معالم في طريق الثورة المصرية الثانية... لكي لا تجهض!
محمد المهدي الحسني
من المعلوم أن لكل ثورة أيديولوجيتها الخاصة التي تعتبر منبع قيمها وتوجهاتها وتشريعاتها. الجمهورية الأولى بعد الإطاحة بالملك فاروق كانت جمهورية عبد الناصر والسادات و مبارك. ساهم في بنائها التيار الإسلامي لكنه غدر به، وأبعد عن السياسة وسجن معظم أطره وأعدم منظره الداعية سيد قطب رحمة الله عليه. وهكذا، بالحديد والنار والقمع الفرعوني، استتب الأمر للأيديولوجية العلمانية بوجهها الاشتراكي القومي، في عهد عبد الناصر، ثم بوجهها اللبرالي المكيافيللي، في عهد السادات ومبارك.
واليوم وقد أطاح الشعب المصري بالجمهورية المصرية الأولى، بعد تنحي رأس نظامها حسني مبارك، هناك سؤال يفرض نفسه: ما هي الخصائص الأيديولوجية المرتقبة للجمهورية الناشئة؟ هل ستعتمد على مرجعية أخرى غير العلمانية لكي تستحق اسم الجمهورية الثانية أم سوف لن تكون سوى امتدادا للجمهورية الأولى؟
لقد تطرفت الجمهورية الأولى في تحييد الدين الإسلامي عن سدة الحكم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وقضائيا وأخلاقيا... وفتح الباب فيها على مصراعيه للتحكم العلماني البلطجي في المجتمع المصري ذي الأغلبية المسلمة، رغم أن من مكتسبات الدستور المصري قديما، ذلك البند الذي ينص على أن مصدر الأحكام في البلد هو الشريعة الإسلامية. ولقد تم للعلمانية الالتفاف على ذلك المكتسب الدستوري فأضحى بندا معطلا محنطا لا أثر له في الميدان، وإن كان له بصيص نور، فلا يظهر إلا عبر اجتهادات سقيمة وليدة الانكسار التاريخي الأموي، الذي شرع للحكم الاستبدادي عوض الشورى، وللتسلط الإقطاعي عوض العدالة العمرية في إنتاج وتوزيع الثروات الطبيعية.
هاجس الثورة المصرية اليوم، هو حماية الثورة من الانتهازية والإجهاض، كما حدث للثورات العربية الماضية. لكن يبدو أن التيار الإسلامي الذي ينتظر منه أن يطرح البديل الأيديولوجي لدولة الفساد والاستبداد، تنقصه تلك الكاريزماتية وتلك المميزات التي ينبغي أن تطبع الزمن الثوري الحرج، الذي من طبيعته رفع سقف المطالب قبل خمود طاقة الثورة وتلاشي شرعيتها الميدانية الظرفية. ولربما تهيب الإخوان مما قاسته الثورة الإيرانية من تكالب القوى المعادية عليها...
لقد كان للثورة في إيران عدة مميزات جعلتها قادرة على حسم خياراتها الأيديولوجية منذ البداية. أولا كانت لديها شخصية كاريزماتية، التف حولها الشعب في أغلبيته العظمى، شخصية الخميني رحمة الله عليه، وهذا وضع منعدم في الشارع المصري حاليا. ثانيا كان عدد شهداء الثورة الإيرانية يقارب المائة ألف شهيد بينما في مصر يقل عن ذلك بكثير. ثالثا كان الحذر من التفاف قوى الاستكبار على الثورة في إيران أكبر مما هو عليه في مصر، وترجم ذلك بطرد سفير إسرائيل ومحاصرة السفارة الأمريكية، بعد التأكد من تآمرهم على البلد، كما سبق لهم فعله زمن إجهاض ثورة مصدق. بينما في مصر، هرول الجيش الذي استلم السلطة الانتقالية، إلى طمأنة الخارج على استمرار المعاهدات التي أبرمت في عهد الجمهورية الأولى، وسكت عن السيارة الدبلوماسية التي دهست جماهير الشباب الثائرة. فسارعتإسرائيل إلى مكافأته بنقطة حسن السلوك، تماديا في غطرستها واستعلائها على حكام الأقطار العربية ...
لقد تمكن الخميني من حسم الخيار الأيديولوجي للثورة عبر استفتاء عام حول طبيعة الدولة المنتظرة، إما دولة لاييكية لا تعترف بأحكام الشريعة، وإما دولة إسلاميةتستمد مشروعيتها من الشريعة الإسلامية وأحكامها القرآنية ولو بالتدريج. فتم للثورة الإسلامية أن تثبت عقودا في طريق بناء الدولة القوية اعتمادا على الله، لأن اللهينصر من ينصره، ثم على قوتها الذاتية بعيدا عن التدخل الأجنبي والقيود التكنولوجية التي يفرضها الغرب على المسلمين.
هذا الحسم في الخيار الأيديولوجي الذي تتبناه الثورات بعيد نجاحها، لازال مسكوتا عنه حاليا عند الإخوان في تونس وفي مصر. لماذا؟ ربما لنيل قبول وعطف النخبة الغربية والمتغربة المحتقرة للشريعة الإسلامية. ربما تقية سياسية، وخدعة حرب... أو ربما سياسة مقصودة تروم التدرج في إقامة الدين في شموليته، خاصة في جانب الحكم بما أنزل الله، وهي الغاية الاستخلافية التي لا تختلف عليها فصائل التيار الإسلامي بكافة مذاهبه ومدارسه، سنية كانت أم شيعية.
ونظرا لما أبداه الطرف المعادي للإسلام، من حنكة وخبرة في الخداع والمناورة في منعطفات التاريخ الحرجة، مثل التي تشهد الشقيقتان تونس ومصر، هل سيلدغالتيار الإسلامي من الجحر مرة أخرى؟ أفأمن الإخوان كيد أعدائهم بتمكينهم منذ البداية من أنفسهم؟ ما المقصود من استسلامهم الرخيص الذي لا يبرره شيء، وهم الآن أعزة في الظرف الثوري المنقضية أجله بعد حين؟ ألم ينجهم الله من ظلم الفراعنة الذين أذاقوهم سوء العذاب زمنا طويلا؟ وهل من المنطق أن يقبعوا في سجن أنفسهم وتكبيلها بالقيود الماضية التي ربما لم يبق لها مبرر ولا راعي ؟ فلربما موقف الشرك الخفي الذي ارتضوه لأنفسهم سوف يبقيهم في التيه بعيدا عن دولة الإسلام بضع سنين. ولقد أدب سيدنا يوسف عليه السلام قبلهم بالمكوث في السجن بضع سنين بمجرد كلمة " اذكرني عند ربك"، يقابلها اليوم استجداء الإخوان للمشروعية عند أعداء الدين، للحصول على موقع بئيس في مسرحهم السياسي العلماني، بعد استرضائهم بكلام مريب يكاد يقول للناس خذوني، أو كلام فاقد الثقة بنفسه، يصرح للشعب استبدادا بالرأي " لن نترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة". وهل فوضك المسلمون للتصريح بهذا الموقف المتخاذل ؟ و هل تشاورت مع الشباب على تلك الصفقة الرخيصة؟
لذا ينبغي الآن، وقبل الغد، - معذرة على أسلوب الإملاء الأمريكي! - تصحيح هذا الوضع المتخاذل المحبط لطموحات الشباب المسلم، بالمضي في تحقيق التغيير الحاسم لتخليص الأمة من فساد الجمهورية الأولى، اعتبارا للسيناريوهات التالية:
أولا : سيناريو الاستمرار على نهج الجمهورية الأولى بأيديولوجيتها ودستورها وبرلمانها ومؤسساتها، ومعاهداتها القديمة... بعد إجراء ترقيعات في الدستور، ومحاكمة بعض أكباش الفداء واستبدال بعض المسؤولين، ثم محاولة استرضاء ضحايا العهد القديم، وكذلك بعض المطالب النقابية... وهي مرحلة انتقالية من المحتمل أن تفضي إلى دولة قمعية أخرى لأن طموحات الفقير الفاقد لقوت يومه، لا تحدها إلا حدود الثراء الفاحش الذي يتباهى به أصحاب العهد القديم. وقد ظهرت في الساحة منذ الأيام الأولى مسيرات للمطالبة برفع الأجور، تزعمها رجال الأمن القديم الذين لا تزال أيديهم ملطخة بدماء الشهداء. وهذا السيناريو هو المفضل عند فقهاء العلمانية الفرنسية، يتدارسونه أكاديميا تحت مفهوم " la transitologie " أو علم الانتقال السياسي الديموقراطي.
ثانيا : سيناريو الاستفتاء العام لتحديد طبيعة الدولة التي ينشدها الشعب: دولة علمانية أم دولة إسلامية كما قامت به الثورة الإسلامية في أيران. وعلى العلمانيين أن يحددوا في إطار دعوة إلى ميثاقهم العلماني، مفهوم الدولة العلمانية المدنية، وخاصة تحديد موقفها من الشريعة الإسلامية، ومن الدستور القديم الذي ينص على أنهامصدر التشريع في البلد. وعلى المسلمين أن يحددوا في إطار ميثاق إسلامي، مفهوم الدولة الإسلامية، وموقفهم من الدستور القديم الذي يعترف بالشريعة ولكن لا يطبقها إلا في مجال العبادات لا في مجال المعاملات. وعلى الحركة الإسلامية أيضا أن تحدد موقفها من حريات الأقليات، ورد المظالم التي ارتكبها الانكسار التاريخي في حقهم، وغير ذلك من المؤاخذات التي صدرت في حق الشريعة، بسبب غبش في فهمها، أو خطإ في تطبيقها، أو تصميم مسبق على معاداتها ...
حتى إذا وضح كل فريق للشعب أيديولوجيته وأهدافها ومقاصدها وقيمها، وما ينبثق عنها من توجهات وحقوق وواجبات وتشريعات وقوانين ووسائل، بعدها ينصاع الكل للخيار الحاسم الذي يقرره الشعب، ويلتزم الجميع بالعمل تحت سيادته. وبعدها، يوضع الدستور وتجرى الانتخابات ويعاد بناء مؤسسات الدولة.
ثالثا: سيناريو تشجيع التنافس المحمود الذي يرتقي بالإنسانية في سلم التطور عبر جدلية التدافع بين الخطإ والصواب، مثلما تنهجه الألطاف الربانية في تدبير التنوع الأحيائي في الطبيعة. ويتم ذلك عبر أيديولوجية ضرورة الحفاظ على التنوع الإحيائي والثقافي، في إطار ميثاق التنافس في القيم الإنسانية المحمودة. لا يجوز فيه إقصاء أحد من الحياة السياسية. وترسى فيه قواعد التداول على السلطة تبعا للقانون الذي فرضه المدبر الحكيم في قوله تعالى" وتلك الأيام نداولها بين الناس". وهو القانون الذي تسخر منه العلمانية في العالم الإسلامي اليوم : تقصي من لا يدين بدينها، وتتساءل عن مصيرها تحت الحكم الإسلامي، وتلقي عليه باللائمة على نواياه المبيتة في إقصائها. كيف يمكن نبذ هذا التصابي الفكري ؟ هل الفزاعة الإسلامية ستبقى إلى الأبد في يد الطاغية يلوح بها للاستقواء بأعداء الإسلام على شعبه المسلم؟
هذا السيناريو يزيد لبنة في البناء الأيديولوجي العالمي بالدعوة إلى التوازن بين قوانين الطبيعة وقوانين الشريعة، في إطار عقد اجتماعي جديد محافظ على التنوع البيئي والتعددية الثقافية والعقدية.
لقد مضى قرن العلمانية أو القطب الواحد لتدبير تطور البشرية. قرن كامل ألغيت فيه أحكام الشريعة في تسيير البشرية. فظهرت بوادر الأزمة العالمية والثورات الاجتماعية والحروب العالمية الفتاكة ... وانتهت اليوم إلى تلك الدعوات المحتشمة في الغرب نفسه، لضرورة الحد من طغيان الاقتصاد الربوي الاحتكاري، والنظر إلى القوانين السماوية لضبط موازين العدل في المعاملات، ولتوحيد معايير الأخلاق والقيم والضمير الحي اليقظ الطاهر. ميثاق التساكن والتنافس في بناء المستقبل المشترك، أوميثاق التساكن والتنافس في القيم الإنسانية المحمودة، أو ميثاق الجمهورية الثانية، يكون بين أصحاب الميثاق الإسلامي من جهة، والعلمانيين الذين لا يقبلون حكم الشريعة، من جهة، وكذلك أصحاب الملل والنحل من أبناء البلد، من جهة أخرى. ميثاق الجمهورية الثانية يكون دعوة حضارية لإدارة الاختلاف، وللتنافس في العمل الجاد الذي يصلح ما أفسده زمن الزور والإثم والعدوان، الذي فقد كل مصداقية. يتفق الفرقاء جميعا على أهداف الميثاق ومنطلقاته الدستورية، ومؤسساته، ووسائله، وطرق تحصينه من الفساد، برعاية الحرس الثوري، ويحدد الفرقاء كذلك آليات سريانه باعتماد مبدأ القطبين أو الأقطاب المتنافسة في العمل الصالح، في جميع المجالات الحيوية، وخاصة في المجالات التالية:
· في المجال الحقوقي والدستوري والقضائي والأمني: ضمان الحريات العامة في تكوين الأحزاب والجمعيات والتصدي للاستبداد من خلال آليات الشورى والديمقراطية، وضمان استقلال القضاء وحرية التقاضي للمحاكم الإسلامية أو المحاكم اللاييكية التي لا تعتمد الشريعة الإسلامية، والاعتماد على الحرس الثوري في التصدي لبؤر الفساد، وبقايا الاستبداد...
· في المجال الاقتصادي: التنافس بين الاقتصاد الربوي القائم حاليا والاقتصاد الإسلامي في إنتاج الثروات وتوزيعها، رد المظالم التي ارتكبت في حق الأقباط أو الأمازيغ عبر نظام خراجية الأرض الفلاحية... الخ . - بيت مال الزكاة والخراج والصدقات والوقف وغيرها من مصادر مال الدولة الإسلامية، يتنافس مع صناديق الجبايات والضرائب والرسوم - توطين التكنلوجيا الغربية يتنافس مع توطين التكنلوجيا الإسلامية أو المحايدة - صفقات وأوراش تتولاها شركات إسلامية ممولة من بيوت التمويل الإسلامي تتنافس مع الشركات العالمية - وقس على ذلك من مشاريع النماء الحقيقية والاعتماد على الذات.
· في المجال الاجتماعي: يتنافس الناس في اختبار مقترحاتهم لحل المعضلات الاجتماعية بالنسبة للمرأة والعاطل والطفل والمعوق والمشرد ، وفي محاربة الأمية والرشوة والفساد والميوعة، وفي مجال حماية البيئة والنظافة...الخ
· في المجال الإعلامي والثقافي: ضمان حرية التعبير عن الرأي، القنوات الفضائية اللاييكية تتنافس مع قنوات فضائية إسلامية - جمعيات ثقافية لاييكية تتنافس مع جمعيات إسلامية في تأطير الشعب وتربيته وتوجيهه - تعليم لاييكي يتنافس مع تعليم إسلامي- ...الخ
وقس على ذلك من الطرق التدبيرية للاختلاف والتعددية، التي سيتفنن في إبداعها شباب الثورة المجيدة في الجمهورية القطرية الثانية، لتكون إن شاء الله قدوة صالحة لبلداننا الثائرة خاصة، وللمسيرة البشرية عامة.
اللهم وفق إخواننا للخير وأعنهم عليه، اللهم احفظ أقطارنا من كيد الكائدين، وقهر المستكبرين، وظلم المتجبرين.