التفكر في مسألة الخلق  وغاياته الاستخلافية

التفكر

في مسألة الخلق

وغاياته الاستخلافية

محمد المهدي الحسني

 

 

 

التفكر في مسألة الخلق

وغاياته الاستخلافية

 

 

محمد المهدي الحسني

 

 

الفهرس

 

مقدمة. 4

الفصل الأول:  تأملات وصفية في مسألة الخلق. 6

الفصل الثاني: قراءة بداية الخلق عبر الطبيعة. 9

الفصل الثالث: تدبر بداية الخلق عبر الشريعة. 16

الفصل الرابع : ضرورة التجديد في فقه النظر كيف بدأ الخلق. 22

الفصل الخامس: التفكر المتوازن: سبح بجناحي الطبيعة والشريعة. 26

الفصل السادس: العلمانية... والصراع بين العقل والنقل في مسألة الخلق. 29

الفصل السابع: تجديد في موضوع "درء تعارض العقل والنقل". 33

الفصل الثامن: أفول قرن العلمانية. 36

الفصل التاسع: التفكر والاسهتداء بأنوار الحقيقة. 39

الفصل العاشر: أصول نبوية للمنهج العلمي التجريبي. 43

الفصل الحادي عشر: بدايات وغايات الخلق بعيون المحققين. 46

الفصل الثاني عشر: الحوار العميق. 51

الفصل الثالث عشر: أصل محنة العقل المسلم 54

الفصل الرابع عشر: سبل بعث التفكر/ العبادة 58

الفصل الخامس عشر: من شتات التأملات في العلوم الإنسانية إلى استكشاف القوانين الموحدة 62

الفصل السادس عشر: التطور والارتقاء إلى أين؟. 66

الفصل السابع عشر: استنباط قوانين للسمو بالإنسان. 72

الفصل الثامن عشر: الغايات الاستخلافية. 77

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقدمة

 

 

يهدف هذا البحث أساسا إلى تحبيب عبادة التفكر في خلق الله امتثالا لأمره تعالى " إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَاب. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (آل عمران:-190191)

تفكر يسعى للاستفادة من تأملات المتفكرين وطرقهم ومناهجهم في السعي نحو الحقيقة الكونية.

تفكر يسعى لاستبيان الحق من الباطل في استغلال العلوم الكونية وتوظيفها لمناصرة المذاهب والمعتقدات التي تتحكم في شؤون الأمم.

تفكر في آيات الله يسعى لما يرقي في العلم والعمل والحال للتقرب الفردي من الحق سبحانه.

تفكر يبحث كيف يكون خيره متعديا للغير، في إطار تقرب جماعي، لمقاربة الغايات الاستخلافية للإنسان.

تفكر يحاول توسيع دائرة النفع، ليشمل الإنسانية جمعاء وباقي الخلق من نبات وحيوان وجماد، إذ كلما توسعت دائرة النفع في الزمان والمكان، زاد التفكر في القربات، فيكون بذلك " تفكر ساعة خير من قيام ليلة، أو خير من عبادة سنة، أو خير من عبادة ستين سنة أو خير من عبادة ثمانين سنة" كما جاءت به ألفاظ الحديث النبوي الشريف. وانما اختلفت لاختلاف مراتب التفكر ودرجات المتفكرين وأنواع النفع الذي جلبه التفكر، و مدى سريانه في الزمان والمكان.

والتفكر هو عمل العقل الذي مدحه رب العزة في كتبه السماوية ومجده الأنبياء والرسل. قال النبي صلى الله عليه و سلم: "خلق الله العقل و قال و عزتي و جلالي ما خلقت خلقا أكرم على منك، بك أعطى و بك اخذ و بك أثيب و بك أعاقب". و عن السيدة عائشة قالت يا رسول الله ما الذي يرفع الناس في الدنيا قال: "العقل" قالت و ما الذي يرفعهم في الآخرة قال: "العقل" قالت يا رسول الله فأين المجازاة بالأعمال قال: "إنما يعملون على قدر عقولهم" .

 وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء وقال: أشهد أن لك ربا وخالقا، اللهم اغفر لي فنظر الله اليه فغفر له " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا عبادة كالتفكر " وقيل: الفكرة تذهب الغفلة وتجذب للقلب الخشية كما ينبت الماء الزرع. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض " قالوا: وكان ذلك العمل هو التفكر في معرفة الله، لأن أحدا لا يقدر أن يعمل بجوارحه مثل عمل أهل الأرض.

آلة التفكر هي الدماغ الذي اكتشف العلماء أن عدد خلاياه 140 مليار خلية. كل واحدة تمتد لها زوائد تساعد على عمل العقل. هذه الزوائد  تنمو إذا بذل الإنسان جهد التفكر والتذكر، و  تتقلص إذا قل استعمال الفكر.

والتفكر ممارسة طبيعية للإنسان من حيث أنه ذو فكر وروية، لا يخص ملة دون أخرى، الناس يستوون في المدارك والمباحث التي يسرح فيها العقل. وهو ينظر في الكون من عدة زوايا، وبواسطة أدوات ومنهجيات متعددة، منها ما تتيحه العلوم الطبيعية التي تتأمل في المحسوسات من الأجسام العنصرية والمكونة عنها من المعدن والنبات والحيوان والأجسام الفلكية والحركاتالطبيعية. ومنها ما توفره العلوم الإلهية التي تنظر في الأمور التي وراء الطبيعة من الروحانيات والغيبيات.

العلوم الطبيعية تبحث في ماهية الخلق والكيفية التي يشتغل بها والقوانين التي تتحكم في وجوده. من أهدافها الخاصة اكتشاف الوسائل التي تمكن الإنسان من استغلال الكون وتسخيره.

العلوم الإلهية مجال اهتمامها البحث في غايات الخلق التي لا يمكن للعقل إن يدركها إلا عن سبيل الرسائل السماوية، لأنها معلومات غيبية لا يدركها الحس. 

والتأمل السليم يسبح في الكون بجناحين: جناح العلوم الطبيعية (الطبيعة) وجناح العلوم الإلهية (الشريعة)... الطبيعة لاكتشاف الوسائل ، والشريعة للتعرف على الغايات. هذه النظرة الشمولية تفتقر إليها الإنسانية في عصرنا هذا. فهناك بشرية متخمة بالوسائل، تشعر أنها على وشك الانتحار لافتقادها للغايات، بعدما انتحلت دينا جديدا سمته اللاييكية، يقدس الطبيعة، ويحكم قوانينها حتى في مجال الغيبيات.

وهناك بشرية، تعدادها مليار ونصف من المسلمين، رغم استخلافها على أسرار الغايات، يكبلها عوز الوسائل، فلا يكاد يسمع لها صوت، ولا يكاد يستقل لها وجود خارج هيمنة الغرب . وبقدر شحنا كمسلمين في إفادة الغرب بكنوز الرسالة السماوية المبينة للغايات، بقدر ما يشح علينا في إفادتنا بما أتاحه العلم من وسائل لتسخير الكون. هذا بذاك.

لقد أهملت العلوم الغربية بجملتها فكرة الغائية بحجة أنها لا تهم الباحث العلمي ولا تقع في دائرة علمه. ربما كان ذلك تقسيما منهجيا سهل التركيز على التخصصات العلومية، وهذا إجراء محمود عرفه العلماء المسلمون وتم لهم الإبداع الكبير في كل فروع المعارف الكونية. لكن كانوا بجانب ذلك لا يرون أي تعارض بين العلوم الكونية والعلوم الشرعية، وبحثوا في هذا الموضوع بحثا عميقا وألفوا فيه تراثا عظيما، لو استعان به الغرب لاجتاز أزمة تعارض العقل مع نقولهم ونصوصهم الدينية المشحونة بالإسرائيليات المرجفة.

كانت أزمة تعارض العقل مع التزوير الإسرائيلي للتوراة والإنجيل، سببا مباشرا لاندلاع ثورة المتنورين في القرن التاسع عشر. هؤلاء ابتدعوا معتقد اللاييكية، وهو دين جديد يقوم على الصراع بين الدين والعقل.

والعجب أنهم فرضوا هذا الدين الجديد على المسلمين الذين لم يكن لقرآنهم المحفوظ من التزوير الإسرائيلي أي  عقدة مع العقل.

يستعد الغرب للاحتفال بمرور قرن كامل على تحكيم معتقد اللاييكية في كل مجالات حياته. يدشن القرن بهذا الاحتفال وهو يشهد علامات انتحاره بادية في عزوفه عن الإيمان بالله وحروبه العدوانية للسيطرة على وسائل الكون، بادية كذلك في شيخوخته وعدم قدرته على تجديد نفسه إلا عن طريق الاستعانة بطاقات الهجرة.

لذا ينبغي الحذر من هذا الاستعمال الغربي السيئ لطاقات التفكر الذي يسعى إلى السيطرة على الوسائل الكونية متناسيا الغايات الوجودية والقيم الإنسانية. فالتفكر إن لم يدلنا على عظمة الخالق سبحانه، ولم ينفعنا في ديننا ولا في دنيانا، فهو العلم الذي لا ينفع الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم.

أما التفكر المحمود، زيادة على ثماره اللازمة للفرد من العلوم والأعمال والأحوال، فهو يسعى بعبارة مجملة لاكتشاف "تكنولوجيا" من نوع آخر، تنتج تلك الأمة المستخلفة على الكون استخلافا يتيح تمكن الإنسانية من الانتفاع بالحقائق الكونية، والحقائق الشرعية، في إطار تكامل يجر الخير للجميع، للسمو بالإنسان في المقومات التي سمي بها إنسانا مستخلفا على الكون: يدرك الحق ويتعلق به، ويتعرف على الباطل ويقاومه، لأن الباطل كان في سابق تقدير الله زهوقا، بتدخلنا، امتحانا وتمحيصا لنا، أو بدوننا، فالله غني عن العالمين، وقد دبر شؤون السماوات والأرض قبل وجود الخلق. "ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار".

الرباط، بتاريخ  1 رجب 1424 ه- الموافق 18 غشت 2004 م

آخر تحديث : 14 /5/1431 هـ - الموافق 28/4/2010 م

محمد المهدي الحسني

 

الفصل الأول:  تأملات وصفية في مسألة الخلق

 

 

 

{{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ...الآية}}. " فصلت:53".

 

 

 

 

 

 

 

منذ أمد والعلماء ينقبون على أسرار خلق الله، ويسيرون في الأرض لينظروا كيف بدأ الخلق. منهم المؤمنون بالخالق ومنهم المنكرون. تجمعهم الهمة والوهب في قوة الملاحظة، والذكاء التنظيري حسب المنهجية العلمية التي تعتمد على الملاحظة والتجربة والاختبار والتنظير الذي يضع التفاسير والفرضيات والقوانين المنظمة لما لشتات الملاحظات، فيعمموا على حالات أخرى، لاستنباط المعلوم من المجهول منها، و التكهن بالنتائج بناءا على المسلمات أو الحقائق المعلومة. ثم يجرون التجارب أو يعمدون لمختبر الطبيعة كالحفريات والسجل الإحاثي للتعرف على حدود الثقة [1] ونسبية صحة [2] بنائهم النظري في مقاربة الخطأ والصواب. يستعينون في تحرياتهم بالعلوم المضبوطة من إحصائيات وفيزياء وغيرها من التخصصات الدقيقة  .

وفي مرحلة أخيرة يبحثون عن التطبيقات الممكنة لما وجدوه من معارف في إطار تكنولوجيا تطبيقية، ترى أن الرهان الأخير ليس معرفة القواعد والقوانين العلمية فقط، وإنما الرهان كذلك هو القدرة على استخدامها والاستفادة منها عمليا.

فهذا حجة الإسلام الغزالي رحمه الله من الأولين، يولي هذه العبادة العظيمة ما تستحقها من اهتمام، مبينا في كتاب الإحياء نصوصا من الكتاب والسنة تأمرنا بالتأمل والتفكر. ويعرض علينا أمثلة من تأملاته في الآفاق وفي النفس مفسرا لها بالمتاح في عصره من أدوات علمية. وهذا هارون يحيى من المتأخرين يمارس نفس المهمة زائدا على الغزالي لبنات أخرى في الوصف العميق لخلق الله بالوسائل العلمية الهائلة التي يسرها الله للإنسان في عصرنا هذا. لكن كلاهما كمن لا يتجاوز الوصف والملاحظة العلمية لعجائب صنع الله. ربما ارتقى في تفكره هذا لينظر في الكيف امتثالا لقوله تعالى سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت:20)  لكنهما يأتون به وصفا مشتتا لا يتقدم خطوة نحو مرحلة استباط نظريات الكيف التي يتيحها المنهج العلمي المعروف.

العلماء المتأخرون أثروا هذا التأمل الوصفي إثراء عظيما نظرا لما وصلت له التقانة في توسيع المدارك الحسية للإنسان من سمع وبصر وتقدير وحسبان. نعرض نماذج منها حكمة مشتركة للبشرية هي ضالتنا ولو أتت لنا من الصين.

يقول أحدهم[3] "إن الإنسان أو الحيوان أو النبات ينشأ من خلية واحدة، من ثم تنقسم هذه الخلية إلى خليتين. وهاتان الخليتان تنقسمان بدورهما إلى أربعة خلايا. ويستمر هذا التقسيم دون توقف. وفي أثناء حدوث هذه العملية من إحكام تركيب المخلوق يحتفظ الجنين بالبساطة الوظيفية للبويضة. ويبدو أن الخلايا تعي وحدتها الأصلية ولا تنساها، حتى عندما تصبح عناصر جمهرة لا يحصيها عدد. إنها تعرف من تلقاء ذاتها الوظائف المطلوب منها تأديتها في الجسم كوحدة. فلو أننا زرعنا خلايا ابثيلية لعدة اشهر، وهي بعيدة عن الجسم الذي تنتسب إليه، فإنها تنظم نفسها تنظيما يشبه الفسيفساء.كما لو كانت ستحمي سطحا. مع أن هذا السطح يكون غير موجود. كذلك كريات الدم البيضاء التي تعيش في قنينة، تبذل قصارى جهدها للفتك بالجراثيم بالرغم من عدم وجود جسم تتولى حمايته. وذلك لأن إلمامها الفطري بالدور الذي يجب عليها أن تلعبه في الجسم إن هو إلا وسيلة للبقاء. فلو أن عددا قليلا من الكريات الحمراء انساب من قطرة من الدم وضعت في سائل البلازما، وكونت مجرى دقيقا، فإنها سرعان ما تنشيء لهذا المجرى شاطئين. ولن يلبث هذان الشاطئان أن يغطيا نفسيهما بخويطات من الليف، ويصبح المجرى أنبوبة تنسال فيها الكريات الحمراء، مثلما تنسال في وعاء دموي، وتحيط نفسها بغشاء متماوج. وفي هذه الأثناء يتخذ مجرى الدم مظهر وعاء شعري مغلف بطبقة من الخلايا القابضة. وهكذا فان الكريات الحمراء والبيضاء المعزولة، تستطيع أن تنشيء قطاعا صغيرا من جهاز الدورة الدموية. بالرغم من عدم وجود قلبا ودورة دموية، أو أنسجة لترويها".

ويكتب أحد علماء البيولوجيا[4]: "أينما اتجهت ببصري في دنيا العلوم رأيت الأدلة على التصميم والإبداع، على القانون والنظام ، على وجود الخالق الأعلى. فعندما نذهب للعمل ونفحص قطرة من ماء المستنقع تحت المجهر لكي نشاهد سكانها فإننا نرى إحدى عجائب الكون . فتلك الاميبا تتحرك في بطء وتتجه نحو كائن صغير فتحوطه بجسمها فإذا به في داخلها ، وإذا به يتم هضمه وتمثيله داخل جسمها الرقيق. بل إننا نستطيع أن نرى فضلاته تخرج من جسم الاميبا قبل أن نرفع أعيننا عن المجهر. وإذا لاحظنا هذا الحيوان فترة أطول ، فإننا نشاهد كيف ينشطر جسمه شطرين . ثم ينموا كل من هذين الشطرين ليكون حيوانا جديدا كاملا. تلك خلية واحدة تقوم بجميع وظائف الحياة التي تحتاج الكائنات الأخرى الكبيرة في أدائها آلاف الخلايا أو بلايينها . لا شك أن صناعة هذا الحيوان العجيب الذي بلغ من الصغر والحيوية حد النهاية ، تحتاج إلى أكثر من مصادفة".

دكتور آخر[5] يقول : "إن في جسم الإنسان 250 عظمة تتحرك بدقة عجيبة بواسطة ألوف العضلات بل ملايينها. وفي العين وحدها 400 مليون مخروطة صغيرة و300 مليون من الألياف ونصف مليون عصب دقيق. وكلها تتحرك معا بدقة متناهية وبدون أي ألم سوى عند المرض وفي حالات طارئة. وهناك مليارات الأفران في الجسم هي الخلايا نفسها تحرق الغذاء لتوليد الطاقة، وعدد كبير من المؤكسدات الصغيرة. كما نجد ملايين من الكريات البيضاء التي تضحي بنفسها وتموت في حربها ضد الأمراض، والرئتين اللتين تعملان ليلا ونهارا عل تنقية الدم، والقلب الصلب والأمين، فهو يدفع 280 ألف طن من الدم سنويا ليصل إلى أجزاء الجسم المختلفة".

هذه نماذج لوصف عجائب الطبيعة، تأملات يمكن استغراق العمر في استقصائها دون أن نحيط بالنزر القليل منها. وتظهر الحاجة لاستكشاف مفاتيح لجمع شتاتها بواسطة منهجيات وعلوم مختلفة.

 

الفصل الثاني: قراءة بداية الخلق عبر الطبيعة

 

{{ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ...الآية}}.

" العنكبوت:20".

 

 

 

 

 

 

 

يرتقي التأمل في الخلق من المرحلة الوصفية إلى مرحلة النظر في الكيف، وقد دعانا الله لذلك في قوله تعالى: " سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت:20)  فيتقدم الاستقصاء خطوة نحو مرحلة استنباط نظريات الكيف التي يتيحها المنهج العلمي المعروف.

هذا الاستنباط الكيفي نورد له نموذجا من تراثنا العلمي، كان له السبق في صياغة نظرية خلقية بالمفهوم العلمي الحديث. عالج ابن خلدون مسألة الخلق في نظرة شمولية يمكن القول إنها أول تعبير لنظرية التطور. حيث أن داروين لم يزد عليها سوى أن اختبرها عبر مختبر الطبيعة، ثم ألبسها مسوحات مذهبية لمناصرة المعتقدات الأيديولوجية السائدة في زمانه. يقول ابن خلدون رحمه الله عن  الأصل المادي للإنسان في مقدمته [6]:

"اعلم أرشدنا الله وإياك أنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام وربط الأسباب بالمسببات واتصال الأكوان بالأكوان واستحالة بعض الموجودات إلى بعض لا تنقضي عجائبه في ذلك ولا تنتهي غاياته"‏...

يقول: " ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج‏.‏ آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذر له، وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم، متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف، ولم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط. ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب، لأن يصير أول أفق الذي بعده‏.‏ واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه. وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القدرة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك ولم ينته إلى الروية والفكر بالفعل وكان ذلك أول أفق من الإنسان بعده‏.‏ وهذا غاية شهودنا‏."

هذا ما لاحظه ورتبه ابن خلدون في عالم الشهادة: نظرة علمية ثاقبة لم يزد عليها داروين الطبيعي سوى أنه سافر عبر العالم للتأكد من وجود الحلقات الرابطة بين الأنواع، مستعملا المتاح في زمانه من علوم التصنيف والباليانطولوجيا وغيرها من العلوم... واقترف زلة تفسيرية في افتراض عنصر الصراع من أجل البقاء، بينما لزم ابن خلدون تفسيره للتطور بنظرية "الاستعداد الغريب" وكلتا النظرتين تم تجاوزهما اليوم اعتبارا لما أتاحته علوم العصر، خاصة علم الوراثة، من تفسيرات جديدة.

داروين ومن تبعه، اقتصر على البعد الحيواني للإنسان ولم يتجاوزه خشية رقابة المنهجية العلمية الصارمة التي يدعون أنه ليس من اختصاصها التعرض للحقائق الغيبية.

لكن ابن خلدون ليست له تلك النظرة التجزيئية للإنسان، فهو يرى أن الاقتصار على البحث في الإنسان الحيواني فقط، يبتره من المقومات الجوهرية التي بها بتميز عن الخلقة الدوابية. لذا كان لزاما عليه أن يكمل لنا النظرة الشمولية لهذا المخلوق الذي سواه الله ليدرك خالقه ويستحق السمو والتطور إلى أعلى تقويم إن اعترف بخالقه، أو يرد أسفل سافلين في دركات الدواب الصم البكم الذين لا يعقلون، إن اختار الجحود والعياذ بالله.

ابن خلدون يرفعنا للتأمل في الإنسان في بعده الروحي لننظر كيف جعله الله سبحانه وتعالى سميعا بصيرا ومدركا للحقائق. يقول رحمه الله:

" ثم إنا نجد في العوالم على اختلافها آثارا متنوعة‏:‏ ففي عالم الحس آثار من حركات الأفلاك والعناصر وفي عالم التكوين آثار من حركة النمو والإدراك تشهد كلها بأن لها مؤثراً مبايناً للأجسام‏.‏ فهو روحاني ويتصل بالمكونات لوجود اتصال هذا العالم في وجودها وذلك هو النفس المدركة والمحركة‏.‏ ولا بد فوقها من وجود آخر، يعطيها الإدراك والحركة ويتصل بها أيضاً ويكون ذاته إدراكاً صرفاً وتعقلاً محضا وهو عالم الملائكة‏.‏ فوجب من ذلك أن يكون للنفس استعداد للانسلاخ من البشرية إلى الملكية لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتاً من الأوقات في لمحة من اللمحات وذلك بعد أن تكمل ذاتها الروحانية بالفعل كما نذكره بعد. ويكون لها اتصال بالأفق الذي بعدها شأن الموجودات المرتبة كما قدمناه‏.‏ فلها في الاتصال جهتا العلو والسفل‏:‏ فهي متصلة بالبدن من أسفل منها ومكتسبة به المدارك الحسية التي تستعد بها للحصول على التعقل بالفعل، ومتصلة من جهة الأعلى منها بأفق الملائكة ومكتسبة به المدارك العلمية والغيبية فإن عالم الحوادث موجود في تعقلاتهم من غير زمان ‏.‏" انتهى قول ابن خلدون.

دار الزمن دورته، وبعد أربعة قرون، فرضت النظرية الخلدونية نفسها على الغرب، ويبدو أنهم أخفوا مصدرها وأوهموا الناس أنهم اكتشفوا نظرية لتفسير وجود الإنسان وتطوره على الأرض، صوروها من خلال شجرة الأحياء التي اقتضت فرض وجود حلقات رابطة بين الأنواع والفصائل، وحددوا بدقة خصائصها، ثم ساروا في الأرض للبحث عنها، والتعرف على نسبة الصواب من الخطأ في النظرية.

ونظرية داروين المتجاوزة، فهي كما لخصها لنا هارون يحيى في كتبه المنشورة عبر الشبكة الإليكترونية تدور حول عدة أفكار وافتراضات يؤخذ منها ويرد:

§        تفترض النظرية تطور الحياة في الكائنات العضوية من السهولة وعدم التعقيد إلى الدقة والتعقيد. تتدرج هذه الكائنات من الأحط إلى الأرقى. وهذا يقترب من قول ابن خلدون.

§        الطبيعة وهبت الأنواع القوية عوامل البقاء والنمو والتكيف مع البيئة لتصارع الكوارث وتتدرج في سلم الرقي تتجلى في الإنسان، بينما نجد أن الطبيعة قد سلبت تلك القدرة من الأنواع الضعيفة فتعثرت وسقطت وزالت. وقد استمد داروين نظريته هذه من قانون الانتقاء لمالتوس... وهو قول فيه نظر لأن قانون المن على المستضعفين وظاهرة التضحية يضحدانه.

§        الفروق الفردية داخل النوع الواحد تنتج أنواعاً جديدة مع مرور الأحقاب الطويلة. وهو قول يكرر المعنى الأول.

§        الطبيعة تعطي وتحرم بدون خطة مرسومة، بل خبط عشواء، وخط التطور ذاته متعرج ومضطرب لا يسير على قاعدة مطردة منطقية، وهذا قول ينافي ما أثبتته القوانين المكتشفة في علم الوراثة.

النظرية إذن لها واجهتها العلمية وواجهتها الفلسفية. واجهتها العلمية تحاول العثور على تفسير ما أجمله ابن خلدون في مفهوم "الاستعداد الغريب" لارتقاء الأنواع واتصالها. فهو يقول : "ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده".

لقد وجدوا بعض هذه الحلقات ولم يعثروا على أخرى... وبقي باب الاجتهاد مفتوحا لكل من كانت له همة البحث والتنقيب، والروح العلمية البعيدة عن كل دكماتية فلسفية مذهبية.

لكن باب الخوض المذهبي بقي كذلك مفتوحا لبعض المغرضين أهل الأهواء الذين يتلقون الدعم السخي من لدن بعض التيارات الفلسفية الجاحدة لوجود الخالق.

والمجتمع العلمي الطبيعي في غالبيته يتفق مع النظرة الخلدونية بالنسبة للنشأة الحيوانية، ما عدا بعض الخلقيين الإنجيليين الأمريكان الذين يحاولون البرهنة العلمية للأساطير اليهودية في مسألة الخلق. إنهم يؤكدون إطلاقا أن الخلق وجد دفعة واحدة ولم يتطور، وعمر الخليقة 6000 سنة كما جاء في سفر التكوين التلمودي... وهم يتفقون مع بعض المسلمين الذين رفضوا النظرية جملة وتفصيلا بعدما اختزلوا بناءها العلمي في جملة استفهامية تمييعية منفرة " الإنسان أصله قرد ؟ ". هذا الرفض يشجعه بعض أعداء الإسلام كما يشجعون مذاهب المتشددين، ليقال انظروا إلى حقيقة الإسلام إنه يحارب العقل والعلم كما حاربته الكنيسة في القرون الوسطى، وهكذا يمهدون لفرض مذهب العلمانية عند المسلمين، معممين الإرهاب الفكري الكنسي على الإسلام...

من أنشط هؤلاء الرافضين، التركي هارون يحيى [7] الذي يزعم أن نظرية التطور انهارت ولم يبق لها أي أساس علمي. يقول في كتبه المتعددة التي يضعها مجانا في موقعه الإلكتروني المشهور: " وبينما دحض العلم الحديث نظرية التطور أظهر من الجانب الآخر المصدر الحقيقي لنشوء الحياة ... وهو "الخلق". فقد خُلقت جميع الأحياء بنظام رائع من قبل الله تعالى. ولم تمر منذ خلقها حتى الآن بأي مراحل تطورية."

يعني أن النظرية التطورية ألغاها المجتمع العلمي وتوجوا محلها نظرية "الخلق" التي تقول "  خُلقت جميع الأحياء بنظام رائع من قبل الله تعالى. ولم تمر منذ خلقها حتى الآن بأي مراحل تطورية." وهو قول يخلط بين أمرين  مختلفين :

§        "خلق الأحياء من قبل الله تعالى"، وهو أمر غيبي يؤمن به المؤمنون ويجحده الكافرون، والموقف العلمي من هذا الأمر يؤكده الخالق الخبير بخلقه : )لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ... الآية) (البقرة:256)  ؛ 

§        الخلائق"  لم تمر منذ خلقها حتى الآن بأي مراحل تطورية." وهو قول فاسد لا علاقة له بالعلم ولا بالإيمان بالله، ولن يرق بالتأكيد لمواصفات النظرية العلمية لكي يكمل بنيانها أو يحل محلها.

القول الأخير يناقشه أهل العلوم لأنه يقع في دائرة تخصصهم، ويردون عليه بالحجة والبرهان، ويكشفون للناس أكاذيب وتدجيلات الخلقيين الأمريكان. نذكر من هؤلاء كبرائهم  الذين أسسوا " معهد الأبحاث حول الخلق في أمريكا" (  Institute for Creation Research) : الدكتور دون جيش (Dr Duane Gish ) والدكتور كينيث كيمنج (Dr Kenneth Cumming ) والبروفسور الجيولوجي جوهن موريس مدير المعهد (John Morris )، والبروفيسور كارل فليرمان (Carl Fliermans ) ، تمول له وزارة الدفاع الأمريكية أبحاثا حول الأسلحة البيولوجية، وغيرهم من الدكاترة الإنجيليين [8] الذين يوهمون البسطاء والسذج في الكنيسة الأمريكية المتطرفة، ويستولون على أموالهم ليصرفوها بسخاء للترويج للأسطورة الخلقية الإسرائيلية.

مناظرات هؤلاء الأنجيليين وسجالاتهم مع المجتمع العلومي الغربي معروفة، لا تقابل إلا بالاستهجان والتبرم، لأن آراءهم لا ترقى لمرتبة النظرية العلمية البديلة لنظرية التطور. مثال ذلك، ما يمكن الاطلاع عليه موقع المعهد الفرنسي للبحث العلمي  في شبكة الانترنيت [9] ، الذي يبين كيف يزورون الحقائق المحسومة في العلوم الطبيعية، ليستدلوا على أن الإنسان كان معاصرا للديناصورات و بعض المحار الذي عاش في العهد الكامبيري، ويحتجون بهذا التزوير للتدليل على عمر الكون كما جاء حرفيا في التلمود.

ولربما استشعروا فشلهم وكساد بضاعتهم في العالم الغربي فاتجهوا إلى العالم الإسلامي. ساعدوا  هارون يحيى  سنة 1998 على تأسيس معهد مماثل لمعهدهم في أمريكا": "مؤسسة البحث العلمي في تركيا". وساعدوه بالحضور الفعلي في بعض المحاضرات من المحاضرات المتعددة التي نظموها، والتي بلغت حسب إحصائيات المؤسسة حوالي 140 ، شهدها حوالي 100.000 شخص في كل من تركيا و ماليزيا وبروناي وسنغافورة وهولندة وأزريبدجان وكندا والولايات المتحدة وإندونيسيا، وهو مستعد لتنظيمها لكل مؤسسة ترغب في ذلك حسب موقعه في الإنترنت [10] .

يبدو إذن أن الأمر التبس على هؤلاء الإخوان الأتراك فاتبعوا الخلقيين في حرفية تأويل سفر التكوين التوراتي التلمودي . ليتهم اتبعوهم في المبدأ فقط فيلتزموا بالحرفية ولكن في قراءة ظاهر القرآن المحفوظ من التحريف والتزوير. ليتهم اتبعوا المذهب الأندلسي الظاهري، فيقفوا عند ظاهر النص القرآني الذي يقول فيه الحق سبحانه: ) مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً) (نوح13 :14) وقوله )وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً) (نوح:17). ظاهر النص يفيد تطور الخلق أطوارا مع إطلاق مفهوم الأطوار التي من بينها طور النبات من الأرض... ولن يستطيع أحد مؤاخذتهم على التأويل  بظاهر الآيات. فينقلبوا خلقيين نصيين مسلمين مأجورين بالاتباع للفقيه المجتهد ابن حزم الأندلسي رحمه الله، عوض اتباع  أهل الضلالة فيوشكوا أن يقعوا في الفتنة اللاييكية، مذمومين بسبب الابتداع.  ومآخذي وانتقاداتي للإخوة الأتراك لا تتعدى موقفهم مع مسألة التطور لا غير. أما ما سوى ذلك من إصدارات دعوية عن طريق التذكير بآيات الله في خلقه وذكر الموت والآخرة والثواب والعقاب فكل ذلك مطلوب ومرغوب. ولقد أبلوا فيه البلاء الحسن، مذكرين إخوانهم العرب بتلك الفتوحات الباهرة التي تحققت لدين الله على أيديهم. ونرجو أن يتنبهوا للتلبيس الذي حصل لهم وينبهوا أصحابهم الخلقيين الأمريكان لمعاني الحرفية المحمودة: حرفية الوقوف مع النص المحفوظ من التزوير لا حرفية الوقوف مع الفكر التلمودي الأسطوري الذي حذرنا الله  ورسوله منه تحذيرا شديدا. [11]  

هذا الموقف الفاسد مع النظرية لم يمنع العلماء الطبيعيين من السير في الأرض للنظر كيف بدأ الخلق. فتعددت الاختبارات  العلمية للمسألة، بواسطة تخصصات مختلفة كعلم التصنيف وعلم الإحاثيات وعلم التشريح وعلم الإحصاء والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والفيزيولوجيا، ثم جاء الاقتحام الباهر بواسطة علم الوراثة.

لقد كانت نسبية النظرية واعترافها بالقصور في الإدراك هو السبب المباشر في دفع عجلة التنقيب عن أسرار الحياة، خاصة لما ساهمت كثير من العلوم في المجهود، مسلطة أضواءها عليه من زوايا مختلفة.

لكن عندما خاض في الموضوع بعض خبراء الكلام وأهل الأغراض الفلسفية والمذهبية، كانت هناك انتهاكات وتجاوزات خطيرة ارتكبت في حق المنهج العلمي العقلي. هؤلاء لهم قصور في الإلمام بمنهجية أهل النظر المضبوط كالرياضيات والفيزياء غيرها، لكن لهم استعداد آخر ليس لغيرهم من أهل النظر، هو كذلك من الوهب والإمداد الإلهي: الحذق في الاستغلال المذهبي والأيديولوجي والفلسفي للنظريات العلمية. غالبا ما يستعملون طرق التدليل العاطفي الذي يجتهد من أجل إيجاد الحجج لتعزيز خيار مسبق من الخيارات المذهبية، أو مرجعية فكرية من المرجعيات.

فمن هؤلاء المذهبيين من يحاول استغلال النظرية التطورية بطرق شتى، رغم كونها  مجرد افتراض لوصف تدريج الخلق لا يدعي امتلاك الحقيقة القطعية. يرغمون النظرية  في مرحلة أولى أن تكون حقا مطلقا أو باطلا مطلقا، ثم في مرحلة ثانية يعتمدون على هذه القطعية المزورة للانتصار لمذهب من المذاهب أو أيديولوجيا من الأيديولوجيات أو اعتقاد من المعتقدات. فهي إذن حالات مختلفة نجمل بعضها كالتالي:

§        حالة من يؤمن بقطعية النظرية ويرى في هذه القطعية دليلا على صحة مذهب من المذاهب المنكرة للخالق. فهذا تعلق قلبه بالعدم وجعل أساس جحوده مبنيا على نظر عقلي خاطئ، لأن أصحاب النظرية العلمية لا يدعون أي قطعية فيها. هذه الحالة لا يمكن وصفها إلا بطمس العقل وطمس القلب. [12]

§        حالة من يؤمن بالمطلق الخالق، ويؤمن بقطعية النظرية، ويجعلها دليلا على إيمانه بالخالق. فهذا الذي يربط المطلق الحقيقي بمطلق وهمي، هو في خطر إذا انقشع وهمه، وأدرك أنه يضع للمطلق الحقيقي أساسا نسبيا قابلا للمراجعة...

§        حالة من يؤمن بالمطلق الخالق، وينطلق من فهمه للنقل لدحض النظرية العلمية. وهذا حال من يجادل بغير روية، في موضوع منعدم. فإن أتى بالنصوص واستدل بها على خطأ النظرية أو صوابها ففعله عبث لأن النظرية اعترفت سلفا باحتمال خطئها أو صوابها. والخطر الذي يوشك أن يصدر ممن هذا حاله، هو غلق باب الاجتهاد في السير في الأرض والنظر كيف بدأ الخلق، لأنه حسم في الأمر ولم تبق له تلك النسبية التي تدفع عجلة البحث العلمي. كما أنه ادعى لنفسه الكمال في فهم النصوص، فأغلق كذلك باب الاجتهاد في فهم النص المنقول. معالجة النظرية العلمية بهذه الذهنية تعسف واضح وخطأ منهجي غير مقبول عقلا ونقلا. حصيلتها الجمود في النظر العقلي والجمود في الفهم النقلي، وشيء لا بأس به من النفسية التي يصعب عليها التحلي بالروح العلمية، المبنية على الشك المنهجي الداعي للتجربة. فلولا الشك ما أجريت التجارب، ولولا التجارب ما حصلنا على قوانين كونية تتكرر دائما لمن يعيدها سواء كان في الصين أو في المغرب...

ولأن النظرية العلمية أصلا واصطلاحا لا تدعي امتلاك الحقيقة، فهي بذلك خريجة مدرسة التواضع التي يلخصها لنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قوله " العجز عن إدراك الإدراك إدراك ". هذا التواضع هو مصدر قوتها، فهي في حركية مستمرة لتصويب بنائها وسعي حثيث للتنقيب عن أسمى تعبير لمقاربة الحقيقة من خلالها، والمقاربة لانهائية [13] . وبما أن في كل حركة بركة، وحيث أن الحرف الساكن لا ظهور له إلا بالحركة رفعا أو نصبا أو خفضا أو جزما، ما تدركه النظرية العلمية في سعيها اللامحدود نحو الكمال من معارف لا ينضب معينه، لأنها من قبيل كلمات الله التي لو كان البحر مدادا لها لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا : )قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (الكهف:109)

وكلمات ربنا التي تكتبها يد القدرة بالمورثات أثبت العلم حقا أنها لا تنضب، فهي إن كانت سببا في تركيب أنواع لا تحصى من الأنواع الخلقية في الماضي، ستبقى كذلك إلى اليوم الآخر... فانظر ما أتاح تواضع النظرية التطورية العلمية من إمكانيات تركيبية في عالم التكنولوجيا الوراثية الذي يشهد حاليا تطورا رهيبا وثورة في مجال تركيب أنواع وفصائل جديدة من النبات والحيوان تحدد خواصها مسبقا.

أما من ادعى أن الخلق وجد دفعة واحدة ولم يتطور فعلى أي دليل يبني مسلماته القطعية هذه؟

فكيف تستساغ هذه النظرة التي تريد إغلاق باب الاجتهاد في السير في الأرض والنظر كيف بدأ الخلق؟

بعض المنكرين لنسبية نظرية التطور يعتمدون للتدليل على مواقفهم على اجتهادات غيرهم من النصيين ولو كانوا من أهل الكتاب. منطق فاسد وفهم للنقل سقيم. فإذا كانت النظرية كما قلنا بناءا عقليا يقبل احتمال الخطأ والصواب، فلم ضياع الوقت والجهد والتعسف في إرغامها لتكون قطعية بالاعتماد على نصوص ربما تعتبر من الإسرائيليات أو نصوصا لا يشك في صحتها لكن لم نحسن تأويلها، لكي نجهز عليها بالمعاول، في مرحلة تالية؟ لقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم ألا نكذب وألا نصدق بعض الإسرائيليات التي تتكلم عن قضية الخلق، فهي إذن ليست قاعدة صلبة للتدليل. وكذلك الحال بالنسبة لما لا نحسن فهمه أو تأويله من النصوص التي وثقها الرواة.

في مرحلة أخيرة يتم استغلال القطعية التي كبلوا بها النظرية أولا للانتصار لمذهب من المذاهب أو فلسفة من الفلسفات؛ وثانيا لغلق باب اجتهاد العقل ومحاولة منعه من ممارسة عمله الأرضي المتواضع.

فتأمل كم يحيد هذا الموقف عن الصواب، وكم ينأى عن الهدي النبوي الذي علمنا كيف نتعامل مع قضايا مشابهة. "أنتم أعلم أمور دنياكم"، كلمة قالها نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، وسبحان الله تأتي بالضبط في الموضوع الذي ندندن حوله: علم الوراثة الذي يكشف لنا أسرار تأبير النخل وهو  سبب ورود الحديث. وهذا من غريب صنع الله : يعلمنا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، خلق التواضع مع النظرية العلمية المبنية على التجربة. ومع ذلك نقول أنه كان على صواب في نهيه عن تأبير النخل لاعتبارات سوف نبينها بعد حين في فصل "اهتداء بأنوار الحقيقة"

 

 

 

 

الفصل الثالث: تدبر بداية الخلق عبر الشريعة

 

{{ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً}}.

" نوح:17".

 

 

 

 قراءتنا لبعض النصوص التي تزخر بها كتب السلف الصالح تقتضي الحذر من الإسرائيليات التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم ألا نصدقها وألا نكذبها، وهو موقف ينصح بألا نضيع وقتنا بالبحث عن الحقيقة من خلال أخبارها. مثال تلك الخرافات التي تزخر بها تصانيف الأولين، نورده في الأخبار التالية كما نورد كيف تعامل معه المفسرون للكتاب والسنة في صدر الإسلام.

ذكر أبو نعيم عن كعب الأحبار: "أن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض كلها فألقى في قلبه فقال  هل تدري ما على ظهرك يا لوثيا من الأمم والشجر والدواب والناس والجبال  لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع قال  فهم لوثيا بفعل ذلك فبعث الله دابة فدخلت في منخره فعج إلى الله منها فخرجت قال كعب والذي نفسي بيده إنه لينظر إليها بين يديه وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت حيث كانت".

وذكر ابن كثير في تفسير الآية "وقالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين"، قال الزجاج ... "المراد هنا أنهم قوم عظام الأجسام طوال متعاظمون قيل هم قوم من بقية قوم عاد وقيل هم من ولد عيص بن إسحاق وقيل هم من الروم ويقال إن منهم عوج بن عنق المشهور بالطول المفرط وعنق هي بنت آدم قيل كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلثمائة وثلاثة ذراعا وثلث ذراع". قال ابن كثير: "وهذا شيء يستحيا من ذكره ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الله   خلق آدم   طوله ستون ذراعا ثم لم يزل الخلق ينقص" ثم قد ذكروا أن هذا الرجل كان كافرا وأنه كان ولد زنية وأنه امتنع من ركوب السفينه وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته وهذا كذب وافتراء فإن الله ذكر أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ..."

وعلق ابن كثير على قول الزجاج قائلا: " قلت لم يأت فى أمر هذا الرجل ما يقتضى تطويل الكلام فى شأنه، وما هذا بأول كذبة اشتهرت في الناس ولسنا بملزومين بدفع الأكاذيب التى وضعها القصاص ونفقت ثم من لا يميز بين الصحيح والسقيم فكم في بطون دفاتر التفاسير من أكاذيب وبلايا وأقاصيص كلها حديث خرافة وما أحق من لا تمييز عنده لفن الرواية ولا معرفة به أن يدع التعرض لتفسير كتاب الله ويضع هذه الحماقات والأضحوكات في المواضع المناسبة لها من كتب" انتهى قول ابن كثير.

 

النشأة الإنسانية في صحيح النقل

 

وإذا ما تصفحنا مشهور صحيح النقل، ينبغي استعمال نور الفهم الذي حبانا الله به، كي يحصل التمييز في ظروف المقال في المكان والزمان. فمثلا بعض النصوص تخبرنا عن قضية الخلق في عوالم مختلفة منها ما يسميه المفسرون عالم الذر ومنها عوالم الغيب، وعوالم المثال، إن نحن عممناها على عالم الشهادة نكون من الفاتنين.

§        نشأة سابقة

أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "خلق الله تعالى آدم طوله ستون ذراعا".

وفي مجمع الزوائد ج: 10 ص: 399 ، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: "يدخل أهل الجنة جردا مردا بيضا جعدا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين وهم على خلق آدم صلى الله عليه وسلم  ستون ذراعا في سبعة أذرع" قال المصنف: وفي الصحيح بعضه رواه الطبراني في الصغير والأوسط وإسناده حسن".

إنسان بقامة مقدارها ستين ذراعا في سبعة أذرع؟ وفي الصحيح من المنقول؟... هذا إشكال. كيف التعامل معه؟

نتعامل معه كما تعامل معه السلف الصالح: وهاك أنموذجا من الحرية الفكرية الملتزمة والروح العلمية السائدة عندهم.

جاء في فتح الباري ج: 6 ص: 367 عن أبي هريرة مرفوعا: "كان طول آدم ستين ذراعا في سبعة أذرع عرضا". وأما ما روى عبد الرزاق من وجه آخر مرفوعا: "أن آدم لما أهبط كانت رجلاه في الأرض ورأسه في السماء فحطه الله إلى ستين ذراعا" فظاهره أنه كان مفرط الطول في ابتداء خلقه، وظاهر الحديث الصحيح أنه خلق في ابتداء الأمر على طول ستين ذراعا، وهو المعتمد. وروى بن أبي حاتم بإسناد حسن عن أبي بن كعب مرفوعا: "أن الله خلق آدم جلا طوالا كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق قوله فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن أي أن كل قرن يكون نشأته في الطول أقصر من القرن الذي قبله فانتهى تناقص الطول إلى هذه الأمة واستقر الأمر على ذلك".

شارح صحيح البخاري لا يتردد في تأكيد المشكل بدون حرج واعتمادا على الموثوق من الحقائق المختبرية التي رآها على الأرض. يقول: ... " ويشكل على هذا ما يوجد الآن من آثار الأمم السالفة كديار ثمود فإن مساكنهم تدل على أن قاماتهم لم تكن مفرطة الطول على حسب ما يقتضيه الترتيب السابق، ولا شك أن عهدهم قديم وأن الزمان الذي بينهم وبين آدم دون الزمان الذي بينهم وبين أول هذه الأمة، ولم يظهر لي إلى الآن ما يزيل هذا الإشكال".

لم يظهر له ما يزيل هذا الإشكال. تواضع وموقف علمي يترك الباب مفتوحا للنظر العقلي فيه. ولنا الحق كذلك أن ننظر، وأن نعيد صياغة المشكل إن اقتضى الحال...

يعثر علماء الإحاثيات على ديناصورات عمرها تفوق 200 مليون سنة. لكن لم يجدوا أي أثر لهذا الإنسان الذي يبلغ طوله ستين ذراعا في سبعة أذرع عرضا أي حوالي ثلاثين مترا طولا وثلاثة أمتار عرضا. لا شك أن هذا المخلوق الذي يضاهي هيكله العظمي هيكل أضخم الديناصورات وعاش في حقبة أقرب بكثير من حقبة الديناصورات هو أولى بالعثور إن كان موجودا على وجه الأرض من الديناصورات.

زاد الإشكال تعقيدا... ولنا أن نحمله على آراء مختلفة: إما أن الحديث الصحيح يحدثنا عن نشأة آدمية في عالم الغيب، وإما أن الحديث يريد أن يخبرنا بأصل للنشأة الترابية الآدمية مرتبط بالنوع الديناصوري... أما السجل الإحاثي الذي يوضحه لنا علم البالينطلوجيا، فلا يعرض وجودا لإنسان أضخم من النشأة الحالية سوى في إنسان النيندرطال، لكن في حجم لا يتجاوز الثلاثة أمتار، عوض الثلاثين المذكورة في الحديث...

كيف سيعالج الموضوع أولئك الكلاميون الذين يقولون أن الإنسان أوجده الخالق سبحانه على صورته الحالية ولم يتطور؟ وهو نفس المعتقد الذي يحمله الخلقيون (créationnistes ) من الملل الأخرى خاصة النصارى منهم.

يقول أحد المتحمسين لنظرية الخلق الفجائي [14]: "كما تبين لدينا لا يقدم السجل الإحاثي دليلا على أن أيا من الكائنات الحية قد تطور من الأشكال البدائية إلى أشكال متطورة، بل يثبت أنها نشأت سويا فجأة وفي شكل متكامل. إن غياب الأشكال التطورية ليس حكرا على العصر الكامبري ، إذ لم يتم العثور على أي شكل تطوري يثبت الزعم التطوري للفقاريات "المتقدمة" -من السمك إلى البرمائيات إلى الزواحف إلى الطيور والثدييات- في أي مكان. كل الأحياء خلقت في وقت واحد وبشكلها المتكامل والتام كما في السجل الإحاثي. وبتعبير آخر لم تأت الأحياء إلى الوجود من خلال التطور. الأحياء خلقت خلقا."

 لا شك أن كلامهم يؤخذ منه ويرد. الإنسان أوجده الخالق سبحانه، هذا حق لا شك فيه بالنسبة للمؤمنين. أما قولهم "على صورته الحالية ولم يتطور" فهذا فيه إشكالين على الأقل:

§        إشكال مع أهل العلم الكوني الذين يستهجنونهم كما استهجنوا مقولة التوليد الذاتي (  régénération spontanée) التي كانت تعلم الناس في القرون الوسطى كيف يحصلون على عقرب أو فارة من خلال بعض الوصفات السحرية السخيفة.

§        إشكال مناقضة ظاهر صريح النقل الذي يقول: "خلق الله تعالى آدم طوله ستون ذراعا"، فهذا المخلوق الديناصوري تطور على الأقل في قامته!   

ربما يستدلون بظاهر حديث صحيح آخر: "إن الله خلق آدم على صورته" هذا حديث لم يتردد السلف الصالح في البحث في إشكالاته أيضا، من خلال أسباب وروده ورواياته، وتبعا لوجوه تأويلاته عند الصحابة والتابعين.

قال المازري في كتاب شرح النووي على صحيح مسلم ج: 16 ص: 166 في تحليله لحديث "إن الله خلق آدم على صورته": "هذا الحديث بهذا اللفظ ثابت ورواه بعضهم "إن الله خلق آدم على صورة الرحمن" وليس بثابت. ثم يقول: وقد غلط ابن قتيبة في هذا الحديث فأجراه على ظاهره وقال لله تعالى صورة لا كالصور وهذا الذي قاله ظاهر الفساد لأن الصورة تفيد التركيب وكل مركب محدث والله تعالى ليس بمحدث فليس هو مركبا وليس مصورا قال وهذا كقوله المجسمة جسم لا كالأجسام..."

مفسر صحيح البخارى أدلى بدلوه في الموضوع قائلا في كتاب فتح الباري ج: 11 ص: 3 : " واختلف إلى ماذا يعود الضمير فقيل إلى آدم أي خلقه على صورته التي استمر عليها إلى أن اهبط وإلى أن مات... وقيل إن لهذا الحديث سببا حذف من هذه الرواية وان أوله قصة الذي ضرب عبده فنهاه النبي  صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال له إن الله خلق آدم على صورته... وقيل الضمير لله، وتمسك قائل ذلك بما ورد في بعض الإشارة على صورة الرحمن والمراد بالصورة الصفة والمعنى أن الله خلقه على صفته من العلم والحياة والسمع والبصر وغير ذلك وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء.

أما الإمام مالك فله موقف خاص مع مثل هذه الأحاديث التي غالبا ما تستهوي المجسمة وكذلك بعض الصوفية. ففي التمهيد لابن عبد البر ج: 7 ص: 150 ذكر " أن ابن القاسم قال: سألت مالكا عمن يحدث الحديث إن الله خلق آدم على صورته والحديث إن الله يكشف عن ساقه يوم القيامة وأنه يدخل في النار يده حتى يخرج من أراد فأنكر ذلك إنكارا شديدا ونهى أن يحدث به أحدا وإنما كره ذلك ملك خشية الخوض في التشبيه".

 

§        نشأة إنسانية سابقة أخرى: نشأة الذر

 

بعض الأخبار تحدثنا عن نشأة آدمية سابقة: نشأة الذر وهو صغير أنواع النمل، تعبيرا عن حجم مجهري في غاية الصغر عكس النشأة الديناصورية التي أتى عليها الحديث سابقا.

جاء في فتح القدير ج: 2 ص: 264 قال ابن عساكر فى تاريخه عن أبي بن كعب فى تفسير قوله "وإذ أخذ ربك من بنى آدم الآية" قال جمعهم جميعا فجعلهم أرواحا فى صورهم ثم استنطقهم فتكلموا ثم أخذ عليهم العهد والميثاق ثم أشهدهم على أنفسهم.

وفي تفسير القرطبي ج: 1 ص: 249 جاء في تفسير قوله تعالى "وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم "  وأختلف أهل التأويل في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين وكم من موتة وحياة للأنسان... فقال رحمه الله: وقد قيل إن الله تعالى أوجدهم قبل خلق آدم عليه السلام كالهباء ثم أماتهم فيكون على هذا خمس موتات وخمس إحياءات وموتة سادسة.

 

§        نصوص أخرى تقص علينا النشأة الترابية

 

جاء في خلق آدم في كتاب فتح الباري الشارح لصحيح البخاري ج: 6 ص: 364: " ذكر المصنف آثارا ثم أحاديث تتعلق بذلك ومما لم يذكره ما رواه الترمذي والنسائي والبزار وصححه بن حبان من طريق سعيد المقبري وغيره عن أبي هريرة مرفوعا "أن الله خلق آدم من تراب فجعله طينا ثم تركه حتى إذا كان حمأ مسنونا خلقه وصوره ثم تركه حتى إذا كان صلصالا كالفخار كان إبليس يمر به فيقول لقد خلقت لأمر عظيم ثم نفخ الله فيه من روحه وكان أول ما جرى في الروح بصره وخياشيمه فعطس فقال الحمد لله فقال الله يرحمك ربك الحديث". وفي الباب عدة أحاديث منها حديث أبي موسى مرفوعا أن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض". الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وصححه بن حبان ومنها حديث أنس رفعه "لما خلق الله آدم تركه ما شاء أن يدعه فجعل إبليس يطيف به فلما رآه أجوف عرف أنه لا يتمالك" رواه أحمد ومسلم.

 

§        مدة  وترتيب الخلق:

 

أما عن الظروف الزمانية للخلقة الآدمية، فقد ثبت في صحيح مسلم "أن بين تصويره طينا ونفخ الروح فيه كان مدة أربعين سنة".

واختلف المفسرون في مقدار يوم هذا المدة، أهو بمقدار ألف سنة أو مقدار خمسين ألف سنة من أيام الدنيا أم يساويها؟..

وأخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة عن النبي  صلى الله عليه وسلم أنه قال "خلق الله آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة ما بين العصر إلى الليل".

وجاء في حديث أبي هريرة ثم مسلم أن خلق الدواب كان يوم الأربعاء وهو دال على أن ذلك قبل خلق آدم. 

وقد قيل  إن الله تعالى أوجدهم ( أي البشر) قبل خلق آدم عليه السلام كالهباء ثم أماتهم فيكون على هذا خمس موتات وخمس إحياءات وموتة سادسة

وهذه الأحاديث ربما تحدث ارتباكا في يقينيات الخلقيين الذين يتعصبون للقول بالخلق دفعة واحدة دون تدرج ومراحل، جاء الحديث ليرشدنا على تدريجها الواحدة بعد الأخرى.

 

§        نشأة آدمية أخرى تحدثنا عن النشأة الجنينية عن طريق الذكر والأنثى:

 

 في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة ثم ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد الحديث فهذا الحديث مفسرا للأحاديث الأول فإن فيه يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم أربعين يوما علقة ثم أربعين يوما مضغة ثم يبعث الملك فينفخ فيه الروح فهذه أربعة أشهر وفي العشر ينفخ فيه الروح وهذه عدة المتوفي عنها زوجها ...

ويرى القرطبي رأيا خاصا في تأويل كيفية مباشرة الملك للخلق. يقول رحمه الله في تفسيره   ج: 12 ص: 8 : " نسبة الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية ألا تراه سبحانه قد أضاف إليه الخلقة الحقيقية وقطع عنها نسب جميع الخليقة فقال: "ولقد خلقناكم ثم صورناكم". وقال: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين". وقال: "يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة". وقال تعالى: "هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن". ثم قال: "وصوركم فأحسن صوركم". وقال: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم". وقال" "خلق الإنسان من علق". ذلك من الآيات مع ما دلت عليه قاطعات البراهين أن لا خالق لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين وهكذا القول في قوله "ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح"، أي أن النفخ سبب خلق الله فيها الروح والحياة وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة فإنه بإحداث الله تعالى لا بغيره فتأمل هذا الأصل وتمسك به ففيه النجاة من مذاهب أهل الضلالة الطبعيين وغيرهم"

لاحظ كذلك المستوى الذي وصل له إطلاق سراح العقل لتفسير الأحكام الشرعية على ضوء ما جاء في الصحيح من النقل، يقول:  "لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوما وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس كما بيناه في الأحاديث وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق ثم التنازع وفي وجوب النفقات على حمل المطلقات وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف وقد قيل إنه الحكمة في عدة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشرا وهذا الدخول في الخامس يحقق براءة الرحم ببلوغ هذه المدة إذا لم يظهر حمل."

 

§        النشأة الخاصة بسيدنا عيسى عليه السلام:

 

زعيم النهضة العلمية العالمية في زمانه وانطلاقا من قرطبة الإسلامية التي عنها أخذت أوروبا نهضتها، يخبر بجرأة النصارى وغير النصارى عن النشأة الخاصة بسيدنا عيسى عليه السلام. يقول في  تفسيره  للآية " وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) (الانبياء:91) " ج: 4 ص: 93 : "قال بعضهم  لا يجوز أن يكون الخلق من نفخ جبريل لأنه يصير الولد بعضه من الملائكة وبعضه من الإنس ولكن ذلك أن الله تعالى لما خلق آدم وأخذ الميثاق من ذريته فجعل بعض الماء في أصلاب الآباء وبعضه في أرحام الأمهات فإذا اجتمع الماءان صار ولدا وأن الله تعالى جعل الماءين جميعا في مريم بعضه في رحمها وبعضه في صلبها فنفخ فيه جبريل لتهيج شهوتها لأن المرأة ما لم تهج شهوتها لا تحبل، فلما هاجت شهوتها بنفخ جبريل وقع الماء الذي كان في صلبها في رحمها فاختلط الماءان .... فذلك قوله تعالى: "إذا قضى أمرا يعنى إذا أراد أن يخلق خلقا فإنما يقول له كن فيكون"."

 

الفصل الرابع : ضرورة التجديد في فقه النظر كيف بدأ الخلق

 

{{ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَـٰقِينَ }} 

"الصافات : 77 "

 

 

 

 

 

 

 

كتاب الله عز وجل وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم جاءا بنبإ عظيم إن لهذا الإنسان خالق، وهو سبحانه وتعالى خالق كل شيء. هذا النبأ يصدقه المؤمن ويكذبه الملحد، ولا إكراه في الدين، لإنه راجع إلى معتقد واقتناع الفرد. أما مسألة "النظر كيف بدأ الخلق"، هي مسألة علمية في متناول النظر العقلي لقوله تعالى : ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ) (الواقعة:62). وهو العلم الذي يفيده تدبر كتاب الله المسطور، والحديث الصحيح، وكذلك العلوم الذي ندرسها في كتاب الله المنظور( علوم الطبيعة). وقد أمرنا ربنا بالبحث فيها، فصارت المسألة فرض كفاية، يؤديه عنا المؤهلون علميا لتطبيق أمر الله القائل: ( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت:20)

ونظرية التطور والأصل الواحد لجميع الأحياء تساعدنا على تجديد ملح في موضوع "درء تعارض العقل والنقل"، وهو في غاية الأهمية في زمان الهيمنة اللاييكية، المبنية على تعارض العقل مع النقل الخرافي للإسرائيليات. ولربما توسلنا النظرية لتأسيس فهم تجديدي معاصر للآيات القرآنية التي تحدثنا عن موضوع الخلق، عوض الجمود على التعلق بالتفاسير القديمة التي تعج بشكل غريب بالأساطير الإسرائيلية المجسمة للرب سبحانه عما يصفون. من هذه الآيات نذكر ما حضر، وغيره كثير، لا تخلو صفحة من الكتاب المبين من لفت انتباهنا إلى مسألة الخلق:

( وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً) (نوح:14)

( وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً) (نوح:17)

( مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (لقمان:28)

وأطوار الخلق يمكن إطلاقها على عمومها: أطوار خلق الإنسان في رحم الأم، وكذلك أطوار خلقه في رحم الطبيعة، بحرها وبرها، بداية من السلالة الطينية ( الحمض النووي: DNA )، وانتهاءا بآدم المسوى السميع البصير، ومرورا بجميع الفروع التي انبثقت عنها الأنواع في شجرة الأحياء. ولقد وضح لنا خالقنا تلك الأطوار في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين) (المؤمنون:  12 - 14) .

وكل طور نجد له ممثلا في رحم الأم، ومدة تدرج الأطوار فيه تسعة أشهر. ونجد له كذلك ممثلا في رحم الطبيعة، ومدة تدرج الأطوار فيها ما يفوق ملياري سنة. ولا يمكن تفسير بعض التشابهات بين ممثلي الأطوار في الرحمين، إلا باعتماد الأداة التفسيرية التطورية ، منها ذكريات الخياشم  الجنينية التي تذكر بالسلف المشترك مع الحيوانات المائية، وذكريات المصران الزائد التي تذكر بالسلف المشترك مع المجترات، وغيرها كثير عند المتخصصين في علوم الأحياء، الذين وهبهم الخبير العليم فهما في كتابه المنظور.

اعتماد النظرية التطورية يؤسس كذلك لفهم جديد في كتاب الله المسطور، خاصة لبعض ما استشكل على المفسرين القدامى. مثال ذلك موضوع استفهام الملائكة حول خلافة آدم في الأرض. قال تعالى: (  وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) البقرة؛

أورد القرطبي في تفسيره حكاية عن أهل الكتاب: " قيل: إن الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء، وذلك لأن الأرض كان فيها الجن قبل خلق آدم فأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم وألحقهم بالبحار ورؤوس الجبال. " جاء هذا التفسير للخروج من استفهام الملائكة: هل هذا الخليفة على طريقة من تقدّم من سفاكي الدماء؟ فقال المفسرون الأوائل هؤلاء هم الجن، ونحن نعلم أن خلقة الجن النارية لا يمكن أن نتصور معها دماء تجري في عروقهم كما للخلقة البشرية. والقياس بين الجن والإنس لا يستقيم لأن الجن جن والبشر بشر. فلزم القول أن الملائكة ربما رأوا سفك الدماء في أقوام بشرية سبقت آدم...

اعتماد النظرية التطورية ييسر لنا رفع هذا الإشكال: الحمض النووي الآدمي الذي انبثقت  عنه الخلائق كلها ( أو الخميرة الآدمية أو فضلة طينة أدم كما ذكرت في حديث النخلة وغيره)، هذا الحمض النووي انبثق عنه بشر بدائي يسفك الدماء كما شهدت به الملائكة. فلما انتهى به المطاف التطوري )بالتعديلات الجينية عبر آليات الطفرات (  mutations)  والتفاصل (  hybridation () إلى آدم الذي اصطفاه الخالق، جعله سميعا بصيرا واعيا بخالقه . فهو وذريته هم المستخلفون، أي أن سلالته هي التي ستبقى دون غيرها من سلالات البشر البدائي مثل نوع النيوندرطال وغيره من الأمم البائدة.  وسيتكرر نفس الاستخلاف لذرية نوح الذي يعد الأب الثاني  للبشرية، ليس لأن الطوفان قد أهلك جميع البشر، بل بسسب انقراض جميع فروع نسل آدم، ما خلا النسل الذي بثه الله من ذرية نوح : سام ( ابو اليهود والعرب)، وحام ( أبو الأقباط والأحباش والكنعانيين والبربر)، ويافوت (أبو الروم والترك). قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تبارك وتعالى: { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَـٰقِينَ }  "الصافات : 77 ) قال: الناس كلهم من ذرية نوح عليه السلام، وقد روى الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَـٰقِينَ } قال: سام وحام ويافث.

ولربما لا تزال إلى يومنا هذا بعض الشعوب لم يصلها بعد تلقيح جينوم أبناء نوح، في بعض القارات النائية كاستراليا وغينيا الجديدة وغابات الأمازون...  وهي مسألة وقت فقط ربما حسب مدته بعض علماء الأنساب الطبيعيين، فقدره ببضعة قرون.

والموقف نفسه نتوسله لتأسيس فهم جديد لما جاء في صحيح الحديث الشريف، يجعلنا في منئى عن تفاسير أهل الكتاب للقرآن والحديث.

الحديث الشريف يحثنا كما حثنا القرآن الكريم على التفكر العميق في خلق الله، وينهانا عن التفكر في الذات الإلهية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فتهلكوا" رواه البيهقي وغيره. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد فتن الناس بتلفيقات المجسمة المشبهة الذين روجوا للخرافة الخلقية الإسرائيلية.

واعتماد نظرية التطور كأداة للتفكر في الخلق، ربما ييسر لنا حل بعض المشكلات التي أثارها فقهاؤنا الأوائل رحمة الله عليهم، لما اطلعوا على أحاديث تتكلم عن النشأة الآدمية.

مثال ذلك ما أثاره شارح صحيح البخاري حول الحديث الذي رواه أبو هريرة مرفوعا: "كان طول آدم ستين ذراعا في سبعة أذرع عرضا". الذيمر  ذكره.

اعتماد نظرية التطور تيسر لنا رفع الإشكال لأن شجرة الأحياء تبين أن للثديات، التي يصنف الإنسان ضمنها، علاقة وارتباط بالنوع الدينصوري، ويجتمعان معا في سلف مشترك تفرعت منه جميع الفقريات (Embranchement des Vertébrés) ... والسلف المشترك حدده علماء الطبيعة.

‏كما أن هناك من النقل ما يشير إلى نسب لنا مع عالم النبات، كما جاء في الحديث: " ‏أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من فضلة طينة آدم وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من النخلة ولدت تحتها مريم بنت عمران وأطعموا نساءكم الولد الرطب فإن لم يكن رطب فتمر" ( حديث أخرجه البيهقي بسند جيد) . ‏هنا كذلك اعتماد النظرية، يفسر لنا هذا النسب مع النخلة التي انبثقت من الجينوم الأدمي ( أو خميرة آدم كما عبر عنها أحاديث أخرى)، ويحدد لنا بالضبط ذلك السلف الذي يجمعنا مع عالم النبات. فيتيسر لنا كذلك فهم جديد في  قوله تعالى: ( وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً) (نوح:17)

وعالم الذر ربما فهمناه فهما جديدا بربطه بحديث تخمير طينة آدم، لأن الخمائر هي كائنات وحيدة الخلية، ( organisms unicellulaires ). والأصل الذي يجمعنا مع الكائنات الحية وحيدة الخلية له ممثل في الرحم الآدمي تمثله البويضة الجامعة لجينات المرأة وجينات الرجل إثر التلاقح، وله ممثل في رحم الطبيعة في عالم الكائنات المذكورة، ومنها ما خلق الله منها زوجها كالأميبيا التي مر ذكرها. وقس على ذلك، وقد رميتك على الطريق فافهم كما يقول المكاشفون بوحدة الخلق الدالة على وحدة الخالق، " مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ " (لقمان‏:28)‏.  صدق الله العظيم.

 

 

 

الفصل الخامس: التفكر المتوازن: سبح بجناحي الطبيعة والشريعة

 

{{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}}.

" آل عمران:190".

 

 

 

 

التفكر في الخلق ليس غاية في حد ذاته. فهو مذموم إن كان علما لا يدلنا على عظمة الخالق سبحانه، ولا ينفعنا في ديننا ولا في دنيانا. التفكر المحمود، زيادة على ثماره اللازمة للفرد من العلوم والأعمال والأحوال، يكون خيره متعديا  للغير. وكلما توسعت دائرة النفع في الزمان والمكان، زاد التفكر في القربات، فيكون بذلك " تفكر ساعة خير من قيام ليلة، أو خير من عبادة سنة، أو خير من عبادة ستين سنة أو خير من عبادة ثمانين سنة" كما جاءت به ألفاظ الحديث النبوي الشريف.

والمتفكرون درجات في العلوم والأعمال والأحوال، أعلاها، درجة صاحب الوسيلة والدرجة الرفيعة نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله. والحديث المذكور في صحيح ابن حبان في تفسير "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب" يبين لنا علم وعمل وحال النبي صلى الله عليه وسلم في التفكر. عن عطاء قال: "انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها، فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب، فقالت: "يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا"؟ قال: "قول الشاعر: ثم زر غبا تزدد حبا. ثم فقال ابن عمر: "ذرينا أخبرينا بأعجب ما رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" فبكت وقالت: "كل أمره كان عجبا أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي ثم قال:  " ذريني أتعبد لربي عز وجل " قالت فقلت: "والله إني لأحب قربك وإني أحب أن تعبد ربك". فقام إلى القربة فتوضأ، ولم يكثر صب الماء. ثم قام يصلي، فبكى حتى بل لحيته، ثم سجد فبكى حتى بل الأرض، ثم أضطجع على جنبه، فبكى حتى إذا أتى بلال الصبح قالت فقال: "يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟" فقال: "ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله علي في هذه الليلة: )إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران:190) . ثم قال: "ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها".

كيف لا تكون هذه الدرجة الرفيعة في التفكر للنبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وعلمه، علم الحقيقة المطلقة، وحي أنزله رب العالمين وهبا منه لسيد المرسلين؟ ثم إن هذا التفكر أثمر عملا بالجوارح، رغم أن الله غفر له ما تقدم من ذنب وما تأخر: عمل الشاكرين الإقبال على الله ليلا والناس نيام، بدءا بطهارة الظاهر: وضوء بدون إسراف في الماء، صلاة قيام الليل...وأثمر كذلك أحوال  الباطن القلبية:  خشوع، بكاء، تبأس، ذكر: قياما وقعودا وعلى الجنوب...  

كيف لا تكون هذه الدرجة الرفيعة في التفكر للنبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وثماره عمت سائر الخلق، رحمة مهداة للعالمين، وحكمة دلتنا على قوانين الله وشرائعه التي بها قوام الخلق، وغاية المتفكرين في تفكرهم والباحثين في أبحاثهم، يحكم بها الناس فيدركون سعادة الدنيا والخلود في الجنة.

فهل يمكن مقارنة درجة تفكر النبي صلى الله عليه وسلم بدرجة تفكر أحذق فطاحل العلماء الذين غاصوا في أسرار الطبيعة وكشفوا سر الطاقة النووية مثلا ، أو أسرار علم الوراثة، أو أي سر من أسرار الخلق ؟ هؤلاء أقصى ما ينتفع من علمهم كفاية الناس في حاجياتهم الدنيوية إن تم توظيف مبتكراتهم في العمل الصالح. أما إذا استغل علمهم أصحاب المذاهب الاستكبارية، وصنعوا ما يكفي لإبادة الجنس البشري من أسلحة الدمار، فهذا من عمل الشياطين الذين جاءت كل الرسائل السماوية لتحذر منه.

بعد هذا التأكيد على منطلقات العقل المسدد بالوحي، يمكن القول بأن التفكر الصحيح يسبح في الكون بجناحين: جناح الطبيعة، نكتشف ماهيتها وأسرارها الكامنة فيها ووسائلها المسخرة لنا، وبجناح الشريعة، نتعرف بها على الغايات والقيم ومعايير العمل الصالح. فهذه هي مميزات العقل المسدد بالوحي.

فالتفكر المطلوب يحاول أن يرقى لمستوى البحث العلمي بالمفهوم العصري، ويزيد عليه بما يستمده العقل المسدد بالوحي من فهم. ويتدرج بتؤدة عبر عدة مراحل:

§        مرحلة الملاحظة والوصف العلمي الدقيق لعجيب صنع الله، للجواب على سؤال الماهية؛

§        مرحلة التعرف على قوانين وسنن الله في خلقه والاستفادة منها لابتكار وسائل تسخير الكون، هذا  للجواب على سؤال الكيف؛

§        مرحلة الترقي في مراتب العدل في مفهومه الشمولي الذي يحكم بقوانين الله الكونية وأحكامه الشرعية، ثم الإحسان بالنوافل في القربات اللازم والمتعدي نفعها للأقرب فالأقرب من البشر ولسائر المخلوقات الحية من نبات وحيوان، ولكل عناصر الطبيعية من مياه وهواء ومعادن...  كل هذا للجواب على تساؤل "لماذا؟" الذي يوضح الغايات الاستخلافية في الدنيا والآخرة.

التأمل المسدد الذي يتعدى نفعه للبشرية، يسبح في الحقائق مستنيرا بفقه التجديد الصالح للقرن، العارض لرسالة رب للعالمين في حلة راقية مقبولة، تكلم الناس بلسان العصر. فهو يقتضي:

§        أولا الفهم العميق لكلمات الله الكونية وهي السنن الجاري حكمها على الخلق، وهي القوانين العلمية التي أوجدها الله وكشف عنها للإنسان شيئا فشيئا، لأنه مفطور على اكتشافها. إنها تلك السنن التي تتحكم بأمر الله في تسخير الكون للإنسان كقوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وغيرها ؛

§        ثانيا الفهم الصحيح لكلمات الله الشرعية التي تبين لنا الغايات وتسن لنا قوانين لتدبير أمر الإنسان في بعده الفردي والجماعي؛

§        ثالثا الإلمام بعناصر الربط بينهما لتصحيح مسيرة الإنسان ولرسم الاختيارات المستقبلية التي تصلح للمكان والزمان الذي نعيش فيه، في إطار ما يمكن تسميته هندسة التغيير المجتمعي نحو المجتمع الراشد الخليفة في الكون.

إنها الشروط التي ينبغي أن تتوفر في فقه التجديد الذي يستنير به مجدد القرن، حجة الله في أرضه.

فقه التجديد لا يتردد في دراسة الأفكار المؤسسة للنظريات العلمية الحديثة والآراء الفلسفية التي بنيت عليها المذاهب المسيرة للمجتمعات البشرية. ولا يمانع في مناقشة آراء العلماء والفقهاء في نظرية التطور الخلقي، أو تجربة الفناء الصوفي، مجتهدا في التنقيب عن التلبيسات التي انبثقت عنها بدع الفرق الضالة، قديمها، وخاصة حديثها المتجسد في اللاييكية.

 

الفصل السادس: العلمانية... والصراع بين العقل والنقل في مسألة الخلق

 

{{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا }}.

" الإسراء :36 "

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وبالنسبة لهذه البدعة التي تسيطر علينا في عصرنا هذا، أقصد بدعة اللادينية أو العلمانية أو اللاييكية، لا بد من تشريح ملابساتها وتلبيساتها، حذر الوقوع في جحور التبعية لليهود والنصارى في ضلالاتهم وانحرافاتهم. ويستحق موضوعها تسليط الضوء عليه بشيء من التفصيل، بدءا بأصولها، ومرورا بظروف تعميمها على العالم الإسلامي، لأن قضية الصراع بين العقل والدين وقع فيها خلط ملغوم، وتعميم مقصود لا يميز بين الأديان. وما قضية محاولة تكفير عبد الصبور شاهين الذي يقول بتطور الإنسان من طرف أصحاب المذاهب المتشددة، إلا أنموذجا من هذا الصراع المفتعل والمبرر لمذهب اللادينية. قد لا يتيح للدكتور تخصصه في  اللسانيات الاطلاع على حقيقة المنهجية العلمية في التعامل مع نظرية التطور[15]، لكن هل يسوغ ذلك أن ينبري بعض الحرفيين المتشددين ليصادروا حقه في أن يقترح تأويلا آخر للنقل على ضوء ما استجد من العلوم؟ والأدهى أن الأمر تجاوز المصادرة إلى التشكيك في دينه، ولربما نصبوا له المشنقة لو كان لهم من الأمر شيئا، وتلك هي مسوغات اللاييكية التي تلتبس للناس رحمة للعالمين أمام التنطع وذهنية محاكم التفتيش  .

 

أثناء العصر الوسيط، كفر رجال الكنيسة العاملون في مؤسسات محاكم التفتيش في أوربا من قال بكروية الأرض أو بدورانها. جاليلو توصل بعد ذلك إلى صنع مرصد ، فأيد تجريبيا ما نادى به أسلافه نظريا فكان ذلك مبررا للقبض عليه ومحاكمته ، ولم ينج من الموت بعد ثلاث سنوات من السجن ، إلا باعترافه أمام رئيس محكمة التفتيش قائلا: " أنا  جاليلو وقد بلغت السبعين من عمري سجين راكع أمام فخامتك، والكتاب المقدس أمامي ألمسه بيدي، أرفض وألعن وأحتقر القول الإلحادي الخاطيء القائل بدوران الأرض[16]."

محاكم التفتيش هذه نشأت في الأصل في إسبانيا خصيصا لمحاربة الإسلام العقائدي بعدما اختفت شوكته السياسية، لما استولى عليها النصارى وأحرقت أحياءا آلاف المسلمين الذين رفضوا التنصر والسجود للصليب. وشملت بإرهابها وتنكيلها كل عالم خالف نظرتها للكون.

محاكم التفتيش والكنيسة المدعمة لها طغت وتجبرت فسلط الله عليها حربا ضروسا في شكل نزاع عنيف وطويل بين رجال الكنيسة ودعاة العلم "المتنورين" في أوربا.

ففي القرن السابع عشر للميلاد، تبلور هذا النزاع بين العلم والدين الغربي الذي يعج بتحريف الرهبان وتزوير الأحبار واتخذ شكلا رهيبا، دفع العلماء ودعاة التجديد في أوربا للمطالبة بتقديس العقل واستقلاله بالمعرفة، بعيدا عن الدين. ولم يجرؤ دعاة المذهب العقلي أول الأمر على إنكار الدين، بل جعلوا لكل من الطرفين دائرة خاصة يعمل فيها مستقلا عن الآخر. "ديكارت"  دعا إلى تطبيق المنهج العلمي في الفكر والحياة واستثنى من ذلك العقائد الكنسية.  هذه الازدواجية وجدت لها تنظيرا في منهج  "بيكون" التجريبي الذي قال عنه  "أندرسن": "إن أعظم مآثر  "بيكون": الفصل بين العلم البشري والوحي الإلهي، وتلك هي الخميرة الأولى للعلمانية.

في نفس القرن، دعا فلاسفة آخرون بتطبيق المنهج العقلي على كل جانب من جوانب الفكر والتراث.  فوضع "اسبينوزا" الأسس التي قامت عليها مدرسة النقذ التاريخي فأظهر عند تطبيق النظر العقلي على التوراة على أن أسفارها لم يكتبها موسى عليه السلام، مستدلا بما جاء في سفر التثنية من ذكر موت موسى ورثائه، وقول كاتب السفر: "لم يأت نبي مثله من بعده".

ثم جاءت مرحلة النداء بإخضاع الوحي للعقل عند التعارض، كما طالب به الفيلسوف "جان لوك".

هكذا نرى أن الفلسفة الأوربية تاهت أكثر من أربعة قرون ولم تهتد إلى ما وصلت له المعرفة عند المسلمين الذين لا يرون تعارضا بين العقل والنقل ، كما وضح ذلك علماء السلف والخلف. مثال ذلك ما وضحه ابن تيمية رحمه الله في القرن الرابع عشر الميلادي في كتابه "درء تعارض العقل والنقل.

ولن تستطيع الفلسفة الأوروبية الوصول إلى هذه النتيجة مادامت جاهلة متجاهلة للإسلام الذي يحذر من الإسرائيليات، ويبرز كيف التعامل مع خرافاتها التي لازالت عالقة بالتوراة والإنجيل ، وهي الخرافات التي بررت إحراق المسلمين وكتبهم في الأندلس وإحراق كتب ديكارت وسبينوزا وجان لوك  وغيرهم.

تطبيق المنهج العقلي على العلوم الفلسفية وغيرها كان حافزا لا يستهان به لبعث العلم الطبيعي الذي تعامل معه علماء المسلمين بدون حساسية وأبدعوا فيه بكل حرية.

هذا العلم الذي اتضح رياضيا وتجريبيا على يد "نيوتن" بواسطة نظرية الجاذبية التي كان لها أثر عميق في تراث البشرية العلمي[17].

اختارت الكنيسة معاداة "نيوتن" رغم أنه كان مؤمنا بالله، فتطرفت بذلك وتزمتت مبررة إرهابها الفكري بالخرافات التي كان يمكن لها أن تتحرر منها بمقارنة الكتب المحرفة بالقرآن الكريم المحفوظ من التحريف.

قابل هذا التطرف الكنسي تطرف آخر نشأ عنه الفكر اللاديني، ثم الفكر الملحد، الذي اتخذ من الهجوم على الخرافات العالقة بالمسيحية مطية له لإنكار الوحي جملة وتفصيلا، سواء كان الوحي قرآنا أو توراتا أو إنجيلا أو زبورا.

التيار المحارب لإرهاب الكنيسة الفكري احتكر نظرية نيوتن العلمية المحايدة لبناء فلسفة طاعنة للدين، كان لها دعاة مهرة في القرن الثامن عشر من أمثال روسو وفولتير وديددرو، وكان لها كتب ومراجع مهمة كدائرة المعارف والعقد الاجتماعي وروح القوانين.

تطور هذا الاتجاه ليصبح مذهبا طبيعيا ثم دينا إنسانيا جديدا عند  "كمت"  في القرن التاسع عشر، وعنه انبثقت الماديات المتعددة التي تفسر الكون تفسيرا آليا حسب القوانين الكونية الطبيعة فقط.

عصر التنوير هذا طبعته مدارس معلومة أشهرها كما لخص ذلك أحد الباحثين [18] :

§        مدرسة ذات طابع علمي عام، روادها الكتاب الذين كتبوا دائرة المعارف بزعامة  "ديدرو"، وكانوا كما يقول  "ويلز" يناصبون الأديان عداوة عمياء.

§        مدرسة ذات طابع اجتماعي وسياسي، ويترأس هذا الاتجاه "روسو"، صاحب كتاب "العقد الاجتماعي"، الذي أطلق عليه "إنجيل الثورة الفرنسية"، و"مونتسكيو"، صاحب كتاب "روح القوانين". أما الأفكار التي يحوم حولها روسو ومشايعوه، فتتلخص في النداء باستبدال الأخلاق والنظم الدينية بالرابطة النفعية للأفراد، المتمثلة في الوطنية والقومية.

§        مدرسة ذات طابع فلسفي عقلاني تحث على استبدال الأديان السماوية بالدين الطبيعي أو القانون الطبيعي كما نادى به الفيلسوف اليهودي "سبينوزا"، رائد الفكرة العلمانية باعتبارها منهجا للحياة. يوضح ذلك ما جاء في كتابه "رسالة في اللاهوت والسياسة". قال فيه:   "ومن الخطر على الدين وعلى الدولة على السواء إعطاء من يقومون بشؤون الدين الحق في إصدار القرارات، أيا كانت أو التدخل في شؤون الدولة. وعلى العكس يكون الاستقرار أعظم إذا اقتصروا على الإجابة على الأسئلة المقدمة إليهم والتزموا في أثناء ذلك بالتراث القديم ( يريد التوراة ) الأكثر يقينا والأوسع قبولا بين الناس" انتهت مقولة سبينوزا وهي دعوة صريحة لتهويد المجتمع الغربي، حيث أنه يريد التعلق بالتوراة فقط وإلغاء العمل بالإنجيل.

وهذه هي الجذور التاريخية لموقف الحكام من الدين والسياسة. لقد جسدت الثورة الفرنسية هذه الأفكار اللادينية وكانت فعلا ثورة على الاستبداد والإرهاب الكنسي الذي حارب العلم ودافع على المترفين الإقطاعيين طيلة القرون الوسطى. لكن تعميم الحكم بالنسبة لكافة الأديان ما خلا اليهودية هذا زيغ وضلال مبين...

ربما عدل من هذه الأسس نابليون عندما احتك بالإسلام في مصر، وكان أثر المحاكاة   بارزا في التشريعات التي أصدرها لقيادة العالم، هذا موضوع آخر أسال مداده من انقاد لدين اللاييكية مبررا صلاحها بمصادر قوانينها النابليونية، التي استمدت من الشرع الإسلامي حسب زعمهم...

لقد كفينا هذه المتاهات منذ أن أثبت علماؤنا الأوائل أن العقل لا يتناقض مع القرآن وما صح من السنة النبوية، وتلك نظرة أسمى مما بلغت له نظرة علماء أوربا في قرون نهضتهم وما بعدها، لأنهم نبذوا كل ما يتعلق بالدين ماعدا العهد القديم أي أنهم ثبتوا الإسرائيليات مكانها، واتخذوها أصلا للتشريع خاصة في البلدان البروتستانتية، ففتحوا بذلك الباب لليهود لقيادة العالم الغربي.

 

الفصل السابع: تجديد في موضوع "درء تعارض العقل والنقل"

 

 

 

{{ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}}.

" الأنبياء:104 "

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

نعم "العقل لا يعارض النقل" أثبت ذلك اجتهاد علمائنا الأوائل بالنسبة لما وصلت له العلوم العقلية والنقلية  في عصرهم[19]. وبالنسبة لعصرنا ماذا أنجزنا في هذه المسألة؟

علماء معاصرون من أوربا نفسها أدركوا الآن هذه الحقائق بعدما درسوا دراسة مقارنة مضامين الكتب المنزلة كما فعل "موريس بوكاي".  فأدركوا فعلا أن العلم لا يتعارض مع ما جاء في القرآن عكس ما ظهر جليا في الكتب السماوية المحرفة.

فقه التجديد في هذه المسألة المصيرية يزيد في بنيان المعرفة لبنة أخرى، فيوضح أن ما استجد في العلوم الكونية كنظريات  الجاذبية والنسبية والفيزياء الكمية وغيرها هي تعبير متعدد الظواهر لقوة موحدة في الأصل، هي أصل مكونات الذرة، وهي أصل المادة المتبادلة لتحقيق قوة الجاذبية أو القوى الكهروموغناطيسية أو القوى الكامنة وسط نواة الذرة، هذا طبقا للنظرية العلمية الجديدة لتفسير الكون أثبتتها التجربة وهي "نظرية الوحدة الكبرى" التي أثبتها العالم الأمريكي وينبرك. إنها نظرية لا تنفي سابقاتها، إنما جاءت ضرورة لتكميل نقص ظهر في سابقاتها، وهي بدورها تستعد للتنازل عن الامتلاك المؤقت للحقيقة لنظرية أحدث منها: نظرية الأوتار [20] .

النقل الشرعي بدوره يصور وحدة الخلق في الرتق الذي جمع السماوات والأرض في بداية خلق الكون، وفي أصل الكون " الفوتوني" " الله نور السماوات والأرض" وأصله الهبائي الدخاني. والتسلسل ينتهي إلى القدرة التي تقتضي وجود القادر العليم المريد الآمر لقوله تعالى:  "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون"

العلماء المستنيرون بنور الوحي وفهم العقل لا يرون أي تناقض بين النقل وما وصل له العقل فيما يتعلق بتفسير الكون خصوصا في نظرية الوحدة الكبرى المنبثقة عن دراسة الذرة المتناهية في الصغر، ومن علم الفلك في نظرية الانفجار الهائل، وهي النظرية المنبثقة عن دراسة الأفلاك والمجرات في تخوم الكون والتي توضح أن الأجسام السماوية كلها كانت رتقا ثم فتقت وتناثرت في الخلاء والعماء بعد انفجار مهول وعظيم.  سرعة هذا التناثر رصدها علم الفلك واستنتج منها عمر الكون: 13 إلى 18 مليار سنة،  فقضى بذلك على الآراء المادية أو الدهرية التي تقول بخلود المادة أو قدم العالم، وغير ذلك من الأفكار التي بني عليها صرح المادية الملحدة أو آراء الكنيسة الفاسدة. فهل هذه النظرية العلمية تخالف ما أخبر به الوحي في قوله تعالى:  " أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء:30) . وقوله تعالى: " يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء:104)

فقه التجديد يذهب إلى معين العلم المضبوط مباشرة، إلى معادلاته الرياضية المعقدة وتجاربه المختبرية، وبراهينه الثابتة، وتطبيقاته التكنولوجية، مستعملا خبراءه الأمناء، ويحذر كل الحذر أن يطرق باب هذه العلوم من باب المستغلين المذهبيين وأصحاب الأهواء الفلسفية الذين يستعملون الحقائق العلمية لمناصرة أيديولوجياتهم الملحدة.

لما وقع النزال بين العنصرية اليهودية والعنصرية النازية، لم يكن ميدانه الحاسم ميدان الكلام الفلسفي، بل ميدان العلم المضبوط والتطبيقات التكنولوجية، فهي التي حسمت الحرب لصالح العالم الذي يقوده أصحاب الفكر التلمودي، خاصة بعد الاستغلال التكنولوجي لنظرية النسبية التي ابتكرها أينشتاين، والتي مهدت لصناعة القنبلة النووية.

فقهنا التجديدي يحذر كل ما يساعد نمو التطرف الديني والتطرف المضاد اللاييكي. لذا لا يليق بنا مثلا أن ننشغل بنظرية التطور وباستغلالها المذهبي العنصري في الفلسفة الداروينية البائدة، في زمن استغل الناس الجادون العاملون ما جادت به النظرية من علوم مضبوطة في أخطر تكنولوجيا تستهل بها الإنسانية هذا القرن الواحد والعشرين: عصر الجينوم والاستنساخ البشري و التكنولوجيا الجينية. قنبلة أخطر من القنبلة النووية على الأبواب وأهل الكلام مشتغلون بجدل القرن التاسع عشر، هذا لا ينبغي. واجب الوقت، هو الإعداد لانقاد بشرية ضاعت في التيه لما سلمت زمامها للمذاهب المادية الملحدة.

 

 

الفصل الثامن: أفول قرن العلمانية

 

 

 

 

 

{{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }}.

"الأعراف 34".

 

 

 

وكما سبق التنبيه إليه، يستعد الغرب للاحتفال بمرور قرن كامل على تحكيم معتقد اللاييكية في كل مجالات حياته. يكدر صفو هذا الاحتفال مناقشة حادة حول تعميم المعتقد اللاديني على المسلمين الفرنسيين.

ويحتفل بالمناسبة كذلك والجدل البزنطي على أشده حول دستور أوروبي، تريده فرنسا مكرسا لقداسة اللاييكية، أو دستور كابحا لسلطانها بواسطة كوابح البروتستانتية.

هناك من يتعصب للموقف الفرنسي الذي رجح فكرة التخلص من دين محرف. هذا منطقي لو لم يتم تعويض الفراغ المتروك بالمذاهب الملحدة.

أما من فضل الموقف البروتستانتي، فإنه ظن أن المراجعات الكالفينية اللوثرية خلصت المسيحية من تلفيقات رجال الدين الكاثوليكيين. وكان في موقفها كذلك خلط بين الباطل وشيء من الحق النسبي. فإرادة معارضة طغيان اللاييكية والتعلق بشيء يسمى الدين هو الخيط الأبيض في موقفها، لكن الباطل يكمن في ربط معتقدها بالعهد القديم التلمودي، الذي جرها، كالقطيع الضال المطيع، لسيطرة اليهود، يوجهونها ويشركونها في سياسات التجبر والطغيان والشذوذ التي يشهدها الناس في عصرنا هذا.

حذرنا في ما سبق من ضياع فرصة القرن. أوروبا الموحدة تفكر في دستور وتشريعات تصاغ لكي تقود الناس لمدة قرن وزيادة، وذلك هو العمر الطبيعي للتشريعات الوضعية،  ونخشى أن نكون غائبين في هذه الفرصة الحاسمة من تاريخ البشرية كما كنا غائبين في بداية القرن الماضي، ونترك المجال مرة أخرى لتكرار ظروف اكتساح المذاهب اللادينية، تجر الناس لمثل تلك الحروب المدمرة التي عاشها القرن الماضي، ويهيؤها القرن الحاضر بشكل أرهب للمسلمين.

لكن من عجيب تدبير القدير الخبير، أن يدشن الغرب الاحتفال بقرن اللادينية وهو يشهد علامات انتحاره بادية في شيخوخته وعدم قدرته على تجديد نفسه إلا عن طريق الاستعانة بطاقات الهجرة. علامات انتحاره بادية كذلك في عدم قدرته على جر الكفاية والرخاء للبشرية لأن أنانيته وإسرافه وماديته لا ترى بديلا عن حروبه العدوانية للسيطرة على وسائل الكون.

لنا عبرة في مسلمي الغرب نفسه، فتيات مؤمنات تقاومن اللاييكية التي تريد سلبهن حريتهن الدينية، بينما تحمي الإباحية والشذوذ والاستغلال الجنسي من كل نوع.  ولنا عبرة في بعض حكمائه: من قالوا القرن المقبل، أي قرننا، يكون روحيا أو لن يكون...

وهذا ما يوضح الضرورة القصوى لتجديد الفقه الدارس لمسألة توافق العقل والنقل بالنظر لمستجدات العلوم، يستنفر المسلمين المتفكرين لترشيد البشرية وإخراجها من التيه، ويحمي الإنسانية من سيطرة فقه ودستور يجتهد لتجديد مذاهب الإلحاد اللادينية، رغم الجدل الحاد الذي يثيره الموضوع عندهم. 

فقه التجديد للقرن يفتح لنا باب الاجتهاد في التفكر المحمود، الذي يسعى بعبارة مجملة لاكتشاف "تكنولوجيا" من نوع آخر، تمكن الإنسانية من الانتفاع بالقوانين الكونية والقوانين الشرعية في إطار تكامل يجر الخير للجميع، للسمو بالإنسان في المقومات التي سمي بها إنسانا: يدرك الحق ويتعلق به، ويتعرف على الباطل ويقاومه.

لكن لن يتم لنا ذلك وبين أظهرنا من يؤمن باللادينية إيمانا راسخا، ولربما برهن لمعتقده بوجود مذهب من مذاهب التشدد والإرهاب الفكري التي لا تزال تشكك في كروية الأرض أو في تطور الخلق أطوارا أو في إنباته نباتا، وغيرها من القضايا التي حسم فيها علماء السلف الصالح وكفونا عناء النزاع بين العقل والنقل الذي شهده الغرب. فالعقل لا يكون قابلا للتسديد بالوحي إن كان مسارعا للقفاية بما ليس له به علم، وبالإفتاء بما لم تكن له فيه بينة، جالبا بذلك نفير أهل الأهواء المغرضين، المستعدين لدخول جحر تبعية الغرب في حروبهم على الدين.

بنية صادقة ولسان لاهج بذكر الله وقلب مسبح خاشع أمام تجليات عظمة الخالق، يتطرق بعض الدعاة المتفكرين في الخلق وتخصصهم لا يسمح لهم بالخوض الصحيح في مسألة تدريج الخلق. يقولون بالخلق الفجائي الذي لا يتطور. وهذا القول ربما يجد صعوبات شتى في إقناع الباحثين في علم الوراثة الذين اعتادوا على تركيب فصائل وأنواع جديدة من النبات والحشرات، مطبقين بكل تواضع قوانين الله في خلقه التي سموها الطفرات والتفاصل. وهي نفس القوانين المجربة في تأبير النخل مثلا والتي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم " أنتم أعلم أمور دنياكم"

 

الفصل التاسع: التفكر والاسهتداء بأنوار الحقيقة

 

 

 

 

 

 

 

{{ .... مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}}.

" الأنعام:38".

 

 

 

 

 

 

يمكن أن نجمل مطالب التفكر في ثلاث مسائل، نتعرف عليها من خلال دعاء سنه لنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. فقد كان طبيب القلوب عليه الصلاة والسلام يقول إذا قام من الليل يفتح الصلاة: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم."[21]

استلهاما من هذا الدعاء النبوي العميق، يقول شارح العقيدة الطحاوية [22]: "توجه صلى الله عليه وسلم إلى ربه بربوبية جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لم اختلف فيه من الحق بإذنه، إذ حياة القلب بالهداية، وقد وكل الله سبحانه هؤلاء الثلاثة بالحياة. فجبرائيل موكل بالوحي الذي هو سبب حياة القلوب، وميكائيل بالماء الذي هو سبب حياة الأبدان وسائر الحيوان، وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعودة الأرواح إلى أجسامها. فالتوسل إلى الله سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة له تأثير عظيم في حصول المطلوب."

مطالب الحق في التفكر يمكننا استنباطها من معاني هذا الحديث الشريف:

·                    علم كيفيات بدء خلق الكون وعلاقته بالنفخ في الصور( تخصص إسرافيل)؛

·                    علم كيفيات بدء الحياة في المادة الترابية وعلاقته بالماء ( تخصص ميكائيل)؛

·                    علم كيفيات حياة القلوب وعلاقته بالوحي ( تخصص جبرائيل).

مطلب الهداية للحق في آيات الله الكونية، تفصله العلوم الحديثة التي توسعت في ميادين البحث مستعملة ما استجد من:

o       أسماء وقوانين في قاموس العلوم، فطر الله الإنسان على اكتشافها منذ تقريره )وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ...الآيةَ) (البقرة:31)

o        وسائل التقانة الحديثة، تضاعف قوى الحواس في مداركها، والعقول في مسارحها لاستقصاء الظواهر في الطبيعة.

o

أما مطلب الهداية للحق في حياة القلوب فلا سبيل إليه إلا عن طريق طب النبوة، وحيا من رب العالمين، تفسره سنة سيد المرسلين، ويجدده فهم العلماء المجددين،  فإن رحمة الله تبارك وتعالى باقية، ودائمة ما بقي الليل والنهار، عناية بالبشر، أتى بها صحيح الخبر، رواه  أبو داود في سننه بسند صحيح عن أبي هريرة، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ".

فهي إذن علوم عقلية تتطور بمستجدات العلوم الكونية تطلب التنوير بعبادة التفكر، وهي علوم قلبية تبلغ المراد عن طريق الذكر. فالفكر والذكر وسيلتان لتجديد الإيمان، وطب نبوي يحييه العالم الوارث لميراث النبوة، الذي يرسم طريق الخلاص الفردي والجماعي بتحقيق الغايات العدلية الإحسانية، فيكون مجددا للرحمة المهداة التي يسعد بها ساكن الأرض وساكن السماء.

علم كيفيات بدء خلق الكون ونهايته، غايته التوحيد الراسخ عندما يدلنا على قوانين الوحدة الكبرى التي تجمع الكون المادي وترده لأصل واحد، يصوره لنا الوحي نفخة في الصور، وتفصله لنا النظريات العلمية الحديثة ( نظرية الانفجار العظيم). ويربط ذلك كله بقوله تعالى )أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء:30) وبقوله: )يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء:104) . وقوله: )وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) (الزمر:68)  وقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصلت:11).

وعلم كيفيات بدء الحياة في المادة الترابية غايته التوحيد العميق عندما نكتشف تلك القوانين الموحدة التي تجمع عالم الأحياء وتربطها بأصل واحد كذلك: ماء يحيي التربة ويسري معينا مهينا من خلق إلى خلق آخر، وتبارك الله أحسن الخالقين. ويربط ذلك بما كشف الله لنا في علوم الخلية والأجنة وتطورها أطوارا، وعلوم سريان المورثات والجينات من نشأة إلى نشأة أخرى نسبا وصهرا، )وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً) (الفرقان:54). ويربط ذلك بآيات الخلق التي يأمرنا القرآن للسير في الأرض لنتعرف عليها ليكتمل توحيدنا للخالق ونستيقن من خبر النشأة الآخرة. )مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (لقمان:28)

علم غايته كذلك التفكر في النهاية الحتمية لكل مخلوق يحدد لنا أجل العناصر الطبيعية والخلائق كلها وكيفية تحللها ورجوعها إلى العدم الذي هو أصلها.

أما العلم الذي يخبرنا عن الحياة الأخرى الخالدة فلا سبيل لسبر حقائقه إلا عن طريق الوحي. ربنا لا تجعلنا من الذين قلت فيهم:  )يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم:7)

أمرنا ربنا أن نسير في الأرض وننظر كيف بدأ الخلق. فواضح أن الله تبارك وتعالى ما أمرنا بهذا إلا لوجود مفاتيح للتعرف على أسرار بداية الخلق. حتى إذا تبين لنا صدق خبر السماء في البدايات، واطلعنا على باهر قدرته وسريانها في المقدورات، تيسر للعقل قبول أخبار النهايات كما جاء بها الوحي. فيزداد اليقين، ويحصل لنا من التوحيد ومن العلم بأسماء الله الحسنى شيء عظيم.

وكل ذلك متاح لا محالة لمن اتبع السنة فاتخذ الأسباب: الاجتهاد في ميادين البحث، باستعمال آليات التدرج العقلي عبر اختبارات الخطأ والصواب لإدراك الحقائق التي يقع عليها الحس في عالم الشهادة. فماضي الخلق نقرأه مثلا في السجل الإحاثي، ذلك الكتاب المنقوش في الحجر الذي يعرض لنا صور تسلسل الخلق عبر الأحقاب الجيولوجية. والحاضر نشاهده عيانا في عجيب أشكاله وترتيبه فصائل وأنواعا وأصنافا وأجناسا لا تخفى مميزاتها على علماء التصنيف، ونشاهده كذلك تحت المجهر مكتوبا بحروف الجينات لغة تروي لنا قصة الخلق والخيط الذي يربط عالم الأحياء بعضها ببعض.

نقاش أهل العلم الطبيعي، الذي نرى نموذجا حيا له عند الباحثين في قضايا التطور، هو مناظرة  علومية بين متخصصين يتكلمون لغة موحدة ويسلكون مناهج متعارف عليها ويسرحون في ميادين البحث مستعملين أدبياتهم وأدواتهم ووسائلهم التي تزيد الحس والإدراك دقة وعمقا، وتمحص النظريات تمحيصا، فلا تمكث في كرسي السيادة إلا ريثما تأتي أخرى تنال تقدير البراهين والامتحانات الميدانية.

ما ينبغي أن يتميز به خطابنا التجديدي لهذا القرن هو القدرة بإذن الله على مخاطبة الناس بمفاهيم وأسماء لم تكن موجودة في ما مضى، وهذه هي اللبنات التي نكمل بها بنيان تراثنا العلمي. علمنا بالكليات والغايات قرآني لدني، يداوي قصور الأفهام وكلوم الأغراض وزيغ الأهواء، ويستعين في الجزئيات والوسائل بمن يسخرهم الله لنا من خبراء العلوم الكونية، التي تفصل لنا ما جاء في كتاب الله، الذي فيه علم كل شيء، )وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (الأنعام:38)

خطابنا التجديدي يفحص ما تقترحه النظريات العلمية في الخلق على ضوء القرآن والسنة، حتى إذا رأى موافقتها للحق أو سكوت الشرع عنها سارع إلى ضمها لحاضرة الإسلام، حرصا وغيرة وخشية أن تكون سلاحا في يد الملاحدة أولياء الشيطان.

لا يغيب عن علمنا مثلا أن المجتمع العلمي الطبيعي الذي يتفق في غالبيته على مقاربات نظرية تطور الخلق، بعيد كل البعد عن القول بما قاله المستغلون المذهبيون للنظرية الجاحدون للخالق. وأن تحرياتهم الدقيقة ومناهجهم العلمية لهي أمضى وأدرى في التنقيب عن مشكلات النظرية، وهم أول من يتخلى عنها إن ظهرت لهم نظرية أدق وأقرب للتعبير المرحلي عن الحقيقة [23].

لا يليق بخطابنا التجديدي أن يكون طرفا في جدل ومناظرات المختصين، لأننا سنكون غرباء عن عالمهم، إذ لم يرق بعد تفكرنا العبادي للسير في الأرض لننظر في الحفريات، ولا أجرينا تجارب في المختبر لتركيب فصيلة من الفصائل، ولا قسنا يوما قياسا يتبين من خلاله سرعة تطور نوع من الأنواع، وما هي الفصائل البائدة والفصائل الصاعدة...

خطابنا التجديدي يرجو أن يكون مستمدا من مشكاة الرحمة المهداة، الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي يحرص على أن لا يُكفر الله ورسوله. )رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الممتحنة:5). عينه على مصادر المعرفة المسددة بالوحي وبما بقي من الوحي، وبما كشف الله للأولياء من معارف كشفية، يعرضها عند الحاجة ليستعين بها لضم أكبر عدد ممكن من البشر لدين الله. ويستعين في الجزئيات والوسائل بمن يسخرهم الله لنا من خبراء العلوم الكونية، التي تفصل لنا ما جاء في كتاب الله، الذي فيه علم كل شيء.

لم يكن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تابعوهم ولا من اتبعهم بإحسان يصنفون العلوم إلى علوم شرعية وعلوم كونية، وإنما كانوا يقتدون بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في تقسيم العلم إلى علم نافع وعلم لا ينفع. وقد صح عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه كان يسأل الله علما نافعا، وأنه كان يستعيذ بالله من علم لا ينفع. وقد ضرب القرآن الكريم مثلا  للعلم الذي لا ينفع في قصة هاروت وماروت: )وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة:102) . وكل علم ينفع الناس هو علم مشروع، وهو علم حق. فالحق غاية العلم... والله قد أنزل الكتاب بالحق كما خلق السماوات والأرض بالحق. والحق ما ينفع الناس، فقد قال ربنا عز وجل )أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) (الرعد:17)

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم  طلب هذا العلم النافع فريضة على كل مسلم ومسلمة، لذلك اجتهد المسلمون في طلبه ولو في الصين فلم يجدوا حرجا في أخذه من أي  وعاء خرج.

 

الفصل العاشر: أصول نبوية للمنهج العلمي التجريبي

 

 

 

 

{{ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}}.

" النجم:3-4".

 

 

 

 

 

أبلغ ما سنه المصطفى صلى الله عليه وسلم لتعليمنا مفاتيح التفكر في الخلق هو مفتاح المنهج التجريبي، الذي جاء ليحرر البشرية من السحر والكهانة والخرافة والنظر الفلسفي الدهري الذي كان يطغى عليه المنطق الشكلي الذي ينسب إلي فلاسفة الإغريق.

وأوضح مثال لإقرار المنهج التجريبي، موقفه عليه الصلاة والسلام من قضية تأبير النخل.

حديث تأبير النخل جاء في صحيح مسلم: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فإذا هم يأبرون النخل -يقول: يلقحون النخل- فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا. فتركوه، فنفضت، فذكروا ذلك له، فقال: إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر". وشبيه به قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب.

فمن المؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أدرى الناس بمعاني الآية التي تشير لعملية تلقيح الزهور بواسطة الرياح: فقد ورد في قوله تعالى : )وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) (الحجر:22). قال ابن عباس: يعني لواقح للشجر. وهو قول الحسن وقتادة. وقد أثبت العلم الآن ما ذهب إليه ابن عباس وغيره من أن الرياح لواقح للشجر، لأنها تحمل طلع ذكورها إلى إناثها، وهي تكفي وحدها في أغلب الزروع والثمار، ولا تكفي وحدها في قليل منها كالنخيل، وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجربها فيها، فأثبتت التجربة أن الريح لا تكفي فيها وحدها. فكانت هذه المحاولة العلمية عملا نبويا يثبت أهم ركن من أركان المنهج العلمي، وهو ركن الإصابة والخطأ في النظرية، أي " الشك المنهجي". لذا يمكن اعتبار " المنهج العلمي التجريبي " من السنن الفعلية التي أقرها النبي صلى الله عليه وسلم. وتأكيدا للأمر باتباعها يقول لنا " أنتم أدرى أمور دنياكم".

كلام ربما لا يتفق معه بعض علماء الشيعة الذين طعنوا في صحة حديث تأبير النخل، وقالوا أن مبدأ العصمة يقتضي أن لا يجوز خطأه صلى الله عليه وسلم فقالوا: كيف يصحّ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعتذر عمّا قال، بقوله: وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنّما أنا بشر، مع أنّه يقول في جواب عبد اللّه بن عمر (حيث نقل إليه اعتراض قريش عليه) «بأنّه يكتب كل شيء يسمعه من رسول اللّه، ورسول اللّه بشر يتكلّم في الغضب والرضا». مومئا بإصبعه إلى فيه: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلاّ حق".    

أكيد أن النبي صلى الله عليه وسلم هو كما وصفه القرآن: )وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (لنجم:3-4). وأكيد أيضا أنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل شيئا جزافا و لا يأمر بباطل، وإن إقراره لمبدأ الشك المنهجي في العلم التجريبي لهو من السنن الأعمق أثرا في تاريخ البشرية. وكذلك الحال بالنسبة لمبدأ الشورى الذي يجادل به المبطلون حين يقولون إنه صلى الله عليه وسلم عدل عن رأيه لرأى صحابي في النزول عند مصدر الماء في غزوة بدر. فتراه صلى الله عليه وسلم ينصت للصحابة رضوان الله عليهم فى أمور يرون فيها رأيا آخر، فيتأكدون من الأمر يقوله النبي صلى الله عليه وسلم أهو صادر عن وحي منزل أم عن رأي ونظر. فيعرضون رأيهم الخاص في إطار مشورة ونصيحة إن لم يكن الأمر وحيا منزلا. وبذلك يسن النبي صلى الله عليه وسلم سنته البالغة الأثر في حياة البشرية سنة المشورة ومجال حكمها تطبيقا لما جاء به القرآن الكريم في قوله تعالى: )... وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159). تأكيدا لهذا، ما روى ابن عباس أنّه لما نزلت "وشاورهم في الأمر"،  قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «أما إنّ الله ورسوله لغنيّان عنها ، ولكن جعلها الله تعالى رحمةً لاُمّتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غيّاً»[24]. فلم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم محتاجاً إلى الشورى في اُمور الدنيا ليستنير برأيٍ ويهتدي إلى صواب، بل كان غنيّاً عن ذلك ، وإنّما هي رحمة للعباد لئلاّ يركبوا رؤوسهم في شؤونهم وأعمالهم ويتمادوا بالغطرسة والاعتداد بالرأي الذي يوردهم المهالك.

لقد أرست  أمة الإسلام  أركان النهج الفكري المستقيم، ونواظم استعمال العقل في علمها الخاص الذي يخدم الوحي. فضبطت علوم القرآن وتفسيره وعلم الفقه وأصوله وعلم ضبط الحديث وعلوم اللغة والنحو والعروض. هذه العلوم الخاصة الأصيلة حصنت الأمة في انفتاحها على الثقافات الأخرى وجعلتها تقف منها موقف العالم المتبصر، وموقف الناقد المستنير. فلم تأخذ  من الحضارة اليونانية مثلا شيئا من أدب اليونان ولا شعرهم ولا فنهم ولا دراماهم ولاميثولوجيتهم، ولكنها اغترفت من هذه الحضارة ما استطاعت من علوم الطب والطبيعة، وتخيرت وانتقت ما شاءت من الحكمة والفلسفة. وما زالت بخير طيلة القرون التي خضع فيها العقل لتسديد الوحي.

كان الأمر كذلك في القرون القريبة من عصر الخلافة الأولى. فاستطاعت البشرية أن تحقق تطورا عظيما في كل مقومات الإنسان تحت قيادة خير أمة أخرجت للناس.

من أهم مميزات هذه الأمة أنها خرجت من طور الأمية إلى طور القراءة امتثالا لأول أمر صدر في القرآن الكريم: "اقرأ باسم ربك الذي خلق"، ومزج هذا الأمر بإشارة لطيفة لأصل من أصول خلق الإنسان: "خلق الإنسان من علق" ثم اثبت لنا وسائل التعلم العادية المتاحة لكل الناس برها وفاجرها " اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم". التي  حررت البشرية من النزوع لطلب الحقائق من المصادر المحرمة كالسحر والكهانة، وكذلك عن طريق طلب المعجزات وخرق العوائد، وكذلك من الوعاء الذي لم يرد أبو هريرة كشفه للناس، العلم الذي يطوى ولا يروى بالتعبير الصوفي.. فتحرر العقل التجريبي من البطالة، واتسع نظره في ما سكت عنه الشرع وفي ما قيل عنه "أنتم أعلم أمور دنياكم"، و "أمرهم شورى بينهم"، و"سيروا في الأرض فانظروا كيف..."

وهكذا انطلق العقل المسلم مسلحا بهذه الأدوات المنهجية انطلاقة صحيحة لم يسع العالم إلا الانطباع بها والاعتراف بإمدادها الهائل لتراث البشرية العلمي. والحديث عن عطاء العقل المسلم يتشعب ويطول يمكن الإطلالة عليه من خلال الكتب الكثيرة المتخصصة في تاريخ العلوم.

والسؤال الذي يفرض نفسه علينا وعلى كل الباحثين، ما السبب في نضوب معين العلوم النافعة عند المسلمين؟ وكيف يمكن تفجيرها من جديد؟ أسئلة ربما تزدادا غموضا أن نحن وضعناها بالصيغ التي يطرحها بعض الباحثين الغربين. فهذا  فرانسيس غايلز Francis Ghiles في مقاله القيم الذي نشره في المجلة المشهورة: "Nature " يضع السؤال بالصيغة التالية "ما الذي أنضب رفدهم الهائل للحضارة الإنسانية في ميدان العلم، ولاسيما الطب والرياضيات يوم كان حكامهم في أوج حضارتهم في بغداد والأندلس يحيطون أنفسهم بالعلماء والأدباء..... ويوم وفروا جوا من الحرية سمح  للمسلمين والنصارى واليهود أن يعملوا جنبا إلى جنب في إغناء هذه الحضارة?.. لم يبق من ذلك كله اليوم إلا ذكريات !".

الصيغة توحي أن مصدر العلوم انبثق بعيدا عن تأثير النبوة وتأثير الخلافة على منهاج النبوة. والمحقق المستبصر يرى  فضل الله ورسوله على أمة الإسلام واضحا لا مجال لإنكاره. وكان أصل كل ذلك في أمر الوحي بالقراءة، وطلب العلم النافع، واتباع المنهج العلمي التجريبي، والاسترشاد والتشاور مع أهل العقول الراشدة. وكان الأصل كذلك في تحريم مصادر العلم عن طريق الخرافة والسحر والشعودة، وفي النهي عن اتباع الهوى والأغراض والظن وطلب الخوارق والمعجزات. وكلل كل ذلك بالحث على طلب العلم والقيام بعبادة التفكر وجعل ذلك من أعظم القربات. فكانت الانطلاقة المسددة لاستعمال العقل للنظر في آيات الله في خلقه واكتشاف قوانينه التي تتحكم في المخلوقات، وكان الانتفاع والاستفادة منها في تسخير الكون، المشروط بمراعاة الضوابط التي حددها الشرع تحديدا دقيقا محفوظا بحفظ القرآن، وتلك هي المعجزة الكبرى.

 

الفصل الحادي عشر: بدايات وغايات الخلق بعيون المحققين

 

 

 

 

 

 

 

 

{{ فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً. }} 

" الكهف، 65 "

 

معارج تبين الحق على قدر أنفاس الخلق. منهم من يرى الحق قبل الخلق فهو يتدرج من الكليات إلى الجزئيات ليتعرف على السنن الثابتة القاهرة التي لا يتجاوزها بر ولا فاجر، ولن تجد لسنة الله تبديلا. ومنهم من يرى الخلق قبل الحق فهو يتدرج من الجزئيات إلى الكليات فيعثر على نفس السنن، ولن تجد لسنة الله تحويلا.

الطريق الأول طريق أهل الله المكاشفين بالعلم اللدني الذي ذكره الله لنا في قصة موسى والخضر في سورة الكهف. وهو علم وهبي يقذفه الله في القلوب المتجردة عن الوسائل العادية في طلب العلم. فهذه طريق الذكر.

أما الطريق الثاني فهو طريق الفكر الذي يلتمس أصحابه الأسباب والوسائل لتحصيل العلم " خطوة خطوة وحبة حبة "، وهو طريق أهل النظر. والأرجح أنه علم كسبي ووهبي، لأن موهبة االعقل الراجح والفهم العميق لا تحصل بالكسب فقط. 

كل له معراجه الخاص وكأن المعارج غصون شجرة تتشاجر فيما بينها لتتفرع غصون أخرى، بعضها من بعض إلى يوم القيامة، يوم تطوى السماوات كطي السجل للكتاب، فيعود الكل لأصل واحد، والله نور السماوات والأرض...

معارج الذكر والرحمة وطلب الحقيقة الكشفية ينبغي تحصينها من كمائن الشيطان والنفس والهوى المحفوفة بالفتوحات الظلمانية. بابها الوحيد: الشريعة والتعمق في أسرارها بفهم يقذفه الله في قلوب أصفيائه. فالحق حق والخلق خلق. ومن تحقق دون أن يتشرع فقد تزندق ومن تشرع دون أن يتحقق فقد تفسق ومن جمع بينهما فقد توفق. كما يقول أهل الله الربانيين الذين يتضرعون لله أن يحفظهم من الزندقة والفسوق والخذلان. 

أما معارج الفكر والحكمة وطلب الحقيقة عن طريق النظر العقلي، فلا يستقيم له طريق بدون سابق تبحر وفهم عميق في العلوم الكونية وفي مناهجها وقوانينها وأدبياتها ومجالات صلاحها، ونسبة احتمالات الصواب والخطأ فيها، وما هي البحوث التمهيدية والمكملة والمستنبطة من نتائجها المرحلية والنهائية... فمن تفلسف في هذه العلوم دون سابق ممارسة وحذق، إنما اطلاعه عليها من باب التبسيط العلمي، يوشك أن يكون بناؤه على غير أساس، ما له من قرار ولا رسوخ. أما من حصل عليها ولم يبلغ مرحلة التأمل في ما يجمع شتاتها ليرجعها إلى الأصل الموحد لها والمفاتيح والسنن المتحكمة فيها، فهذا ما ارتقى نظره عن مرحلة الوصف والتبسيط، وما بنى نظرية تمكنه من استنباط المجهول من المعلوم من الحقائق، ولن يتأت له بالتالي أي تطبيق تكنولوجي تسخيري للكون يؤكد صحة ما عثر عليه من سنن كونية ثابتة.

لقد تنبأت نظرية الفيزياء الكمية ونظرية الوحدة الكبرى للكون بوجود جزيئات في عالم الذرة وإمكانيات تحولها موجات، وطاقة، واختبرت تلك التنبؤات فحصلت على المطلوب واستنتجت منه ما ينفع الناس في مجال الطاقة والاتصال وسائر فروع التكنولوجيا البالغة الدقة.

أما الأصل الموحد لمعارج الحقيقة في عالم الأحياء، فما زالت الاكتشافات تعثر على لبناته، بدءا بالخلية والخميرة الأولى وانتهاء بالجينوم الخاص لكل نوع. والعلم ماض في استغلال ما تنبأت به النظرية في مجال تركيب أنواع الحيوان والنبات، مستعملة ذلك في أخطر تكنولوجيا يقبل عليها هذا القرن: التكنولوجيا الوراثية. وما نظرية التطور إلا محطة من المحطات العلمية في هذا المجال، ما غابت عن حدس علماء المسلمين كما أشارت له نظرية تدريج الخلق عند ابن خلدون وغيره من أهل النظر العقلي وكذلك عند أهل العلم الكشفي كما سنبينه فيما يلي.

الرجوع لنظرية التطور من وجهة نظر العلم الكشفي نعرضه هنا لا للتدليل به على صواب أو خطأ النظرية، فالنظرية اصطلاحا تحتمل الوجهين بدون أي حرج كما فات أن وضحنا ذلك من قبل، والدخول إلى ميدان المناظرة فيه له شروطه التي يضعها المختصون، أهم هذه الشروط إتقان أدوات العلوم الطبيعية والإتيان بالنظرية المكملة للبنيان أو النظرية البديلة التي تنال إجماع المختصين، والتحديد المسبق لما هي حبلى به من تنبؤات وثمار تطبيقية تكنولوجية.

هدف هذا الرافد من نظرات أهل الله المحققين، يعرض وجهة نظرهم في الموضوع، ويحاول مناقشة مسألة غائية: كيف يمكن الاستفادة من كشوفاتهم في إطار تكنولوجيا من نوع آخر مادتها الإنسان نفسه وغايتها السمو به في مراتب الاستخلاف في الكون؟.

يقول أحدهم رحمة الله عليهم[25] : "فإن سمعت الصوفي يقول أنا نسخة من العالم، فليس معناه أن كل ما في العالم فيه في زمان واحد، بل هو مستعد لقبول ما في العالم بخلاف غيره من الموجودات، ولكن فيه أكثر العالم. فتم في العالم أشياء هي في الإنسان بما هو إنسان، كالنبات والحيوان والجمادات، ومنها ما هي فيه من حيث هو عبد مختص بالله تعالى كالملائكة وما أشبه ذلك، وهكذا في مضاهاة الكون في الإنسان. وفائدة هذا المنزل، إذا تحقق به المتحقق يكون قطب وقته، ولو كان في غير هذا الزمان لكان مشارا إليه."

وهنا أليس من الحكمة الرجوع إلى حذاق العلم الطبيعي، نسائلهم عن نوع ذلك "الاستعداد"، أو الاستعداد الغريب بتعبير ابن خلدون أيضا، الذي للإنسان لقبول ما في العالم من الموجودات؟ ما هو ذلك الجوهر الذي جعلنا مستعدين لكي تندرج فينا الخلائق بأنواعها؟ ما علاقة هذا الشيء الجوهرى بالمورثات التي تضمها خلايا جسمنا؟ ما معنى أن جينوم الإنسان يشبه جينوم الفأرة بنسبة 90 في المائة، ويشبه جينوم النسناس بنسبة 99 في المائة؟ وكيف تمكن العلم من التعرف على الجينات المشتركة وماذا يحدث في حال تبديلها بين نوع ونوع آخر، بل بين بكتيريا ونطفة الإنسان؟

ثم نرجع لفقهنا التجديدي نسأله ماذا يعني أن يكون المتحقق في هذا المنزل قطب وقته؟ وهل يعني ذلك أن دعوته ستنهي بإذن الله ذلك الصراع بين العقل والدين الذي كان في بداية القرن الماضي، وسيكون ممثل جميع المؤمنين، تمهيدا لدخول الناس في دين الله أفوجا؟ بل اليست الخلائق كلها تعرفه ويعرفها، يعرف ما يصلح لأمة النبات وأمة النمل وأمة الطير إذ هي أمم أمثالنا )وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (الأنعام:38)، فيلين الحديد من جديد في يده وتهفو الرياح لخدمة هذا الخليفة، وتؤمر الجبال بالانصياع:  )وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (سـبأ:10). وكيف يستشعر هذا الاندراج الكوني في الإنسان، من الحصى إلى الملائكة، مرورا بالبكتريا والنبات والحشرات والسمك والبرمائيات والثدييات؟

ربما سيميل البعض للقول إن هذه الخلافة الظاهرة كانت خاصة بسيدنا آدم وسيدنا داود وسيدنا سليمان وسيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليهم جميعا، حيث كانت فعلا ظواهر التسخير واضحة طوعا أو كرها من لدن الخلق، يشهد بها الجماد والنبات والحيوان وكثير من الثقلين. ثم اندرجت خلافة كاملة على منهاج النبوة في شخص من سبح الحصى في أيديهم كما جاء في الحديث الشريف الذي سيأتي ذكره فيما بعد : ساداتنا أبو بكر وعمر وعثمان، ثم أصبحت باطنة، وستعود في عهد المهدي المنتظر رضي الله عنه، خلافة ظاهرة "يرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض".

وقبل ذلك تكون لهذه الخلافة الثانية إرهاصات يجسدها أمراء العدل والفتوحات الكبرى. وقد ذكر لنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نموذجا منها: محمد الفاتح العثماني الذي فتح القسطنطينية، وهو صاحب البشارة التي بشّر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثه: "لتَفْتَحُنّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش" (مسند أحمد : 4/335. )

ومن إرهاصاتها في هذا عصرنا، هذه الصحوة الإسلامية التي عمت المعمور، دعوة ثم بحول الله دولة قطرية كالتي تبنى حاليا عند إخواننا العجم، ثم دولة عالمية تسخر الوسائل الهائلة لكي تنتزع البشرية من قبضة اللادينية والجحود. وتفتح باب الاجتهاد في فقه تجديدي لكلمات الله الكونية والشرعية، يفضي لتكنولوجيا من نوع آخر: مادتها الإنسان، تطوره تطويرا إراديا ليسمو في درجات العدل والإحسان، ولنا مزيد توضيح في الفصول المقبلة بعون الله.

رجوعا لقضية اندراج جميع الخلق فينا من وجهة نظر المكاشف، يزيدنا توضيحا رحمه الله[26] في كلامه حول قوله تعالى )وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً) (نوح:17)، قال: ... والنبات الذي له حس على قسمين: منه ما له الحركة المستقيمة كالإنسان، ومنه من له الحركة الأفقية كالحيوان، وبينهما وسائط، فيكون أول الإنسان آخر الحيوان، فلا يقوى قوة الإنسان، ولا يبقى عليه حكم الحيوان كالقرد والنسناس. كما بين الحيوان والنبات وسط مثل النخلة، كما بين المعدن والنبات وسط مثل الكمأة."

"وبينهما وسائط" أليست هذه إشارة واضحة بقاموس عصره إلى الحلقات الرابطة بين أنواع الخلق بداية  بالتراب ونهاية بالإنسان الذي تندرج فيه جميع المخلوقات ليكون ممثلا للعالم الكبير؟

لكن ليست هذه النشأة هي غاية تدريج خلق الله، هناك طور آخر يعطي الإنسان الاستعداد للتعرف على خالقه، وهي غاية الخلق الظاهرة في قوله تعالى: " ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" أي ليعرفون كما فسره ابن عباس .

عن كمال هذه النشأة يحدثنا المكاشف رحمه الله [27] قال ..." فلما أكمل النشأة الجسمية النباتية الحيوانية وظهر فيها جميع قوى الحيوان، أعطاه الفكر من قوة النفس العملية، وأعطاه ذلك من قوة النفس العلمية من الاسم الإلهي المدبر. فإن الحيوان جميع ما يعمله من الصنائع وما يعلمه ليس عن تدبير ولا روية بل هو مفطور على العلم بما يصدر عنه، لا يعرف من أين حصل له ذلك الإتقان والإحكام، كالعناكب والنحل والزنابير، بخلاف الإنسان فإنه يعلم إنه ما استنبط أمرا من الأمور إلا عن فكر وروية وتدبير، فيعرف من أين صدر هذا الأمر، وسائر الحيوان يعلم الأمر ولا يعلم من أين صدر، وبهذا القدر سمي إنسانا لا غير، وهي حالة يشترك فيها جميع الناس إلا الإنسان الكامل فإنه زاد على الإنسان الحيواني في الدنيا بتصريفه الأسماء الإلهية التي أخذ قواها لما حذاه الحق عليها حين حذاه على العالم، فجعل الإنسان الكامل خليفة عن الإنسان الكل الكبير الذي هو ظل الله في خلقه من خلقه."

إلى أن قال: " ... وأما الإنسان الحيواني فليس ذلك أصله جملة واحدة وإنما حكمه حكم سائر الحيوان إلا أنه يتميز عن غيره من الحيوان بالفصل المقوم له، كما يتميز الحيوان بعضه عن بعض بالفصول المقومة لكل واحد من الحيوان، فإن الفرس ما هو الحمار من حيث فصله المقوم له ولا البغل ولا الطائر ولا السبع ولا الدودة، فالإنسان الحيواني من جملة الحشرات فإذا كمل فهو الخليفة فاجتمعنا لمعان وافترقنا لمعان"

ثم يسهب القول عن تدريج النشأة الكاملة، قائلا: "... وإنما فرقنا بين الإنسان الحيواني والإنسان الكامل الخليفة لقوله تعالى " يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك " فهذا كمال النشأة الإنسانية العنصرية الطبيعية ثم قال له بعد ذلك " في أي صورة ما شاء ركبك "، إن شاء في صورة الكمال فجعلك خليفة عنه في العالم، أو في صورة الحيوان فتكون من جملة الحيوان بفصلك المقوم لذاتك، الذي لا يكون إلا لمن ينطبق عليه اسم الإنسان، ولم يذكر في غير نشأة الإنسان قط تسوية ولا تعديلا، وإن كان قد جاء " الذي خلق فسوى"؛ فقد يعني به خلق الإنسان لأن التسوية والتعديل لا يكونان معا إلا للإنسان لأنه سواه على صورة العالم، وعدله ولم يكن ذلك لغيره من المخلوقين من العناصر، ثم قال له بعد التسوية والتعديل: " كن "، وهو نفس إلهي، فظهر الإنسان الكامل عن التسوية والتعديل ونفخ الروح وقول " كن ".

وننتقل إلى ولي آخر[28] من أولياء الله الذين تقربوا للحق سبحانه حتى صار الحق بصرهم الذي يبصرون به، للتعرف على سر التدريج في خلق الإنسان أطوارا. يقول رحمه الله: " إن الله تعالى لما أراد خلق آدم عليه السلام جمع تربته في عشرة أيام، وتركها في الماء عشرين يوما، وصوره في أربعين يوما، وتركه عشرين بعد التصوير، حتى انتقل من الطينية إلى الجسمية. فمجموع ذلك ثلاثة أشهر، وهي رجب وشعبان ورمضان، ثم رفعه الله إلى الجنة ونفخ فيه من روحه وهو في الجنة، وخلقت منه حواء، فكان خلقها في الجنة."

ولما سئل رضي الله عنه " فلم احتاجوا في جمعه إلى عشرة أيام، والله قادر على جمعه في لحظة؟" فقال رضي الله عنه: "والله تعالى قادر على خلق السماوات والأرضين في لحظة، فلم جعل خلقهن في ستة أيام؟ وقادر على خلق آدم من غير تراب، فلم خلقه من تراب؟ ولكنه تعالى يخلق بعض الأشياء (من بعض) ويرتب خلقها في أيام ويجريه شيئا شيئا، لأنه يحصل من ذلك توحيد عظيم للملأ الأعلى، لأن في تنقل ذلك الحادث من طور إلى طور ومن حالة إلى حالة، وظهور أمره شيئا فشيئا، ما لا يكيف من جمع همم الملأ الأعلى إلى الالتفاتات إليه بالتعجب في أمر ذلك الحادث، والتفكر في شأنه، وكيف يخلقه، وماذا يكون منه وإلى أي شيء يصير. فهم يرتقبون الحالة التي يخرج عليها، فإذا حصلت، حصل لهم من التوحيد ما لا يكيف ولا يحصى، وفي زمن الارتقاب يحصل لهم من العلم بالله تعالى والإطلاع على باهر قدرته وسريانها في المقدورات شيء عظيم، فلا يفوتنهم شيء من أسرارها في ذلك المخلوق، فيحصل لهم التفهيم التام. فالتدريج لهذه الحكمة ولحكمة أخرى، وهي أنه بهذا التدريج، وانتظار خروج الحادث والتشوق إليه توجد مخلوقات أخر، مثل هذا الحادث أو أعظم، فلله تعالى في كل شيء أسرار وحكم."

قوله: "في انتظار خروج الإنسان توجد مخلوقات أخرى"... هل هذه إشارة لخلقة الديناصورات وغيرها من المخلوقات التي يعرضها لنا السجل الإحاثي؟  قوله: "مثله أو أعظم"، نقول: في الخلقة، لا في المرتبة لأن رتبة الإنسان ليست لغيره من المخلوقات، إذ هو غاية الخلق. والله أعلم.

وخلص رحمه الله لما حدث بعد ذلك، فقال: " فلما تكاملت خلقته في عشرين يوما وأراد الله نفخ الروح فيه نقله إلى الجنة ورفعه إليها."

ولا يحق لنا أن نحمل أحبابنا القدامى ما لا يطيقون، فكلامهم تعبير بالمفاهيم والمصطلحات المعروفة في عصرهم، ولنا أن نفسرها بما استجد في عصرنا. فها هو رحمه الله يريد الكلام عن علم التصنيف لأنواع الخلق، يذكر لنا أشياء يفصلها العلم الحديث كقضية افتراق الأنواع من فصل واحد، وقضية عقم البغلة، وكيف يتم التزاوج بين السبع والنمرة وبين النمر واللبؤة، وما هي خواص نسلهما... إلى غير ذلك من المسائل التي يناقشها العلم الطبيعي الحديث. 

والمثير للانتباه في هذه الرواية هو بقاء تربة آدم في الماء عشرين يوما، هل يعني ذلك أنها النشأة البحرية التي يقصها علينا سجل الإحاثيات؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي قد يفهم من طرحها أننا نريد تقريب هذه الرواية من النظرية الحديثة للتطور، رغم أنه من المؤكد مثلا أن الحقبة التي ظهرت فيها الأشجار في الحقبة الكامبرية، كان جو الأرض غير ملائم نهائيا لما يحتاجه الإنسان، مما يعني أن الخلقة الأولى التي سبقت نشوء الشجر كانت خلقة مختلفة عن الخلقة الحالية... وقس على ذلك من الإشكاليات التي نعثر عليها في أخبار خلق آدم عليه السلام عند أهل المكاشفة، والتي يستعصي فهمها لعدة أسباب، من ضمنها مسألة المفاهيم والمصطلحات المتاحة على عهدهم، وعامل الزمان الذي طواه الله للمكاشف حتى ظهرت له أحقاب الخلق من "غير زمان" كما يقول ابن خلدون ...فظهر له في لمح البصر ما تطلب ملايير السنين بالقياس الجيوليجي.

ولعل أهم ما تلخصه لنا مكاشفاتهم رحمة الله عليهم، ما معناه أن الله بدأ خميرة الإنسان في الأرض من طين، ثم تدرج في خلقته "بظهور مخلوقات أخرى مثل هذا الحادث أو أعظم"، ثم رفعه الله إلى السماء بعد التسوية، فنفخ فيه من روحه وكرمه وعلمه الأسماء وأسكنه الجنة، ثم جرى ما جرى مع سيدنا آدم، فنزل إلى الأرض، فوجد فيها الكائنات الحية، التي تطورت من نفس خميرته، وهكذا إلى الآن.

وهذا ما يمكن فهمه من قوله تعالى في محكم تنزيله:  { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (9) } ( السجدة 7 ـ 9 ).

 

 

 

 

الفصل الثاني عشر: الحوار العميق

 

 

 

 

{{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}}.

"الفرقان، 63"

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 صاحب العلم الكشفي اللدني الذي يرى بنور الله الحقائق من غير زمان كما عبر عنه ابن خلدون رحمه الله، ينظر إلى محنة العقل المسلم الذي هجمت عليه علوم الأمم، وتكفير محاكم التفتيش، يضطر إلى سلوك مسالكها ونهج مناهجها للرد على المتكلمين في دين الله. تراه يشفق عليه ويوجهه الوجهة التي تلتمس العافية في دروبها، والنجاة في مسالكها. أسوق هنا  نموذجا من نماذج الحوار الهادئ العميق الذي اتسع علمه فقل اعتراضه على ما أودع الله عقول وقلوب الخلائق: حوار بين أهل المكاشفة وأهل النظر العقلي.

قال ابن عربي رحمه الله [29]: "دخلت يوما بقرطبة على قاضيها أبي الوليد بن رشد وكان يرغب في لقائي لما سمع وبلغه ما فتح الله به علي في خلوتي، فكان يظهر التجنب مما سمع، فبعثني والدي إليه في حاجة قصدا منه حتى يجتمع بي فإنه كان من أصدقائه وأنا صبي ما بقل وجهي وما طر شاربي فعندما دخلت عليه قام من مكانه إلي محبة وإعظاما فعانقني وقال لي: نعم، قلت له: نعم، فزاد فرحه بي لفهمي عنه ثم أني استشعرت بما أفرحه من ذلك، فقلت له: لا، فانقبض وتغير لونه وشك فيما عنده، وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي هل هو ما أعطاه لنا النظر، قلت له: نعم لا، وبين نعم ولا تطير الأرواح من موادها والأعناق من أجسادها. فاصفر لونه وأخذه الأفكل، وقعد يحوقل وعرف ما أشرت به إليه، وهو عين هذه المسألة التي ذكرها القطب الإمام أعني مداوي الكلوم، وطلب بعد ذلك من أبي الاجتماع بنا ليعرض ما عنده علينا هل هو يوافق أو يخالف؟ فإنه كان من أرباب الفكر والنظر العقلي، فشكر الله تعالى الذي كان في زمان رأى فيه من دخل خلوته جاهلا، وخرج مثل هذا الخروج من غير درس ولا بحث ولا مطالعة ولا قراءة، وقال: هذه حالة أثبتناها وما رأينا لها أربابا، فالحمد لله الذي أنا في زمان فيه واحد من أربابها الفاتحين مغالق أبوابها، والحمد لله الذي خصني برِؤيته. ثم أردت الاجتماع به مرة ثانية، فأقيم لي رحمه الله في الواقعة في صورة ضرب بيني وبينه حجاب رقيق، أنظر إليه منه ولا يبصرني ولا يعرف مكاني، وقد شغل بنفسه عني. فقلت إنه غير مراد لما نحن عليه، فما اجتمعت به حتى درج، وذلك سنة خمس وتسعين وخمسمائة بمدينة مراكش ونقل إلى قرطبة وبها قبره. ولما جعل التابوت الذي فيه جسده على الدابة جعلت تواليفه تعادل من الجانب الآخر وأنا واقف، ومعي الفقيه الأديب أبو الحسن محمد بن جبير كاتب السيد أبي سعيد وصاحبي أبو الحكم عمرو ابن السراج الناسخ، فالتفت أبو الحكم إلينا وقال: تنظرون إلي من يعادل الإمام ابن رشد في مركوبه: هذا الإمام وهذه أعماله يعني تواليفه فقال له ابن جبير: ياولدي نعم ما نظرت لا فض فوك، فقيدتها عندي، موعظة وتذكرة. رحم الله جميعهم، ... وقلنا في ذلك:

هذا الإمام وهذه أعماله  z  يا ليت شعري هل أتت أماله."

انتهى قول ابن عربي رحمه الله.

وابن جبير هو العالم المسلم المعروف بابن حيان الكيميائي الذي علم الغرب هذا الفرع من العلوم الطبيعية، والذي كان من عيار ابن رشد معلم الغرب الأكبر

وتآليف ابن عربي التي خلفها تراثا للبشرية هي كذلك مما يبهر العقول، حللها لنا ابن تيمية رحمة الله عليه بمنظار ضوابط الشريعة، في الفتاوى، كتاب السلوك، فلم ير في كتاب الفتوحات المكية ما يقذف في حق الرجل، لكنه قال كلاما بليغا بخصوص كتاب الفصوص الذي ينسب إليه، ورأى أن ما قاله في وحدة الوجود والحلول والاتحاد هو من كلام البشر الذي يؤخذ منه ويرد. ومع ذلك لم يكفره بتلك السهولة التي يكفر بها بعض المتشددين الناس. بل تحرى في حكمه الحذر فالتمس لصاحبنا العافية في الاعتقاد الذي مات عليه، رحمة الله على الجميع.

... رجال وأي رجال يعطون درسا قيما في الحوار العميق بين طريقتين لمقاربة الحقيقة... كل ذلك في جو التواضع والاحترام والاعتراف المتبادل.

ولنا أن نقيم، بعد مرور القرون ثمار المنهاجين وأثرهما في تاريخ البشرية.

قبل ذلك يطرح سؤال بديهي ألم يكن جواب ابن عربي "نعم / لا" هو بالضبط ما يتدرج عليه النظر العقلي بين الصواب والخطأ وطريقة الشك المنهجي في مقاربة الحقيقة؟ ألا يستند الفريقين لأصل عظيم أخبر به الوحي في ماهية العقل وطريقة سيره بين تردد الإقبال والإدبار؟ كما ورد في الصحيح عن الإمام الصادق (رضي الله عنه): (إن الله خلق العقل وقال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر ثم قال له: وعزتي وجلالي ما خلقت شيئاً أحب إلي منك لك الثواب وعليك العقاب). ما علاقة هذا التردد بالموجة الضوئية التي تنبثق عند كل تردد للإليكترون بين فلكين من أفلاكه حول النواة؟

من مراكش انطلق الموكب المهيب: راحلة تحمل جثة ابن رشد في جانب، توازنها في الجانب الآخر  تآليفه، إلى أي وجهة؟ إلى قرطبة، منار العلوم في زمانها، وملهمة أوروبا في نهضتها. رحب الغرب بتآليف ابن رشد وصاحبه جابر بن حيان، أخذوا عنهم خاصة المنهجية العلومية في مقاربة الحقيقة الكونية، طريقة الفكر، بعدما جردوها من لباسها الإسلامي. فوقعوا في المخاطر التي حذر منها ابن عربي، مخاطر اعتماد النظر العقلي فقط لتحري الحقيقة. أما المغاربة والأندلسيون المسلمون، فإنهم تغالوا في طريقة الذكر لمقاربة الحق، وانصرفوا رويدا رويدا عن طريقة الفكر. وابتدعوا مسائل لم تكن في الذين من قبلهم طلبا لكرامات الأولياء، كتلك المسألة التي شغلت العلماء مدة خمسة قرون، كان الإمام الشاطبي قد استفتى فيها علماء المغرب بعدما أدى الخلاف فيها إلى نزاع شديد بين علماء الأندلس في القرن الثامن الهجري: مسألة ضرورة اتخاذ الشيخ لبلوغ المعرفة الوجدانية أم الاستغناء عنه. ليتهم اكتفوا بجواب ابن خلدون الذي قيده لهم في كتابه القيم : شفاء السائل في تهذيب المسائل. ليتهم سلكوا مسلكه في الجمع بين طريقة الذكر وطريقة الفكر. طريقة الذكر مفتاحا للتركيز العميق الذي يساعد الفكر للتحليق في المعارف الكونية والمعارف الشرعية. هذا الجمع الذي كان متاحا في عهد ابن عربي الصوفي وابن جبير العالم الكيميائي الشهير، وكأنهما قد شيعا جنازته لما شيعا جنازة ابن رشد من مراكش إلى قرطبة.     

 

الفصل الثالث عشر: أصل محنة العقل المسلم

 

 

 

{{ ... وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}}.

" آل عمران:140".

 

 

 

 

 

 

 

بعد عصر الخلافة الأولى، بدأت عرى الإسلام تنتقض عروة عروة، وكان أولها نقضا عروة الحكم الشوري الذي أصبح حكما مستبدا. فظهر مذهب الجبر والإكراه المذهبي، ثم الإرهاب الفكري، ثم مذهب القومة السنية المضادة، ثم مذاهب الخوارج ثم مذاهب الشيعة... وغيرها من التيارات والتيارات المضادة. وانزوى بعض العلماء هروبا بدينهم من الدنيا والسلطان، فكانت الصوفية... وهكذا برزت محنة العقل المسلم عندما تفرقت الحقيقة التي كانت مجتمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين من بعده.

إذا اقتصرنا على محنة العقل المسلم عند أهل السنة، يمكن أن نعثر على أصل كل محنه: التنازع و اتباع الهوى والأغراض والظن وطلب الخوارق. نعرض بعجالة نظرة تاريخية لتطور تلك المحنة  اقتباسا ملخصا من كتاب " صراع حول العقل" للباحث محمد العزب موسى ، بدؤها عندما ظهرت بوادر التنازع أولا بين أنصار العقل وأنصار النقل وكأن العقل يعارض النقل. يقول الكاتب: " كان المعتزلة هم رواد النظر العقلي في الإسلام، وقد جعل المعتزلة العقل معيار كل أحكامهم ولكنهم لم يخرجوا أبدا عن نطاق الإسلام، بل كانت حريتهم "ملتزمة" بأصول الإسلام وليست "مطلقة" كحرية الزنادقة والمعطلين، فكانوا بذلك أقرب الفرق الإسلامية إلى روح الإسلام الذي يشجع على المنهج العلمي التجريبي..."

..." ثم ظهرت حركة علمية تنظر في ذات الله عز وجل، مخالفة للنهي الذي جاء به القرآن والسنة، "ويحذركم الله نفسه"... لا تتفكروا في ذات الله ولكن تفكروا في خلق الله... هذه الحركة تأخذ بظاهر النصوص، تقول مثلا بإمكان رؤية الله بالعين البشرية، وبان صفاته مستقلة عن ذاته، وذهب إلى أن النصوص القرآنية التي تتحدث عن العرش واستواء الله عليه والتي تتحدث عن عين الله ويده يجب أن تؤخذ بمعناها اللفظي والحرفي ورفض ما كان يذهب إليه العقلانيون من أن هذه كلها رموز للقدرة الإلهية. وتقول أيضا إن الإنسان ليس حرا بأي معنى من المعاني وإن كل أفعاله مملاة عليه وتستنكر العلوم الدنيوية."

..." وصف الشهرستاني المعتزلة بأنهم "مجوس الأمة" ورموا بالتهتك والمجون والاستخفاف بالدين ومحاولة هدمه وإحلال الفكر الوثني محله، نقلا عن تشنيعات الزنديق ابن الراوندي الذي كان واحدا منهم وخرج عليهم واتهمهم ظلما بما ليس فيهم. وبعد مرحلة التكفير، سهل المرور لمرحلة التناحر بين الفرق، حتى أصبحت مناظر الفتن وسفك الدماء شيئا مألوفا في شوارع بغداد.

كان الخليفة المتوكل رجلا قاسيا سكيرا تنتابه نوبات من الجنون. ومال المتوكل إلى التحالف مع فريق السلفيين لان ذلك يكسبه شعبية بين الجماهير وبدأ في تطهير أجهزة الدولة من المعتزلة.

كان السلفيون في أول الأمر يحاربون العقل بالرجوع إلى مأثور النصوص والتراث والتقاليد. ثم نشطوا في الرد على تعاليم المعتزلة ومحاربتهم بسلاحهم فكان بذلك ظهور الأشاعرة مؤسسو علم الكلام في الإسلام...

... وجاء بعدهم أبو حامد الغزالي أعظم فقهاء الإسلام بلا منازع. واليه يرجع الفضل في تثبيت نظام الأشعرية واستخدام المنطق في الرد على أصحاب المنطق.

هاجم الغزالي الفلسفة وكفر دارسيها، قال عن أرسطو.. "فوجب تكفيره وتكفير متبعيه من متفلسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي وأمثالهم". وأصبحت آراء الغزالي فيما بعد أقوى أساس بني عليه اضطهاد الفلاسفة والمفكرين في الإسلام. وقد وضع الغزالي في الرد على الفلاسفة كتابه الشهير "تهافت الفلاسفة". أما أهم آثاره فكتاب "إحياء علوم الدين" الذي أنعشت صوفيته الشريعة الإسلامية وصار مرجعا أساسيا لجميع أهل السنة.

والواقع أن الخطأ الذي وقع فيه السلفيون ليس فيما قالوا به في حد ذاته وإنما في الأسلوب الذي نشروا به ما يقولون.. أسلوب التكفير والإرهاب والمصادرة واستعداء السلطات فوضعوا الإرهاب الفكري حيث يجب أن توضع الحرية الفكرية." انتهى قول الباحث محمد العزب موسى الذي لخصنا منه ما يفيد في فهم ما حصل للعقل المسلم في المشرق.

أما بالنسبة لمحنة العقل المسلم في المغرب، فيمكن تصوره من خلال ما قام به في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي  أبو يوسف يعقوب المنصور، ذلك الإمبراطور الأمازيغي العظيم الذي بلغ إشعاع المغرب في عهده ما لم يتأت له في أي عصر آخر، حيث كان نفوذه يمتد من تخوم بلاد السودان إلى إسبانيا إلى ليبيا. لقد قرب هذا الإمبراطور إليه العلماء من كل تخصص في بداية أمره تأليفا لكل من ينضوي تحت رايته. ثم بعد استتباب أمر الدولة عمد إلى غربلة مباحث العلماء وفرز فيها بين العلم النافع والعلم الذي لا ينفع. فبعد أن أتى بابن رشد من قرطبة وقربه واستوزره، وبعد تبينه في نتاجه الفكري واستشارة أهل العقول المسددة بالوحي، أمر بإحراق كل كتبه ما عدا الكتب الفقهية والكتب التي تتناول مواضيع علومية كالطب والهندسة والرياضيات، وبعد ذلك لما تبرأ ابن رشد من قول الدهريين في قدم العالم، وعدم جواز ذبول الشمس وغيرها من أقوال الفلسفة الإغريقية الفاسدة المنطق، يعود يعقوب المنصور فيرضى عن أبي الوليد ويلحقه ببلاطه، إلى أن توفي بمراكش سنة 1198 للميلاد. رحمة الله عليهم جميعا.

وهكذا كان حرص عظماء الأمة على توجيه الحركة العلمية في زمانهم لكي تكون نافعة للأمة في دينها ودنياها، وكلما تحقق هذا التوجيه الصحيح نحو الصواب، تكون ثمرة ذلك علو شأن الأمة وتحقق سيادتها على العالم. والعكس صحيح، يشهد عليه وضعنا الحالي المتردي تحت حكم اللاييكية المعادية لشرع الله.

وبينما نحن منشغلون في مسائل علم الكلام والفلسفة ومسألة ضرورة اتخاذ شيخ التربية الصوفية وطلب الكرامات ، باغتنا الغرب بنهضته العلومية التي اقتبسها من علماء المسلمين. لقد ظهر فيهم حذاق مهروا في السبح في فضاءات الطبيعة، فكشف الله لهم نتيجة اجتهادهم، تلك القوانين الكونية التي يدبر الله بها خلقه، فاستغلوها قوة سيطروا بها على العالم، ومن جملته ، أمة أتى عليها قانون الهرم، فنحاها برهة لإمضاء قانون التداول: ) ... وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران:140). وهي كذلك جدلية الخطأ والصواب التي تتحكم في سيرورة الخلائق والحقائق الأرضية.

نعم برع الغرب في الاستفادة من منهجيات "نعم - لا" ، وجبريات "0-1" ، وتلاقحات "ذكر- أنثى"، وذبذبات الإقبال والإدبار. فتفجرت ينابيع العلوم في كل فروعها، وطبقت القوانين المستنبطة منها في التكنولوجيا الإعلامية الرقمية 0-1 التي استعملت ما أتاحه علم الجبر الذي وضعه المسلمون، فتضاعفت قدرات عمل العقل إلى ما لا نهاية.  وفي الهندسة الوراثية، يتم الاستفادة من الإعلام المكتوب في الجينات في التكنولوجيا الحية الخطيرة لأنها وسيلة تركب أنواعا وفصائل خلقية ذات خصائص لا يمكن للخيال حصرها.

لكن الغرب المتخم في زماننا بالوسائل التي وفرتها العلوم العقلية، يعترف أنه يفتقر للغايات. فهو كالمارد الذي انطلق من قمقمه ليستعمل تلك الوسائل في غير محلها، فعثى في الأرض فسادا واستكبارا، ولم يجلب للبشرية سوى التعاسة والشك والاكتئاب، فلم يتأت له ذلك الاستخلاف القطبي الذي تسعد في زمانه جميع المخلوقات، وترضى له بالنيابة عنهم حتى يسمع كلام الطير وتسبيح الحصى. ليته انتبه إلى المحاذير التي ذكرها ابن عربي في كلامه عن مخاطر النظر العقلي المعرض عن تسديد الوحي.

يقول رحمه الله:

إن التفكر حال لست أجهله ** فالله قرره في الآي والسور

لولا التفكر كان الناس في دعة ** وفي نعيم مع الأرواح في سرر

يوضح ما أجمله في نظمه : يوجد حكمه ( يعني حكم النظر العقلي ) قبل وجود الشرائع، ثم جاء الشرع به مخبرا وآمرا، فأمر به وإن أعطته فطرة البشر ليكون عبادة يؤجر عليها، فإنه إذا كان عملا مشروعا للعبد أثمر له ما لا يثمر له إذا اتصف به لا من حيث ما هو شرع. وليس للفكر حكم ولا مجال في ذات الحق لا عقلا ولا شرعا، فإن الشرع قد منع من التفكر في ذات الله، وإلى ذلك الإشارة بقوله:" ويحذركم الله نفسه" أي لا تتفكروا فيها. وسبب ذلك ارتفاع المناسبة بين ذات الحق وذات الخلق. وأهل الله لما علموا مرتبة الفكر وأنه غاية علماء الرسوم وأهل الاعتبار من الصالحين، وأنه يعطي المناسبات بين الأشياء، تركوه لأهله وأنفوا منه أن يكون حالا لهم."

فابن عربي بقوله هذا يضع الأمور في محلها، حكمة تترك لأهل الاختصاص اختصاصهم فلا يخوض فيها خوضا يشغله عما هو أولى في حقه، وقد صادفت حكمته السنة التي وردت سببا في ورود الحديث الشريف أنتم "أعلم أمور دنياكم"

وبعدما قارن بين حال الفكر وحال الذكر في مقاربة الحق، يشرح لنا رحمه الله نسبية المعارف التي يحصل عليها الفكر، فيقول: "والفكر حال لا يعطي العصمة، ولهذا مقامه خطر لأن صاحبه لا يدري هل يصيب أو يخطئ، لأنه قابل للإصابة والخطأ." فهو المبدأ السائد في النظريات العلمية التي تعترف أنها مجرد تعبير ظرفي للحقيقة، مستعدة للانسحاب عندما تظهر نظرية بديلة أدق تعبيرا وأوضح تفسيرا. وتلك هي الطريق التي تسمو بها العلوم.

ثم إنه يضعنا على النهج الصحيح في ابتغاء الإصابة في التفكر فيقول: "فإذا أراد صاحبه أن يفوز بالصواب فيه غالبا في العلم بالله فليبحث عن كل آية نزلت في القرآن فيها ذكر التفكر والاعتبار، ولا يتعدى ما جاء من ذلك في غير كتاب ولا سنة متواترة... فتلك الحكمة وصاحبها الحكيم، وقد مدح الله من شرفه بالحكمة خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب" انتهى ما جاء في الفتوحات المكية.

 يبدو إذن أنه لا مجال للمقارنة بين مقاربة الحق خطوة خطوة عند أهل النظر، وبين الآخذين مباشرة عن الله، المكاشفين بالأسرار الربانية التي تغطي المجال الذي يسرح فيه العقل وزيادة: فضاءات أخرى لا يعلمها إلا الله ومن خصهم من أوليائه، المنعم عليهم بالفتوحات النورانية، وأسأل الله أن يغفر لي قفايتي بما ليس لي به علم من أسرارهم، وسوء أدبي في تأويلي لما أسوقه من كلامهم، وكل كلام يِؤخذ منه ويرد إلا كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم وآله.

لكن، ربما تتبادر للمتأمل في الموضوع أسئلة: ألا يمكن أن نقارن فائدة هذا الفتح النوراني بفائدة تلك الخوارق التي يطلبها الناس امتحانا لصدق الرسل، نفعها لازم لمن شهد المعجزة لا يتعداهم؟ بتعبير آخر: ألم يكن منهاج ابن رشد هو الأقرب لما دعا له الشرع الذي نهى عن طلب المعجزات الخارقة لقوانين الله الطبيعية، وأمر باستعمال العقل للنظر في آيات الله، ولاكتشاف السنن التي تتحكم في الخلق، وأمر بالاستفادة منها في تسخير الكون، وهو أمر كسبي متاح لكافة خلق الله، إذ الخلق عيال الله، وهم سواسية في الإمداد الدنيوي كل على قدر سعيه: )كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (الاسراء:20).

 

 

الفصل الرابع عشر: سبل بعث التفكر/ العبادة

 

 

 

{{ إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}}.

 " الأعراف، 54 "

 

 

 

 

 

 

 

لا مناص من الاعتراف لما لابن رشد وعلماء المسلمين في صدر تاريخ المسلمين من عظيم الأثر في النهضة العلومية التي لا زال الغرب يتزعمها لهذا العهد من تاريخ البشرية. لكنه أخذ ما أخذ عن ابن رشد وأمثاله مجردا من الضوابط الشرعية القرآنية، التي تحفظ العقل من التجبر والطغيان، متناسيا أصله الممتثل للأمر الرباني في الإقبال والإدبار.

ولربما حان وقت كبح جماح العقل بعقال الفتوحات النورانية التي يأتي بها المستأمنون على ميراث النبوة، المجددون لدين التوحيد الذي أتى به رسل رب العالمين.

والانطلاقة ينبغي أن تكلم الناس بلغة العلوم الكونية وكذلك بلغة العلم الشرعي. أما لغة الجراب الذي طواه أبو هريرة رضي الله عنه ولم يبده فتلك مهمة تترك للمكاشف يقدر ما يطوى وما يروى. لكن بالنسبة للعقل فلا محيد من إطلاق  سراحه للنظر كيف بدأ الخلق بدون أي عقدة عقدية أو تأويلية، واثقين حق اليقين أن العلوم سوف لن تنتهي إلا إلى ما أتى به الوحي المنزل من عند الله. ولا يمكن أن يحدث تعارض بين الحقائق العلمية وصحيح النقل إلا إذا اخطأ العالم في نظريته، أو اخفق المفسر في تخريج أو تأويل النقل.

وهنا أعرض مثالا  يوضح مدى انسجام نظرية بداية الكون في بعدها الزماني مع ما جاء في القرآن الكريم. وأسوقه كما جاء في مداخلة لعالم من علماء الفيزياء  في ندوة حول "الزمن بين العلم والقرآن"، نموذجا لما نأمل أن يرتقي له التفكر العبادة، بعد صحوة العقل المسلم وانفتاح الدعوة على خبراء العلوم المضبوطة.

في مقدمة عرضه، أكد الدكتور منصور حسب النبي " أن القرآن الكريم تعرض لقضايا علمية كثيرة منها موضوع خلق الكون، الزمان، المكان. والقرآن يشير إلى أن الله خلق الكون في ستة أيام والأيام عند الله هي فترات زمنية وليست أياما بالمعنى الأرضي، لأن الزمن نسبي وليس مطلقا، وهو ما يتفق ومعطيات العلم الحديث والنظرية النسبية. وللزمن في حياة الكائنات الحية بل وغير الحية أهمية كبيرة، فكلنا يهتم بقياس الزمن كمحدد للعمر. وكذلك الشعب المرجانية والمواد المشعة كالراديوم واليورانيوم تنحل إشعاعيا لتتحول إلى رصاص. ولكل عنصر مشع معدل معين للانحلال. وقد استخدم العلماء بعض المواد المشعة كاليورانيوم والكربون 14 لتعيين عمر الأرض وعمر الحياة على الأرض. كما استخدم العلماء ظاهرة تمدد الكون واتساعه المستمر لتعيين عمر الكون.

وتناول د. حسب النبي (عمر الكون) باعتباره قضية لإثبات وجود الله، لأن الكون طالما أن له بداية زمنية محددة فلا بد أن يكون قد أوجده (مبدىء) لأنه لا يمكن أن يكون قد بدأ بنفسه. وقد وجه القرآن للإنسان دعوة صريحة للبحث عن نشأة الكون وبداية الخلق فيقول الحق سبحانه: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) ونستخلص من هذه الآية عدة إشارات مهمة. منها أن السير في الأرض سوف يرشدنا لبداية الخلق. والتعبير القرآني بالسير في الأرض وليس عليها يشير إلى البحث في الطبقات الجيولوجية للأرض للتعرف على نشأتها ونشأة المملكة النباتية والحيوانية بها، بل وعلى بداية الخلق بجميع أنواعه بما في ذلك الكون. ولقد ذكر القرآن في كثير من آياته أن الله تعالى خلق الكون في ستة أيام كما قي قوله سبحانه: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب) والمقصود هنا بالأيام: المراحل أو الحقب الزمنية لخلق الكون وليست الأيام التي نعدها نحن البشر. بدليل عدم الإشارة إلى ذلك بعبارة (مما تعدون) في أي من الآيات التي تتحدث عن الأيام الستة لخلق السماوات والأرض كما في قوله تعالى: (وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) وبقوله سبحانه: (الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون. يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) وقد أجمع المفسرون على أن الأيام الستة للخلق قسمت إلى ثلاثة أقسام متساوية كل قسم يعادل يومين من أيام الخلق بالمفهوم النسبي للزمن.

أولا: يومان لخلق الأرض من السماء الدخانية الأولى، فالله تعالى يقول: (خلق الأرض في يومين) ويقول أيضا: (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما)، وهذا دليل على أن السماوات والأرض كانتا في بيضة كونية واحدة "رتقا" ثم انفجرت (ففتقناهما).

ثانيا: يومان لتسوية السماوات السبع طبقا لقوله: (فقضاهن سبع سماوات في يومين) وهو يشير إلى الحالة الدخانية للسماء (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) بعد الانفجار العظيم بيومين، حيث بدأ بعد ذلك تشكيل السماوات (فقضاهن) أي صنعهن وأبدع خلقهن سبع سماوات في فترة محددة بيومين آخرين.

ثالثا: يومان لتدبير الأرض جيولوجيا وتسخيرها لخدمة الإنسان، يقول سبحانه (وجعل فيها رواسي من فوقها) وهو ما يشير إلى جبال نيزكية سقطت واستقرت في البداية على قشرة الأرض فور تصلبها بدليل قوله تعالى: (من فوقها) و (بارك فيها) أي أكثر من خيراتها بما جعل فيها من المياه والزروع والضروع أي (أخرج منها ماءها ومرعاها) و (وقدر فيها أقواتها) أي أرزاق أهلها ومعاشهم بمعنى أنه خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها استعدادا لاستقبال الإنسان (في أربعة أيام سواء للسائلين) أي في أربعة أيام متساوية بلا زيادة ولا نقصان للسائلين من البشر.

وأكد د. حسب النبي أن العلماء قد توصلوا باستخدام الانحلال الإشعاعي لليورانيوم وتحوله إلى رصاص في قياس عمر الصخور الأرضية والنيزكية – إلى أن تكوين القشرة الأرضية "تصلب القشرة" بدأ منذ 4,5 مليار سنة وأن هذا الرقم هو أيضا عمر صخور القمر. وقد استخدم العلماء حديثا الكربون المشع لتحديد عمر الحفريات النباتية والحيوانية وتاريخ الحياة على الأرض وبهذا فإن كوكب الأرض بدأ تشكيله وتصلب قشرته منذ 4500 مليون سنة وأن الإنسان زائر متأخر جدا لكوكب الأرض بعد أن سخر له الله ما في الأرض جميعا (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا). ويؤكد العلم أن الإنسان ظهر منذ بضع عشرات الألوف من السنين دون تحديد نهائي، ويمكن أن نعتبر أن التشكيل الجيولوجي للأرض بدأ من إرساء الجبال النيزكية على قشرتها الصلبة وانبعاث الماء والهواء من باطن الأرض وتتابع أفراد المملكة النباتية والحيوانية حتى ظهور الإنسان. وقد استغرق ذلك فترة زمنية قدرها 4,5 مليار سنة والتي يشير إليها القرآن في سورة فصلت على أنها تعادل ثلث عمر الكون، وحيث أن التدبير الجيولوجي للأرض منذ بدء تصلب القشرة الأرضية وحتى ظهور الإنسان قد استغرق زمنا قدره 4,5 مليار سنة، فإنه يمكننا حساب عمر الكون قرآنيا بضرب هذه الفترة الجيولوجية في 3 على اعتبار أن الأيام الستة للخلق مقسمة إلى ثلاثة أقسام متساوية. وكل قسم يعادل يومين من أيام الخلق بالمفهوم النسبي للزمن. ومن ثم يصبح عمر الكون 13,5 مليار سنة. وأشار د. حسب النبي إلى أن العلم لم يصل حتى الآن إلى تقسيم مراحل خلق الكون الستة. فالأبحاث تدور كلها حول تحديد عمر الكون منذ الانفجار العظيم الذي يسمى في الفيزياء الكونية ب " Big Bang ". ويقدر العلماء عمر الكون بطريقة مختلفة ووفق رؤى متعددة، فهناك من يحدد عمر الكون حسب ظاهرة تمدد الكون والإزاحة الحمراء ب 10 إلى 18 مليار سنة وبطريقتين نوويتين مختلفتين لكل من "فاولار وهويل" استنتجا أن عمر الكون 13 أو 15 مليار سنة." انتهى كلام الدكتور وفقنا الله وإياه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

 

نعم، حان الوقت للتفكر في سبل تفجير طاقات العقل المسلم من جديد بعدما أصابه الفشل الذريع تحت قيادة المذهب اللاييكي المارق، الذي يرى بأعين الغرب أن الدين يعارض العقل. وقبل ذلك، ينبغي تصحيح بعض المواقف التي تنفر أكثر مما تؤلف بين العقول والقلوب، حينما نضع بعض التأويلات للنقل طرفا في المناظرات العلومية. ولنا اليقين أن معظم تلك النظريات العلمية إن حسن فهمها، لهي من الدلائل المعضدة للدين أكثر من مواقف النابذين لها، الذين يخرجونها من دائرة الإسلام، ويقدمونها هدية للملاحدة الدهريين، يرحبون بها ويعضدون بها معتقداتهم الفاسدة.

وبدون هذا التصالح بين العقل والقلب، كيف يتم في عصرنا جمع شمل الصادقين في طلب الحق والعدل ليشمل الخير والصلاح جميع خلق الله، خاصة أولئك الذين استضعفوا في الأرض واستخف بهم المفسدون المتألهون في الأرض؟ ويوشك أن يكون الجامع للصادقين نائبا عن الحركات البيئوية والتيارات المناهضة للعولمة الربوية، ووكيلا للحركات الإسلامية وملاذا لجميع المؤمنين بالله، ويكون مقنعا بنصحه لجميع خلق الله، وخاصة أمة سيدنا محمد  صلى الله عليه وسلم وعلى آله.

وبدون هذا السلوك المؤلف الناظر بعين الرحمة والشفقة لخلق الله، كيف يتأتى ذلك الاستخلاف القطبي الذي تسعد في زمانه جميع المخلوقات، جمادها ونباتها وحيوانها وبرها وفاجرها، وترضى له بالنيابة عنهم، حتى يسمع تسبيح الحصى في اليد، ويشهد تسخير الرياح، ويسمع لغة الشجر والحيوان، ويخدم مشروعه المهرة من الثقلين؟ ) ... وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) (المدثر:31).  

الفصل الخامس عشر: من شتات التأملات في العلوم الإنسانية إلى استكشاف القوانين الموحدة

 

 

 

{{ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا }} .

" الأحزاب، 62 ".

 

 

 

 

 

 

 

 

المجتمعات البشرية الحالية لازالت تقودها القوانين اللاييكية التي شرعتها المدارس العقلانية التي قادت حروبا شرسة ضد الفكر الكنسي المناهض للعلم. لا مناص من الاعتراف لما لابن رشد وعلماء المسلمين في صدر تاريخهم من عظيم الأثر في النهضة العلومية التي لا زال الغرب يتزعمها لهذا العهد من تاريخ البشرية. لكنهم كما أشرنا له سابقا أخذوا ما أخذوا عن المسلمين مجردا عن ضوابط الإسلام، لأنهم أدرجوا كل المعتقدات بما فيها الإسلام في حربهم على الكنيسة، ثم في مرحلة لاحقة استثنوا التشريعات التلمودية المزورة للتوراة. فهي حاليا أصل التشريعات القائدة للغرب المتوحد في المجموعة الأوروبية والمجموعة الأمريكية. وهي كذلك حاليا أصل التشريعات اللادينية عند أمراء دويلات التشتت في العالم الإسلامي، الخاضعة للغرب.

وجذور التلبيس التلمودي العلماني على العقل لازالت مهيمنة على كرسي الفكر الأكاديمي في العلوم الإنسانية المعاصرة... حتى أن العالم الاجتماعي المعاصر، لكي يعطي مظهر الموضوعية العلمية، بالمفهوم الغربي، على بحث من أبحاثه، يجتنب في مناهج دراساته كل ما يتعلق بالحقيقة الغيبية. والأغلبية الساحقة من علماء الاجتماع والسياسة لا تتحرج من ولوج المنهج الوثني، وتدعي بذلك الموضوعية العلمية، لا لسبب إلا لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار موجدا لهذا الكون. وهذا الموقف يظهر أثره جليا في كل العلوم الإنسانية.

والحقيقة أن هذه النظرة الوثنية وجدت نفسها في طريق مسدود، ونتج عنها جدل حاد وتناقض مبين. وأكبر دليل على الابتعاد عن الحقيقة العلمية  هو بالضبط كثرة الجدل في هذه العلوم وعقم النظريات فيه، وكثرة مدارسه التي لم تنتج للبشرية أي "تكنولوجيا لإسعاد الإنسان".

يقول أحد الباحثين في المسألة:"[30] "فالواقع أن انقسام علم الاجتماع بهذا الشكل إلى مدارس واتجاهات مختلفة متباينة، وعدم الاتفاق بين الباحثين فيه على مجال محدد للدراسة، يعد مؤشرا على عدم نضج هذا العلم. ويمكننا أن نرجع هذا الخلاف إلى عدة عوامل في  مقدمتها حداثة هذا العلم وتأثره بالتركات الفلسفية والتوجيهات الأيديولوجية والسياسية".

ومن البديهي أن علوم الطبيعة من طب وكيمياء وفيزياء وغيرها يمكن دراستها المادية بغض النظر عن مسألة الإيمان بموجد الكون، ويمكن الوصول إلى نتائج في إطار الحدود المرسومة، كالصانع الذي يصنع آلة هذا العمل لا يستدعي من صاحبه أن يكون عارفا بالله أو ناكرا له.

أما العلوم الإنسانية، فالنظرة الشمولية التي تطلب، والسنن التي تتحكم فيها تقتضي الحسم في الموقف قصد الخروج من أزمة المدارس الملحدة التي احتكرت المعارف الكونية والنظريات العلمية واستغلتها لتقيم عليها بنيانها المضطرب.

فهل أزف زمان مداوي كلوم البشرية المتمم لرسالة ابن رشد العلومية، للرقي بالإنسانية من هذا المستنقع الدوابي الذي أقحمه فيه خبراء الاستخفاف بالبشرية ؟

إن المجمعات البشرية تخضع في تطورها لسنن وقوانين، كالقوانين الرياضية و الفيزيائية والبيولوجية التي اكتشفها العلماء. لكن العلوم الإنسانية لم تخرج بعد من طور الفلسفة إلى طور العلم المضبوط بالقوانين الثابتة المجربة بالتطبيقات التكنولوجية. ولن يستطيع الفكر الغربي الملحد أو اللاديني أن يحقق تلك الطفرة لعدة أسباب نذكرها بعد حين. هذه مهمة أنيطت بنا وأمانة في أيدينا، تنتظر زمن ظهور القطبية الجامعة التي تجدد دعوة الرسل صلى الله عليهم وسلم، انطلاقا من دعاء سيدنا إبراهيم: )وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، (البقرة:124). وتلك قصة الخط الصاعد الذي يرسم طريق الارتقاء بالإنسان لتكتمل إنسانيته... نعود إليها في القضية التي ترهب حكماء الغرب:  قضية انتقاء إنسان المستقبل...

اندراج الكون في الإنسان كما وصفه ربنا في كتابه المسطور وكتابه المنظور ، وكما فصلته علوم المكاشفة والعلوم الإحيائية، يقتضي أن تندرج فيه كل السنن التي تحكم العالم الجامد والعالم الحي. وبما أن الإنسان تميزه خصائص أخرى، فهناك بالضرورة قوانين أخرى تتحكم في الإنسان.

هذه القوانين الخاصة بالإنسان لم يهتد لها علماء القرن التاسع عشر الماديون العلمانيون. أنى لهم ذلك وهم يعتقدون أن الكون الحقيقي إن هو إلا مادة وطاقة تنظمها قوانين الطبيعة. وكانت النتيجة المنطقية لهذا المذهب المادي أن يكون وجودنا نحن حقيقة مادية أيضا، علينا أن نفسرها على أساس المادة والطاقة والقوانين الطبيعية، حتى أن بعض الفلاسفة قام بتفسير الإحساس البشري والعواطف البشرية بل التفكير البشري نفسه بأنها جميعا تفاعلات كيمائية في خلايا المخ والمخيخ والنخاع. وتلك هي معالم الغرور التي نراها الآن واضحة في مجتمعاتهم لما يوجد بالضرورة من فارق زمني بين وعي العلماء المتواضعين ووعي الفلاسفة المغرضين ووعي العامة الخاضعين لدين الانقياد.

منهجيا ينبغي التمييز بين النظرية العلمية والاستغلال المذهبي لها للانتصار لمعتقد من المعتقدات. فهو مجرد تدليل عاطفي لا يمت للعلم بصلة، غايته أن يجعل ما هو نسبي حجة للهوى والأغراض. فبناؤه على جرف هار، ينهار في سقر إن استغل للتدليل على معتقد في فلسفة من الفلسفات الملحدة، كالمادية والوجودية والعبثية والعدمية والدهرية. فهؤلاء ينكرون وجود الخالق عز وجل، ويقولون إن المادة هي الأصل والإنسان طور نفسه بنفسه... فهذه مذاهب الكفر والعياذ بالله، نسميها بأسمائها الأصلية دون إقحام أسماء جديدة كالداروينية أو النسبية الفيزيائية أو غيرها من الأسماء التي اعتاد أصحاب المنهج العلمي إطلاقها على نظرياتهم العلمية النسبية.

كما أن استعمال النصوص الدينية للتدليل على صحة أو خطأ النظرية العلمية، هي مقاربة تقتضي كثيرا من الحذر والحكمة من لدن النظار العقلاء، لأن موقف النسبية والشك المنهجي في البناء النظري العلمي ينبغي الحفاظ عليه إذ هو  الطاقة التي تحرك عجلة البحث المستمر إلى ما لا نهاية في أسرار الخلق، والضوء الذي يعين على قراءة كلمات الله التي لا تنفد ولا يمكن أن تدرك إدراكا مطلقا لأنها غير متناهية. وأصحاب المنهج العلمي، بتواضعهم واعترافهم  بالعجز المسبق عن إدراك الإدراك، يدركون العجائب في سيرهم في الأرض للنظر كيف بدأ الخلق وكيف استمر. والذين قالوا إن الخلق وجد دفعة واحدة ولم يتطور، فكأنما حكموا على كلمات الله بالنفاد والتناهي، وهو ما لا يظنه العلماء الذين حسبوا بأجهزة الكمبيوتر عدد التركيبات المتاحة في تزاوج المورثات فوجدوها لا متناهية، وصدق الله العظيم وتبارك الله أحسن الخالقين: )قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (الكهف:109).

 داروين "المتفلسف" لا داروين "العلومي"  رأى أن عجلة التطور هذه، تدفعها عوامل الانتقاء الطبيعية والصدفة ولم يكن يعلم شيئا عن المورثات إلا ما كان يعبر عنه قديما بالدم والعرق الدساس... وحتى الصدفة لم تعد تعني شيئا، لأن لها خط مرسوم في إطار الاحتمالات الرياضية الحديثة. وكثير من عباقرة العلوم الرياضية حاليا تراهم يمضون أوقات تسليتهم في نوادي برمجة التطور[31]  لفصيلة من الفصائل بمساعدة الكمبيوتر الفائق السرعة في حل المعادلات الرياضية، بعد إدخال المعلومات الجينية لهذه الفصيلة أو تلك وعوامل البيئة المحيطة به. وهكذا يحصلون على معلومات عن تطور الفصيلة اقتضت ملايين السنين في ظهورها الفعلي من الفصيلة الأم.

فالصدفة التي ألح عليها داروين أصبحت لا تعبر عن الحقيقة، لأن الجينات الحاملة للوراثة يمكن بواسطتها التحكم في النتائج أو التكهن بها قبل التلاقح. كما إن العلم الوراثي درس بصفة مضبوطة ظهور الطفرات في الخلية ومقدار احتمالاتها، وكذا احتمالات التفاصل الذي يأتي إثر التزاوج... مما يفضي على النظرية صفة العلمية بامتياز عكس ما يقال عنها أنها شبه علمية.

كما أن العلماء الاحيائيين وجدوا عدة تفسيرات أخرى لعوامل التطور من ضمنها عامل التضحية عند الأنواع وهو ينافي تماما عامل الصراع من أجل البقاء، وعامل التطور التفاعلي بين النوع وفريسته، فتجد مثلا أن كمية السم الذي تنتجه "السلمندر" في تطور مستمر يحاول تجاوز مستوى مقاومته عند الثعبان الذي يتغذى عليه، فهو تسابق بينهما يزيد في سرعة بزوغ الفصائل التي تتباعد شيئا فشيئا، الى أن يبزغ خلق آخر لا يتزاوج مع النوع الأصلي... وغيرها من العوامل التي سنوضح بعد قليل أنها تتلخص في أربعة مسائل: الحفاظ على النفس وانحرافات الإسراف في شهوة البطن، وعلى النوع وانحرافات الإسراف في شهوة الفرج، وعلى العقل وانحرافات تسيبه، وعلى البيئة وأخطار الذهنية الاستهلاكية عليها.

قضية التطور واجهتها التفسيرية إذن ليست حقائق مطلقة وثابتة لا تتغير. إنها قابلة للمراجعة كلما وجد الدليل العلمي للتفسير البديل، أو لإكمال البنيان بلبنة علمية أخرى. أما استغلال النظرية لمناصرة المذاهب المارقة المادية الملحدة فهذا من عمل المغرضين الذين في نفوسهم مرض فزادهم الله مرضا. يرغمون النظرية  في مرحلة أولى أن تكون حقا مطلقا، ثم في مرحلة لاحقة يعتمدون على هذه القطعية المزورة للانتصار لمذهب من المذاهب القلقة.

نماذج من هذا التيه الأيديولوجي يورده يحيى هارون في موقعه الإلكتروني قائلا:

§                    استمد ماركس من نظرية داروين مادية الإِنسان وجعل مطلبه في الحياة ينحصر في الحصول على "الغذاء والسكن والجنس"، مهملاً بذلك جميع العوامل الروحية لديه.

§                    استمد فرويد من نظرية داروين حيوانية الإنسان وكوّن منها مدرسته في التحليل النفسي، وقد فسّر السلوك الإِنساني معتمداً عل الدافع الجنسي الوحيد في ذلك، فالإِنسان عنده حيوان جنسي لا يملك إلاّ الانصياع لأوامر الغريزة وإلاّ وقع فريسة الكبت المدمر للأعصاب.

§                    استمد دوركايم من نظرية داروين حيوانية الإِنسان وماديته وجمع بينهما بنظرية العقل الجمعي.

§                    استفاد برتراند راسل من ذلك بتفسيره لتطور الأخلاق الذي تطور عنده من المحرم (التابو) إلى أخلاق الطاعة الإِلهية ومن ثم إلى أخلاق المجتمع العلمي.

§                    والتطور عند فرويد أصبح مفسراً للدين تفسيراً جنسياً: "الدين هو الشعور بالندم من قتل الأولاد لأبيهم الذي حرمهم من الاستمتاع بأمهم ثم صار عبادة للأب، ثم عبادة الطوطم، ثم عبادة القوى الخفية في صورة الدين السماوي، وكل الأدوار تنبع وترتكز إلى عقدة أوديب".

هذا الاستغلال المذهبي الدوابي لا يحتوي على أدنى ذرة تتجاوب مع الفطرة والمنطق السليم، فهو كبيت العنكبوت وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت. ومن منا سيتردد في ترتيب دعاة هذا الاستغلال في  مرتبة القرد والنسناس، بل أحط وأضل؟ الويل والثبور للبشرية كلما سلمت زمام أمرها إلى هؤلاء "الحيوانات المرضى بالطاعون". فهي الحروب العنصرية والصراع من أجل الهيمنة، والثورات الحمراء، والدوابية الجنسية الجالبة للأمراض التي تتجدد كلما تمادى الناس في الفواحش، وهو الرجوع إلى الوثنية، و هو السير فى اتجاه العقم والاندثار. هذا ما نشهده في هذه الحقبة باديا للعيان عند الأمم التي تسوسها المذاهب اللاييكية الملحدة، عجل الله فك أسر الأمة المحمدية من سجنها.

أما استغلال النظرية لتفسير كيف أدرج الله الكون كله في الإنسان، ليكون في الأرض خليفة، وكيف كمال النشأة العنصرية النباتية الحيوانية الإنسانية لتستحق مبايعة الخلق قاطبة، وكيف ينطلق المتحقق في هذا المنزل ليكون لسان جميع الخلائق، لا أحد غيره مسخر لجلب المنافع لهم ودرء المفاسد عنهم دنيا وأخرى، وكيف تسعد البشرية عندما يتولى أمرها هذا الإنسان الراشد... فهذا استغلال محمود، من فوائده تيسير ضم المجتمع العلومي وكل المستضعفين المؤهلين للوراثة والمن الإلهي إلى حاضرة الإسلام لنصرة دين الله.

وبالنسبة للتكنولوجيا والتطبيقات العلمية المستنبطة من قوانين التطور والوراثة فهناك كذلك الجانب المذموم منها وهناك الجانب المحمود. وهذا موضوع أسال وسيسيل مداد المتتبعين لمسألة الهندسة الوراثية التي تستعد لدخول عصر الجينوم الإنساني، مع ما يعني ذلك من قنابل موقوتة تهدد البشرية في أخص خصائصها: ذلك الإعلام الوراثي الذي اندرجت فيه الخلائق كلها والذي تطلب تركيبه ملايير السنين، ولله الخلق والأمر، ونعوذ بالله من تبديل خلق الله.

 

 

الفصل السادس عشر: التطور والارتقاء إلى أين؟

 

 

{{ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ }}.

 " القصص:5 "

 

 

 

 

 

 

 

 

لنفرض جدلا أن عالما وراثيا أراد أن  "يحسن"  نسل الإنسانية  ما هو يا ترى الهدف الذي سيقع عليه اختياره؟ هدف الجثة الضخمة؟ أو اللون الأبيض والعيون الزرقاء والشعر الأشقر؟ أو هدف الذكاء الخارق؟ أو هدف الشعور الروحاني العميق؟ أو الشعور الصوفي المتواجد؟ أو مزيج من هذا وذاك؟..

ثم لنفرض أن هذا الهدف قد تقرر وأقيمت  أبناك لمنويات العباقرة والمختارين، وتحكمت التقنيات في الاستنساخ والتلقيح الأنبوبي وصناعة الجنين خارج الرحم...وقس على ذلك من الافتراضات التي لا شك أن المختبرات السرية تشتغل بها فعلا منذ زمان، هل يستطيع الإنسان أن يتنبأ بمصير هؤلاء الأشخاص المنتقين وسلوكهم عبر الأجيال ومدى مقاومتهم للأمراض ومدى صحتهم النفسية والأدبية ؟ إلى غير ذلك من علامات الاستفهام المثيرة للجدل والخيال العلمي والخوف العميق.

 

§        "السوبرمان" أم الإنسان الراشد؟

 

كانت اقتراحات فلسفية شتى لإعادة صياغة الإنسان، منها الاقتراحات النخبوية الأمريكية، كما اقترح أحد فلاسفتهم [32] حين قال: "إن مزاولة تحسين النسل الحرة تستطيع أن تؤدي لا إلى أفراد أقوى فحسب، بل أيضا إلى إنجاب سلالات وهبت مزيدا من قوة الاحتمال والذكاء والشجاعة. وهذه السلالات يجب أن تكون من طبقة الأرستقراطية التي يحتمل أن يظهر الرجال العظماء من بينها."  ونرى بطبيعة الحال أن هذا الاقتراح العنصري سيؤدي إلى طريق مسدود، سيما إذا لجأت الطائفة الملونة في أمريكا لنفس الأسلوب، السود والهنود ، أو الطائفة الإسبانية.

وذكر الطبيب المتفلسف كذلك اقتراحات لإعادة صياغة الإنسان، خلط فيها بين النخبوية والعنصرية والبافلوفية ، وزعم أن الأخلاق ليست إلا مجرد انعكاسات شرطية، وانتهى في الأخير إلى صياغة إنسان على صورة كلب ذكي مطيع. وبالفعل إن أفكار هذا الفيلسوف هي التي صاغت الإنسان الغربي المعاصر.

ويزيد قائلا والخطابُ ليس موجها لكل البشرية طبعا: "إن فصلهم، أي فصل الأطفال الموهوبين من أسرهم على هذا النحو يمكنهم في إظهار قوتهم الوراثية. كذلك يوجد في الأسر الأوربية الأرستقراطية أفراد على درجة عظيمة من الحيوية، إذ أن سلالة رجال الحروب الصليبية لم تنقرض بعد"

أما المقوم الروحي فلقد رتبه الباحث في مصاف العاطفة والشعور الفني،  وقال: " إن أصحاب هذا الشعور الذين لا يصمد حسن إدراكهم في كفاح الحياة العصرية، يجب أن يحاطوا بالرعاية ويهيأ لهم بيئة أكثر ملايمة لنمو صفاتهم المميزة والإفادة منها. أما ذوي العاهات والمشوهين والمجرمين فقد قرر التخلص منهم بكيفية اقتصادية وإنسانية بقتلهم بالغاز المناسب في مؤسسات صغيرة لهذا الغرض".

ومن العبر المضحكة المبكية أن هذا الطبيب الفيلسوف مات تحت القنابل، أثناء الحرب العالمية  الثانية، بعدما رآى بأم عينه نتائج الوصفة التي وصفها للغرب المتغطرس.

ظلت أمريكا ممتثلة لهذه الوصفة، وتم لها أن تستمر طويلا في خط التطور المادي المطرد، والاصطدام وشيك بينها وبين دول نهجت نفس النهج، وتنازعها قيادة العالم. مما جعل أحد زعماء فرنسا يقول: "العالم بائس، وهو بائس لأنه لا يعرف إلى أين المسير، ولأنه يعرف أنه إذا كان يعرف، فما هذا إلا لكي يكتشف أنه في طريق الكارثة".

وارتفعت مع ذلك أصوات متفائلة وضعت المشكل في معادلات العولمة كما صار له السياسي الذي اعتزل السياسة ليخدم الإنسانية بوصفة أخرى غير وصفات الاكتئاب والبؤس وصياغة سويرمان على صورة كلب.

لقد تنبأ الكاتب الفرنسي جان جاك سرفان شريبر في كتابه التحدي العالمي  الذي كتبه سنة 1984 - والذي يقال أن الصهاينة أقبروه لما له من تعاطف مع المسلمين- أن مجتمع الغد سينجو من الكارثة إذا هو برع في تفجير الطاقة الإعلامية بمفهومها العام الواسع، الذي يذهب من العقل الإلكتروني والكمبيوتر، إلى الإعلام الوراثي وتطبيقاته في الهندسة الوراثية. ولاحظ أن الدخول في غد أفضل للبشرية سيتحقق عندما تصعد دول العالم الثالث إلى مستوى السوق العالمية، وعندما تحصل على التكنلوجيا المتقدمة التي لا تحتاج للكثير من الطاقة، وإنما لسليسيوم الرَّمل لصناعة الكمبيوتر، ثم للعقل البشري لمنهجة العقل الإلكتروني.  ويرى كذلك أن مع استعمال الإنسان الآلي، سيكون هناك احتياج إلى اليد العاملة المتطورة. وبرهن على ذلك بما وقع لليابان، وما صارت له من احتياج أكثر فأكثر للإنسان، رغم توسعها في استعمال الإنسان الآلي، بعد تخطي العصر الصناعي الذي كان يكتفي باستعمال الآلة. ثم ذكر كذلك أن استعمال الصناعات البيولوجية التي تستعمل الهندسة الوراثية، ليس إلا تفجيرا للطاقة الإعلامية التي تحتوي عليها جينات  الحيوانات. ولقد صدقت معظم تنبؤاته إلا فيما يخص إشراك المسلمين في هذه الثورة العلمية الجديدة.

الكاتب يريد أن يستفيد من كل الإشارات الإعلامية، إلا أنه في ما يتعلق بالإعلام السماوي، ذلك النبأ العظيم  الذي يحدد الغايات، وينادي من أعماق الفطرة والتاريخ لتخليص البشرية من سجن الدنيا وجور الأديان، لا يرى في هذه الإشارات السماوية إلا مجرد  تراث ثقافي يجب علينا احترامه والحفاظ عليه، كما يحتفظ  بالفلكلور والفن، وتراه لا يعطي للمقومات الإنسانية إلا الأبعاد المتمثلة في ثروة الإعلام والمعرفة والعقل. أما البعد الروحي فيرتبه مع العقل ليس إلا. ثم تراه لا يتكلم عن السر في تقهقر حضارة الغرب إلا في ما يتعلق بسوء استعمال الآلة المتطورة في شكل الكمبيوتر، فهو بذلك تطغى عليه النظرة الآلية اللادينية المادية، ويحلم بإمكانيات تمديد تسلطها على البشرية لوقت أطول، ويقول إن سبب تطور البشرية راجع لحسن استعمال الآلة.

والواقع أن هذه الوصفة وإن كان فيها جانب من الصواب بخصوص الوسائل الدنيوية التي تحقق تسخير الكون لخدمة الإنسان، جاءت نشازا مستهجنا وسط أقوام من المحتكرين الربويين المتسلطين على الشركات والمؤسسات المالية. هذه الأوساط لم ترقها دعوة شريبر لإشراك المسلمين في التكنولوجيا المتطورة التي لا تحتاج إلا لقليل من المادة ولكثير من الذكاء العقلي.

وفعلا تحققت تنبؤات هذا السياسي المغمور بعد عقد من الزمن تقريبا، لكن في غياب أي إشراك للمسلمين في هذه الثورة الجديدة. ونحن نرى اليوم أن الهاتف المحمول، مثلا، لا يزن سوى غرامات محسوبة، وصل للراعي في الجبل وللتلميذة في المدرسة، وليس لنا أي مساهمة في صناعته، لسنا سوى مستهلكين، غلبت عليها الأمية التكنولوجية تحت حكم اللاييكية التي تدين للغرب بالولاء اللامشروط وتفتح له أسواق المسلمين وتزوده بثرواتهم وأدمغتهم وطاقاتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.

بعض المحللين لا يربطون تأخرنا التكنولوجي بعامل المؤامرة الداخلية والخارجية، معللين ذلك بأن السيادة على عالم التكنولوجيا طارت كما يطير العصفور من القفص من يد فرنسا التي تسيطر علينا بحكم توزيع العالم إلى مناطق النفوذ الموروثة من عهد الاستعمار. ويرون أنها غير قابلة لرفع تحدي "التنمية الإشراكية" كما حدث لمنطقة التنينات الأسيوية بزعامة اليابان، لأن مرض الشيخوخة أصابها كما أصاب طاقتها البشرية، حيث بلغت نسبة الشيخوخة بين سكانها حدودا مخيفة. والقوة العاملة التي تؤخر ساعة التداعي الحضاري والانهيار الاقتصادي هي تلك القوى البشرية التي نمدهم بها بسخاء.

والحقيقة أن منع نقل التقانة الدقيقة للمسلمين مثل منع الناس من الهجرة في أرض الله الواسعة لهي دعوة بليدة، لأن العقلاء يعرفون أن احتكار العلم والتكنولوجيا هو أمر مستحيل. فهي ثروة بشرية شاركت كل الأمم في وضع لبناتها عبر الأجيال، وخير دليل على ذلك هو ما لكوريا والصين وتايوان حاليا من سيادة في هذا الميدان.

لازالت الحضارة الغربية تفرض وصايتها على هذا التراث الإنساني، ولازالت أهدافها هي رفع المستوى المادي لمواطنيها فقط، في إطار مجتمعات الربا والاحتكار والتبذير المشجع الذي لا يعرف حدا للاستهلاك المسرف الجالب للسرطان، والجشع الظالم الهادم للحضارات.

فيلسوف غربي آخر يرى ما يمكن أن يتمم رؤية  شريبر، فلقد حذر توينبي في ختام كتابه "المغامرة الكبرى للإنسانية"  قائلا: " إن الإنسان يمكن له أن يغتال الأرض وما عليها بإسرافه بالقوة التكنولوجية الدائمة التطور، ويمكن له في خط موازي أن يحرر هذه الأرض إذا تغلب على جشعه الفتاك الذي يدعو للانتحار، هذا الجشع الذي يمثل ثمن الحياة في الأرض الذي تؤديه جميع المخلوقات بما فيها الإنسان. وهذا هو السؤال الغامض الذي يواجه البشر اليوم".

 ومع ذلك لازالت أهداف هذه الحضارة الغربية المتخمة بالوسائل هي المزيد من الهيمنة على الشعوب المستضعفة والسطو على ثرواتها لرفع المستوى المادي لمستكبريها. ولم تكن حتى الآن أية دعوة لمحاربة الإسراف والجشع والاستكبار ما خلا تلك الدعوة المناهضة للعولمة التي تجمع حاليا حركات الخضر وحركات مقاومة المضاربات الربوية وغيرها. ولا زالت سياسة  الغاب قائمة في كل شراستها وجاهليتها غير عابئة بالحركات المناهضة لها، وكأن الغرب استحال عليه التحكم في مصيره،  شأنه شأن الأنواع الحيوانية التي اندثرت، وتلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا. 

خلاصة لما سبق، هناك بشرية متخمة بالوسائل، كما سبق أن أشرت له، تعيش حالة من الاكتئاب المزمن، تشعر أنها على وشك الانتحار لافتقادها للغايات، بعدما انتحلت دينا جديدا سمته اللاييكية، يقدس الطبيعة، ويحكم قوانينها حتى في مجال الغيبيات. وهناك بشرية، تعدادها مليار ونصف من المسلمين، رغم استخلافها على أسرار الغايات، يكبلها عوز الوسائل، فلا يكاد يسمع لها صوتا، ولا يكاد يستقل لها وجود خارج هيمنة الغرب. وبقدر شحنا كمسلمين في إفادة الغرب بكنوز الرسالة السماوية المبينة للغايات، بقدر ما يشح علينا في إفادتنا بما أتاحه العلم من وسائل لتسخير الكون. فهل سيستمر هذا الشح من الجانبين؟ ومن الخاسر في النهاية؟

 

§        قانون المن على المستضعفين أم قانون البقاء للأقوى؟

 

إن القوانين التي قررها الله في كتابه وفي سنة نبيه عليه الصلاة والسلام وعلى  آله، تظهر للعلماني مخالفة للعقل. فمثلا قانون المن على المستضعفين وظهورهم على المستكبرين هو قانون ثابت ومجرب يطبق حكم الله الواضح في قوله تعالى: )وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص:5)، وقوله تعالى: )وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (الكهف:59). هذه ظاهرة مجربة، تتكرر في التاريخ بصفة مطردة، إلا أن العلماني ينكر ذلك لأنه يقرن التمكين بالقوة المادية فقط. العقل المادي لا يستطيع أن  يضع معادلات للإحاطة بهذا الأمر، بل يخطط سياسات وقوانين للمزيد من الظلم والتجبر والطغيان، للانزلاق رغم أنفه في مهاوي الهلاك طبقا لما قرر الله. وتلك هي الحتمية التي نجد في سنن الله، لا مفر منها إلا لمن تاب وأصلح، وذلك نادرا ما يحدث، ندرة تؤكد القاعدة. حدث ذلك لقوم يونس وأمة القرآن لقوله تعالى: )فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (يونس:98)، وقوله تعالى: )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الانبياء:107). وباستقراء سنن تاريخ الإسلام نجد ندرة في ارتفاع سوط عذاب الله عن الطغاة.

وستكون إن شاء الله كرامة يفرح بها المؤمنون إذا ما أنعم الله على هذه الأمة المسلمة بالرجوع لحكمه تعالى بتوبة اللاييكيين الذين يسيرون أمر شعوبها. وترقب الكرامة لا يتنافى مع الموقف العلمي الموضوعي الذي تقول قوانينه وسننه الثابتة إن الترف والتوبة النصوح ضدان لا يجتمعان. قال تعالى: )فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) (هود:116). وقوله: )وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) (سـبأ:34). وقوله: " )وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (الاسراء:16)

الترف والإسراف والفسق عوارض وأمراض تنذر بهلاك الأمم في الدنيا والآخرة، سنة سنها الله في كونه، وسخر لها قوانين علمية ثابتة يكتشفها العلم في زماننا وكذلك في الأزمنة المقبلة طبقا لقوله تعالى: )سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53).

وإذا قارنا أحكام الشرع وسنن الكون الثابتة نجد أنها موحدة في الأصل، فكلها أمر من المشرع المطلق سبحانه. فالذي أوجد قانون ترجيح المادة على المادة المضادة في بداية الكون ليظهر الوجود من خزائن جوده سبحانه، هو الذي قرر في سابق حكمه  " سبقت رحمتي غضبي" وهو ميل الحق لجانب الرحمة التي وسعت كل موجود، وكتبها خاصة في الآخرة للمحسنين الذين يريدون وجه الله.

والذي يقذف الحق على الباطل فيدمغه، هو بالذات من سن سنة المن على المستضعفين في عالم الخلق. )بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء:18).

والقوانين الشرعية هي  بالضرورة أكثر سموا في المرتبة من القوانين الكونية التي تحكم المادة، لأن الإنسان بفطرته وروحه وعقله خلق أسمى من الجماد والنبات والحيوان، والكون كله مسخر للإنسان، والإنسان شرفه الله بمعرفته ومحبته وعبادته للتخلص من سجن شبحه الطبيعي.

والإنسان المرحوم دنيا وأخرى يطبق قوانين الشرع فيعيش في سمو وتطور متزن في جميع مقوماته، وهذا بالنسبة للفرد، وكذلك الحال بالنسبة للجماعة. وإذا أعرض عنها بعد التعرف على هديها، فإنها تطبق عليه حدا بواسطة السنن الكونية الثابتة أو الخارقة في عالم الشهادة وكذلك في عالم الغيب. وينتهي في خسرانه إلى النار بالنسبة للفرد، وإلى تدمير الحضارة وزوالها، بالنسبة للجماعة المنحرفة.

نخلص لنتيجة واضحة: السنن التي تتحكم في الكون مهما بلغت من التعقيد والدقة، تبدو وكأنها قوانين تطبيقية للشرع المنزل على الرسل عليهم الصلاة والسلام. والرسالة نزلت بتمامها وكمالها عندما نضج عقل البشرية لتلقيها وتدوينها، وقد آن الأوان للإنسانية أن تطبقها. فلقد طبقتها في عهد النبوة وعهد الخلافة الراشدة، وكان التأثير عظيما على الإنسانية جمعاء، لكن سرعان ما بدأت تنحط عندما طغى طوفان النسيان والترف والفاحشة والطغيان. وفي عصرنا هذا ظهرت معالم في الطريق تفيد أن البشرية وصل عقلها لاستيعاب أمر السماء، وضرورة تطبيقه إذا أرادت أن تعبر بسلام تحديات التدمير النووي، وأخطار العبث بالجينوم البشري، وتقلص النسل، وتفشي مرض السيدا، وظهور السمن، ولعنة الاقتصاد الربوي... وغيرها من القضايا الكبرى التي تطرح في زماننا بحدة خاصة في المجتمعات المترفة. ولست بواقع في فخ " عبادة العجل الذهبي أو صنم التنمية " فأضيف مشاكل الفقر في مجتمعاتنا إلى قائمة القضايا الإنسانية الكبرى لسببين:

·        أولهما الحذر من أرتكاب مخالفة مع الهدي النبوي الذي حذرنا في قوله صلى الله عليه وسلم: (.... فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها كما تنافس من قبلكم فتُهلككم كما أهلكتهم) متفق عليه من حديث عمرو بن عوف.

·        ثانيهما ما الفقر إلا نتيجة الحكم بغير ما أنزل الله الذي يفرضه علينا دين اللاييكية، غدرا جاثما على رقاب المسلمين، وقع والعياذ بالله في خطر مخالفة أمر الله: )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل:90).

هذه محاولة في التأمل في سنن الله المسيرة للبشرية المغيبة في علم الاجتماع، للعثور على هندسة تغيير اجتماعية مقصدها السمو بالبشرية في المقومات التي خلقت من أجلها. محاولة منهاجية تضعنا على طريق جمع شتات التأمل، وتساعدنا على فهم ما نراه ميدانيا بخصوص الظواهر المرضية المتفشية في العمران البشري المعاصر. حتى إذا تم التشخيص سهل وصف الدواء الذي يداوي أسقام الخلائق. وقبل هذه الوصفة لا بد من تعميق الفحص بمنظار سنن الله الثابتة. 

عندما نطلع على قوانين الشريعة في تدبير شهوتي البطن والفرج، وبعد اطلاعنا على قوانين طبيعية معروفة تربط الخصوبة التناسلية سلبا بالإسراف في تلبية هاتين الشهوتين، يمكن فهم ما يحدث للغرب حاليا.

لقد بلغ إسراف الغرب في إشباع هاتين الشهوتين درجة لا مثيل لها إلا عند الأمم الذين .."َصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ " فظهرت المعالم الأولى للوعيد: تفشي العقم وتقلص النسل وظهور السمن، وهذا قانون يعرفه الطبيعيون ويستغلونه في التقنيات الإحيائية النباتية والحيوانية.

لقد لاحظ المعهد الفرنسي للدراسات الديمغرافية أنه لا توجد أية علاقة بين تقلص النسل في المجتمعات الغربية والتشريع المنظم للإجهاض. واستدل على ذلك بواقع البلدان التي تمنع الإجهاض التي تشهد بدورها نفس التقهقر في الزيادات. وكذلك الحال في الكتلة الأوروبية الشرقية. كما لاحظ مدير هذه المؤسسة أن هذا المرض ليست له علاقة بعقاقير ووسائل تحديد النسل. وقال: "ونحن إذا فرضنا أن فرنسا ألغت نهائيا هذه الوسائل بواسطة تشريع صارم فسوف لن يحدث أي تغيير في نسبة انخفاظ النسل". واستدل على ذلك بما وقع لبلدان نهجت هذا النهج فمنعت تحديد النسل والإجهاض. لذا قال أحد علماء التاريخ الفرنسي بيير شونو "إن كل سنة تمر إلا وتقربنا من اللحظة التي سيتضح لنا أن حضارتنا تحتضر".

والظاهرة لا تستثني أي بلد من البلدان المترفة كندا والولايات المتحدة وأوروبا الشرقية واليابان .

ومن المعالم الأخرى التهافت على الفساد والدوابية والانحلال والخواء الروحي وتفشي القلق ةالكآبة والأمراض النفسية. رمز ذلك نراه في الانتحار الجماعي الذي حدث في غوييانا بأمريكا سنة 1979  حيث انتحرت جماعة يبلغ عدد أفرادها ما يقرب من ألف شخص دفعة واحدة بعد تناول المخدرات.

أما تدهور الأخلاق فحدث ولا حرج، تتابعت مراحل الانزلاق بسرعة فائقة، وتجاوز التردي جميع ما سبق عند الأمم الغابرة. وظهرت أمراض لم تكن معروفة من قبل كالسيدا وغيره...

والغريب في الأمر أن ظاهرة تقلص النسل وظهور السمن[33] بدأت تجتاح بعض الدول العربية المترفة التي هجمت عليها شركات الماكدونالد والكانتيكي كما حدث في جزيرة العرب، وبلدان أخرى انتشرت  الفواحش فيها برعاية الدولة اللاييكية كتونس والمغرب.

 

الفصل السابع عشر: استنباط قوانين للسمو بالإنسان

 

 

{{ وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}}.

"سورة العصر".

 

                             

 

 

 

 

 

 

 

 

إن من الحقائق التي تهجم على المتفكر في بديع صنع الله ما يهدم بناء التفاسير المادية للتاريخ، ويبطل  القوانين اللادينية لتسيير المجتمعات، ويفتح لنا آفاق نظرات أخرى في التاريخ والعلوم المستقبلية الإنسانية.  يوفقنا النور الهادي إن شاء الله إلى هذا التفكر العبادي، بعد فك أسر عقولنا وقلوبنا من إرهاب الفكر الكنسي التلمودي وهيمنة القديسة اللاييكية. نتوسله دون الاعتماد عليه للتعرف على الخالق البارئ المصور تقدست أسماؤه. تفكر يسبح في عوالم الملك والملكوت بجناحي الطبيعة والشريعة، ويستنبط من شتات التأملات قوانين الوحدة العميقة التي تجمع الخلائق، ويكتشف فاقتها الوجودية للنور المطلق الذي به ظهرت للوجود، ف )اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النور:35). وقد كفتنا هذه الآية، وحقيقة سريان النور في عناصر الكون التي فصلتها لنا العلوم الحديثة، ذلك الجدل الذي لا زلنا نسمعه بين الصوفية والسلفية، حول قضايا الحلول والاتحاد ووحدة الوجود...إذ الكون كله نور الله الذي به ظهر الوجود.   

 ويزداد حبا وشوقا لا نهاية له لمعرفة موجده العظيم، الذي ما خلقه إلا لمعرفته  )وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56)، أي ليعرفون كما فسره ابن عباس رضي الله عنهما. فيرتقي في مقامات القرب والتوحيد، يدخلها من باب الشريعة تذكر له الحديث القدسي الذي  جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة  رضي الله عنه أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال إن الله تعالى ، قال : ( من عادى لي وليـًا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطشُ بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينَّه ، وإن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مساءته )

"فإذا أحببته كنتُ" ... إن شئت فسمه قانون المحبة [34] ، حب الله لعبده، ومحبة العبد لمولاه، ومحبة رسله، ومحبة المؤمنين، ومحبة خلق الله... قانون بدؤه كالقوانين الكونية الأخرى، صدر عن المبدئ الودود، ثم سري قوة جاذبة في جزيئات النور يصهرها في جوف المجرات لترتقي خلقا آخر: إلكترونات ونوترونات وجزيئات أخرى في غاية الصغر لا تحصى أنواعها وخواصها. جاذبية الصهر الهائلة في قلب الكواكب مكنت من تكوين ذرات العناصر الطبيعية بعضها من بعض، من الهيدروجين إلى اليورانيوم وغيرهما، اكتشف تسلسلها علماء الكيمياء المسلمون، وكمل بنيانها الروسي "مندلييف".

صبا بعض هذه العناصر إلى البعض في ظروف يعرفها علماء الكيمياء، ولكن دائما تحت وازع البذل والتشارك في الإلكترونات، فتكونت المركبات العضوية، كالدهنيات والنشويات والبروتينات والفيتامينات... وهكذا حتى أظهر الله منها خميرة الحياة وهي خميرة آدم من ماء وطين، ثم من ماء مهين، وهو ما يعرف ب " ADN" ، لبث ملايير السنين لا يتكاثر إلا نسبا، "   reproduction assexuee " ولا يتطور إلا عبر الطفرات ( mutations  )، ثم صهرت بين خلية  الذكر وخلية الأنثى، فصار التكاثر عبر التزاوج، والتطور عبر الطفرات وعبر التفاصل ( hybridation )،  إلى أن تطورت نشأة نباتية حيوانية بشرية، سواها فاطر السماوات والأرض ونفخ فيها من روحه، تلقيحا آخر، أعطاها السمع والأبصار والأفئدة، فبلغت درجة الرشد إن تعرفت على ربها وتذكرت شهادة التوحيد التي أشهدها ربها وهي في نشأة الذر. ثم بلغت تلك النشأة الواعية الراشدة درجة الاستخلاف الذي يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، باقتفاء أثر الرسول وورثته المجددين لدرجات القرب من الله.. ثم النشأة الآخرة، بعث على منابر من نور، بشرى لمن اتخذوا المحبة قانونا ودستورا للحياة وبعد الممات، رابطة في الله من غير دنيا تجمعهم ولا أغراض زائلة تخاللهم ....

لكن هذه النشأة الإنسانية كان لها ما كان مع إبليس، وعدها ومناها وما وعدها إلا غرورا، وأخرجها من الجنة، وتوعد ذريتها. فإن انقادت هذه الذرية له نافرة من دعوة الرسول، فهي نشأة متردية في دركات النقصان، لا سبيل لها إلى درجات الرشد والاستخلاف.  

هي إذن طريق السمو في درجات الإحسان " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك." شوقك لاكتشاف هذه الأسرار العظيمة يشحذ همتك لتبحث عن الصراط المستقيم لمعرفة ربك، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم وهم اليهود، ولا الضالين وهم النصارى، الذين لم يستجيبوا لداعي الله خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم.

وبما أن السبل المتنكبة عن الحق كثيرة وعلى رأس كل طريق إبليس يدعو الناس إليه، مغريا إياهم بالشهوات وبحياة الخلود وملك لا يبلى، اقتضى الأمر تأكيدا لحجة الله في أرضه، تردد الروح الأمين بين أفلاك السماء والأرض، جبرائيل عليه السلام الذي وكله الله بإحياء القلوب، ، فألبسه لباس البشرية حتى يراه ويسمعه من حضر، يسأل النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله عن الإسلام وعن الإيمان وعن الإحسان فيجيبه ويصدقه تعليما وإشهادا لمن حضر المعجزة العظمى[35].

فتأمل أخي في قانون المحبة هذا كم هو جامع مانع يعطيك تفسيرا متماسك البنيان لبدايات الخلق وغاياته، دنيا وأخرى لا يستثني زمانا ولا مكانا، الكون كله شاهد على صحته، والخلائق كلها خاضعة لحكمه وسطوته.

وتفكر كذلك في التطبيقات التي يمكن استنباطها منه. بداية من عالم الجماد إلى عالم الجماعة المستخلفة في الكون، مرورا بكل الخلائق الأخرى. وابدأ بالأمور البسيطة وقس عليها للتعرف على أسرار التأليف بين قلوب المتحابين في الله. فإذا رأيت أن ذرة الهيدروجين تنفر من ذرة الأكسجين لأن الإلكترونات السالبة السابحة في أفلاكها تقتضي التنافر، فلا تسأمن، وادفعهما بقوة عقد زواج شرعي يحترم المهر. فإذا وصل تقاربهما إلى مسافة برزخية، أضحى التداني بديلا عن التنائي، ووقع جذب قوي وانفجار ينشأ إثره عنصر الماء، وما المهر سوى إلكترون واحد،  قدمه الأكسجين يصير شركة بينه وبين الهدروجين يكمل عمارة أفلاك الذرتين. والطاقة التي صرفت لتقريبهما، أقل بكثير من الطاقة التي نتجت عن انفجار انصهارهما. قانون معروف في علم الكيمياء منذ بداية القرن الماضي، والمستقبل يتنبأ لطاقته أنها الطاقة النقية البديل لطاقة النفط [36]. وما الطاقة والضوء المستمدة من الشمس إلا نتيجة الانفجارات التي تحدث عند انصهار ذرتي الهيدروجين تنشأ عنه ذرة الهليوم...وقس على ذلك...إلى أن تعثر على تفسير خلق الكواكب والمجرات والثقب السوداء التي تجذب كل شيء حتى النور... تصهر فوتوناته ...

 

أما في العالم الحي فلا يخفى على المتأمل المستبصر ما يحدث عند تلاقح خلية الذكر وبويضة الأنثى، قوة غريزية دافعة للتزاوج، والمهر عبارة عن نصف مورثات الذكر ونصف مورثات الأنثى تنجمع في نشأة أخرى مغايرة لما قبلها. والقانون يبقى سائدا من أسفل مخلوق يمكنه التناسل، إلى أعلى مخلوق. فمثلا حيوان البراميسيا الذي يتكاثر في المياه الضحلة والذي نلاحظه تحت المجهر، إذا وضع في بيئة متوفرة الموارد، فإنه يتكاثر بالطريقة الانشطارية المحضة، وهذا النوع من التوالد يعطي أفرادا كاملي الشبه بالخلية الأم في عملية الإنقسام، بعدما تركب الكروموزومات من موارد الخلية كروموزومات أخرى شبيهة لها في كل مكوناتها. وهذا يحدث كذلك لخلايا الجسم التكاثرية. فإذا بدلنا البيئة المحيطة بهذه البراميسيا بتقليل الماء والغذاء، نرى في المجهر تفاعلا عجيبا يقرب لنا فهم قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) : بعض هذه الحيوانات تلعب دور الإناث والبعض الآخر يلعب دور الذكور فيقع شبه تزاوج، يتم إثره إدماج نصف كروموزومات الذكر داخل الخلية الأنثى، التي تتخلى بدورها عن النصف الآخر لصالح مولود جديد يرث من الأم ومن الأب.  ثم يحيط هذا المولود نفسه بغشاء صلب، ويلعب دور بذرة يتم بواسطتها تجاوز الظروف البيئية الشحيحة، وربح شيء جديد في مجال  التطور، عكس ما يحدث في التكاثر الانشطاري، الذي تنتج عنه صور طبق الأصل فقط. لذا يقال إن الطريقة الجنسية للتوالد تزيد من تنوع الرصيد الوراثي بالتفاصل وكذا بالطفرات، أما التكاثر الانشطاري فلا يغير الرصيد الوراثي إلا بالطفرات التي غالبا ما تكون مضرة بالنوع، كمثل الطفرات التي تحدث في خلايا جسم الإنسان عند ظهور ورم السرطان.

القوانين الكونية المتحكمة في مملكة الأحياء تجملها العلوم البيئية الحديثة في أربعة أركان: الحفاظ على النفس؛ الحفاظ على النوع؛ الحفاظ على العقل؛ الحفاظ على الطبيعية.

وهي بالضبط مقاصد قوانين الشريعة التي تكلم عنها الأصوليون المسلمون، بزيادة قانون خامس : مقصد الحفاظ على الدين، ويضعونه في أول القائمة.

الأبحاث في المختبرات على قدم وساق لاكتشاف أحسن الطرق والوسائل لتحقيق تلك الضروريات، بالشكل الذي يسمو بالإنسانية في مقوماتها وقيمها التي تتميز بها عن المخلوقات الأخرى. وحتى الآن كل ما اكتشفوه من وسائل مجربة، كانت قوانين الشريعة قد أرشدتنا لأحسنه، وثبتت صحته بتواتر التجربة. وقد خصصنا في بحث آخر عنوانه " العلمانية وسيطرتها على سياسة المجتمع الإسلامي..."  فصولا لتوضيح ذلك، نذكر بعضه بإيجاز.

الحفاظ على النفس بالإسراف في المأكل يحدث وسواسا قهريا يفضي إلى السمن والإعاقة، ويعم فئة عريضة من المجتمعات الغربي ةيقض مضاجعها ويكلفها ملايير الدولارات؛

الحفاظ على النوع أو النسل : مختبرات الغرب وجدت سر انخفاظ خصوبة نسائهم، بدراسة ظاهرة تفشي العقم عند المستمتعات بأكثر من ذكر" العاهرات" (تسرب بعض المنويات إلى الدم يحدث تلقيحا ضد المنويات عامة). وظاهرة العقم  وطول مدة تجدد الأجيال من أخطر المشاكل التي يتخبط فيها الغرب المترف.

الحفاظ على العقل وعلاقته بظاهرة التزاوج بين الأجناس البعيدة عكس ما يحدث عندما يتكرر التزاوج داخل حلقات القرابة المتكررة. علاقته العكسية أيضا بالمخدرات والخمور والإعلام الشيطاني والدعاية المغناطيسية...

الحفاظ على المال والثروات الطبيعية باكتشاف التأثير السيئ للمعاملات الربوية والاحتكارية والاكتناز؛ واكتشاف الأساليب المستدامة لاستغلال ثروات الطبيعة.

وكل ماتعثر عليه المختبرات الغربية توجد كنوزه في شريعة السماء، ولكن شريطة الاعتراف بالركن الخامس : ضرورة الحفاظ على الدين وهو الاعتراف برب العالمين وبآخر رسالة وشرعة نزلت على رسوله للناس أجمعين، منهاجا لمن  أراد منهم أن يكون من المستخلفين، وتحذيرا من سلوك سبل الخاسرين في الدنيا والآخرة.

 

 

الفصل الثامن عشر: الغايات الاستخلافية

 

 

 

 

 

 

 

 {{  أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}} "

الأنعام:89".

 

 

 

 

 

 

هذه أدوات وأفكار لواقح يمكن استعمالها لفهم الظواهر الاجتماعية وتطبيقها في تكنولوجيا للسمو بالإنسان ومنعه من التردي في دركات الخسران دنيا وأخرى. نكتشف من خلالها سر التأليف بين القلوب، الذي سنه الرسول الرحمة المهداة، بدءا بأفراد متفرقين بل أعداء متناحرين، يأتيهم عبد الله الجامع بدستور المحبة، صحبة وجماعة، ويدفعهم للتجالس في الله، من أجل ذكر الله بقوة أمر الله: )وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف:28)، فيرقون إلى مرتبة الصحبة والجماعة. عربون المحبة ومهرها خصلة البذل والفتوة، تنشأ عنه سعادة يجربها الفرد أعظم من سعادة الشح والبخل والفردانية والانزواء. وشيئا فشيئا، تنشأ الجماعة كالبنيان المرصوص، يصدق عليهم حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: ( مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) رواه مسلم. ويزيدهم في قوة الرابطة بشرى استحقاق محبة الرب من فوق سبع سماوات. حتى إذا أحبهم رب العزة صار سمعهم وبصرهم ويدهم وأمر سكان الكون كله بمحبتهم فيوضع لهم القبول في السماء والأرض ، خلافة قطبية كما وصفناها فيما سبق.[37]

التعرف على قوانين الله الكونية وقوانين الله الشرعية والحكم بمقتضاها يحقق العدل بمفهومه الشمولي.

فإن أتى اللاييكي يريد بتر هذا العدل الشمولي بالاكتفاء بتحكيم القوانين الكونية، كما جاء به الفلاسفة "المتنورون" المناهضون لانحراف الكنيسة، وقد أسهبنا الحديث عن تلبيساتهم، رفضنا دعوته، خاصة إذا صدرت عن أصحاب التزوير التلمودي الذين يقودون العالم النصراني حاليا انصياعا لتعاليم مؤسس الفكر اللاييكي "سبينوزا اليهودي". ولا نخفي عليه أننا قد خبرنا بدعة البرغواطية الجديدة وأصولها التي تتفق مع أصول البرغواطية القديمة.

وإن أتانا النصي الذي لا دراية له بقوانين الله الكونية ولا ذوق له في قانون المحبة، متوعدا عيال الله إن لم ينقادوا لرأيه، قلنا له إنك بترت الشريعة من الجانب الذي قال فيه نبي الرحمة المهداة " أنتم أعلم أمور دنياكم" وضيقت ما شرع الله فيه بالسكوت عنه رحمة بالخلق. ولقد شدد أحبار بني إسرائيل في السؤال فشدد الله عليهم.

ثم هب أن هذا المؤمن بحر في علم الشريعة، لا بد أن نسائله وهو يريد القيام بالقسط والحكم بما أنزل الله ما نصيبه من الربانية التي تنور العقل والفهم والإرادة لكي تدور مع الحق حيث دار مع الرحمة بعيال الله؟  وهل أوتي شيئا من الفهم في كتاب الله المسطور وفي كتابه المنظور لمعرفة ما يصلح عليه أمر عوالم الجماد والنبات والحيوان فضلا عن أخيه في الإنسانية؟ وبدون هذا الغاية الإحسانية الناظرة بعين الرحمة المهداة والحريصة على محبة خلق الله، كيف يتأتى ذلك الاستخلاف القطبي الذي تسعد في زمانه جميع المخلوقات، وترضى له بالنيابة، ويسخر لمشروعه العدلي الإحساني جميع خلق الله؟ وبدون هذه الشفقة والرحمة،  كيف يتم في عصرنا جمع شمل الصادقين في طلب الحق والعدل ليشمل الخير والصلاح جميع عيال الله، خاصة أولئك الذين استضعفوا في الأرض واستخفهم المفسدون المتألهون في الأرض، ووكلاؤهم الذين يحكموننا نيابة عنهم بدين اللاييكية؟

وإذا جاءنا الصوفي المنعزل في صومعة رهبانيته، المتلذذ بأنوار كشوفاته، وأماني مرائيه، وخدمة وتقديس الناس له، قلنا له: لمن تركت ساحة التدافع بين الحق والباطل وأمر الحكم بما أنزل الله التي يمحص الله بها عباده، أيدورون مع الحق حيث دار، أم يتركون الساحة المدبرة لأمر المسلمين، للبرغواطية [38] الجديدة التي تحكم شرعة اللاييكية؟

أما الصوفية الجهادية التي تتخذ من الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر منهاجا كما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، فمن المحال أن لا يقبل عليها المسلمون، حكاما ومحكومين، جماعات وأفرادا، لنصرتها بكل ما أوتوا من قوة. ومن المستحيل أن يخلفها الله وعده الاستخلافي. وإن كان هناك تأخر في الفتوحات القلبية التأليفية، وفي فتوحات القوة المادية، فما هو إلا تحذير واستنفار لها لتراجع نفسها: كم هي مسافة بعدها عن كلمات الله الشرعية، وكلماته الكونية.

وتلك سنة دأب عليها السلف الصالح بدون حرج ولا تردد: كانوا إذا تعسر عليهم فتح حصن من حصون الأعداء الظلمين، يتساءلون بينهم أي فرض، أي سنة فرطنا فيها؟ وقصص ذلك النقد الذاتي المقيم والمقوم للزيغ عن العدل الشمولي المراعي لقوانين الله الكونية وقوانينه الشرعية كثيرة في تاريخ الأمة.

وهذا بديهي لمن ألقى السمع وهو شهيد: كيف يمكن التأليف بينها وبين عامة أهل السنة الذين لا يرون العصمة إلا للرسول صلى الله عليه وسلم، ويرون أن الاستغاثة بالشيوخ الغائبين وبالموتى هي عين الشرك. والشرك ظلمه أعظم من ظلم الحكام المتجبرين: ظلم الحكام ربما وصلت جبروته إلى النشر بالمناشير، كما فعلوا بأصحاب الأخدود، لكن ينال بعدها الشهداء المراتب الرفيعة في الجنان، والجبابرة يجزون بما كسبت  أيديهم دركات النيران. ومختبر التاريخ فيه الكثير من أخبار الذين حق عليهم القول من الأولين والآخرين.

أما ظلم الشرك فخطره على الدنيا والآخرة عظيم. فلا مجال إذن للمقارنة بين النوعين، الفرق شاسع والأمر خطير، لا يسارع في المجازفة فيه إلا مسلوب عقل  سكران، أو تائه في أحوال السلوك حيران.  

المراجعات كذلك ملحة بالنسبة لكيفية فهم واحترام كلمات الله الكونية. جماعة تقفو بغير علم في المجالات التي يخوض فيها أهل النظر العقلي الذين يمثلون معتزلة العصر، والعلمانيون ينصبون أنفسهم خلفا لهم - يتوهمون-  كيف لها أن تطمع في ضمهم لمناصرة مشروعها، وهم يرون مدى تنكبها عن الصواب في موقفها مع النظرية العلمية، نظرية التطور نموذجا. وغير ذلك من المراجعات التي ليس من موضوع الكتاب الكلام عن تفاصيلها... 

وإن أتى الشيعي يشتكي تكفير الوهابي له قلنا له مهلا يا أخي في الإسلام، تستعظم ذلك في حقك ولا تستعظمه في حق الشيخين؟ وقد تسعد بمحبة من كان الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه، وقد تشقى إن خرقت قانون  ودستور المحبة لله ولرسوله وللمؤمنين، الذي جاءك خبره القدسي[39] .

 

نعم، مشروع جمع شمل الصادقين في طلب الحق والعدل ليشمل الخير والصلاح جميع خلق الله لا يزال في بدايته.

وكلما أذن زمن الخلافة الظاهرة التي يرضى عنها ساكن الأرض وساكن السماء، سطعت بشائر الغيب واضحة وضوحا لا لبس فيه، تكاد كل المخلوقات تشهد بهذا الحدث العظيم وتؤازره. هكذا تراها في عصر النبوة تنطق بذلك نطقا يسمعه من حضر زمن المعجزة. ذكر الحافظ أبو بكر البيهقيّ رحمه الله نموذجا لهذا النطق وعلاقته بالخلافة: حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي قال‏:‏ " لا أذكر عثمان إلا بخير بعد شيء رأيته: كنت رجلاً أتبع خلوات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فرأيته يوماً جالساً وحده فاغتنمت خلوته فجئت حتى جلست إليه فجاء أبو بكر فسلَّم عليه، ثمَّ جلس عن يمين رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمَّ جاء عمر فسلَّم وجلس عن يمين أبي بكر، ثمَّ جاء عثمان فسلَّم ثم جلس عن يمين عمر وبين يدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سبع حصيات - أو قال‏:‏ تسع حصيات - فأخذهن في كفه فسبحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النَّحل، ثمَّ وضعهنَّ فخرسن، ثمَّ أخذهنَّ فوضعهنَّ في كف أبي بكر فسبَّحن حتى سمعت لهنَّ حنيناً كحنين النَّحل، ثمَّ وضعهنَّ فخرسن، ثمَّ تناولهنَّ فوضعهنَّ في يد عمر فسبحن حتى سمعت لهنَّ حنيناً كحنين النَّحل، ثمَّ وضعهنَّ فخرسن، ثمَّ تناولهنَّ فوضعهنَّ في يد عثمان فسبحن حتى سمعت لهنَّ حنيناً كحنين النَّحل، ثمَّ وضعهنَّ فخرسن فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ " ‏هذه خلافة النبوة"‏‏.‏

شهادة حق من أبي ذر رضي الله عنه، نقيب المستضعفين، مع ما قاسى في عهد سيدنا عثمان من نفي للربذة، وغيرها من المحن التي يقاسيها من فهم مخاطر تربص الذهنية المترفة بالمجتمعات، وقام ليحذر الناس منها.

والملاحظ هنا غياب سيدنا علي كرم الله وجهه عن هذا الحدث. أهي إشارة لما سيحدث في خلافته من طعن تحمل وزره معاوية غفر الله لنا وله ؟ أم هي عناية خاصة في حقه، لدفعه هو وبنيه لإرشاد الناس على آداب القومة السنية في وجه الاستكبار والتجبر في الأرض من لدن المتمردين على شرعة ومنهاج المسلمين ؟ ولربما كانت مظلومية سيدنا علي، كرم الله وجهه، ممهدة لسريان الاصطفائية في عقبه ليكون منهم أقطاب الكون، خلفاء الظاهر والباطن، يدورون مع الحق حيث دار، أئمة الهدى والرشاد، المستأمنون على دين الله، وما مهدي آخر الزمان إلا ختمهم الأبهر، أخباره متواترة في السنة العطرة : عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه : " أبشركم بالمهدي. يبعث على اختلاف من الناس، وزلازل، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، يقسم المال صحاحاً. قال له رجل: ما صحاحاً؟ قال: بالسوية، ويملا اللّه قلوب أمة محمد غناء ، ويسعهم عدله» ، إلى آخر الحديث. قال الهيثمي في مجمع الزوائد : «رواه أحمد بأسانيد أبي يعلى باختصار كثير»

إنها اصطفائية من نوع آخر لا يمكن لخبراء الهندسة الوراثية واستنساخ وتطوير الإنسان أن يدركوا ماهيتها ولا وسيلتها ولا غايتها. خط مرسوم من لدن مدبر حكيم للسمو بالإنسان في مقامات العدل والإحسان، يبرز للوجود أئمة الهدى الذين تحن لهم كل المخلوقات، وتسعد في أيامهم سعادة الدارين.

اصطفائية قصها الله علينا في كتبه: )إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (آل عمران:33) وانتقلت الاصطفائية بعدهم لمن شاء الله من عباده: )أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) (الأنعام:89).  

بعد مرحلة النبوة هل انقطع تدخل السماء في الهداية والاجتباء والاصطفاء؟ وهل حل مكانه تدخل آخر، في شكل تشريع للشورى وشروطها كما نص عليه قوله تعالى: )وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الشورى:38)، وكما سن الرسول صلى الله المنهج التجريبي بقوله " أنتم أعلم أمور دنياكم" ؟  

مسألة توسع السلف الصالح في دراستها، بصيغ متعددة،  كسؤال: هل الولاية كسبية أم وهبية؟ وما هي شروط الاستخلاف التي إن تم توفرها حصل بصفة مطردة كما تتكرر الظاهرة المدروسة بالمنهاج العلمي؟ وما علاقة ذلك بالوعد الإلهي الذي جاء في قوله تعالى : )وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55) .

أسئلة ربما يكون من المنصف طرحها على آخر من انتهت إليه الأمانة بعد تسلسلها كتابا وحكما ونبوة ثم خلافة على منهاج النبوة: الخليفة الراشد سيدنا علي كرم الله وجهه.

جمع شتات الأمة لتحلق في سماء الاستخلاف الكوني بجناحيها سنة وشيعة، هي من المهمات العظام التي تنتظرنا. ولا شك أن قانون المحبة، وسر اندراج الكون كله في القطب الظاهر، أو حجة الله في أرضه كما سماه سيدنا علي رضي الله عنه، سوف ييسر بحول الله ما يستحيل على ولاة المماليك اللاييكية فعله، لأنهم نزلوا على شروط  أعداء الدين: تمزيق أمة الإسلام إربا إربا، وضرب بعضهم ببعض للحفاظ على مناصب دنيوية خسيسة. بينما ترى هؤلاء الخصوم يخططون بزعامة تلاميذة سبنوزا اليهودي لصياغة دستور جديد لأوروبا الموحدة، يتأتى عبره، في إطار عولمة القوانين وكونية المصالح، إحكام قبضتهم التشريعية علينا.

الانطلاقة الشرعية تبدأ مع الخليفة الراشد علي كرم الله وجهه، فهو ليس حكرا على إخواننا الشيعة. لماذا؟

أولا: امتثالا لأمر نبوي ملزم: قوله صلى الله عليه وسلم: " إن من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " ( صححه الألباني).

 وقوله : "يا أيها الناس ! إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي " . ( صححه الألباني).  عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المهدي من عترتي من ولد فاطمة ". ( صححه الألباني).

ثانيا: علي كرم الله وجهه هو أدرى الناس في خلافته بخطر، وبفقه دفع الذهنية المترفة الفاسدة الفاسقة حينما تستولي على الحكم. وهو واقعنا الحالي تحت حكم حماة العلمانية المتمردة على شريعة الإسلام. يوشك أن تتظافر عليهم قوانين الشريعة وقوانين الطبيعة لتدميرهم وتدوينهم في سجل الخاسرين، إن لم يبادروا بالتوبة من خيانة الأمانة. ولكن في الغالب يصدق عليهم قول العزيز الجبار الذي لايظلم أحدا:  (( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ )) " القصص، 58 "

صدق الله العظيم، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه الطيبين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

الرباط، بتاريخ  1 رجب 1424 ه- الموافق 18 غشت 2004 م

آخر تحديث : 14/5/1431 هـ - الموافق 28/4/2010 م

محمد المهدي الحسني

[1]  Intervalle de confiance, domaine de définition

[2]  Calcul d’incertitude

 

[3]  الخلية العجيبة والإنسان*

 

[4]  الدكتور سيسل هامان في كتابه "الله يتجلى" (صفحة 141)

[5]  لويس ايفنس في كتابه "السيد الذي ينشده الشباب"- ص51.

[6]  المقدمة السادسة في أصناف المدركين للغيب من البشر بالفطرة أو بالرياضة ويتقدمه الكلام في الوحي والرؤيا. ‏

[7]   أحد مساعدي هارون يحيى أورخان محمد علي من استنبول ينشط كثيرا لنشر أفكار الخلقيين بالعربية وتلقى كتاباته رواجا غريبا في بعض المواقع الإسلامية كموقع عمر خالد وislamonline   ...وغيرها كثير وكأنه يريد صنع رأي عام لكافة المسلمين يتبنون رأي الخلقيين. ويعرض حججا لا تمت بصلة للعلم كاستعراضه لكثرة عدد الخلقيين الإنجيليين واستدلاله بهم. ويذهب به الغرور للقول أن المجتمع العلمي المتفق على نظرية التطور يحتضر من جراء الضربات التي يسددها له الخلقيون الأتراك، ذكر ذلك نقلا عن مجلة « new scientist »  التي " أشارت بنوع خاص إلى تركيا وإلى نشاط (مؤسسة البحث العلمي) في إسطنبول، وإلى جهود ونشاط الكاتب السيد (هارون يحيى) في نقض نظرية التطور بالكتب العلمية العديدة التي ألفها في هذا الخصوص. وهذه المجلة تطلق صفارة الإنذار وتقول لأنصار هذه النظرية: "إن العلماء على وشك أن يحرقوا دارون". وهو قول يفهم منه اللبيب نبرة التهكم لا غير... 

 

[8]  . Michael P. Girouard, professeur de biologie à l'Université de Southern Louisiana

 Edward Boudreaux, professeur à l'Université de la Nouvelle Orléans

David Menton :  professeur d'anatomie à l'Université de Washington.

 

[9]  http://www.cnrs.fr/cw/dossiers/dosevol/decouv/articles/chap1/lecointre.html

[10]  http://www.harunyahya.com/fr/m_conferences.php

[11]  روى الإمام احمد في مسنده عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: ((أمتهوكون يا ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقيه، لو كان موسى حيا، ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم)) .

[12]  نظرية داروين استغلتها تيارت ونظريات مختلفة كنظرية فرويد في التحليل النفسي، ونظرية برجسون في الروحية الحديثة، و نظرية سارتر في الوجودية، ونظرية ماركس في المادية. وقد استفادت هذه النظريات جميعاً من الأساس الذي وضعه داروين واعتمدت عليه في منطلقاتها وتفسيراتها للإِنسان والحياة والسلوك.

[13]  Approche asymptotique

[14]  هلرون يحيى

[15]   عن هذه القفاية بما ليس له به علم يقول الدكتور حمزة بن قبلان بن أحمد المزيني  في موقعه الشخصي http://www.mozainy.jeeran.com/  : "من الغريب أن يتكلف الدكتور شاهين الخوض في النظريات العلمية مع أن هناك شواهد كثيرة في هذا الكتاب تدل على أن أدواته في هذا المجال لا تكفي"... " ومن ذلك ما قدمناه عن عدم اطلاعه على المصادر العلمية عن نظرية التطور، وعن المصادر العلمية في التشريح. واكتفاؤه بدلا عن ذلك برواية ما يجده عند الآخرين من غير تمحيص، أو الاكتفاء بما تنشره الصحف، مع ما تتصف به تلك النقول من عدم الدقة. ومن الأمثلة الأخرى على قصور أدواته العلمية أنه ينقل عن "موسوعة الثقافة العلمية" أن تاريخ الفترة الجيولوجية التي تسمى بفترة "ما قبل العصر الكمبري" هو  71,125,000,000(ص25). وربما ظن القارئ أن في هذا الرقم خطأ مطبعيا. لكن الدكتور شاهين يورد هذا الرقم كتابة في (ص26) فيقول:"فقد بدأت الحياة العتيقة بمرحلة ما قبل العصر الكمبري، أي: منذ واحد وسبعين مليارا وخمسة وعشرين مليونا من السنين".  أما ما يكاد يعرفه الناس جميعا في هذا العصر فهو أن عمر الكون كله يقدر باثني عشر بليونا وخمسمائة مليون سنة إلى خمسة عشر بليون سنة في بعض التقديرات. وأن عمر الأرض يقدر بأربعة بلايين وخمسمائة مليون سنة إلى خمسة بلايين "... مثال آخر لتكلفه الكتابة في موضوع علمي بدون زاد، " أنه يورد تقديرات فترات عمر الأرض في كتاب "آدم عليه السلام" للكاتب التونسي بشير التركي من غير أن يلفت نظره الخطأ فيها. فيقول التركي، كما يروي الدكتور شاهين(ص15):"إن أهم الموجات البشرية أربع". وأن الموجة الأولى يتراوح تاريخها "من أربعة مليارات إلى مليار من السنين، وهي فترة عاش خلالها بشر يسمى(بشر الجنوب) (الأسترالوبتيك)". وكما هو معروف فإن العلماء يقدرون أن الحياة بدأت على الأرض قبل خمسمائة مليون سنة، وأن الإنسان، حتى في أطواره الأولى، لم يوجد قبل ستة ملايين سنة. ولو كان يعرف شيئا حقيقيا عن هذه العلوم للفتت نظره هذه التقديرات التي لم تخطر ببال أحد." انتهى قول الدكتور المزيني جزاه الله خيرا، ومع أنه هو الآخر تخصصه في اللسانيات فلربما المنهجية العلمية التي اكتسبها في دراساته الجامعية المتفوقة في أمريكا ساهمت في توسيع مداركه المضبوطة.

 [16]  قصة النزاع بين الدين والفلسفة  ، توفيق الطويل  ص 205

[17]  معادلة الجاذبية كما عبر عنها نيوتن هي: f=kmm’/d2

f=force d’attraction de 2 corps de masses m et m’

d= distance qui les sépare

[18]  سفر الحوالي في كتابه  "العلمانية"

 

[19]  انظر كتاب الإمام ابن تيمية " درء معارضة العقل للنقل

[20]  théorie des cordes

[21]  رواه مسلم 534/1. 

[22]   ابن أبي العز الحنفي، شرح العقيدة الطحاوية  ص: 230

[23]  ومن الإنصاف أن أشهد شخصيا بالنزاهة العلمية والدقة في طلب الحقيقة الموضوعية لبعض نبغائهم من جامعات  في أمريكا  وبلجيكا وفرنسا، الذين قدر الله لي التتلمذ عليهم في علوم مختلفة، والعمل معهم في محطة التجارب والأبحاث الغابوية:  Statistique - Biotechnologie (chimie organique, biochimie, génie biologique) - Génétique (hybridation, clonage, OGM ) Biologie  ( cellulaire , animale, végétale, comparée) - Biogéographie -Systématique- Classification des espèces - Spéciation - Paléontologie

 [23] فضيلة الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي

 

[24]  الدر المنثور 2 : 359 .

[25]   ملاحظة :تجنبا لإثارة بعض الحساسيات، وتضييع الفائدة على شريحة من الإخوان، سوف نتحظ ظرفيا عن ذكر أسماء هؤلاء المحققين، إلى فرصة أخرى إن شاء الله .

[26]  نفس الملاحظة السابقة.

[27]  نفس الملاحظة السابقة.

[28]  نفس الملاحظة السابقة.

[29]  ابن عربي؛ الفتوحات المكية ج 1 ص 154

     

[30]  الدكتور السمالوطي في كتابه "المنهج الإسلامي في دراسة المجتمع"

[31]  Modélisation de l’évolution

[32]  الفيلسوف الأمريكي ألكسيس كاريل في كتابه "الإنسان ذلك المجهول "

[33]  روى البخاري قال: سمعت عمران بن الحصين يقول: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : "خير أُمّتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، قال عمران: فلا أدري أذَكرَ بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، ثم إنّ بعدكم قوماً، يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يوَتمنون ويَنذرون ولا يفون ويظهر فيهم السمن."

[34]  كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفون... أثر يتداوله الصوفية.

[35]  حديث جبريل : أخرجه مسلم وأبوداود والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لايرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد. حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تومن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتومن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال: ثم انطلق. فلبثت مليا (أي قليلا) ثم قال لي: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".

[36]   لكن شركات النفط العملاقة تعمل ما في وسعها لإبعاد هذا المصدر الطاقي لأسباب لا يجهلها من هو على اطلاع بمكر وخداع الشركات الغربية المحتكرة لثروات الكون ولوسائل التكنولوجيا.

 

[37]  - روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل. فقال: إني أحب فلانا فأحبه قال: فيحبه جبريل, ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبدا دعا جبريل عليه السلام, فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه. قال: فيبغضه جبريل, ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه, ثم يوضع له البغضاء في الأرض".

[38]  بدعة ظهرت في المغرب بداية من القرن الثامن الميلادي على يد " مؤسس الدولة الروحي، صالح بن طريف وقد كان حضر مع أبيه طريف حروب ميسرة ضد العرب وكان من أهل العلم والخير فيهم‏.‏ ثم انسلخ من آيات الله وانتحل دعوى النبوة وشرع لهم الديانة التي كانوا عليها. ذكر أبو صالح زمور، الذي أصبح لاحقا سفيرا لبرغواطة في قرطبة، ذكر أن طريف ينحدر من أصل يهودي، إذ كان أحد أجداده يحمل اسم شمعون بن يعقوب" : ابن خلدون.

"ديانة برغواطة إسلامية في شكلها، بربرية في طقوسها، يهودية في عمقها وميولاتها" : المستشرق سلوش

دين بني طريف " بدّل عقول الناس وبدّل معارفهم وافترض عليهم طاعته في سنن ابتدعها. قواعد التشريع البرغواطي تبيح الزواج من النساء بقدر ما استطاع الرجل مباعلتهن كما يبيح العود بعد الطلاق، دون قيد" : ابن حوقل.

 

[39]  عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حقت محبتي للمتحابين في, حقت محبتي للمتواصين في, حقت محبتي للمتبادلين في. المتحابون في على منابر من نور, يغبطهم بمكانتهم النبيون والصديقون والشهداء". رواه الإمام أحمد وابن حبان و الحاكم والقضاعي.

الحمد لله