بلدتنا طرعان بين الماضي والحاضر

بلدتنا طرعان بين الماضي والحاضر

للحياة لوحات تصويريّة تفوق الوصف والكلمات، ومهما جادت العبارات من أجل الوصول إليها ستبقى عاجزة عن تصويرها. في شَريط الحياة صورةٌ مَركونة فِي أحضان الزوايا، بِها حَشد من الرِجال متزودين بأدوات عَملٍ متنوّعة،  يَتوافدون كأسراب الحمام الواثقة نَحو مَكانٍ ما في القرية، يُراودك عندما تراهم حدوث خطبٍ ما، أو نشوب نزال بل خصام يستدعي هذا التَّوافد الكثيف. إلاّ أن هذه الأجساد المباركة بِعبق العزيمة والاخوة اجتمعت من أجل تقديم يد العون فِي ورشة بناء بيتٍ، أو فِي حَدثِ لتشييد أحد بيوت القرية المتراصّة المتعاضدة.

إنّها أيام الجمعة أو أيام العطل العامة، حَيث لا تَهدأ هذه الأجساد الخيرة أو تنام، إنمّا تجدها تصطفُّ بِعطائها وكرمها. وَعلى مقربةٍ مِن جلبة البناء تتجمع عصبة من النسوةِ لإعداد الطّعام للسواعد النّشيطة. إلى جانب النّسوة يَطوف الفتيان ويراقبون آباءهم وآباء أترابهم كَيف يعملون بخفة الجسد القوي، وَروعة النّفس المخلصة،  فَتدبُّ بعروقهم رغبات عارمة في البذل والعطاء، فتجدهم  يسارعون الريح في تلبية طلبات العمال من جلب الماء للشرب أو إحضار لوازم العمل من الرّمل أو الاسمنت.

يتخلّل هذه الجلبة أصوات أطفال صِغار يَبكون، قَد نَسِيت أمهاتهم أمرهم حيث انشغلنَ بمساعدة جارتهنَّ،  أو استخلاص أخبار جديدة عَن القرية وأحداثِها: أيِّ عروسٍ جديدة قد سجلت القرية وكم كان "فيدها". وَفي تزامن مع دس الحطب تحت موقد الطعام تراهنَّ تسألنَ عن جارتهنَّ...  هل حملت أو لم تحمل بعد!

وَيخرج صوتٌ مَن الجلبة يقول: همّة يا شباب، شدوا الهمّة قربنا على "شوط الحلة" وقد صار العجين المخمّر وأغصان الزيتون الغضّة حاضرة بانتظار الصاقها على الاسمنت، الذي لا زال طريًّا خوفًا "مِن العين التي تأخذ حقّها مِن الحجر"  كما تقول ألسنتهم دومًا. وتتزامن هذه الطقوس مع زغاريد النسوة التي تدوّي في أركان المكان فتبلع كلّ حدبٍ وصوب.

إن هذه اللوحة بجمالها وعفويتها ليست من خلق الخيال أو الخرافة، وليست قصة نقرأها ففي صفحات القصص والروايات، إنما هي مشهدٌ عظيم من طرعان قبل ما يقارب الخمسين عامًا، في حين كانت النفوس في منأى عن مسارح العروض والتمثيل. هذه النفوس  تزيّنت بطيّب الأخلاق، وتعطرت من عبق العلاقات الانسانية النقيّة الصادقة، التي توجتها العفوية الملأى بالانسانيّة.

وَعلى بعد خمسين عاما من هذه اللوحة، تَنتصب على جدران الغرفة لوحةَ أخرى مغايرة. في اللوحة سيارةٌ لك تمسك مقودها بتزامن مَع إمساكك لهاتِفك الخليوي. تجوب حارتك أو تودّ الانتقال مِنها إلى أخرى فتستوقفك سيارةٌ ضخمة لِخلط الإسمنت تعمل على مقربة من احد البيوت ويراودك فضول لمعرفة سبب الضجيج والفوضى، لترى فِي لُبِّ الحدث أحد أقربائك يَسعى لِتشييد سطحِ بيته.

وَترى فِي هذه الزوبعة أمرًا يثيرك، إنها سيارة للشرطة قَد جاءت تلوّح لصاحب البيت بأمرٍ لوقف العمل مِن مكاتب التنظيم ببلاغٍ من جاره.

وَترحل مسرعًا إلى شؤونك، لا وقت في جعبتك لمتابعة ما يعترضك. عَليك أن تنطلق بسرعةٍ لِتدرك موعدك مع مدين لك لاستلام ايصالاتك وقيود الدفع وَالاسراع في الوقت ذاته نحو البنك للتأكد من صحتها وسريانها.

إن المكان الذي تَجوب بِه كاميرا الحياة من أجل التقاط صورها هو ذاته بلدتنا طرعان،  إلا أن ملامح الصور والمشاهد قد اختلفت وتبدّلت، فصارت رائحة العطور تتدفق منها بتزامن مع صخب الهواتف النقالة والسيارات الحديثة بدلًا مِن خليط الأصوات المركب من أصداء الأطفال وزغاريد النّساء وترحيبات الرجال.

واختلفت مع المشهد الكثير من الأمور حتى صارت الاشاعات تتناقل عبر الرسائل النصيّة فِي الهواتف مع مضامين مجردة من الكثير من العوامل الانسانية.

كان هذا الصوت الذي نظر إلى اللوحة المركونة بحسرة السّنين والأزمان صوت الحاج البالغ من العمر ثلاثة وثمانين عامًا، حيث ولد في عام 1930 وإلى جانبه صوت أخر للحاجة من مواليد عام 1932. حين تذكر الحاج روعة الأيام وأناسها الذينَ كانوا أقرب ما يكون إلى الجسد الواحد، فراح يردد: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدَّ بعضه بعضًا" وشبكبين أصابعه وأردف قائلًا "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمى".