نضال ضد الفساد
البيئي
قصص من مذكرات شاهد
الجزء الأول:
وحي الغابة
محمد المهدي الحسني
أكتوبر 2007
نضال ضد إفساد البيئة
قصص من مذكرات شاهد
الجزء الأول : وحي الغابة
فهرس الجزء الأول
الغابة التي تعلمت منها "الفاو" 12
الفراشة التي تأكل غابة البلوط. 20
العمران المدمر للغابات والتخطيط للتخلف.. 27
مشاريع كادت أن تخرب الغابة. 30
الكاهنة التي كانت تحرق الغابة... وجازية بنت منصور التي كانت تقطعها... 34
الغابة والطاقة والطاقة النووية. 47
العصافير التي أنقذت من التسمم. 50
العسل الذي كان أيام "هاكور"... 52
المرجة الزرقاء والممنوع من الصيد. 57
تعلم الصبر في رحلة "سيدي بوصبر" 60
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ... 63
الإشارة الأولى: جدران تنهار. 63
الإشارة الثانية : زورق نجا من الغرق. 65
الإشارة الثالثة : الكفن والسلهام المثقوب.. 68
يكاد تدوين المذكرات يكون منعدما في أوساط من لهم تكوين علمي من المثقفين المغاربة. لقد قطع تكوينهم العالي المفرنس صلة وصلهم باللغة العربية الأم، فانقطع حبل التواصل بينهم وبين مجتمعهم وبين الأمة. وهكذا حُرم مجتمعنا المغلق من استثمار تجارب أولئك الأطر الذين وظفتهم بلادهم لوضع لبنات تقدمها وازدهارها. وكلما أتى خلَفٌ لجيل سَلَفَ منهم، عليه أن يبدأ البنيان من جديد، لأن السابقين ما دونوا تجاربهم ليستفيد منها اللاحقون. فيترتب عليهم إعادة اكتشاف العجلة مرات تلو أخرى.
ربما يقول قائل: " وهل لديهم ما يقولون؟ هل تحقق في عهدهم أي تطور للبلد مثلما تحقق في بلدان أخرى؟ ألا يتحملون مسأولية الفشل؟
أو يجيبه آخر: " أليسوا نتيجة لتربية وتكوين يوجهان نحو فقدان الهُوية والتنكر للأمة وخدمة أهداف أعدائها؟ ألم تكن البيئة المحيطة بهم هي التي أحبطت طموحاتهم في المساهمة في رفع شأن أمتهم؟ وفي تلك الظروف أليس السكوت أولى بتدوين الفشل؟
لماذا المذكرات؟
ولن تكون هذه الأسئلة مطروحة بتلك الحدة إذا حددت بشيء من الدقة وظيفة المذكرات.
فلربما كان غرضها إطراء الذات وتمجيدها بتَبَنّيها النصيب الأوفر من الفتوحات إن كانت هناك فتوحات، وتبرئتها من المسؤولية فيما حدث من ترديات. وتوشك أن تُوظف عنصر الإثارة وكشف التفاصيل والأسرار وما ينطوي عليه ذلك من نوايا للتأثير على المستقبل.
ولربما كانت المذكرات شهادة للتاريخ تروي قصة نضالات ضد أسباب الإخفاق. أو طمحت أن تكون درساً للأجيال، لا يهمها ما سيقال إن ذكرت بموضوعية محاسن ومساوئ التجربة للاعتبار والموعظة.
ولربما كانت كتابة المذكرات وسيلة للفرار من ضغوطات الواقع وما تحدثه للنفس من إجهاد ورُهاب وهلع وجزع. أو للانعتاق من ذكريات مظلمة بترحها وخزيها وندمها. أو لتخليد ذكريات مشرقة بفرحها ومجدها وشوقها. كل ذلك يصبح أحيانا هدفا في حد ذاته، لا غرض له سوى التعبير عما في النفس، من أجل التحقق في عالم الإبداع والإفصاح عن الخصوصية والتميز.
وإن أمعنا النظر نجد أن كتابة المذكرات هي من صميم الفطرة التي فطر عليها الإنسان. إنها الفطرة التي تمجد خلق الله وتكرمه وتوحي بتخليده عبر سريان رسالته البيولوجية المكتوبة في "جينومه"، وخلود رسالته الثقافية المطبوعة في أثر من الآثار، يدل عليه ويخلد ذكراه بعد الرحيل...
لكن هناك تخليد وتخليد...
هناك تخليد في سجل الخاسرين إن كانت المذكرات مجرد إطراء للذات وتمجيد الأنا وإلغاء أدوار الآخرين. ولربما بلغت في التعالي ما بلغه فرعون، مما أخبرنا به ربنا عز وجل: ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (القصص:38)
وهناك تخليد في سجل الفائزين إن كانت سيرة من سير الصالحين المصلحين الذين يحاربون الفساد، وكانت حياتهم مثالا يقتدى به في النضال من أجل إقامة العدل ونبذ الظلم والاستكبار. فهؤلاء ربما كانوا من المشار إليهم في قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ( فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) "هود: 116-117".
والإنسان السقيم يميل إلى ماهو معاكس للفطرة: سلوك العدمية التي تريد إلغاء الشخص وطمس تاريخه وهويته، وتقزيم تجربته ليضمحل حتى العدم أمام استكبار وطغيان من يريد ظلمه واستعباده.
وإذن فالفطرة السليمة هي التي توحي ذلك السلوك الحضاري الذي نشاهده منتشرا عند الشعوب المتطورة، فلا تكاد تجد فردا في الغرب يسهو عن تدوين يومياته و ملاحظاته. يعلمون علم اليقين أن المذكرات هي اللبنات التي تساهم في كتابة التاريخ المجرد عن الأهواء النفسية، وهي الدروس التي تقوم مسيرة البشرية عبر ثنائية السالب والموجب وجدلية الخطأ والصواب.
متى تُدون المذكرات؟
أيضا، من دواعي الإحجام عن كتابة المذكرات اقترانها عند معظم الناس بسن التقاعد الذي يعني عند الكثير ايذاناً بانتهاء دورالإنسان في الحياة. لذا تراهم يسوفون ويؤجلون تدوينها ظنا أن هناك فسحة في العمر، لا تزال، فتطول التسويفات بقدر ما يطول أمل الإنسان وهو لا يدري متى حتفه.
فهذا الذي يُسوِّف تدوين تجربته كالذي يُسوِّف التوبة. الذي يُسوِّف التوبة على خطر أن تزهق روحه ولمَّا يُكتب له التصالح مع ربه. والذي يُسوِّف التدوين يوشك أن يلقى حتفه ولمّا يُكتب له توريث علم يُنتفع به.
فكم منهم بادر لتأليف مذكراته دون مماطلة، وكانت له بعد ذلك بسطة في العمر، فكان أول المنتفعين بالدروس المستخلصة منها: هذا أعلن توبته أمام الملأ ليكفر عن تجاوزات الماضي إن كان له مشكل مع ضميره الحي. وذاك رد المظالم التي اقترفها وخرج من الدنيا وزهد فيها، بعد أن انبرى له واعظ من مذكراته. وكان منهم من قال لو استقبلت ما استدبرت من أمري لعدت لما فعلت، لأنه كان هو عين الصواب...
وكم منهم من باغتته المنايا فلف النسيان تجربته فكان من الغابرين الذين لم يتعظوا ولم يتركوا وراءهم علما نافعا يصلهم خيره بعد مماتهم.
والأسلم عند ذوي الحزم، اعتبار المذكرات كالوصية التي يوصي الشرع بكتابتها كل ليلة ويضعها المرء تحت وسادة نومه، لأنه لا يضمن أن يستيقظ من موتته الصغيرة التي هي عند منامه. (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الزمر:42) فعن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضيَ اللهُ عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما حَقُّ امرىءٍ مُسلمٍ لهُ شيءٌ يُوصِي، فيه يَبِيتُ لَيلَتَينِ إلا ووَصيَّتُهُ مكتوبةٌ عندَه " قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ قَالَ ذكَ، إلاَّ وَعِنْدِي وَصِيَّتِي. وأمر الوصية أمر عظيم فرّط فيه كثير من الناس، تجدهم يأمنون فلا يوصون استطالة للأمل !! وبعض أهل العلم يرى تأثّم من لم يوصِ أو يكتب وصيته .
أنواع المذكرات
هناك مذكرات تفتقر إلى الأمانة الأدبية والتاريخية. تضخم النجاحات وتقزم الإخفاقات، وتبرر الأخطاء، وتلغي دور الآخرين. وهناك مذكرات تطلق العنان للتصرف في الأحداث وفي التعليق عليها، تروي ما تشاء منها وتلغي ما تشاء، وتسمح أحيانا للخيال أن يمتزج بالحقيقة كما يفعل الشاعر يهيم في أودية "الدونكيشوطية" غرضه زخرفة القول وإلهاب العواطف و تحريك المشاعر.
والذي ينبغي أن ترتقي له كتابة المذكرات هو ما التزم به كُتّاب السيرة الأولون، من قواعد الضبط التي في علوم الحديث كعلم الجرح والتعديل والتدقيق في رواية المتون. وهذه مرتبة ربما تكون صعبة المنال، ودونها ذلك الالتزام الأدبي " (الديونطولوجي كما يعبر عنه الغربيون) الذي يعتبر الخبر مقدسا والتعليق حرا. فبعد أخذ مادة المذكرات من الواقع، وسرد الأحداث بصدق وموضوعية، تتم صياغتها صياغة حرة تتضمن التعليقات والتحليلات والمشاعر والآراء والعبر والفلسفة الشخصية.
لمن تكتب المذكرات؟
أول المعنيين بكتابة المذكرات هو صاحب المذكرات نفسه. يدفعه الشوق والحنين لفترة من حياته، ولا يملك شاعرية من قال " قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل"، للتخفيف من زفرات الشجون، فيفتح المذكرات، يقرأ منها، ويستعيد المقامات القديمة والحالات الماضية بكل تفاصيلها وإحساساتها وارتساماتها، مما يبعث في النفس أثر الذكرى التي ينفع دائما تذكرها.
وتتوسع دائرة المعنيين بالمذكرات فتشمل الأهل والأولاد، ثم الوسط المهني الذي كان يجمع الكاتب مع أشخاص كانوا طرفا فيها، ولربما توسعت الدائرة فتشمل أوساطا أخرى لا يمكن إحصاؤها.
ومقارنة مع الوصية المأمور بها شرعا، الوصية تكتب خاصة للأسرة، نفعها لازم لها لا يتعداها، أما المذكرات فلربما كانت أوسع نفعا في المكان والزمان، وحينئذ يصبح تدوينها من آكد الواجبات. ولا يكترث صاحبها بحكم الآخرين عليها إن كانت نيته جرّ نفع لأمته من خلالها. والتجربة سواء حكم عليها بالفشل أو بالنجاح فهي مفيدة في كلتا الحالتين لأنها توصلت إلى نتيجة تساعد العقل في تدرجه عبر ثُنائية الخطأ والصواب، والسالب والموجب، ليرتقي في مقاربة الحقيقة درجة. وفي هذه الحال، توشك المذكرات أن تصبح ذلك العلم النافع الذي يحُث الشرع على توريثه، ويخبر أنه يجر الخير لصاحبه ولو بعد مماته، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ) . رواه مسلم وأبو داود .
وبعد، هذه قصص من مذكرات مهندس حاول حماية بيئته من أنواع الإفساد التي تتعرض لها. قُسمت إلى أجزاء حسب نوع الملوثات:
· الجزء الأول منها بعنوان "وحي الغابة " يقص تفاصيل تجربة ميدانية من الحياة المهنية كانت هدفها حماية "التنوع الأحيائي" (البيولوجي) من التلوث البيئي (الإيكولوجي). والقصد من التلوث الإيكولوجي: الفساد الذي يصيب البيئة عند عدم مراعاة قوانين الطبيعة، تلك القوانين التي تتحكم في وسائل تسخير الكون للإنسان كقوانين البيولوجيا والإيكولوجيا والفيزياء والكيمياء... وغيرها.
· أما الجزء الثاني وعنوانه " سبح ضد التيار" فيعرض تجارب واقعية كان هدفها حماية "التنوع الثقافي" من التلوث الفكري والعقدي. والقصد من التلوث الفكرى والعقدي: ذلك الفساد الذي يسبب اندثار الحضارات التي لا تحترم قوانين الشريعة، وهي القوانين التي تضبط موازين العدل في المعاملات، وتوحد معايير الأخلاق والقيم والضمير الحي اليقظ، وتوضح لنا غايات الوجود في هذه الحياة.
· الجزء الثالث بعنوان : " مراجعات في المقاربة والتسديد " ( في طور الإنجاز)، يعرض تجربة ميدانية للمساهمة في بناء البديل الإسلامي للدولة اللادينية التي هي أصل الفساد والإفساد في الأرض.
تجارب من أرض الواقع، أعاد صاحبها التأمل فيها بعدما محصتها الأيام وافتحصتها. واستعمل في التمييز بين صوابها وخطأها ميزان العدل الشمولي. والقصد بالعدل الشمولي ذلك الحكم الذي يراعي قوانين الطبيعة وقوانين الشريعة.
محمد المهدي الحسني
جاء رجل الغابة المبتدئ السيد "عجلان" بزاد من العلوم النظرية في الرعاية العلمية للغابات، وهو يستعد لتطبيقها في الميدان. وسرعان ما اكتشف كم يحتاج ذلك الزاد من تمحيص وتكييف مع الواقع المطبوع بخصوصياته المحلية. المهمة ليست بالهينة، فغابة "معمورة" التي تولى أمانتها غابة مترامية الأطراف، تعد الأولى في العالم لشجر البلوط الفليني من حيث اتساع وحدتها الجغرافية. لقد تداول على رعايتها وتنظيمها المحكم سلسلة من المهندسين الفرنسيين أيام الحماية وحتى بعدها قليلا. وأبلوا البلاء الحسن كأي مصلح فهم سر الاستخلاف فسعى في الأرض إصلاحا. لقد كانوا من طينة " الرجل الذي كان يغرس البلوط". قصة ذلك الشيخ الفرنسي المُسن معروفة، لم يُقعده سن التقاعد عن غراسة أشجار سوف لن يجني بالتأكيد ثمارها. وهو يذكرنا بصنوه العربي الذي مر عليه كسرى وهو يغرس النخيل، فقال له حكمته الشهيرة التي يمكن اعتبارها من أصول مفهوم التدبير المستدام لثروات الكون: " غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون". بالتأكيد لم تشحذ بعد قُدرات مهندسنا المبتدئ لترقى إلى حكمة غارسي الشجر المسنين. لكن ربما لديه رغبة وعزمة لا تحدهما آفاق. لديه رغبة في جني ثمار ما سيغرسه من شجر، لأنه لم يبلغ بعد الرابعة والعشرين من عمره عندما عين مهندسا للدولة مشرفا على مقاطعة القنيطرة للمياه والغابات.
ولديه عزمة لتدبير شؤون غابة "معمورة" بالشكل الذي يكسبه ثناء رؤسائه. وهو الحكم الضروري في قرار الترسيم عند نهاية السنة، في سلك موظفي الدولة. وإن كان دون ذلك، فسيعتبر قدحا مؤديا إلى الرسوب أو الطرد من العمل.
شاء القدر أن يكون ضمن المهندسين الأوائل الذين حلوا مكان المهندسين الفرنسيين الذين خلفهم الاستعمار في بداية العقد السابع من القرن الماضي. أجج حماسه كثيرا ذلك المستوى الرفيع الذي بلغته مِهنيتهم. لقد ألفوا كتبا شيقة بلغت شهرتها الآفاق حول غابات المغرب. مؤلفات المهندس "بودي" والمهندس "مترو" والمهندس "شالو"... وغيرهم. أطلع عليها من خلال "أرشيف" محفوظ بعناية في القبو المخصص له في المقاطعة، وفي مكتبتها، وعلى رفوف مكاتبها المختلفة وفي المكتبة المركزية بالرباط.
جاء متحمسا لتطبيق ما أوتي من مهارات وعلوم اكتسبها في المعهد الزراعي بالرباط ومدرسة الهندسة القروية والمياه والغابات بفرنسا. صمم العزم على محاكاة وتجاوز الفرنسيين في إخلاصهم وفي مهنيتهم لأنه يملك حافزا أقوى من حافزهم، إنه يعمل لصالح بلده ولخدمة بني جلدته. لقد طغت فكرة منافستهم في التفاني في العمل وفي الإخلاص وفي الجدية، إلى درجة كادت ترجع هاجس الترسيم في سلك موظفي الدولة إلى الصف الثاني من ترتيب الأولويات. سذاجة فكرية سوف تجر على صاحبنا أول محنة من محن الدهر التي لا تنسى.
لا زال يتذكر أول يوم من أيام عمله الميداني: تفقد ورش من أوراش الغراسة في غابة معمورة في منطقة عين السبع. يتذكر خاصة حماسة فريق من مهنيي الغراسة المهرة الذين ساهموا في توسع الغابات المنتجة للثروات المتجددة، الحامية للتربة والماسكة لكثبان الرمال الزاحفة. إنه فريق "حمدون" ونائبه "بزوان". رجلان من رجال الغابة الصناديد، أولئك الذين يستحقون أن تخلد أسماؤهم في حوليات الإدارة، وكذلك في سجل الصداقات المؤثرة في حياة الانسان. لقد خالجه إحساس اختلط فيه الإعجاب والمرح من تلك السرعة التي يجر بها "بزوان" السلك الحديدي المحدد لمكان حفر الغرس، بدقة تظهر علامتها في رسم مربعات الغرس، وممرات الجرارات والمسالك الواقية من الحرائق.
يتذكر كذلك ذلك الكمين الذي نصبه عباس وحمدون، المساعدان التقنيان وأعوانهما للرعاة الذين لا تسعدهم غراسة الشجر في مسارح بهائمهم. فتراهم يسوقون الماشية ليلا إلى المساحات المغروسة المحمية، ابتغاء الإتلاف المتعمد للشجيرات التي لم يشتد عودها بعد. كمين نُصب ليلا شاركت فيه سيارات "اللاندروفير" تتوجه إلى المناطق المغروسة بأضواء مطفية حتى لا يراها الرعاة. عامل المباغتة يربك الرعاة فيسهل سياقة مواشيهم إلى المحبس في انتظار أداء الدعائر والتعهد باحترام الحمى طيلة خمس سنوات، لكي يقوى الشجرعلى تحمل الرعي.
استيقظ “عجلان” باكرا ذات يوم من أيام الشتاء، لا يكدر صفو حماسه للعمل سوى تلك السحب المنخفظة التي تميز الفصل، وتأذن بانتشار الضباب والرذاذ على غابة معمورة المترامية الأطراف. وكانت المنطقة لم تصب بعد بظاهرة الجفاف المزمن الذي نراه حاليا جاثما على البلد. احتسى قهوته ملتمسا منها رفع ضبابية فكره الذي يتأثر سلبا بالضغط الجوي المثير للرياح والأعاصير. كان السائق " منيد " ينتظره ليقله إلى مكاتب المصلحة، ومن تم إلى غابة معمورة صحبة ثلة من المهندسيين والتقنيين ليباشروا المهمة الأولى من برنامج اليوم. والمهمة تقتضي استلام محاريث حديدية بعد اختبار مواصفاتها ميدانيا في حراثة أراضي مكسوة بآكام الدوم. هذه الآكام يفترض قلعها ليتم تعويضها بأنواع من الشجر المنتج. وتلك الأنواع تختلف باختلاف مؤهلات التربة المحلية. منها أشجار الصنوبر البحري، ومنها أشجار الطلح، ومنها أشجار الأوكاليبتوس، ومنها أشجار البلوط. شجر البلوط الفليني كانت هي الأصلية في الغابة، لكن كثافتها انخفظت كثيرا، واندثرت في بعض أطراف الغابة. فلما تجردت تلك البقع من غطائها الأخضر، اندرست التربة الرملية الخصبة بسبب الرياح وعوامل التعرية الأخرى. وانكشف الأفق الطيني الجذب الذي لا ينمو فيه إلا نبات الدوم الذي لا قيمة كبيرة له، غابوية أو رعوية. فيكون ذلك موقعا صالحا لغراسة منتجة، شملت منذ عهد الاستعمار الفرنسي مئات الآلاف من الهكتارات في غابات معمورة ومروج الغرب.
بعد إجراء الفحوصات على المحاريث انطلاقا من دفتر التحملات، لاحظ المهندس مخالفتها للمواصفات التقنية الواردة في الصفقة، خاصة في وزنها وفي قطر الصحون الحارثة. وتنبأ أن اختبارها الميداني سوف يؤكد عدم صلاحيتها. وبالفعل عند تجربتها بالجرار في الأرض المخصصة للحرث، صارت تقفز فوق آكام نبات الدوم قفزات تلو أخرى، ولم تستطع قلعه من الجذور، ولم يبلغ عمق الحرث سوى الربع مما هو مطلوب في بنود التحملات.
لقد اقتنع الجميع بما فيهم أصحاب الصفقة بنتائج الفحص فلم يتم إمضاء أي وثيقة لتسليم البضاعة.
سارع المهندس المبتدئ لرفع تقرير رفض التسليم لرئيسه موضحا تفاصيل العملية وشهادة الحاضرين. لم يكد يشرف على نهاية عرضه الذي كان مفعما بنبرة الواثقين من أدائهم التقني الذي يستحق التنويه، حتى ظن أن الرئيس همس همسة لا تكاد تسمع، مفادها : "عليك إمضاء التسليم فحسب". قالها بصيغة من لن يسمح أن يُعصى له أمر. ما ظن برهة أن المخاطب سوف يطلب منه تبرير أمره المخالف للقانون. "وقع التسليم لأننا سنخسر الاعتماد المالي المقرر للصفقة". ذلك هو التبرير الذي أفصح عنه لمواجهة إصرار”عجلان” على رفض توقيع التسليم. أجابه “عجلان” قائلا: " إنني احترم رأيك في إتمام الصفقة رغم مخالفتها لبنود التعاقد، لكن سوف أحترم أكثر قرارك إعفائي من إمضاء لست مقتنعا به". جن جنون الرئيس الذي صاح في وجه العاصي "عجلان": "أخرج من مكتبي " فبدأ “عجلان” يجمع أوراقه في هدوء ولم يمهله الرئيس الثائر الذي أراد تنفيذ أمر الإخراج السريع بيديه. وهنا شعر المطعون "عجلان" بإهانة اضمحلت أمامها كل اعتبارات الترسيم والسلم الإداري وغيرها من السلوكيات شبه عسكرية التي يتميز بها سلك الموظفين الغابويين. لم يملك سوى أن رد عليه قائلا: " مهلا يا صاحبي فهذا مكتب في ملك الدولة وليس في ملك أبيك ". وبلغ التصابي بالرئيس المحترم أن شرع في استفزاز ”عجلان” لجره إلى مباراة في الملاكمة الحرة، لولا تدخل الكاتبات والشواش والناس أجمعين الذين تتبعوا من وراء جُدُر فصول المسرحية.
لم يدر ”عجلان” بعدها كيف وصل إلى أطلال "مهدية" المشرفة على مصب نهر سبو. ربما خطر في وعيه الباطن، أن البحر المحيط الذي يمتد إلى ما لانهاية وراء المصب لا يزال فيه متسع لابتلاع الهموم التي حلت به في هذا الصباح العاصف من أيام الشتاء الحزينة.
فكانت هذه أول نائبة من نوائب الدهر التي توقظ الوسنان ويتعلم منها الإنسان كيف يتخلص من عذرية السذاجة واندفاع الحماسة. فلقد كان أجدر بصاحبنا أن يسلك طرق الإدارة الهادئة التي تعالج أمورها كتابة عبر وثائق رسمية يحتج بها عند الحاجة. لكنه أراد المحمدة والثناء من الناس دون انتظار، فكان ذاك الذي خيب أمله قبل أن يقوم من مقامه، جزاء وفاقا على الرياء وحب المحمدة. ربما كان الحدث سببا لرسوب "عجلان" في سنة تدريبه الأولى. وربما كان كذلك درسا للرئيس المباشر، علَّمه أن للدهر دورات وللأيام نزوات. لم يكن في حسبانه أن ”عجلان” سيكون له خير صديق خلفه في منصبه، حفظه في أسراره، وتابع مهمة خدمة الغابة والتفاني في حمايتها.
والفوائد البيئية التي يمكن استخلاصها، يمكن صياغتها كالتالي: لحماية البيئة من التصحر ينبغي غراسة الأراضي، ولنجاح الأغراس ينبغي تعميق الحرث وحفر الغرس، ولتعميق الحرث لابد من محاريث ملائمة، وللحصول على المحاريث الملائمة لابد من... وهنا سندخل في تفاصيل من الأفضل أن يتأجل ذكرها إلى الجزء الثاني من المذكرات..
والفائدة الثانية هو ذلك التنافس على الغابة بين وظيفة الرعي وظيفة التشجير الغابوي... وذلك ما سيتضح بعد قليل. وقد تبدو هذه الدروس من الواضحات المفضحات، لكن الغابويين يدركون أن نسبة كبيرة من الأغراس تفشل فيتبعها التصحر بسبب التساهل في عمق الحرث والحفر التي تأوي شجيرات الغرس، وفي التغاضي عن احترام حمى الأغراس الفتية قبل أن يشتد عودها لتتحمل الرعي...
انتهى موسمم الغرس بحلول فصل الربيع. كان على رجل الغابة "أبي عزة" أخذ قسط من الراحة ليستعيد حماسه الذي تسرب له الفتور بعد العمل المضني الذي تطلبه الموسم. راوده حلم ولوج الغابة ولوج الشاعر المتحرر من تبعات الكد والنصب، همه البحث في الآفاق وفي نفسه عن سعادة الارتواء من عالم الإلهام الساحر المنقوش زخرفة باهرة في المروج الزاهية. إنه حلم الخلوة في الأودية والآكام سعيا وراء وحي الغابة المتدفق من شجون الحيرة أمام جمال الطبيعة وإصرار الحياة. حلم الاستغراق في فك رموز فرحة النحلة والفراشة واليمامة، تبدو له راقصات مرفرفات في إقبال وإدبار وتيهان بين الزهور. عودة أخرى إلى الغاب لا عودة المهندس الذي لا يرى في الشجر سوى عناء الحراثة، وحفر الحفر، ونقل الشجيرات، ومواراتها التراب بعناية لكي تسعد جذورها بارتشاف ماء المطر المنعش. لا يرى في أنواع الطيورالمغردة، سوى أسراب الغربان النابشة في الأرض، باحثة عن بذور البلوط تقضمها قضما، بعدما لانت وانفلقت، متوثبة لإرساء جذورها في أعماق الأرض. يرقات الفراشات الناصبة أعشاشها البيضاء فوق شجر السنديان كأعلام السلم والأمان، لا تعتبر سوى نذير شؤم لموعد زوال أوراق الشجر الفتية التي تغذي نهم الحشرات... استعداد الطبيعة لمهرجان الزهور واختلاط المروج باكتساح الحشائش لا يبعث فيه سوى إحساس الخوف من موسم الحرائق و ترقب الانتشار الكاسح للقطعان السائمة القاضمة للشجيرات التي تضمن استخلاف الغابة ودوام تجديدها.
ما أحلى السفر في أودية الشعراء عندما يتحرر الإنسان من مسؤوليات تجسيد المعاني أفعالا مؤثرة في مجرى الحياة. ولكن هيهات أن تعبأ الدنيا بمن لا يؤثر فيها سوى عن طريق الترانيم المغردة. الحياة المصرة على البقاء تطلب النقش والتشييد بلبنات الطين والماء والهواء. الطبيعة تحتاج للشاعر الذي يبرع في وصف جمالها، لكنها تعشق من يلقحها ويحافظ على سريان الحياة فيها، وتكره من يسرف في الأخذ منها بنهم لا يراعي سنن تجددها واستمرارها.
استغرق رنين الهاتف وقتا قبل أن ينتزع صاحبنا من فراش أحلامه الناعمة. تبخرت فكرة الراحة بعد عناء فصل الغرس. إنها دعوة من الرئيس لحضور اجتماع "عاجل" مع وفد من خبراء منظمة "الفاو". جاءت المكالمة لتضع حدا للتسكع في شعاب المعاني والأفكار البريئة. اجتماع عاجل... العجلة من الشيطان... مذا عساه يكتشف بعد تشاؤمه هذا من العجلة؟ خبراء "الفاو" كانت لهم سمعة سيئة في المدرسة الفرنسية التي تخرج منها... شؤم في شؤم ... وقيل له إنهم في المغرب كلما تسربوا إلى مشروع من مشاريع التنمية جلبوا معهم الفشل والفقر... شؤم في شؤم في شؤم... دخل قاعة الاجتماع وهذه الأفكار ما برحت ترن في وعيه الباطن.
علم صاحبنا من خلال عروض موشحة بالملصقات اللامعة، واللوحات السمعية البصرية الجذابة، أن خبراء الفاو تعاقدوا مع الإدارة المركزية لإعداد مشروع رعوي يستهدف تنمية وظيفة غابة معمورة الرعوية. إطلالة سريعة على هذا المشروع حركت حاسة “أبي عزة” السادسة، فترجمت شؤمه السابق إلى ترقب الكارثة البيئية لغابة معمورة إذا قدر النتفيذ لهذا المشروع. لم يبد أي رأي حوله حيث لم يطلب منه سوى تنظيم جولة للخبراء عبر الغابة مباشرة بعد انتهاء العرض.
عند أول محطة من محطات الجولة مقت صاحبنا تنطع هؤلاء الغرباء الأطوار، الذين جاءوا للتعلم المقنع من الخبراء المحليين. وظنوا أنهم بزخرف القول والصخب الأجوف سوف يتبعهم الخير حيث ما حلوا وارتحلوا. مشروعهم كان يرتكز على ثلاثة محاور شرحها كبيرهم عبر وسائل توضيحية ميدانية. رأى أشجار البلوط الطاعنة في السن المتشابكة أغصانها وهي تغطي طبقة من أنواع المرخ والأشجار الثانوية فشرح المحور الأول قائلا : " سيحسك هذا المرخ الذي لا تأكله الأنعام بواسطة المناشير الاسطوانية المشغلة بالجرارات، وسينفد الضوء للأرض وسينموالعشب الصالح للماشية". انتقل إلى مكان آخر لا مرخ فيه وبسط المحور الثاني لمشروعه:"وهنا أرضية خالية من العشب لا بد من زرع بذوره المستوردة من استراليا" ثم جلس قرب سياج من الأسلاك الشائكة كانت تحمي مساحة خصصت للتجارب الغابوية، فقال شارحا المحور الثالث : " الفكرة الثالثة هي تنظيم الرعي عبر دورات ترتكز على معطيات نمو الأعشاب التي سيتم زرعها". هذا باختصار شديد مضمون المشروع.
أنهى الخبير عرضه موضحا أنه قرر الشروع في العمل هذا الموسم حتى لا تضيع السنة، وأنه ينبغي إبرام الصفقات لشراء الجرارات والمناشير والبذور. ربما تذكر خبيرنا الجهة التي سيطلب منها تنفيذ ما خططوه. وتذكر كذلك ضرورة استمالتها برد بعض الاعتبار لها. فاقترح أن يفتح الباب لمناقشة المشروع. وهنا فتح عليه بابا سوف لن يغلق إلا في وجهه مطرودا مدحورا من معمورة العامرة بخبرائها، الذين يسمعون استغاثتها من التلف الذي يلحقها من الرعي المفرط. سأل في البداية "أبا عزة" عن رأيه فقال له: " ربما يكون من الأكيس تجربة هذه الأفكار قبل المضي في نفقات مكلفة للدولة". وعبر عن توقعات مفادها أن المرخ الذي سيقطع هذا الموسم سوف يكون أعظم كثافة في الموسم المقبل مما يجعل العملية مجرد عبث يتوج بعكس ما هو مطلوب. أما بالنسبة لفكرة زرع العشب فهل يخلو مكان في الغابة من أنواع بذوره الجيدة المتأقلمة مع بيئتها؟ أليس من المؤكد أن كثافة الشجر التي حالت دون نمو البذور المحلية سوف تفعل نفس الفعل للبذور المستوردة من استراليا؟ أما المحور الثالث فكان الرد عليه من خلال التجربة التي عاشتها أوروبا التي لم تفلح في إحياء غاباتها، وفي تكثيف فلاحتها، وفي رفع أداء تربية مواشيها، إلا بعدما أبعدت البهائم عن الغابات، وأُدخلت إلى الاصطبلات للرعاية العلمية المكثفة . بعد هذا الإجراء، تم استخلاف الغابات وتجددها طبيعيا دون تدخل الإنسان. ولقد شرع مهندسو الاستعمار في هذه الخطة وبدأوا بمنع تربية الماعز في معمورة في انتظار منع الأنواع السائمة الأخرى. والمفترض أن يوجه أي مشروع يهم الغابة في نفس الاتجاه. أما تربية المواشي فلن يستقيم أمرها إلا باتباع الأساليب المكثفة في الاصطبلات كما هو شائع في أوروبا. وهكذا يفهم الاستعمال العقلاني المتوازن للمجال القروي انطلاقا من المؤهلات الطبيعية للأراضي، لا ينبغي استعمال الغابة للرعي الذي يمنع تجددها، تدبير الغابة المعقلن يهدف لرفع كثافة أشجارها لكي يرتفع إنتاجها الخشبي. هذه الكثافة المطلوبة من الطبيعي أن تقضي على العشب الذي يموت من قلة الضوء. فالرعى والغابة أمران متناقضان، لا يمكن الجمع بينهما كما يظنه منظرو "الفاو" في روما من خلال مفهوم مبتدع لا يحترم قوانين البيئة.
لم يتوقع كبير خبراء "الفاو" أن تسلك المناقشة هذا المنحى الخطير على مشروعه الذي يسترزق من خلاله. سارع إلى طلب آراء أخرى فجاءت هذه المرة من أعوانه الذين تنافسوا في نُصرة صاحبهم. فاستطاعوا بمهاراتهم التسويقية أن يفرضوا مشروعهم. وتم لهم الاستقواء بالوزارة لكي تفسح لهم المجال لتطبيق البرامج عبر وكيل خاص يمثلهم في المصلحة.
وهكذا تم إخضاع معمورة لمخططين: المخطط الغابوي الساعي لتكثيف إنتاج الشجر وضمان الاستخلاف الطبيعي للغابة، والمخطط الرعوي الرامي لرفع إنتاجية معمورة من العشب، رغم التناقض البين بينهما. وهكذا تم التخطيط المحكم لإتلاف الغابة وظهور علامات التصحر والجفاف فيها.
حاول المهندس "أبو عزة" بعد مضي سنة على تنفيذ المشروع أن يطلع المسؤولين في الوزارة على صحة توقعاته وظهور معالم تثبت تخوفاته من خطورة المشروع على الغابة فلم يجد الآذان الصاغية لصرخته المحذرة من الكارثة البيئية المنتظرة. دوّن صرخته اليائسة في دراسة علمية انطلقت من القوانين البيئية التي ينبغي احترامها تفاديا لظهور الفساد في الغابة. لكن لاحياة لمن تنادي. تقديسهم للخبير الأجنبي جعل منهم أعجاز نخل خاوية، تضمحل عقولهم أمام عقل الخبير لا تكاد تلمس لها باقية.
بعد ثلاث سنوات، ستأتي من روما فرقة لافتحاص المشروع، وستكتشف عبثيته، وستتأسف على الأموال الضائعة فيه. لكن الثمن كان أبهظ بالنسبة للغابة التي مات أكثر من ربع أشجارها في مدة بضع سنين، ولم يتم استخلافها كما توقعه "أبو عزة" ... ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ربما كانت صيحة "أبي عزة" سببا لتراجع منظمة "الفاو" عن دعم المشروعات المساهمة في التصحر وفي التقلبات المناخية. ربما كانت سببا لفرض "دراسات الوقع على البيئة" لكل المشاريع التي تتكلف بتسييرها. ربما كان ذلك مفيدا بالنسبة لغابة الأمازون وغابات ماليزيا وغيرها. لكن بالنسبة لمعمورة... فوا أسفاه على الأدغال المتشابكة التي كانت مرتعا للحياة البرية الغنية بأنواعها المتوازنة في علاقاتها، الوافرة خيراتها دون أن تطلب تدخلات الإنسان العنيفة.
ما أعجب سر الحياة، علمت شجر معمورة كيف يكسي نفسه بلحاء الفلين المقاوم للحرائق الطبيعية فاجتاز بسلام حقبات التاريخ. وقد كان منتشرا في كل السهول والهضاب الرملية في شمال غرب إفريقيا على ملايين الهكتارات. حينها كان الغاب مرتعا للنمور والأسود والغزلان والنعام وكل سلاسل الحياة البرية المتوازنة، تأكل من خيراته التي لم يزرعها أحد، وترتوي من ضاياته وبحيراته التي لم يبق منها اليوم إلا الأثر. لم يبق من ذلك سوى أساطير الأولين تقص علينا قصصا أغرب من خيال... سباع ونمورغابة معمورة كانت لها ألفة وصداقة مع "سيدي أبي الليوث" الذي حرف اسمه بالعامية فأصبح "سيدي بليوط" على مشارف مدينة الدار البيضاء. كانت تنقل ولي الله " أبا يعزى" أو "مولاي بوعزة" في سياحته الصوفية عبر ربوع الغابة التي لا يقتات إلا من بلوطها وفطرها وثمارها المختلفة. وقبل ذلك، أفيال معمورة ذهبت مع "حنبعل" لغزو روما التي تريد إخضاع قرطاج. وكأن روما اليوم تريد الانتقام عبر خبراءها الناشرين لمشاريع التفقير والتخريب والتصحر في ربوع الغابة.
إنها غابة معمورة، عمارتها طبيعية. لو لم يفسدها الانسان لجاءته دائما هداياها الثمينة. لكنه قلع أشجارها لحراثة رمالها المتحركة، وحشر فيها ما لاتحتمل من مواشيه، وسطى سطوا على رأس المال المنتج، ولم يكترث بحقوق الأجيال المقبلة. فما العمل لإعادة صياغة ضميرنا لكي يرقى إلى ضمير حماة البيئة الذين يضحون بما ملكت أيديهم لتفادي الكوارث الطبيعية المحدقة بنا أخطارها؟. كيف نصلح ما أفسدته المشاريع الفاشلة التي تخطط لتفشي الفقر الدافع الى التخريب البيئي؟ فلو وقع اختيارنا على المشارع التي تحاكي مشاريع كاليفورنيا أو كوريا أو ماليزيا، لكانت معمورة في مأمن من الفساد الذي ظهر في البر والبحر بما كسبت أيادي السفهاء من أموال لا يهتدون لترويجها في المشاريع البناءة.
في ساعة متأخرة من الليل، رتب رجل الغابة السيد "رُمَيْل" ملفاته التي سيحتاجها غدا في برنامج الإشراف على ورش "ضاية سيدي بوغابة". إنه مشروع يقوم بمهمة تثبيت الرمال الزاحفة من المحيط تجتاح مصطاف مهدية الجميل ونواحيه من الحقول الزراعية. يضم المشروع كذلك أوراشا لحماية الحياة البرية في الضاية المصنفة دوليا ضمن المحميات الرطبة المهمة لتناسل الطيور المهاجرة بأنواعها، وأوراشا لتهيئ منتزه حول البحيرة، ومتحفا إحيائيا ومحطة لتربية الحجل لإعادة توطينه في الغابة.
كم يسعد “رميل” تتبع المشاريع التي تحمي البيئة وتغرس حبها في قلوب الناس. تكاد تنسيه التعاسة التي تجلبها الأنشطة المخربة للطبيعة كمثل ذلك المشروع الرعوي الذي تشرف عليه منظمة "الفاو" عبر جيش من الوكلاء والمرتزقة...
أراد ركوب السيارة التي ستقله إلى شاطئ مهدية عندما أدركته الكاتبة تخبره أن الرئيس يطلبه في الهاتف.
هكذا العمل في إدارتنا... تخطط لبرنامج محدد دقيق، لكن ينبغي الاستعداد دائما للطوارئ. وأحيانا تصبح الطوارئ طاغية على العمل المنظم، فيستغلها عديم الضمير لتبرير قعوده عن تأدية مهمته المنتجة. الطارئ اليوم من الوزن الثقيل الذي لا يمكن لصاحبنا تجاهله، وإلا فتح بابا جديدا لبنات الدهر المتربصات بمكرهن كل غافل ساذج. أمره الرئيس أن يُعد في جولته في مهدية والرمال الشاطئية تصميما لمقلع للرمل، تريد الإدارة المركزية تخصيصه امتيازا لمقاول قريب من أحد الأشخاص النافذين في الرباط.
هكذا تم تنغيص صفو صباح كان صاحبنا يستعد لصرفه في نشاط محبوب مرغوب ، فإذا به يتكدر بإكراهات واقع مكروب، ليس من شيمه الاهتمام بحماية الطبيعة، لاسيما إن تمثلت له كبقرة حلوب.
نعم يمكن اعتبار الرمال الشاطئية بقرة حلوبا أو ذهبا بنيا، أولا نظرا للونها الرملي، ثانيا محاكات لتسميات سبقتها: الذهب الأسود، الذهب الأبيض، الذهب الأخضر... ثالثا اعتبارا للثروة الهائلة التي تفتحها بين عشية أو ضحاها للمحظوظين الذين تشملهم الوزارة بامتياز استغلالها.
في طريقه إلى الشاطئ، لم يدر صاحبنا كيف أبرزت ذاكرته بغتة اسم "تونفال" وما علاقة هذا الإسم بالمهمة التي سيباشرها؟
"تونفال" هو إنسان فرنسي استوطن هو وأسرته القنيطرة. وهو من عشاق حماية الطبيعة لأنه يعرف كنوزها الدفينة ويستمتع بها ذلك الاستمتاع البرئ الذي يجلب سعادة لا يشعر بها سوى الأطفال، لم يدنس فطرتهم حب الجاه والسلطة والمال. جاء يوما من أيام الخريف يعرض على المهندس “رميل” تطوعه لدراسة أنواع الفِطر التي تزخر بها غابة معمورة. لم يتعجب “رميل” من هذا العرض لأنه يفهم هذه الأريحية التي تحرك حماة الطبيعة الغربيين. سرعان ما يمر التيار بين الذين يستهويهم نفس العشق ويحركهم نفس الحافز ويجمعهم نفس التهمم. أخوك في الإنسانية تشعر بألفة فطرية تجذبك إليه وتجذبه إليك. علم رجل الغابة “رميل” فيما بعد أن الرجل يحب التجوال في الغابة مع ثلة من الأساتذة الأجانب وتلاميذتهم وأزواجهم، يمارس التحليق بجناح الدلتا في تلال الإقليم، يستمتع بالغطس في مياه المحيط، من هواة الإبداع في الخط العربي. علم ذلك لما جاءه لتعزيته في موت ابنته مريم التي لم تتجاوز السنتين، ماتت بسبب حروق لم يفلح الأطباء في معالجتها. أثناء هذه التعزية طلب “تونفال” منه تقبل تذكار منه. يحتفظ دائما “رميل” بذلك التذكار الثمين: لوحة فنية رائعة رسم فيها اسم "مريم" بخط الطغراء العربي، على شكل يذكر بمريم العذراء أم سيدنا عيسى عليهما السلام.
لقد خطر ل“رميل” اسم "تونفال" عندما كان متجها إلى العمل في شاطئ المهدية، وجاء ذكره مقرونا بتجربة التحليق بالدلتا من أعلى التلال الرملية التي تميز شاطئ "بيكمير" هذا الشاطئ يبتدأ من الضفة الشمالية لمصب سبو، بتلال رملية يزيد علوها تدرجيا نحو الشمال، وتتحول إلى جبال متحجرة في مكان يقال أن رجلا فرنسيا يسمى "بيكمير" هو أول من مارس رياضة الغطس في المحيط عبر صخوره الكلسية التي تضم حياة بحرية قيمة.
هكذا يعمل الدماغ. أكسبه الخالق المبدع تبارك وتعالى قدرة على جمع شتات الذكريات، يركبها تركيبا خاصا بكل نازلة. تراءت للسيد “رميل” صورة التلال الرملية الشاهقة التي حلق فوقها بالدلتا مع صديقه "تونفال". وتذكر عذريتها وصلاحها للاستغلال الذي لا ينفذ، عكس رمال الشاطئ الممتد من القنيطرة إلى الجنوب. في تلك المنطقة، يشتكي المصطافون والناس أجمعون من التخريب الذي اقترفه أصحاب المقالع الرملية الذين أعطتهم الوزارة حق الاستغلال، امتيازا لهم لسبب من الأسباب ليس من حق الفضولي “رميل” الخوض فيها. عليه تنفيذ إبرام العقد ورسم حدود المقلع وتحديد موقعه الجغرافي، ثم إرسال الملف بملاحظة "مقبول" فحسب. هذا هو المطلوب من “رميل” المسكين. رغم ذلك، تنبه المهندس “رميل” إلى هامش المناورة التي يملك لتنفيذ أمر الوزارة بأقل كلفة على البيئة. ولذلك نشط وعيه الباطني لتذكيره بذلك التحليق مع "فالتون " ليربطه بالموقع الذي يمكن تخصيصه لذلك المحظوظ، دون أن يقع المزيد من التخريب في الشواطئ المنكوبة.
هذه النازلة علمت مهندسنا المبتدئ كيف يمكن تجنب مخاطر الرمال المتحركة. إنها على أهبة وتيقظ لابتلاع كل من سولت له نفسه اعتراض سيل الذهب البني الذي يستخرجه منها أصحاب المصالح الكبرى. لم يكن محب الغابة “رميل” من طينتهم ليغبطهم على ما فتح لهم من كنوز الدنيا. همُّه هَمُّ أصحاب المبادئ : يسعى إلى حماية البيئة حسب طاقته، ويلتمس من أصحاب الامتيازات، عندما يطرقون باب الإدارة لتجديد عقودهم أن يفكروا في استثمار ثرواتهم التي استخلفهم الله عليها في" الأوراش الكبرى" التي تجر الخير للجميع، وخاصة للسكان المجاورين للغابة، ليقل إتلافها وتصحرها...
تم تزويد رؤساء المراكز الغابوية بأطنان من الصباغة الحمراء التي تستعمل لوضع العلامات على الأشجار لتحديد قِطَع استغلال الخشب، وقطع جني الفلين، ويسمى بالعامية "الفرشي". هيأ مسؤول الغابة المهندس “محفوظ” مساعديه للحذر هذا الموسم من ضخامة برامج الاستغلال التي ستشمل آلاف الهكتارات. وذكر في اجتماع حضره مهندسو ومساعدو وأعوان المقاطعة بما يتميز به هذا الموسم: اقتران موعد استغلال الفلين بشهر رمضان المعظم. توقيت صعود رحيق شجر البلوط دقيق بين بدايته وحلول حرارة فصل الصيف. ذلك هو الوقت الأمثل للنزع الآمن لقشرة الفلين عن الأشجار، تجاوزه يترجم جروحا في لحاء الجذوع قد تضعف الشجرة وتساهم في هلاكها أحيانا. هذا الأجل الضيق ينبغي مراعاته رغم اقترانه بشهر الصيام، وبحلول حرارة الصيف.
افتتحت كل الأوراش وهي تسير حسب الوتيرة التي حددت من قبل. وموازاة معها يستعد “محفوظ” لحضور مناظرة حول الفلين واستعمالاته الصناعية وسبل النهوض بها. قبل الالتحاق بقاعة العرض في مدرسة المهندسين بسلا، قرر “محفوظ” تفقد أوراش جني الفلين في القطع القريبة من الطريق المؤدية إلى سلا. لم تبلغ الساعة العاشرة بعد عندما أنهى الزيارة هو وثلة من أعوانه الذين سيحضرون كذلك التظاهرة العلمية في سلا. كان الفريق يتصبب عرقا من الحرارة المفرطة التي تنذر بما هو أشد حرا عند استواء الشمس فوق الرؤوس. الشعور بالعطش الشديد عند البعض جعله يفكر كيف سيكون حال العمال الذين يباشرون عملية نزع الفلين وهم صائمون.
وصل “محفوظ” وفريقه إلى مكان المناظرة. أملهم أن يخف عطشهم وتنتعش أجسامهم في القاعة المكيفة التي تنتظرهم. بعد تسلمهم وثائق المناظرة من الفريق المنظم، دخلوا القاعة وبالكاد عثروا على أماكنهم وسط ظلمة بدت لهم حالكة لانبهارهم بالشمس التي تركوها في الغابة. كانت ستائر القاعة مسدلة بسبب الحاجة إلى الظلمة التي تظهر نصاعة العروض السمعية البصرية التي انطلقت. حاول “محفوظ” جمع شتات فكره الذي لازال عالقا بقشور الفلين و صور العمال المنتصبين على سلاليم الجني المنهك. بعد تكيف نظره مع ضوء القاعة الخافت، بدأت الوجوه تظهر لصاحبنا شيئا فشيئا. هكذا تعرف على العارض الذي وصل دوره..
أشرف على نسيان عطشه في هذا الجو الناعم لو لم تظهر له على شاشة العرض قنينات الخمور بأنواعها. ظن أنه في حلم لو لم يسمع صوت سدادات القنينات المتطايرة عند فتحها. ولم يتمالك "بزوان" الذي كان ضمن فريق “محفوظ” من ترديد كلمة "الله أكبر" عندما رأى سداد قنينة لأنواع الشامبانيا يطير من فم الزجاجة المزخرفة زخرفة الفردوس، وقد برع صاحب العرض في إبراز مفاتنها. ضحك كل من في القاعة واسغرق ضحكهم طويلا. معظم الحضور كانوا يعرفون "بزوان". الرجل الذي يحول جو السمسرات الغابوية المكهرب بسبب الملايين التي تروج فيها إلى مهرجان مرح أخوي بين الحضور المتنافس على شراء خشب الغابة. كان بارعا في سرعة تنزيل أثمان المناقصات التي تحدد أول من يفوز بشراء القطع الغابوية. لكن ما لايعرفه الحضور هو ذلك الشعور بالعطش الذي أتى به "بزوان" من أوراش جني الفلين. زيادة على ذلك، كان المسكين عافاه الله، يعالج نفسه من إدمان على الخمر ابتلي به عندما كان يعمل تحت إمرة الغابويين الفرنسيين المستعمرين الذين سوف نرى نموذجا سيئا منهم حالا.
هذه المداخلة الغريبة الأطوار التي لا تختلف كثيرا عن لقطات إشهار لأنواع المشروبات الكحولية، كانت لفرنسي صاحب معمل لتصنيع الفلين بالمنطقة. استمر في استغلاله رغم "المغربة" التي عمت معامل المستعمرين لأسباب سوف يتعرف عليها “محفوظ” فيما بعد. الفكرة المحورية التي أتى بها هذا العرض مفادها " أن فلينكم الذين تنتجونه لا قيمة له إن لم يُنتخب عبر مراحل تصنيعه في معمله تاجا سدادا يوشح رأس قنينات الشمبانيا والخمور العتيقة التي يساهم في نكهتها الطبيعية" ...هكذا.
التفت “محفوظ” إلى "بزوان" ورأه يبتلع ريقه، وما يُرتقب أن تبقى لريقه باقية بعد المعانتين. حياه تحية عسكرية لما علم بإشفاقه عليه. روح المرح والفكاهة لا تفارقه خاصة بحضور رئيسه "حمدون" وهو كذلك من رجال الدعابة والجلسات المرحة التي يتجاذب الناس فيها أطراف الحديث الشيق، يبعث فيهم روح النشاط لإنجاز المهمات الصعبة.
مرت العروض بسرعة وجاءت حصة المناقشة والتقويم. مداخلة “محفوظ” تضمنت لوما في حدود اللياقة لصاحب المعمل على الاستخفاف بشعور المغاربة في إشهاره للخمور، خاصة وأن الشهر شهر صيام. أكد له ان العمال الذين يجنون الفلين في هذا الحر الذي يخيم علينا وهم صائمون لو علموا بمساهمتهم في تزيين الشمبانيا لتركوا أوراش الجني المنهكة، مخافة اللعنة التي تتربص بالمساهمين في صناعة الخمور. صفق الحضور لمداخلة المهندس “محفوظ”، لكن المسير للنقاش سارع إلى لفت الأنظار لمداخلات أخرى دون أي تعليق على ما سمع، وكأنه يريد اجتناب ما لا تحمد عقباه. أما صاحب المعمل فما كان رد فعله سوى إمعان النظر في مهندسنا المبتدئ، وكأنه يريد تسجيل صورته في باطن عقله الغريزي المفترس.
في عمق سريرة “محفوظ” لم تكن نيته إثارة عداوة أحد، كان من الممكن أن يطلب منه الاعتذار للحضور، لو تيقن أنه تعمد الإساءة للصائمين. لكنه أحسن الظن به وذكره بلطف بوجوب مراعاة كرامة المغاربة. لكن الأحداث المقبلة ستوضح أن الرجل كان يتعمد الإساءة، وينطلق من خلفيات استعمارية، مستقويا بمسؤول في بعض الأجهزة الأمنية التي خلفها المستعمر.
بعد سنتين من هذا الحادث تيقن أبو صالح من سوء سريرة الرجل ودناءة طينته عندما أصر على تكرار إهانة المغاربة في مناظرة مماثلة نظمتها الإدارة في مدينة شفشاون العريقة. لقد كرر نفس العرض، بنفس الإشهار لأنواع الخمور، ونفس الإهانة لفلين المغرب ورجاله. لكن هذه المرة لم يعقب “محفوظ” ولا غيره على هذه السفاهة، عملا بقوله تعالى: ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (لأعراف:199).
ربما شعر صاحب المعمل بنشوة المنتصر وهو يبحث الآن عن طريقة ما لإعلان فوزه في تبليد حس المغاربة. اختار المائدة التي جلس فيها “محفوظ” لتناول الغذاء في الخيمة التي نصبت لإيواء الضيوف. وجلس في الجهة المقابلة للمكلوم “محفوظ” الذي لم يعره أي انتباه، إذ كان في حديث شيق مرح عن ذكريات الماضي مع زملائه في الدراسة. جلس في المائدة المحاذية ثلة من أرباب معامل الفلين الأجانب وكأنهم يترفبون شيئا ما... قام “محفوظ” لغسل يديه وتبعه صاحب معمل آخر فرنسي كذلك ، وهمس في أذنه : "أرجوك أن لا تكترث بما صدر عن فلان، نحن نعتبره أخرق، زيادة على أنه من كرسيكا"، وأهل كرسيكا ربما لهم عقدة نابليون". شكره “محفوظ” على نصحه، ورجع إلى المائدة لتناول الغذاء مع أصدقائه ومعهم صاحب المعمل. انتصبت الحاسة السادسة التي قلما تخطئ عند “محفوظ”، واستعد لكل احتمال. المناوشة الأولى أتت كما هو متوقع من صاحب المعمل الذي وجه سؤالا مباشرا للمتوجس “محفوظ”: "كيف وجدت مداخلتي" قالها وابتسامة المكر كأنها تكشيرة كشفت عن أنياب ثعبان هائج. لم يجبه عن سؤاله لكنه قال له "هل ترغب مشاركتنا في النكت التي يحكي كل واحد مما جد عنده منها؟ ولم ينتظر “محفوظ” رده، واسترسل في حديثه قائلا: " سأحكي لكم اثنتين جديدتين وفي نفس الوقت واقعيتين. الأولى : لما كنت أدرس في نانسي بفرنسا كان صاحبي في الغرفة من الفرنسيين الذين يقطنون في كاليدونيا الجديدة. وكان له حساب خاص مع الكرسيكيين. وجدني ذات يوم أتصفح خريطة فرنسا فقال لي : " كرسيكا هي بُراز فرنسا " نظرت له نظرة الذي لم يفهم شيئا، فقال " أنظر، ها هو دبر فرنسا، وأشار إلى مصب نهر الرون والشاطئ المحاذي له، وهو فعلا يذكر بمؤخرة في جلستها لقضاء الحاجة، "وهاهو برازها"، وأشار إلى جزيرة كرسيكا. فاستلقيت على ظهري ضاحكا مما قاله". ضحك الجميع من نكتة مهندس الغابة وخاصة الفرنسييون أصحاب المعامل الذين كانوا يتتبعون الحديث من المائدة المجاورة. وبطبيعة الحال الشخص الوحيد الذي لم يضحك هو صاحب المعمل الذي بدأ المباراة والبادئ أظلم. أسرَّها في نفسه ولم يبدها لهم، إلا أن احمرار عينيه حول وجهه بركانا على وشك نفث الحمم. وبالفعل قبل أن يقص المهندس نكتته الثانية التي ربما توقع منها صاحب المعمل الضربة القاضية، قام منتصبا لينكل به، لولا أنه لحسن حظه، كان يجلس في الطرف الآخر من المائدة فلم يستطع الوصول إليه. حاول الجالسون تهدئته إلا أن هيجانه أثار انتباه جميع الحاضرين بما فيهم ضيوف الشرف من الشخصيات المهمة في الإقليم ومن الإدارة المركزية. من الطبيعي أن يعم الفضول ويتساءل الناس عن هذا الصخب.
ربما جالت النكتة على الموائد مع الشواء الذي بدأ يتنزل على الموائد مع كؤوس الشاي الحلال. ربما تمنى صاحب المعمل أن يمدوه بشيئ من الشراب العتيق لكي يغرق فيه هزيمته النكراء. كانت عدوى الضحك قد عمت جميع الموائد. شخص واحد يتميز من الغيظ فتراه في زمجرة وحش يبخ بخار الغضب الأسود.
هذا المتغطرس الذي سطا على فلين معمورة واستأثر بثرواتها، يتبجح أنه يحدث مناصب للشغل. وما قيمة ما يؤديه من ثمن بخس لعشرة أفراد يستخدمهم خدمة المستعمر، أمام الكلفة البيئية التي تؤديها معمورة من جراء كلوم وندوب تُخلِّفها عملية جني الفلين؟ هذه العملية التي تكلف ميزانية الدولة أموالا قلما تعوضها مداخيل بيع الفلين لأصحاب المعامل.
لقد قاسى المغاربة زمن الاستعمار المخزي الكثير من أمثال هذا الرجل، وخاصة منهم بعض أهل كرسيكا. هؤلاء كانت لهم عقدة الشعور بالدونية أمام الفرنسيين القاريين. ولربما أرادوا التخلص من هذه العقدة من خلال الاستعلاء على المغاربة.
بعد أشهر من هذه النازلة جاء مهندس صديق للمهندس “محفوظ” لزيارته، فقال له: "إن صاحب المعمل التجأ إلى الشخصية الأمنية التي كانت تحميه في الرباط، وكانوا قاب قوسين أو أدنى من تدبير شيئ من المكر للتنكيل بك، إلا أن ذلك الشخص الخطير الذي يحميه لم يجد من ينقذه من الموت في ظروف حادثة غامضة مع شاحنة صدمت سيارته في مدينة من مدن الجنوب". والله أعلم بصحة ما قاله ذلك الصديق. بعد ذلك سمع “محفوظ” أن حريقا مهولا شب في معمل الرجل الغضبان. وجاءه خبر مفاده أن أصحاب هذه المعامل النخرة التي لم تجدد تجهيزاتها منذ أيام الاستعمار، يعمدون إلى إشعال الحرائق فيها للحصول على مبالغ خيالية من شركات التأمين. والله أعلم. والذي يهم “محفوظ” أكثر هو أسفه لعدم قص نكتته الثانية.
يستعد رجل الغابة السيد "أبو صفقة" للإشراف على التحضير لتجربة في غابة معمورة. تجربة دواء بيولوجي آمن للقضاء على يرقات فراشة الفلين. هذه اليرقات قبل طيرانها سحبا كثيفة في جو الصيف، تتغذي بنهم في فصل الربيع على أوراق شجر البلوط، فتجرد الغابة من كسائها الأخضر، لكن سرعان ما يتجدد قبل نهاية الربيع. ربما أضعف ذلك شجرة البلوط، وقلل من إنتاج ثمارها التي تمتاز بحلاوتها وعظم حجمها عكس البلوط الأخضر الذي ينمو في الجبال. فهو إذن لا يبلغ خطورة إفساد الأنسان، بل يساهم في التوازنات البيئية الكبرى التي تعيد بها الطبيعة تجددها وترميم نفسها.
تمت التحضيرات المكتبية للتجربة مع المهندس المتخصص في علم الحشرات الذي قدم من محطة الأبحاث والتجارب الغابوية بالرباط . خرج "أبو صفقة" مع ثلة من أعوانه بصحبة المهندس لمراقبة نشر الدواء على الأشجار بواسطة الطائرة. لقد حبذ هذا العمل العلمي الذي من المفروض أن يكون هو الطاغي على الأنشطة اليومية عوض الاهتمام بالطوارئ التي تخل بإنتاجية العمل المثمر. تحمس للتجربة كذلك لما له من سابق معرفة بالدواء البيولوجي الذي لا يحدث أي مضاعفات جانبية للمخلوقات الأخرى كالنحل والحجل مثلا ما خلا هذه الفراشة المسكينة. هو عبارة عن خميرة مجففة لمكروب اسمه "باسيلوس تورجيانسوس". اسم معقد استعصي ذكره على لسان العون بزوان، لما تسلمه البارحة من الشركة المسوقة له، في انتظار تحميله طائرة الرش بعد خلطه بكمية مدروسة من الماء. كان "أبو صفقة" حاضرا وقت التسليم، لما شعر بمعاناة بزوان وهو يحاول تكرار اسم المكروب فلم يفلح. قال له لرفع الحرج عنه: " سميه خميرة وحسب". لكن كان له مشكل آخر، لقد توجس منه خيفة لسابق تجربة مع بعض السموم التي كان يداوي بها شجيرات المنبت. فلما فطن لذلك بائع الدواء قال له: "أنظر سوف أبين لك خلو المادة من أي خطر" فاغترف منها غرفة بيده وابتلعها قائلا "إنها مجرد خميرة ". بزوان، تحت أنظار رئيسه حمدون وصديقه في جاهلية الابتلاء باحتساء الخمرة، بادره بالسؤال " هل تسكر" فضحك الجميع من هذه الدعابة التي لا تنم إلا عن انشغال بزوان بمحنة التعافي من جاهليته، وتوخيه الحذر الفطري من المجهول.
تتبع "أبو صفقة" التجربة بكل حماس. ولاحظ أمورا كان حدسه قد توقعها، لكن لم يبح بها. فضل وضع سؤال على المهندس الخبير. قال له:" ما هي توقعات التجربة التي تريد اختبارها ميدانيا بعدما تيقنت أن الجرثومة تقضي في المختبر على اليرقات؟ فأجابه قائلا:" بالطبع سترتاح الغابة من نهم هذه الحشرة الطفيلية." سرح عقل المهندس "أبي صفقة" في التفكر في خلق الله وهو في الطريق الغابوي لمنطقة التجربة. انطلق من مبدإ استحالة العبث في ظهور مخلوق من المخلوقات. كل له وظيفته، وبالتالي حقه في أداء مهمة استمرارها في مجرى الحياة، وانتهى إلى فكرة الخلق بقدر، والميزان الذي به يتحقق التوازن بين المخلوقات لكي لا يطغى بعضها على بعض. هذا التوازن سرعان ما يحطمه الإنسان بتدخله العنيف المفسد.
كتم "أبو صفقة" ما يجول في خاطره، وكتم كذلك توقاعاته الشخصية من التجربة. أخبره حدسه أن حل معالجة الغابة بواسطة هذه الجرثومة ، لن يكون سوى مسكنا ترقيعيا يؤجل ظهور حق الطبيعة الحاسم الذي تفرضه قوانين البيئة. قوانين البيئة هي كلمات الله التي لا يتجاوزهن بر ولا فاجر، فرضت على الجميع لتحقيق التوازن والعدل بين خلق الله في استحقاق الحياة منذ فترة من الدهر لم يكن الإنسان فيها شيئا مذكورا. ثم ظهر الإنسان المؤثر المغير لخلق الله. فإن اهتدى إلى احترام قوانين البيئة يكون من الذين طبقوا العدل فيستحقون بذلك مرتبة الاستخلاف. وإن خالفها لسبب من الأسباب كان من المساهمين في الاختلال الذي يتبعه الفساد في الأرض. والله لا يحب الفساد.
حاشا معاذ الله أن يقصد "أبو صفقة" أن صديقه الخبير في الحشرات من المفسدين، أو أنه لا فهم له في قوانين الاستخلاف. على العكس من ذلك حسبه من الأخيار الذين يحاولون إصلاح ما أفسده أمثال صاحب المعمل السابق ذكره. وبالفعل سوف يعلم بعد عقود أن هذا المهندس الخبير في الحشرات سيكون إطارا مسؤولا على رأس حركة إصلاحية مهمة في المغرب.
مرت سنة على التجربة، ولم تنتظر الإدارة نتائجها لكي تطلب اعتمادات كبيرة لشراء الدواء من الخارج، ولعقد الصفقات مع أصحاب طائرات المعالجة.
دخل "أبو صفقة" قاعة الاجتماع في الإدارة المركزية لكي يبسط برنامج المعالجة بالطائرة الذي طلب منه تحضيره. عندما أنهى مهندس مصلحة الخميسات المكلف بمعمورة الجنوبية عرضه، جاء دور "أبي صفقة" لعرض ملفه. وبادره المسؤول المركزي بتبشيره بالملايين المخصصة له لمباشرة العملية. ترقب الحضور رؤية الملف بخرائطه المزركشة وأرقامه المضبوطة ومعلوماته الدقيقة كما هو معهود في الملفات التي يعدها "أبو صفقة". كم كانت مفاجأة الجميع كبيرة عندما صرح لهم أنه لم يحضر أي ملف، ولن تكون في غابته أي معالجة. "ما هذا هل فقدت صوابك يا صديقي" صديقه الذي يأتي له ببعض أسرار الرباط يحاول بصوت خافت لا يسمعه أحد، حثه على إلقاء ملفاته السحرية على الطاولة أو على لوحة العرض الالكترونية. أجابه المشاغب "أبو صفقة" ولكن بصوت يسمعه الجميع: " إنني جاد في قولي لن تكون هناك معالجة. فاسألوني لماذا أجبكم عوض الاستمرار في رسم علامات الاستفهام على الجباه المقطبه." أخبرهم في هدوء بعدما سقط عليه وابل من التساؤلات الملحة، أنه لا يعقل معالجة مرض اندثر ولن يبق له أثر لبضع سنين. وزاد موضحا " أتريدون إهدار أموال الدولة في العبث؟ فافعلوا ذلك إن شئتم في دوائر الخميسات، أما معمورة الشمالية فأنا لكم من الضامنين لسلامتها ولن يصيبها هذه السنة أي سوء من يرقات فراشة الفلين. كونوا مطمئنين، آمنين. قال له صاحبه: أتريد أن تسحرنا بهذيانك؟ ألك حجة لتبرير هذا الموقف المريب؟ منذ سنين والغابة في موعد موسمي مع الآفة وتزعم الآن أن السنة ستمر بسلام وأمان؟ لإسكات موجة الصخب التي كادت تميل لهرج من السخرية والكلام النابي، رفع "أبو صفقة" سقف التحدي وقال لهم: " اسمعوا إن شئتم وقعت لكم رسالة استقالتي إن حدث أي تجريد للغابة من أوراقها بسبب قضم اليرقات هذا الموسم."
كان من ضمن الحضور ممثل عن محطة الأبحاث الغابوية. شعر بالحرج الشديد. لم يرقه الحديث عن موضوع علمي هو من أول المعنيين به، وقد كان وراءه جيش من الخبراء الفرنسيين يساعدونه في محطة الأبحاث . وبحكم طبيعة عمله المبني على التجربة، اقترح على الحضور النظر العلمي للموضوع والتقييم الميداني للأمر. لكن الآمر الناهي في المجلس أبى إلا أن تكون كلمته هي العليا. قال لأبي صفقة: "موقفك هذا لا يمكن اعتباره إلا مجرد رفض لامتثال الأوامر الإدارية، ربما سيكون ثمنه باهظا". قال له أبو صفقة متحديا: " نعم، ثمن استقالتي " ولم يجبه المسؤول بل توجه بحديثه إلى ممثل الخميسات قائلا له " أهنئك على حسن إعداد ملفك، فاشرع للتو بإعداد الصفقات، فلم يبق المزيد من الوقت لتضييعه في مثل هذه الطرهات التي لم نسمع مثلها إلا في عالم السحر والخرافات ." والتفت إلى "أبي صفقة" يحثه على إعداد ملف الصفقة والإعراض عن شغبه. وزاد قائلا: " إن لجنة من الرباط ستكون عندك قريبا لافتحاص الحالة". وشرع بكفاءته المعهودة في تحديد المشاركين في اللجنة مرجحا كفة الإداريين خبراء الصفقات على كفة العلميين الذين غالبا ما تجدهم يدورون مع الحق حيث دار.
في طريق رجوعه إلى القنيطرة، أشار "أبو صفقة" للسائق السيد "منيد " أن يسلك طريق مهدية متدرعا برغبته في شراء شيئ من السمك الذي تأتي به السفن إلى المرسى الواسع الذي شيد قرب مصب نهرسبو الواسع. وهو في الحقيقة أشد رغبة في قص ما جرى لطيور النحام الوردي الآمنة التي تشق عباب مياه البحيرة المجاورة للبحر المحيط، باحثة عن قوت يومها لا تتعداه. فهل منعها عدم التكديس للثروات كما يفعله الإنسان الجشع، من التحليق في عالم الحرية والرقص والتغريد وبناء العش والاهتمام بالنسل؟ كأن "أبا صفقة" سمع من خطوات سعيها الحثيث لتأدية أمانة الحياة همسا يقول له: "لا تقنط". اشتكى معاناة يومه لأمواج البحر مقبلة مدبرة لا تفتر على مر الدهور في تأدية مهمتها التي خلقت من أجلها، تهوِّي الماء لئلا يتعفن بالركود، وتخيل له أن صوت مداعبتها للرمال الذهبية يقول له "لا تقنط... حاول أن لا تتغير إلى ما يريدون... بالدخول في لعبتهم تظن أنك الرابح وقد خسرت نفسك... قاوم ولا تقنط"...
هكذا. كل ميسر لما خلق له. لن يستطيع الإنسان تقمص شخصية غير شخصيته، ولا أن يتبع قدرا غير قدره...
كان بإمكان "أبي صفقة" إرضاء رؤسائه في إبرام الصفقة، ولو لم يكن مقتنعا بها فيكون بذلك مسايرا للخط الذي رسموه. وسيكون ذلك خير ضامن للترقي في أسلاك الإدارة التي تنتقي بحذر رجالاتها. هؤلاء يطلب منهم الامتثال للأوامر دون أن يسمح لهم أن يضعوا عليها لمسات إبداعهم الذي يحاول تغيير واقع بئيس، الذمم والكرامة والشجاعة والتعفف وكل القيم التي ترتقي بها الأمم إلى مراتب الاستخلاف، تظل فيه كلمات جوفاء لا حياة فيها.
في اليوم التالي، كلما دخلت الكاتبة مكتب المهندس "أبي صفقة" إلا واعتقد أنها ستخبره بزيارة لجنة الرباط.
سبق هذه اللجنة رجل غريب الأطوار لم ير "أبو صفقة" أحدا مثله. استأذن الكاتبة ودخل المكتب وهو يتمايل من حالة سكر لم يقو على إخفائها. دخل صلب الموضوع مباشرة قائلا " لماذا لا تريد عقد الصفقة مثل ما فعلوه في مصلحة الخميسات" قبل أي جواب نادى المهندس على الفرسان الذين يحرسون المصلحة، وطلب منهم إخراج هذا الرجل وقال له : "سوف أستقبلك عندما تعود إلى صحوك."
علم "أبو صفقة" أن الرجل سبق الأحداث واشترى المعدات اللازمة للصفقة، وسيخسر الكثير إن لم تعقد القنيطرة تلك الصفقة. هذا الطفيلي ظن أن "أبا صفقة" من طينة الذين تغويهم الدنيا، وزخرفها. ربما قال له أحد أن يجرب حظه مع صاحب القنيطرة، وإلا فما دخله في عمل الإدارة؟ وهل ستسقط عليه الصفقة ولن تذهب إلى مشارك آخر ينافسه؟ هذا نموذج لتلك المنغصات التي تحاول تكبيل وإعاقة الممارسة العلمية للمهنة مثلما يمارسها الناس في البلدان المتقدمة.
وأخيرا جاءت لجنة التقصي من الرباط. واستبشر "أبو صفقة" خيرا لما رأى من ضمنهم ممثل الأبحاث الغابوية.
قبل الخروج إلى الغابة استقبلهم وهو مطمئن واثق من نفسه، فقال لهم مشيرا إلى الخرائط الكبيرة التي علقت في لوحات في مكتبه: اختاروا أي موقع تريدون، ليكون المنطلق للفحص الذي فيه ترغبون. فانطلق الوفد بالسيارات الرباعية الدفع إلى عمق الغابة وهم لا ينطقون. فلما بلغوا الموقع الأول، قال لهم "أبو صفقة": " من منكم يأتيني ببيض حي لليرقات التي تحذرون؟ وكانت الأعشاش كثيرة في أخاديد الجذوع والغصون. وكلما أتوا بعش فحصه صاحب الأبحاث الغابوية، فلا يجد سوى بيضا جافا ليس للماء فيها باقية. فيجزم أنها من الحياة خالية. حتى إذا غربت الشمس بعد افتحاص المواقع النائية، قال لهم صديقه في الرباط: " ألم أقل لكم إنه رمى البيض بسحر مبين. فتبسم القوم من قوله ثم انطلقوا وهم يتخافتون، ماذا عساهم في تقريرهم يكتبون؟ وانصرف عنهم وتركهم لتدوين ما يرغبون، ونجاه الله من الصفقة التي كانوا عنها يبحثون، وكذلك من الاستقالة التي كانوا ينتظرون.
لقد هجم هذا الأسلوب على صاحبنا يذكره بمعاناة الرسل في محاولاتهم لإحقاق الحق وإزهاق الباطل. في زمنهم كانت المعجزات البينة التي يتلقاها المرجفون بتهم السحر والجنون وبأنواع المكر الذي يمكرون. بقيت منها معجزة حفظ القرآن من تزوير المزورين. كتاب الله الذي ينور العقل المكلف المسؤول، ويحفظه من طمس البصيرة الذي يتربصه إذا تعلق بزخرف الدنيا الزائلة وكان من المرتشين. ومن كان مطموس البصيرة، لا يمكنه سماع وحي الغابة، الذي يقص عليه أسرارها، ويحكي له أشجانها .
ما كان هنالك من سحر ولا شيئ مما يدعون. كشف الله لعقل الباحثين في القوانين العلمية البيئية عن دورات الانتشار ودورات الاندثار التي تميز كل أمة من خلق الله والحشرات أمم أمثالنا.
لقد أثار انتباه "أبي صفقة" حدث غريب لما كان يتتبع تجربة المعالجة التي قام بها صديقه الباحث في محطة الأبحاث في الموسم الماضي. لاحظ وابلا من اليرقات تتساقط ميتة من شجرة جردت بالكامل من أوراقها. كان ذلك في جهة بعيدة عن المربع الذي عمته المعالجة. موت اليرقات لم تكن له علاقة بالدواء. سببه يعرفه أهل التخصص: لقد بلغ عدد اليرقات ذلك الحد الذي يأكل كل الأوراق، قبل أن يتم تخطيها مرحلة اليرقة. وفي هذه الحال تموت جوعا قبل تحولها إلى فراشات تتناسل وتنتج البيض الذي سوف يفقس السنة المقبلة. لقد لاحظ المهندس "أبو صفقة" نفس الظاهرة في كل المناطق التي زارها، وبعث أعوانه للتأكد من تكرارها في كل أرجاء معمورة فأكدوا له ذلك. وقبل أن يشرع في إعداد الملف الذي طلب منه لتحضير صفقة المعالجة، قام بجولة ميدانية تأكد فيها من خلو الغابة من بيض السنة، وكل الأعشاش التي تُرى بكثرة كانت أعشاشا قد فات أن فقست الموسم الماضي. لذا لما فحصها خبير محطة التجاريب وجدها خالية من أي حياة.
هكذا... لا سحر هناك ولا شيئ مما يدعون، إن هو إلا وحي الغابة يفهمه المتفكرون، ولكن أكثر الناس يمرون عليه وهم عنه معرضون.
إلى عهد قريب كان سمك الشابل وسمك النون وأنواع من ثمار البحر تتبع مجري نهر سبو وتتوغل بعيدا داخل الأراضي متجهة نحو النبع لتكمل دورة حياتها بين البحر المالح والماء العذب. الشابل كان هو بمثابة "سلمون" المغرب. كان اصطياده يتم بواسطة تعاونية ترعاها مصلحة المياه والغابات، تضم المئات من الصيادين بقواربهم وشاحناتهم وجراراتهم. كانوا يصطادونه بكفاءة من مهدية إلى فاس، في منعرجات نهر سبو الشيقة، على مسافة تتجاوز الثلاثمائة كيلومتر. كانت خيراته الوافرة تضمن العيش الكريم للصيادين وأسرهم، ولا تطلب منهم سوى عناء بضعة أشهر من أشهر الربيع. صيده الآخذ من أعداده الهائلة برفق، كان لا يخل بتناسله واستمراره في التنقل بين البحر المحيط، يتجول في عبابه حتى مشارف أمريكا، ثم يرجع في مواعد مكانية وزمانية بالغة الدقة، نقشت في ذاكرة فطرته لا تكاد تجد لها تبديلا.
أما سمك النون، وصغيره، فكان أكبر انتشارا في المنطقة. يكتسح كل الوديان والجداول والضايات، في حيوية وإصرار على مواصلة أطوار دورة حياته. أسراره غريبة وأطواره عجيبة، لا يحيط بها إلا ذوو الألباب والعقول المتفكرة في الخلق. يتوالد في مياهنا العذبة، ثم يولي وجهته بدقة البوصلة إلى بحر "الصركاص" في الجهة الأمريكية للمحيط الأطلسي. وينمو ثم يعود إلى نفس المواقع التي ولد فيها ليكمل دورة حياته. كبير سمك النون لا يعرف قيمته إلا الإيطاليون الذن يأتون إلى مصلحة المياه والغابات يعقدون معها عقود كراء حق اصطياده، ويرحلونه إلى بلادهم نظرا لارتفاع ثمنه هناك. أما صغير سمك النون، " سيفال " بالفرنسية فيعتبر من أغنى البروتينات في العالم. استغلاله يتبع نفس النهج الذي يهم كبير النون.
ثروات متجددة تأتي بالأموال الطائلة للصيادين، وكذلك للدولة عبر صفقات كراء حق الاستغلال. وتعتبر موردا غذائيا قيما للمواطنين وكذلك للزوار الأجانب الذين كانوا ينفقون بسخاء لتناول وجبات "السيفال" وشواء سمك النون.
كل ذلك كان حتى نهاية عقد السبعينيات، ثم اندثر بغتة ولم يبق له أثر في ظرف سنة أو سنتين. هكذا فجأة. تلك قصة لم تفاجئ مهندس المياه والغابات السيد “حامي النون” الذي سيحكي ما وقع، تأدية لأمانة الشاهد على الكارثة، درسا للأجيال المقبلة، ربما يفيد القائمين بالقسط، المصلحين ما أفسده الجشع، وما أروع تعبير المدبر الخبير، يجمل ما يستشكل فهمه في كلمات تنذر الجشعين لعلهم يرشدون: ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم:41)، ويدعو في قول بليغ إلى الانخراط في صف المناضلين ضد التلوث الذي يجرم صاحبه الظالم الجشع. قال عز وجل: ( فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) (هود:116)
يستعد رجل الغابة " حامي النون" دخول مكتبه، دخول المكره، ذات صباح من أيام الربيع، لأن مثل ذلك اليوم الساطع المنعش، يفضل صرفه في الغابة التي تزينت في أبهى الحلل للسائحين الهائمين في حب الطبيعة، استعدادا لاحتفال مهرجان الزهور. رتب الأوراق والملفات التي أمضاها في ساعة متأخرة من الليل يوم أمس، وسلمها للكاتبة لكي تأخذ مجراها الإداري المحدد. دخل المهندس المكلف بشؤون الجماعات ومعه الملف الذي يحتاجه اجتماع خصصته الولاية لتدبير شؤون بلدية مهدية استعدادا لموسم الاصطياف.
اندهش المهندس”حامي النون” من الحضور المكثف في ذلك الاجتماع بالعمالة الذي ترأسه عامل الإقليم. أخذ مكانه بجانب رؤساء المصالح التقنية، وكان الجانب المقابل من مائدة الاجتماع مخصصا لثلة من المقاولين ورجال الأعمال المرموقين. وقريبا من الرئيس تتابع برلمانيو الإقليم ورجالات السلطة وممثلو الجماعات القروية والحضرية. وكان هناك كذلك فريق من المصورين الذين يعدون الأرشيف بالصوت والصورة لكل تظاهرة مهمة.
كل مصلحة من المصالح التقنية أسندت لها مهمات في مجال تخصصها لبلورة الاستعداد للموسم في صيغة مشاريع ينبغي إنجازها قبل حلول الصيف. في هذه العجلة، وفي هذا الجو المكهرب الذي يكون مناسبة لصدور أمر الآمرين، ولظهور مزايدات التقنيين، ولبروز مخالب المصلحيين، من بين بعض المقاولين وبعض أهل الدواوين ، أثار انتباه المهندس “حامي النون” مشروع من المشاريع "الضخمة". إنه مشروع الواد الحار لمدينة مهدية. بقدر ما كان يتوغل مهندس الولاية في بسط تفاصيله، بقدر ما كان ينتصب حدس “حامي النون”، ينذره بقرب حلول كارثة بيئية لم يشهد تاريخ المنطقة مثلها. عادة ما يركن الناس إلى الصمت في مثل هذه المجالس لا يتكلم إلا من يأذن له كبير وزارة الداخلية، ولا ينبغي من القول إلا ما لايعارض الخط المرسوم، وفق برنامج معلوم.
انتصبت غريزة التدافع الطبيعية عند “حامي النون”، واسأذن عامل الإقليم لإبداء رأيه حول المشروع. ناولوه الميكرو وبدأ يشرح ملاحظاته. وضح بداية أن تصميم مصطاف مهدية الذي وضعه تقنيو فرنسا لم يتضمن أي تخطيط للواد الحار. هل كان ذلك نسيانا منهم ؟ لمذا غفلوا عنه ؟ ما كان هناك من نسيان ولا تغافل. لقد كانوا على علم أن لا ضرورة لذلك، نظرا لموقع مهدية فوق التلال الرملية التي تبتلع مياه الصرف بسهولة، خاصة أثناء الصيف حيث يكبر صبيب المياه المصروفة في الحفر التي تعد إعدادا صحيا في كل منزل من منازل الاصطياف.
لم يكن “حامي النون” يتوقع أي معارضة لشرحه عندما ارتفع فجأة صوت أحد المقاولين المعروفين، مقاطعا إياه بدون أي أدب استئذان: " وما دخلك أنت في المشروع "؟ فلم يكترث “حامي النون” لتدخله المبتذل، لاسيما وأن الجواب على استفهامه سيأتي في سياق ملاحظات “حامي النون”. قال متمما لعرضه: " لقد توسع العمران في مهدية وستصبح عما قريب مأهولة طيلة السنة، فإذا قُدر للواد الحار الملوث أن يُصرف في مصب نهر سبو، فستحدث كارثة بيئية في النهر الذي يدخل في مجال اختصاص المياه والغابات، وهذا سبب تدخلي". وختم محذرا: " عند إنجاز المشروع سوف نصلي صلاة الجنازة على سمك الشابل وعلى سمك النون وصغيره "لاسيفال" وعلى تعاونية تضمن الرزق لأكثر من مائة عائلة."
لم تكن دراسات الوقع على البيئة معروفة في نهاية السبعينات. وما دراسات الوقع الحديثة سوى بسط للأفكار التي جاءت في تدخل “حامي النون”، مدعمة بالأرقام والخرائط والعروض المزركشة. آفتها وعيبها القاتل أنها تأتي دائما متأخرة عن موعدها، لأن الإفساد يبدأ قبلها بكثير، عندما ترصد الاعتمادات المغرية، ويقع استغفال المبادئ لكي تمر المصالح بسلام.
بعد ذلك الاجتماع قيل لمهندس المياه والغابات ”حامي النون” إن المشروع قد أنجزه المقاول المعلوم بسرعة البرق رغم المعارضات والكتابات. فقال “حامي النون”: " وداعا يا سمك الشابل " ولكن لم يقل وداعا للنضال، لأن النضال هو الوجود، والاستسلام هو العدم.
بعد سنة من ذلك الاجتماع دخل مدير التعاونية إلى مكتب المهندس “حامي النون”، وأخبره بمجرى الاستعدادات لموسم الصيد. وناوله شيكا ليوقعه ثمنا لشراء ثور جرت العادة بذبحه احتفالا يدشن الموسم. لقد حقق الموسم الماضي نتائج وأرباحا بلغت أعلى مستوى لها منذ نشأتها. وفي نشوة تلك النتائج، يستعد الصيادون في حفاوة وحماس لإنجازات أفضل في الفصل المقبل. رد “حامي النون” الشيك خاليا من أي توقيع. وقال للمدير: " اشرع في الموسم واستمهلهم في الاحتفال". ولم يبد للمدير ما يجول في خاطره من أفكار شؤم حول مستقبل التعاونية.
نعم سوف يذبح الثور ولكن لمناسبة لم تكن فيها بهجة. إنها مناسبة عزاء في وداع سمك الشابل وفي موت التعاونية. وإنا لله وإنا إليه راجعون. ربما كانت هناك ملوثات أخرى ساهمت في موت نهر سبو. لكن "الواد الحار" الذي يفرغ حمولته الضحلة عند المصب، مساهما في تلويث مياه المد البحري، كان يمثل القشة التي قصمت ظهر البعير.
ومنذ ذلك الحدث صارت للمهندس ”حامي النون” حساسية يتقزز منها جلده، ضد مشاريع تدشين الواد الحار، وكذلك مشاريع "هز وحط الطروطوار"، خاصة إن كان المدشن من المسؤولين الكبار، والمقاول من الذين لا يعبأون بسوء القرار، لما يحدثه للطبيعة من دمار، ونعوذ بالله من أعمال أهل النار.
لم يجد رجل الغابة السيد “غيور” في أجندته ما يكفي من الوقت لقراءة الأسفار الضخمة للمخطط المديري لمدينة القنيطرة المرسول له من مصلحة التعمير عبر العمالة. لقد طُلب من المياه والغابات تفحص المخطط وإبداء الرأي فيه، والحضورلاجتماع في بلدية القنيطرة في يوم من أيام غشت التي توشك أن تكون الإدارات خالية من موظفيها... الاجتماع غرضه المصادقة على المشروع، بعد مراجعات محتملة تمليها ملاحظات مختلف الإدارات المعنية.
قصد “غيور” الجانب الذي يهم مجال اختصاصه، فحرر مسودة للملاحظات، سوف يمحصها خلال المناقشة قبل بعثها رسميا للعمالة والوزارة، لأن في المشروع ما يؤخذ وما يرد، فيما يتعلق بالبيئة والمياه والغابات والمراعي.
لقد شعر “غيور” أن الغرض الأول من هذا الاجتماع هو المصادقة والتمرير الآمن الذي يعفي مصلحة التعمير وكذلك الشركة الأوروبية المكلفة بالمخطط من عناء المراجعات المكلفة للجهد والوقت والمال. دليل ذلك واضح في اختيار الزمان والمكان لموعد الاجتماع. شهر غشت وقاعة البلدية ؟ تلك إشارة لاجتماع من الدرجة الثانية الذي لا يحضره إلا النواب عن مسؤولي الإدارات . هؤلاء يرجى معهم تمرير القرار بسلام وأمان. لكن “غيور” لم يكن ليتخلف عن ميدان من ميادين نضاله لحماية الغابة. لقد أجل إجازته السنوية من أجل لذلك.
بعد عرض سريع للمشروع ألقاه بالوسائل السمعية البصرية مديرالمكتب الأوروبي للدراسات العمرانية، دار النقاش لاستكشاف رأي الإدارات المختلفة. جاء دور “غيور” فأوجز ملاحظاته في أربع نقط :
أولا مسألة حماية البيئة وعلاقتها بالموقع الذي يخصصه المخطط للمنطقة الصناعية. ثانيا توسيع العمران على حساب الغابة. ثالثا المدينة وعلاقتها مع نهر سبو والبحر المحيط.
قال شارحا تلك النقط :" لقد اختار المخطط مساحة جنوب غرب المدينة لتكون منطقة صناعية للمدينة، والمعروف أن التيار الغالب للرياح يأتي منها قبل الوصول إلى المدينة. وهذا يعني أن التلوث سيجتاحها كما حدث لمنطقة عين السبع بالدار البيضاء، فظهرت الحاجة القصوى لنقل المعامل التي كانت فيها إلى مناطق أخرى."
لم يترك مدير الدراسة “غيور” ليتم عرضه. قال في نقطة نظام آملا أن يكون الحسم سريعا بالنسبة للنقطة الأولى:" الصناعات التي ستكون في المنطقة هي من النوع الخفيف الذي لا يلوث". فسأله “غيور” وأين ستكون منطقة الصناعات الثقيلة؟ فبُهت الذي مكر ولم يعقب. وضح له “غيور” حدود مهمته قائلا: " لقد طلب منك التخطيط لموقع الحي الصناعي فحسب، أما الجهة التي تخطط لنوعية الصناعات فلربما هي من اختصاص إدارات أخرى، فليس من المنطق التدخل في شأنها."
هيهات أن تكون الأمور تستند إلى المنطق الذي تراه سذاجة مهندسنا... سيعلم بعد حين بكل أسى وأسف أن الإدارة المكلفة بالتخطيط الصناعي استولى عليها كذلك عقل المكاتب الدراسية الأوروبية، يوجهها حيث يشاء. ولربما يكون التنسيق بين تلك المكاتب هو الذي أخبر مسؤول دراسة التصميم المديري للقنيطرة بنوعية الصناعات التي ينبغي تشجيعها لوأد أي صناعات يمكن أن تنافس صناعاتهم الثقيلة. ولكنه أحجم عن الرد حذرا من هتك الأسرار. و”غيور” يحكم بالظاهر والله يتولى السرائر.
النقطة الثانية: التوسع على حساب الغابة الذي خططه المشروع بحجة أن المدينة منخنقة بين نهر سبو والغابة، وهي القضية التي تهم مباشرة “غيور”، قال في مرافعته لدفعها : " لو لم تكن هناك مساحات شاسعة بين المدينة ومهدية خالية من أي كساء غابوي، ولو لم تكن حلول الميترو وحلول الطرقات السريعة المعلقة بين السماء والأرض كالتي نراها في مدنكم في الغرب، لو لم يكن ذلك لكنت مترددا في معارضة أي توسع على حساب الغابة. لذا لا يمكن لإدارتي أن تصادق على أي مساس بالوضعية العقارية للغابة."
النقطة الثالثة أبدى فيها “غيور” أمله في تشييد المدينة على ضفاف نهر سبو العظيم وتهيئة كورنيشات سياحية على ضفافه، لكي ترقى المدينة لرونق المدن الأوروبية المشيدة على ضفاف الأنهارمثل باريز ولندرة و لشبونة وغيرها. واقترح كذلك تشجيع الوظيفة البحرية للمدينة بإحياء ميناء سبو وتوسيع ميناء مهدية وتشجيع الأنشطة البحرية، لكي يبتعد الفقر قليلا عن المناطق الغابوية، فتنعم بشيء من الأمن من الأيادي الآثمة التي تحطمها بوازع البحث عن لقمة العيش، وكاد الفقر أن يكون كفرا بالتشريعات الحامية للغابة.
كان ذلك في بداية الثمانينيات. ربما أفلح “غيور” في رفع الوعي البيئي عند بعض شباب الناحية، ربما تكونت جمعيات لحماية معمورة، ربما لم يحدث أي توسع على حساب الغابة، ربما توسعت المدينة في اتجاه مهدية...
لكن "الترام" و "الميترو" ، والطرق السريعة المعلقة بين السماء والأرض، والبنايات الغارقة في بحور الخضرة، والكورنيش على ضفاف سبو، والصناعات الثقيلة، والصناعات التحويلية التي يحتاجها سهل الغرب العظيم، والمرسى السياحي لنهر سبو والمرسى الكبير على البحر المحيط... وغيرها من الأحلام التي كانت تراود “غيور”، فعن جمالها يتحدثون ولم ير منها الأثر. أحلامه كان يمكن أن تتحقق في أوروبا أو حتى في البلدان التي كانت في مصاف المغرب في السبعينيات والثمانينيات كإسبانيا وكوريا والصين وسنغفورة، ثم استطاعت الالتحاق بركب التقدم وتركت بلادنا في دركات التخلف والفقر.
فهناك إذن عمران وهنا عمران، وهناك مشاريع وهنا مشاريع. وهناك تدشينات وهنا تدشينات. وهناك استراتيجيات وهنا استراتيجيات.
هناك في البلدان المتطورة عمران تهجم عليه الغابة وتلفه في رونق جمالها وعليل عبقها، عمران ينافس أشجار الغابة في الانتصاب والتطلع إلى السماء منتعشا بشمسها الساطعة وهوائها النقي. وهناك في البلدان المتخلفة عمران يهجم على الغابة وعلى الأراضي الزراعية، زاحفا على بطنه، تنينا يضرم النار في الشجر لتخلي المكان للرمل والغبار والحجر.
هناك في العالم المتقدم مشاريع صناعات ثقيلة تُصنِّع ، تبتدأ من الحديد وما شاكله من مواد بانية للقوة والبأس الشديد، وتنتهي في صناعة هذه السيارات والشاحنات والجرارات والسفن والقاطرات التي تحتكر أسواقنا، وتبلع أموالنا، وتعطل حيوية شبابنا وخبرة شيابنا، لأننا حُرمنا المساهمة في صنعها.
وهناك في البلدان المتخلفة مشاريع سموها تبجحا "مشاربع كبرى" وليس لها من الكبرياء سوى نصيب الهر الذي قيل فيه:
" مما يقـبح عـندي ذكر أندلـس *** أسماء معـتضد فيهــا ومعتمـــــد
أسماء مملكة في غـير موضعـها *** كالهـر يحكي انتفاخــا صولة الأســد "
تبدأ باستراتيجيات مكاتب الدراسات الأجنبية كالتي كنا بصددها. ثم تتبلور في مشاريع تدشين الواد الحار وما شاكلها من ترميمات الطوار، ثم تتطلع للكبرياء الزائفة عبر مشاريع جوفاء كالتي يزخر بها عالم السياحة والعقار، غايتها السطو على الملك الذي فيه الناس يشتركون، و"الناس شركاء في ثلاث : الماء والكلأ والنار". تسطو على الشطآن الجميلة محاولة تخصيصها للمتقاعدين من أوروبا يفعلون فيها من المجون ما لا يخفى. تجتاح المراعي والغابات مغتصبة عذريتها بعمران ينعش غربان العقار، لا قيمة مضافة له في عالم الاقتصاد القوي وصحيح الاستثمار، ناهيك عما يحدثه للبيئة من دمار.
ستنقشع ضبابية سذاجة “غيور” بعد سنين. ومن خلال الاحتكاك عن قرب مع مؤسسات البنك الدولي والبنوك الأوروبية، سيكتشف كيف يُموَّلُ سريان التصحر، وانتشار الفقر، وكيف غرقت بلادنا في مديونية قاتلة رهنت مستقبل أولادنا، لدفع ثمن ذنب لم يقترفه سوى ثلة من الذين ضل سعيهم في حياتهم المهنية باستجداء القروض القاتلة، وهم يحسبون أنهم قد أحسنوا صنعا.
بعد تفقد ما تنزل على مكتبه من إرساليات ووثائق مختلفة، وبعد تضمينها ملاحظاته وتوزيعها على أقسام إدارته، عن طريق مكتب الضبط، ألقى مهندس الغابة السيد “محذر” نظرة أخيرة على ملف "مشروع معمورة والغرب لتجديد غابات الأوكاليبتوس". هذا المشروع أعده رئيسه بطلب من الإدارة المركزية التي يتنافس رؤساء الأقسام فيها لتحضير المشاريع تلو المشاريع في مجال اختصاصهم. يراودهم حلم الذهاب إلى نيويورك أو بروكسيل لتوقيع العقود الربوية لتمويل مشاريعهم المقترحة.
وتلك كانت بداية "لموضة" سوف تطغى على كل الإدارات. ما كان يُتوقع أنها ستُـفضي إلى مديونية خانقة لا طاقة للبلد بتحملها إطلاقا. المهم أن يحصل المشروع على التمويل المأمول وكفى.
لم تكن تلك "الموضة" سوى فوضى عارمة لم تبق لمعاني سيادة الوطن فيها أي اعتبار يذكر. ربما كانت وزارة الخارجية لا يُعبأ بها في هذا المجال. ربما كانت وزارة الداخلية لا تتهمّم للأمر. لكن الأبواب كانت مشرعة على مصراعيها لدخول وخروج جيش من مسترزقة الأبناك. إنهم الخبراء - يزعمون - الذين يساعدون رؤساء الأقسام للفوز بالتمويل المأمول للمشاريع التي يُعدون. ينتظرون اليوم الذي فيه سيذهبون لتوقيع العقود الربوية في نيويورك أو في بروكسيل. وذلك هو الفوز العظيم الذي كانوا به يحلمون.
لم يبق للقانط”محذر” ذلك الحماس الذي يطبع البدايات لما بدأ يكتشف هذه الانحرافات الخطيرة التي سلكتها الإدارة. لكن من يكترث لهمومه وهو المهندس المحتاج لشهادة حسن السلوك التي سترفعه في السلم الإداري إن أراد أن يُعبأ برأيه.
المشروع الذي أُعد، كان متقنا دقيقا، علم “محذر” أن رئيسه استحق عليه تنويها مباشرا من البنك الدولي، وربما كان في رسالة التنويه اقتراح يغري بالعمل في المستقبل مع المؤسسة. وتلك الرسالة كانت كافية لتغيير ولاء الإطار، إن كان ضعيف الوعي أو ضعيف الذمة، فيصبح خادما مطواعا للعقول الأجنبية، غير عابئ بمصلحة بلده.
أعد “محذر” ملاحظاته التقنية حول المشروع، وذهب إلى الرباط لحضور اجتماع سيضع اللمسات الأخيرة عليه ليصبح مشروعا مثاليا ينال تنويه الخبراء مسترزفة الأبناك الخارجية.
بينما كان المهندسون زملاء “محذر” في شغل التنسيق لبلورة مسودة اللمسات الأخيرة، لم يعيروا أي انتباه لما قاله في ملاحظاته، حول إمكانية التمويل الذاتي للغابة لمشاريعها، وحول الآفات التي ستصيبها إذا قدر للتمويل الربوي الخارجي أن يحل بها.
مثل هذا الكلام، كان صاحبه يعد غريب الأطوار في تلك الفترة من استحواذ موضة استجداء القروض وسيادة الفكر الملحد على الإدارة.
ولقد أعاد صاحبنا هذا التحذير في كل المحافل التي بيدها القرار، لعل الغابة تسلم من الكارثة، لكن لاحياة لمن تنادي.
ومن الطرائف التي كان يحكيها لأولاده، أنه ذات يوم أتاه صديق له في الولاية يسأله:
- هل قلت فعلا في اجتماع من الاجتماعات: " إن الربا إذا دخل الغابة فسيعمها الأذى والخراب؟"
فأجابه “محذر”:
- هذا رأيي ولقد كتبته لإدارتي والرأي حر والقرار ملزم. ولقد صودق على التمويل الربوي للمشروع، وأنا الآن أنجز برامجه السنوية بكل أمانة وإخلاص، و"الحرام معلق بذمة صاحبه".
فقال له صاحبه:
- الأمر إذن هو هو، لا تفوتنهم صغيرة ولاكبيرة إلا أحصوها. لقد كُتب عنك تقرير يسجل هذا الرأي.
فأجابه “محذر” قائلا :
- لا ضير!
نعم لقد صودق على تمويل المشروع بحضور ثلة من أطر الإدارة في نيويورك. وكان ذلك مبلغهم من المجد. ولم يكن نصيب “محذر” إلا عناء التنفيذ لبرامج نزع جذور شجرالأوكاليبتوس بالبيلدوزيرات القوية، على مساحات تبلغ المئات من الهكتارات سنويا، وتعويضها بغرس جديد يضمن الإنتاج الوافر لتغذية معمل "السيليلوز" الذي يوجد بمدينة "سيدي يحيى الغرب".
لم يفته كذلك مشاركة الغابة أشجانها، فسأل الله أن يجعل لها في قضائه اللطف والسلامة.
كلما جاء تمويل مشروع من البنك الدولي، أو من المؤسسات التمويلية الخارجية الأخرى، كلما تقاه بالحفاوة والترحاب قوم يقظون متأهبون يملكون كل التفاصيل عن المشاروع وعن ظروف صرف أمواله.
لقد استعد ثلة من المواطنين اليهود للتعرض لنصيب من الأموال التي جلبها المشروع، وبسرعة فائقة، استطاعوا تكوين شركات للأشغال الغابوية، وشراء التجهيزات الضخمة. وحصلوا على تمويلات مسبقة لكل أنشطتهم. ولربما كان أداؤهم درسا مفيدا لزملائهم المسلمين... بداية تنافس كاد أن يفجر الطاقات الكامنة. كان من جملة ما أنجزوه طرف من الحاجز الأخضر الذي يفصل بين مدينة تمارة ومدينة الرباط، ذلك الغرس الناجح الذي تفتخر به العاصمة الآن.
ذات يوم، استقبل “محذر” واحدا منهم كان في نفس عمره. دخل مكتبه بعدما تسلم من مكتب الضبط الوثائق التي ستمكنه من التمويل المسبق لصفقة من صفقات الغرس. شكر المهندس “محذر” على ما يجده في الإدرة من تسهيلات، وقال له إن العادة عندهم تقديم هدية بمناسبة رأس السنة لمن يعملون بجدية في تذليل العقبات الإدارية التي تعترضهم. فأجابه “محذر”: "إن أثمن هدية ستقدمها لي هي نسبة نجاح الغرس تفوق التسعين في المائة." وأعرب له عن أسفه على رفض هديته، ملتمسا منه تفهم موقفه هذا لأنه من مبادئ تربيته الدينية.
ربما لاحظ “محذر” شئ من الندى في عيني صديقه اليهودي الذي ودعه متعهدا وعاقدا العزم على بذل المزيد من الإتقان في العمل.
سرح فكر “محذر” في مروؤة هذا الشاب وجديته. أمثاله من الشباب اليهود القنيطريين الذين هُجّروا إلى فلسطين ليصبحوا سفاحين قتلة للصبيان، لو وجدوا الإرادة السياسية الواعية في بلادهم، فلربما كانوا من المواطنين المهرة في صنع الرقي بها. لو جُندوا لحل مشكل الطاقة الخانق في المغرب مثلا فلربما وجدوا الحلول الناجعة لكل معيقات تقدمه وازدهاره. ولو لم يكن هناك بترول، لأتوا بالخبراء من ألمانيا أو من أي مكان في العالم لإنتاج الطاقة الشمسية المتوفرة في الجنوب وتصديرها إلى أوروبا بعد تحقيق الاكتفاء الذاتي لبلدهم. ولربما استطاعوا بجديتهم إخراج مشروع الطاقة النووية من سباته العميق الذي يركن له منذ عقود. ذلك هو برهان المواطَنة البانية الصادقة، لا المواطنة المخربة التي تتجر في الخمور والفجور وتتعامل بالربا الذي أعلن الله الحرب على مقترفيه.
مرت سنة على بداية المشروع، تميزت بجفاف سيكون انطلاق السنوات العجاف التي شهدها عقد الثمانينيات في بدايته. لربما كان ذلك إرهاصا لما توقعه “محذر” من شؤم يجره الربا. وفي الحقيقة أليس الغرق في المديونية الخانقة بحد ذاته كارثة لا تفوقها كارثة؟ أم أن تحذيرا من نوع آخر يتهيأ في الأفق ؟
ذات يوم من أيام الصيف الشديدة القيظ التي ميزت العام الأول للسنوات العجاف، اتصل المدير بمسؤول المياه والغابات، يخبره أن الزملاء الإسبان سألوه إن كانت أغراس الأوكاليبتوس سالمة عندنا في المغرب من "فركنطا"، حيث أن غاباتهم انتشرت فيها العدوى بشكل مهول أودى يحياة آلاف الهكتارات. فاقترح عليه “محذر” أن يبعث له فرقة من الباحثين من محطة الأبحاث الغابوية ليتفقدوا حالة الغابة.
"فركنطا" اسم لحشرة تعيش في استراليا، لها قدرة تناسلية كبيرة وتمتاز بقوة خارقة في ثقب شجر الأوكاليبتوس لا تتعداه. النشارة الكثيفة التي تخرج من الأنفاق المثقوبة، تنزع لحاء الشجر نزعا يتبعه الذبول فالموت السريع للشجر. وجوده في أستراليا لا يشكل أي خطورة تذكر لأنه يعيش في توازن مع حشرات تفترسه. فإن خرج من أستراليا واستوطن مكانا آخر، اختل التوازن بغياب الحشرات المعادية، فيتناسل بكثرة تؤدي لاختفاء الأوكاليبتوس من تلك الناحية. فالأمر يكتسي إذن طابع الخطورة القصوى بالنسبة للمغرب الذي تنعدم فيه الحشرات التي تخصصت في افتراس "فركنطا".
عزز المدير المركزي فريق خبراء محطة الأبحاث الغابوية بخبراء استضافهم من إسبانيا. وتوافد الجميع على القنيطرة التي هيأت برنامجا لتفقد الغابة.
استمر البحث عن الحشرة طيلة النهار فلم يكتشف الفريق أي شئ مما اكتُشف في إسبانيا.
لكن قبيل غروب الشمس، بينما كان الفريق يتأهب لمغادرة الغابة ويعلن سلامة أغراس الأوكاليبتوس من العدوى، شك “محذر” في شجرة، فأمر فارسا من فرسان الغابة أن يزيل لحاءها في مكان حدده له. فكانت المفاجأة.
فشاءت الأقدار أن يكون “محذر” هو أول من عثر على حشرة "فركنطا" في غابات ناحية الغرب معمورة!
تبع ذلك الاكتشاف الأول اكتشافات أخرى في أماكن مختلفة. وانتشرت العدوى بسرعة فائقة.
بتعاون مع الزملاء الإسبان، حدد الخبراء المغاربة التدابير اللازمة لمحاصرة العدوى. الإجراء الحاسم هو بتر الأشجار بسرعة قبل أن تصل اليرقات الثاقبة إلى الجذور، ثم الإزالة الكاملة للحاء الشجرة الذي تبيض فيه الحشرات، قبل أن تختبئ يرقات الحشرة في الأنفاق، ثم حرق الغصون التي لا قيمة تجارية لها في مكان الاستغلال. أما الأجزاء التي لها قيمة تجارية فلا يرخص لنقلها إلى معمل السيليلوز أوإلى أسواق الخشب إلا إذا أزيل لحاؤها.
آلاف الهكتارات تم إحصاؤها وإخضاعها لإجراءات سمسرة مستعجلة. كناش التحملات فرض على المقاولين الغابويين شروطا خاصة تضمن محاربة الحشرة بالطرق المشار إليها أعلاه.
وهكذا تم حصر العدوى، وتجددت الغابة المقطوعة قبل موت جذورها، وتم اجتياز الأزمة بأمان وسلام، وقد جعل الله في قضائه اللطف للغابة.
بينما كان يتفقد يوما سير أعمال الاستغلال المستعجل، شعر “محذر” بحفيف الرياح الناشرة لأريج أشجار الأوكاليبتوس المصابة، كأنها تهمس في أذنه عبارات تقول : ربنا لا تواخذنا بما فعل السفهاء منا...
كانت الساعة تشير إلى الساعة التاسعة ليلا. في تلك الساعة المتأخرة، دخل المدير الإقليمي إلى مكتب مهندس الغابة السيد "مازغ" وعليه علامات اضطراب يُستعصى إخفاؤها. لقد كان الرجل من ألطف خلق الله، كلامه همس لا يكاد يسمع، يهرُب من المشاكل كما يهرب الإنسان من الثعبان... أخبر “مازغ” أن عامل الإقليم ينتظرهما في مكتبه. ولما شعر باستفهامه قال له: "نعم في هذه الساعة، وحول موضوع سمسرة مشبوهة طرحه عليه برلمانيان من نواب الإقليم". سارع “مازغ” لطمأنته إشفاقا على حالة اضطرابه الذي ربما أضر بصحته الهشة أصلا. قال له:" لقد استقبلت هذين النائبين البارحة، ووضحت لهم ما طرحوه من استفسار حول سمسرة بيع القطع التي انتشرت فيها عدوى "فاراكنطا" ولم يقتنعوا، لأن من ورائهم بعض أقاربهم من مستغلي الغابة، لم يسعفهم الحظ في الحصول علي شئ من السمسرة، فلربما هم الذين يحركون الأمر من وراء ستار". ثم طرح أمامه الملف الذي يضم كل الوثائق التي تؤكد ظروف الشفافية ومراعاة القانون في العملية: تقارير اللجنة المشرفة على السمسرة، القوانين التي اتبعتها لأن في حالة الاستعجال، يمكن أتباع قوانين تختلف عن قوانين السمسرات العادية، الأوامر المركزية التي توضح ظروف الاستعجال... وهنا تنفس المدير الإقليمي الصعداء وحمد الله على السلامة وستر مولانا!
تفهم عامل الإقليم بسرعة كل ما عرضه المهندس“مازغ” من توضيحات حول النازلة، وكان رجل قانون في تكوينه. لذا عندما كان الاجتماع التالي مع البرلمانيين، أثار موقفه المدافع عن الإدارة، غيظهما الشديد، فخرجا يجران معهما أذيال الخيبة.
لقد تعلم “مازغ” أنه عندما ينهزم صاحب المصالح أمام صاحب المبادئ فعلى هذا الأخير أن يستعد للانتقام الشرس.
كيف ومتى ومن أين سيأتي؟ الله أعلم بما في السرائر.
لقد استغرب “مازغ” من ارتفاع عدد حرائق الغابة ذلك الموسم. تعدد نقط انتشارها وتزامنها مع موجة من رياح الشرق الملتهبة كاد أن يحولها إلى كارثة حقيقية. أهي حرائق إجرامية معتمدة؟ أم أن عوامل طبيعية لا علاقة لها بالإجرام هي سببها؟
كان بصحبة “مازغ” أثناء الإشراف على إطفائها المهندس المكلف بالاستغلالات الغابوية، وكان مولعا بقراءة كتب تاريخ الغابة التي ألفها المهندسون الفرنسيون. لما رأى ألسنة اللهب فى عنان السماء صاح قائلا: " هذا ما كان يراه جنود "الكاهنة التي أحرقت الغابة"
ولم يفد ذلك التوجس إلا في توجيه عمل حراس الغابة وفرسانها وأعوانها الذين أبلوا البلاء الحسن في الحد من هذه الظاهرة الغريبة.
بعد حين سيأتي خبر حادثة سير مفجعة ذهب ضحيتها أحد هذين الرجلين ولا أدعوه إلا بالاسم الذي يقال عند صلاة الجنازة "جنازة رجل"، لا يقال "جنازة برلماني".
الرجل الآخر تسلق سلم المجد الدنيوي حتى أعلى قممه الدنيوية، حقق إنجازات ضخمة سيذكرها التاريخ. عيبها الوحيد أنها لم تشمل سوى الأفراد من أقاربه، خاصة أولئك الذين كانوا من النوع الذي تنوب الغابة عنه لدفع الإكراميات لهم. وقد كان بإمكانه لما له من نفوذ وبسطة في المال والعلم، الارتقاء بمنطقة الغرب الزاخرة بالثروات إلى مصاف بلجيكا مثلا، لأن مساحة منطقة الغرب تعادل مساحة بلجيكا. وقد كان بإمكانه تحقيق ما حلم به “مازغ” لعاصمة الغرب. ولكنها طبيعة المصالح "الكبرى"، لا تصبح "كبرى" إلا إذا ضاقت دائرة نفعها، توشك أن تتقلص إلى مستوى الفرد، ويوشك الفرد فيها أن يصاب بتضخم الذات الذي ينذر بسرطان الأنانية المفجع. وهو في أيام كتابة هذه السطور يمتحن بالمسؤولية على قطاع ألغي فيه حكم الشريعة في معظم قوانينه، ما خلا النزر القليل من الأحوال الشخصية. فما عساه يجد من حجة يوم الحساب حين يسأل لماذا أعرض أوتجاهل أوجحد قول ملك يوم الدين، رب العزة والجبروت :
( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) آية 44 وقوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) آية 45 وقوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) آية 47 ... نسأل الله أن يتوب علينا جميعا...
لقد كانت علاقات السكان برجل الغابة علاقة موروثة من زمن الاستعمار الفرنسي، يغلب عليها الحذر والريبة وفقدان الثقة المتبادل. ولربما انتقم السكان من تصرفات رجل الغابة بإحراق الغابة أو إتلاف شجيرات الغرس أو قطع الأشجارعلى مساحات شاسعة لا تقدر بثمن...
يحاول “مازغ” كسر هذه الأعراف السلطوية المشحونة بالتجافي والحقد والتآمر الذي تؤدي الغابة ثمنه الفاحش. فكلما مر بجوار دوار من الدواوير، يصطنع من المعروف ما يخوله مشاركة الناس كأس الشاي، يلطف الظروف ويعيد الثقة خاصة مع الشيوخ، لأنهم مفاتيح قلوب الشباب. يحدثون “مازغ” رواية عن ذاكرة المكان والزمان، عن تاريخهم البعيد والقريب، عن أحداث لم يبق منها أحيانا إلا الأساطير التي ترددها الأمهات ألحانا شجية تنوم الرضع ويطرب لها الصبية. أسطورة "جازية بنت منصور القاطعة سبع بحور على ظهور النسور". أسطورة رياح وبني حسن وعامر السفلية وعامر الحوزية والخلط، أسطورة بني هلال وبني سليم ...
يروون له لماذا هذه المراعي تعتبر أراضي "جموع" وكيف استحوذ المستعمر على المروج والمسارح الرطبة وغرس فيها الغابة؟ وكيف حافظت بعض الأراضي الزراعية على حكم الملكية الجماعية، وكيف تحول حكمها في التاريخ القريب، إقطاعات جائرة للمستعمر ولورثته...
يستغرب “مازغ” من لهجتهم وفلكلورهم وطقوسهم التي اختزلت أحداثا تاريخية تقص ظروف استوطانهم لهذه المنطقة، وتصاريف أمورهم فيها.
يقارن “مازغ” ما يحكون بما وثقه ابن خلدون العبقري في تاريخ العبر، فتنكشف له تفسيرات لما يراه منقوشا في الأرض وما سجلته الذاكرة البعيدة في صيغة الأسطورة التي تتحدث عن قلاقل التاريخ وملاحم الماضي.
قال ابن خلدون: "كتب اليازوري إلى المغرب: "أما بعد فقد أنفذنا إليكم خيولاً فحولاً، وأرسلنا عليها رجالاً كهولا، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً".
اليازوري هو وزير من وزراء الفاطميين في مصر. يخبر في كلمات وجيزة بليغة، عن حدث سيترك بصمات لن يعفو رسمها في تاريخ المغرب. خبر سيحل كالصاعقة على البرابرة الذين ولاهم الفاطميون حكم تونس والجزائر والمغرب، لما نقلوا عاصمتهم من الجزائر ثم إلى تونس ثم إلى مصر التي بنوا فيها عاصمتهم القاهرة. إلا أن البرابرة لأسباب عقدية، خرجوا عن طاعتهم وأعلنوا ولاءهم للعباسيين الذين يمثلون ما تبقى من الشرعية في عروة الحكم ، ملكا وظيفته جمع بيضة المسلمين.
أما الرجال الكهول الذي يتكلم عنهم الوزير الفاطمي، فهم خليط من الأعراب الأشداء الذين وظفهم الفاطميون جيش مرتزقة لتأديب البرابرة على نقضهم للعهد.
هؤلاء هم أجداد القبائل العربية التي استوطنت مناطق الغرب ومعمورة. قال ابن خلدون عن دخولهم المغرب في القرن الحادي عشر للميلاد: "كانت بطون هلال وسليم من مضر لم يزالوا بادين منذ الدولة العباسية وكانوا أحياء ناجعة بمجالاتهم من قفر الحجاز بنجد. فبنو سليم مما يلي المدينة وبنو هلال في جبل غزوان عند الطائف. وربما كانوا يطوفون رحلة الصيف والشتاء أطراف العراق والشام فيغيرون على الضواحي ويفسدون السابلة ويقطعون على الرفاق وربما أغار بنو سليم على الحاج أيام الموسم بمكة وأيام الزيارة بالمدينة. وما زالت البعوث تجهز والكتائب تكتب من باب الخلافة ببغداد للإيقاع بهم وصون الحاج من معرات هجومهم. ثم تحيز بنو سليم والكثير من ربيعة بن عامر إلى القرامطة عند ظهورهم وصاروا جنداً لهم بالبحرين وعمان. ولما تغلب شيعة ابن عبيد الله المهدي (الفاطميون) على مصر والشام وكان القرامطة قد تغلبوا على أمصار الشام فانتزعها العزيز (الفاطمي) منهم وغلبهم عليها وردهم على أعقابهم إلى قرارهم بالبحرين ونقل أشياعهم من العرب من بني هلال وسليم فأنزلهم بالصعيد وفي العدوة الشرقية من بحر النيل فأقاموا هناك وكان لهم أضرار بالبلاد."
بعد ذلك أباح لهم الفاطميون إجازة النيل وأغروهم بالولاية على كل الأراضي التي سينتزعونها عنوة من يد البرابرة. قال لهم وزير الفاطميين: " قد أعطيتكم المغرب وملك المعز بن بلكين الصنهاجي العبد الآبق، فلاتفتقرون."
قال ابن خلدون: "فطمعت العرب إذ ذاك وأجازوا النيل إلى برقة نزلوا بها وافتتحو أمصارها واستباحوها (....) وسارت قبائل دياب وعوف وزغب وجميع بطون هلال إلى إفريقية كالجراد المنتشر لايمرون بشيء إلا أتوا عليه".
واستمروا عشرات السنين في القتل والسبي والسطو والإفساد الشديد في الأرض. ولم يرد بأسهم إلا الموحدون. قال ابن خلدون عن ترويضهم: " ونهض إليه ( أي إلى زعيمهم) المنصور الموحدي من مراكش يجر أمم المغرب من زناتة والمصامدة (....) زحف إليهم من تونس فكانت الكرة عليهم وفل جمعهم واتبع آثارهم إلى أن شردهم إلى صحارى برقة وانتزع بلاد قسطيلية وقابس وقفصة من أيديهم. وراجعت قبائل جشم ورياح من الهلاليين طاعته ولاذوا بدعوته فنفاهم إلى المغرب الأقصى. وأنزل جشم ببلاد تامسنا ورياحاً ببلاد الهبط وأزغار مما يلي سواحل طنجة إلى سلا"
وهذا هو سبب انتشارهم في سهول وهضاب افريقية الخصبة واستئثارهم بها، بعد انتزاعها من يد البرابرة الذين نجوا بأنفسهم إلى الجبال والقفار. لقد أراد البرابرة الرجوع إلى السنة والجماعة وجمع شمل الأمة تحت راية ما بقي من الخلافة السنية التي يمثلها الملك العباسي، فما كان من الفاطميين الشيعة إلا أن استباحوهم بأساليب الجاهلية الأولى: الغزو والقتل والسبي بواسطة مرتزقة رجعوا إلى جاهليتهم، فصاروا أعرابا بعيدين عن هدي الإسلام .
لكنهم بعد عقود من الإفساد في الأرض " استكانوا، كما قال ابن خلدون، لعز الموحدين وغلبهم فدخلوا في دعوتهم وتمسكوا بطاعتهم وأطلق عبد المؤمن أسراهم ولم يزالوا على استقامتهم ولم يزل الموحدون يستنفرونهم في جهادهم بالأندلس." انتهى كلام ابن خلدون.
هكذا حال عامة الناس: هم على دين قادتهم، ينقادون إلى الشر إن كانت القيادة فاسدة. وينافحون عن الخير إن كانت القيادة راشدة تستخدمهم للدفاع عن المبادئ السامية والقيم الإنسانية. يمكن استعمالهم في قتل الحجاج، وتخريب الكعبة، ونقل الحجر الأسود من مكة إلى البحرين، ولقد حدث ذلك تحت قيادة القرامطة! كما يمكن إغراؤهم للخدمة في حروب الاسترزاق الدنيوي والتصفية العرقية، ولقد حدث ذلك تحت القيادة الفاطمية. كما يمكن استنفارهم لحماية المسلمين من الحروب الصليبية ، ولقد حدث ذلك تحت قيادات راشدة دفعت عن المسلمين أخطار الغزو الإسباني والبرتغالي والفرنسي.
لفت انتباه مهندس الغابة السيد "بحاث"، وجود برقية ضمن البريد الذي وصل إلى المصلحة من الرباط. البرقية تخبره أن لجنة من الرباط ستقوم غدا بجولة تفقدية لغابة "معمورة"، لمعاينة الأشغال الجارية.
يعني ذلك أن “بحاث” سيتأخر في مكتبه ليلا مع موظفيه لإعداد ملفات الأوراش المختلفة للمنطقة التي حددتها البرقية. يعني ذلك أنه سيبقى بعدهم سويعات أخرى للتخلص من العمل المكتبي الإداري الذي تتعدد روافده من مختلف الجهات: من المقاطعات الغابوية الأربعة التي تكون المصلحة: الرباط وسيدي يحيى ووازان والقنيطرة. من المكاتب السبعة التي في داخل المصلحة: مكتب الاستغلالات الغابوية، مكتب الغراسة، مكتب التجهيزات الغابوية والملك الغابوي والصيد، مكتب المنازعات، مكتب المالية والصفقات، ومكتب الضبط والموظفين، وتعاونية كوباك. عمل لا يمكن تاخيره إلى الغد، خاصة إن كان عمل الغد من نوعية الطوارئ المستعجلة أو من نوعية المعاينة والتتبع الميداني في الغابة الذي يستهوى “بحاث”، لكنه يؤدي ثمن هوايته بالسهر لإنجاز المهام الإدارية اليومية التي لا تنتهي. حتى أن سلفه عندما سلمه مفاتيح المصلحة لما انتقل منها، قال له " مرحبا بك في البرج المهوس" إشارة إلى فيلم يصور أحداث احتراق ناطحة من ناطحات السحاب.
كشفت الجولة لفريق الرباط ما أنجز وما هو في طور الإنجاز من برامج. حصلوا على أرقام المنجزات ومستوى الإتقان والأرقام القياسية التي تحققت. شعر “بحاث” بارتياحهم لنتائج الموسم، فشجعه ذلك على إطلاعهم على إنجاز يعتبره من الإنجازات المهمة التي ستحقق قفزة نوعية في تطوير الغابة.
كانت برامج الغرس السنوية تترك هامشا من الحرية للمصالح الخارجية في اختيار بعض أنواع الشجر واستكشافها في مساحة شريطة أن لا تتجاوز نسبة واحد في المائة من قطع الغرس. حكمة تركها الفرنسيون لتشجيع البحث العلمي وإتاحة الفرصة للمهندسين ليبدعوا في عملهم، عوض الركون إلى الخمول والتقليد.
من ضمن ما خلفه الفرنسيون من تحف علمية يستحقون عليها المحمدة والثناء، كانت تلك المستنبتات التجريبية التي تضم الفصائل المختلفة لكل نوع من أنواع شجر الغرس الذي يصلح للمنطقة. واحد منها هو مستنبت "ميناجي" القريب من مدينة "سيدي يحيى الغرب". "ميناجي" هو رجل فرنسي اقتطع له الاستعمار ضيعة واسعة على ضفاف وادي سيدي يحيى. سافر هذا الرجل إلى استراليا التي هي أصل الأوكاليبتوس، وجلب منها أنواعا وفصائل مختلفة، وغرسها في منطقة من ضيعته في بداية الأربعينيات من القرن الماضي.
اختار “بحاث” لبرنامجه الاستكشافي بذور نوع من الأوكاليبتوس يسمى "كرانديس" كان من جملة الأنواع التي غرسها "ميناجي". وتساءل لماذا لم يعمم هذا النوع في عمليات التشجير الجديدة عوض استعمال نوع "كمالدولانسيس"؟
يمتاز "كرانديس" بشموخ قامته واستقامة جذوعه الناصعة البياض وخلوها من الأغصان الجانبية إلا في هامته التي ترتفع إلى السماء على ما يناهز الثلاثين مترا. ينمو بسرعة وينتج أكثر من غيره، وقيمته في السمسرات تضاعف قيمة غيره، يتخاطفه المستغلون لأن خشبه أجود من خشب الأنواع الأخرى.
كانت تروج حول "كرانديس" أفكارا مسبقة لم يقتنع بها “بحاث”. يعيبون عليه أنه لا ينمو إلا في الأماكن التي تمتاز بتوفر الرطوبة الدائمة. لكن حتى هذا العيب على فرضيته، يمكن أن تقومه عملية تحسين النسل.
قرر “بحاث” أن يختبره في كل المناطق التي يغرس فيها الأوكاليبتوس "كمالدولانسيس". وهو الآن سينزع الستار لفريق الرباط ليريهم التحفة التي كتم سرها بضع سنين ليستيقن من نتائج التجربة. بعد التفسيرات الضرورية للبرنامج الاستكشافي، وبعد جولة ميدانية، اقتنع الفريق بالفرق الشاسع بين نوعي الأوكاليبتوس. ولاحظ الإطار المكلف بمشروع الرعي وجود العشب تحت نوع "كرانديس" وانعدامه تحت النوع الرسمي. كل الأطر أشادوا بما شهدوا إلا كبيرهم، لاحظ “بحاث” صمته المريب فانتصب حسه السادس الذي يشعره بالواقعة قبل حدوثها وبحمم الغضب قبل نفثها.
خرج من صمته بإصدار أمر بليغ نزل كالصاعقة ليس فقط على “بحاث” بل على كل الحاضرين وخاصة أعوان “بحاث”.
"يمنع عليكم منعا كليا استعمال الكرانديس في برنامج الغرس". قالها في عنجهيته المعهودة وامتنع منعا قطعيا عن الإفصاح على مبررات هذا المنع لما سأله “بحاث”، ولربما أعطى بعض التفسيرات التي لم يقتنع بها أحد.
لم يكن “بحاث” من الصنف الملائكي الذي لا " يقلب الطاولة" على الاستكبار والعنجهية والاستخفاف بكرامة الناس. يتيقن من صواب رأيه، ثم يطلق العنان للغريزة الحافظة للكرامة الصائنة للعزة. والله لا يرضى لعباده الذل والمهانة. قال له " إن كان هذا الأمر أمرا مسؤولا، فأرجو أن تبعثه لنا كتابة قابلة للتوثيق". لم تسمع أذنا “بحاث” شيئا من ردود الرجل، ربما كانت ألفاظا نابية ليست من العلم ولا من المنطق ولا من الأخلاق في شئ . لكنه شعر بضرورة إسماعه القول البليغ الذي يستحقه. قال له محاولا إسكاته بالمرة: " انتظر، حتى وإن بعثت أمرك المريب هذا رسالة رسمية فكن متيقنا من المكان الذي سأضعها فيه." شعر البعض بالحرج الشديد، وبضرورة تلطيف هذا الجو الذي تكهرب بسرعة. المهندس "أزمنوس" بادر بتحويل الدراما إلى كوميديا بلباقة الدعابة والنكتة الشيقة التي لا تترك العلاقات عرضة للتأزم والانفلات. ذلك هو الدور الذي يبرع فيه الثلاثي المرح من المسؤولين المحليين "بزوان" و"حمدون" و"أزمنوس".
خرجوا بنا على وجه السرعة من وحشة الغابة قاصدين مطعما في القنيطرة يديره "مانزاكين" يهودي قنيطري كان يعمل في المياه والغابات قبل أن يتقاعد.
لو اجتمعت على أحد أحزان بحجم حزن سيدنا يعقوب على ابنه سيدنا يوسف وجاء إلى مطعم "مانزاكين"، ووجده برفقة الثلاثي "بزوان وحمدون وأزمنوس"، لتساقطت عنه الهموم كما تتساقط الذنوب عن الحاج يوم عرفة، وأنقلب يغمره السرور والانشراح! لذا بعد تناول وجبة "السيفال" اللذيذة التي يبرع في تحضيرها "مانزاكين"، تصالح الخصمان وطوي ملف الأزمة. لكن هل طوي حقيقة أم أن على “بحاث” أن يتخذ من الحذر والتأهب لباسا يقيه شر المنتقمين الشرسين الذين يسطون على كل من حاول التعرض لمصالحهم البئيسة.
علم “بحاث” بعد سنين أن الرجل المهوس " بموضة" تحضير المشاريع للمؤسسات الدولية، بنى على ما أنجزه “بحاث” في برنامجه الاستكشافي مشروعا تقدم به لاستجذاء القروض من الأبناك الأجنبية. ذلك هو مشروع استنساخ وتهجين الأوكاليبتوس كرانديس وغيره من الأشجار المنتقاة.
ولقد تجدرت موضة استجداء القروض في كل الإدارات. وأسفرت عن مديونية خانقة لا طاقة للبلد بتحملها إطلاقا. المهم أن يحصل المشروع على التمويل المأمول وكفى. وقد كان في المتناول الاعتماد على القدرات التمويلية والتقنية الذاتية لتحقيق القفزة النوعية في تطوير الغابة كما حلم به وشرع في تجربته المهندس “بحاث”.
وبعد سنين قليلة سيأتي إلى “بحاث” خبر موت المهندس الذي فتح الباب " لسماسرة المؤسسات التمويلية الدولية "، سكتتة قلبية لم ينفع معها علاج، نسأل الله رحمته التي وسعت كل شئ.
المشاريع الصناعية التي تشجعها المؤسسات التمويلية الدولية في البلدان المتخلفة، توشك أن تكون إما من النوع الملوث الذي يرجى ترحيله إلى الجنوب لحماية الشمال من أضراره. وإما من النوع الذي يبالغ في حجمه فتكون دائما نسبة إنتاجه لا تتعدى نصف طاقته النظرية، لأن المؤسسات الدولية المسيرة له عن بعد، تربح من تكرار عمليات الصيانة وإعادة التجهيز أكثر مما يربحه المعمل عن طريق بيع منتوجه. وإما من النوع الذي تدعمه الدولة المتخلفة دعما من وراء ستار، لا تدركه التدقيقات الحسابية، مما يضمن شراء منتوجه بثمن بخس لا يدر أي نفع للبلد، ولربما رقدت أرباحه في الأبناك الأجنبية، لا يرجع منها سوى ما يسد رمق العمال و"يزيت" مفاصلهم وسواعدهم لتقوى على العمل المضني.
تلك هي النظرة التي كانت تبلورت لدى مهندس الغابة “ الكبريتي”، بعد مقارنة بين ما كان عليه قطاع الصناعة في أوروبا وما هو عليه في المغرب.
والمعمل الذي سيتحدث عنه ربما كان في السبعينيات من القرن العشرين يجمع المساوئ كلها، وربما زاد عليها بما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
كانت الدولة تدعمه بطريقتين: أولا إرغام المستغلين الغابويين بيعه نصف منتوجهم الخشبي قبل أن يسمح لهم بيع الباقي في السوق الحرة؛ ثانيا: عن طريق تحديد ثمن البيع في ثلث ثمن السوق الحرة.
الأضرار التي كان يخلفها للبيئة متعددة: يحتاج إلى كميات هائلة من المياه الجوفية، فيتسبب في غورها المؤثر سلبا على الغابة والزراعة حواليه، يلوث الوديان وفُرشات المياه الجوفية بالمواد العضوية والكيماوية، يلوث الجو بأنواع الأدخنة الحامضية الكبريتية منها والكاربونية والنتروجينية.
أما صيانته فهي من أغلى الصيانات، كلفتها مضاعفة بسبب الإهمال والحرائق والتجديدات الغير مبررة، وبسبب استيراد جل التجهيزات من الخارج وأداء ثمنها بالعملة الصعبة.
تلك هي الحالة التي عايشها المهندس “ الكبريتي” في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات.
كانت علاقة إدارة المياه والغابات مع المعمل تضبطها اتفاقية ورثت من عهد الاستعمار. ربما كان فيها شئ من الحيف تجاه الإدارة وتجاه المستغلين الغابويين، ولكن الأمور سنة بعد سنة "تبقى على ماهي عليه" بسبب اختلاط المصالح في مستوى من المستويات الإدارية العليا، وبسبب ميكانزمات ترضي بعض المستغلين الغابويين المحميين من طرف شخصيات مهمة...
ما الذي يمكن فعله لكسر هذه التقاليد المقيدة للإبداع والتطوير؟ كيف يمكن كسر عادات الجمود على المصالح المكتسبة التي تقاوم كل تغيير؟ ولماذا يتهيب الجامدون من الطفرات الخلاقة التي فيها سر استمراريتهم وسر تنوع الحياة؟
كان المهندس“ الكبريتي” من النوع الذي لا يتدخل في ما لا يعنيه. ولكن إذا كان التدخل من النوع الذي يسعى إلى حماية البيئة من التلوث وحماية الغابة من الاستغلال المفرط، فإنه يعتبره من ضمن المهمات التي أسندت إليه. وتقديره لالتزامه، يجعل نضاله لا يعبأ بالحيثيات والظروف التي تحاول دفع الإدارة إلى التخلي عن المسؤولية.
من بين الآليات التي تركها المستعمر لتجريد الإدارة من دورها في توجيه أصحاب المصالح والتحكم في جشعهم الطبيعي، آليات الإكراميات وآليات الرئاسة الشرفية للمجالس المسؤولة في الشركات. حينئذ يختلط دور الخصم والحكم، فيسري الجمود وينعدم التطور وتتفاقم الأخطاء فيحل الفشل وتندثر المؤسسة.
كان المهندس “ الكبريتي” حديث العهد بالإدارة، لم يكن يعلم شيئا عن هذه الحيثيات. وهذا ما دفعه ألا يتحرج في مخاطبة مدير المعمل مخاطبة الذي يريد إرجاع الأمور إلى نصابها، وإعادة ترتيب الأدوار. كان للمهندس “ الكبريتي” معه مناوشة كلام بسبب ما اعتبره "الكبريتي” محاولة لإسكات الإدارة، وإرغامها على الموقف الذي يحكم على الأمور أن "تبقى على ما هي عليه".
لقد خلف المسؤول المهوس بموضة المشاريع التي يمولها البنك الدولى وترعاها منظمة الفاو، خلفه مهندس من أصدقاء “ الكبريتي”. كان من النوع الذي يمتاز بالمرونة والمداراة والحنكة والدهاء السياسي. استشار ذات يوم المهندس“ الكبريتي” في مسألة طرحها عليه مدير المعمل تتعلق بتزويده المتعثر بالخشب. يدعي أن المقاولين الغابويين يتملصون من تزويده، ويهربون منتوجهم لبيعه في السوق الحرة. قبل الجواب، جمع “ الكبريتي” مهندسي المصلحة المعنيين بالأمر لتدارس الحالة. ثم أخبر المهندس المسؤول في الرباط بتفاصيل النازلة، ففضل هذا الأخير عقد اجتماع مع مسؤولي المعمل لإيجاد الحلول الناجعة.
لقد كانت نتائج تحريات المصالح الخارجية واضحة تبين أن مشكل تزويد المعمل سيكون ظرفيا بسبب مرور المنطقة بفترة مشروع "معمورة - غرب" الآنف الذكر. أما ظروف خروج الخشب من الغابة قبل تزويد المعمل، فأول من قام بذلك هي الشركة التابعة للمعمل نفسه والتي تتكلف بالاستغلال الغابوي، وتبعها آخرون في ذلك نظرا للارتفاع المثير لأثمان الخشب في السوق الحرة، ونظرا لمنافسة معامل أخرى شُيدت في المدن المجاورة لم يكن تزويدها مخططا له محليا. وجل الناس ينتظرون مرور الظرفية المغرية أثناء الشتاء البارد، ثم يؤدون ما فرض عليهم كُرها من تزويد المعمل بثمن بخس ربما لا يغطي كلفة الإنتاج عندهم.
كانت هذه هي خلاصة الأجوبة التي سمعها مدير المعمل أثناء الاجتماع الذي عقده المهندس الجديد. لقد أحضر المسؤولون عن المقاطعات معهم التدقيقات الرقمية لكل ملاحظاتهم، لكن المدير أصر على نكران ما يحدث في شركة الاستغلال التابعة له، ودخل في تفاصيل تتعلق بالشؤون الداخلية للإدارة. وهنا دعاه “ الكبريتي” "لاحترام الإدارة التي لا تتدخل في شؤونه، فهي مثلا لم تسأله عن حساباته البنكية في أوروبا ولا عن راتبه الشهري، ولا عن أي شئ في كيفية تسييره للمعمل... لذا من الصواب الارتفاع بمستوى النقاش لكي نبحث جميعا عن الحلول الجذرية." ( تقول بعض الألسن الكاشفة، أن راتب هذا المدير يفوق ثلاث مرات راتب رئيس الولايات المتحدة، والله أعلم)
وهنا شعر المهندس المسير للاجتماع بالحرج، ربما كان على علم بما تخفي السرائر، فحاول إرضاء المدير الذي لم يرقه كثيرا ما سمعهه من “ الكبريتي”، لكنه أسرها في نفسه ولم يبدها لهم، وجمع أوراقه واعتذر يستأذن في الالتحاق بموعد ينتظره. واستمر الاجتماع للبحث عن حلول مشكل تزويد المعمل.
ما لايعلمه “ الكبريتي”، أن المدير كان له في الدوائر العليا من يرعاه، ربما عن طريق الآليات المذكورة آنفا، ربما عن طريق آليات أخرى. أخبره بذلك صديقه الذي يأتي له ببعض الأسرار. لذا انتصب حسه السادس الذي لايخونه، يستنفره للاستعداد لنضال آخر في سبيل حماية البيئة، وفي سبيل تحريك الساكن وإيقاظ النائم، لتطوير أداء معمل كاد يختزل علاقته مع الغابة في الأكل المسرف من رأسمالها المنتج، عوض أن يساهم في تنميتها، وتوسيع رقعتها.
كل التوقعات حسب لها حسابها “ الكبريتي” إلا واحدة. لم يكن ينتظر إطلاقا أن يستدعيه الوزير مباشرة ليستخبره في المشكل. ولقد نفعه كثيرا ما انتهت إليه المشورة في الاجتماع الأخير، لاسيما ما حبذه المسؤول الجديد على قسم الاستغلالات الغابوية، الذي كانت له رجاحة فكر، وبعد نظر، وسلامة طوية.
الرأي الذي بسطه “ الكبريتي” أمام الوزير يمكن إجماله في النقط التالية: أولا: ينبغي على المعمل أن يتذكر أن الدولة تدعمه دعما غير مباشر يقدر بكذا من الملايير، بحمايته من شراء الخشب من السوق الحرة، وبضمان التزويد عبر المستغلين الغابويين، الذين يفرض عليهم تخصيص نصف منتوجهم للمعمل، بأثمنة لا تتعدى ثلث الأثمنة في السوق الحرة. ثانيا: لكي يستحق هذا الامتياز، عليه أن يطور أداءه بابتكار الحلول الجذرية التي تضمن استمراريته وتحرره من دعم الدولة. واقترح “ الكبريتي” حلولا كانت متقدمة عن زمانها، ربما كانت إرهاصات للأساليب التي تمكن من اجتياز تحديات العولمة.
اقترح أن يفكر المعمل في حل المشكل الظرفي الحالي باللجوء إلى السوق الحرة الداخلية، ولم لا؟ إلى السوق الخارجية باستيراد الخشب من البرتغال أو من البرازيل. وعلى المدى البعيد عليه التفكير في كراء الأراضي الرملية المؤهلة طبيعيا للتشجير، يغرسها بالأنواع المنتقاه، لكي يضمن استمرارية تزويده كلما وقع عجز في الكميات التي تضمنها له الدولة عبر سمسراتها.
ربما استوعب المعمل اقتراحات الإدارة، ربما كانت هناك عوامل مؤثرة أخرى. المهم يبدو وكأن المعمل شهد قفزة نوعية، ودخل مرحلة يطبعها الابتكار والحيوية. لقد نجح في استيراد الخشب عبر المحيط، ونجح في تأسيس شركة لكراء الأراضي وغرسها بالأنواع المنتقاة، وتم اجتياز السنوات العجاف بسلام. وبعد ضمان الوارد التحتي المزود بالمواد الخام، أولى اهتمامه للقطاع الفوقي المحول لمنتوجه، فاستطاع شراء أهم معامل القطر لتصنيع السيليلوزومشتقاتها، وصناعة الورق بكل أشكاله. ويوشك أن يكون النموذج الناجح في اجتياز تحديات العولمة، لو فعل شيئا في اتجاه معالجة تلوث البيئة، وفي اتجاه إشراك الدولة وموظفيه في ثمار النجاح.
وكم كانت فرحة “ الكبريتي” كبيرة عندما رأى البعض من موظفيه القدامى، التحقوا بالمعمل وساهموا بكفاءة واقتدار في طفرته الأخيرة.
أما الغابة فهي له من الشاكرين، فقد زاد من مساحتها، وقلل من الأخذ من رأسمالها وأراحها كثيرا لما استورد الخشب عبر المحيط. أما البيئة فلا تزال تنتظر أن يرفع عنها ضرر التلوث. أما عن نصيب الدولة والمساهمين فيه من ثمار النجاح فذلك ينتظر عهد "البيرسطروكا" لسبر أغواره. ولله الدوام على كل حال.
جبل "سلفات" هو أعلى موقع في إقليم الغرب، قرب مدينة سيدي قاسم. من قمته تظهر الآفاق النائية لبسائط الغرب المترامية الأطراف. تتساكن في هذه السهول الغابات الكثيفة، مع الضيعات الوافر زرعها، مع المراعي الخضراء الرطبة، في انسجام وتوازن بهيج. مياه الري الغزيرة التي توفرها السدود المشيدة على الأنهار المنحدرة من جبال الأطلس وجبال الريف، حولته جنات من فواكه وزروع مختلفة، تفوق خيراتها حاجيات القطر فيصدر أجودها إلى أوروبا ومناطق أخرى من العالم.
يقوم جبل سلفات منتصبا ليعلن قرب سلسلة جبال الريف وبداية هضاب سايس المكسية بغابات الزيتون. من ضمن هذه الغابات كانت مغارس حماية التربة من الانجراف التي أنجزتها المياه والغابات على آلاف الهكتارات في سفح الجبل. شاهدها عن قرب مهندس الغابة السيد “بيار” في يوم نزهة من أيام الربيع عندما حلق فوقها مع صديقه “دوفال” بالدلتا انطلاقا من قمة الجبل، ونزولا قرب مدينة سيدي قاسم.
كشف هذا التحليق الممتع عن الحالة الجيدة التي يتمتع بها الغرس ونوعية الصيانة التي تحتاجها الأشجار لكي يشتد عودها وتظهر ثمارها.
أثار انتباه المهندس “بيار” وجود عدد كبير من الآبار المطمورة بالكنكريت في هذه المغارس. ولما سأل عنها المهندس "بيار" عون المياه والغابات المسؤول عن المنطقة قال له: " إنها آبار التنقيب عن النفط. كان الفرنسيون المستكشفون للنفط لا يطلعون المغاربة عن نتائج الاستكشاف، يعلنون أنهم لم يجدوا نفطا إنما هي مياه ارتوازية ويبادرون إلى طمرها بالاسمنت المسلح".
رجع المهندس “بيار” ذات يوم إلى المنطقة مع عامل الإقليم والوفد المرافق له في مناسبة من المناسبات الوطنية التي تدشن فيها المشاريع المختلفة.
يستعد الوفد للوقوف قرب أغراس الزيتون لتدشين ماذا؟ تدشين حفر بئر لتلبية حاجيات البادية من الماء الشروب، وغرس بعض الأشجار حواليه. ذلك هو النوع من المشاريع التي انطلقت موضته، يتقزز منه جلد المهندس “بيار” : تدشين الواد الحار، وهز وحط الطروطوار، وحفر الآبار. كل تلك الجلبة وإهدار المال العام بتحريك قافلة من السيارات الرسمية، وضياع وقت موظفي الدولة لماذا؟ لتدشين حفر بئر!!.
وضعوا منصة وأعلاما ولافتات، ونقلوا قبائل الشراردة عن بكرة أبيها، لتصفق لكلمة سيتوجه بها ممثلهم أمام مسؤولي العمالة. من ضمن كلامه لا يزال المهندس “بيار” يتذكر شيئا ابتدأ به خطابه الحماسي. قال خطيب القبيلة " يقول الله عز وجل في القرآن الكريم غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون" كاد “بيار” أن ينفجر ضحكا، وكذلك حال النزر القليل من أصحاب الوفد الذين كانوا يعلمون أن المقولة لا علاقة لها بكتاب الله عز وجل. وأغلب الحاضرين كانوا في غفلة من منكر القول الذي قيل. فواأسفاه على ما فعلته الأمية في العالمين. والخطيب في الناس ربما واحد منهم، بالكاد يتهجى في لافتة رفعت قرب المنصة، كتبت فيها الحكمة التي قالها الشيخ العربي الذي وجده كسرى يغرس نخلا: "غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون"
القبائل التي حشرت إلى الموقف كانت في يوم من الأيام قد أنجبت رجالات العلم والتربية الربانية الذين وصل ذكرهم إلى الآفاق. نقرأ عنهم ما أرخه الناصري في كتاب الاستقصا، قال: " الشراردة أصلهم من عرب معقل من الصحراء وهم طوائف زرارة والشبانات وهم الخلص منهم ويضاف لهم بعض أولاد دليم وتكنة وذوو بلال وغيرهم، وكانت منازلهم في دولة السلطان الأعظم سيدي محمد بن عبد الله غربي مراكش على بعض يوم منها فنشأ فيهم الشيخ أبو العباس الشرادي من أهل الصلاح زمن أصحاب الشيخ سيدي أحمد بن ناصر الدرعي فاعتقدوه وربما ناله بعض الإحسان من السلطان المذكور ثم نشأ ابنه السيد أبي محمد بن أبي العباس فجرى مجرى أبيه وبنى الزاوية المنسوبة إليهم واعتقده قومه أيضا بل وغيرهم فقد ذكر صاحب نشر المثاني أن السيد محمدا هذا لما قدم من الحج سنة سبع وسبعين ومائة وألف اجتاز بمدينة فاس فاجتمع عليه ناس منها وتتلمذوا له وبنوا له زاوية بدرب الدرج من عدوة الأندلس وأثنى عليه وعلى أبيه". ولربما كانت قبائل أخرى تنشبهم العداوة فأشعلوا نار حرب العلويين عليهم في عهد السلطان المولى سليمان. وكانت الغلبة للشراردة لكنهم لما ردوا كيد حاشية السلطان المعادية لهم، أعادوا السلطان إلى ملكه. أرخ الناصري هذا الحدث الخطير، قال بعد وصفه للمعركة التي انتصر فيها الشراردة على جيوش الرحامنة التي هجمت على زاويتهم: " ولما رأى السلطان رحمه الله ذلك نادى في الناس أن لا يقتل أحد نفسه علي، ولا على هذه الأسلاب، أعطوهم منها ما شاؤوا. واجتمع نحو العشرين من كبار الشراردة وتقدموا إلى السلطان فقالوا يا مولانا تحيز إلينا لئلا تصيبك العامة فانحاز إليهم وكان راكبا على بغلته فالتفوا عليه وساروا به إلى زاويتهم وأنزلوه بالدار المعروفة عندهم بدار الموسم واحترموه (...) وبقي عندهم ثلاثة أيام وحضرت الجمعة فصلاها عندهم وخطبوا به، ومن الغد ركبوا معه وصحبوه إلى مراكش إلى أن وصلوا إلى عين أبي عكاز فودعوه ورجعوا. ومما قال لهم عند الوداع إن الذين أرادوا أن يفتحوا باب الفتنة على الناس قد سد الله أبوابها برؤوسهم يعني الرحامنة ". انتهى قول الناصري.
كان المهندس “بيار” مستغرقا في التفكر في ماضي هذه القبائل، وفي هذه الأمية التي تفشت في الناس، ولم يخرجه من خواطره وحديث نفسه سوى تصفيقات الناس لنهاية الخطاب الحماسي. وتفرق الجمع واستوى الضيوف على تلة عالية، فيها قصر زعيم القبيلة، وهو والد رجل من رجالات الأمن المعروفين في تاريخ المغرب. كانت قلعة محصنة منيعة تشرف على فج زكوطة، جبل سلفات الشامخ عن يمينها، وسهل الغرب الرائع أمامها. أخذ الضيوف مكانهم في الخيام الفارهة لتناول أطباق الشواء والكسكس وما لذ وطاب من الفواكه.
اختلى المهندس “بيار” بخطيب القبيلة السلفاتي "البارع" وأخبره أن المثال المكتوب في اللافتة لا علاقة له بالقرآن الكريم، فانفجر ضاحكا بدوره وقال للمهندس “بيار” :" هؤلاء الأميون لا يدرون من القرآن شيئا، ولو كانوا يقرأونه، لما حشروا في هذا القيظ إلى هذا الموقف لكي يصفقوا لكل ما يقال.
فانقلب “بيار” ضاحكا بدوره من سرعة بديهة الرجل ومقتنعا في نفس الوقت من قوة حجته. ثم سأله “بيار” عن تلك الآبار الكثيرة التي توجد قرب مكان التدشين في أغراس الزيتون التابعة للمياه والغابات فقال له:" هي آبار التنقيب عن النفط من عهد الاستعمار، لم يجدوا فيها إلا الماء فأغلقوها." وهنا تدارك الأمر وفهم ما عناه المهندس “بيار” في سؤاله فقال: "وفي الحقيقة أضحى الماء أثمن من البترول في زمن الجفاف الذي نعاني منه، لذا سوف ألتمس من مسؤولي قطاع الطاقة والمياه أن يفتحوا لنا هذه الآبار التي طمروها، فيوفروا عنا هم حفر هذا البئر".
لقد طمروا تلك الآبار وغدت آبارا معطلة. وطمروا معها سر البترول والغاز في هذا البلد الأمين. وتلاشى حلم الغابة في اكتشاف بترول ينتج طاقة بديلة عن طاقتها التي تلتهم شجرها، وتقضمها قضما مخيفا يوشك أن يحولها صحراء خاوية على أرجائها. فهل هناك أمل آخر في الأفق يبعد عن الغابة تحذير رب العالمين المتمثل في قوله عز وجل: ( فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ) " سورة الحج : 45".
أعد فرسان الغابة المكلفون بالاستقبالات طاولة فيها شيئ من الحلويات والشاي والقهوة. تستعد المصلحة لاستقبال خبراء أجانب ، بُعثوا من الوزارة في إطار دراسة مشروع لإنتاج الطاقة النووية.
لقد قرأ مهندس الغابة السيد “مخدوع“ رسالة مهمتهم، وما المطلوب من المصلحة تيسيره لهم مرتين ليستوعب الأمر، وليعد الأسئلة اللازمة لرفع أي غموض. استبشر خيرا من المهمة ورأى في المشروع خير معين للغابة في تحمل عبء توفير الطاقة.
لقد وصل خبر مجيئهم أياما قلائل بعد إصدار المهندس “مخدوع” دراسة حول مشكل الطاقة وأثره في تدهور الغابة. كانت الغابة تحترق في الشتاء أكثر مما تحترق في الصيف. لقد أعطى التشريع الغابوي حق الاحتطاب للقاطنين جوار الغابة. من ضمن شروطه، أولا: احتطاب الميت من الشجر دون الحي أو احتطاب الأنواع الثانوية التي تنبت تحت أشجار البلوط، تنافسه في امتصاص الماء والمواد المغذية؛ ثانيا: الاحتطاب للاستعمال المنزلي فقط حيث يمنع الاتجار بالمحصول. أما الاتجار فله شروطه وسمسراته المنظمة لحرفة الاستغلال الغابوي؛ ثالثا: يؤدي الحطاب مبلغا رمزيا يدفعه لأقرب مركز للمياه والغابات، للحصول على رخصة نقل الحمولة لسكناه فقط.
تلك هي مقتضيات القوانين التي يُعاقب كل مخالف لها بأحكام زجرية تتفاوت بتفاوت الأحجام وظروف الاختلاسات.
لكن في أيام الشتاء الباردة يصعد الطلب إلى أعلى مستوياته، فتُبتدع طرق شتى للالتفاف على القوانين. يعمدون إلى قطع الشجر ليلا، يتركونه في أرض الغابة حتى يجف، ثم ينقل قانونيا للدواوير للاستعمال المنزلي المفترض، ومن تم يُنقل خلسة إلى المدن يباع بثمن بخس مقارنة مع خشب السمسرات. والمدينة تلتهم بشراهة كل ما يأتيها من الغابة في الأفرنة والحمامات والمدفئات التي يصطلي بها الناس. ولربما استفحل الأمر بتفشي البطالة، فيوشك الفقر أن يترجم كفرا بالقوانين المنظمة لاستغلال الغابة. والغابة عندما تصبح وحدها في الجبهة الأمامية لمقارعة الفقر، لا يُعبأ بها ولا يُكترث لمصيرها.
من خلال أرقام مفصلة تحصي نزيف الغابة، كشفت دراسة المهندس “مخدوع” سرعة تقلص رقعة الغابة وسرعة انخفاض كثافة الأشجار بها. وسهل بعد ذلك وضع السيناريوهات لتطور أمرها. وكانت السيناريوهات الأكثر تفاؤلا تتنبأ باندثار الغابة في نصف رقعتها خاصة قرب المدن في مدة لا تتراوح بضع عقود. وأكثر السيناريوهات تشاؤما، ينذر بكارثة بيئية في بضع سنين إلا إذا نزلت معجزة من المعجزات التي تخرق العادات.
وجاء خبر الوفد المكلف بمشروع الطاقة النووية. وظن “مخدوع” أنها المعجزة التي كان ينتظرها. وافرحتاه، عما قريب سترتاح الغابة من النار التي تلتهما في الشتاء. الطاقة الكهربائية الرخيصة التي تنتجها المفاعلات النووية، ستعوض بكفاءة فائقة استعمال الحطب. تبا لعصر الكانون والتنور والفرناتشي والرماد والدخان وعناء جلب الحطب وكلفة حمله ونشره... سيقل زوار الليل في الغابة الذين يأتون بالمناشير الآلية يقطعون في لمح البصر حمولة شاحنة يصرفونها ذهبا في المناطق الجبلية ذات البرد القارس... ستنعم الغابة بالهدوء وستتكاثف أشجارها وستتوسع رقعتها وستعمر عمارة طبيعية يكثر فيها الصيد بكل أنواعه. ربما سيعاد توطين الغزالة والنعامة ولم لا؟ ليوث سيدي أبي الليوث المعروف عند العامة " بسيدي بليوط " والأُسُد التي كانت تأنس إلى أبي يعزى المعروف باسم "مولاي بوعزة"!
من أجل ذلك حرص “مخدوع” على الحفاوة في استقبال الخبراء الذين سيأتون بالحل السحري لمشكل الطاقة. ولقد أوشك على الاتصال بمساعده "حمدون" الخبير في العلاقات لإظهار المزيد من الحفاوة بترتيب حفل عشاء بصغير سمك النون عند صديقه اليهودي الغابوي سابقا "مانزكين". ولم يكن التريت الذي راقبه في ترتيب ذلك الحفل إلا لسبب واحد: توفر الوقت الكافي، فالساعة لم تبلغ بعد الرابعة بعد الزوال.
لكنه سيعثر على أسباب أخرى ستجعله يلغي فكرة الحفل نهائيا. ولربما ستجعله يندم حتى على تقديم هذه القهوة التي يتجرعها الخبراء الآن داخل مكتبه وهم في بداية حديثهم.
لقد أتو بخرائط تحدد المواقع المقترحة للمشروع. الأول في منطقة السهول قرب السد الكبير الذي يسقي ماؤه المدن الساحلية الرباط والدار البيضاء والمحمدية وكل المدن الشاطئية الأخرى بين العاصمة الإدارية والعاصمة الاقتصادية. والثاني داخل معمورة بين الرباط والقنيطرة في منطقة معروفة بكثافتها السكانية العالية.
لم تحدث بعد كارثة "تشيرنوبيل" لكي يستلهم منها “مخدوع” موقفه من هذين الخيارين. فالواضح أن أحلاهما مر، ولا يتطلب الأمر أن تكون عالما في الذرة لكي يتقزز جلدك لمجرد التفكير في الكارثة المرتقبة لتسربات هوائية أو مائية محتملة للمواد المشعة من الموقعين المقترحين.
بدأ الشك يتسرب إلى “مخدوع”، عندما رفض اقتراحه. لقد رفضوا خيار منطقة تسمى" بيكمير" خالية من السكان مخبأة في وديان عميقة في جبال الرمل المتحجر. الرياح الغالبة فيها تذهب مع رياح الأليزي إلى المحيط. أي تسرب ستبلعه الأرض الرملية. مياه التبريد مضمونة. وغير ذلك من المزايا التي لا تتوفر في الموقعين المقترحين. واقترح عليهم زيارة المواقع كلها للتأكد من الخيار الأسلم، إلا أنهم تمسكوا بخيارهم الأعتم الأعقم الأصم.
سيتضح بعد عقود وعقود أن الدراسة كان غرضها الأول التخطيط لوأد أي طموح في امتلاكنا الطاقة النووية. وليس ذاك فحسب، علينا أن ندفع كلفة ذلك التخطيط من جيوبنا... يا للبلادة!
وقد تبين الآن لماذا ألغى السيد “مخدوع” فكرة المأدبة، ولماذا ندم حتى على تقديم القهوة لمرتزقة المخططات القاتلة لطموح الغابة.
فلو تم إغلاق ذلك المختبر البئيس الذي تمخضت عنه الدراسة لكان أجدى على الأقل في توفير المال العام الذي يهدر في الدراسات الخائنة، دراسات التنويم والتسويف والوأد في المهد للطاقة النووية في المغرب.
وبقيت الغابة وحدها في جبهة النضال، لا معين، ولا مضمد للنزيف. وحدها بقيت تدفع كلفة الطاقة الباهظة من رأس مالها. وحدها بقيت تقاوم الفقر الذي كفر بقوانين الحفاظ عليها، فانهال عليها ليلا ونهارا صيفا وشتاء بأعتى أسلحته، وهي منزوعة السلاح ماخلا سلاح الصمود في ساحات الوغى. مقطوعة المدد ماخلا مدد إصرارها على الحياة. تقطع مرات ومرات حتى الجذور، فتنبعث بعثات تلو البعثات. شأنها شأن الشهيد الذي يقتل ويتمنى أن يعود للدنيا ثانية ليضحي بنفسه مرة أخرى لِمَا رآه من سمو درجة التضحية في الجنان.
قبل أن ينفض الاجتماع الشهري الذي يعقده مهندس الغابة السيد “ ترياق” مع مهندسي المقاطعات لتدبير شؤون الغابة، استدعى العون المكلف بالصيد رؤساء المقاطعات ليسلمهم نصيبهم من "الستريكنين" الذي أرسل من قسم الصيد وحماية البيئة في الإدارة المركزية. "الستريكنين" تعد من أخطر أنواع السموم القاتلة، تستعملها الإدارة منذ عهد الاستعمار في قتل الحيوانات التي تصنف "مضرة" كالذئاب والثعالب والفئران والكلاب الضالة وغيرها، يشتكي الرعاة من خطرها عليهم وعلى مواشيهم.
فتح العون علبة المادة وشرع في "توزيع السم" على مهندسي المقاطعات. استرعى انتباه المهندس “ ترياق” ورقة مطوية فوق السم وأمر العون بفتحها. إنها ورقة حول المحاذير التي ينبغي مراعاتها عند الاستعمال. وآخر ما فيها، سُطرت كلمات " مصنوع في إسرائيل".
يا عجبا كيف استطاعت هذه المادة تخطي حواجز المقاطعة الاقتصادية التي كانت على أشدها في بداية الثمانينيات، ويا للرمز الذي يعني هذا التبادل التجاري الغريب.
لقد منعت كل الدول المتقدمة استعمال هذه المادة نظرا لخطورتها على الحياة البرية وعلى الإنسان لأنها لا تتحلل مع السنين، وتنتقل عبر السلسلات الغذائية ملوثة نسلها عبر الأجيال.
أمثال هذه المبيدات السامة الممنوعة دوليا لا تزال بعض الشركات تروجها عندنا بعد الحصول على رخصة مشبوهة من الجهات المسؤولة، فتأتي الأطنان منها وتدفع الدولة عملة صعبة فاحشة لشرائها عوض أن تدفع لها الشركات الأجنبية الملايير مقابل تخليصها من تلك المواد المحرمة دوليا، ومن مشكل خزنها فوق أراضيهم. خليط من الجهل والجشع كان ولا يزال يأتي بالكوارث البيئية التي لايعبأ بها لأنها لا ترى بالعين المجردة أو لا يظهر ضررها إلا بعد حين.
لا بد من فعل شئ لتحريك الوعي بضرورة التزام الناس بالتقنينات الدولية المحرمة للملوثات الخطيرة.
ها هي الفرصة المناسبة للمهندس “ ترياق” للنضال من أجل ذلك: رسالة أتت من رئيس جماعة من الجماعات، تطلب ترخيصا لمحاربة عصافير "الزاويش". الطيور المعششة فوق أشجار الغابات المحاذية لحقول الزروع، لم يبق لها عدو يفترسها فبلغت أعدادها حدودا حرجة، تضيع السنابل، تأكل حبة منها فتتساقط حبات أخرى، تتناثر على الأرض فتضيع المحاصيل سدى، وتصبح الحقول خاوية على عروشها، ويتحسر الناس على ما أنفقوا فيها. يضجون بعد خسارتهم للسلطات التي تطلب التدخل السريع للقضاء على العصافير "المضرة".
لم يبق من الترتيبات للشروع في حرب إبادة العصافير سوى ترخيص صاحب الغابة "ترياق". لكن صاحب الغابة رفض. علل رفضه بتفاصيل ربما لم تقنعهم فقابلوها بدورهم برفض مضاد. فالتجأوا إلى مستوى أعلى لنقض الرفض.
كانت للسيد “ ترياق” صداقة متينة مع رئيس قسم الصيد وحماية البيئة الذي انتهت إلى مكتبه رسالة طلب نقض موقفه. أتت من أم الوزارات: وزارة الداخلية التي لايعصى لها أمر. حاول مسؤول الرباط أن ينتزع موقفا مغايرا عبر اللجوء لجو الدعابة والروح الخفيفة. من جملة ما تندر به عبر الهاتف قوله ل “ ترياق” : إن الشائعات روجت أنك لا تريد تحمل مسؤولية قتل النفس التي حرم الله، فإن كان ذلك صحيحا فأرجو منك إقناعي هل للعصفور نفس؟
فكان جواب “ ترياق” سريعا لكي لا يضيع جو الدعابة: " كلا لا نفس لمن يأكل من موائد الغير من غير إذن ولا دعوة لوليمة" فأجاب فإذن لم ترفض الحكم على ذلك الطفيلي بالإعدام؟ أجاب “ ترياق”: " أنا فقط قلت للمتظلمين أن يأكلوه وينتفعوا منه عوض نفث السموم التي تقضي على الحجلة والنحلة والأرنب، وحتى على الإنسان وأنت أعلم مني في هذا المجال، لإنك كنت ولا تزال، صيادا ماهرا تحب الحياة البرية وتسعى في توازنها، باتباع نظم وقوانين تعايش السلاسل الغذائية. وإنني بعد سبع سنوات لازلت أتذكر دائما ما قلته في عرضك حول سمكة "وانانانيش" لما كنا طلابا في نانسي". فأجابه صديقه ضاحكا من كلمة "وانانانيش"، ومتذكرا أن الطلبة كانوا أثناء عرضه يضحكون كلما ردد الكلمة : " أنا متفق معك على كسر عوائد التدخل العنيف الذي لا تحمد عقباه ضد الطبيعة، ولكن ما جوابنا لوزارة الداخلية التي توشك أن تحملنا مسؤولية العجز الغذائي في القطر إن لم نساعدها في حربها على العصافير الملتهمة للحبوب؟ فأجابه قائلا: "قل لهم نحن معكم متفقون على مبدأ حماية الزرع، وباسم المبدأ نفسه، نريد حماية الضرع، ومنتوجات أخرى، كالعسل وحيوانات الصيد والقنص التي تتأثر حتى الردى من السموم التي يستعملون. ولقد كان أجدادنا إذا اجتاحهم الجراد يصطادونه ويأكلونه ويدخرونه غذاء من البروتينات خيرا مما يحصدون. رزق يسوقه الله لمن يداري النقمة ويجاريها لكي تتحول نعمة".
وكان “ ترياق” يترقب سببا لكسب النضال. فللعصافير وللطبيعة رب يحميهم من عمل الإفساد الذي يظن أنه يحسن صنعا. ولم يتأخر الأمر الذي أتى بالحل الذي يرضاه ساكن السماء وساكن الأرض.
نعم، استدعي المهندس “ ترياق” إلى مائدة أقل ما يقال عنها إنها أنزلت من سماء العصافير إلى قاعة الاحتفالات في العمالة. إنه عرض إشهاري لمنتوج جديد: معلبات مطحون لحم العصافير. لقد ظهرت شركة ربما استفادت من خبرة إسبانية لصيد العصافير بالشباك ليلا، وجندت فتيان وفتيات القرية العاطلين عن العمل، لتحويل نقمة العصافير إلى نعمة يرضى عنها صاحب الزرع وصاحب الضرع. ولربما الجهة الوحيدة التي رأت في النعمة نقمة، هي الجهة التي تتجر في سموم المبيدات المحرمة في دول الغرب اليقظة.
لكن بعد هذه التجربة الناجحة هل سينقطع الجشع المتاجر في المبيدات؟ هل ستهنأ الطبيعة من إفساد الملوثات؟ هل سيسلم الناس من المنتوجات المسببة للسرطان وأمراض الحساسية والربو والسكري وغيرها من الأخطار؟ هل سينعم نحل الغابة بسعادة الانتقال بين الزهور دون أن تلسعه السموم ؟ هل سيستمر ذلك الخير الوافر من طرائد الصيد والعسل المصفى الذي تنتجه المنطقة؟
يتذكر مهندس الغابة السيد “ نحال” اليوم الأول الذي جمعه مع شيخ بلجيكي الأصل يسمى "هاكور" جاء لتمديد رخصة استعمال مؤقت للغابة من أجل إنتاج العسل. من أول نظرة وأول حوار، شعر “ نحال” بضرورة استثمار تجربة هذا الشيخ لما يحمله من علم وفن في معاشرة النحل ورعايته.
السيد "هاكور" رجل في نحو الثمانين من عمره، ضخم الجسم، طويل الوجه واللحية، يوحي منظره بالقوة والجلد، بسيط في ملبسه. مثقف ثقافة واسعة، يجيد العربية باللكنة "الغرباوية" لطول معاشرة مع عمال المنحلة التي يشرف عليها. حضر الى المغرب، ووافقه جوه فاقام فيه، وليس له إلا حلم معاشرة النحل في غابة لا تزال في مأمن من عوامل الإفساد. كان ذلك في الأربعينيات. ولربما لم يكن يفكر البتة في يوم الرحيل: إنه واثق أن من يأكل شيئا من غذاء ملكة النحل يطول عمره. لكن هيهات أن يسلم من هادم اللذات أحدا، فلا بد إذن من الانتفاع بهذا الفنان قبل غروب شمسه، وكلنا لنا غروب بعد حين من الدهر.
تسلم الشيخ رخصته واقترح على المهندس “ نحال” زيارة منحلته للتعرف على الحرفة وأصحابها القدامى. قبل الدعوة “ نحال” وتحمس لمعرفة السر في طريقة عمله المثمر الذي انتشرت فوائده في القطر كله. فلقد كان منتجا للعسل ومشتقاته ينتج ليس فقط العسل المصفى ذا النكهات المختلفة، بل كذلك الغذاء الملكي وحبوب الطلع لقاح الورود والعكبر وسم النحل وشمع النحل والملكات المنتقاة وراثيا وطرود النحل وربما أشياء أخرى لا يعلمها إلا قليل. وكان يصنع لفائف الشمع التي تساعد النحل لبناء مسدساتها، يبيعها للنحالة ويعلمهم كيف يتحولون من الطريقة التقليدية في تربية النحل إلى الطريقة العصرية التي تضاعف الإنتاج أضعافا مضاعفة.
في طريق العودة من الزيارة التي قام بها “ نحال” وثلة من أعوانه، كان الحديث يدور حول كيفية الاستفادة من علم وفن الرجل الذي، ككل فنان حقيقي، يميل إلى العزلة والقناعة والتواضع، ويستوحش من الاختلاط والحرص والتصنع.
لابد من مساعدته لاقتحام هذه الطباع، في مناسبة للتعريف به، ثم لنقل فنه للأقرب فالأقرب من المتعاملين معه: رجال الغابة، جمعيات النحالة، عامة المهتمين من طلبة المدارس ومحبي البيئة، وغيرهم.
كل الترتيبات وصلت إلى التمام والكمال لإقامة حفل في قاعة الحفلات بقصر العمالة بمناسبة اليوم العالمي للغابات. تحرص المصلحة على تخليد الذكرى في كل العمالات التي تغطيها، عمالة الرباط سلا وتمارة عمالة سيدي قاسم وعمالة القنيطرة. ملصقات ولوحات وصور ومجسمات ومنتوجات تزين بهو القاعة، يفسر مهندسو وتقنيو المصلحة عبرها كل شئ يتعلق بالغابات ومنافعها ومنتوجاتها ومخططات استغلالها ومشاريع تجديدها وتوسيع رقعتها، والمطلوب من الناس في التعامل معها...
في الجلسة العامة التي حضرها عامل الإقليم وكل المسؤولين في الإدارات والجماعات ورجال الأعمال، كان من بين المتدخلين ضيفنا المغمور السيد "هاكور". سرعان ما جذب انتباه الناس وأخذ بلبهم.
لقد كان صادقاً يعبر عما في نفسه من غير تصنع ، ويترجم عما جربه في الحياة من غير تكلف. يتكلم بقوة الواثق من تجربته كأنه يقول للناس: " انظروا صدقية ما أقول في قوة جسدي وروحي رغم أنني بلغت من العمر عتيا. كل ذلك لأنني لا أعالج نفسي إلا عن طريق صيدلية النحل الطبيعية. منتوجاتها تقدم الشفاء لأخطر الأمراض: ضعف المناعة الأمراض السرطانية، الربو الوماتيزم... وغيرها كثير".
وتكلم كذلك عن فوائد النحل الاقتصادية، حيث يقوم النحل بدور كبير في تلقيح الأزهار يفوق أهمية منتجاته من العسل والشمع بمقدار 10 مرات، حيث يزيد انتاجية الاشجار المثمرة والخضرواتوالمحاصيل الحقلية من 30% وذلك نتيجة التلقيح الاستهجاني الذي يقوم به النحل وبكفاءة عالية لاتستطيع أي حشرة أخرى أن تضاهيها في هذه الوظيفة.
أما الفوائد البيئية، فوجود النحل في بيئة ما، يعتبر مؤشراً على عدم التلوث، وغيابه يدل على وجود خلل بيئي أو تسمم خطير يصعب علاجه.
بعد هذا الاحتفال باليوم العالمي للغابة، توافد الناس على السيد "هاكور" آملين استثمار أموالهم في تربية النحل.
نوى المهندس “ نحال” إفادة رجال الغابة بتجربة الرجل عن طريق تنظيم دورات تدريبية، فاكتشف أنهم كانوا على اتصال دائم بالرجل وتجربته، لكنهم يفعلون ذلك في السر خائفين من زجر الرؤساء، ومن عين الحسود.
وما كان من المسؤول “ نحال” إلا أن عقد معهم اجتماعا لوضع القواعد الأدبية لمزاولة هذا النشاط. قال لهم: " إن قوانين الإدارة ترخص لكل واحد منكم زراعة كذا من الهكتارات في الغابة لتغذية الخيول، وكذا من البهائم، وكذا من خلايا النحل لتلبية الحاجات الشخصية، فما رأيكم بمقايضة البهائم، التي تسبب أضرارا للغابة، بزيادة المسموح به في تربية النحل الذي يزيد في إنتاج الغابة؟ وبعد مشورة صادقة وصريحة، ختم الجلسة بقوله: "اذهبوا فأنتم الأحرار في نشاط تربية النحل، شريطة التخلي عن تربية البهائم، وشريطة مراعاة قوانين الاستعمال المؤقت للملك الغابوي، وشريطة أن لا يشغلنكم ذلك عن مهامكم الإدارية".
لا يمكن القول إن ذلك اليوم كان انطلاق تسابق كتسابق سكان شرق أمريكا لغزو غربها الخالي من أي عمارة. فلقد كان النشاط رائجا قبل ذلك بين أوساط رجال الغابة، نظرا لتوفر غذاء النحل في غابات الأوكاليبتوس المترامية الأطراف، وفي أغراس الليمون التي يملأ عبقها كل منطقة الغرب الشاسعة، وفي حقول دوار الشمس الصفراء صفورة ليست من سقم، بل بهجة بكساء الملائكة، الذين يحبون اللون الأصفر المذكر بأصل خلقتهم النورانية.
ولقد نجح بعض رجال الغابة في الحرفة، وفَّرت لهم ما اشتروا به ضيعات وعقارات، فاستغنوا عن وظيفة الدولة. ولربما رجع بعضهم إلى الغابة، ليس من باب الإجارة، ولكن من باب المقاولة والتجارة: مستغلا للخشب، أو غارسا للشجر، أو فاتحا للمسالك الغابوية، وغير ذلك من الأنشطة التي تدور حول الغابة. فهل سيستمر الخير وهل ستبقى خلايا النحل عامرة بنشاط الجنود المجندة التي سخرها الله للإنسان؟
لاستحقاق ذلك الدوام لابد من شكر المنعم، ولشكر المنعم لابد من الاعتراف بعظمة صنعه، ولا يستقيم الاعتراف إلا لمن كان من المتفكرين في وحي الغابة الذي يتناغم مع قوله تبارك وتعالى: ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُون 68 ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 68 -69) .
لقد أوشكت الحياة البرية في الغابة على الاندثار، باستثناء الخنزير البري، الذي أينما تولي بصرك تجده واسع الانتشار. لا لسبب التشريع الفرنسي فقط الذي لا يزال ساريا حتى بعد الاستقلال، والذي أحاطه بعناية خاصة على كل حال. وإنما بسبب التشريع السماوي الذي حرم أكله أصلا. فهاهو حيوان ضخم يفترس كل شيء، لكن ليس هناك في الغابة من يفترسه: لم تبق باقية لليوث أبي الليوث المعروف بسيدي بليوط باللغة العامية. ولا لتلك الضباع التي اندثرت طمعا في مخها لما فيه من خواص يعتقده السحرة وبعض حبائل الشيطان... ولا لتلك النمور والذئاب التي زاحمتها في ملاجئها الآمنة أنشطة الإنسان في الزراعة والرعي
ذلك يعني بلغة القوانين البيئية: الانتشار السريع للخنزير الذي يبلغ درجة اختلال التوازن، خاصة وأن خصوبته التناسلية لا تضاهيها إلا خصوبة الفئران. يشتكي منه المزارعون يخرب مغارسهم، وكذلك أعوان الغابة يتلف بذور تجديد الغابة، وكذلك أصحاب السيارات يعترض سبيلهم، وسكان البوادي يهجم على صبيانهم وعلى نسائهم إن كن يحتطبن أو يلتقطن شيئا من ثمار الغابة.
لصالح من يحاط الخنزير باحترام يفرضه القانون عبر تغريمات باهظة وعقوبات السجن لكل من قتل خنزيرا؟ هل حقيقة لا يوجد من يفترس الخنزير؟
وضع مهندس الغابة السيد “حياح” مع مسؤولي مقاطعة وازان، اللمسات الأخيرة على مخطط لتنظيم مصيدة لمطاردة الخنزير، في غابة من غاباتها الكثيفة. كان ذلك في يوم السبت ويوم الأحد هو تاريخ المصيدة. كان ذلك في موسم الصيد الذي يتزامن مع فصل الخريف.
انطلق الجمع قبل شروق الشمس من دار عامل الإقليم بعدما أفطروا عنده. كان من بين الصيادين ضيوفا مرموقين، لُكنة بعضهم شرقية، ولُكنة بعضهم غربية. لا يعلم عنهم رجل الغابة “حياح” شيئا سوى أنهم "مرموقين". ولايهمه أنهم كذلك، أو دون ذلك، ما يهمه هو الحرب التي سيشنون على الخنزير، ذلك الحيوان الذي يقدسون، ولا يحسبه هو إلا من بين تسعة رهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. فلتكن المذبحة شرسة، شريطة أن لا تستعمل فيها سموم "الستريكنين" المستوردة من إسرائيل، أوغيرها من المبيدات المحرمة التي مر ذكرها.
وصل الجمع إلى مكان المعركة. تحصن الرماة في مكامنهم التي حددت من قبل في الخرائط، وهاهم فيها الآن على الأرض منها يرصدون. واتخذ “حياح” مع المهندس المحلي مكانا عليا، منه يوجه عبر الراديو أمرا كان مقضيا. ولم يكن “حياح” على علم بمن كان في الآكام مخفيا. بطبيعة الحال كان هناك جيش من القرويين مهمتهم إثارة الحيوان وتوجيهه الوجهة الحسنة، يسمونهم هنا "الحياحة". كانوا هنا وهناك، ولكن في خفاء لا يظهرون. وربما كانت هناك أيضا قطعان الخنازير التي يطلبون، لكن ليس ذلك قطعي التأكيد. ومن ذلك الشك كان أصحاب الغابة يتخوفون. وفي الموضوع قصة كانوا بها يتندرون: قصة "الخنزير ذو رباط العنق". يحكون أنه كان في مصيدة مثل هذه، رجال "مرموقون جدا "، وخاف الغابوي المسؤول أن تكون غابته من الخنازير خالية، فتسفر المصيدة على نتائج خاوية، فيجر عليه ذلك نقمة الصيادين المرموقين، الذين أتوا لسفك الدماء متعطشين، يسَكِّنون به نقمتهم على حسادهم الأكثرين، إذ كلما كبر الجاه كبر معه عدد الحاسدين. فسلك الغابوي مسالك الحيلة والحذر، درءا لنقمتهم التي لا تُبقي ولا تذر. أرخى شباكه في كل الغابات الأخرى يصطاد خنازيرها. فحصل له الوافر من أعدادها. شد وثاقها بربط الوثاق على أعناقها وأرجلها، واتفق أن نفذت الحبال، فكمل وثاق خنزير منها برباط عنقه الأخضر، وحملها ليلا إلى مكان المصيدة. كلف الرجال الأشداء من جيش "الحياحة" بإطلاق سراحها عند الإشارة، بعد توجيهها صوب أهداف الرماية. تمت عملية إطلاق سراح الخنازير بسلام كلهم، ما خلا أضخمهم، غلب على صاحبه لما أراد فك وثاقه، وركض بعيدا ورباط العنق الأخضر عالقا حول عنقه.
واتفق أن نجحت الحيلة، أصاب الصيادون من الخنازير العدد الكثير. ثم نزلوا من مراصدهم إلى ساحة الوغى، يتفقدون الموتى ويسدون ضربات الرحمة للجرحى تريحهم من ألم الاحتضار. وأثناء التفقد، اكتشفوا رباط العنق الأخضر في عنق الخنزير الضخم. فتعجبوا كثيرا، وذهبوا في تفسير ذلك مذاهب شتى. قال قائل منهم متندرا: لقد أتاكم بالزي الرسمي احتراما لكم ولما تعملون. فضحكوا من نكتته ولكن اللغز لم يزل قائما محيرا. ولما اكتشف أفطنهم السر وأطلعهم عليه، ارتفع ضحكهم حتى بلغ الآفاق. فأتوا بصاحب الغابة يستنطقونه فيما وقع، ولم يجرؤ أن يخفي ما في الأمر إنكارا. واتفق أخيرا أن كان منهم رجل من الأخيار، فعل من المعروف مع صاحب الغابة ما لم يكن منتظرا، لأنه كان سببا في فرجة سعيدة لا تنسى. هذا ما كان من أمر النكتة.
أما ما كان من واقع المصيدة التي حضرها مهندسنا“حياح”، فلم يكن هناك أي ترتيب مسبق، يأخذون به حذرهم في ضمان وجود الخنازير. اعتمدوا فقط على عدد الرسائل التي كانت تنهال كالمطر على المصلحة تشتكي من ضرر الحيوان المفسد.
وعما قريب سيرتفع الشك، ولكل حادث حديث.
أذِن الوقت المحدد وأُعطيت الإشارة للبداية، فقام جيش "الحياحة" قومة رجل واحد، وحملوا على الخنزير حملة متوحشة لا شك أن الوحش تعجب منها، يقرعون الطبول، ويزمرون، ويزمجرون، ويصيحون، ويضربون الآكام بعصيهم يمنة ويسارا. ونهض الخنزير من نومته الصباحية لا يلوي على شيء، خرج من مخابئه بعدما لجأ إليها للنوم بعد ليلة قضاها في تخريب الزروع. ولم يكن في وسعه بعد دهشة المباغتة، إلا المضي مباشرة نحو فوهات البنادق التي كانت له بالمرصاد.
سقط العشرات منه وجرح العشرات، ووجد الناجون جيشا آخر من "الحياحة" في الجهة المقابلة، أرجعوهم على أعقابهم نحو المكان المشؤوم، فرماهم الرماة رمية من لا يخطئ الهدف، فكان "الطائح" منهم أكثر من "الناهض" ومن الناهضين من كان نهوضه انتفاضة محتضر، كان أمله الأخير من الدنيا مواراة جثمانه داخل الآكام الكثيفة.
وإن هي إلا سويعة أو زد عليها قليلا، حتى انتهت الملحمة، فلم تبق للخنازير باقية، ما خلا جراء صغار تناثروا هنا وهناك غير بعيد من ساحة الوغى .
نزل المهندس “حياح” من برجه لإحصاء القتلى والجرحى. ووجد الضيوف المرموقين في نشوة انتصارهم يرقصون كالصبية، ويصيحون سكارى من نشوة المتعطش لرؤية الدم.
تساءل ماذا سيفعل بأكوام جثث القتلى؟ هل سيحضر جرافة لدفنهم في مقبرة جماعية أم سيضرمهم نارا؟ أم سيدعو صديقه المسؤول عن الصيد وحماية البيئة ليسلم البضاعة إلى حديقة الحيوانات التابعة للمياه والغابات، لإطعام الأسود الأطلسية الجائعة فيها. لكن الجواب على تلك التساؤلات سيأتيه قبل أن يصرح بما يجول في خاطره: من جهة الضيوف المرموقين، وبلكنة عربية أنثوية، قال قائل منهم: "احضروا أعشاب الغابة العطرة، وشقوا بطون الخنازير النخرة، واملؤوها حالا لئلا تغدو بعد حين نتنة".
وبعد، فيما يتعلق بالسلسلة الغذائية، هل حقيقة تفتقر الغابة إلى حلقة المخلوق الذي يفترس خنزير الغابة؟
قضى مهندس الغابة السيد “الرامي” يومه مع صديقه المسؤول في قسم الصيد وحماية البيئة لإعداد تظاهرة عالمية تتعلق بالصيد. اختارت إدارة المؤتمر العالمي حول الصيد والحياة البرية المغرب لتنظيم اجتماعها العالمي تلك السنة، من بداية الثمانينيات. اتضح بعد جلسات الإعداد في الإدارة المركزية ما هو مطلوب فعله من مصلحة القنيطرة. قفل راجعا إلى المصلحة، وهو الآن بدوره يستعد لجلسات تهييئية أخرى مع مساعديه والإدارات المحلية التي يهمها الأمر. تنظيم يوم الرحلة الميدانية للمشاركين في المؤتمر: تلك هي المهمة التي أسندت للقنيطرة.
تعلم المهندس “الرامي” من تجارب المصيدات الماضية أن أول شيء ينبغي معرفته، هو نوعية الضيوف، ومحور اهتمامهم، وأهدافهم المعلنة ومجال عملهم، ثم معرفة الجهة المحلية الداعمة لهم.
تضم الجمعية نخبة من نبلاء أوروبا الأقدمين، ومن يدور في فلكهم من رجالات الفن والفكر والعلم والتاريخ والسياسة... ممن تستهويهم الحياة البرية ببيئاتها المتنوعة، والمصيدات بكافة أشكالها، وبطبيعة الحال، الأطباق المحلية من الأكل "البري" وما لذ منها...
قالوا إن مهمتهم مهمة علمية، تطوعية، اقتراحية، تساعد المنظمات الدولية والحكومات والمهتمين في حماية الحياة البرية. ينصحون إلى قواعد التدبير المستدام لثروات الصيد، اعتمادا على القوانين البيئة الضامنة لتجدد السلاسل الغذائية. ويحذرون من أي خلل يرصدونه في التنوع البيئي.
أما ما يتعلق بنوعية ومستوى الدعم المحلي، فالتظاهرة وضعت تحت رعاية السلطات العليا في البلد، وتطوع لها بما تحتاجه من مؤن أمير من الأمراء الذين كانوا من محبي الحياة البرية والمصائد النبيلة. فإن صادف وأن يكون عامل الإقليم صيادا ماهرا، فتلك هي الظروف الميسرة لتنظيم التظاهرة.
فلم يبق إذن سوى التصور العلمي الفني الراقي لإبراز الأصالة المحلية، وخصوصيات الجغرافيا والتاريخ، لكي تنجمع عناصر نجاح المؤتمر. ثم لابد من التفكير في كيفية استغلال نفوذ الجمعية ولوبياتها المتمكنة لجلب نفع ما لهذا البلد "المضياف". لأنهم كما خبِرهم “الرامي” في فرنسا، يؤمنون بتبادل المصالح، ويتحرَّجون من الكرم الحاتمي الذي يكرم من أجل الكرم، ويسخرون من الكرم المتبجح المبتذل، الذي يسعى لإخفاء واقع التخلف في بلدان الجنوب. فإن اتفق وحصل إهمال في هذه النقطة الأخيرة، فستعتبر الضيافة إهدارا للمال العام، أو تبذيرا للثروات الطبيعية التي يعتبرون أنفسهم حراسا عليها.
انطلاقا من هذه الخلفيات عقد المهندس “الرامي” اجتماعاته المارطونية مع موظفي الإدارة المحليين والجهويين. واتصل مع السلطات الإقليمية والجماعات المحلية لترتيب الرحلة الميدانية للمؤتمرين الذي يبلغ عددهم بضع مئات.
فوق الهضبة المشرفة على بحيرة "المرجة الزرقاء"، نصبت في نظام بديع عشرات الخيام الضخمة التي تكلف بها رؤساء الجماعات القروية القريبة من "مولاي بوسلهام". تم إحضار المنظارات المقربة التي تيسر رؤية الآلاف من الطيور المهاجرة. أكثر من مائتي نوع من الطيور تتقاطر على البحيرة الشاسعة الأرجاء معششة أو مقيمة مقام استراحة لاستئناف رحلة الصيف والشتاء، الوفد يتهافت على التمتع برؤيتها من الهضبة المشرفة على المرجة المصنفة دوليا تصنيفات شتى كلها لها علاقة بحماية الحياة البرية وحماية الأماكن الرطبة التي تأويها.
هذا ما كان من أمر الجغرافيا.
أما ما كان من أمر التاريخ، فللمكان ذاكرة تروي قصص الأيام المجيدة، وفصص أيام أخرى أقل مجدا، إذ الأيام دُوّل متقلبة، كما قال الشاعر الأندلسي المفجوع في ضياع بلده: " هي الأيام كما شاهدتها دول *** من سره زمن ساأته أزمان "
التمس “الرامي” شيئا للتذكير بأيام المجد، فلم يجد لا أنصاب تذكارية محلية، ولا متاحف بالناحية، ولا شيء مما يأصل الهوية. فالتمس من سلطات مدينة وازان والجماعات القروية المحلية أن يوظفوا للمناسبة فرقا من أصحاب الفروسية، الخيالة الرماة. فسَرَّه الجمع الغفير الذي تيسر منها، وكان قد بدأ فرجته وعروضه من ألعاب الفروسية الحربية لما وصل الوفد. كان الفرسان يتهيأون بعيدا قبالة الخيام التي أوت جموع الضيوف، يُسَوُّون صفوفهم، ويطلقون فرجة التبختر لخيولهم العربية الأصيلة، يذَكِّرون برقصة المقبل على الموت لا الجبان المدبر، ثم يطلقون العنان لها، فتحمل حملة واحدة على عدو مفترض، كان الوفد يمثله. حتى إذا اقتربوا أمتارا قليلة من الخيام مسددين نحوها بنادقهم، رموها عند إشارة قائد "الحركة" في طلقة رجل واحد بالبارود المجرد من أي رصاص، فيُحدث دوي الانفجار هلعا عند الضيوف، يتضاعف باقتراب الخيول الراكضة، لا يحبسها الفرسان إلا في اللحظة الأخيرة. يتعالى صراخ النساء، ويختلط بجلبة الرجال، فتنجمع عناصر البهجة في فرجة شيقة لا تنسى. وبحكم ثقافة الزائرين وفضولهم العلمي يسألون عن أصول هذه الألعاب الحربية، وعن أعراق تلك الخيول البهية، فيتكلم الناس عن معركة وادي المخازن التي صد فيها السعديون جيوش البرتغال في مكان قريب من مكانهم هذا. ويذكرون بما كان قبلها من تقاطر جيوش المرابطين والموحدين والمرينيين، يجتمعون في هذه الهضبة قبل عبور مضيق جبل طارق لنجدة المسلمين الأسبان من حروب الاستئصال والإبادة.
أما ما يتعلق باللمسات الفنية فلقد اختار منها المهندس “الرامي” ما لا يحط من كرامة المغاربة. فلقد اقترحت فرق فلكلورية فيها شيئ من الفن الماجن المتهتك، وفرق أخرى تظهر الرجال يرقصون رقصة النساء... تبرم منها المهندس ولم يبق في نهاية المطاف سوى فرقة نحاسية رآها يوما في حفل استقبال عامل الإقليم في وازان، تتغنى بالولي الصالح مولاي عبد السلام بن مشيش، في ألحان مغربية، ومزامير تقليدية وطبول ضخمة. رأى فيها مزيجا من أنغام الكرنوميز الأسكتلندية التي تقشعر لها الجلود، وقوة إيقاع الآلات النحاسية وطبول الجيوش العثمانية التي كانت ترعب أوروبا في القرن الماضي وما قبله. واختار المهندس“الرامي” فرقة من الرماة الذين يتقنون بعض الرقصات الحربية ببنادقهم ورماحم. وكان الحاصل أن امتزجت تلك الأهازيج بأصوات فرق الفروسية المندفعين أفواجا تلو أخرى، وصهيل الخيول تلهث قرب الخيام بعد الأخذ في آخر لحظة لأزمتها. خالط ذلك رائحة البارود والغبار وروث الخيل. فلكأنك في معركة حقيقية من معارك الماضي...
أما ما كان من أمر الأكل والشراب ففي أطباق الخراف الأميرية الفتية المشوية في الفرانين التقليدية، وفي طعام الكسكس المخضر بسبع خضر طرية، في ذلك ما يكفي لإقناع الضيوف بوسطية ذوق المطبخ المغربي، فلا دهون زائدة، ولا سكريات مضرة، ولا مواد مصبرة ولا زوائد اصطناعية. أما عن الشراب فلم يكن يتخلل المائدة شيء من المحرمات ولا المصبرات ولا الغازيات، إنما كانت هناك كؤوس الشاي الأخضر المحلى وغير المحلى، وكذلك الماء المعدني الطبيعي. وكان ختام المأدبة ما لذ وطاب من الفواكه المحلية. فأتى ذلك مطابقا لمطلب النبلاء من المدافعين عن نقاء البيئة وصفائها وخلوها من الإسراف والتبذير التي تمجه الفطرة ولا يجر على صاحبه سوى مقت الضيوف وسوء الثناء ودني المحمدة.
بقي العنصر الخامس من عناصر نجاح المؤتمر، والذي يرى أنه لابد من التفكير في كيفية استغلال نفوذ الجمعية ولوبياتها المتمكنة لجلب نفع ما لهذا البلد "المضياف". لأنهم كما قيل سابقا، يؤمنون بتبادل المصالح، ويتحرجون من الكرم الحاتمي الذي يكرم من أجل الكرم، ويسخرون من الكرم المتبجح المبتذل، الذي يسعى لإخفاء واقع التخلف في بلدان الجنوب. فإن اتفق وحصل إهمال في هذه النقطة الأخيرة، فستعتبر الضيافة إهدارا للمال العام، أو تبذيرا للثروات الطبيعية التي يعتبرون أنفسهم حراسا عليها.
أعمال الجلسة الختامية للمؤتمر عقدت في قصر المؤتمرات بمدينة فاس العريقة. كانت مخصصة للإجابة على بعض الأسئلة ولمناقشة التوصيات التي دأبت اللجان المختلفة على صياغتها في الجلسات السابقة. وجدها “الرامي” فرصة للإفصاح عن العنصر الخامس: ما المطلوب من الجمعية لتحسين وظيفة الصيد عندنا، والحفاظ على ثروات الحياة البرية. كانت صياغته من خلال طرح إشكالية توزيع ثمار الحياة البرية بالقسط بين دول الشمال ودول الجنوب. فكأنما الواقع يفرض على الجنوب أن يزرع الزرع ويرعاه ويحرسه، حتى إذا كانت الثمار جاهزة قيل له: "ارفع يدك عنها فلا نصيب لك منها، فهي مخصصة لدول الشمال". فالزرع هي تلك الأسراب من الطيور المهاجرة، تتناسل في الجنوب في المحميات، وتتكلف سلطات البلد بحراستها، ومنع أي أخذ منها بتحريم الصيد في مدة التناسل وكل ذلك محمود. لكن الطيور تهاجر إلى بلدان الشمال، وتكون هناك على موعد مع انطلاق وقت الصيد الذي لا يترك منها شيئا لبلدان الجنوب. فما العمل لرفع هذا الحيف؟ ألا يستلزم الأمر أن تخصص تعويضات للسكان المحليين الذين يمنع عليهم أي أخذ من الطيور المتناسلة عندهم؟
لم تطرح من قبل هذه الإشكالية من قِِبَل المسؤولين المحليين لأنهم يعلمون أن السكان المجاورين للمحميات ربما يأخذون نصيبهم عبر الصيد المتسيب الجائر. ولم يتكلم أهل الشمال عن الموضوع لأسباب يجهلها “الرامي”. وكأن الإشكالية التي طُرِحت وضعت المؤتمرين في خانة البداية. ولربما شعر بعضهم بوخز الضمير، لكنك لم تكن تسمع إلا همسا بين أصحاب المنصة. ولا يتذكر “الرامي” كيف رُفِع الحرج وسط جلبة وأخذ ورد. ربما كُلفت لجنة التوصيات بالإشارة للموضوع، ربما ترتب عن ذلك بعض المساعدات لتسيير المحميات في المغرب. لكن أن يصل الأمر إلى تقنين تعويضات عبر عمل إحصائي يقدر الحقوق والواجبات، فذلك أمر لم يظهر له أثر. وما أسهل أن يضيع حق ليس وراءه طالب، الدار مشرعة الأبواب وصاحبها غائب. ليس الكاتب بشاعر، ويأسف أن تكون ثقافته ثقافة علمية ليس لها إلهام شعراء الرثاء.
هناك عدة أنواع من الأنشطة التي تملأ جدول أعمال مصلحة المياه والغابات. منها أولا الأنشطة الواجبة التي تتبع برامج مُخططة، وتُرصد لها الاعتمادات، وتتبعها المحاسبات المركزية عبر التقارير الشهرية والسنوية، والتقويمات الجهوية عبر المجالس الإقليمية للغابات. أهم تلك الأنشطة أشغال الغرس والاستغلال والتجهيز والقنص والصيد وما يتبعها من أعمال دراسية ومكتبية وميدانية وتمويلية. منها ما هو موسمي ومنها ما هو دائم يدور مع السنة. هذه الأنشطة ربما كان لها تأثير في الترقية العادية، وربما لايكون لها أي تأثير، حيث أن وسيلة التقويم أصبحت مبتذلة تجعل الناس سواسية في التسطيح كأسنان المشط، لا يميز فيها بين الغث ولا السمين، وتوشك أحيانا أن تقلب الغث سمينا، والسمين غثا. ثانيا: الأنشطة التطوعية العلمية البحثية الاستكشافية التي تستهدف تطوير الأداء والإنتاجية والجودة. وهذه الأنشطة تتوجس منها الإدارة المركزية خيفة وريبة، وتوشك أن تجر على صاحبها النقم. يقع التشهير الشنيع بنتائجها إن كانت سلبية، وتستقبل بالتجاهل والطمس والنكران إن كانت نتائجها محمودة، حسدا من عند الأنفس المريضة، أوتخوفا غريزيا من منافس محتمل يستقطب الأضواء من دونها، أو رغبة خسيسة في الاستيلاء على نتائجها واستغلالها لصالحها. تلك هي التربية التي سيطرت على إدارة ورثت من الإدارة الفرنسية مساوئها، وانطمست معالم ما كان فيها محمودا. ثالثا أنشطة الطوارئ والمستعجلات التي لا علاقة لها بالمهام الأصلية. فهي عبارة عن بدع وأعراف سارت عليها السلطات الإقليمية لأسباب هي تعلمها، إنما الذي يعلم مهندس الغابة السيد “نادم” وسائر مسؤولي الوزارات الأخرى، أنها تخل بإنتاجية عملهم الرسمي المثمر. وأحيانا تصبح الطوارئ طاغية على العمل المنظم، فيستغلها المتزلف المتملق المغرض، لتبرير تقصيره في أداء مهمته المنتجة، بينما تراه دائم الحضور في الحفلات والتجمعات المستقطبة لأضواء الشهرة والكبرياء. وكيف لا ينشط فيها وهي التي لها كلمة الحسم في ترقية المسؤول في إدارته، ولربما تستقطبه أم الوزارات ليكون إطارا مهما في أسلاكها.
تكاد أحيانا تلك الأنشطة الطفيلية تكون مواكبة للعمل اليومي لعامل الإقليم، ولا يرضى إلا بحضور المسؤول الأول عن كل وزارة توجه له دعوة "الحضور الضروري والمؤكد". هذا بالنسبة لمتطلبات عامل واحد، فإن كانت الدعوات تتقاطر من عمال متعددين فكيف يصير الأمر؟ كان ذلك هو حال مهندسنا “نادم” الذي، بحكم اتساع منطقته الغابوية، عليه تلبية دعوات عمال أقاليم القنيطرة وسيدي قاسم والرباط وسلا وتمارة... في البداية، حاول تلبية الدعوات كلها لكن سرعان ما تبين له استحالة ذلك. وكأن ذلك صار عذرا مقبولا لانتقاء ما يفيد من تلك الأنشطة مما لا يعتبر سوى مضيعة للوقت وإهدارا للمال العام أو استخفافا بكرامة المواطن واستغلالا لضعفه.
يستعد المهندس “نادم” للمشاركة في جولة مع عامل إقليم سيدي قاسم، ستكون حاسمة في تطوير تعامله مع أنشطة الطوارئ تلك. نظمت قبيل عيد من الأعياد الوطنية، مناسبة لتدشين ذلك النوع من المشاريع التي يمجها “نادم”: الجد فيها نادر، وأغلبها مشاؤيع تافهة سخيفة تذر الرماد على الأعين. فتبقى المنطقة على حالها: بِنيتها التحتية ضعيفة، والمشاريع الإنتاجية والصناعية والتنموية لا تكاد ترى منها الأثر.
مسار الجولة كان في ضواحي قرية تسمى "سيدي بوصبر". عبارة عن سلسلة من الديار الطينية المتواضعة المتناثرة على سفوح جبال الريف الجنوبية. كثافة ونوعية سكانية عجيبة ( ... كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الفتح:29) إنها قبائل بلاد الهبط والتي يقول عنها ابن خلدون:" إنها استعربت ابتداء من القرن الرابع عشر الميلادي" فهي بربرية الأصل، أوت إلى تلك التلال طلبا للعافية من قلاقل التاريخ، خاصة بعد استيلاء العرب على البسائط الأطلسية. جموع غفيرة من القبائل الجبلية بصبيانها ونسائها ورجالها تجمهرت على جوانب الطرق تطبل وتزمر وترقص. لسان حالها البريء يقول: ولو أننا مستيقنون أن مشاريعكم لا تسمن ولا تغني من جوع، ولو أننا واثقون من الإهمال الذي سيلفنا بعد توديع الوفد كما لفنا قبل ظهور طلعته السنية ، رغم كل ذلك ها نحن نفرح بقدومكم الذي "بشرت به ريح الصبا، فأهلا بكم يا زائرينا ومرحبا"، ولا نطلب منكم سوى أن تتركوننا وشأننا.
يعيش الناس في الناحية على عائد فلاحة تقليدية تنعم بالمطر الغزير الذي يتهاطل على هذه التلال المعلنة بقرب جبال الريف المجيدة. وتوجد كذلك فلاحة صناعية تنتج مادة طابة التي يستعملها مكتب التبغ، يتعاقد مع المزارعين لشراء منتوجهم ويقدم لهم تسبيقات تجبرهم في نهاية السنة بالرضا بالقليل من العائدات. ولو تم احتساب أجرة اليد العاملة العائلية، وواجبات التطبيب، والضمان الاجتماعي، وضياع خصوبة الأرض، الذي تحدثه زراعة التبغ، لكان الحاصل سلبيا بالنسبة للسكان، فكأنهم يدفعون من جيوبهم لمكتب التبغ. هذا المكتب الذي سُلط عليهم لمنعهم من زراعة القنب الهندي. وصاحبنا “نادم” ليس من المدافعين عن زراعة القنب الهندي، ولكن لأستبدال سم بسم آخر، اليس من الأفضل ترك الناس وشأنهم مع زراعة القنب الهندي الذي يأتي للناحية المكتظة بالسكان بمردود يفوق عشر مرات ما تأتي به زراعة طابة التي يفرضها عليهم مكتب التبغ؟ ألا يساهم منتوج القنب الهندي في جلب العملة الصعبة التي لاتجلب منها طابة أي سنتيم؟ والعجز التجاري المزمن الذي يعاني منه البلد بسبب واردات السموم والخمور والمواد المحرمة، اليس من العدل موازنته بتصدير مادة لا تعتبرها بعض الدول الغربية محرمة في قوانينها، بل يعتبرونها معوضا مقبولا للمخدرات الخطيرة الأخرى الآخذة في الانتشار عندهم؟ وغير ذلك من التساؤلات التي من البلادة إغفالها والاكتفاء بدور كلب الحراسة لئلا تخرج المادة للخارج. أما تسريبها للاستهلاك الداخلي فلا حرج من تخدير شعب بأكمله لغرض ما، يصعب على الغابوي “نادم” إدراكه وتصوره. مايدرك ويتبرم منه هو ما يساهم فيه الآن مُكرها، من تدشينات جوفاء "جعجعة بلا طحين".
تلك هي الخواطر التي كان يسبح فيها فكر “نادم”، وهو يتنقل مع الوفد من مدشر إلى آخر ومن تدشين إلى مثله.
مرت التدشينات بسرعة ليستقر الجمع كالعادة في الخيام الفارهة، حول الموائد التي بدأت تتنزل عليها أطباق الأكباش المشوية وما يتبعها.
وهنا حدث الحادث الذي هو بيت القصيد: الأمر الذي ساهم في إحداث طفرة في تعامل المهندس “نادم” مع الأنشطة الطفيلية. بينما كان يستعد لالتقام طرف من كتف الخروف الفتي اللذيذ، الذي جمعه مع تلة من أصحاب الوفد المختصين في علم تشريح الخروف المشوي، فوجئ بانفتاح فجوة من الخيمة الفارهة، فظهر وجه صبي في العاشرة من عمره، أشقر اللون أزرق العينين، كأنه نزل مباشرة من نسل الفندال الجرماني، ثم تبعته وجوه صبية من نفس الطينة، يضحكون في براءتهم متعففين لا يسألون شيئا، لكنهم يسترقون النظر إلى الخير الذي تنهشه أيادي الضيوف المكرمين غير ملفتين للعالم حولهم. لما رأى صاحبنا “نادم” اجتهاد أحد الضيوف في طرد الصبية ووصفهم بأقبح الصفات، فلكأنه شعر بصفعة قوية أفاقته من سكرته. فجاءت الخطرات متسائلة جهرا: " ضيوف يطردون أصحاب الدار، سبحان الله، ونظر إلى اللقمة التي كان يستعد لمعالجتها متسائلا: "من يستحق هذه اللقمة أكثر، أنا أم هؤلاء الصبية؟ إن أكلتها فسوف لن يستقر أكثرها إلا في المكان المعلوم، وذلك طبيعي: غبار لا ضرر فيه يعود إلى الأرض التي منها خرج. وبعضها في هذا البطن الملعون الذي بدأت سمنته تظهر للعالمين، وذلك فيه من الضرر ما هو معلوم. فقرر أن تسلك اللقمات مسلكا محمودا، يرجا أن يكون حبل الأجر والعافية منه ممدودا: إلى هؤلاء الصبية العجاف الذين هم كالدر المكنون، يشهدون الملحمة وكأن الذئاب عنها يذوذون. أثار ذلك حنق الرجل الذي يستميت في وقاحة طردهم، فزاد الضيف “نادم” من سرعة إطعامهم مما أثار بهجتهم ومرحهم، فانقلبوا إلى أصحابهم يشاركونهم في الغنيمة. ودخل “نادم” في حديث ربما لم يعجب الرجل الذي كان يطرد الملائكة... حديث يتكلم عن أسباب نزول سورة التكاثر، لكن الضيوف الآخرين شعروا بعده بوخز الضمير، فقرروا خوض تجربة إكرام الصبية وإشراكهم في المأدبة التي اجتهد آباؤهم في وضعها أمام الضيوف رغم شظف عيشهم.
والطفرة التي حدثت في سلوك المهندس “نادم” ليست بالهينة. أخذ على نفسه العهد بالابتعاد عن شبهات الموائد التي تتبع التدشينات الجوفاء والأنشطة الطفيلية. تغلب على ذلك بالتدريج، دون أن يثير انتباه الناس الذين سيعتبرون الأمر منكرا من المناكير، في زمن أصبح فيه المعروف منكرا والمنكر معروفا. أول ما قام به هو الهروب من الموائد التي تجلب لها الخمور. ثم انتقل إلى مقاطعة الموائد التي تكون بجنب الفجور، ما يسمونه محليا فرق الفلكلور. ثم انتهى إلى الفرار من موائد المشوي وما يتبعه، ولم يسمح لنفسه سوى مشاركة الناس شربة ماء أو كأس شاي أوفنجان قهوة، يصطنع بذلك من المعروف ما يسهل التواصل بين الناس للتعاون على البر والتقوى.
وما أسهل ما يجعلك تتخلف عن المآدب التي يكون فيها صبية أهل الدار "كالأيتام في مأدبة اللئام".
وما أسهل ما يجعلك غائبا دون أن يشعر بك أحد عند قوم أكرهوا على إكرام غرباء الأطوار، ربما يكون من بينهم ذلك الذي قال فيه الشاعر: " ومن يصنع المعروف في غير أهله ||| يكن حمده ذما عليه ويندم" . فمرة قل لهم إنك صائم، ومرة تأمر السائق بإيصالك إلى المسجد والعودة إليك عند انتهاء المأدبة، وأحيانا تتعلل زيارة قريب، وأخرى شراء تذكار من القرية. لكن الذي ساء “نادم” في هذه التجربة، هو حرمان السائق أحيانا من شيء ليس ملزما أو مقتنعا باتباعه فيه...
ومرت الأعوام وقبل الناس الأمر الواقع: المهندس “نادم” يبعث من ينوب عنه في الأنشطة الطفيلية التي تتخللها المآدب. وذلك ما جاد به جهد التحلي بالصبر، في قرية "سيدي بوصبر" الجبلية، فأصبح عادة محمودة، سيستعين بها لضبط ماهو أخطر من نزوات النفس المذمومة.
الإشارة الأولى: جدران تنهار
- هل أحدَثَت إدارتكم في غابة "عين السبع" مقلعا للطين الأحمر؟ سؤال طرحته زوجة مهندس الغابة السيد “اعتبار”، بين يدي مائدة الغذاء، في يوم من أيام يوليو التي تجرى فيها امتحانات نهاية السنة الدراسية.
- لا أظن ذلك، لماذا هذا السؤال؟
يعلم صاحبنا “اعتبار” أن حرمه كانت مكلفة ذلك اليوم بحراسة امتحانات الباكلوريا في مؤسسة قرب المكان المذكور. فما علاقة الامتحان بالغابة ومقالعها؟
- "مجرد فضول لقد رأيت جرافات تجرف الطين من أرض الغابة وتملأ حاويات سرب من الشاحنات الضخمة تنقلها إلى وجهة ما في المدينة".
أخذ الهاتف وهو في مكانه ليستفسر المسؤول المحلي "حمدون". فرد عليه قائلا: " إنه مجرد أخذ ظرفي لصديق قديم للمياه والغابات، صاحب معمل للآجر، (وسماه باسم لا يتذكره كثيرا: "ضياف" أونحوه)، نساعده بشيء من الطين الموجود بكثرة في الضايات، ويساعدنا إن احتجنا آجُرا لترميم المنازل الغابوية والمكاتب الإدارية".
لم يقتنع “اعتبار” بما سمع واقترح أن تكون معاينة المقلع مع المهندس المسؤول. نعم كان التزود من الطين ظرفيا: لم يبق أي أثر للجرافات والشاحنات، ولكن الحفرة البشعة التي أُحدثت في الغابة تتحدث عن استغلال للاستعمال التجاري وليس للاستعمال المحدود. فإذن لا بد من إخضاعه لقانون الاحتلال المؤقت للملك الغابوي من أجل إقامة مقلع للطين.
ترك السيد “اعتبار” المسؤولين المحليين لمعالجة الأمر اعتمادا على مقتضيات القانون. والتحق بمهامه الأخرى التي كانت مقررة، ولم تكن من الطوارئ مثل هذا الطارئ الذي جاء من جهة زوجته الفضولية. تحدث معها ليلا فقال لها مازحا "بالله عليك أخبريني هل كنت تحرسين امتحان الباكلوريا، أم كنت تحرسين الغابة؟ فأجابت: "عليك أن تدفع لي أتعاب الحراسة".
في اليوم التالي بعدما أنهى مهامه المكتبية في الساعة السابعة مساء، ذهب صاحبنا “اعتبار” لتفقد أعمال منزل كان قد شرع في بنائه في حي شعبي من أحياء القنيطرة. كان الجو مثقلا بالغيوم منذرا بالعاصفة. وفعلا ارتفع غبار كثيف أثارته ريح زوبعة هوجاء لم تكن معهودة في الناحية. وتبعها مباشرة مطر غزير فيه َرَعْدٌ وَبَرْقٌ.
لما أشرف على المنزل هاله ما رأى: كل الجدران التي بنيت ذلك اليوم انهارت على الأرض من أساسها من قوة الإعصار الذي حل بالحي. وأخبره الحارس قائلا: " إن الجدران التي استُعمِل فيها الآجر الذي أرسلته مع الفارس، كلها هوت وتحطمت بالكامل". لكن مما ارتاب منه “اعتبار” أنه لم يرسل آجرا مع أي أحد ذلك اليوم. فمن أين أتى ذلك الآجر المشؤوم.
علم “اعتبار” لما استفسر عن الأمر أن صاحب المعمل أرسل شاحنة من الآجر إلى ورشة المنزل. من أخبره أن “اعتبار” يبني؟ من أعطاه العنوان؟ ألغاز ليس من الصعب حلها، خاصة بعد ما حدث من اكتشاف للحفرة البشعة، وما تبعته من أوامر صارمة لتسوية الوضع بتطبيق القانون. لكن اللغز الكبير الذي لم يستطع “اعتبار” تفسيره، هو لماذا تحطمت الجدران التي بٌنِيَّت بآجر طين الغابة المشبوه؟
ربما تفهم صاحب المعمل ردة فعل المهندس “اعتبار”، فأتى مهرولا بنفسه لجمع ما تبقى من سلعته المشؤومة. وحمد الله صاحبنا “اعتبار” على نجاة العمال من الانهيار المريب.
ورآى في ذلك آية تدعوه للصمود في وجه الإغراءات واستغلال النفوذ، وكل تلك الممارسات التي تحاول بإصرار كبير إفساد الموظفين بشتى الطرق.
الإشارة الثانية : زورق نجا من الغرق
في فترة الاستعمار الفرنسي كانت القنيطرة مدينة تعج بالصناعات المختلفة ثقيلها وخفيفها. واستمرت الحالة بُعَيد الاستقلال، بالنسبة للشركات التي اجتازت بسلام طفرة المَغرَبَة، بفضل الحفاظ على الأطر الأجنبية التي كانت تديرها تقنيا.
سياسة كادت أن تنجح لو لم يكن تدخل الدولة عن طريق سياسات صناعية فاشلة. فبعد سياسة المغربة والتأميم التي تبناها اليسار، جاءت فترة مخططات التنمية التي شرعت الأبواب لمكاتب الدراسات الأجنبية لكي تخطط الفشل الصناعي حماية لمنتوجات الشمال.
تبع ذلك تجربة انقلاب اليسار على سياسته السابقة، بتدشين عهد بيع مؤسسات الدولة للشركات الأجنبية. كان ذلك تجسيدا لصفقة تمت بين النظام واليسار المعارض ولوبيات مابعد الاستعمار. تساعد هذه اللوبيات اليسار للرجوع إلى الحكم لقطع الطريق على عدو مشترك يرونه في المد الإسلامي. مقابل ذلك، يتم بيع القطاع الصناعي و قطاع الخدمات لشركات المستعمر القديم فرنسا وإسبانيا، والتبرع لها بالنصاب الذي يخول لها تسيير المؤسسة. أما المبررات العلنية التي سوف يجدها اليسار لتمرير الخطة، فما أسهل العثور عليها عند أساتذة الاقتصاد الذين قولبتهم مناهج التعليم والتربية الفرنسية، يخاطبون شعبا خيمت عليه الأمية والفقر بسبب سياسات فاشلة. من أهم ما جاء في مبرراتهم: حاجة البلد للخبرات التسييرية والتقنية الأجنبية.
ولم تكن هناك أي دراسة جدية حول طرق جلب الخبرات والمهارات الأجنبية. فهناك طرق شتى لحل المشكل، لكنهم لم يروا منها إلا بيع المؤسسات الوطنية للشركات الأجنبية، التي من المفترض أن تتكفل بحل مشكلها بنفسها. ولم يعبأوا بالطرق المتاحة الأخرى، التي منها مثلا: ترك المؤسسة في إطارها المغربي وجلب الخبرات التكنولوجية عن طريق توظيف خبراء من الخارج أو الداخل في إطار تعاقدي يضمن التحكم في التسيير. ومنها اختيار خبرة أجنبية تسييرية وتكنولوجية من مناطق أسيوية لا تمت بصلة مع الغرب الذي يسلك معنا سلوك الحصار التكنولوجي النيو- استعماري.
المؤسسة التي نحن بصددها مؤسسة من النوع الذي احتفظ بالخبرة الأجنبية في إطار تعاقدي، بعد المغربة وشرائها من شركة محلية.
كان من بين هؤلاء الخبراء، مهندس في البناء الميكانيكي، فرنسي الأصل اسمه "لابيم"، كانت له صداقة مع مهندس المياه والغابات السيد “ناجي” لما لهما من مناسبة في هواية التمتع بالطبيعة وحمايتها من الإفساد. كان صيادا محنكا، يجوب يوم الأحد والأيام المرخص الصيد فيها ، تلك المناطق المشهورة بوفرة الطرائد. كان يؤلمه ما يراه من أضرار يسببها الصيد المتسيب في المرجة الزرقاء وضاية سيدي بوغابة وضايات معمورة وسائر الغابات والمروج والمحميات. يأتي إلى صديقه “ناجي” أو يتواعد معه في مكان ما، ثم يحكي له ما سمع وما رأى من أساليب الصيد الفوضوي. ويتشعب الحديث ويطرق سبل النهوض بوظيفة حماية الغابة...
وذات يوم، بعدما تسلم وثائق الصيد والقنص التي جاء في طلبها من المقاطعة، استأذن في مقابلة المهندس “ناجي”، وطلب منه أن يصحبه إلى المعمل يريد أن يريه مفاجأة. في الطريق إلى المعمل، حاول أن يتخيل ما كُنه المفاجأة التي خبأها له. ربما يريد أن يُطلعه على ما اكتشف من تلك الفخاخ التي ينصبها خلسة المبتلون بالصيد المتسيب ليلا. ربما يريد أن يطلعه على العلامات الغابوية التي تُنصب على جوانب الطرق تحذر من الحرائق أو من صدم حيوانات الصيد، أو الإشارة إلى مركز غابوي وغيرها من العلامات التي أُسند له صنعها عبر صفقة كانت المقاطعة قد نظمتها. فكلما تحدث “ناجي” في الطريق عن هذه الفرضيات يقول له المهندس "لابيم" ولاشيء من ذلك. دخلا إلى المعمل واتجها نحو شيء يلفه غطاء يحجبه عن الأنظار كما يفعلون عند التدشينات. فقال له: "أنزع الستار" فلما أزاح الستار وجدا زورقا جميلا متقن الصنع. فلم يفهم ماذا يخفي له، فقال من صنع هذا الزورق؟ فأجابه قائلا: "هذا الزورق من صنعي، في هذا المعمل، أوجدت قالبه واتبعت تعليمات صنعه من الألياف الزجاجية، والنتيجة هي ما ترى. وما كان من “ناجي” إلا أن أثنى على قدراته الفنية. وفعلا لقد تفنن في صنع زورق متسع ذي قاعين، مصقول يبرق كالمرآة بلون أبيض وأزرق ... غاية في الإتقان. وظن “ناجي” أن المفاجأة انتهت هنا، ولربما امتدت إلى شيء قريب من توجيه دعوة للقيام بنزهة عبر ضاية سيدي بوغابة أو في البحر المحيط. وإن كان ذلك، فسيقدر له “ناجي” لطفه وتعبيره الصادق عن معاني المودة والمروؤة ... لكن المفاجأة فوق ما يسرح فيه خيال “ناجي”، لم يصدق ما سمع. قال له: " هو هدية لك مني". ، هكذا لم يترك له المجال للاستفسار لماذا هذه الالتفاتة من جانبه فقال: "الم أقل لك لا بد من وسيلة تمكنك من النظر عن قرب للحياة البرية التي لا جدال في شغفك بحمايتها". فأجابه “ناجي” : " هذا لطف منك ولا أدري هل يمكنني تقبله، إنه فوق كل تخيل... ولا أدري إن تقبلته كيف يمكنني رد الجميل؟" فقال: " لا عليك وغدا سوف أدربك على سياقته".
تساءل “ناجي” في نفسه قبل المجيء إلى البحيرة لتعلم سياقة الزورق هل أعطيت هذا الرجل شيئا لا يستحقه فقرر مجازاتي؟ هل بين يدي هذه الهدية طلب من طلبات المغرمين بالصيد يصعب رفضه بعد قبول الهدية؟
ولكن كل تلك الأسئلة اضمحلت أمام السؤال عن الفرق بين الهدية والرشوة، والجواب الخالد الذي جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ عَامِلا فَجَاءَهُ الْعَامِلُ حِينَ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي فَقَالَ لَهُ : " أَفَلا قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لا إلى آخر الحديث" .
ربما تسرع “ناجي” في قبول الهدية لتداخل رغبته في استعمالها الإداري في تفقد الحياة البرية في مياه الإقليم، ورغبته في امتلاك قارب يمكنه من الغوص وصيد السمك في البحر مع صديقه الآخر" دوفال" ... تشابكت المصالح، واشتبه الأمر، وترددت في خواطره كلمات قرآنية "... وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ... الآية " (البقرة:267) ولكن لم يكن بعد قد اطلع على معانيها.
أصبح “ناجي” الآن قادرا على سياقة الزورق بمهارة، فذهب يوما صحبة أخيه وابن عمه لنزهة في نهر سبو. كانت نزهة شيقة تقربك من ضفاف النهر المعشوشبة، تكتشف فيها أعشاش دجاج الماء والبط و مالك حزين وغيرها من الطيور المحلية والمهاجرة. تنقل إلى الضفة الأخرى لمعاينة مافعلته أيادي الناس من تلوث وإفساد للنبات والطيور.
كان المبحر “ناجي” مستغرقا في اكتشافاته عندما تعطل محرك الزورق فجأة. لقد نفد البنزين ولمَّا كان “ناجي” أخذ حذره ليجعل لذلك احتياطا. ونسي كذلك المجاذيف والأحزمة الطافية. وهكذا استحالت كل حركة واستسلم الزورق للتيارا ت تلهو به كيف تشاء. كان الزورق في منعطف وسط النهر لما برز للمتنزهين الغافلين مجيء سفينة عملاقة تمخر عباب المصب متجهة لميناء القنيطرة النهري، غير عابئة بالزورق المعطل. كان الزورق في خط وجهة السفينة تماما. حتى وإن شاهد الربان الزورق فلا سبيل للمناورة نظرا لضيق الوقت وضيق النهر في المنعطف الذي تعطل فيه الزورق. دقائق معدودة تفصل الزورق عن الاصطدام الوشيك الذي لا مفر منه. شرع المتنزهون في التجديف بأياديهم، دون جدوى فهذا يجدف ذات اليمين والآخر ذات الشمال ولا يبرح الزورق مكانه يدور حول نفسه. فلم ير “ناجي” سبيلا للخلاص إلا إذا تم تنسيق عملية التجديف بالأيادي أو الهروب سباحة نحو الضفة لتجنب الصدام الوشيك. اتخذ أقرب وجهة لشاطئ النجاة وشرعوا في تجديف الهارب من موت محقق. ولما رأوا تحرك الزورق ببطء في الاتجاه الصحيح، لم يبق لهم سوى مضاعفة الجهد والاستماتة فيه للجنوح قليلا عن مسار السفينة العملاقة. لم تكن تفصلهم عن مقدمة السفينة سوى أمتار معدودة لما مرت قربهم حتى كادوا يلمسونها بأيديهم. هالهم منظرها وهي تمر غير عابئة بهم كعمارة شاهقة تطفو على الماء. ووصلتهم الموجة التي كانت في أثرها، فاضطرب الزورق كما تضطرب قشة تبن في تيار جارف. ولولا أن تثبتوا في جنبات الزورق لكانوا من المتناثرين في لجة البحر. ولم يتيقنوا بالنجاة إلا بعد الرسو على الضفة، وحمدوا الله على السلامة وهم يلهتون من فرط التعب والفزع.
ورآى “ناجي” في ذلك آية تدعوه لترك المتشابهات التي توشك أن تُـفضي إلى المحرمات. وتصدق بمحرك الزورق لأحد الصيادين كان منخرطا في تعاونية صيد سمك الشابل، وأراد دفع ثمن الزورق لصديقه بعد أن يطلعه على هواجسه المخفية وخلفيات تربيته الدينية ورؤيته الآيات الزجرية، لكن لما سأل عنه قيل له إنه قد رحل ولم يبق له أثر. وكانت تلك النزهة فوق الزورق المشبوه هي الأولى والأخيرة...
الإشارة الثالثة : الكفن والسلهام المثقوب
لم يبلغ بعد رجل الغابة "عازم" العقد الثالث من عمره عندما قرر الحسم في علاقته مع حياة التصابي والانشغال بالملاهي خارج أوقات العمل. فلقد كان يمضي أوقاتا ثمينة من أوقات فراغه في نادي كرة المضرب ونادي الفروسية القريبين من المسكن الشاسع الذي وفرته له الوزارة وكان قد بناه المستعمر الفرنسي وسط غابة البلوط والصنوبر عند مدخل المدينة. كان يلتقي كل مساء في نادي التنس مع أطر وعلية القوم في القنيطرة، يطول بهم السمر واللعب إلى الساعات المتأخرة من الليل، وربما أتموا ليلهم في النوادي التي يتوافد عليها الأعيان في القاعدة الأمريكية التي كانت في سيدي يحيى أوالتي كانت في مهدية. حياة تافهة يمجها الطبع ولايرضى عنها الشرع. كما أن الأمريكان كانوا يتوافدون بكثرة على النوادي الليلية التي يملكها بعض يهود القنيطرة... هكذا كانت المدينة في أواخر السبعينيات من القرن العشرين، تتبادل مع الأمريكان مصالح ما يسمونه "المنتوج السياحي"، الذي ليس سوى الاتجار في المحرمات، وسوى ذلك فلا وجود له تقريبا: لا مصالح اقتصادية ولا نفع تكنولوجي ولا أي شيء يستفيد منه البلد. اكتشف ذلك المهندس “عازم” عندما قارن الحالة مع ما عاينه في منطقة سرقسطة في إسبانيا. سمح الإسبان بكراء قاعدة عسكرية للأمريكان ولكنهم اشترطوا عليهم شروطا، وعقدوا معهم عقودا، أتى على إثرها الخير الوافر للمنطقة: معامل للسيارات وللمعدات الإلكترونية والميكانيكية من كل نوع، تباع منتوجاتها في أوروبا كلها، وفرت مناصب رفيعة للشغل لكثير من السكان الذين أصبحوا ميسوري الحال ترى على أوجههم نضرة النعيم. ذلك ما يمكن أن تفعله السياسة والدبلوماسية الواعية في بلد يعتز بوطنيته وبهويته.
في فترة التصابي تلك، يتردد “عازم” من حين لآخر كذلك على نادي الفروسية الذي كانت له علاقة خاصة مع إدارة المياه والغابات. لقد كان المسؤول عنه رئيسا سابقا لمقاطعة المياه والغابات في القنيطرة، مهندس فرنسي اسمه " شال" رجل مغرم بركوب الخيل والخرجات الغابوية. كان دائما يطلب مساعدة المقاطعة لإنجاز الأشغال والتجهيزات التي يتطلبها النادي. يتذكر “عازم” ذلك اليوم الذي أتاه يخبره بقرب موعد تنظيم المسابقات السنوية في حلبة النادي، فما كان منه إلا أن لبى له ما يريد لأن المناسبة سيحضرها أرستقراطيو الرباط والقنيطرة، وأفرادا من النوع "المرموق جدا ". كانت مناسبة من "النوع الراقي" حضرها ليلا “عازم” وحرمه. يتندران مرة مرة بذكر حدث وقع فيها، كان سببا في إخراج الناس من الجو "الارستقراطي" المتوجس المكفهر، إلى جو المرح والضحك. سبب ذلك هو شاب دون العشرين من عمره، يشارك في مباراة القفز على الحواجز. قفز به الحصان عاليا لاجتياز حاجز، وكاد أن ينجح في ذلك لولا أن سرواله لم يصمد للاستواء العنيف للحصان على الأرض فتمزق من الجهة المعلومة. ولم يعبأ بظهور سوأته لِما كان فيه من جد لا يقبل الهزل. وإنما كان الهزل من جانب الارستقراطيين وخاصة الأفراد "المرموقين جدا "، كلما مر أمامهم في الحلبة وظهر منه ما ظهر، تأتيهم هستيريا الضحك التي لا يصعب ضبطها، فتنتقل العدوى، ويضحك لضحكهم كل الضيوف الحاضرين. ولربما لما رأى الشاب أن حالته تدخل عليهم البهجة والفرح، لم يغير منها شيئا عندما جاء ليتسلم كأس الفوز من يد زعيم القوم. وهكذا نالت التظاهرة إعجاب الضيوف، وأثنوا على منظميها ثناء كبيرا. لكنها لم تسلم من القيل والقال والألسن الماكرة. فقيل عن الحادث إنه "دبر بليل" من لدن الداهية "شال" لكي يفتعل جو المرح والذكرى التي لا تنسى. وقيل إنه من افتعال الشاب الطموح الذي أرادها سببا لكسب التفاتة الأفراد "المرموقين جدا ". فإن كانت له حاجة من حوائج الدنيا يوما، فيكفيه أن يقول: " أنا الشاب الذي تمزق له السروال يوم القفز بالحصان الفلاني" فتقضى له الحوائج قبل أن يتم الإفصاح عنها، أو بعيد ذلك قليلا .
تلك هي الأجواء التي كانت تخيم على حياة “عازم” خارج أوقات العمل. بلغت من التفاهة والخواء ما جعله يوما يشارك مع بعض المترفين من أبناء المدينة في رحلة إلى كندا. لماذا؟ ليشجع فريق كرة القدم في مباراة حبية نظمتها الجالية اليهودية القنيطرية في كندا ونادي الأسود. وفي الحقيقة لم تكن سوى مناسبة لإظهار مستوى النجاح الدنيوي للجالية اليهودية هناك. عشرة أيام من المناكير والطرهات والتباهي بأخلاق السفاهة التي لا تدري كيف تتخلص من الأموال الطائلة التي راكمتها.
وفي المقابل رأى عند الكنديين العمل الجاد والتفاني فيه لإقامة دعائم القوة الاقتصادية الموزعة لثمار التقدم والازدهار. رأى العمارة المتقنة التي تنسجم مع الطبيعة النقية. رأى البنى التحتية الضخمة التي تيسر الحركة والتجول والتفسح. لاحظ أهم من ذلك: أخلاقيات وسلوكيات المواطنين العاديين ورجال السلطة ورجال السياسة ورجال العلم ورجال الفن. واندهش للأدبيات التي تطبع العلاقات بينهم. لا فرق هناك بين الناس في مستوى المعيشة، العامل كالإطار والرئيس كالمرؤوس والناس كأسنان المشط أمام القانون وقس على ذلك مما يطول ذكره ومما لا تجده في بلدنا إلا في كتب تاريخ الصحابة والتابعين. وهناك فهم “عازم” المقولة التي يرددها كل الحكماء والنقاد الذين يلاحظون الفرق الشاسع بيننا وبينهم، يقول القائل منهم: " رأيت هناك إسلاما بلا مسلمين وهنا رأيت مسلمين بلا إسلام"
كانت تلك الرحلة بداية لمنعطف حاسم في حياة السيد “عازم” . فكر فيه مليا في رحلة الرجوع إلى البلد وهو في الطائرة بين السماء والأرض... لقد مقت بعض الكهول الذين كانوا مشاركين في الرحلة وقرر أن لايكون مثلهم أبدا. عزمة بدت عليه مباشرة حين اعتزل عن الوفد متعللا بقراءة صحيفة وهو في الحقيقة يفكر كيف الخلاص من حياة التفاهة والتصابي؟
مباشرة بعد الرجوع قرر“عازم” الاستعداد لحج بيت الله وزيارة مرقد الرسول صلى الله عليه وسلم، ملتمسا هناك العثور على سبيل الخلاص.
والرحلة سيتحدث عنها “عازم” بالتفصيل الذي تستحقه في الجزء الثاني من الكتاب، يذكر الآن فقط ما يفيد موضوع الإشارة الثالثة: الكفن والسلهام المثقوب.
رجع “عازم” من رحلة الحج بالمئزر الذي كان يرتديه أثناء أداء الفريضة. اجتهد في مسحه على الحجر الأسود، وكتب وصية لزوجته يلتمس فيها أن يكون هذا المئزر هو كفنه عند مواراته التراب، ولله الدوام.
لقد خبأ الكفن بعناية في مكان آمن قرب سلهام كان يرتديه، زيا رسميا في مناسبة من المناسبات التي لا تنسى. مناسبة لا مجال لذكرها. حدث فيها ماهو أفحش وأخطر وأفظع مما حدث من المناكير زمن التصابي.
وكان “عازم” يتعهد الكفن مرة بعد أخرى، ربما متأثرا بقصة أحد الصالحين الذي حفر حفرة القبر في داره، وكلما طغت عليه نفسه، أخذ مضجعه في ضيق القبر لتذكيرها بالمصير المحتوم فترجع عن غيها برهة، وإن عادت عاد لعلاجها بضمة القبر... وهكذا حتى روضها ، فأصبحت مستقرة في حبها للصلاح وأهله، ومثابرة في بغضها للاستكبار والغرور.
ولكم كانت دهشة “عازم” يوما عندما أراد تفقد الكفن، فرأى حشرات الأرضة قد اتخذت لها في السلهام الذي قربه أعشاشا دون غيره من الملابس المجاورة، تقضمه قضما أرداه في طوله وعرضه مثقوبا. أما الكفن فلم يصبه مكروه ولم يظهر فيه جَرَبا. وتلك آية لم تمر على “عازم” دون أن يرى فيها عجبا. فثبت عزمه على المضي في إصلاح ما أفسدته حياة الترف الغافلة عن الموت والكفن والقبر والسؤال والبعث والمحاسبة على الصغيرة والكبيرة.
فهي إذن آفاق أخرى ستنفتح أمام “عازم” ، لتكتمل نظرته للحياة ليس فقط بعين الطبيعة وإلهامها وقوانينها، وإنما كذلك بعين الشريعة التي كانت مغيبة تماما في البيئة التي بدأ فيها حياته العملية.
***
*
تم الجزء الأول بعون الله وتوفيقه في اليوم الثاني من شوال 1428 موافق 14 أكتوبر 2007، وكان قد شرع في كتابته في بداية رمضان المعظم من نفس السنة. والله ولي التوفيق، نستغفره ونتوب إليه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله رب العالمين.
الرباط،
محمد المهدي الحسني