لكي لا يلدغ المغاربة من الجحر الدستوري مرتين...
الشعب يريد تحرير الدستور
محمد المهدي الحسني
الرباط بتاريخ 14 مارس 2011
مميزات قديمة جديدة
من أهم مميزات دستور المغرب أنه كان من وضع فقهاء اللادينية العلمانية الفرنسية من أمثال موريس دوفيرجي. فجاءت أهم أهدافه :
· أولا : تحنيط الدين / المعاملات والقيم، إذ تم تحييد الدين الإسلامي عن سدة الحكم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وقضائيا وأخلاقيا... وفتح الباب على مصراعيه للتحكم العلماني في المجتمع المغربي المسلم. ذلك رغم ورود ذلك البند الذي ينص على أن الإسلام هو دين الدولة. ولقد تم للعلمانية الالتفاف على ذلك المكتسب الدستوري فأضحى بندا معطلا محنطا لا أثر له في الميدان، إلا عبر تحريفات وبدع سقيمة وليدة الانكسار التاريخي الأموي، الذي شرع للحكم الاستبدادي عوض الشورى والديموقراطية، وللتسلط الإقطاعي عوض العدالة العمرية في إنتاج وتوزيع الثروات.
· ثانيا : تأويل بعض النصوص الدينية بشكل مغرض يروم خدمة قداسة مزعومة ما أنزل الله بها من سلطان، حتى صار السجود لغير الله، وكذلك العصمة لغير رسول الله، بدعا ترجمها دوفيرجي عبر مقتضيات الدستور اللاييكي للحيلولة دون محاسبة من بيده السلطة.
وعاش المغاربة تحت هذا الوضع المذل منذ أن وضع أول دستور سنة 1962 إلى يومنا هذا. وكان ذلك من إفرازات مقتضيات اتفاقية مؤتمر إيكس ليبان المذلة. تلك الاتفاقية التي رهنت وثيقة الاستقلال الصوري بتبني الأيديولوجية اللاييكية المحاربة لشرعة القرآن.
مراجعات أم ترقيعات؟
واليوم والحمد لله، أجمع المغاربة قاطبة: حكام ومحكومون، خاصة الشباب الذي لم يهرم في حضن المسخ والإذلال، أجمعوا على تغيير الدستور الذي أشرف عليه الأبناء الروحيون لموريس دوفيرجي. فوعدنا حكامنا بتعديلات هامة من إبداع الخبرة المغربية، سوف ترى النور في فصل الصيف المقبل.
وفي انتظار الجديد، فئات عريضة تسأل الله أن يحفظهم من أن يلدغوا من جحر أفعى اللاييكية ثانية، وقد لدغ منه آباؤهم الذين سبقوهم في مقاومة المستعمر. وهم الآن يسعون لتصحيح انطلاقة المشروع بمطلب طبيعي بديهي: تحرير مؤسساتنا الدستورية من الأيديولوجية اللاييكية الاستعمارية التي هي أصل الفساد والاستبداد والتلوث العقدي والثقافي.
إلى جانب الأغلبية المسلمة الملتزمة، توجد طبعا فئات تحاول إجهاض حلم المغاربة...
منهم من لا دراية له بهذه الأمور التي هي من قبيل الأفكار والتوجيهات المنهجية والتشريعية، وكثير من الناس لا يتهممون إلا للأحداث والصور والأشخاص.
ومنهم من تاه في غابات التفاصيل النصية الحقوقية التقنية، أو احتجبت عنها الرؤية بسبب الإفراط في شخصنة المسألة، فانشغل بالقشور وترك اللب.
ومنهم من لمس الرهانات الحقيقية واكتشف جوهر المسألة، ولكنه يميل بطبعه إلى منهجيات وشرائع أخرى. وتلك هي كلمات الله القدرية : {{ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجاً ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ولَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}} أردفها بكلماته الشرعية لكي لا يتهرب أحد عن مسؤوليته: {{ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }} المائدة: 48
والاختلاف من طبيعة خلق الله لقوله عز وجل {{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}} ( هود؛ 118)
دسترة التنوع الطبيعي:
والتنوع في الطبع يفرز اختلافا في الفهم والفكر والقيم، والكل من إبداع الخالق الخبير. وإرادته القدرية ماضية في تطوير الخلق عبر ثنائية الخطإ والصواب والتدافع بين الحق والباطل... قال تعالى : {{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}} [الأنبياء : 18]
يطمع خصوم المسلمين في مصادرة التنوع البيئي، والتعدد الثقافي، والاختلاف العقدي، باذلين جهدهم لكي نتبع ملتهم ودينهم الجديد العابد للقديسة اللاييكية. لقد حرفوا وزوروا ثم نبذوا الشريعة التي أنزلت على موسى وعيسى عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وعوضوها بدين العلمانية، ولن يهنأ لهم بال إلا إذا حذونا حذوهم، فنبذنا شريعتنا، وزورنا قرآننا بحذف تلك الآيات التي تأمرنا بالحكم بما أنزل الله. وصدق الله الخبير المبدع لسيكولوجيات خلقه في قوله تعالى : {{ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }} " البقرة ؛ 120"
فتبين أن من آكد الواجبات الحذر من تقليدهم في افتراء الكذب على الله ورسله. وسوف لن نأخذ عنهم سوى مافتح الله للعقل البشري في مجال قوانين الله الطبيعية التسخيرية للكون.
أما في المجال التشريعي فنحن أصحاب تلك اللبنة التي يكتمل بها بنيان صرح الحضارة البشرية. وهي اللبنة التي توحد موازين القيم والعدل. قال حبيبنا عليه الصلاة والسلام { إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق} " صححه الألباني" . وقال أيضا صلى الله عليه وسلم وعلى آله : { مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَل رَجُلٍ بَنَىَ بُنْيَاناً فَأَحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ. إلا مَوْضِعَ لِبَنَة مِنْ زَاوِيَة مِنْ زَوَايَاهُ؛ فَجَعَلَ النّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلاّ وُضِعَتْ هَذِهِ اللّبِنَةُ. قَالَ: فَأَنَا اللَبِنَةُ، وأَنَا خَاتَمُ الّنِبِييّنَ}" أخرجه مسلم".
واللبنة ينبغي أن تترجم قريبا إن شاء الله في مساهمتنا بإبداع حقيقي فريد من نوعه في الفقه الدستوري، عوض الإبداع الوهمي الذي ستفرزه محاولات ترقيع الدستور اللاييكي الممنوح منهم.
فلقد جاء خبراؤهم لتوجيه ورشة تعديل الدستور اللاييكي، وأكبر همهم اختيار مهندسي الترميم من بين المريدين النجباء الذين امتحنوا في الولاء للقديسة اللاييكية فنالوا أوسمة التقدير من سدنة هيكلها السري والعلني. وأغدقت عليهم الهبات من حكوماتهم، ومن بعثاتهم الثقافية ومراكزهم البحثية، بما أنتجوه من مساهمات سقيمة مقلدة لفقههم الدستوري المستخف بالشريعة.
سيناريوهات تحرير الدستور
ولربما قبل تحرير الدستور من مسخهم، سوف يعمد شرفاء البلد الغيورون على مستقبل بلدهم للمطالبة بورشة أخرى موازية لورشتهم، ورشة إعادة تأهيل مؤسسة إمارة المسلمين المطبقة للشريعة، التي أذن زمانها بعد انقراض قرن العلمانية، وقد وعدنا بتجديد الدين على رأس كل مائة سنة.
ولا مشاحة في التسميات، ادعها مؤسسة إمارة المسلمين، أو مؤسسة الدستور الإسلامي. ولا ينبغي ربطها بالأشخاص، لأن الأشخاص إلى زوال من مسرح الحياة بعد مضي زمن ابتلائهم ...
ولتكن ورشة موازية في الميدان مع ورشة تعديل الدستور اللاييكي.
فتكون انطلاقة لمرحلة التنافس في العمل الصالح بين القطبين : قطب اللاييكيين وقطب المتبعين لشرعة الرسل، ولنسميه مثلا قطب المغاربة الملتزمين، أو فريق الوفاء بالعهد، أو فريق التجمع من أجل الطبيعة والشريعة، أو أي اسم آخر...
وكما تم اختيار أعضاء ورشة تعديل الدستور اللاييكي، تبعا لتوجيهات ومعايير سدنة هيكل القديسة اللاييكية، لا مناص من تلبية طلبات أنصار التيار الإسلامي، في تعيين العاملين في تعديل مؤسسة إمارة المسلمين ممن يختارهم رجال التيار الإسلامي، من فقهاء، ومشرعين، وعلماء، وقضاة، وباحثين، وأساتذة، ومحامين، ومهندسين، واقتصاديين إسلاميين ... إذ أن من الظلم والاستبداد والوصاية المستعلية على الشعب المغربي، أن يتم التعيين لمراجعة أسمى وأخطر قانون للبلد لأسماء بعينها عوض أخرى:
· من الغريب أن نختار أغلبية اللجنة المؤسسة من التيار اليساري الذي لا يعترف بالشريعة، ونغمط الأحزاب الأخرى حقهم في المساهمة في المراجعة.
· من المجحف حقا أن نتغافل عن ذلك الفقيه الأمازيغي ... ، الذي سوف يجدد لنا الأحكام العمرية في خراجية الأراضي، وكذلك أحكام الثروات الطبيعية الكفيلة برد المظالم لإخواننا الأمازيغ. فلربما وازنا به رأي ذلك المناضل العرقي اللاييكي المترامي على القضية الأمازيغية، يريد حلها حلا انفصاليا لادينيا فلكلوريا.
· من الغريب أن لا يكون للاقتصادي المسلم، عمر الكتاني مثلا، أي رأي يوازن رأي خبراء الربا والريع والاحتكار والفساد المالي الذي أفرزه التيار اللاييكي، ورحمة الله نسألها لوالده إدريس الذي كان أول من بصرنا بخطر اللادينية على الشعوب المسلمة.
· من المرجف أن نشرف بالمساهمة في الورشة فقيها في التلموذ، ونغمط حق فقيه في الشريعة كمثل الريسوني أو العبادي، أو ....
· ونختار المحامي فلان ونتناسى الحاتمي، أو الرميد، أو غيرهما من الشرفاء المنافحين عن سجناء التيار الإسلامي مثلا....
· وهل من الرأي السديد أن نثق في الباحث الطوز، ونهمل الظريف مثلا؟.
· أوأن تكرم فلانة بعينها، ونتجاهل أسماء سيدات عالمات عاملات معروفات على المستوى الدولي...
ومعذرة عن ذكر أسماء والغفلة عن أسماء، وعند الحاجة سوف يقترح تيار الصحوة رجالاتهم الشرفاء للمساهمة في البناء القوي الأمين.
دسترة آليات التنافس في العمل الصالح:
وهكذا نفتح أبواب التنافس الحر، حسب القوانين الكونية التي تقتضي ضرورة الحفاظ على التنوع الطبيعي. والكل يعمل على شاكلته، ولكم دينكم ولي دين، ولا يجوز إقصاء أحد من الميدان، ولو كان من الحشائش المضرة.
والتنافس ينبغي أن يكون في العمل الصالح حسب معايير الشريعة، بالنسبة للمسلم وحسب معايير أخرى بالنسبة للعلماني...
لكن البقاء للأصلح، تبعا لحتمية كلمات الله القدرية : {{ ... وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا منكم ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين. }} " آل عمران ؛ 140 ". وكثيرا ما يستجيب القدر إلى إرادة شعب يعرف رهان القضية ويبذل النفس والنفيس للدفاع عنها. وذلك ما عبرت عنه حكمة خالدة قصيدة الشابي رحمة الله عليه:
إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ
ذلك من معالم الفهم الشمولي للمسألة الذي يستلهم فقهه من التوحيد الخالص والوحدة الكبرى بين قوانين الطبيعة وقوانين الشريعة، الراجعة كلها إلى قدرة الواحد الأحد جل جلاله، لا الفهم العلماني المشتت المجزئ الهادر للطاقات.
وبما أن السيد عزيمان أو السيد المنوني وفريقه، اطلعوا على تجارب الغرب في المسألة الدستورية، سوف تتجه أنظار الفريق الإسلامي لدستور إيران، تراجع فيه ما استند للمذهب الجعفري برده إلى مقتضيات المذهب المالكي ومتطلبات الخصوصية المغربية، وسوف لن تغير الكثير لأن المذهب المالكي أقرب المذاهب إلى الفقه الجعفري... وهكذا...
الاستفتاء حول ماذا؟
حتى إذا جاء موعد الاستفتاء الدستوري، عرضنا على خيار الشعب المغربي كلا المشروعين:
· مشروع الدستور اللاييكي من جهة، ولتكن لأصحاب الميثاق اللاييكي الصراحة في تسميته باسمه، غير متنكرين ولا مراوغين لتمرير حيلة تحنيط الشريعة، أو توظيف دين مزور من أجل إسدال قداسة على أحد من العباد، أو تنزيهه عن الخطأ، أو استثنائه من المحاسبة.
· مشروع الدستور القرآني من جهة أخرى، ولتكن لأصحاب الميثاق الإسلامي الشجاعة في عرضه بتلك الكاريزماتية المتيقنة من نصر الله لمن لا يشرك به أحدا، عوض سلوك موقف المداهنة أو استجداء المشروعية عند أعداء الدين، للحصول على موقع بئيس في مسرحهم السياسي العلماني.
سيناريوهات أخرى
فإن لم يقبل اللاييكيون هذا السيناريو الذي لا يلغي أي فريق من ممارسة حقوقه الدستورية، فلربما ارتفع سقف مطالب الشباب في زمنهم الثوري الذي يسره الله لتحريرنا من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة .... وحينئذ سيطالب الشعب المغربي بالاستفتاء الحاسم. وذلك هو سيناريو الاستفتاء العام لتحديد طبيعة الدولة التي ينشدها الشعب: دولة علمانية أم دولة إسلامية كما قامت به الثورة الإسلامية في أيران في بداية الثمانينيات من القرن الماضي. وعلى العلمانيين أن يحددوا في إطار دعوة إلى ميثاقهم العلماني، مفهوم الدولة العلمانية المدنية، وتحديد موقفها من الشريعة الإسلامية. وعلى المسلمين أن يحددوا في إطار ميثاق إسلامي، مفهوم الدولة الإسلامية، وموقفهم من حريات الأقليات، وموقفهم من رد المظالم التي ارتكبها الانكسار التاريخي من عهد معاوية إلى يومنا هذا.
لكن أن يفرض علينا العلمانيون تصورهم لمراجعة الدستور الحالي، ويحاولون خلطه بمشكل الوحدة الترابية لتمرير استمرارية تحنيط الدين، واستثناء البعض من المحاسبة، فذلك هو السيناريو الذي يعمل فيه الورش المعين أعضائه: سيناريو الاستمرار على النهج القديم بأيديولوجيته اللادينية، ودستوره الممنوح، ومؤسساته المحبوكة، ومعاهداته القديمة، وفساده الهيكلي... يتم فيها إجراء ترقيعات على الدستور، ومحاكمة بعض أكباش الفداء، واستبدال بعض الوجوه بأخرى، ومحاولة استرضاء ضحايا العهد القديم، وتلبية بعض المطالب النقابية... والشبابية. وتلك مرحلة انتقالية من المحتمل أن تفضي إلى دولة قمعية أخرى لأن طموحات الفقير الفاقد لقوت يومه، لا تحدها إلا حدود الثراء الفاحش الذي يتباهى به أصحاب الفساد القديم.
وهذا السيناريو هو المفضل عند فقهاء العلمانية الفرنسية، يتدارسونه أكاديميا تحت موضوع " la transitologie " ، أو علم الانتقال السياسي الديموقراطي. وحتما لن يقبله المغاربة منهم، لأنه هدية من أفعى مسمومة، والمؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين.