زفرات الدموع
في ذكرى استشهاد الحسين
عليه السلام
أبارك لأمة الإسلام حلول السنة الهجرية الجديدة 1437. وأسأل الله العظيم أن يجعل لنا فيها خرجا ومخرجا ومن كل ضيق فرجا. خاصة وبوادر وعيد نبينا " ويل للعرب من شر قد اقترب "، اتضحت معالم تصاريفه في ساحات الحروب التي اشتعلت، ولاحت نذره القاتمة في الآفاق التي لم تشتعل بعد.
ذلك بأنهم كرهوا أمر ربهم في التعاون على البر والتقوى، تحت بيضة تحميهم من شر الخلق، وتقيم أحكام الدين. وآثروا تنفيذ أوامر الأعداء في التنازع والاختلاف. فأصبحوا وبأسهم بينهم شديد.
نعم لقد رفض بعض الحكام العرب وبعض الجماعات والأحزاب منحة ربهم في إظهار إمامة جامعة معززة بالمؤيدات المعجزة. بل كفروها وقاتلوها قتالا شديدا ولا زالوا في بغيهم يعمهون منذ 35 سنة. وما كان لها من "ذنب" إلا أنها حررت بلدها من الهيمنة الصهيوإنجيلية ، وتم لها توحيد فرقة عظيمة من المسلمين: إخوان سلمان الفارسي. يحبهم الله ويحبونه ويوظفهم للجهاد في سبيل الله كلما خذل العرب رسالة الإسلام، وتحالفوا مع أعداء الدين... وكل هذا مذكور ومنصوص عليه في القرآن... لا ينكره إلا مارق أو قاسط أو ناكث.
ولقد قضي فانقضى. تم ذلك الاصطفاء القدري الخطير، النادر، الصعب، المعجز، الخارق، الواضح حكمه في القرآن والحديث... وما هو إلا حكم عربي محض، جعله الله في يد شورى العلماء الحسينيين من العترة المستأمنة على القرآن بحكم نص صريح. وأيده بأمة عظيمة تحميه من أجل إقامة دولة الوصية : الخليفتين : كتاب الله وعترتي...
إعادة بناء وحدة الأمة بموالاة الإمام الأول الذي أظهره الله ، ضرورة طبيعية وجودية، وفريضة شرعية. وليست أمرا اعتباطيا فوضويا في متناول كل من هب ودب. تنصيب الإمام يخضع لقوانين الله القدرية لا لأهواء المدعين... ولا يقع إلا مرة في القرن طبقا لحديث : ( إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا.).رواه أبو داود (رقم/4291) وصححه السخاوي في "المقاصد الحسنة" (149)، والألباني في "السلسلة الصحيحة" (رقم/599).
فإن جاءتنا هدية من ربنا أفلا نعض عليها بالنواجد؟ أم نتبع من تكبر عليها ورفضها كما رفضوا من قبل الوصية فجلبوا على أنفسهم قدر الرزية كل الرزية...
وتجديد الدين عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ، هو ضمنيا تجديد سياسة الدنيا لأن الدين المعاملات... أي يجدد طريقة تنزيل وتطبيق أحكام القرآن وصحيح السنة، ويجتهد لزمانه في ما سكت عنه الشرع رحمة بالعالمين.
حتى رجال التخصص في القانون الوضعي يعلمون أن قوانينهم تولد وتنمو وتشيخ وأقصى عمرها مائة سنة ولابد من تحيينها وتجديدها.
وقوانين العلمانية قد شاخت وحان إسقاطها لما ظهر تحللها وفسادها. ذلك ما يفسر هرولة أذكياء أوروبا نحو الباب العالي الجديد... فافهموا عن الله تغنموا.
ولقد ظن بعض الشباب المتحمس أن هذا التنصيب القدري يمكن افتعاله، أو استنساخه أو السعي في طلبه. وبمجرد الترامي عليه، وإعلان نفسه خليفة، يكون المترامي قد عطل الشريعة. إذ أنه عطل أهم حكم فيها : "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما". حديث في صحيح مسلم. فلا يعقل لمن قتله سيف الشرع، أن يقيم الشرع.
ولربما لبلوغ هدفه في طلب الرياسة، كان ولا بد من اقتراف مخالفة شرعية تمهيدية أخرى: وهي تكفير الشيعة قاطبة، ليتحلل من واجب اتباع الإمام الأول في الظهور والمنعة.
وهنا يكمن الخطر والضرر. لما سوغ لنفسه تلك الوسيلة، فكأنما سوغها لغيره لمنازعته الأمر. أي تكفيره من أجل أخذ منصبه. وهكذا تناسل المدعون الطامعون... تماما كما وقع في العهد الأول لما تناسلت الفرق الخارجة عن سيدنا علي كرم الله وجهه. وكان النبي قد حذرنا منهم. دليلنا حديث نبينا، عن عبد الله بن عمر قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { يَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يُسِيئُونَ الْأَعْمَالَ ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ " ، قَالَ يَزِيدُ : لَا أَعْلَمُ إِلَّا قَالَ : " يَحْقِرُ أَحَدَكُمْ عَمَلَهُ مِنْ عَمَلِهِمْ ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ ، فَإِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ ، ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ ، ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ ، فَطُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ ، وَطُوبَى لِمَنْ قَتَلُوهُ ، كُلَّمَا طَلَعَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قَطَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ " ، فَرَدَّدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشْرِينَ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ ، وَأَنَا أَسْمَعُ }. حديث صحيح رواه أحمد
طُوبَى : اسم شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام.
عِشْرِينَ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ: يفيد أن خروج بعضهم عن بعض يتكرر إلى ما لا نهاية...
والرزية في عهدنا هو ما ترى من نزول سيف الفرقة على أمة العرب... لما كثرت الرؤوس المتنازعة المتناحرة... فصار التنازع على الزعامة ليس فقط بعدم الاعتراف بالإمام الأول بحجة أنه من "الروافض المجوس" – كبرت كلمة تخرج من أفواههم - بل بعدم الاعتراف بالأدعياء المنتسبين لنفس مذهبهم. وهكذا عمت الفوضى واشتعلت الحروب فمن يطفئ نارها؟.... وكل واحد يدعي أن الحق معه... ويصرون على الخطأ وطول الأمل في السراب، والتمني السفيه. خاصة إن كانوا من صنائع الصهيوإنجيليين، يمدونهم بالسلاح الذي يشتريه لهم أمراء النفط المبتلين بمرض الإيرانوفوبيا الخطير. إلى أن يهلكوا تحت راية جاهلية، فيبعثوا تحت راية إمامهم... فإن كان إمامهم سفاكا للدماء معطلا للشريعة في أهم نصوصها الواضحة المتفق عليها... فسحقا سحقا... والعياذ بالله ... اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة وأن تنقذنا من الضلال وأهله وأن تهدينا سبل السلام.
حتى إذا ضجت الملائكة من تفشي سفك الدماء البريئة ومن كثرة الخبث، بعث الله جنده. وعصم أحباءه من تلطيخ أيديهم بالدماء المحرمة.
ورد في الصحيح، عن زينب بنت جحش - رضي الله عنها- « أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج يوما فزعا محمرا وجهه يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها، قالت: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث ».
ومن أراد أن يشاهد أنواعا أخرى من الخبث، فلينظر إلى سهرات القنوات المسيرة من لدن العقل العلماني التلمودي عندنا في المغرب، أو قنوات النواصب الجدد. يحتفلون بذكرى أيام الطف احتفال فرح وبهجة. هكذا جرت به العادة. من أين أتت تلك العادة المقيتة المثيرة للغثيان؟ ربما يجهلون أن وقعة الطف جزت فيها يوم عاشوراء رقبة سيدنا الحسين سبط خاتم الأنبياء. ومعها رقاب رجال العترة النبوية. ونصبت الرؤوس المقطوعة على الرماح. تتقدم سبايا نساء وأطفال بيت النبوة الأطهار. يوجه الموكب الحزين عبر سفر مهلك طويل. تجهض فيه الحوامل... بسبب العثرات، في جبال ومفازات، على طول دجلة والفرات. إلى قصر يزيد بن معاوية في دمشق. مسافة قاربت ألفي كيلومتر... وتزيد إذا احتسبنا مقر استقرار الرأس الشريف في مصر، مرورا بعسقلان السليبة...
وسبحان الله خريطة مرور رأس سبط الرسول هي تقريبا خريطة المناطق التي تجز فيها الرقاب في هذا الزمان... ولربما في كل زمان إلى أن تقوم الساعة، انتقاما من نواصب الشام لسيدنا الحسين ومن قتل معه في كربلاء. ومن خوارج العراق الذين قتلوا سيدنا علي كرم الله وجهه.
مسار موكب رأس الحسين وسبايا بيت النبوة بعد موقعة الطف
والمغاربة مشهور عنهم عبر التاريخ قولهم: "العن يزيد ولا تزيد"... فلعنة الله على يزيد ومن والاه.
لكن يبدو أن هناك من يريد طمس هذه الهوية المغاربية الموغلة في القدم منذ استضافة الأمازيغ لإدريس الأول رضي الله عنه.
والطمس عملية ممنهجة، ولها علاقة بالدروس التي تمولها الوهابية، تتسرب إلى المجالس العلمية، عبر دروس ملغومة بالأفكار التفجيرية، وَصْفَة سم في غلاف دسم الهدية : " كيف نحمي أطفالنا من التشيع للعترة النبوية ". هكذا بكل وقاحة جاهلية!! خلطة مشبوهة ناصبية، قابلة للانفجار في أي لحظة زمانية. وقد أرادوا لها تنفيسة في الجبال اليمنية: تأجير الجيش الأمازيغي ليقاتل مع الفرقة الباغية!
وبعد اقتناع الزمرة التكفيرية، أن لا وجود هنا للرافضية، بالمعاني القدحية، التي يربطونها بسبة المجوسية، وما عندنا سوى مرجعية سنية، تعترف أنها غرفت من مذهب الجعفرية، والكل ملتمس من السنة المحمدية، المعتبرة لنصيحة الوصية، وتقول كما قالت الشافعية:
إن كان رفضاً حبُّ آل محمّد * * * فليشهد الثقلان إني رافضي.
حينها سيوجه الخوارج الجدد حممهم التدميرية، صوب الطوائف العلمانية، كما وجهوها من قبل صوب معاوية، بعدما ندموا على إزهاق الروح العلوية. ولهم في فعلهم حينئذ مقال. بينه لنا سيدنا علي فقال: " ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه ". بمعنى ليس من طلب تحكيم شرع الله بوسيلة خاطئة ففشل، كمن طلب باطل العلمانية فنجح في السيطرة الكلية، وألغى التشريعات القرآنية، وعوضها بالقوانين الوضعية.
ومن الجانب الأيسر لمثلث برمودا الأسطورية، الذي تغرق في يمه السفينة العربية، يجيبه صوت القديسة العلمانية، من "دار الحكمة" الإغريقية: نحمي أطفالنا ونساءنا باتباع "نظرية الدولسي فيتا" الرومانية. بالاحتفال برأس السنة الهجرية، كما يحتفل النصارى بأول السنة الميلادية: رقصات العري والمكاء والتصدية، الساقط في دركات الجاهلية. تأزهم فيها شياطين النظرية السطاتية. انسبها إن شئت إلى الوزير الذي انتقل إلى الدار الباقية، حارب بها من انتسب في عهده للصحوة الإسلامية، لما افتعل تفجير عاصمة الشاوية. {{ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله}}.
ويجيبه من الجانب الثالث للمثلث المشؤوم: نحمي أنفسنا بإحياء ذكرى فاجعة عاشوراء بإشعال النيران، في فسطاط الحسين. بداية بمفرقعات الأطفال النارية، في انتظار أن تتحول إلى مفخخات تفجيرية...
فذلك هو كثرة الخبث، الذي يستدعى قدر التأديب.
فهذا مقتطف قصة من خيال، من عوالم الغيب والشهادة والمثال، تحررت من كل عقال، للتمييز بين أهل الهداية و أنصار الضلال. أعرضه بمناسبة مرور سنة على إصداره في قصة فبرايار والسبعة رجال في سجن بادوش.
ورد فيها:
"... وبين معنى الرحم في الدين، وأن العجم إن رفعوا راية الحق، فهم أقرب إلى رسول الله من قرابته في الدم، إن اختارت هذه القرابة التحيز إلى حزب الشيطان القائم بالعلمانية التلمودية:
هَيهاتَ لا قَرَّبَت قُربى وَلا رَحِمٌ يَوماً إِذا أَقصَتِ الأَخلاقُ وَالشِيَمُ
كانَت مَوَدَّةُ سَلمانٍ لَهُ رَحِماً وَلَم يَكُن بَينَ نوحٍ وَاِبنِهِ رَحِمُ
وينبري فارسنا – أعني أبا فراس الحمداني - في الجهاد باللسان، بشجاعة لا يضاهيها إلا شجاعته في الجهاد بالحسام في صفوف الروم المحاربين، لا في صفوف المسلمين، كما فعلت داعش وأخواتها بعد تبني عقيدة التكفير، يذكرهم تارة أنهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم:
باؤوا بِقَتلِ الرِضا مِن بَعدِ بَيعَتِهِ وَأَبصَروا بَعضَ يَومٍ رُشدَهُم وَعَموا
يا عُصبَةً شَقِيَت مِن بَعدِ ما سَعِدَت وَمَعشَراً هَلَكوا مِن بَعدِما سَلِموا
لَبِئسَ مالَقِيَت مِنهُم وَإِن بَلِيَت بِجانِبِ الطَفِّ تِلكَ الأَعظُمُ الرِمَمُ
فاجعة الطف هي الوقعة التي استشهد فيها الحسين عليه السلام، مر ذكرها، وما كان لنا في إقامة العزاء لها، عوض أن تكون ذكرى فرح كما تحاول المذاهب الوهابية فرضه على المسلمين في المغرب والمشرق.
ويقارن شاعرنا تارة أخرى صلاح العترة وفساد بني العباس المترفين، وأين فسادهم من فساد مترفي الأعراب في هذا الزمان:
تَبدو التِلاوَةُ مِن أَبياتِهِم أَبَداً وَفي بُيوتِكُمُ الأَوتارُ وَالنَغَمُ
مِنكُم عُلَيَّةُ أَم مِنهُم وَكانَ لَهُم شَيخُ المُغَنّينَ إِبراهيمُ أَم لَكُمُ
مافي دِيارِهِمُ لِلخَمرِ مُعتَصَرٌ وَلا بُيوتُهُمُ لِلسوءِ مُعتَصَمُ
وَلا تَبيتُ لَهُم خُنثى تُنادِمُهُم وَلا يُرى لَهُمُ قِردٌ لَهُ حَشَمُ
ثم يختم بما يليق من واجب مدح آل البيت والصلاة عليهم:
الرُكنُ وَالبَيتُ وَالأَستارُ مَنزِلُهُم وَزَمزَمٌ وَالصَفا وَالحِجرُ وَالحَرَمُ
صَلّى الإِلَهُ عَلَيهِم أَينَما ذُكِروا لِأَنَّهُم لِلوَرى كَهفٌ وَمُعتَصَمُ
قال فبرايار: فلما انتهى العرض اللازيري الناطق للقصيدة وما تخلله من شروحات كانت حوله، سمعنا الجرماني الداعشي يبكي في ظلمة الحفرة. وارتفع نواحه. وبكينا لبكائه حتى خشينا أن يفتضح أمرنا فتجز رقابنا.
قال فبرايار: سوف تمر أيام على الحدث، وسوف يسألنا الشاب الجرماني عن عمل يكفر به عن جز الرؤوس الطاهرة وأخذ الناس بالشبهة وقتلهم بالظنة، طاعة للخليفة المزعوم... وشتان ما بينه وبين فارس الموصل الحقيقي! شتان ما بين قتال الروم المحاربين وسفك دماء المسلمين العزل... شتان ما بين تدبير تفجير الانتحاريين السذج بين صفوف محبي آل البيت، وبين من يصدع بكلمة الحق فيهم في عاصمة الفاسدين من بني العباس!!!
وسوف يرجع الجرماني إلى بلاده ناشرا للدين المحمدي الحق الذي لم تلوثه المذاهب التكفيرية الحاقدة على العترة، والمتحيزة لحلف ممثل الدجال لهذا الزمان، يجمعهم طبع التعطش لدماء الأنبياء وورثة الأنبياء، وأوصياء الأنبياء، وكذلك الأطفال الأبرياء. وهو سبب اللعنة التي لحقت عصاة بني إسرائيل، وكذلك الأعراب النواصب، الذين يفرحون يوم عاشوراء.
قال فبرايار : أما العمل الذي قام به الشاب الجرماني ليكفر عن ذنوبه السابقة، فهو من جنس منجزات الفرسان التوتونيين، من ذرية يافت.
جاءنا ذات ليلة، وحدثنا برهة فقال: لم أغب عنكم هذه المدة إلا لأزداد يقينا في مذهبكم القويم... وأنا الآن لدي علم اليقين، أن أهل البيت وأنصارهم وأشياعهم وحلفائهم وأتباعهم هم السابقون إلى طرق التغيير السلمي باللطف، لا بالعنف والإكراه وجز الرؤوس. وهم الخبراء في أساليب البيان والمنطق والحكمة والإقناع باللسان. وهم أول من وظفوا تلك الوسائل المشروعة في خدمة غايات نبيلة وعقيدة نقية، محفوظة بما حفظ الله به كتابه المبين، وبما جاهد من أجله سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار ... وكل الشائعات المذمومة التي تريد تكفيرهم لإشعال الحرب عليهم تَتَبَّعْتُها في وسائل الاتصال اليونسفيرية فوجدتها تنتهي عند عقل مدبر شيطاني واحد... أخبرت به رجل اسمه " سنادين" سوف نظهره قريبا... وحينها ... وسكت. فكملت فكرته بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل به من شعر طرفة بن العبد:
سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلا وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ
ثم قام الشاب الجرماني فظننا أنه يريد وداعنا، إلى أن سمعناه يقول: قوموا فوالله لن يصيبكم أذى في صحبتي ما دمت حيا... فلما رآنا ذاهلين لا نفارق مكاننا، قال أتريدون أن تجز رؤوسكم غدا؟ إني سمعت القوم يأتمرون بكم، ليكون موعدكم الصبح مع الصلب والذبح، أليس الصبح بقريب؟. فذعرنا كما لم يحدث للقوم المنذرين، وقمنا نرتب أسباب الهروب حذرين... فخرجنا من الحفرات آملين أن لا يشعرن بنا أحد من الحراس النائمين، نردد دعاء الحفظ، من سورة ياسين : {{ وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم فأغشيناهم فهم لا يبصرون}}. فوجدنا الفتى الجرماني قد هيأ لنا خرجا ومخرجا، ومن كل ضيق فرجا، لا يكون له مثيل إلا في الخيال المرتعش العليل: مسراؤنا قد زاد فيه الجرماني خلسة أجنحة مثنى وثلاث ورباع. وهو في أخر السرداب، يسطع من صقله على ضوء بدر خلاب ... فما أن طرنا في الجو الصافي والناس نيام تحتنا، حتى قال لنا الجرماني : خذوني معكم فأنا الآن من خدام العترة، وامروني بما شئتم لأكفر عن رقاب قطعتها، وأحشاء بعثرتها. فوالله إنني لمن النادمين من أجل ذلك... فواسيناه بشريعة الرحمة والصفح: الإسلام بعد التوبة الصادقة يجُبُّ ما قبله... والعزمة على التكفير بالعمل الصالح هو برهان الصدق... فكنا في الأجواء، يخيل إلينا أن حمدنا وشكرنا لله، يزيد في المسراء ما شاء الله من أجنحة نطير بها فوق الطيران من شدة فرحنا بالله.
وخاطب كبير السبعة رجال المجاهد الجرماني فقال: لا نأمرك بشيء بعد هذا العمل الصالح الذي قمت به. وأنت ضيفنا في جبل" أرياندران ". ولربما سوف ينظر الرجال هناك فيما يتعين عليك من أنواع الجهاد الذي حركك من بلادك أول مرة. وأنواع الجهاد كثيرة. وأذكاها وأفضلها جهاد البيان والحكمة واللطف الذي يجلب النصر لحزب الرحمان، دون إهراق دم أو إحداث هدم. وقد سمعتَ من فوائده عند فرسان السيف والقلم من أمثال أبي فراس في المشرق، وكان المعتمد بن عباد مقابله في المغرب، يُعرف بمقولته الشهيرة: (رعي إبل البربر خير من رعي خنازير الإفرنج)، التي شاعت في الآفاق... وهي من جنس الإشاعة المحمودة التي جلبت نصرا للبرابرة المرابطين، أطال عمر دولة المسلمين في " الفندلس" – نسبة إلى الفندال - أربعة قرون، بعد معركة الزلاقة.
انتهى المقتطف... من لسان الخيال. وبين سطوره تلميحات لياجوج وماجوج وهم أبناء يافت. منهم الصينيون والكوريون والروس والجرمان والفندال.
ونختم المقال بالتعبير عن عزائنا لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم في ذكرى استشهاد الحسين رضي الله عنه:
· أولا باستمطار رحمات زفرات الدموع، للرقي في مراتب المغترفين من ينابيع المودة في القربى، تحقيقا لمبتغاه المبين في قوله تعالى: {{ ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}}. (الشورى:23).
ولبلوغ مرام سعادة الدارين من هذه المودة ربما تعلمنا من هذه العجوز الضريرة، المتفانية في استضافة زائري الحسين. يبلغ عددهم 15 مليون، يمر كل شيء بخير، لا سماسرة، ولا مكوس، ولا ابتزاز ولا إهانة مثلما يشتكي منه ضيوف الرحمان في مكة والمدينة... لا يعكر صفو تلك الأجواء الحسينية، المفعمة بالمحبة والتضحية، إلا أن يفجر انتحاري وهابي نفسه في الجموع البريئة. فيبلغون مناهم في الحصول على وسام الشهادة الذي حصل عليه الحسين... والانتحاري خسر الدنيا والآخرة. يبعث كلبا من كلاب جهنم. ويطرد عن الحوض. ذلك من إخبار الأحاديث النبوية.
https://www.youtube.com/watch?v=UKSK-RrGJmE
والمسلم اليقظ يقارن ما لهذه الضريرة من قيم سامية، المظهرة لحقيقة الإسلام الفطرية، مع ما يتعرض له ضيوف الرحمان، في بيت الله الحرام، وفي المسجد النبوي، من إهانة وابتزاز وسرقة من لدن الزمرة المعتدية، وفي المسجد الأقصى من تهجير وتنكيل ودم وهدم... فيستيقن في قرارة نفسه : تحرير المقدسات ضرورة وجودية حان زمانها. لما أظهر الله في الوجود الإمامة الكبرى. يرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض. يهرول إليها النبهاء. ومن عاداها آذنه الله بالحرب. ومن آذنه الله بالحرب سلط عليه جنده. {{... وما يعلم جنود ربك إلا هو...}}. " المدثر: 31".
احتلال المسجد الأقصى
فاجعة منى المشبوهة
· ثانيا بالبراءة من المعتدين : الناكثين والقاسطين والمارقين، ومن يمثلهم في زماننا هذا الذي تأججت فيه نار الفتنة بسبب إحياء بدعهم. وقد بينهم لنا حديث نبينا صلى الله عليه وآله وسلم: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يقول لعلي بن أبي طالب : { تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بالطرقات والنهروانات وبالشعفات ، قال أبو أيوب : قلت : يا رسول الله مع من نقاتل هؤلاء الأقوام قال : مع علي بن أبي طالب}. الناكثون أصحاب حرب الجمل، القاسطون نواصب موقعة صفين، المارقون خوارج النهروان في العراق.
· ثالثا بإحياء تضرعات سيدنا علي كرم الله وجهه وتضرعات أئمة الهداية من عترته. نسأل الله العظيم أن يحصننا من الذنوب التي تجلب الخطوب. جزاء وفاقا على ما ران على القلوب من خروم المروءة. ومن تلك الخروم المهلكات ما ذكره سيدنا علي في دعائه، وهو من هو: باب مدينة علم الرسول، ووصيه، ومفتي الخلفاء من بعده، والصابر على الجاحدين حقه، حرصا على وحدة المسلمين... قال كرم الله وجهه: " وأَجْرِ اللهم لهيبتك من آماقي زفرات الدموع، وأدب اللهم نزق الخرق مني بأزمة القنوع".
"أجر" فعل أمر من فعل أجرى، جريان.
"الآماق" وهي المجاري التي ينطلق منها الدمع.
"زفرات الدموع" استعارة للتعبير عن البكاء الحار الصادق.
نزق: نَزِقَ الرَّجلُ نَزَقًا ، ونُزوقًا : خفّ وطاشَ " المعجم الوسيط ". طائش نشيط خفيف عند الغضب " المعجم الرائد".
الخُرْق: الجهل والحمق " المعجم الوسيط ".
أزمّة جمع زمام: زِمامُ الأمْرِ : مِلاكُه . وألقى في يده زمامَ أمْرهِ : فَوَّضهُ إليه " المعجم الوسيط ".
القنوع: راض بما قسم له ، جمع : قنع " المعجم الرائد ".
هُوَ فِي قُنُوعٍ : فِي تَذَلُّلٍ " المعجم الغني".
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ... اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
محمد المهدي الحسني
رباط الفتح
فاتح محرم 1437