فإذا رمى نحر هديا إن كان معه، ثم يحلق أو يقصر بعد ذلك؛ قال مالك: «الْأَمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلَافَ فِيهِ أَنْ أَحَداً لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ وَلَا يَأْخُذُ مِنْ شَعَرِهِ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَا إِنْ كَانَ مَعَهُ، وَلَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ عَلَيْهِ حَتَّى يَجِلَّ بِمِنِّى يَوْمَ النَّحْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ [البقرة: 195]»، ومحله حيث يحل، نحره، أو ذبحه، ومعنى البلاغ هنا النحر أو الذبح، لا مجرد الوصول.
ومكان الحلاق أو التقصير في الحج منى أو مكة؛ فقد سئل مالك عن رجل نسي الحلاق بمنى في الحج هل له رخصة في أن يحلق بمكة؟ قال: «ذَلِكَ وَاسِعٌ، وَالْحِلَاقُ بِمِنًى أَحَبُّ إِلَيَّ» [الموطأ رقم: 1177].
3- أفضلية الحلاق على التقصير
التحلل الأصغر يحصل بالحلاق أو التقصير، والأفضل للرجال الحلاق، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حلق وقال: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» [سنن النسائى الصغرى]، وقد خص صلى الله عليه وسلم المحلقين بتكرير الدعاء لهم إظهارا لفضيلة الحلاق؛ فعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ». قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ». قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «وَالْمُقَصِّرِينَ»، ففي الحديث الدعاء للمحلقين مرتين، وعطف المقصرين عليهم في المرة الثالثة، فقوله صلى الله عليه وسلم: «وَالْمُقَصِّرِينَ» معطوف على مقدر، أي وارحم المحلقين والمقصرين، وكان الحلق أفضل؛ لأنه أبلغ في العبادة، وأبين للخضوع والذلة، وأدل على صدق النية، والمقصر يبقي على نفسه شيئا مما يتزين به بخلاف الحالق.
ثانيا: توفير الشعر والقص من اللحية والشارب
1- توفير الشعر للحلاق في الحج
يستحب لمريد الحج توفير شعره للحلاق في الحج، كما يستحب للمعتمر أن لا يحلق إذا كان بقرب الحج؛ ليوفر شعره للحلاق في الحج، روى نافع: «أَنّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا أَفْطَرَ مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَ، لَمْ يَأْخُذْ مِنْ رَأْسِهِ وَلَا مِنْ لِحْيَتِهِ شَيْئاً، حَتَّى يَحُجّ [الموطأ رقم: 1179]، لمزيد الشعث المطلوب في الحج، لكن قال مالك: «وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى النّاس» [الموطأ رقم: 1179]؛ لما فيه من المشقة الشديدة، وعن مالك، أنه بلغه: «أَنّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ دَعَا بِالْجَلَمَيْنِ فَقَصٌ شَارِبَهُ وَأَخَذَ مِنْ لِحْيَتِهِ، قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ وَقَبْلَ أَنْ يُهِلَّ مُحْرماً» [الموطأ رقم: 1184]؛ لئلا يطول ذلك بالإحرام، وفعله هذا يخالف ما كان يفعله ابن عمر رضي الله عنه، وكأن سالما يرى ذلك من جملة التنظيف وتوابع الغسل للإحرام.
2- القص من اللحية والشارب مع حلق الرأس
عن نافع: «أَنّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا حَلَقَ فِي حَجَّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَخَذَ مِنْ لِحْيَتِهِ وشاربه» [الموطأ رقم: 1180]؛ لطولهما بترك الأخذ منهما من أول شوال، وليس الأخذ منهما من تمام التحلل، وقد استحب ذلك مالك.
الاستثمار:
مَالِكَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ مَكَّةَ لَيْلاً وَهُوَ مُعْتَمِرٌ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَيُؤَخِّرُ الْحِلَاقَ حَتَّى يُصْبِحَ، قَالَ: وَلَكِنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى الْبَيْتِ فَيَطُوفُ بِهِ حَتَّى يَحْلِقَ رَأْسَهُ. قَالَ: وَرُبِّمَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَأَوْتَرَ فِيهِ، وَلَا يَقْرَبُ الْبَيْتَ» [الموطأ رقم: 1175].
تمهيد:
حرم الشرع على المحرم بحج أو عمرة فعل كثير من الأمور، وهي في جملتها ترجع إلى التزين والترفه المنافي للإحرام، ومن ذلك قتل الحيوانات بمختلف أنواعها؛ فمن فعل شيئا منها فعليه الفدية.
ما مفهوم الفدية؟ وما أحكامها؟
نصوص الحديث:
مَالك عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّي أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَضَى فِي الضَّبَعِ بِكَبْشِ وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزِ، وَفِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقِ وَفِي الْيَرْبُوع بِجَفْرَةٍ» [الموطأ رقم: 1240]. مَالِكَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَقُولُ: «فِي الْبَقَرَةِ مِنْ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ، وَفِي الشَّاةِ مِنْ الظَّبَاءِ شَاةٌ» [الموطأ رقم: 1242].
مَالِكَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «فِي حَمَامِ مَكَّةَ إِذَا قُتِلَ شَاةٌ» [الموطأ رقم: 1243].
قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ، وَفِي بَيْتِهِ فِرَاخٌ مِنْ حَمَامِ مَكَّةَ فَيُغْلَقُ عَلَيْهَا فَتَمُوتُ، فَقَالَ: «أَرَى بِأَنْ يَفْدِيَ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ فَرْخْ بشاة» [الموطأ رقم: 1244].
قَالَ مَالك: «وَلَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ أَنْ فِي النَّعَامَةِ إِذَا قَتَلَهَا الْمُحْرِمُ بَدَنَةً» [الموطأ رقم: 1245].
قال مالك: «وَكُلُّ شَيْءٍ فُدِيَ فَفِي صِغَارِهِ مِثْلُ مَا يَكُونُ فِي كِبَارِهِ وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلكَ مَثَلُ ديَة الْحُرِّ الصَّغير وَالْكَبير فَهُمَا بِمَنْزِلَةٌ وَاحِدَةٍ سَوَاءٌ» [الموطأ رقم: 1248].
ترجمة الراوي:
أبو الزُّبَيْر: محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسدي المكي، صدوق، روى عن جابر وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، وله في الموطأ ثمانية أحاديث، مات سنة 128هـ.
شرح المفردات:
بعَنَاق: أنثى المعز قبل إتمامها حولا.
اليَرْبُوع: يفعول دويبة نحو الفأرة.
بجَفْرة: الأنثى من ولد الضأن، وقيل منه ومن المعز جميعا.
أولا: مفهوم الفدية وحكمها
1- مفهوم الفدية: أصل الفدية في اللغة البدل الذي يخلص به الشيء؛ قال تعالى: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: 107].
واصطلاحا: هي البدل الذي يتخلص به المكلف من مكروه توجه إليه. [التعريفات للجرجاني].
2- حكم الفدية: اتفق الفقهاء على أن من فعل شيئا من محظورات الإحرام كحلق الرأس وقص الأظفار والادِّهَان والتطيب ولبس المخيط أو نحو ذلك وجبت عليه الفدية، ولا يجوز له أن يتعمد فعل ذلك، فإن تعمد فهو آثم؛ إذ لا يجوز لأحد أن يأتي الذنب ويكفر؛ لما في الموطأ: «قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْبَسَ شَيْئًا مِنْ الشَّيَابِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَلْبَسَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ، أَوْ يُقَصِّرَ شَعَرَهُ، أَوْ يَمَسَّ طِيبًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ لِيَسَارَةِ مُؤْنَةٍ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ. قَالَ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ» [الموطأ رقم: 1260]. فالفدية رخصة شرعت للضرورة، وذلك قول مالك: «وَإِنَّمَا أَرْخِصَ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ، وَعَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِدْيَةُ» [الموطأ رقم: 1260].
3- أنواع الفدية
الأول: النسك، والمراد به شاة من ضأن أو معز، ويشترط فيها من السن وغيره ما يشترط في الأضحية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم الكعب في الحديث الآتي: «أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ»، والمراد أنها تكفي في النسك، وهو معنى قول الإمام مالك حينما سئل عن النسك: «وَأَمَّا النُّسُكُ فَشَاةٌ» [الموطأ رقم: 1261] وما كان أعلى منها كالبقر أو الإبل أولى في الكفاية؛ بدليل قوله في الرواية الأخرى: «أوانْسُكْ بِمَا تَيَسَّرَ».
الثاني: إطعام ستة مساكين من غالب قوت أهل المحل الذي أخرجها فيه، لكل مسكين مدان بمده صلى الله عليه وسلم، فالجملة ثلاثة أَصُع، وهو قول الإمام مالك: «وَأَمَّا الطَّعَامُ فَيُطْعِمُ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينِ مُدَّانِ بِالْمُدَّ الْأَوَّلِ، مُدَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» [الموطأ رقم: 1261].
الثالث: صيام ثلاثة أيام، ويجوز صيامها في كل وقت يجوز فيه الصيام، سواء كان في الحج، أو بعد رجوعه إلى أهله، جاء في الموطأ: «قَالَ مَالِكٌ، فِي الَّذِي يَجْهَلُ أَوْ يَنْسَى صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، أَوْ يَمْرَضُ فِيهَا، فَلَا يَصُومُهَا حَتَّى يَقْدَمَ بَلَدَهُ. قَالَ: لِيُهْدِ إِنْ وَجدَ هَدْيًا، وَإِلَّا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي أَهْلِهِ» [الموطأ رقم: 1266].
وهذه الأنواع تجب على التخيير لا على الترتيب؛ لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: 196]. وَقَدْ قال ابن عباس رضي الله عنهما: «مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ بِأَوْ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ، وَقَدْ خير النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَعْبًا فِي الْفِدْيَةِ» [صحيح البخاري].
وسئل مالك عن الفدية من الصيام، أو الصدقة، أو النسك، أصاحبه بالخيار في ذلك؟ قال: «كُلُّ شَيْءٍ فِي كِتَابِ اللهِ فِي الْكَفَّارَاتِ كَذَا، أَوْ كَذَا، فَصَاحِبُهُ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ، أَيَّ شَيْءٍ أَحَبَّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَعَلَ» [الموطأ رقم: 1261].
ثانيا: فدية ما أصيب من الطير والوحش
1- فدية ما أصيب من الوحش
جاء في الموطأ أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قضى في قتل الضبع بكبش؛ وفي قتل الغزال بعنز؛ لتقاربهما في القدر، وهو قوله: «عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشِ وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزِ».
وحكم عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما فيمن قتل ظبيا بعنز؛ ففي الموطأ: «عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ قُرَيْرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْن سِيرِينَ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ إِنِّي أَجْرَيْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي فَرَسَيْنِ نَسْتَبِقُ إِلَى ثُغْرَةِ ثَنِيَّةٍ فَأَصَبْنَا ظَبْيًا وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ فَمَاذَا تَرَى؟ فَقَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِهِ: تَعَالَ حَتَّى أَحْكُمَ أنا وَأَنْتَ، قَالَ: فَحَكَمَا عَلَيْهِ بِعَنْزِ» [الموطأ رقم: 1241].
2- فدية ما أصيب من الطير
حكم عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قتل حمام مكة بالشاة، وذلك لحرمة مكة واستئناس الحمام فيها، فلو لم يكن على قاتله إلا عدله من طعام أو صيام لغير مكة، لكثر قتله فيها، وهو المروي عن سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه. ولا فرق في ذلك بين العمد والخطأ، فمن تسبب في قتل الحمام بمكة فعليه فدية شاة، قصد قتله أم لا؛ فقد جاء في الموطأ: «قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ وَفِي بَيْتِهِ فِرَاخٌ مِنْ حَمَامٍ مَكَّةَ فَيُغْلَقُ عَلَيْهَا فَتَمُوتُ فَقَالَ: أَرَى بِأَنْ يَفْدِيَ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ فَرْخِ بِشَاةٍ». وقال أيضا: «وَسَمِعَتْ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِذَا رَمَى الْمُحْرِمُ فَأَصَابَ شَيْئًا مِنَ الصَّيْدِ لَمْ يُرِدْهُ فَقَتَلَهُ، إِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ... لِأَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ» [الموطأ رقم: 1262]؛ لأنه إتلاف، والإتلاف مضمون في العمد والخطأ، لكن العامد آثم بخلاف المخطئ، وإليه ذهب الجمهور سلفا وخلفا. كما أنه لا فرق بين المحرم، والحلال إذا قتل طيرا في الحرم، قال مالك: «وَكَذَلِكَ الْحَلَالُ يَرْمِي فِي الْحَرَمِ شَيْئًا، فَيُصِيبُ صَيْدًا لَمْ يُرِدْهُ فَيَقْتُلُهُ إِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ» [الموطأ رقم: 1262].
والواجب في قتل النعامة في الحرم فدية بدنة؛ لأنها تقاربها في القدر والصورة، قال مالك: «لَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ أَنَّ فِي النَّعَامَةِ إِذَا قَتَلَهَا الْمُحْرِمُ بَدَنَةً».
ولا فرق في ذلك بين صغير أو كبير، ولا صحيح أو مريض؛ وهو قول الإمام مالك: «وَكُلُّ شَيْءٍ فُدِيَ فَفِي صِغَارِهِ مِثْلُ مَا يَكُونُ فِي كِبَارِهِ»، وقاس ذلك على الدية، وهو قوله: «وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ دِيَةِ الْحُرِّ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَهُمَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ سَوَاءٌ».
الاستثمار:
قَالَ مَالِكٌ: «... وَلَا يَصْلُحُ لَهُ (أي المحرم) أَنْ يُقَلِّمَ أَظْفَارَهُ، وَلَا يَقْتُلَ قَمْلَةً وَلَا يَطْرَحَهَا مِنْ رَأْسِهِ إِلَى الْأَرْضِ وَلَا مِنْ جِلْدِهِ وَلَا مِنْ ثَوْبِهِ فَإِنْ طَرَحَهَا الْمُحْرِمُ مِنْ جِلْدِهِ أَوْ مِنْ ثَوْبِهِ فَلْيُطْعِمْ حَفْنَةً مِنْ طَعَامِ» [الموطأ رقم: 1255].
تمهيد:
حرم الشرع على المحرم فعل كثير من الأمور، منها ما يرتبط بذاته، كحلق رأسه وتقليم أظافره، ومنها ما يرتبط بمحيطه كقتل الحيوانات بمختلف أنواعها.
ماذا يجب على المحرم إذا حلق رأسه قبل التحلل؟ وما الحكم إذا اشترك جماعة من الحجاج في قتل حيوان؟ ما فدية من قتل الجراد؟
نصوص الحديث:
مَالِكَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَبِي الْحَجَّاجِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ لَهُ لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُكَ». فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «احْلِقْ رَأْسَكَ، وَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ ستَّةَ مَسَاكِينَ، أَوْ انْسُكْ بِشَاةٍ» [الموطأ رقم: 1252].
قَالَ مَالِكٌ، فِي الْقَوْمِ يُصِيبُونَ الصَّيْدَ جَمِيعًا، وَهُمْ مُحْرِمُونَ، أَوْ فِي الْحَرَمِ، قَالَ: «أَرَى أَنَّ عَلَى كُلِّ إِنْسَانِ مِنْهُمْ جَزَاءَهُ ، إِنْ حَكِمَ عَلَيْهِمْ بِالْهَدْي فَعَلَى كُلِّ إِنْسَانِ مِنْهُمْ هَدْي، وَإِنْ حَكِمَ عَلَيْهِمْ بِالصِّيَام كَانَ عَلَى كُلِّ إِنْسَانِ مِنْهُمْ الصِّيَامُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْقَوْمُ يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ خَطَأَ، فَتَكُونَ كَفَّارَةً ذَلِكَ عِتْقَ رَقَبَةٍ عَلَى كُلِّ إِنْسَانِ مِنْهُمْ، أَوْ صِيَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ عَلَى كُلِّ إِنْسَانِ مِنْهُمْ» [الموطأ رقم: 1263].
ترجمة الراوي:
كعب بن عُجْرَة رضي الله عنه: الأنصاري المدني، أسلم وشهد المشاهد، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: عدة أحاديث، وروى عنه بنوه وجماعة، مات سنة 51 هـ.
شرح المفردات:
انسك بشَاة: اذبح شاة تقربا إلى الله تعالى.
قَبْضَة: بفتح القاف، والضم لغة، أي حفنة.
أولا: فدية حلق الرأس
1- المراد بحلق الرأس: المراد بحلق الرأس إزالة الشعر بصفة عامة، فيشمل الحلق بالموسى، والقصر بالمقص، والنتف؛ جاء في الموطأ عن مالك: «لَا يَصْلُحُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَنْتِفَ مِنْ شَعَرِهِ شَيْئًا وَلَا يَحْلِقَهُ وَلَا يُقَصِّرَهُ حَتَّى يَحِلَّ إِلَّا أَنْ يُصِيبَهُ أَذًى فِي رَأْسِهِ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى» [الموطأ رقم: 1255].
2- ما يجب على المحرم إذا حلق رأسه: حلق المحرم رأسه لا يخلو إما أن يكون لعذر، أو لغير عذر، وفيما يأتي بيان ذلك:
أ- حلق المحرم رأسه لعذر: دل قول النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: «احْلِقْ رَأْسَكَ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوْ انْسُكْ بِشَاةٍ» على أن فدية حلق الرأس لعذر أحد أمور ثلاثة. والإطعام كما جاء في الحديث: «مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ» [الموطأ رقم 1251]. والتكرير في (مدين مدين) لإفادة عموم التثنية، أي مدين لكل مسكين والأصل في ذلك قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: 196]، وفي الصحيحين عن كعب بن عجرة: «فِيَّ نَزَلَتِ الْآيَةُ خَاصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً». وفي هذا دلالة لأصح قولي مالك: إن العبرة. بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأن السنة مبينة لمجمل القرآن، لإطلاق الفدية فيه، وتقييدها بالسنة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لكعب، حينما آذاه الشعر، كما جاء في الحديث: «لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ».
ب- حلق المحرم رأسه لغير عذر: لا خلاف بين العلماء أن من حلق رأسه لعذر مخير فيما نص الله عليه من الصيام أو الصدقة أو النسك، واختلفوا فيمن حلق أو لبس أو تطيب عامدًا من غير ضرورة؛ فقال مالك: بئس ما فعل، وعليه الفدية وهو مخير فيها. وقال أبو حنيفة والشافعي: ليس مخيرا إلا في الضرورة؛ لشرط الله في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾ [البقرة: 196]، فأما إذا حلق أو تطيب أو لبس عامدًا من غير ضرورة فعليه دم وحجة الإمام مالك: أن السُّنَّة وردت في كعب بن عجرة فى حلقه رأسه وقد آذاه هوامه، ولو كان حكم غير الضرورة مخالفًا لها لبيّنه عليه السلام، ولما لم تسقط الفدية من أجل الضرورة، علم أن من لم يكن بمضطر أولى ألا تسقط عنه الفدية. [شرح صحيح البخاري لابن بطال].
ولا مفهوم للرأس في حديث كعب السابق، بل الحكم عام في شعر الرأس وغيره، وهو ما أشار إليه الإمام ماك بقوله: «مَنْ نَتَفَ شَعَرًا مَنْ أَنْفِهِ أَوْ مِنْ إِبِطِهِ، أَوِ اطَّلَى جَسَدَهَ بِنُورَةٍ (بِضَمِّ النون: أخلاط تضاف إِلَيْهِ مِن زِرْنِيخ وغيره، يستعمل لإزالة الشعرِ) أَوْ يَحْلِقُ عَنْ شَجَّةِ رَأْسِهِ لِضَرُورَةٍ، أَوْ يَحْلِقُ قَفَاهُ لِمَوْضِعِ الْمَحَاجِمِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا إِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْلِقَ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ» [الموطأ رقم: 1256].
ثانيا: اشتراك جماعة في صيد
إذا اشتركت جماعة من الناس في قتل الصيد وهم محرمون، أو قتلوه في الحرم من غير إحرام فالواجب على كل منهم جزاؤه كاملا، كما لو انفرد بقتله؛ لأن حكم ذلك كالكفارة، والكفارة لا تتبعض؛ فقد جاء في الموطأ: «قَالَ مَالِكٌ فِي الْقَوْمِ يُصِيبُونَ الصَّيْدَ جَمِيعًا وَهُمْ مُحْرِمُونَ بِحَجِّ أَوْ عُمْرَةٍ، قَالَ: أَرَى أَنَّ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ جَزَاءَهُ» [الموطأ رقم: 1263]. فإن حكم عليهم بالهدي كان على كل إنسان منهم هدي، وإن حكم عليهم بالإطعام كان على كل منهم إطعام، وكذلك الأمر في الصيام، وهو قوله: «إِنْ حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِالْهَدْيِ، فَعَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ هَدْيّ، وَإِنْ حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِالصِّيَامِ كَانَ عَلَى كُلٌّ إِنْسَانٍ مِنْهُمُ الصِّيَامُ». ولو اختار بعضهم الهدي، وبعضهم الإطعام، وبعضهم الصيام، يحكم على كل إنسان منهم بما اختار من ذلك بقدر ما كان يحكم عليه به لو انفرد بقتله. ويحكم بالفدية عدلان عالمان بالحكم لهما فطنة يميزان بها أشبه الأشياء به، فلا يكفي واحد، ويندب كونهما بمجلس واحد لمزيد التثبت والحفظ؛ ففي الحديث السابق أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما سئل عن قتل الظبي استعان بعبد الرحمن بن عوف -ومقامه في العدالة معروف، فهو أحد العشرة المبشرين بالجنة- فقال له: «تَعَالَ حَتَّى أَحْكُمَ أَنَا وَأَنْتَ» [الموطأ رقم: 1241].
وقد استغرب السائل من فعل عمر هذا؛ ففي الموطأ: «فَوَلَّى الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْكُمَ فِي ظَبْي، حَتَّى دَعَا رَجُلًا يَحْكُمُ مَعَهُ» وَفِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ، فَقَالَ: «إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يُفْتِيَكَ حَتَّى سَأَلَ الرَّجُلَ».
وحينما سمعه سيدنا عمر أنكر عليه، مستدلا بقوله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [المائدة: 95]، وفي الموطأ «فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ الرَّجُلِ فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ: هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ؟ قَالَ: لَا ، قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي حَكَمَ مَعِي؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: لَوْ أَخْبَرْتَنِي أَنَّكَ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ لَأَوْجَعْتُكَ ضَرْبًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ [المائدة: 95] [الموطأ رقم: 1241]
الاستثمار:
مَالِكَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ بِسُوقِ الْبُرَمِ بِالْكُوفَةِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَنْفُخُ تَحْتَ قِدْرٍ لِأَصْحَابِي وَقَدْ امْتَلَأَ رَأْسِي وَلِحْيَتِي قَمْلًا فَأَخَذَ بِجَبْهَتِي ثُمَّ قَالَ: احْلِقْ هَذَا الشَّعَرَ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي مَا أَنْسُكُ به» [الموطأ رقم: 1253]
تمهيد:
العمرة زيارة لبيت الله الحرام على كيفية خاصة عبادة لله وتعظيما للبيت العتيق، وعمارة له. والحرص عليها من تعظيم شعائر الله المأمور بها في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ٣٢﴾ [الحج: 30].
فما هي أحكام العمرة؟ وما فضلها؟
نصوص الحاديث:
مَالِكَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَابِ قَالَ: «افْصِلُوا بَيْنَ حَجَكُمْ وَعُمْرَتِكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَتَمَ لِحَجَ أَحَدِكُمْ، وَأَتَمْ لِعُمْرَتِهِ، أَنْ يَعْتَمِرَ فِي غَيْر أَشْهُرِ الْحَجَ» [الموطأ رقم: 991].
مَالِكَ، عَنْ سُمَيّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُول الله فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ كُنْتُ تَجَهَّزْتُ لِلْحَجَ، فَاعْتُرضَ لي.
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اعْتَمِرِي فِي رَمَضَانَ، فَإِنْ عُمْرَةً فِيهِ كَحَجَةٍ» [الموطأ رقم: 990].
قَالَ يَحْيَى: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرّجُلِ يَعْتَمِرُ مِنْ بَعْضِ الْمَوَاقِيتِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ، مَتَى يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ؟ فَقَالَ: «أَمَا الْمُهِلُ مِنَ الْمَوَاقِيتِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا انْتَهَى إِلَى الْحَرَمِ. قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَصْنَعُ ذلك» [الموطأ رقم: 979].
مَالِكَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَمْ يَعْتَمِرْ إِلَّا ثَلَاثَاً إِحْدَاهُنَّ فِي شَوَالِ، وَاثْنَتَيْنِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ» [الموطأ رقم: 974].
ترجمة الراوي:
أبو بكر بن عبد الرحمن: هو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام القرشي المدني، أحد الفقهاء السبعة، تابعي، ثقة، فقيه، عالم، شيخ، كثير الحديث، كان يقال له: راهب قريش؛ لكثرة صلاته، وكان مكفوفا. مات سنة (93 هـ)، وقيل: (94 هـ).
شرح المفردات:
افْصِلُوا بَيْنَ حَجَكُمْ وَعُمْرَتِكُمْ: بأن تُحرموا بكلِّ منهما وحده.
تَجَهَزْتُ: أعددت ما أحتاج إليه في سفري.
فَاعْتُرِضَ لي: عاقني عائق منعني.
أولا: أحكام العمرة
1 - حكم العمرة
العمرة سنة مؤكدة؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: «أَتَى أَعْرَابِيُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنِ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ: لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ» [سنن الترمذي] ولحديث: «بُنِي الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسِ...» [صحيح البخاري] فذكر الحج دون العمرة فدل ذلك على عدم وجوبها. قال مالك: «الْعُمْرَةُ سُنَّةٌ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَداً مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَرْخَصَ فِي تَرْكِهَا» [الموطأ رقم: 993].
2 - فضل العمرة
أ- تكفير الذنوب؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا» [الموطأ رقم: 989]، قال ابن عبد البر: من الذنوب الصغائر دون الكبائر، واستُشكل كونُ العمرة كفارةً مع اجتناب الكبائر يكفر، فماذا تكفر العمرة؟ وأجيب بأن تكفير العمرة مقيد بزمنها، وتكفير الاجتناب عام لجميع عمر العبد، فتغايرا من هذه الحيثية.
يظهر من الحديث أن العمرة الأولى هي المكفرة؛ لأنها التي وقع الخبر عنها بأنها تكفر، ولكن الظاهر من جهة المعنى أن العمرة الثانية هي المكفرة لما قبلها إلى العمرة السابقة، فإن التكفير قبل وقوع الذنب خلاف الظاهر، ويرى الأبي: أن الحديث خرج مخرج الحث على العمرة، والإكثار منها؛ لأنه إذا حمل على غير ذلك يشكل بما إذا اعتمر مرة واحدة، إذ يلزم عليه أن لا فائدة لها.
ب- فضل العمرة في رمضان: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني قد كنت تجهزت للحج، فاعترض لي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعْتَمِرِي فِي رَمَضَانَ، فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ كَحَجَةٍ» وذلك لبركة رمضان، فإن الحسنات تتضاعف فيه حتى يوازي ثواب العمرة ثواب الحج، والله يضاعف لمن يشاء.
3 - تكرار العمرة
تُكرَه أكثر من عمرة في السنة الواحدة، قال مالك: «وَلَا أَرَى لَأَحَدٍ أَنْ يَعْتَمِرَ السِّنَةِ مِرَاراً» [الموطأ رقم 994]؛ لأنه صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرة واحدة في السنة تمكنه من مع التكرير، وأجاز الجمهور وكثير من المالكية التكرار بلا كراهة؛ لحديث: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا» [الموطأ رقم: 989].
4 - ميقات العمرة
ميقات العمرة هو ميقات الحج لغير المقيم بمكة، أما المقيم بمكة من أهلها أو من أهل الآفاق فيخرج إلى موضع من الحل ويحرم منه؛ إذ شرط الإحرام أن يجمع فيه بين الحل والحرم، والسنة أن يحرم من التنعيم؛ لأنه الميقات الذي وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ما هو أبعد منه كالجعرانة والحديبية؛ لإحرامه منهما بالعمرة. قال مالك: «فَأَمّا الْعُمْرَةُ مِنَ التَّنْعِيمِ فَإِنَّهُ مَنْ شَاءَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ، ثُمَّ يُحْرِمَ فَإِنْ ذَلِكَ مُجْزِيٍّ عَنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَكِنِ الْفَضْلُ أَنْ يُهِلَّ مِنَ الْمِيقَاتِ الَّذِي وَقَتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَهُوَ أَبْعَدُ مِنَ التنعيم» [الموطأ رقم: 997].
ثانيا: عُمَر النبي صلى الله عليه وسلم
1 - عددها ووقتها
اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عُمَر على الصحيح عند مالك؛ لما في الموطأ من أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اعْتَمَرَ ثَلَاثَاً عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعَامَ الْقَضِيّةِ، وَعَامَ الْجِعِرَانةِ» [الموطأ رقم: 973]. ومن يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن الحج يقول: اعتمر أربعا، وهو مذهب أنس رضي الله عنه.
أما زمن هاته العُمرِ فإن عمرة الحديبية والجعرانة كانتا في ذي القعدة، واختلف في عمرة القضية، فقيل: في شوال، وقيل: في ذي القعدة، ويؤيد القول الأول ما رواه هشام بن عروة عن أبيه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَمْ يَعْتَمِرُ إِلَّا ثَلاثاً إِحْدَاهُنَّ فِي شَوَالٍ، وَاثْنَتَيْنِ ذي الْقَعْدَة» [الموطأ رقم: 973].
2 - العمرة قبل الحج
تجوز العمرة قبل الحج بإجماع؛ فقد اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحج ثلاث عمرٍ، قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء في جواز العمرة قبل الحج لمن شاء. وعن عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي أن رجلا سأل سعيد بن المسيب فقال: أعتمر قبل أن أحج؟ فقال سعيد: «نَعَمْ، قَدِ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَحُجِّ» [الموطأ رقم: 975].
الاستثمار:
مَالِكَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: «أَنْ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ اسْتَأْذَنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي شَوَالٍ فَأَذِنَ لَهُ فَاعْتَمَرَ، ثُمَّ قَفَلَ إِلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يَحْجُج» [الموطأ رقم: 976].
تمهيد:
الأضحية شعيرة من الشعائر الدينية، يذبحها المؤمن تقربا إلى الله عز وجل، أمر الله تعالى بها في قوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ٢﴾ [الكوثر: 2]. وحث النبي صلى الله عليه وسلم على فعلها في كثير من الأحاديث، مبينا أحكامها ووقت مشروعيتها.
فما مفهوم الأضحية؟ وما حكمها؟ وما وقت استحبابها؟
نصوص الحديث:
قَالَ يحيى: قال مَالِكٌ: «الضَّحِيَّةُ سُنَّةٌ، وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، وَلَا أُحبُّ لأَحَدٍ مِمَّنْ قَوِيَ عَلَى ثَمَنِهَا أَنْ يَتْرَكَهَا» [الموطأ رقم: 1367].
مَالِكَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: «الْأَضْحَى يَوْمَانِ بَعْدَ يَوْمِ الْأَضْحَى» [الموطأ رقم: 1364].
مَالِكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بَشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ: «أَنَّ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ نِيَارِ ذَبَحَ ضَحِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَضْحَى، فَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يَعُودَ بِضَحِيَّةِ أُخْرَى، قَالَ أَبُو بَرْدَة: لَا أَجِدُ إِلَّا جَذَعًا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ لَهُ: وَإِنْ لَمْ تَجِدْ إِلَّا جَدَعًا فَاذْبَحْ» [الموطأ رقم: 1354].
ترجمة الراوي:
أبو بردة رضي الله عنه: هانئ بن نيار البلوي الأنصاري، شهد بدرا والمشاهد كلها، روى عنه ابن أخته البراء بن عازب، وجابر بن عبد الله، وجماعة، مات سنة 51 هـ.
شرح المفردات:
جَذَعا: ما استكمل سنة ولم يدخل في الثانية.
قَوِيَ عَلَى ثَمَنِها: قدر على ثمنها.
أولا: مفهوم الأضحية وحكمها
1- مفهوم الأضحية
الأضحية: اسم لما يذبح من النعم تقربا إلى الله تعالى في يوم العيد وتالييه. قال عياض: سميت بذلك؛ لأنها تفعل في الضحى، وهو ارتفاع النهار، فسميت بزمن فعلها. هذا هو الأصل ثم غلب استعماله في ذبح الأضحية في أي وقت كان من أيام التشريق.
2 - حكم الأضحية
الأضحية سنة مؤكدة على كل من قدر عليها مقيما كان أو مسافرا إلا الحجاج الذين بمنى فإنهم لا أضحية عليهم؛ لأن سنتهم الهدي، وفي حكمها قال الإمام مالك في الموطأ: «الضَّحِيَّةُ سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ»، وقوله: «وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ» زيادة في البيان؛ لدفع توهم أن مراده شرعت بالسنة فلا ينافي الوجوب، فبين المراد بالسنة، والحجة للسنية ما في صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ»، ففي قوله: «أراد» دليل على أنها غير واجبة، وصرح بالسنية في حديث الطبراني عن ابن عباس مرفوعا: «الْأَضْحَى عَلَيَّ فَرِيضَةٌ، وَعَلَيْكُمْ سُنَّةٌ».
ثانيا: وقت الأضحية
1 - أيام الأضحية
ذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد وأكثر العلماء إلى أن أيام الأضحية ثلاثة يوم النحر ويومان بعده ولا أضحية في اليوم الرابع؛ لما رواه مالك في الموطأ عن نافع أن عبد الله بن عمر قال: «الْأَضْحَى يَوْمَان بَعْدَ يَوْمِ الْأَضْحَى»، ومثله مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فهذا وإن كان موقوفا على الصحابة فهو مما لا مجال فيه للرأي والاجتهاد، فيعطى حكم الرفع.
وقد استدل ابن القصار في ذلك بقوله تعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ [الحج: 26]. قال: «والأيام المعلومات: يوم النحر ويومان بعده، والأيام المعدودات ثلاثة بعد يوم النحر، فيوم النحر معلوم غير معدود ولا مجهول، واليومان بعده معلومان معدودان، واليوم الرابع معدود غير معلوم، وفائدة وصفنا له بأنه معلوم بأنه من أيام النحر والذبح، وفائدة وصفنا له بأنه معدود أنه من أيام الرمي، وقد قال الله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 203].
2 - حكم ذبح الأضحية قبل الصلاة
لا خلاف بين العلماء في أن من ذبح أضحيته قبل صلاة العيد لم تجزئه؛ فقد أمر النبي الصحابي الجليل أبا بردة رضي الله عنه أن يعيد الأضحية حينما ضحى قبل الصلاة، كما جاء في حديث الدرس، وفي الصحيحين عن البراء رضي الله عنه قال: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ -وَفِي رِوَايَةٍ: يَوْمَ الْأَضْحَى بَعْدَ الصَّلَاةِ- فَقَالَ: مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَقَدْ أَصَابَ السُّنَّةَ، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَتِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ، فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَسَكْتُ شَاتِي قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَعَرَفْتُ أن الْيَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، فَتَعَجَّلْتُ وَأَكَلْتُ وَأَطْعَمْتُ أَهْلِي وَجِيرَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يوم تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ».
3 - حكم ذبح الأضحية بعد الصلاة وقبل ذبح الإمام
ذهب مالك والشافعي والأوزاعي إلى أنه لا يجوز ذبح الأضحية بعد الصلاة وقبل ذبح الإمام؛ للحديث الذي أخرجه مسلم عن جابر رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى النَّحْرِ بِالْمَدِينَةِ، فَسَبَقَهُ رِجَالٌ، فَنَحَرُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ نَحَرَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ نَحَرَ قَبْلَهُ أَنْ يُعِيدَ بِنَحْرٍ آخَرَ وَلَا يَنْحَرُوا حَتَّى يَنْحَرَ». وقال الحسن في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ١﴾ [الحجرات: 1] نزلت في قوم ذبحوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يعيدوا».
الاستثمار:
مَالِكَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ: ضَحَّى مَرَّةً بِالْمَدِينَةِ، قَالَ نَافِعٌ: فَأَمَرَنِي أَنْ أَشْتَرِيَ لَهُ كَبْشًا فَحِيلًا أَقْرَنَ، ثُمَّ أَذْبَحَهُ يَوْمَ الْأَضْحَى فِي مُصَلَّى النَّاسِ، قَالَ نَافِعٌ: فَفَعَلْتُ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَحَلَقَ رَأْسَهُ حِينَ ذُبِحَ الْكَبْشُ، وَكَانَ مَرِيضًا لَمْ يَشْهَدُ الْعِيدَ مَعَ النَّاسِ، قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَيْسَ حِلَاقُ الرَّأْسِ بِوَاجِبٍ عَلَى مَنْ ضَحَّى. وَقَدْ فَعَلَهُ عِبدِ اللَّهِ بِنُ عُمَرَ» [الموطأ رقم: 1356].
تمهيد:
الأضحية قربة إلى الله؛ لذلك كان المطلوب فيها الأفضل، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في
كثير من الأحاديث شروط كمالها وما يستحب فيها.
فما هي شروط الأضحية؟ وما حكم الشركة فيها؟
نصوص الحديث:
مَالك عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عُبَيْدِ بْن فَيْرُوزِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «سُئِلَ مَاذَا يُتَّقَى مِنْ الضَّحَايَا؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ وَقَالَ: «أَرْبَعْ». وَكَانَ الْبَرَاءُ يُشِيرُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: يَدِي أَقْصَرُ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. «الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَريضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنقِي» [الموطأ رقم: 1352].
مَالِكَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ: «كَانَ يَتَّقِي مِنْ الضَّحَايَا وَالْبُدْنِ الَّتِي لَمْ تُسِنَّ، وَالَّتِي نَقَصَ مِنْ خَلْقِهَا. قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إلي» [الموطأ رقم: 1353].
مَالِكَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّهُ قَالَ: «نَحَرْنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَة الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَة، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَة» [الموطأ رقم: 1360].
ترجمة الراوي:
البراء بن عازب رضي الله عنه: بن الحارث بن عدي، الأنصاري الأوسي، صحابي ابن صحابي، نزل الكوفة، استصغر يوم بدر، وشهد أحدا والحديبية وما بعدهما، قال عن نفسه: غزوت معه صلى الله عليه وسلم خمس عشرة غزوة، وما قدم علينا المدينة حتى حفظت سورا من المفصل. مات سنة 72 هـ.
شرح المفردات:
ظَلْعُها: أي: عرجها.
العَجْفَاء: بالمد مؤنث أعجف، الضعيفة.
لَا تُنْقِي: أي: لا نقي لها، والنقي الشحم، وقيل: المخ.
أولا: شروط الأضحية
1 - سلامتها من العيوب
يشترط في الأضحية السلامة من العيوب، وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم أصول العيوب التي لا تجوز في الأضحية في أربعة حينما سئل: «مَاذَا يُتَّقَى مِنْ الضَّحَايَا؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ وَقَالَ أَرْبَعٌ»، وهي:
أ - العرجاء البين عرجها: وهي التي لا تلحق الغنم في مشيها؛ وفيها قال: «الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ طَلْعُهَا» فَإِن خف العرج فلم يمنعها أن تسير بسير الغنم أجزأت، كما يدل عليه مفهوم قوله: «الْبَيِّنُ طَلْعُهَا».
ب - العوراء البين عورها: فإن كان بها بياض قليل على الناظر لا يمنعها الإبصار، أو كان على غير الناظر أجزأت، وهو مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: «وَالْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا».
ج - المريضة البين مرضها: بأي مرض كان بشرط وضوحه؛ لأن المرض يُنهك بدنها فينقص لحمها ويفسده حتى تعافه النفس؛ وهو قوله: «وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا»، وفيه أن المرض الخفيف لا يمنع.
د - الهزيلة: التي لا شحم في لحمها ولا مخ في عظمها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي».
فهذه العيوب الأربع مجمع عليها، وما في معناها داخل فيها، ولا سيما إذا كانت العلة فيها أبين، فإذا لم تجز العوراء والعرجاء، فالعمياء والمقطوعة الرجل أحرى.
وذهب بعض العلماء إلى أن ما عدا العيوب الأربعة يجوز في الضحايا، مستدلا بمفهوم الحديث، وله وجه، لولا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الأذن والعين، وما يجب أن يضم إلى ذلك، وكذلك ما كان في معناها عند الجمهور؛ للحديث الذي رواه أبو داود والنسائي وغيرهما عن علي رضي الله عنه: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَلَا نُضَجِّيَ بِمُقَابَلَةٍ وَلَا بِمُدَابَرَةٍ وَلَا شَرْقَاءَ وَلَا خَرْقَاءَ، وَالْمُقَابَلَةُ مَا قُطِعَ طَرِفُ أُذُنِهَا، وَالْمُدَابَرَةُ مَا قُطِعَ طَرَفًا جَانبي الأذن، وَالشَّرْقَاءُ الْمَشْرُوقَةُ الْأُذُنِ، وَالْخَرْقَاهُ الْمَتَّقُوبَةُ الْأُذُن» وهذا حديث حسن الإسناد.
2 - بلوغها سن الإجزاء
الأضحية تكون من الضأن والمعز والبقر والإبل إذا بلغت سن الإجزاء؛ لما جاء في الموطأ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ: «كَانَ يَتَّقِي مِنْ الضَّحَايَا وَالْبُدْنِ الَّتِي لَمْ تُسِنَّ» أي لم تبلغ سن الإجزاء، وهو في الضأن سنة ودخوله في السنة الثانية ولو بيوم، وفي المعز سنة ودخوله في الثانية دخولا بينا كالشهر، وفي البقر ثلاث ودخل في الرابعة، وفي الإبل خمس ودخل في السادسة.
3 - كمال خلقها
وهو قول ابن عمر رضي الله عنه، عطفا على ما يتقى: «وَالَّتِي نَقَصَ مِنْ خَلْقِهَا» وظاهره أن من شروط الأضحية كمال خلقتها، وسلامتها من النقص، والمراد بالنقص ما تتأذى به البهيمة وينقص من ثمنها وشحمها، فلا ينافي ما أجمع عليه العلماء من جواز الجَمَّاء في الضحايا.
ثانيا: الشركة في الأضحية
ذهب الإمام مالك إلى أنه لا يجوز في الضحايا ولا في الهدايا الواجبة أن يشترك جماعة في ثمن الأضحية أو البدنة، فيشترونها بالثمن المشترك ثم يذبحونها أو ينحرونها، فأما هدي التطوع فالمشهور عنه أن الاشتراك فيه غير جائز، وحكى القاضي أبو الحسن أنه روي عنه أن ذلك يجوز، وأما حديث جابر بن عبد الله رضي اللَّه عنه: «نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ»، فقد حمله الإمام مالك على الاشتراك في الأجر؛ فقد جاء في الموطأ عن مالك: «فَأَمَّا أَنْ يَشْتَرِيَ النَّفَرُ الْبَدَنَةَ أَوْ الْبَقَرَةَ أَوْ الشَّاةَ يَشْتَرِكُونَ فِيهَا فِي النُّسُكِ وَالضَّحَايَا، فَيُخْرِجُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ حِصَّةً مِنْ ثَمَنِهَا، وَيَكُونُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ لَحْمِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُكْرَهُ، وَإِنَّمَا سَمِعْنَا الْحَدِيثَ (أي حديث جابر) أَنَّهُ لَا يُشْتَرَكُ فِي النُّسُكِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ الْوَاحِدِ» [الموطأ رقم: 1362]، أو هو محمول على هدي التطوع على الرواية بجواز الاشتراك فيه.
ويجوز عند مالك أن تكون الأضحية لرجل واحد، فيذبحها عنه وعن أهل بيته ومن في عياله وإن كانوا أكثر من سبعة؛ لما في الموطأ عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: «كُنَّا نُضَحِي بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ يَذْبَحُهَا الرَّجُلُ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ» [الموطا رقم: 1361]، وقَالَ مَالِكٌ: «وَأَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ وَالشَّاةِ الواحدة، أَنَّ الرَّجُلَ يَنْحَرُ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ الْبَدَنَةَ، وَيَذْبَحُ الْبَقَرَةَ وَالشَّاةَ الْوَاحِدَةَ، هُوَ يَمْلِكُهَا، وَيَذْبَحُهَا عَنْهُمْ وَيَشْرَكُهُمْ فِيهَا» [الموطأ رقم: 1362] أي: في الأجر ولو أكثر من سبعة كما في المدونة، وفي الموطأ عَنْ مَالِكٍ عَن ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَا نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ إِلَّا بَدَنَةً وَاحِدَةً أَوْ بَقَرَةً وَاحِدَةً» [الموطأ رقم: 1363]. ولا يضحي الرجل عما في بطن المرأة؛ لما الموطأ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ: «لَمْ يَكُنْ يُضَحِّي عَمَّا فِي بَطْنِ الْمَرْأَةِ» [الموطأ رقم: 1366].
الاستثمار:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «دَفَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَضْرَةَ الْأَضْحَى فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ادَّخِرُوا لِثَلَاثٍ وَتَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ بِضَحَايَاهُمْ وَيَجْمُلُونَ مِنْهَا الْوَدَكَ، وَيَتَّخِذُونَ مِنْهَا الْأَسْقِيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَمَا ذَلِكَ؟ أَوْ كَمَا قَالَ، قَالُوا: نَهَيْتَ عَنْ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ عَلَيْكُمْ، فَكُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَادَّخِرُوا». يَعْنِي بِالدَّافَّةِ قَوْمًا مَسَاكِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ» [الموطأ رقم: 1358].
تمهيد:
من فضل الله تعالى على عباده أنه يثيب الإنسان على كل أفعاله وتصرفاته وإن كان غرضه منها إشباع رغبته إذا نوى بها التقرب إلى الله تعالى، والتزم فيها بهدي الشرع، ومن ذلك ما يذبحه الإنسان من بهيمة الأنعام تقربا إلى الله تعالى في كثير من الشعائر الدينية، كالأضحية والعقيقة وغيرهما.
فما مفهوم الذبيحة ؟ وما آداب الشرع فيها؟ وما أحكام العقيقة؟
نصوص الحديث:
مَالِكِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ يَأْتُونَنَا بِلُحْمَانِ وَلَا نَدْرِي هَلْ سَمَّوْا اللهَ عَلَيْهَا أَمْ لَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: سَمُّوا اللهَ عَلَيْهَا ثُمَّ كُلُوهَا». قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَام. [الموطأ رقم: 1376].
مَالِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ كَانَ يَرْعَى لِقْحَةً لَهُ بِأَحَدٍ فَأَصَابَهَا الْمَوْتُ فَذَكَّاهَا بِشَظَاظٌ فَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «لَيْسَ بِهَا بَأْسٌ فَكُلُوهَا» [الموطأ رقم: 1378].
قَالَ مَالِكٌ: «الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْعَقِيقَةِ أَنَّ مَنْ عَقَ فَإِنَّمَا يَعُقُّ عَنْ وَلَدِهِ بِشَاةٍ شَاةِ، الذَّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَلَيْسَت الْعَقِيقَةُ بِوَاجِبَةٍ، وَلَكِنَّهَا يَسْتَحَبُّ الْعَمَلُ بِهَا، وَهِيَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ النَّاسُ عِنْدَنَا، فَمَنْ عَقَّ عَنْ وَلَدِهِ فَإِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ النُّسُكِ وَالضَّحَايَا، لَا يَجُوزُ فِيهَا عَوْرَاءُ وَلَا عَجْفَاءُ وَلَا مَكْسُورَةٌ وَلَا مَرِيضَةً، وَلَا يُبَاعُ مِنْ لَحْمِهَا شَيْءٌ وَلَا جِلْدَهَا، وَتَكْسَرْ عِظَامُهَا، وَيَأْكُلُ أَهْلُهَا مِنْ لَحْمِهَا، وَيَتَصَدَّقُونَ مِنْهَا، وَلَا يُمَسُّ الصَّبِيُّ بِشَيْءٍ مِنْ دَمِهَا» [الموطأ رقم: 1375].
ترجمة الراوي:
عطاء بن يسار الهلالي أبو محمد المدني القاضي، ثقة فاضل، كثير الحديث، صاحب مواعظ وعبادة، روى عن ابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم، وروى عنه أبو حنيفة وزيد بن أسلم وأبو سلمة بن عبد الرحمن وآخرون، مات سنة 103 هـ، وقيل سنة 94 هـ.
شرح المفردات:
لِقْحَة: -بكسر اللام وفتحها- ناقة ذات لبن.
بشظاظ: -بكسر الشين المعجمة وإعجام الظاءين- عود محدد الطرف.
أولا: مفهوم الذكاة وحكم التسمية فيها
1 - مفهوم الذكاة
الذكاة في اللغة التمام، يقال: ذكيت الذبيحة إذا أتممت ذكاتها. وأما في الشرع: فهي السبب الموصل إلى إباحة أكل الحيوان البري، وهي أنواع: ذبح ونحر وعقر.
2 - حكم التسمية على الذبيحة
التسمية على الذبيحة واجبة على الذاكر القادر لا الناسي والمكره والأخرس؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام: 122]، والناسي لا يسمى فاسقا كما هو ظاهر من الآية؛ لأن ذكر الفسق عقبه إن كان عن فعل المكلف وهو إهمال التسمية، فلا يدخل الناسي؛ لأنه غير مكلف فلا يكون فعله فسقا، وإن كان عن نفس الذبيحة التي لم يسم عليها، فالذبيحة المتروكة التسمية عليها نسيانا لا يصح تسميتها فسقا.
3 - ذبيحة المسلم إذا لم تعلم منه التسمية
يجوز أكل ذبيحة المسلم إذا لم تعلم منه التسمية على الذبيحة؛ لما في حديث الدرس أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللحوم التي يأتي بها أهل البادية، ولا يعلم هل يسمون الله عليها أم لا؟ فقال: «سَمُّوا اللَّهَ عَلَيْهَا، ثُمَّ كُلُوهَا» وليس المراد أن تسميتهم على الأكل قائمة مقام التسمية الفائتة على الذبح، بل طلب الإتيان بالتسمية على الأكل.
وقول الإمام مالك بعد ما ذكر الحديث: «وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ» أي قبل نزول قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: 121]، قال فيه ابن عبد البر: «هذا قول ضعيف لا دليل عليه، ولا يعرف وجهه، والحديث نفسه بـ: أمرهم فيه بالتسمية على الأكل، فدل على أن الآية كانت نزلت، واتفقوا على أنها مكية، وأن هذا الحديث بالمدينة، وأن المراد أهل باديتها، وأجمعوا على أن التسمية على الأكل إنما هي للتبرك، لا مدخل فيها للذكاة بوجه».
4 - ذبيحة المسلم إذا ترك التسمية عمدا
من ترك التسمية عمدا لم تؤكل ذبيحته؛ لقوله تعالى في الآية السابقة: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: 121].
ثانيا: صفة ما يذكى به وذكاة الجنين
1 - صفة ما يذكى به
تصح الذبيحة بكل محدد يمكن به إنفاذ المقاتل وإنهار الدم بالطعن في لبة ما ينحر والفري في أوداج ما يذبح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفْرَ» [صحيح البخاري]، وفي الموطأ «عَنْ مَالِكِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: مَا فَرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْهُ» [الموطأ رقم: 1381] إلا أن المستحب فيما يذكى به، الحديد المشحوذ؛ لقوله: «وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ» [صحيح مسلم]، وقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم الذبيحة بالشظاظ للضرورة؛ ففي الحديث عن عطاء بن يسار «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ كَانَ يَرْعَى لِقْحَةً لَهُ بِأُحُدٍ، فَأَصَابَهَا الْمَوْتُ، فَذَكَّاهَا بِشِطَاطٍ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَيْسَ بِهَا بَأْسٌ فَكُلُوهَا»، وقوله: «فأصابها الموت» أي: أسبابه، وفيه إباحة تذكية ما نزل به الموت من الحيوان المباح أكله، كانت حياته ترجي أو لا ترجى، ويجوز أكله إن علمت حياته قبل الذكاة، ومما يدل على حياته قبل الذكاة وأنه مات بسبب الذكاة لا بغيرها:
أ - أن يحرك الحيوان أطرافه بعد الذبح؛ لما في الموطأ «عَنْ أَبِي مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلٍ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ شَاةٍ ذُبِحَتْ فَتَحَرَّكَ بَعْضُهَا، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْكُلَهَا»، [الموطأ رقم: 1383]، وأما ما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه حينما سأله أبو مرة «إِنَّ الْمَيْتَةَ لَتَتَحَرَّكُ، وَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ» فقد قال فيه ابن عبد البر: «لا أعلم أحدا من الصحابة وافق زيدا على ذلك، وقد خالفه أبو هريرة، وابن عباس وعليه الأكثر».
ب - أن يحرك بصره بعد الذبح، ففي الموطأ: «وَسُئِلَ مَالِكَ عَنْ شَاةٍ تَرَدَّتْ، فَتَكَسَّرَتْ، فَأَدْرَكَهَا صَاحِبُهَا، فَذَبَحَهَا فَسَالَ الدَّمُ مِنْهَا وَلَمْ تَتَحَرَّكْ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ ذَبَحَهَا وَنَفَسُهَا يَجْرِي وَهِيَ تَطْرِفُ (تحرك بصرها) فَلْيَأْكُلْهَا» [الموطأ رقم: 1383].
2 - ذكاة جنين الذبيحة
اختلف العلماء في جنين الذبيحة هل يؤكل بذكاتها، أو لا بد من ذكاته، فذهب الإمام مالك إلى أن ذكاة أمه تغني عن ذكاته، إذا تم خلقه ونبت شعره؛ لأنه جزء منها، فذكاتها ذكاة لجميع أجزائها، لكن بعد خروجه من بطن أمه يستحب ذبحه حتى يخرج ما في جوفه من الدم، وحجته في ذلك ما رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر مرفوعا: «ذَكَاةُ الْجَنِينِ إِذَا أَشْعَرَ ذَكَاةُ أُمِّهِ، وَلَكِنَّهُ يُذْبَحُ حَتَّى يَنْصَابَ مَا فِيهِ مِنَ الدَّمِ»، وجعله مقيدا لما رواه أبو داود والحاكم وابن حبان «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ»، وهو برفع ذكاة في الموضعين مبتدأ وخبر؛ أي: ذكاة أمه ذكاة له، وروي بالنصب على الظرفية كجئت طلوع الشمس؛ أي: وقت طلوعها؛ أي: ذكاته حاصلة وقت ذكاة أمه.
وهذا إذا خرج الجنين ميتا فإن خرج حيا فلا بد من ذكاته؛ لما جاء في بعض طرق الحديث من قول السائل: «يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَنْحَرُ الْإِبِلَ وَنَذْبَحُ الْبَقَرَ وَالشَّاةَ فَنَجِدُ فِي بَطْنِهَا الْجَنِينَ فَنُلْقِيهِ أَوْ نَأْكُلُهُ؟ فَقَالَ: كُلُوهُ إِنْ شِئْتُمْ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ» فَسَؤالِهِ إِنما هو عن الميت؛ لأنه محل الشك بخلاف الحي الممكن ذبحه فيذكى لاستقلاله بحكم نفسه، فيكون الجواب عن الميت ليطابق السؤال.
ثالثا: مفهوم العقيقة وحكمها
1 - مفهوم العقيقة
العقيقة لغة: فعيلة بمعنى مفعولة من العق وهو القطع، سميت الذبيحة بذلك لقطع أوداجها، وقيل: أصلها الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد، سميت به الشاة التي تذبح عنه؛ لأنه يحلق عنه ذلك الشعر عند الذبح.
وشرعا: الشاة التي تذبح عن المولود يوم سابع ولادته، منقولة من معناها اللغوي كما سبق.
2 - حكمها
دل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْ وَلَدِهِ فَلْيَفْعَلْ» [الموطأ رقم: 1368]. على أن العقيقة مستحبة وليست بواجبة كما قال الليث وأبو الزناد وداود؛ لأنه جعل ذلك موكولا إلى محبة الأب، والواجب لا يوكل إلى محبة الإنسان، قال مالك: «وَلَيْسَتِ الْعَقِيقَةُ بِوَاجِبَةٍ، وَلَكِنَّهَا يُسْتَحَبُّ الْعَمَلُ بِهَا » اتباعا للفعل النبوي؛ فقد أخرج أبو داود من طريق أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَبْشًا كَبْشًا».
3 - ما يطلب في العقيقة
يطلب في العقيقة ما يأتي:
أ- السلامة من العيوب، ويمنع فيها ما يمنع في الأضحية؛ لقول الإمام مالك: «فَمَنْ عَقَّ عَنْ وَلَدِهِ فَإِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ النُّسُكِ وَالضَّحَايَا، لَا يَجُوزُ فِيهَا عَوْرَاءُ وَلَا عَجْفَاءُ وَلَا مَكْسُورَةٌ وَلَا مَرِيضَةٌ».
ب- أن يُؤكل من لحمها ويتصدق، ولا يباع منها شيء؛ لقول الإمام مالك: «وَيَأْكُلُ أَهْلُهَا مِنْ لَحْمِهَا وَيَتَصَدَّقُونَ مِنْهَا»، وقوله: «وَلَا يُبَاعُ مِنْ لَحْمِهَا شَيْءٌ وَلَا جِلْدُهَا».
ج- أن تكسر عظامها، مخالفة للجاهلية فإنهم كانوا لا يكسرون عظامها مخافة ما يصيب الولد.
د- أن لا يمس الصبي بشئ من دمها، مخالفة لما كان يفعله أهل الجاهلية من تلطيخ رأسه بدمها تفاؤلا بأن يكون شجاعا، وهو قول مالك: «وَلَا يُمَسُّ الصَّبِيُّ بِشَيْءٍ مِنْ دَمِهَا».
هـ- أن يحلق شعر رأس المولود ويتصدق بوزنه من ذهب أو فضة؛ لما رواه مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه قال: «وَزَنَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَعَرَ حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ وَزَيْنَبَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ فَتَصَدَّقَتْ بِزِنَةِ ذَلِكَ فِضَّةٌ» [الموطأ رقم: 1369].
الاستثمار:
مَالِكَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «مَا ذُبِحَ بِهِ إِذَا بَضَعَ فَلَا بَأْسَ بِهِ إِذَا اضْطُرِرْتَ إِلَيْهِ» [الموطأ رقم 1382].
تمهيد:
أباح الله تعالى الصيد في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ [المائدة: 3] وشرع الأكل منه فضلا منه وكرما على عباده، سواء كان صيد بر أو صيد بحر، قال تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ﴾ [المائدة: 96]. ولما كان من الصيد ما هو طعام للإنسان، كان من الطبيعي أن يكون منه ما هو جائز الأكل لسلامته، ومنه ما هو حرام الأكل لما فيه من الأضرار التي تهدد سلامة الإنسان؛ لأن الشريعة الإسلامية تقوم على جلب المصالح ودفع المفاسد.
فمتى يجوز أكل الصيد البري ومتى لا يجوز ؟ وما حكم صيد البحر وميتته؟
نصوص الحديث:
مَالِكَ عَنْ نَافِعِ أَنَّهُ قَالَ: رَمَيْتُ طَيْرَيْنِ بِحَجَرٍ وَأَنَا بِالْجُرْفِ، فَأَصَبْتُهُمَا، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَمَاتَ، فَطَرَحَهُ عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَذَهَبَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ عُمَرَ يُذَكِّيهِ بِقَدُومٍ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُذَكِّيَهُ، فَطَرَحَهُ عَبْدُ اللهِ أَيْضًا» [الموطأ رقم: 1387].
قَالَ مَالِكٌ: «وَلَا أَرَى بَأْسًا بِمَا أَصَابَ الْمُعْرَاضُ، إِذَا خَسَقَ وَبَلَغَ الْمَقَاتِلَ أَنْ يُؤْكَل» [الموطأ رقم: 1390].
مالك، أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: «إِذَا أَصَابَ الرَّجُلُ الصَّيْدَ فَأَعَانَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، مِنْ مَاءٍ أَوْ كَلْبٍ غَيْرِ مُعَلَّمٍ لَمْ يُوْكَلْ ذَلِكَ الصَّيْدُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سَهْمُ الرَّامِي قَدْ قَتَلَهُ، أَوْ بَلَغَ مَقَاتِلَ الصَّيْدِ، حَتَّى لَا يَشُكٌّ أَحَدٌ فِي أَنَّهُ هُوَ قَتَلَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ لِلصَّيْدِ حَيَاةٌ بَعْدَهُ» [الموطأ رقم: 1391].
مَالِكَ عَنْ نَافِعِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْكَلْبِ الْمُعَلَّم: « كُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ إِنْ قَتَلَ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلُ» [الموطأ رقم: 1393].
مَالِكَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتِ: «أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ بِمَا لَفَظَ الْبَحْرُ بَأْسًا» [الموطأ رقم: 1403].
ترجمة الراوي:
أبو سلمة بن عبد الرحمن: هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري، الفقيه التابعي أحد أعلام المدينة، توفي في المدينة سنة 94 وقيل 104 وله من العمر 72 سنة.
شرح المفردات:
بِالْجُرف: بضم الجيم والراء وبسكون الراء، موضع بالمدينة.
بقدوم: بالتخفيف بزنة رسول آلة النجار، مؤنثة.
المعْرَاض: خشبة ثقيلة أو عصا في طرفها حديد وقد يكون بغير حديدة.
خَسَقَ: قال ابن فارس: خسق السهم الهدف إذا ثبت فيه وتعلق.
أولا: ما لا يؤكل من الصيد
بين النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث أن الصيد لا يؤكل في حالات متعددة، منها:
1 - ما قتل بغير محدد كالمعراض
دل فعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما على أن ما قتل من الصيد بالمعراض لا يؤكل؛ لأنه من الموقوذة المنفوذة المقاتل. قال نافع: «رَمَيْتُ طَائِرَيْنِ بِحَجَرٍ وَأَنَا بِالْجُرْفِ فَأَصَبْتُهُمَا، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَمَاتَ فَطَرَحَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُذَكِّيهِ بِقَدُومٍ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُذَكِّيَهُ فَطَرَحَهُ عَبْدُ اللَّهِ أَيْضًا»، وفعل الصحابي إذا كان مما لا مجال فيه للرأي والاجتهاد يعطى حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولما كان المعراض آلة من خشب قد يضاف إلى طرفيها شيء من حديد، بين الإمام مالك أن ما أصاب المعراض بحده جائز الأكل؛ لبلوغه المقاتل؛ جاء في الموطأ، قال مالك: «وَلَا أَرَى بَأْسًا بِمَا أَصَابَ الْمِعْرَاضُ إِذَا خَسَقَ وَبَلَغَ الْمَقَاتِلَ، أَنْ يُؤْكَلَ»، واستدل على ذلك بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة: 94]، فكل شيء ناله الإنسان بيده، أو رمحه، أو بشيء من سلاحه، فأنفذه وبلغ مقاتله فهو صيد كما قال الله تعالى. وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم «سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ، فَقَالَ: مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْهُ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذُ». وفي معنى المعراض ما أصيب من الصيد بعصى أو بندقة أو نحو ذلك من وسائل الصيد.
2 - ما قتل بالصيد وغيره
إذا أصاب الرجل الصيد واشترك معه في قتله غيره: كأن يسقط في ماء، أو أن يسبقه إليه كلب غير معلم، فهذا لا يجوز أكله لما فيه من الشك؛ لأنه لا يدري هل مات بالصيد أو بغيره؛ جاء في الموطأ عن مالك: «أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إِذَا أَصَابَ الرَّجُلُ الصَّيْدَ فَأَعَانَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ مَاءٍ أَوْ كَلْبٍ غَيْرِ مُعَلَّمٍ لَمْ يُؤْكَلُّ ذَلِكَ الصَّيْدُ» ومفهومه أنه لو تحقق من موته بالصيد جاز له أكله، وهو ما صرح به في قوله:« إِلَّا أَنْ يَكُونَ سَهْمُ الرَّامِي قَدْ قَتَلَهُ أَوْ بَلَغَ مَقَاتِلَ الصَّيْدِ حَتَّى لَا يَشُكٍّ أَحَدٌ فِي أَنَّهُ قَتَلَهُ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ لِلصَّيْدِ حَيَاةٌ بَعْدَهُ».
3 - ما غاب من الصيد ولم يدرك إلا بعد ليل
فصل الإمام مالك فيما غاب من الصيد عن صاحبه، فإن كان ذلك لمدة يسير بحيث لا يظن معها اختلاطه بغيره، ووجد به سهمه أو أثر كلبه جاز أكله، فإن طالت المدة كأن يدركه بعد ليل فهذا لا يجوز أكله؛ لاحتمال أنه اشترك معه في قتله غيره، وهو ما أشار إليه الإمام مالك بقوله: «لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الصَّيْدِ وَإِنْ غَابَ عَنْكَ مَصْرَعُهُ، وَجَدْتَ بِهِ أَثَرًا مِنْ كَلْبِكَ، أَوْ كَانَ بِهِ سَهْمُكَ، مَا لَمْ يَبِتْ، فَإِذَا بَاتَ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ أَكْلُهُ». [الموطا رقم: 1392]. أي كراهة تحريم على المشهور، وحجته في ذلك ما خرجه مسلم من حديث أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أَرْسَلْتَ سَهْمَكَ فَغَابَ عَنْكَ مَصْرَعُهُ فَكُلْ مَا لَمْ يَبِتْ».
ثانيا: ما يؤكل من الصيد
ما يؤكل من الصيد على نوعين؛ لأنه إما صيد بر أو صيد بحر، وصيد البر إما أن يكون بالجوارح أو بغيرها، ويشترط في الجوارح التعليم، وفيما يأتي بيان ذلك:
1 - حكم صيد الجوارح المعلمة
أ- المراد بالتعليم: التعليم شرط في أكل صيد الجوارح؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾ [المائدة: 4] والتكليب التعليم كما قال ابن حبيب وغيره والمعلم من الكلاب وغيرها هو الذي إذا زجر انزجر وإذا أرسل أطاع.
ب- حكم ما أمسكه المعلم من الحيوان: دل حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الكلب المعلم: «كُلِّ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ إِنْ قَتَلَ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ» على إباحة أكل ما قتله المعلم من الجوارح، بشرط التسمية عند الإرسال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَسَمَّيْتَ فَكُلْ» [صحيح البخاري]، وفي قوله «إِذَا أَرْسَلْتَ» دليل على اشتراط الإرسال. كما دل أيضا على إباحة أكل ما أمسكه حيا لكن يشترط فيه التذكية؛ فمن أخذ صيدا حيا من كلب أو غيره ولم يذبحه حتى مات، حرم عليه أكله؛ لقول مالك رحمه اللَّهِ: «وَأَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي الَّذِي يَتَخَلَّصُ الصَّيْدَ مِنْ مَخَالِبِ الْبَازِي، أَوْ مِنْ الْكَلْبِ، ثُمَّ يَتَرَبَّصُ بِهِ فَيَمُوتُ، أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ» [الموطأ رقم: 1397].
وكذلك إذا أدركه حيا وهو بيد المعلم من كلب أو غيره، ولم يخلصه منه حتى مات لم يأكله؛ لأنه لا يؤكل بالعقر إلا ما عجز عن تذكيته، قال مالك: «وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا قُدِرَ عَلَى ذَبْحِهِ وَهُوَ فِي مَخَالِبِ الْبَازِي، أَوْ فِي فِي الْكَلْبِ، فَيَتْرُكُهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَبْحِهِ حَتَّى يَقْتُلَهُ الْبَازِي أَوْ الْكَلْبُ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ» [الموطأ رقم: 1398]. وهذا عام في الصيد، فيشمل ما أمسكه المعلم من الحيوان وما أصابه الإنسان بسهم أو غيره، قال مالك: «وَكَذَلِكَ الَّذِي يَرْمِي الصَّيْدَ فَيَنَالُهُ وَهُوَ حَيٌّ فَيُفَرِّطُ فِي ذَبْحِهِ حَتَّى يَمُوتَ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ» [الموطأ رقم: 1399].
ج - حكم ما أكل منه المعلم: ذهب الإمام مالك إلى أنه لا فرق في إباحة أكل الصيد، بين ما أكل منه المعلم وما لم يأكل؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: «وَإِنْ أَكَلَ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ» » [الموطأ رقم: 1394]. وأما النهي في حديث عدي في الصحيحين: «قُلْتُ فَإِنْ أَكَلَ؟ قَالَ: فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ لَمْ يُمْسِكْ عَلَيْكَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ»، فقد حُمل على الكراهة جمعا بين الحديثين، وقال الباجي: حمل شيوخنا حديث عدي على ما إذا أدركه الكلب ميتا من الجري أو الصدم، فأكل منه فإنه صار إلى صفة لا تعلق للإمساك بها، ويبين هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم لعدي: «مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْ فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاةٌ».
2 - حكم صيد البحر
دل قول الله عز وجل: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ﴾ [المائدة: 96]. على إباحة أكل صيد البحر مطلقا، من غير تفريق بين ما أخذ منه حيا أو ميتا، وبين ما مات بسبب أو بغير سبب، فيدخل في ذلك ما صيد منه وما لفظه أو طفا على وجه سطحه، وَقَدْ قَالَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الآية: «صَيْدُهُ مَا صِيدَ وَطَعَامُهُ مَا قَذَفَ» [رواه البخاري في التاريخ]. وهو ما فهمه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حينما سأله أبو هريرة رضي الله عنه عما لفظه البحر من السمك، فنهاه عن أكله أولا، ثم دعا بالمصحف فقرأ قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ﴾ [المائدة: 96]. قال نافع: «فَأَرْسَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ» [الموطأ رقم: 1401]. وهو المروي عن جماعة من الصاحبة رضي الله عنهم، منهم: زَيْد بن ثَابِتٍ وَأَبو هُرَيْرَةَ؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم في البحر: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» [المستدرك على الصحيحين للحاكم، ولهذا جاز أكل صيد البحر من مسلم وغيره؛ لقول ابن عباس رضي الله عنه: «كُلْ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ وَإِنْ صَادَهُ نَصْرَانِيٌّ أَوْ يَهُودِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ»، [السنن الكبرى للبيهقي] وقال الحسن البصري: رأيت سبعين صحابيا يأكلون صيد المجوسي من البحر ولا يتلجلج في صدورهم شيء من ذلك»؛ لأنه كما قال مالك: «إِذَا أَكلَ ذَلِكَ مَيْتًا فَلَا يَضُرُّهُ مَنْ صَادَهُ» [الموطأ رقم: 1406].
الاستثمار:
مَالِكَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ فِي الْبَازِي وَالْعُقَابِ وَالصَّقْرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ: «أَنَّهُ إِذَا كَانَ يَفْقَهُ كَمَا تَفْقَهُ الْكِلَابُ الْمُعَلَّمَةُ، فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ مَا قَتَلَتْ مِمَّا صَادَتْ، إِذَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَى إِرْسَالِهَا» [الموطأ رقم: 1396].
قَالَ مَالِكٌ: «الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَرْسَلَ كَلْبَ الْمَجُوسِيِّ الضَّارِيَ، فَصَادَ أَوْ قَتَلَ، إِنَّهُ إِذَا كَانَ مُعَلَّمًا، فَأَكْلُ ذَلِكَ الصَّيْدِ حَلَالٌ لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُذَكِّهِ الْمُسْلِمُ، وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ يَذْبَحُ بِشَفْرَةِ الْمَجُوسِيِّ، أَوْ يَرْمِي بِقَوْسِهِ أَوْ بِنَبْلِهِ، فَيَقْتُلُ بِهَا، فَصَيْدُهُ ذَلِكَ وَذَبِيحَتُهُ حَلَالٌ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ». [الموطأ رقم: 1400].
تمهيد:
فما يجوز أكله من الحيوان وما لا يجوز؟ ومتى يجوز أكل الميتة؟ وما حكم الانتفاع بجلدها؟
نصوص الحديث:
مَالِكَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَكْلُ كُلَّ ذِي نَابِ مِنْ السَّبَاعِ حَرَامٌ» [الموطأ رقم: 1407].
مَالِك: «إِنَّ أَحْسَنَ مَا سَمِعَ فِي الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ أَنَّهَا لَا تُوْكُلُ؛ لِأَنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 8]، وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْأَنْعَامِ ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [غافر: 79] وقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ [الحج: 34] ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ﴾ [الحج: 34]، [ الموطأ رقم: 1409].
مَالِكِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ الله بْن عَبْد الله بْن عُتْبَةَ بْن مَسْعُود، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسِ، أَنَّهُ قَالَ: «مَرَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، كَانَ أَعْطَاهَا مَوْلَى لِمَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَفَلَا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهَا مَيْتَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا» [الموطأ رقم: 1410].
مَالِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ ابْنِ وَعْلَةَ الْمِصْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهَرَ» [الموطأ رقم: 1411].
مَالِك: «أَنَّ أَحْسَنَ مَا سَمِعَ فِي الرَّجُلِ يُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ، أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهَا حَتَّى يَشْبَعَ، وَيَتَزَوَّدُ مِنْهَا، فَإِنْ وَجَدَ عَنْهَا غِنَى طَرَحَهَا» [الموطأ رقم: 1413].
ترجمة الراوي:
أبو ثعلبة الخُشَني رضي الله عنه جرثوم بن ناشر، صحابي مشهور بكنيته، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى حنين، فأسلم وضرب له بسهمه وبايع بيعة الرضوان، توفي وهو ساجد يصلي في جوف الليل، سنة 75 هـ.
شرح المفردات:
نَاب: الناب السن التي خلف الرباعية، والرباعية بفتح الراء بوزن ثمانية.
دُبِغَ: الدبغ والدباغ والدباغة كل شيء يمنع الجلد من الفساد.
الإهاب: يجمع على أهب، ككتاب وكتب، وهو الجلد مطلقا، سمي إهابا لأنه أهبة للحي، وبناء للحماية على جسده، كما قيل له مسك لإمساكه ما وراءه.
أولا: حكم أكل الدواب وكل ذي ناب من السباع
1 - حكم أكل كل ذي ناب من السباع
أ - المراد بذي ناب في الحديث: اختلف في المراد بذي ناب في قوله «أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ» هل المراد كل ذي ناب مطلقا؟ أو المراد ناب يعدو به ويصول على غيره بطبعه، بخلاف غير العادي كثعلب وضبع؟ وبهذا قال الليث والشافعي وأصحاب مالك. فمن للتبعيض؛ إذ المراد ناب يعدو به، كما علم بقرينة قوله «ناب» ولم يقل كل سبع، تنبيها على الافتراس والتعدي، وإلا فلا فائدة لذكر الناب؛ إذ السباع كلها ذات أنياب.
ب- حكم أكل كل ذي ناب: اختلف العلماء في حكم أكل كل ذي ناب من الحيوان، فظاهر صنيع الإمام مالك في الموطأ هو التحريم؛ لحديث أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أكُلُ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السَّبَاعِ حَرَامٌ» قال ابن عبد البر: هكذا قال يحيى في هذا الحديث، ولم يتابعه أحد من رواة الموطأ عليه ولا من رواة ابن شهاب، وإنما لفظهم: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ».
ولما كان النهي محتملا للكراهة أعقبه الإمام مالك بما يفسره بالحديث الناص على السِّبَاعِ حَرَامٌ» قال مالك: «وَهُوَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا» [الموطا رقم: 1408].
2 - حكم أكل الدواب
جمهور العلماء على تحريم لحوم الحمر الأهلية والبغال، وهو ما ذهب إليه الإمام مالك في الموطأ؛ فقد روى يحيى عن مالك: «أَنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ فِي الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ»، وأما الخيل فظاهر مذهب الإمام مالك في الموطأ المنع، لما روي عنه «أَنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ فِي الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ» واستدل لذلك بقوله تعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ [النحل: 8] وقوله تعالى في الأنعام من الإبل والبقر والغنم: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ٧٩﴾ [غافر: 79]، وقوله تعالى: ﴿ لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ [الحج: 32].
وفيما يأتي بيان وجه الاستدلال:
أ- أن لام التعليل في قوله تعالى: ﴿لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ تفيد أن الخيل وما عطف عليها لم تخلق لغير ذلك؛ لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر، وبناء على أن اللام للحصر، وهو ضعيف عند أهل المعاني، فإباحة أكلها خلاف ظاهر الآية.
ب - عطف البغال والحمير على الخيل دال على اشتراكها معهما في حكم التحريم فيحتاج من أفرد الحكم إلى دليل، وحديث أسماء في الصحيحين «نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلْنَاهُ وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ»، بعد تسليم أنه صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك، وأنهم لم يفعلوه باجتهادهم على المرجح من جواز الاجتهاد في العصر النبوي، فهو قضية عين يتطرق إليها الاحتمال؛ إذ هو خبر لا عموم فيه. وأما حديث جابر في الصحيحين: «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَرَخَّصَ فِي الْخَيْلِ»، فهو مِن أَدلة التحريم؛ لقوله «رخص» إذ الرخصة استباحة الممنوع لعذر مع قيام المانع، فدل على أنه رخص لهم بسبب المخمصة الشديدة التي أصابتهم بخيبر.
ج - أن الآية سيقت مساق الامتنان، فلو كان ينتفع بها في الأكل لكان الامتنان به أعظم، والحكيم لا يمتن بأدنى النعم وهو الركوب والزينة هنا، ويترك أعلاها، ولا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها في قوله: ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [النحل: 5].
د - لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع الامتنان به من الركوب والزينة.
ثانيا: حكم الانتفاع بجلد الميتة وأكلها عند الضرورة
1 - حكم جلد الميتة
أ- حكم الانتفاع بجلد الميتة: ذهب جمهور العلماء إلى جواز الانتفاع بجلد الميتة؛ لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه، أنه قال: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، كَانَ أَعْطَاهَا مَوْلَى لِمَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَفَلَا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا»، فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا»، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المحرم من الميتة الأكل لا الانتفاع، فيكون الحديث مخصصا لعموم قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ﴾ [المائدة: 4] الشامل لجميع أجزائها في كل حال. ومنع قوم الانتفاع من الميتة بشيء، دبغ الجلد أو لم يدبغ؛ لحديث عبد الله بن عُليم قالَ: «أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ: أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبِ» [رواه أحمد والأربعة وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان]، وأجيب بأنه يحمل على الانتفاع به قبل الدبغ، فإن لفظ إهاب منطبق عليه، وبعد الدباغ يسمى أديما وسخيانا.
ب- ما ينتفع بجلده من الميتة: اختلف العلماء فيما ينتفع بجلده من الميتة على أقوال: مذهب الإمام مالك أنه عام في كل ميتة؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ» [الموطأ رقم: 1411]. فلم يستثن شيئا، والتمسك بعموم اللفظ أولى من خصوص السبب، ولأن الحيوان الطاهر ينتفع به قبل الموت، فكان الدباغ بعد الموت قائما مقام الحياة.
ج- حكم طهارة جلد الميتة بالدباغ: ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ» أن جلد الميتة يطهر بالدباغ، لكن اختلف في المراد بهذه الطهارة، فذهب الإمام مالك إلى أن المراد بها الطهارة اللغوية، أي صار نظيفا يجوز استعماله في اليابسات والمائعات مع بقاء حكم النجاسة.
2 - حكم أكل الميتة للمضطر
أ- حد الاضطرار: أباح الله عز وجل أكل الميتة للمضطر في قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 172]، وحد الاضطرار أن يخاف على نفسه الهلاك علما أو ظنا، ولا يشترط أن يصير إلى حال يشرف معها على الموت، فإن الأكل عند ذلك لا يفيد، والحكمة في ذلك كما قال ابن أبي جمرة: «أن في الميتة سُمية شديدة، فلو أكلها ابتداء لأهلكته، فشرع له أن يجوع ليصير في بدنه بالجوع سمية هي أشد من سمية الميتة فإذا أكل منها حينئذ لا يتضرر».
ب - حكم تزود المضطر من الميتة: ذهب الإمام مالك إلى أن المضطر إلى أكل الميتة يأكل منها حتى يشبع، ويتزود لما يستقبل حتى يجد غيرها، ففي الموطأ عن مالك «أَنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ فِي الرَّجُلِ يُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ، أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهَا حَتَّى يَشْبَعَ، وَيَتَزَوَّدُ مِنْهَا، فَإِنْ وَجَدَ عَنْهَا غِنِّى طَرَحَهَا»، ودليله أن الضرورة ترفع التحريم فيعود مباحا، ومقدار الضرورة إنما هو في حال العدم للقوت إلى حالة ووجوده حتى يجد. وقال ابن الماجشون وابن حبيب يأكل مقدار ما يسد الرمق؛ لأن الإباحة ضرورة فتقدر بقدرها. ومحل الخلاف إذا كانت المَخْمَصَة نادرة، وأما إذا كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع منها. [أحكام القرآن لابن العربي].
الاستثمار:
قال يحيى: «سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ، أَيَأْكُلُ مِنْهَا وَهُوَ يَجِدُ ثَمَرَ الْقَوْمِ أَوْ زَرْعًا أَوْ غَنَمًا بِمَكَانِهِ ذَلِكَ؟ قَالَ مَالِكٌ: إِنْ ظَنَّ أَنَّ أَهْلَ ذَلِكَ الثَّمَرِ أَو الزَّرْعَ أَوِ الْغَنَم يُصَدِّقُونَهُ بِضَرُورَتِهِ حَتَّى لَا يُعَدُّ سَارِقًا فَتُقْطَعَ يَدُهُ، رَأَيْتُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أَيِّ ذَلِكَ وَجَدَ مَا يَرُدُّ جُوعَهُ، وَلَا يَحْمِلُ مِنْهُ شَيْئًا، وَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ، وَإِنْ هُوَ خَشِيَ أَنْ لَا يُصَدِّقُوهُ، وَأَنْ يُعَدُّوهُ سَارِقًا بِمَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ خَيْرٌ لَهُ عِنْدِي، وَلَهُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ سَعَةٌ، مَعَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ يَعْدُوَ عَادٍ مِمَّنْ لَمْ يُضْطَرَّ إِلَى الْمَيْتَةِ، يُرِيدُ اسْتِجَازَةَ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَزُرُوعِهِمْ وَثِمَارِهِمْ بِذَلِكَ». قال يحيى: قَالَ مَالِكٌ: «وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ». [الموطأ رقم: 1414].