بسم الله الرحمن الرحيم
تأليف محمد المهدي الحسني
27 دجنبر 2011
سائح في أرض الفتح ـ الأمير ميسنايور في جزر ” بحر سردنيب ” ـ ذهول في مدينة إغرمنواسيف ـ أمير البر وأمير البحر ـ حكاية عطايا الملك “زيري” والجني “شمشالوخ” ـ سبب تنسك أمير مازغستان ـ استراحة الفتى فبريار في مؤسسة ابن السبيل.
من بلاد مازغستان 2056 ! بعد ثورة الشعوب التي عمت العالم انطلاقا من تونس … حكايات من نسج أحلام الخيال، الذي لا يقيده عقال… فمن ربط أحداثها أو أشخاصها بما هو موجود في الوجود، فليتحمل تبعات الجحود بتنزيه الخيال عن القيود والحدود… ولقد رُفِعَ الْقَلَمُ عَنِ الحالم حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ المتخيل حَتَّى يعقل”.
سائح في أرض الفتح
كنت راجعا عبر الطريق السريع من بلاد “مازغستان”… لم يفتني موعد الأعراس البهيجة التي أقيمت في عاصمتها ” إغرمنواسيف” بمناسبة تدشين شبكة الترام المعلق على السواري الفولاذية. كان ذلك في أول يوم من السنة 2056 للميلاد.
استوقفني في طريق الرجوع شاب يحمل على ظهره لوازم السفر، وقد رأيت من أمثاله العدد الكثير في طريقي. ذكرني تناثرهم على جوانب الطرق، واستوقافهم للسائقين، بسنوات “تيار الهيبي” الذين كانوا يسافرون بتلك الوسيلة من مدن أوروبا إلى “كتماندو” عاصمة “النيبال” في نهاية العقد السادس من القرن العشرين من تاريخ الميلاد. وكانت رحلتهم للبحث عما يطفئ ظمأ الروح، بعدما أصابتهم تخمة الدنيا.
قلت في نفسي: لو أنني وقفت لهذا الشاب الذي تظهر عليه سمات المنبت الطيب… فلربما طردت بصحبته رتابة السفر، وأديت زكاة الطريق، وجنيت فوائد التعارف بين الناس التي أمرنا بها رب العالمين.
لقد فرج الله على المسلمين بعد خمسينيات القرن الواحد والعشرين للميلاد من سجن الحدود التي كانت مفروضة على بلدانهم. ألغيت القيود على تنقلهم في أرض الله بعد تحريرها من سيطرة الدولة الهجينة التي نصبها الروم في أدنى الأرض وأقاصيها، لخدمة مصالحهم منذ بداية القرن العشرين. وكان من جملة مصالحه ترسيخ سياسة “فرق تسد” لكي يستمروا في نهب خيرات بلاد المسلمين. فلما قضت ثورة الشعوب المسلمة على الأنظمة الهجينة، عم خيرها كل البقاع بعد انطلاقها من بلاد مازغستان في تاريخ يحفظه الناس في ذاكرتهم : إنه تاريخ 11 / 11 / 11 . استعاد الناس بعدها عوائدهم التي كانت في أسلافهم في حب السفر والسياحة في الأرض. وأقاموا مراحل الطريق إلى الحج من كل فج عميق. وكانت كل المدن والقرى تتنافس في توفير ما يحتاجه المسافر في طريقه من مآوي الشباب وخانات ومساجد ومدارس وطعام وشراب وخدمات أخرى يصرف عليها من نصيب ابن السبيل من مال الزكاة. وكانت جل الشركات القومية تتنافس كذلك في تمويل أسفار الشباب، يتم اختيارهم للقيام بمهمات استكشافية علمية يعود نفعها في حماية البيئة وحسن استغلال ثرواتها. يسيرون في الأرض ينظرون أسرار العمارة الذكية التي أساسها سيليكون الرمال، والتي انتشرت على الأرض انطلاقا من مركزها العالمي الجديد مدينة “بنجلور” في الهند.. حتى صارت رحلات السندباد وابن بطوطة متجاوزة عند شباب العهد الجديد. ولم يبق من العهد الذي كانت الدولة الهجينة تمول أنشطة التفسيق إلا الذكريات السيئة، آخرها كان جلب نصرانية تجرأت على شرف المسلمين بتعليم بناتهم تحريك الأرداف والبطون أمام الملأ؛ فما مرت شهور حتى تجرأت ثلة ممن فسدت طبيعتهن، على التعري فوق أخشاب المسارح المتهاوية، وأمام أعين الكامرات الكاشفة للعورات المريبة.
وقفت للشاب الذي يستوقف السائقين يطلب منهم حمله في رواحلهم. وفتحت باب راحلتي الهيدروجينية، وسلمت عليه، فاستحيى وتردد في الكلام برهة ثم قال: بالله عليك يا عم لا تؤاخذني فإن التعب وبعد الطريق، وخطر الرفيق، وقلة ما في اليد، تعلم الإنسان قلة الأدب والتجرؤ على الكرماء من أمثالك. فقلت له: لا تستحي فأنت ذكرتني الآن بولدي بسبب هذه العبارات الرقيقة. ثم سألته عن وجهته. فكانت نفس الوجهة التي أريد. فأذنت له بالركوب. وبعد تعارف مقتضب دلني على اسمه: “فبريار”، وأصله : مدينة “إمهيواش”، استأذن الشاب الظريف، من أجل كسر حرج الصمت، أن يسمعني من رقاقة تسجيل جلبها من حقيبته. فأذنت له لما توسمت فيه خصال التربية النقية التي بعثت في جيل ما بعد الثورات العربية، بعد إصلاح في برامج ومناهج التعليم والتربية والتكوين … فلم تخب فراستي. أدخل رقاقة في القارئ الآلي وجهزها للسمع. فكانت بداية من الذكر الحكيم ثم دعاء السفر ثم قراءة أبيات من شعر العبر، أنشد فيه الشاعر بصوت شجي يطرب له السامعون:
سافر تجد عوضاً عمَّن تفارقهُ وَانْصِبْ فَإنَّ لَذِيذَ الْعَيْشِ فِي النَّصَبِ
إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ
والأسدُ لولا فراقُ الأرض ما افترست والسَّهمُ لولا فراقُ القوسِ لم يصب
والشمس لو وقفت في الفلكِ دائمةً لَمَلَّهَا النَّاسُ مِنْ عُجْمٍ وَمِنَ عَرَبِ
والتَّبْرَ كالتُّرْبَ مُلْقَى ً في أَمَاكِنِهِ والعودُ في أرضه نوعً من الحطب
فإن تغرَّب هذا عزَّ مطلبهُ وإنْ تَغَرَّبَ ذَاكَ عَزَّ كالذَّهَبِ
استحسنت ذوق الشاب وشكرته على هذه البادرة وقلت له: أظنها أبياتا من نظم الإمام الشافعي رحمه الله، وقد وردت له أبيات أخرى في إحصاء فوائد السفر والهجرة في أرض الله الواسعة. فأجابني، نعم، والأبيات التي تتلوها هي التي ذكرت. فشغل الجهاز ثانية وأنصتنا بتمعن واعتبار إلى فوائد السفر كما أحصاها الشافعي رحمه الله:
تَغَرَّبْ عَنِ الأَوْطَانِ فِيْ طَلَبِ العُلَا وسافِرْ ففي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِـدِ
تَفَرُّجُ هَـمٍّ، واكتِسَـابُ مَعِيْشَـةٍ وَعِلْمٌ ، وآدابٌ، وصُحْبَـةُ مَاجِـدِ
فإن قيلَ في الأَسفـارِ ذُلٌّ ومِحْنَـةٌ وَقَطْعُ الفيافي وارتكـاب الشَّدائِـدِ
فَمَوْتُ الفتـى خيْـرٌ له مِنْ قِيامِـهِ بِدَارِ هَـوَانٍ بيـن واشٍ وَحَاسِـدِ
فقلت للشاب الأديب: اعلم يا ولدي أنني كنت شغوفا مثلك بالسياحة والأسفار، مولعا باكتشاف الأقطار والأمصار، محبا للسير في البراري والقفار، والسهول والأوعار، وجزائر البحار، ليس من أجل الدرهم والدينار، بل في سبيل السبح والتفكر والاعتبار، والنظر في عجيب صنع الخالق القهار… ثم ما يكون من نفع للعباد في تدوين أدب الأسفار. ونعوذ بالله من علم لا ينفع. وكانت لي سبع رحلات في بلاد المسلمين، وسبع رحلات في أرض الدعوة، وكل رحلة تنسيك غرائبها وعجائبها الرحلة التي سبقتها. قاسيت من الغربة والمشقة وأهوال السفر ما يشيب الصغار. وحصلت على فوائد جمة، على رأسها سعادة الرضا بالأقدار، والانسجام مع الكون في سبحه بالليل والنهار…
فأجابني الشاب بلسان فصيح: والله يا عم ما أخرجني من الديار إلا حب الاستطلاع والتنقيب عن صحبة الأخيار، بعدما كنت في عيشة هنية، وقد اشتغلت باللهو والمسرات زمن التصابي، في أسرة كريمة، وأبوين لم يرزق ولد في الدنيا ندا لهما، ثم “تبدلت الأيام وانقلب الدهر؛ وصار خيار الناس ليس لهم قدر” فاخترت هجر الديار، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا… فبالله عليك يا عم، احك لي عن بعض أسفارك حتى أستفيد من عبرها، وأغرف من حِكَمها، فإني ما تغربت إلا من أجل تحصيل ما تيسر من تلك الكنوز النفيسة.
فقلت له على الرأس والعين، لكن في حدود ما يسعه وقت الرفقة، وإلا فالحكاية تطول وتستغرق أياما. وكل سفرة فيها من العجب ما تعجز عن حمله الكتب، ومن الحكم والعبر ما يستحق أن يكتب في دواوين التاريخ بماء الذهب… فبعد بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والتسليم على أشرف المرسلين، وآله وصحبه الطيبين، أبدأ يا ولدي لك القصص من التي خطرت على البال. ولا حجر على الخيال. وإن سمحت بخفض صوت الجهاز”. وكان قد انتقل إلى تسجيلات قال الشاب إنها لأعظم فنان رمنسي في مدينة “إمهواش”. فقلت له لابأس من الحكاية وأنت تستمع إلى فنانك المفضل كخلفية موسيقية غير مشوشةhttp://www.neghma.com/Article/402.html . فلقد جمعنا الطريق قبل قليل، وكنت راجعا من بلاد “مازغستان”، حضرت فيها احتفالات بمناسبة لها ظاهر يعلمه عامة الناس. أما سببها الحقيقي فلا يعلمه إلا قليل.
الأمير ميسنايور في جزر” بحر سردنيب ”
كنت فيما مضى مشرفا على حمى الصيد المخصص لحاكم بلاد “مازغستان”. وكان اسمه الأمير “ميسنايور بن أريازيل”. وذات يوم من أيام خروجه إلى الصيد والقنص، هو وحاشيته من الجند والحكام وأرباب الدولة، كنت ملازما لتتبع حركاته وسكناته بمنظار قوي يطوي المسافات طيا، خوفا عليه من طوارق الإنس والجن. وقد فارق القوم في أثر وحش ضخم من وحوش البرية. غاب عن أنظار حاشيته، وما غاب عني فهو على مسافة ذراع عبر منظاري الراصد للرؤية ليلا ونهارا. وبينما أنا أتفقد مطاردة الأمير للوحش الكاسر، إذا بزوبعة قد أتت من وسط البرية وهي تدور وتعظم. تجمع الغبار والشجر والحجر، وتنشره في السماء التي اسود قرنها في لحظات معدودات. حتى إذا اقتربت من الأمير، انجلت ظلمتها وطلع منها عفريت طويل القامة، عريض الهامة، ضخم العمامة، مقرن الحاجبين، طويل الأذنين، ومعه حاشية من أعوانه. فانقض العفريت على الأمير “ميسنايور” وشد وثاقه. وانقض أعوانه على كل من كان في البرية من إنس وجان. وكنت من جملتهم. أحكموا وثاق الجميع وطاروا بنا في عنان السماء. حتى ظهرت لنا الأرض كالكرة الصغيرة بين النجوم. غشي علي مما ظننته الفزع الأكبر، ولم أفق حتى أيقظني الجني بماء ورد وادي دادس، وقال لي: “لا تجزع فإن الله قد أراد بك خيرا، فأنا جني مسلم، اسمي “فرياطيل”، أوحد الله، وأومن بسيدنا سليمان عليه السلام، وقد كنت من جنده، وعمرت حتى أدركت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فآمنت به. وكل العفاريت الآخرين لا يعلمون بإسلامي فلا تقنط ولا تخف، إذايتك حرام علي، ونفعك علي واجب”.
فلما حاذينا سقف السماء الدنيا، وشاهدنا الشهب الحارقة تنزل منها مستهدفة المردة الجواسيس، خاف الجن على أرواحهم، فنزلوا بنا على وجه السرعة في إحدى جزر بحر سردنيب، تسمى جزيرة “غشقرند”. هكذا دلني على اسمها وموقعها الجني المسلم “فرياطيل” الذي أخفاني عن أنظارالجميع وصار يأتيني بكل ما أحتاجه. ويحدثني بكل ما يجري بين المردة وأسراهم المسلمين وعلى رأسهم “ميسنايور”. فأخبرني أن كبير المردة واسمه “ماسونيوس” عقد مجلسا في هيكل الكاهنة “ليكا” بنت ملك العفاريت “نتخابوش”، هو وأرباب مملكته وتداولوا في أمر الأمير “ميسنايور” الأسير، هل سينصبون مكانه عفريتا يلبسونه صورة آدمية تشبهه، أم سوف يكتفون بأخذ العهد عليه لخدمة أغراضهم. واستقر رأيهم على أن يأخذوا عنه العهد بتعليم الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت. يفرقون به بين المسلمين لكي يتنازعوا بينهم فتظهر عوراتهم، وذلك هو مبلغ سعيهم: الاستمتاع بعورات المسلمين الذين نزعوا عنهم لباس التقوى. ومعلوم أن سعادة الشياطين ليست في الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث والنساء، كما هو الحال عند الإنس؛ سعادتهم ومبلغ لذتهم هو النظر إلى العورات، فهم ليسوا فقط من سراق السمع الذين ترصد لهم شهب السماء، هم كذلك من سراق النظر إلى عورات بني آدم…
فلما كتبوا المراسيم ووثقوا العهود وشمعوها في قماقم النحاس المحكمة، وخزنو أصولها في مغارة من مغارات جبل قاف، طاروا بنا من جزائر ” بحر سردنيب ” ثم أنزلونا جميعا في البرية التي كنا نصطاد فيها، وصرنا إلى ما كنا عليه في حالنا قبل الرحلة عبر أقطار السماء والأرض، كأننا لم نغب لمحة بصر عن مكاننا، وكأن شيئا لم يكن.
فلما أراد الجني المسلم “فرياطيل” وداعي، قال لي: “أحفظ هذه الأسرار ولا تخبر بها أحدا، فإن ما وقع للأمير “ميسنايور” لا يعلمه من حاشيته إلا أنت والمردة العظام. وسوف أطلعك على تصاريف أموره وما سوف يكون من أمر سيطرة المردة عليه. وكلما كانت لك حاجة، قل هذه الكلمات وسأحضر بين يديك حالا”.
فلم أصدق ما حدث وظننت أنني كنت في حلم، وفركت عيني وقرصت جلدي، هل أنا في عالم الحس أم في عالم الأحلام؟
كتبت كلمات استحضار الجني، لأن ما كتب قر، وما حفظ فر، كما تقول الحكمة. ثم أخذت المنظار لأستكشف حال الأمير وحاشيته في رحلة الصيد، فرأيتهم يشدون الرحال، ويسرعون في هرولة الرحيل، فهم ولا شك في حيرة من الأمر كحيرتي، وقد ألمت بهم ملمتي… فأسرعت في المشي والتحقت بهم؛ وكأن الخرس أصابهم فلا يتكلمون إلا رمزا من ذهول.
ذهول في مدينة “إغرمنواسيف”
فلما وصلنا إلى أبواب العاصمة “إغرمنواسيف”، تعجل الأمير في ولوج قصره، دون أن يلتفت إلى مراسيم الأبهة والتبجيل، ودق الطبول، ونفخ جوقة النحاس التي كانت تتلقاه كلما عاد من أسفاره. وفعلت الحاشية ما فعله الأمير، فلم يلتفت أحد منهم إلى استقبال خدمه وحشمه. علامات البهوت بادية عليهم، حتى فاضت على مستقبليهم الذين صاروا يتساءلون عما جرى للأمير وحاشيته.
فلما استكنت إلى قرار الدار، دخلت الحمام للتخلص مما علق بي في زوبعة الجن من غبار، وباشرت بعد الوضوء صلاة الليل وحصن الأذكار. ثم تذكرت أهلي الذين تركتهم في مدينة “إمهيواش”، ولي سنة على فراقهم، وأنا مجند بالليل والنهار، في خدمة مصايد الأمير “ميسنايور”. فقلت في نفسي غدا سوف استأذن الأمير في زيارة أهلي. ونمت تلك الليلة على وضوء، وأنا في شوق لهم، وكان منهم صبية لا صبر لي ولهم على الفراق. فلما مضى من النهار التالي ثلثه، علمت من بعض خدم الأمير “ميسنايور” أنه أضحى لا يكلم الحاشية إلا رمزا. فتحير الناس في أمره. وذهبوا في تفسير ما حدث مذاهب شتى، ولم يصدق أحد حكاية الجن التي تسربت شائعاتها، إذ لم تقو قماقم سليمان على حفظ أسرارها. ومرت أيام ولم يزدد الأمير فيها إلا كآبة وحبا للعزلة والصمت الرهيب. وبعد شهر من تلك الحال، خاف الجند وأرباب الدولة على أمر المملكة من الاختلال، لما عطل الأمير مجلس الديوان، الذي كان يعقده كل نهار، يأمر فيه وينهى، يولي ويعزل، يعطي ويمنع. ولا ملك في الحقيقة إلا الله.
وتعطل أمر سفري في جملة ما تعطل. وصرت كل ليلة عندما آوي إلى فراشي أتمنى أن يأتيني الجني المسلم، فأطلب منه حملي إلى مدينة “إمهيواش” لأزور أهلي. وكم كانت دهشتي عندما هممت بتحريك جمر المدفئة بسفود التنور لاستعادة حر وهجها، فخرج منها الجني كنواة بلح لفظتها النار، ثم صارت تعظم حتى صارت كالنخلة. فقال لي الجني المسلم “فرياطيل” بعدما هدأ روعي: “اعلم أن الجن قد ظهر لهم أن الأمير “ميسنايور” لم يلتزم بالميثاق الذي فرضوه عليه، ونعم ما فعل، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والعقد المفروض فيه ما يخالف شرع الله. لقد أخبرني الجن أن الأمير لما استقر في قصره بعد فك أسره، قال في نفسه: أنا الآن في ملكي ولا حكم للعفريت “ماسونيوس ” علي هنا. فهم بعمل يتحداهم به. لكن الأبالسة علموا بما يجول في خاطره، فألبسوا واحدا منهم لباس الآدمية، وأخذ بزمام فرس الأمير “ميسنايور” في المشور يجره حيث يشاء. وكلما أراد ناحية، جره إلى أخرى بعدما يظهر له ابتسامة صفراء فاقع لون أنيابها…”
ثم أخبرني “فرياطيل” عما حدث بعد تشديد الحراسة على الأمير، قال : ” فاتفق ذات يوم أن كانت نوبتي في حراسة الأمير “ميسنايور”. فأسررت له كما أسررت لك عن إسلامي الذي لا يعلمه سفيه الجن، وقلت له: “نعم ما فعلت يا أمير المسلمين في نقض المواثيق الجائرة التي فرضوها عليك، فامض في طريق الهدى وسوف تخدمك الملائكة وصالح الجن والإنس.” فزادت رباطة جأشه، وأوحى إلى وزيرين يثق فيهما، بلسان حاله لا بلسان مقاله، لأن كلامه يعقله المردة بتسجيلات الصحون الهوائية المنصوبة على مشارف بلاده جوا وبرا وبحرا، أوحى إليهم أن دبرا أمركما بما فيه صلاح الرعية فإني مغلوب فانتصرا… محروس من بين يدي بالمردة الرطاطنة، وعن يميني جن عين القطر في آبار عاد وثمود، وعن يساري عفاريت بحر الظلمات، ومن ورائي عفاريت التيبستي والهوكار، فلا تقربان… ونسيت أن أرمز إليكما أنني مرصود من فوقي بالطير الأبابيل، ومن تحتي بغواصات شياطين التخوم. فإن أظهرت لكما جفائي وهجري، فقلبي لكما ميال، والعين بصيرة واليد قصيرة، وليس لكما سوى الاعتماد على الله، ثم على ما تجود به عليكما قريحتكما ويصنعه خبراؤكما من حسن التدبير. فأنا وليتكما ولكن الهيبة والقدرة يعطيهما الله من يشاء”.
فتعجبت غاية العجب مما سمعت من الجني “فرياطيل” . ونسيت من ذهول ما كنت نويت طلبه من أجل حملي لزيارة أهلي في مدينة “إمهيواش”… وفضلت أن أستودعه الله لما سمعت ضوضاء في حارتي، مخافة أن يكتشف أمره. فإنهم إن اكتشفوا أمره يسجنوه في قمقم سليمان بقية عمره.
أمير البر وأمير البحر
وبعد انصرافه، سهرت ليلتي تلك في قيامها، رغم اضطراب في الخشوع، وشرود الذهن في مسارح الفكر في أمر الوزيرين الذين فوضهما الأمير على شؤون البلاد. وقد كنت في ما مضى صاحبتهما في رحلات صيد الفوائد، والتدرب على الشدائد… ولي معهما حكايات ومغامرات، ربما يضيق الوقت بذكرها.
أحد الوزيرين يسمى “جمال الدين كرندار”. وكان كهلا قد استوت قُـواه، ديِّـنا خـيِّـِرا عاقلا متواضعا، جزل الرأي، بارا بالعلماء، صارم الصوت، إذا نطق أقنع، وإذا أنصت أنصف وإلى الحق رجع…
أما الوزير الثاني فاسمه ” جلال الدين سِـنـدِيَّـان”، شيخ مهاب الجانب، قد عمر زمنا طويلا حتى أثقل الدهر كاهله، وحنكته تصاريف الأقدار، فقل اعتراضه، لما كثر علمه، مكبا مع أعباء الوزارة على العلم وتدوينه، جليل الشأن، أمره مطاع، لا يخطر على بال حاشيته مراجعته في ما أمضى…
فلما أصبح الصباح، جاءني حاجب الأمير يطلب مني تجهيز محلة المصائد الأميرية فإن الأمير “ميسنايور” ضاق صدره في جنبات قصره المحاصر بالأسوار، وهو يريد الانتعاش بهواء الجبال الشامخة، والانشراح في البراري الشاسعة. ثم القيام بمراسيم تنصيب الوزيرين في خيمته قرب جبل المغناطيس… فقلت في نفسي: ربما يريد الابتعاد عن جواسيس العفريت “ماسونيوس” الذين يسترقون السمع عبر الصحون الصاغية للقارات الخمس. لكن آذانهم لا تقوى على حقول جبل المغناطيس الذي يعطل حاسة سمعهم. وأمرت غلماني بتجهيز رواحل “الرنجر” بكامل العدة التي يطلبها الأمير في رحلته، ولم أنس أن أخبئ ضمن جهاز السفر، بعض حيوان الصيد المحبوسة في الأقفاص: كطيور الحبارى، وذئب، وأسد، ونمر، وضبع، وغزالتين من وحيش مازغستان القديمة. هذا الوحيش انقرض في فترة حكم الرومان لبلاد مازغستان من البراري الأطلسية فلم يبق له أثر إلا في حديقة الحيوانات، وفي بعض المحميات التي تبرع بها الأمير “ميسنايور” لبعض أمراء بلاد “قرمطستان”. وفي اللحظة الأخيرة فكرت في زيادة قفص فيه ضبع آخر مخافة السرقة، كما حدث في مصيدات سابقة، كان الضبع يتعرض فيها لسرقة رأسه دون جسده. وقد أشيع عن بعض الوزراء أنه يستحضر شياطين السحر الأسود، فيعدون له حبيبات من مواد مختلفة الغالب فيها مخ الضبع. فكان الناس يتكلمون وخاصة النساء، وينسبون اغتيال الضبع إلى بعض أغيلمة الوزير ” هوميروس”.
أمرني بعض الحجاب أن أسرع إلى سفح جبل المغناطيس وأنصب فيها الخيام الأميرية، ثم ألتحق بالموكب. ولم يخبروني عن برنامج الرحلة، قيل لي فقط إن الأمير سوف يبدأ في اليوم الأول بقنص وحش الجو بواسطة الصقور التهامية في سفوح جبل “أُعـلـيشـان”. واليوم الثاني سوف يخصصه لصيد وحش البر في غابات “إدَخـصـان”. وسوف يحضر مراسيم تنصيب الوزيرين، ولم يفصح البرنامج عن الموقع، فتيقنت أنه الخيمة التي أمروني بتنصيبها قرب جبل المغناطيس.
مرت رحلة الصيد في أحسن الظروف، وانشرح صدر الأمير بعدما صب بعض خبايا غضبه عبر إهراق دم الوحوش، التي سرب بعضها غلماني أمام ضيوف الأمير، خوفا من خلو حمى المصايد من الطرائد. فتباهوا بما اصطادوه، هذا يبرز للناس طيرا اقتنصه صقره التهامي، والآخر ذئبا، والآخر نمرا، من ضحايا رمايته التي لا تخطئ الهدف. وتركوا جثة الأسد، فقالوا جميعا: “وهذا كان من براعة رمي الأمير”. فقال لهم الأمير: “لا بل من رماية الوزير “كرندار”، والضبع هو من رماية الوزير “هوميروس”، والنمر من تسديدة الوزير “سنديان”… أليس كذلك؟ فصفق الجميع لكلام الأمير ثم انصرفوا إلى جبل المغناطيس. فانصرفت معهم بعدما أمرت غلماني بحشو بطون الطرائد بنبات الشيح والريح المعقِّـمة والزعتر، بعد إزالة المعدة والأمعاء، كي لا يسرع إليها النتن، ثم توضع في براد “الرنجر”، ومباشرة بعد الوصول إلى مختبرات المحمية، يشرعون في تحنيطها. فإنها بعد معالجتها بتلك الطريقة، يتنافس الأمراء والوزراء والأعيان في شرائها في مزادات علنية. وهم يفتخرون بتزيين قصورهم بها. وكل ما نتج عن البيع يرجع إلى صناديق المحميات تمول جزءا من تكاليف تدبيرها، وتعوض السكان المحليين عما ضاع لهم فيها من مسارح لرعي أنعامهم.
وما إن اقتربنا من جبل المغناطيس حتى تناثرت لوازم القوم التي فيها مادة الحديد، انجذبت بقوة نحو الجبل، فدبر لها مهندسو الأمير أوكارا تأوي إليها وتحفظ فيها بعد عزلها عن جذب المغناطيس.
فلما رأيت فعل هذه الألواح الحافظة التي صنعها مهندسو الأمير “ميسنايور”، تذكرت الجني المسلم “فرياطيل” الذي كنت ودعته مخافة سجنه في القمقم، وقبل أن يختفي في نار التنور التي خرج منها، قال لي: “اشتهي أن تدبر لي صنعة تعزلني عن حقل المغناطيس وتخبئني في جهاز الصيد، فإني قد أنفعك فيما تحتاج في الرحلة التي سيقوم بها الأمير قرب جبل المغناطيس”. فاقتربت من أحد خبراء العزل المغناطيسي وقلت له: “بالله عليك أن تخبرني عن أسرار حرفتكم، وهل لها علاقة بالقماقم السليمانية التي كانت من نتيجة إلانة الحديد لداود عليه السلام؟” فقال لي: ” يا عم، إن علم القماقم علم عجيب، وطلسم رهيب، من حصله أمن وهج الإشعاعات كلها… فخذ أربعة من هذه الألواح التي صنعناها من معدن نفيس أصله من أسرار الحرفة، واصنع بها صندوقا، كل من دخله كان آمنا من قوة المغناطيس والإشعاع السيني وغيرها من قوى الطبيعة الخارقة، الكامنة في قلب الذرة الدقيقة وفي قطب المجرات الشاسعة.” فأخذتها وشكرته. وتواريت عن الأنظار ثم أسرعت في السير بعيدا عن القوم ممتطيا صهوة “الرنجر” التي تنساب كالريح فوق الهضاب العليا.
حتى إذا كنت في وادي ضيق بين جبلين شامخين، وولجت مغارة وارفة الظلال، ضيقة المدخل، قلت الكلمات التي علمنيها الجني المسلم، فظهر من وقته في صورته المختصرة بعد تكويره في خيط الحجر الأسود. فقلت له: “هذا تلبية لطلبك فادخل هذا الصندوق العازل وأنا سوف آخذك معي لتحضر مراسيم تنصيب الوزيرين. وأرجوك أن تخبرني إن كان بعض كفار الجن ضمن الحضور بعدما اخترقوا حقول ألغام المغناطيس. وأود أيضا أن تحرس لي ضبعا محبوسا في قفصه، فإنه سوف يأتي أحدهم لسرقة مخه. فدعه يقترف فعلته، لكن أرجوك أن تصفه لي وتخبرني باسمه، وبكل حركاته وسكناته.”
حكاية عطايا الملك “زيري” والجني “شمشالوخ”
ثم رجعت إلى مكان الحفل ووضعت الصندوق العازل وبداخله الجني المسلم في مكان يسهل الرصد منه لداخل وخارج الخيام. وقبل وداعه رآني مكدر الخاطر، مقبوض القلب، لا أشارك القوم في لهو أو شراب أو طعام. فسألني عن سبب تكدر حالي، فبحت له بشوقي إلى أهلي ودياري في مدينة ” إمهيواش “، ولي أكثر من سنة ما رأيتهم. فقال لي انتظر أنا سأطلب أحد إخواني من الجن المسلمين أن يحملك إلى أهلك فتكون عندهم قبل أن يرتد إليك طرفك، وتقضي معهم يومك إلى حين اختتام حفل التنصيب، ثم يردك إلى المكان الذي أخذك منه. فلما سمعت من الجني هذا الكلام، طرت من شدة الفرح وظننت أنها أضغاث أحلام. ففرح الجني لفرحي وقال: “سبحان القدير على أن يرد الشقي سعيداً. وأقترح عليك أن يكون موقع الكهف الذي كنا فيه هو مكان اللقاء مع أخي الجني واسمه “شمشالوخ”.” فشكرته ثم أغلقت عليه الصندوق العازل وتركته ليقوم بمهمات الرصد التي اتفقنا عليها. وذهبت على صهوة راحلتي إلى المغارة التي تقع بين الجبلين. وأخفيت الراحلة في بعض السرابيل الخربة. وما أن دخل رأسي المغارة حتى انتصب أمامي “شمشالوخ”. فسلم علي وقال لي: لقد وعيت بغيتك ساعة نطق أخي ” فرياطيل” بها، وجئتك من وراء جبل قاف، حيث كنت في بعض مشاغلي. فشكرته وما إن أخذ بيدي حتى كنت منتصبا أمام باب داري في “إمهيواش”. فتركني هناك بعدما علمني كلمات استحضاره عند الحاجة. وقبل انصرافه قال لي: انتظر حتى آتيك بشيء من الهدايا لأحبابك وأصحابك، فإنه من غير اللائق أن تدخل عليهم خالي الوفاض بعد غيابك الطويل. قلت له : صدقت ولكن لا أحب أن أكلفك. وما هي إلا لمحة البصر أو أقل، فإذا بصناديق الهدايا تتراكم في تكة الدار. ثم غاب عن الأنظار، ولم يترك لي وقتا لأشكره. فصليت في التكة ركعتين شكرا لله على سلامتي وعلى ما أغدق علي من نعم. ثم طرقت الباب، ودخلت بيتي وسلمت على أهلي وأولادي، وصاروا يبكون من فرحة اللقاء. ولما رأتني أمي صاحت من شدة الفرح، وعانقتني وبكت بكاء شديداً وصرنا تارة نبكي وتارة نضحك. وشاع خبر قدومي في الحارة، فجاء الجيران والأصحاب والأحباب وفرحوا بعودتي وقدموا لنا الطعام والشراب من كل نوع. وقمت إلى الصناديق وأنا لا علم لي بما وضع الجني فيها. فلما فتحتها لأقدم منها هدايا للأحبة، دهشت لما رأيت أنها ملئت ذهبا خالصا وفضة ولؤلؤا. وفيها من المرجان والياقوت وقطع الزمرد ما يحير الألباب. وفيها جواهر تضيء كضوء النجوم الوهاجة في الليل البهيم. واندهش الزوار مما رأوا. وترددت في أن أبسط يدي بالعطاء، وكدت أركن لداعي المنع من شدة تأثير وهج الذهب. وقبل أن أرجع إلى رشدي، وصلت يدي إلى قرطاس كان في الصندوق. فانحنيت عليه وقرأت فيه دون أن يراني أحد: “هذه كنوز خرائب الدولة الزيرية…” ولم أكمل قراءتها مخافة افتضاح أمري، فأسرعت بشغل الناس عن القرطاس، بنثر الذهب فوق رؤوسهم وأغدقت عليهم بالعطايا التي لم تكن حتى في خيال أحلامهم. وأوشكت الفتنة أن تحل بالبلد لما تزاحم سكان المدينة على حارتي يلتمسون من عطيتي الثمينة. فأغلقت باب الدار وتفقدت الصناديق ولم ينقص منها شيء رغم ما تصدقت منها. فخبأتها تحت الأرض، ماعدا واحد تركته لأمي لكي تتصدق منه لذوي القربى واليتامى وابن السبيل، وقد علمت فيما مضى أن سعادتها في العطاء والبذل، وتقنط كثيرا إن لم يكن لديها ما تعطي السائل والمحروم .”
وهنا استأذن للكلام الشاب المسافر معي ”فبريار” الذي يصغي إلى حكايتي بكل انتباه فقال : “ياعم، هل بقي من نصيب ابن السبيل شيئا من تلك العطايا، فأنا والله معدم منذ خروجي من تحت رعاية أسرتي.” فضحكت وقلت : “يكون خيرا إن شاء الله، فما جمعنا الله إلا من أجل سر لا يعلمه إلا هو. وكل شيء عنده بمقدار”.
ثم رجعت إلى الحكاية بعدما ذهبت عن الفتى فتنة التفكر في الإبريز، فاستعد للإصغاء من جديد… وقلت : ” تركت الصندوق الذي لا ينفذ عطاؤه لأمي لكي تتصدق على ذوي القربى وابن السبيل، وودعت الأحباب بعدما أخبرتهم أنني راجع إلى حفل تنصيب الوزيرين… فلم يصدقوا حكايتي ولكنهم استسلموا للقدر. وخرجت من الباب الخلفي، واختبأت في فران الحارة المهجور، ونطقت بكلمات استحضار “شمشالوخ”، فنزل من السماء دخانا يدور كالزوبعة سرعان ما انجلى على صورته المرعبة. فاستدعيت رباطة جأشي، بعدما كادت مرارتي تنفطر من تلك الصورة التي لبسها الجني. ولما استقرت صورته في زاوية واحدة بعدما كان في زوايا متعددة، شكرته على الهدايا وقصصت له ما حدث، فسره ذلك. وما كانت إلا لمحة البصر فإذا أنا بباب المغارة قرب مصايد الأمير “ميسنايور”. فشكرت الجني، وسلم علي، وهم بالعروج وقلت له: ” انتظر. أنا أريد منك أن تحضر لي صندوقا آخر من الخرائب الزيرية، أقدمها هدية للأمير الذي يريد تفويض الحكم والتفرغ للعبادة في مغارات رجال الله في جبل ” أعليشان”.” فالتفت وقال: هي هنا وراءك تحت أرض هذه المغارة. وشق الأرض وغاب فيها ثم طلع وبيديه صندوق أعظم شأنا من الصناديق التي أتاني بها في “إمهيواش”. فلما فتحته وجدت فيه ما لا يسعه الوصف من النفائس. وتفقدت الكتاب المختوم، فوجدته كالقرطاس الذي هممت بقراءته في داري ثم أخفيته مخافة افتضاح سري. كتب فيه بماء الذهب: اعلم أيها الواصل إلى خرائب ملوك الدولة الزيرية، أن هذا المال كان في ملك ابن عطية، خزنته تحت الأرض لنوائب الدهر. وما أدري ما الله فاعل بنا. فإن استولى عليه المانع من الجن، فأداه بعد مرور زمن الحجز إلى من كُـتب له من بعدنا، فلا يغتر بشيء من الدنيا وحطامها، فإنها غدارة مكارة ودار بور وغرور، فطوبى لعبد ذكر ذنبه وخشي ربه وأحسن المعاملة وقدم الزاد ليوم المعاد.” ثم كتب في القرطاس هذه الأبيات:
ما قد تركت فما خلفته بل القضاء وحكم الورى جاري
فطالما كنت مسرورا ومغتبطا أحمي حماي كمثل الضيغم الضاري
لا استقر ولا أسخى بخردلة شحا عليه ولو لقيت في النار
حتى رميت بأقدار مقدرة م ن الإله العظيم الخالق الباري
وطول عمري متعوب على سفر تحت المنية في يسر وإعسار
فلا تغرنك الدنيا بزينتها وأنظر إلى فعلها بالأهل والجار
عادت لغيرك قبل الصبح كاملة وقد أتوك بحمال وحفار
ويوم عرضك تلقى الله منفردا بحمل إثم وإجرام وأوزار
فاقشعر جلدي وشعري، وخشع قلبي وقالبي لموعظة صاحب الكنز. المسكين… باغتته المنايا وحالت بينه وبين ما اكتنز من نفائس الدنيا. وقلت إنا لله وإنا إليه راجعون، وفاضت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
أراك ترغب في الدنيا وزينتـهـا وقد سعى قبلك الماضون والأول
قد حصلوا المال من حل ومن حرم فلم يرد القضا لما انتهى الأجـل
قادوا العساكر أفواجاً وقد جمعـوا فخلفوا المال والبنيان وارتحـلـوا
إلى قبور وضيق في الثرى رقدوا وقد أقاموا به رهناً بما عمـلـوا
كأنما الركب قد حطوا رحالهمـو في جنح ليل بدار ما بهـا نـزل
فقال صاحبها يا قوم ليس لـكـم فيها مقام فشدوا بعد ما نـزلـوا
فكلهم خائف أضحى بهـا وجـلا ولا يطيب له حل ومـرتـحـل
فقدم الزاد من خير تسـير غـدا وليس إلا بتقوى ربك العـمـل
سبب تنسك أمير مازغستان
ثم طويت القرطاس كطي السجل للكتاب كما كان، ووضعته مكانه، وأغلقت الصندوق ووضعته في “الرنجر” التي خبأتها قرب المغارة قبل سفري مع الجني “شمخالوش” إلى مدينة “إمهيواش”. وانطلقت ممتطيا صهوة الراحلة مسرعا إلى جبل المغناطيس. وحضرت بقية مراسيم تولية الوزيرين. وتفقدت الصندوق العازل للمغناطيس، فوجدته كما تركته وحمدت الله على السلامة. ثم اقتربت من التخت الذي يجلس عليه الأمير “ميسنايور” في ديوانه الجامع لأركان دولته من جند ووزراء وولاة وعلماء وحكماء وأعيان، فأسررت له بخبر الكنوز الزيرية، وقلت له: “إن التصدق منها لا ينقص منها شيئا.” وأخبرته بالقصة على سبيل الاختصار، وكان نبيها، سريع البديهة والفهم. فمضى معي إلى “الرنجر” دون أن يراه أحد، وتفقد معي الصندوق وحمد الله وشكره وقال: “إنها والله لكرامة، أنا قبيل لحظات فكرت في هدايا سنية للحاشية، لا سيما وأنا على وشك إعلان تفويض الإمارة مدة يعلمها الله، ونية التصدق بشطر أموالي، والباقي أجعله لأهلي ثم أعتزل الدنيا طيلة فترة تفويض الحكم، وأجاور العُـبَّـاد المتبتلين في مغارات جبل “أعليشان”…” فضمني إلى صدره وقال لي: “ما بعثك إلي ربي إلا لتحقيق بغيتي” … ثم رجع إلى إيوانه بعدما أمرني أن أستعين بغلمانه لحمل الصندوق ووضعه بجانب تكة الديوان. فلما استقر الصندوق بجانبه، خطب في الناس وأخبرهم بقرار تفويض الإمارة وجعلها في وزيريه “جمال الدين كرندار”، و “جلال الدين سنديان”.
وما سمعت خطبته كاملة، بل أثار انتباهي جلبة آتية من جهة غلمان الوزير ” هميروس” كادت عدواها تنتقل، لكنها توقفت فجأة لما صار الأمير ينثر الذهب فوق رؤوس كل من حضر من وزراء وحجاب وحكام وأرباب المناصب السامية والجند والعلماء والشباب… وكلما نثر لهم من الذهب والجواهر النفيسة والدرر، كلما فاض الخير من أسفل الصندوق، فزادهم منها ومن اللؤلؤ والمرجان… وهكذا ألقم كل امرأة أو رجل يريد الكلام ذهبا فلا يستطيع أحدهم العبارة، بل كلهم في سكرة فتنة الذهب يعمهون. فترى العالم المفتي ينزع عنه لباس التقوى، من عمائم وجلابيب وسراويل، يخزن فيها من النفائس ما لا طاقة له بحمله. تتمزق السراويل، فيسيل الذهب منها على الأرض، فيضحك المفتي ويصفق، ويعود إلى الجمع بعد معالجة الفتق. وترى الحكيم لا يفعل شيئا من ذهل، إنما يحثو على رأسه الذهب ويصفق ويرقص… فخفت على نفسي من الفتنة الكبرى، وتركت الناس وقد فقدوا عقولهم. فسهل علي التسلل بجهاز الصيد والصندوق الذي يتحصن فيه أخي في الله الجني المسلم “فرياطيل”. وأسرعت في الرحيل بعيدا عن القوم المفتونين. فلما بلغت المسافة التي لا حكم للمغناطيس عليها، سارعت إلى تحرير الجني المسلم “فرياطيل” فخرج وهو يتحسر على ما رأى من طمع الحاشية وتزاحمهم على عطايا الأمراء. فأنشدت هذه الأبيات، عساها تذهب عنا الحسرات:
ألحِرْصُ لُؤمٌ، وَمِثْلُهُ الطّمَعُ، مَا اجتمعَ الحِرْصُ قَطُّ والوَرَعُ
لَوْ قنعَ النَّاسُ بالكفافِ إذَاً لا تّسَعُوا في الذي بهِ قَنِعُوا
للمَرْءِ فيمَا يُقيمُهُ سَعَة ٌ لَكِنّهُ ما يُريدُ ما يَسَعُ
يا حالِبَ الدّهرِ دَرَّ أشْطُرِهِ! هلْ لكَ فيما حَلَبْتَ مُنتَفَعُ؟
يا عَجَبا لامرىء ٍ تُخادِعُهُ الـ السَّاعَاتُ عنْ نفسِهِ فينخدِعُ
يا عَجَبا للزّمانِ، يأمَنُهُ منْ قَدْ يَرَى الصَّخْرَ عَنْهُ ينصَدِعُ
عَجِبْتُ منْ آمِنٍ بمنزلة ٍ يَكْثُرُ فيهَا الأمرَاضُ والوَجَعُ
عجِبْتُ منْ جَهْلِ قَومٍ قَدْ عرَفُوا الحقَّ فَوَلَّوْا عَنْهُ ومَا رَجَعُوا
فما أتممت القصيدة، شفقة بالجني المسلم “فرياطيل”، الذي خر مغشيا عليه من شدة البكاء. فلما أفاق قلت له : إنني أود أن تصاحبني في الطريق، تحكي لي ما رأيته لما تركتك في الصندوق العازل. وقال لي: السمع الطاعة، وفي البداية لا أحتاج أن أحكي لك ما كان من أثر سحر مخ الضبع في القوم المتنافسين في المال والجاه، فأنت قد رأيت بأم عينيك تعري علماء القصور إلا من خفيف ما يستر العورة، لحمل الذهب في الجلابيب والعمائم والسراويل. فقلت له: هل كان ذلك من فعل السحر الأسود أو من سحر الإبريز؟ فقال: بل من كليهما. فإن فعل سحر مخ الضبع، لا يؤثر إلا عندما يضعف المَـلَـك الحافظ، فيتقوى القرين الضار. والقرين يتقوى بالمعاصي ويضعف بالطاعات، على عكس الملك الحافظ. واعلم أن الضبع الذي أمرتني بحراسته، أتاه الوزير “هيموريس” بنفسه ليلا، فجز رأسه بحبل وضعه في عنقه، وربط الطرف الآخر للحبل حول رقبة جمل عشاري عطشان. فأغرى الجمل بالماء، فأسرع إليه الجمل وجر الحبل، فطار رأس الضبع من مكانه. واضطر إلى ذلك لما لم يجد سكينا، لأن جبل المغناطيس قد طارت إليه كل آلة فيها شيء من الحديد. ثم قرب من الجثة قوارير لجمع ما أهرق من دم الضبع. فأما الرأس فخبأه في وعاء من الخزف وأعطاه إلى قهرمانة الطباخات. وأما قوارير الدم فحفر لها حفرة تحت تخت الأمير، وخبأ واحدة منها فيها، والباقي منها خبأها في قشه.”
واستمر “فرياطيل” في رواية ما رأى، قال : “هذا ما كان من أمر الضبع. أما ما كان من أمر الديوان المرصود، فلقد رأيت الأمير يجتمع بالوزيرين فيه بعد صلاة الفجر، والناس نيام. يقول لهما:” ما أمرتكم به رمزا في المدينة بعد حدث العروج، يمكن إعلانه لكما الآن بعد التحقق من خلو المكان قرب جبل المغناطيس من آذان الشياطين السارقة للسمع. قلت لكما دبرا الأمر فإني سجين مواثيق جبل قاف. وملك العفاريت “ماسونيوس “ يراقبتي حتى في صحن قصري.” ثم خاطب الوزير “جمال الدين كرندار” قائلا “لقد فوضت لك أمر بر بلاد مازغستان. والتفت إلى “جلال الدين سنديان” وقال: ” وأنت مفوض على أمر بحر مازغستان.” ثم قال: “إن كان تفويض الولاية على البر واضح المهام في الزمان والمكان، فولاية البحر هي سر الأمان.” ثم زاد في توضيح مهام الوزير “جلال الدين سنديان” فقال: ” إنني لما عزمت على التفرغ برهة لعبادة ربي، بعدما تيقنت أن أمر البلد لن يستقيم تحت مواثيق جبل قاف، أتتني البشائر في النوم واليقظة، فرأيت رؤيا تعبر عن نفسها فهي واضحة وضوح الشمس في النهار… رأيت فيما يرى النائم، فقالا: خيرا رأيت، قال الأمير: رأيت كأنني كنت في زيارة مقابر أجدادي في صحاري التخوم، فاستوقفني قبر يسمع من داخله أنين… كأنه يريد تخليصه من هم عظيم… فلم أدر ما العمل وبينما أنا في حيرتي إذ اتضح الأنين فسمعته يقول بصوت خافت ” خلص الصبيتين خلصك الله !!! خلص الصبيتين خلصك الله !!!، فإن لم تفعل فجدك معذب بهما إلى أن تقوم الساعة !!!. ” فخرج عفريت من القبر، رأسه في السحاب وفراقش رجليه غائصة في التراب كالجبال الأوتاد، وهو ماسك بصبية بيمينه وبصبية أخرى بشماله. والصبيتان كانتا ذات حسن وجمال كأنهما الدر المنثور، وتحاولان الإفلات من قبضة المارد. فذعرت مما رأيت وارتعدت فرائصي، حتى إذا اقترب مني، قال بصوت كالرعد القاصف: صبيتان اختطفهما مارد نصراني ليلة عرسهما، ولم تحركوا ساكنا لتحريرهما من الأسر!! فرمى بالصبيتين في الهواء. فأتبعتهما نظري فطوى، المارد الأرض حتى رأيتهما تنزلان في بقعتين على شاطئ بحر الرطاطنة. واحدة على مسيرة ثلاثة أيام من أختها، وبينهما برزخ وادي وغابات وأنجاد… ثم ضرب العفريت القبر فشقه، وأخرج منه كرة مضيئة، رماها كما رما الصبيتين. فتتبعتها حتى استقرت في بحر الظلمات، وأشرفت على الغرق فأخرجها العفريت وردها إلى حفرة القبر، ثم سوى القبر كما كان واختفى وانقطع الأنين. فاستيقظت مذعورا والعرق يتصبب من جسدي… وهرعت إلى الصلاة. وتأولتها خيرا إن شاء الله، فكان من نتائجها ما قررته من التحرر من مواثيق جبل قاف، وتوليتكما الأمر كله طيلة زمن التفويض.” فتدخل الوزير “جلال الدين سنديان” قبل أن يكمل الأمير كلامه، وأراد تأويل الرؤيا فلم يأذن له الأمير وقال له: نحن الآن في اليقظة والعمل هو المهم. وسوف أبعث لكما من أثق فيهم من مهندسي الإنس والجن المسلمين، من أجل الخبرة والمساعدة في المهمات العظمى التي تنتظركما. ولا تهتما لأمر الحاشية والعامة، فما أغدقت عليهم وعلى الشعب من أموال، سوف يثمر أمنا يساعدكما في بناء مجد مازغستان الكبرى، التي كانت تنعم بعدل الإسلام، وكانت تضم أقطار فنداليا وشنكيسطان مرورا بجبال يمورستان وصحاري الفزان التي تربطها بمصر. وكادت يوما أن يكون لها الحكم على بلاد ما وراء بحر الظلمات، لما هزمت أصحابها البرتقيز في معركة وادي المخازن…
ثم اتجه الأمير صوب القبلة في جلسة ذكر الشروق، وتبعه الوزير كرندار. أما الوزير ” سنديان” فقام لتجديد الوضوء لصلاة ركعتي الشروق…”
فقلت لأخي الجني “فرياطيل”: والله لقد كنت دقيقا في تفاصيل رصدك للديوان حتى شعرت وكأنني كنت في جلسة الشروق معهم… فضحكنا، وواصل “فرياطيل” ذكر ما وقع بعد استيقاظ الجند والغلمان والحجاب وأرباب الدولة، وما اشتغل فيه الناس من أكل وشرب ولهو، حتى جاء النفير، يحشرهم إلى الخيمة الكبرى أمام تخت الأمير… فتلك هي الفترة التي رجعت أنت فيها من سفرتك مع أخي “شمشالوخ” من مدينة “إمهيواش”. والبقية كنت أنت الشاهد عليها، وقد رأيت فعل كنوز الخرائب الزيرية في الحاشية. وهو فعل متكرر على مدى العصور والدهور، لا يفلت منه إلا النادر من الخلائق.”
فلما أتم حكايته قلت له: والله لقد استمتعت معك في هذه الرحلة، فامرني بفعل شيء يعجبك لأجازيك عما فعلت معنا من خير، أنت وأخوك… فقال: إننا معاشر الجن المسلمين قد اكتفينا من دنياكم بفضلات العظام التي يذكر اسم الله عليها، فهي زادنا، وبعور دوابكم، فهو علف لدوابنا. فأجبته: صدقت، وهو في صحيح حديث الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم وعلى آله وصحبه”.
وسمعته يشهق بالبكاء لما ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم. فودعني واختفى. وتعجبت من أمره وسبحت لله خالق ورازق الخلق من إنس وجان… {{فبأي آلاء ربكما تكذبان}}.
استراحة “فبريار” في مؤسسة ابن السبيل
فلما قرأت هذه الآية القرآنية العظيمة: {{فبأي آلاء ربكما تكذبان}}، أجاب الشاب الظريف “فبريار” الذي يرافقني في طريقي إلى مدينة “إمهيواش”، قال : ولا بشيء من نعمة ربنا نكذب “. فقلت له: “إنك على علم بجواب الجن الذين أسلموا… اللهم زدنا علما، ونفعنا بما علمتنا، إنك أنت الجواد العليم. فقم يا ولدي، لقد وصلنا إلى مدينة “إمهيواش”، وحان وقت افتراقنا”. فرأيت وكأنه قد شق عليه الوداع. فقلت له: كنت سألتني عن عطايا حق ابن السبيل؟ فأجابني الشاب: إنما هي مزحة تندرت بها لما أضحكني ثم أبكاني حال المتنافسين على التقاط الذهب المنثور فوق الرؤوس. فقلت له: وأنا ما كنت مازحا لما قلت لك: يكون خيرا إن شاء الله. الآن قم لتنال حقك المعلوم من مؤسسات ابن السبيل. فلما رأى الشاب “فبريار” ما سره من استقبال في مأوى السبيل، قلت له: “ضيافتك ثلاثة أيام، وبعدها إن شئت أقمت بعمل يدك في معامل المؤسسة، وإن شئت تابعت سفرك”… فلما هممت بوداعه قال: والله عمري ما سمعت مثل قصتك. فما أحسن حديثك وأطيبه. فقلت: وأين هذا مما أحدثك به غدا إن عشت وأبقاني الله. موعدنا غدا بعد العصر في حديقة المأوى إن شاء الله. فرأيت وجهه متهللا مستبشرا. وقلت في نفسي لما ودعته ” الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ . ”
يتبع…
الرباط ، 27 دجنبر 2011
محمد المهدي الحسني