بسم الله الرحمن الرحيم
نضال ضد الفساد البيئي
قصص من مذكرات شاهد
الجزء الثالث
مراجعات في المقاربة والتسديد
فهرس الجزء الثالث
أهل الحال... وأهل الإدلال... والمحققون. 29
مجالس النصيحة... ومجالس السياسة... 51
آثار حكم الحماية في الأراضي.. 53
ما العمل للتساكن مع اللادينية؟ 87
ما بعد 2006 ... سُنة المراجعات أم بدعة الخوارق!؟ 104
كان الجزء الأول تحت عنوان "وحي الغابة " من كتاب "نضال ضد الفساد: قصص من مذكرات شاهد"، يقص تفاصيل تجربة ميدانية من الحياة المهنية كانت هدفها حماية "التنوع الأحيائي" من التلوث البيئي. أما الجزء الثاني وعنوانه "سبح ضد التيار"، فيعرض تجارب واقعية كان هدفها حماية "التنوع الثقافي" من التلوث الفكري والعقدي.
وهذا الجزء الثالث بعنوان: " مراجعات في المقاربة والتسديد "، يعرض تجربة ميدانية للمساهمة في بناء البديل الإسلامي للدولة اللادينية التي هي أصل الفساد والإفساد في الأرض.
تحكي المذكرات في هذا الجزء تلك الظروف التي خُير فيها الكاتب بين مهادنة الفساد في أحضان الدولة العلمانية، أو النضال مع رجال الصحوة الإسلامية. والنفي الذي تبع رفضه البقاء في المسؤولية، كان بداية تجربة وجدانية عميقة مع رجال الشرق الصادقين، وعمار الهضاب العليا الأشاوس، لامست فيها النفس أحوال "التواجد في وجدة"، و"الجذب" في كهوف وخرائب ملوك الدولة الزيرية، و"الانبساط" على بساط الحلفا، وبلدة عين الصفا. لكن سرعان ما عقلت النفس الأمر، وشدته بلجام الشرع، فحصلت على فتح من نوع آخر في "رباط الفتح"، بعدما نقل إلى العاصمة من "وجدة" إثر خصومة مثيرة وقعت له مع مدير كان "أظلم من حية"!
وفي مدينة الرباط، صدم بانتحارات وسط "علية القوم" الذين كانوا يقطنون بجواره في مسكن الإدارة الذي أسند إليه قرب قصور العائلة الملكية. وأحس بوخز الضمير في التفريط في الدعوة وسط قوم هم أحوج الناس لسماع خطاب ربهم الرحيم الذي يريد تحريرهم من أغلال اليأس والقنوط، تذهب بهم إلى حد تقديم مهجهم قربانا للشيطان. فواكب ذلك الحدث الإشراف على العمل الدعوي في أوساط "الأطر العليا" المتعاطفين مع الجماعة.
وتوسعت الجماعة بعد ذلك في ظرف وجيز، جر عليها مضايقات وانتقام الخصوم، وتتحدث المذكرات عن النصيب الذي تعرض له الكاتب من تلك المضايقات. ولم يكن ذلك ليوقف نضاله بعدما انتقل إلى منزل شيده قرب المدارس التي يدرس فيها أبناؤه، وكان مقرا عامرا بالإخوان وأنشطتهم التربوية والتعليمية والتنظيمية، ومحروسا بحفظ العناية الربانية. وشهد عدة لقاءات كانت مصيرية في تاريخ الجماعة. منها ذلك اللقاء الذي تأكد فيه الخيار الصوفي على الخط السلفى الذي كان يمثله الأخ البشيري رحمة الله عليه، ولقد بكى أثناء ذلك المجلس صاحب المذكرات بكاء شديدا ولم يكن يعلم أسباب بكائه.
وتتخلل المذكرات بعض الفصول التي تتحدث عن بقية من النضال البيئي في جل جهات القطر، في عمل الأبحاث والتجارب الغابوية، ثم في مهمة الحفاظ على الأراضي والثروات الطبيعية، بعدما نقل المهندس إلى مديرية الإعداد العقاري والمحافظة على الأراضي الفلاحية. وفيها سيطلع على العلاقة بين التصحر وتشريعات الاستعمار الفرنسي لتدبير ملكية الأرض واستغلالها، ويكتشف مدى انسجام الأحكام العمرية مع القواعد العلمية للتدبير المستدام للثروات الطبيعية.
وتتحدث المذكرات عن الفوائد التي لا يمكن الإحاطة بها ثناءً، أو وصفا، أو إحصاءً، أو شكرا، حصل عليها مباشرة من الأستاذ المرشد، ومن الإخوان المسؤولين في الجماعة، ومن عامة الأخوان.
ولقد وردت في المذكرات فقرات عن محاولات لرد الجميل للجماعة تعبيرا عن العرفان والمحبة والشكر. لكن " تفكره في بداية الخلق" الذي طُلب منه الكتابة في موضوعه في مركز الأبحاث والدراسات، ربما لم يكن منسجما مع بعض المسلمات الشائعة في الأوساط الإسلامية. ولربما أيضا اكتشافاته في مكتب الفلاحة حول انسجام الأحكام العمرية للأرض، مع القوانين العلمية البيئية المعارضة للتصحر، ومع متطلبات العدل وواجب رد المظالم التي أنتجها الانكسار التاريخي، لمعالجة المسألة الأمازيغية، لم تكن مقنعة بالشكل المقبول. ولربما صيحته لرفع الأذى النازل على الجماعة، وتحذيراته من موانع النصر على التيار العلماني الظالم، كانت تنقصها بعض المغلفات المخملية، أو المقدمات الشكلية، فظهرت فظة مزعجة، مما أدى إلى بخسها ورفضها. لكن صدقه في حب الأوطان، وفي التحاب في الله مع جماعته، ومع مكونات الصحوة الإسلامية المعارضة للتيار اللاديني المفسد، ربما شفعت له وقللت من المآخذ على اكتشافاته السابحة ضد التيار الرسمي للجماعة.
ولقد علم منذ أول خطوة من تطوعه للعمل مع الجماعة، أنه مطالب بالوفاء لملزمات عقد الانتماء الحزبي، القاضي بتنازل الفرد عن حريته مقابل مصالح يتكفل له بها الحزب. والمصلحة التي طلبها من انتمائه إلى الجماعة، هي الغاية الإحسانية والفوز بالجنة والنظر إلى وجه الله، وكذلك الغاية العدلية التي تطلب الاستخلاف للتيار الداعي لإقامة شرع الله. فما العمل إن تيقن الفرد أن هناك موانع لتحقيق تلك الغايات السامية؟ ما العمل إن تيقن أن تأخر النصر على الخصوم في التيار المعطل لشرع الله له أسباب موضوعية كتلك المواقف المنفرة للمجتمع العلومي المنافح حتى الموت عن مكتسبات العقل المتحرر من قبضة الدوكماتية الكنسية؟ وهي المكتسبات التي أراد الله بها للإنسان اكتشاف عجائب صنعه والاستفادة منها في ميسرات الاستخلاف والعمارة الصالحة للأرض. مالعمل إن تأكد أن الغاية الإحسانية في خطر كذلك لما تساهل الإخوان مع التسرب الخفي، تحت برقع "علم الحقيقة" الذي لا يعلم ما يخفيه إلا الله سبحانه وتعالى، للمعتقدات المنحرفة التي تغازل الزيغ العيسوي كما سماه ابن تيمية رحمة الله عليه؟ ما العمل إن أوشك ذلك الزيغ العيسوي أن يجر على الساكت عنه خطر الزيغ الموسوي؟
تلك هي الحيرة التي سيطرت على فصول الكتاب الأخيرة، والتي انتهت بطلب استقالة من عدة مهام في العمل التطوعي مع الجماعة، وتعليق أنشطة أخرى إلى أن تتم بعض المراجعات...
كتب بمدينة إلكهارت ولاية إنديانا - الولايات المتحدة
ليلة يوم الخميس آخر شهر رمضان المبارك 1431 الموافق 7 شتنبر 2010.
محمد المهدي الحسني
شيء آخر انتزع صاحبنا المسافر إلى مدينة وجدة على متن القطار، من سبات متردد بين اليقظة والإغفاء، غير تلك الطرطقة الرهيبة الرتيبة التي تحدثها العجلات الفولاذية المنسابة فوق سكة الحديد. ألفتها الأذن منذ منتصف الليل عند ركوب القطار من مدينة القنيطرة، فلم يرق وقعها إلى فعل أشعة الشمس المشرقة على الهضاب العليا، انسكبت على عين المسافر ففتحتها بمفتاح اللطف والإصرار، فصدم بمنظر رهيب من نافذة القطار. زوابع حمراء من الغبار تثيرها شياطين الرياح، تركض تائهة بغير هدف على المفازة الجرداء، لا حواجز كابحة لحريتها، بل داوية، قاعا صفصفا، لا تحدها الأبصار، تحس بلهفتها إلى ماء ونبات يمسك عليها التراب، الساتر لعورة هيكلها المتكلس.
بلاد الشيح والريح! كما ينعتها المجازفون على قطع فيافيها الموحشة. وزوابع الغبار الثائرة، تنذر بغياب حتى ذلك الشيح الذي كان زمن الخصب، والغزلان وحمر الوحش راتعة فيه، يواسي الرحل المتنقلين بين أرجائها، تحت مراقبة عيون السراب المتألق. فلم يخرج "متحيز" من إغفائه إلا ليتسرب إلى وجدانه كرب لم يجد له شبيه إلا في غم إنسان يحال على المعاش في عز شباب الحركة والعطاء. وعمل صاحبنا يتلخص في رعاية الغابات والثروات الطبيعية، فإن لم تكن هناك غابات تشغله سوى الشيح، ولا ثروات طبيعية سوى الريح، فكأنما سيق مكرها إلى منفى التقاعد المبكر المستهلك لطاقات العمر الثمينة!
مهندس الأشجار في أرض القفار، خبرته بوار، ليس لها خيار مع طبيعة البيداء القاسية! قائد جريدة، جردت من جنودها، فلم يبق للقيادة راية، سوى خرقة الاستسلام!
تلك هي المسارح الدكناء التي ركضت فيها مع تلك الزوابع الرملية أفكار مهندسنا "متحيز"، الذي نقل مكرها من مصلحة المياه والغابات في القنيطرة التي تضم بين أرجائها أثرى وأوسع غابات البلد، إلى مصلحة وجدة التي ظنها صحراء قاحلة كهذه الطبيعة القاسية التي يطويها القطار تحت إشراقة شمس حمراء تكاد تختفي وراء الغبار.
ولم يرض لنفسه تلك المشاعر المستسلمة، فبادر بزجرها وردها إلى تحمل تبعات الاختيار. وصمم على مقابلة جحافل الكآبة بتثبيت أقدام التحمل والاصطبار، بعد وهلة أشرف فيها على فقدان أعصاب التجلد.
ألم يستيقن أنه كان مستويا على عرش فوهة بركان المكائد والدسائس في عمله السابق؟ ألم يتأكد له أن أمر المناضلة ضد الفساد من داخل أفسد الإدارات عبث كعبث من يحرث البحر، أو من يسقي كثبان الرمال؟ ألم يكن النفي أحب إليه من الاستمرار في المخالفات الشرعية التي يقتضيها العمل، خاصة بعد مشورة الأستاذ المرشد؟
هذا من جهة. ومن جهة أخرى، ألم تكن للإدارة أسباب موضوعية لترويض هذا المهندس المستفز الخارج عن الصف، وهو في منصب أمني حساس في منطقة ينعتونها بوصف "إمارة معمورة والغرب"، أو " principauté " بمصطلح المستعمر؟ ألا تنص قوانين الجمعيات على " أن لا تفتح في وجه العسكريين العاملين، ولا رجال القضاء، ولا الموظفين ذوي السلطة، وأيضا كل الموظفين و الأعوان حاملي السلاح؟
ولقد كان إبان مسؤوليته عن الغابات في أقاليم الرباط والقنيطرة وسيدي قاسم، وصيا عن سلاح ودخيرة أعوانه، وعن السلاح المحفوظ في مخازن المقاطعات. وكان من قبل قد اكتشف كمية من المتفجرات والدخيرة الحية كانت مخبأة منذ عهد الاستعمار في مخازن المقاطعة. ولم تكن مذكورة في أي وثيقة من وثائق تسليم المهام من يد المهندس السابق. سلم المهندس "متحيز" هذه المدخرات بحضور مسؤولي الأمن والجيش إلى القاعدة العسكرية في مهدية، بعد تقييد محاضر دقيقة عنها.
وكانت له علاقات عمل مع فرنسيين مقربين من القصر، لهم امتيازات حافظوا عليها منذ عهد الاستعمار. منهم من كان يشرف على محميات الصيد ومنحلات العسل التابعة للقصر. ومنهم من له شراكة مع الجيش في حراسة القواعد العسكرية. كانوا يغرسون مساحات شاسعة من الأراضي الغابوية المحيطة بالقواعد بنبات "معطرسة" المنتج لروح العطور بعد نزع أشجار الغابة التي تحجز الرؤية. وكانوا كثيري التردد على مصلحة المياه والغابات لتجديد عقود الاحتلال الموقت للملك الغابوي على آلاف الهكتارات. وكانوا يعرضون على المهندس تصاميم للقواعد التي يحرسون محيطها، وكأنهم أولياء أمرها.
وكانت وزارة الداخلية في أعلى هرمها حريصة على ما كان يشرف عليه من ثروات طبيعية خاصة تلك الرمال الشاطئية، تخصص مقالع منها لذوي القربى غير عابئة بحق المساكين وعامة الناس فيها.
فكان من الواضح أن الكمندار "متحيز" لا يمكن أن يمر دون أن يثير توجس رجال المخابرات عندما كان يحضر محاكمات الأستاذ المرشد في أواخر سنة 1983، صحبة إخوان كان ينقلهم من القنيطرة، من بينهم صهر الأستاذ. فكانوا يواجهون بهراوات البوليس عند تجمهرهم أمام المحكمة، مرددين في أنفسهم ذلك الدعاء الذي لقنه لهم الأستاذ: " الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أعز من خلقه جميعا، الله أعز مما أخاف وأحذر، أعوذ بالله الممسك السماوات والأرض أن تزولا إلا بإذنه من شر شرار خلقك، في جميع أقطار أرضك، وأشياعهم وأتباعم من الجن والإنس، اللهم كن لي جارا من شرهم، تبارك اسمك، وعز جارك، وجل ثناؤك، ولا إله غيرك."
لم يقبلوا استقالته من المسؤولية، ونقلوه إلى مصلحة المياه والغابات للأقاليم الشرقية، عوض نقله كما طلب كمهندس باحث في محطة الأبحاث الغابوية! رفض الالتحاق بوجدة مقر إدارته. ومكث ستة أشهر في انتظار إعفائه من المسؤولية على الأملاك الغابوية والعسكرية التي تقتضيها الوظيفة.
وها هو الآن في سفره إلى مقر عمله الجديد، يلتحق على مضض بعدما هددوه بالطرد من العمل! لا علم له بما يخفي له القدر في مستقره الجديد!
أثناء مدة رفض الالتحاق بوجدة، كثف مناضلنا من نشاطه الحركي مع شباب العدل والإحسان، وشرع في توسيع معارفه الإسلامية مستعملا المناهج والطرق التحصيلية التي تعلمها إبان تكوينه الجامعي. ومن أحسن الطرق لتوسيع المدارك، المبادرة بالتأليف في الموضوع الذي يراد تحصيله. فكانت ثمرة ذلك العمل أول مؤلف له باللغة العربية، وقد كانت له مؤلفات سابقة في تخصصه العلومي ولكن باللغة الفرنسية. فلما عرض كتابه : "التسيير العلماني للمجتمع المغربي: جذوره وآفاقه" على الأستاذ المرشد، بعد إطلاق سراحه، نوه به أمام مجلس الإرشاد، تنويها نال ابتسامة حسبها المتوجس “منتظر” ساخرة من جهة الأستاذ البشيري رحمة الله عليه! ربما ظنها كذلك بعض الحضور، فاستدرك الأستاذ المرشد لرفع الحرج قائلا: "نعم الحق أقول، معنا كاتب حقيقي"، وكلف الأستاذ العبادي بمراجعة الكتاب. وكانت كذلك ملاحظات مشجعة من لدن الأستاذ فتح الله أرسلان الذي أثنى على الجانب العلومي في المقاربة، معتبرا إياها نادرة عند كتاب الصحوة في المشرق العربي.
ظن الساذج “منتظر” أن الكتاب سيحدث ثورة في البلد إن كتب له أن يصل إلى من يهمهم الأمر! وهم بتسليمه إليهم عبر أحد الشرفاء النافذين من معارفه. وكانت مناسبة جمعته به وبثلة من شرفاء "أمضغرة" الذين كانوا من الفضلاء المعتبرين للرحم البعيد الذي يجمعهم. فلربما مراعاة للرحم أيضا حذروا الساذج “منتظر” وأنذروه بالاستعداد للمحن، إن كان عازما على مجابهة التيار العلماني الجارف! فسمع من أحدهم أن نقله إلى وجدة عبارة عن نفي سوف يعرفه بطاغية، والده كان كذلك طاغية مثله، يتلذذ بتعذيب الشرفاء في سجون الاستعمار بالرشيدية! وسمع من آخر أن الأسلاف كانوا قد بنوا دولتهم بجهد سواعدهم، ولن يسمحوا لأحد مزاحمتهم في ملكهم! وكأنه يريد إيصال الرسالة إلى رجال الصحوة. فلم يعتبر “منتظر” كلامه لأن المشكل ليس في "من يحكم"، وإنما "بأي شرعة يحكم"، ورجال الصحوة لسان حالهم يقول: " كن عمر وقد السفينة"، أما لسان حال التيار العلماني الحاكم باسم المستعمر، فلا أحد يتفق معه، وهو الطامع في تأبيد تعطيل شريعة القرآن، ليحكم اليهود العالم بالشريعة المزورة. والعقد الذي بين المغاربة وبين أمرائهم، من أهم أركانه الحكم بما أنزل الله، لا بشرعة التلمود أو قوانين نابليون. وإلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فإن كانت طاعة في معصية، فبسبب القهر والجبر الذي لا دوام للدولة معه. ويتولى وزر ذلك، الحاكم المعطل لشريعة الإسلام.
فلما علم “منتظر” أن هؤلاء الشرفاء، ربما حتى في أعلى هرم النفوذ، لا حول لهم ولا قوة في دفع خطر التيار العلماني، وبعدما نصحه مرشده بضم أثوابه حذر الوقوع في فتنة الركون إلى أعوان الظلمة، قطع كل علاقة معهم، إلا ما كان من صدف تلاق نادر من غير قصد ولا ميعاد.
ومن تلك الصدف، سوف يلتقي بأحدهم كانت له معه علاقة طيبة في إطار العمل لما كان قائدا على جماعة المناصرة في القنيطرة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي. وسيخبره بعد ربع قرن من انقطاع الصلة بينهما بتقلباته في المناصب السلطوية حتى انتهى به المطاف إلى عمالة سلا، وأسر له أنه كان له بعض الفضل في رفع الحصار على المرشد، والله أعلم! وكان فعلا من الفضلاء، لكنه كان ينتصر للمخزن انتصارا غير مشروط، ظالما كان أو مظلوما! والمتعصب يستحيل أن يدور مع الحق حيث دار!
ومن تلك الصدف أيضا، ملاقاة عالم منهم يسمى المصطفى العلوي وهو الآن في دار الحق رحمة الله عليه، كان مسؤولا عن المجلس العلمي لجهة مكناس والرشيدية. جاء في زيارة عمل إلى المجلس العلمي لأقاليم الشرق. بادره بالتحية وقد كان ضمن الوفد الرسمي، وسأله كيف حاله مع "ابن جلاد الشرفاء"؟ يقصد عامل الإقليم. فأجابه قائلا: "لقد استقبلني بحفاوة لا تنسى". وفعلا كان استقبالا متميزا، كما سيتبين بعد قليل.
لما التحق المهندس "مستفز" بوجدة، بعد تهديده بالفصل من عمله، إثر رفض الالتحاق دام قرابة نصف عام، أقيم حفل تنصيبه في عمله الجديد، في مقر العمالة، بحضور مسؤولي المصالح الإقليمية، وبحضور المدير المركزي للمياه والغابات، والمدير الإقليمي للفلاحة. بعد الحفل، استدرج عامل الإقليم للدخول معه إلى مكتبه كلا من المدير المركزي للمياه والغابات والمدير الإقليمي للفلاحة وصاحبنا "مستفز". فكانوا في جلسة مغلقة عندما قال العامل: "نرحب بمسؤولنا الجديد في المياه والغابات، لقد سمعنا خيرا عن جديتك واستقامتك، لكننا سمعنا كذلك أنك تعاشر أناسا يزعجنا كثيرا أن نراك معهم. لذا ستختار عن قريب إما أن تخرج معهم إلى الشارع، وإما أن تبقى معنا! " هكذا، إما، وإما!
فلم يجبه المهندس بشيء، وأما المديران، فلم يدخرا جهدا لبذل النصح له لما خرجوا من مقر العمالة. "فكر في أسرتك، في مصدر رزقك، في ترقياتك والمناصب التي تنتظرك!"
الله الله! كم يحرص الناس على الخير لغيرهم! ولم تكن إجابة صاحبنا سوى تجديد تاريخ وصياغة رسالة طلب الإعفاء من المسؤولية التي كان قد بعثها من قبل إلى الوزارة. كان ذلك يوم غد ذلك الحفل. ولم يرد أن يكدر صفو استقبال المدير المركزي في ضيافته تلك الليلة، وقد تسابق مهندسو مقاطعات المياه والغابات في الإقليم للاحتفال به، بذبح أكباش من خرفان الهضاب العليا المتغذية على أعشاب الشيح والزعتر!
فكأنما أخبر شيطان الكهان " ابن جلاد الشرفاء"، بالذي في الحدثان. لقد جاءه في وسط ألف كذبة بخبر صادق! نعم سيخرج المناضل "مستفز" إلى الشارع في مدينة وجدة بعد حين، مع إخوان العدل والإحسان!
مكث صاحبنا قرابة ثلاث سنين في " منفاه " تحت رقابة "ابن جلاد الشرفاء"، وسينقل إلى الرباط كباحث في محطة الأبحاث الغابوية، بعد أحداث ستذكر فيما بعد. وسيرجع إلى وجدة ضمن وفد نقل الأخ العبادي إلى داره بعد خروجه من السجن سنة 1992، فكان في الشارع مع إخوان العدل والإحسان الذين خرجوا إلى شوارع المدينة، ألوفا مؤلفة يهتفون بحياة المجاهد العبادي! فكان ذلك من غريب صنع الله، آية لم تكن لتمر دون أن يعتبرها صاحبنا. سيارته الحاملة للأخ العبادي والأخ الركراكي، كانت تشق طريقها بصعوبة كبيرة في الشوارع المؤدية إلى المسجد المستقبل للمجاهد قرب مقر إقامته. فلما رأى الأخ الأكبر لصاحبنا تلك الأجواء النابضة بمشاعر المحبة الصادقة، المؤدية لنشيد "طلع البدر علينا" وسط زغاريد النساء وتكبير الرجال، لم يستطع كبت شهيق بكاء حار، تأثرا بتلك الأجواء المفعمة بالمحبة الصادقة. والحب في الله كنز ثمين يودعه الله النفوس الميالة للخير وأهله، ويحرمه الذين يسارعون في معاداة من يدافع عن دين الله.
وفي فترة رفض الالتحاق بوجدة، رزق الوهاب تبارك وتعالى صاحبنا مولودا رابعا سماه "موسى"، أصلحه الله وذرية المسلمين جميعا. فلما ذكر اسمه للأستاذ المرشد قال له: لو اخترت له اسم محمد؟ فلم يرد عليه وقد مرت العقيقة، وقد كانت نيته تأريخ أحداث هذه الفترة المطبوعة بالمواجهة العلنية للذهنية الطاغوتية المتفرعنة. فخلالها كانت الاستقالة من المسؤولية ورفض الالتحاق بوجدة، وكان الكتاب الرسالة، وكانت مواجهة رجال القمع الذين يصدون الناس عن حضور محاكمات الأستاذ المرشد، وكانت الرسالة الثانية من وجدة لتأكيد طلب الاستقالة وغيرها من المواقف الفاصلة.
ومنها كذلك مواجهة أخوية كانت مع المرحوم البشيري، حول الخط التحريري لمجلة الجماعة، اقترح صاحبنا تخصيص بعضها لمادة علومية، بينما آثر الأخ البشيري مواد أدبية وشعرية. فلما رفض رأي المهندس "أبي موسى" رد عليه قائلا: لقد هربنا من الطاغوت ولم نكن نظن أننا سنجده هنا". فلما سمع المرشد بما حدث ضحك وقال" فيلالة وغضبتهم، نعم، البشيري أمه فيلالية"! فكان ذلك مثالا للرفق في تدبير الاختلاف!
ومن ذلك أيضا، رد على الأخ البشيري لما قال في المجلس نفسه: "من الناس من يريد أن يحاسب الجماعة على أموالها وهو لم ينفق عليها إلا كقلامة الظفر". فقال صاحبنا لرفاق له في الرحلة الراجعة من مراكش" كان من الواجب الرد على الأخ في كلامه وإلا سقطنا في ما كان يحذرمنه معاوية، وذكر بالقصة التي رويت عن الحدث: ذكر عن معاوية بن سفيان أنه صعد المنبر يوم الجمعة فقال عند خطبته "إنما المال مالنا والفيء فيئنا فمن شئنا أعطيناه ومن شئنا منعناه، فلم يجبه أحد، فلما كان في الجمعة الثانية قال مثل ذلك، فلم يجبه أحد، فلما كان في الجمعة الثالثة قال مثل مقالته، فقام إليه رجل ممن حضر المسجد، فقال: كلا، إنما المال مالنا والفيء فيئنا، فمن حال بيننا وبينه، حاكمناه إلى الله بأسيافنا، فنزل معاوية، فأرسل إلى الرجل، فأدخله، فقال القوم: هلك الرجل. ثم دخل الناس، فوجدوا الرجل معه على السرير ، فقال معاوية للناس: إن هذا أحياني أحياه الله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون بعدي أمراء يقولون ولا يرد عليهم، يتقاحمون في النار كما تتقاحم القردة"، وإني تكلمت أول جمعة فلم يرد علي أحد، فخشيت أن أكون منهم، ثم تكلمت في الجمعة الثانية، فلم يرد علي أحد، فقلت في نفسي: إني من القوم، ثم تكلمت في الجمعة الثالثة، فقام هذا الرجل فرد علي، فأحياني أحياه الله" ( عن محمد يوسف الكاندهلوي: حياة الصحابة.) وقد كان من جملة المسافرين الأخ أبو بكر بن الصديق الذي أبدى موافقته على ما قيل.
ومن ذلك رسالة يسأل فيها عن مشروعية استعمال وسائل الدولة في مصالح الجماعة، علما أن مال الغير لا يحل لأحد إلا عن طريق عقد في سلم، كبيع أو هبة أو زكاة أو إرث؛ أو عن طريق عقد حرب كغنيمة أو فيء أو أنفال وغيرها... فلما قرأها أحد مسؤولي الجماعة رد عليه قائلا : أنت كثير الورع!...
فكانت بداية " أبي موسى" مع الجماعة تتسم بشئ من المبالغة في الانتقاد، والإفراط في الوثوق بحاسة رصد الذهنية الاستكبارية التي كان قد صقلها عند احتكاكه بالتيار العلماني. ولم يكن ذلك إلا لسبب سيطرة حسن الظن بطهارة المحضن، وملائكية رجالات الجماعة، مقارنة مع من يكيدون كيدا في التيار العلماني المسير للبلد. فلربما تلك المواقف الحادة في الدوران مع الحق حيث دار، حددت منذ البداية موقعه داخل الجماعة. ولربما رأى المرشد ضرورة تربوية لكبح جماح هذه الشرة الحركية، فزاد في توريط صاحبنا في الخير بتكليفه بترجمة كتاب من الحجم الكبير، ألفه بالفرنسية : كتاب "الله أكبر ". وهو عين تطبيق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: " إن للإسلام شِرّة ، وإن لكل شرة فترة ، فإن كان صاحبها سدد وقارب فارجوه ، وإن أشير إليه بالأصابع فلا ترجوه " . ( إسناده جيد ) وأخرجه الترمذي، وابن حبان. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب . وللحديث شاهد من رواية ابن اسحاق : عن عبد الله بن عمرو قال : ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجال ينصبون في العبادة من أصحابه نصبا شديدا، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تلك ضراوة الإسلام وشرته، ولكل ضراوة شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى الكتاب والسنة فَلأَمّ ( أي قصد الطريق المستقيم ) ما هو، ومن كانت فترته إلى معاصي الله، فذلك الهالك ". ( إسناده حسن، حسب الألباني). وصاحبنا "أبو موسى" يرجو ربه أن تكون فترته إلى الكتاب والسنة، خاملا بين إخوانه، دائم المراجعة في المحاسبة والتوبة والمقاربة والتسديد، داعيا إلى ذلك، وهو سبب اختيار عنوان هذا الجزء من المذكرات.
ولقد ساعدته محاولته الشاقة والفاشلة في نفس الوقت لترجمة السفر الضخم في تحقيق مآرب أخرى، ربما كانت هي المقصودة - تربية وفراسة - من تكليف الأستاذ المرشد، منها تعميق تكوين مهندسنا في مدرسة المنهاج النبوي، خاصة بالمنظور الذي يتحدث مع العقلية الغربية؛ ومنها التقليل من ركاكة أسلوبه اللغوي في التحرير باللغة الفرنسية واللغة العربية؛ ومنها تأليف قاموس لبعض ألفاظ ومصطلحات كتاب "الله أكبر"، بمساعدة الأخ عمر عزيز، صححه المرشد ثم صادق على استعماله عند الحاجة؛ ومنها صقل مهارات الترجمة الفورية لصاحبنا ( ولو بشيء من التصرف، كما كان يلاحظ عليه الناطق الرسمي للجماعة !)، سوف تنفع الجماعة في اللقاءات الإعلامية التي تنجزها ؛ والنفع الأهم سوف يظهر في مرحلة بناء المشروع المجتمعي للجماعة وبرامجه التفصيلية.
استقر المهندس" مستهدي " في مقر عمله الجديد في مدينة وجدة، في مسكن فخم بخدمه وحشمه، حتى العون الذي كان مكلفا بتسخين الحمام التقليدي! كان عامل الإقليم قد رحل منه للتو، بعدما وسعه وأصلحه، وسكن فيه شهورا تاركا مسكنه قرب مقر العمالة لملك البلاد الذي كان يهم بزيارة أقاليم الشرق.
رزقه الله فيه ولدا خامسا بارك الله فيه وفي جميع أبناء المسلمين، سماه "عبد الهادي" طمعا في مزيد الهداية من الله إلى الرشد، وسط بحور الحيرة في سلوك الصراط المستقيم، الذي هو أدق من حد السيف.
فلقد كان صاحبنا مكرها على الجمع بين شخصيتين والحذر من انفصام الشخصية! يحضر المجالس الإقليمية كسائر مسؤولي المصالح، وهي غالبا ما كان "ابن جلاد الشرفاء" يعقدها يوم الجمعة، لكن صاحبنا يقوم غير مستأذن لحضور الصلاة إذا نودي لها، غير عابئ باستمرارية الاجتماع، الذي غالبا ما كان يمدد إلى فوات وقت الصلاة.
كان يحضر التدشينات الرسمية للمشاريع التنموية والاحتفالات بالمناسبات الوطنية والدينية، لكنه إن رأى منكرا واضحا لا يسكت عنه أبدا. وله قصص كثيرة تعبر عن اصطفافه إلى جانب الحق، لا يخشى في الله لومة لائم.
كان يوما من أيام مرافقة عامل الإقليم، بجانب العقيد المسؤول الإقليمي للحامية العسكرية الشرقية، وكانوا بصدد تدشينات لمشاريع في مدينة بركان، ورئيس الجماعة المنظم للحفل هو أخ هذا العقيد المسؤول، عرض في جملة ما عرض، تمثالا صنما للملك الحسن الثاني، بجلبابه الأخضر وطربوشه الأحمر... فترى الناس في حرج من الأمر عند مرورهم أمام الصنم. فمنهم من ينحني، ومنهم من يسجد للتمثال، ومنهم من يهم بتقبيل اليد، فيمنعه الخادم مخافة تكسيرها وهي جبص خالص! فلم يتمالك “ مستهدي “ إلا أن همس في أذن العقيد: " لقد اقترف أخوك إثما كبيرا بتنصيبه لهذا الصنم، فلولا نصحته بالاستغفار وبتكسيره لئلا يعاد عرضه، فيقع السجود لغير الله، فيكون عليه وزر ذلك". فقبل العقيد النصيحة دون حرج، وقد كان من الشرفاء الأدارسة اليعقوبيين. وعقد مودة مع صاحبنا فكان يزوره في مكتبه مرارا.
ومن ذلك أيضا ما حدث يوما في ناحية عين بني مطهر، يستعد فيه عامل الإقليم ووفد من الوزراء، من ضمنم وزير الفلاحة، التحقوا بالعامل ووفده في بلدة عين بني مطهر جوا بالهيليكوبتير، ثم انتقلوا جميعا إلى تلال حدودية مع القطر الجزائري الشقيق، لتدشين سدود تلية لسقاية الماشية. فلما كانوا في الطريق ظهر لصاحبنا مسجد ينادي لصلاة الجمعة. فأمر سائقه بالخروج من القافلة والتوجه إلى المسجد. فكانت سيارته هي الوحيدة التي سلكت ذلك المنعطف تحت أنظار القافلة الصاعدة إلى التلة. وبعد الصلاة، التحق بالوفد وقد لاحظ الجميع تغيبه بسبب الصلاة.
وعندما هم وزير الفلاحة بالصعود إلى الهيليكوبتير، نادى المهندس وقال له: هل فكرت في استعمال شجر البطم كنوع لتشجير الهضاب العليا؟ فقبل المهندس الاقتراح، ولم يكن الوقت يسمح للمزيد من الكلام حول مشاريع المصلحة، ورياح الحوامة قد أثارت زوبعة من الغبار تعمي الأبصار، ذكرته بتلك الزوابع الرملية التي استقبلته في أول يوم التحاقه بالعمل في وجدة.
لم يمر أسبوع على الجولة مع الوفد الوزاري، حتى زار المهندس "منبسط" في مكتبه رئيس جماعة "أولاد سيدي عبد الحاكم"، عمار الهضاب العليا الشرقية. وكان مما دار حوله الحديث قول الرئيس للمهندس الشاب: "لقد أعطيتنا أثناء الجولة مع الوزراء درسا لن ننساه أبدا! صرفنا أموالنا في ضيافة ناس وعدونا بالمشاريع الرنانة، وقد تيقنا من سرابيتها، وتبخرت بمجرد انصرافهم! وكان ذلك جزاؤنا! لبينا نداءهم وتركنا صلاة الجمعة! وكنت أنت الوحيد الذي فاز بها من دوننا"! فأجهش ببكاء فيه رقة مؤثرة وصدق واضح. فلم يدخر " منبسط " جهدا في مواساته لما بلغ قلبه صدق بكائه ورقة عواطفه. فأراد تهوين الحدث وقال له: " لقد كنا في سفر، والسفر يبيح صلاة الجمعة رباعية بدون حرج، وربنا غفور رحيم... "
فلما سأل المهندس عن هذه القبيلة أحد أعوانه العارفين بالأنساب، قال له إن أصولهم ترجع إلى الخليفة الأول سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وهم أبناء الزاوية الشيخية الذين أبلوا البلاء الحسن في مقاومة الغزو الفرنسي في الهضاب العليا بين المغرب والجزائر. منهم الزعيم البطل "بوعمامة" الذي نال اعترافا في مقاومة المستعمر الفرنسي، بوصول مبعوثين إليه من مختلف السلطات العربية والإسلامية يحملون إليه رسائل الاعتراف بمشيخته في الصحراء كخليفة لأبي بكر الصديق، من السلطان العثماني ومن السلطان المغربي. ولقد كانوا من رجال التصوف الجهادي الذي لا يعترف بالحدود المفروضة من سلطات المستعمر، فقبيلتهم لها فروع في الجزائر وأخرى في المغرب، وبينهم تواصل يستحيل قطعه.
ولقد دام التواصل بين صاحبنا " منبسط " وزعيم القبيلة حتى بعد انتقاله من وجدة، يتبادلان السلام عبر أحد إخوان عين بني مطهر، الأخ إبراهيم من خيار موظفي الفلاحة، كان كثير الأسفار في مهمات العمل إلى الرباط.
كان مهندسنا كثير التجوال في مجالهم الطبيعي ومسارحهم الشاسعة في سهوب الحلفا العجيبة. والحلفا نبات يصبر على مناخ الهضاب العليا الحارة والجافة صيفا. أما في الشتاء فهي لا تضاهى في الصبر على الزمهرير النازل من القطب الشمالي عبر وادي الرون الفرنسي ( ريح الميسترال). وكل أنواع الشجر لا تصبر على تلك العوامل المناخية، فهي بيئة قفر لا تصلح للغابات، ( milieu assylvatique)
ولقد كانت للمهندس دراسات ومشاريع للتدبير المستدام لهذه الثروة الرعوية الطبيعية الفريدة من نوعها التي يشرف عليها على مساحة مليوني هكتار. كانت حتى تاريخ قريب عند دخول الفرنسيين للناحية تخفي عن الأنظار بحجمها وكثافتها قطعان البقر والغزلان والنعام. وقد تعرضت للإتلاف في مئات الآلاف من الهكتارات، لما أرغم سكان المنطقة على الاستقرار في أماكن محددة من طرف المستعمر وخلفه، عوض اتباع نمط العيش المتنقل بين جهات النجود مع الماشية. فتبع ذلك تحول بعضهم من تربية المواشي إلى الفلاحة التي تسببت في تصحر مجالات شاسعة بعد نزع نبات الحلفا. فلما عرض عليهم المهندس صيغته لمعالجة المشكل من جذوره، قبلوها بكل ارتياح لما اعترفوا بصلاحها وبشرعيتها الإسلامية، إذ الشرع يقرر أن "الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار"، وتحجير الأرض من أجل زراعة الشعير ربما أعطى منتوجا في السنة الأولى، لكن الرياح سرعان ما تذهب بالتراب الخصب الذي كونته ومسكته جذور الحلفا عبر آلاف السنين، وسرعان ما تظهر صفائح الكلس الجرداء، وهو عين التصحر والفساد في الأرض.
وكانت للمهندس كذلك أبحاث لتحسين مسحوق نبات الحلفا لكي يتيسر للماشية هضمه، سعيا لتحويل استعمال ملايين الأطنان التي تنتجها تعاونية مستغلي الحلفا علفا للمواشي، عوض حرقها لتنتج الطاقة الحرارية المحركة لمعمل السكر في زايو قرب بركان. خلاصة التجارب: زرع حبوب الشعير أو الدرة أو الفول في مسحوق الحلفا، للاستفادة من الجذور التي تكتسح المسحوق، والاستفادة من حوامض الجذور وإفرازاتها في تحليل سيليلوز الحلفا المستعصية على الجهاز الهضمي للماشية.
والتعاونية المذكورة التي كان يشرف عليها صاحبنا "مستهدي" عبر مدير من أعوانه، استطاعت مضاعفة أرباحها، وقد كانت على عتبة الكساد من جراء بخس المعمل لمنتوجها وغلو أثمان نقله. فانتعش المنخرطون فيها، وكانوا يرعون مئات الأسر. كما أن مهندسنا حاول تنويع مصادر رزقها، بربط شراكة بينها وبين مقاولين غابويين، يستغلون نبات إكليل الجبل المعروف محليا باسم "أزير"، يستخرجون منه روحا لعطور غالية الثمن في أمريكا وأوروبا.
ومن النوادر التي يذكرها، أن مهندسا من معارفه، رئيس مصلحة الثروات الرعوية، كان ينافسه في الاهتمام بالمراعي، والمنافسة في الخير أمر محمود. كانوا يوما في حفل ليلي حضره الأعيان والمسؤولون الإقليميون وبرلمانيو الإقليم، وكان في الحضور أطر من جنسية أمريكية يعملون مع ذلك المهندس. وكانت على مائدتهم قنينات خمر، فلما دخل عليهم المهندس "مستهدي" خبؤوا القنينات بين أرجلهم، استحياءا منه. فما كان من رئيس مصلحة تربية المواشي إلا أن أعادها إلى مكانها قائلا بصوت مرتفع : " هذا ليعلم الناس أن لحيتي "التقدمية" ليست كلحية صاحبنا المسلم هذا" مشيرا إلى المهندس " منبسط" !
ومن غريب صنع الله أن المهندس "التقدمي" ظهر بعد أسبوع مجردا من لحيته. أكل طرفا كبيرا منها الجرب، بسرعة غريبة، فحلق الباقي منها ليخفي ما أصابه! وقد كان حريصا على أناقة مظهره! ولم يجد طريقة لمعالجة الحدث سوى أن همس مازحا في أذن صاحبه " المسلم" لما وجده في اللقاء الأسبوعي لرؤساء المصالح: "أنت السبب في ما أصابني، لقد رميتني بلعنة خمر المائدة، فنزلت على لحيتي!!"، فضحك من علم بما حدث مرة واحدة! وضحك باقي الحضور مرتين!.. ولكن المهندس التقدمي ما كان ليعتبر! اما صاحبنا فلم يدر كيف هجمت على وجدانه فكرة تناسب المقام: " إذا جلست على بساط الحلفا، فإياك والانبساط"!..
ولم يكن هذا الاهتمام بعيش الناس عبر تدبير الثروات الطبيعية هو السبب الأهم في العلاقة الطيبة التي ربطته بسكان الهضاب العليا، وسكان جبال جرادة و بني يزناسن وتافوغالت، وسكان جبال دبدو وتاوريرت ومستكمر، التي تعمها مشاريع التشجير واستغلال الغابات وتدبير مغارس اللوز التي تحمي التربة من الانجراف.
رجال الشرق يمتازون بروحانية عالية، وصديقية ربما اعتبرها البعض سذاجة ورهافة عاطفية، فانتهزها لكي يحاول استغلالها ضدهم. وعند اكتشاف سوء نية المراوغ، سرعان ما يظهر له منهم ما يسوؤه. وتلك الصفات ربما انتقلت لهم من جدهم أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كان لين العريكة مع المؤمنين، لكن الفاروق تعجب من شدته على المراوغين في أداء حق الله من الزكوات!
ولقد شاء الله بأهل النجود العليا خيرا فأطرهم برجال التصوف الجهادي في زوايا مهمة، منها الزاوية الدرقاوية الهبرية ومقرها بلدة عين الصفا، ومنها الزاوية البكاوية القريبة من بلدة بركان، و الزاوية الرمضانية و الزاوية الحمداوية أو زاوية زكزل قرب مدينة تاوريرت والزاوية الشيخية في بلدة عين بني مطهر، والزاوية البوتشيشية ومقرها " مداغ " قرب بلدة أحفير، وهي الزاوية التي كان مرشد جماعة العدل والإحسان ينتمي إليها.
ولربما تنافست هذه الزاوية الأخيرة مع الزاوية الهبرية في استقطاب رجال الدولة في القطر الجزائري والقطر المغربي، فيشار إلى الزاوية الهبرية بضم الزعيم بوتفليقة، وأما الزاوية البوتشيشية فيرعاها رجال من المخزن المغربي... والله أعلم.
فلما تمتنت علاقة الود بين مهندسنا "متواجد" ورجال الشرق الأخيار، استضافوه إلى مجالسهم الخاصة، ولم تكن سوى مجالس الذكر الصوفي في زوايا مختلفة.
حضر مع بعض تجار المدينة يوما مجلسا للذكر متميزا بضرب الطبول للمتواجدين الهائمين في أجواء الفناء في الله، وكان ذلك في مقر من مقرات الزاوية الهبرية في البادية بقرية عين الصفاء. فأخبره أحد مستضيفيه يسمى "امباصو" أن شيخا مسنا كان في المجلس، قد أشار عليه بتأسيس مجلس للذكر معه ومع شخص ثالث كان معهم. فكان لهما مع هذا الشيخ قصص غريبة يضيق المقال بذكرها، وقد طلب منه جمعه مع مرشد جماعة العدل والإحسان، فلم يتيسر ذلك لاعتبارات تربوية ذكرها المرشد، مدارها حول الفرق بين شيخ التربية وشيخ التبرك، والحذر من الالتفات!
وفي مناسبة من مناسبات ذكرى المولد النبوي، دعا مهندسنا "متواجد" أحد الموظفين معه في مديرية الفلاحة اسمه "بوتشيش"، ابن أخ السيد حمزة شيخ الزاوية البوتشيشية، دعاه لحضور ذكرى المولد النبوي في مقر الزاوية بمداغ. فقبل الدعوة وحضر ليلة متميزة، حج إليها جمهور غفير جاء من كل حدب وصوب. وكان منهم من خصهم الشيخ باستقبال في بيته. وكان صاحبنا منهم. والشيخ عليه مهابة ونورانية واضحة وكاريزماتية هادئة "تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب". خصه بخطاب قال فيه: هل تلقيت ورد الزاوية؟ فأجابه "متواجد" : "نعم ولكن من فرع مبارك ينتسب إليكم". فقال "من أين؟" فأجابه: " من فرع عبد السلام ياسين". فسكت ولم يعقب، إنما جاء التعقيب من جانب مريد " جامعي التكوين " يجلس بجانب الشيخ. فذكر ياسين بنعوت ناقصة الأدب هي أقرب إلى الغيبة من أي حديث آخر. فما كان من متواجد إلا أن رد عليه قائلا: " أما ياسين فلا يذكر الزاوية ورجالها ونساءها إلا بالخير وحسن الثناء". فلاحظ امتعاضا في وجه الشيخ، لكن رباطة جأشه الضرورية بحكم موقعه، أخرسته فلم ينطق بكلمة، إلا أنه أمر ابن أخيه بتلقين ورد الزاوية لصاحبنا "متواجد". وانطلق الوفد بعد ذلك إلى الحضرة، ولحق بهم مستضيفهم بعدما تخلف مع عمه حمزة بضع دقائق. فلما لحق بهم، أسر ل"متواجد" أن الشيخ غضب غضبة كبيرة على المريد "المثقف" الذي أساء الأدب واغتاب ياسين، وأمره ومن حضر بالصمت كليا عندما يذكر اسم ياسين أمامهم!
وبعد شهور، سيقص "متواجد" على الأستاذ المرشد تفاصيل ذلك اللقاء مع الشيخ حمزة أمام بعض أفراد مجلس الإرشاد. فقال له المرشد: "نعم السفير كنت لنا في الزاوية".
وكانت للمهندس "مستكشف" زيارات لأحد المجاذيب مع صديقه "امباصو"، الذي كان عمه يرعى زاوية مباركة في مدينة وجدة، لها صلات بزاوية ماء العينين الصحراوية. اتخذ ذلك المجذوب سكنا له في كهف وسط كهف آخر معلق بين السماء والأرض، في جبل شاهق قرب بلدة قنفودة. والجبل يضم بين سرابيله خرائب قديمة، تروج حولها الأساطير. يقال إنها مقابر الملوك الزيريين ومدفن كنوزهم. والدولة الزيرية دولة بربرية انشقت عن الفاطميين، وأرجعت ولاءها للعباسيين الذين كانوا يمثلون ما بقي من الخلافة الشرعية للمسلمين. وكانت عاصمتهم مدينة وجدة القريبة من هذا الجبل. وكأن الجن حراس الكنوز قد أبقوا المكان محجوباً عن أنظار أهل الفضول، ليجعلوه راحة للسائحين، وخلوة لنفوس المستوحشين السائمين من تكاليف الحياة وشرور البشر.
وقمة الجبل التي تأوي المجذوب لا يصلها المغامرون إلا بعد مشقة وتعلق بالسلاسل والسلاليم والحبال، يصعب النظر معها إلى محط الرجل على شفا هاوية ترتعد لها الفرائص والأحشاء تكاد تنفطر! ولما يصل الواصل إلى المغارة التي تشرف على سهوب الحلفا الشاسعة بعد مكابدة التسلق، يستحوذ عليه رعب الرجوع، لا يسكن إلا عند نزول المجذوب من الكهف الذي يوجد في سقف الكهف على علو كبير، عبر سلاليم رقيقة يصعب تخيل استعمالها، بينما المجذوب الكهل يسلكها في خفة متوازنة ورشاقة عجيبة. وتتنزل الراحة في ظل الكهف الكثيف، وتهدأ أنفاس العناء رويدا رويدا، عند عبارات ترحاب المجذوب، وتفضله بما وجد من مأكل ومشروب، وتعم السكينة لما يستغرق في كلام أولياء الله الصالحين... فيحكي قصته التي هي أغرب من خيال، ويستدرج الحضور لمساءلته دون حرج. فيسأله صاحبنا: "لم لم تتخذ زوجا تساعدك على السير في السوق بين الناس، فأجابه قائلا: أنا لا أكره ذلك، لكن ربي حبسني فلا أطيق حياة غير هذه، ولقد أراني الله موقعي هذا وحياتي فيه، وأنا شاب في بلدي قرب مدينة بني ملال. فسافرت هائما أبحث عن الموقع الذي أراني الله صورته. فشرقت إلى أن وصلت مصر، وغربت إلى السوس مرارا، إلى أن وجدته بأوصافه في هذا المكان. فأنا مطمئن فيه إلى أن يأذن الله بأمره." فسكت، وأطرق، وغارت عيناه في حفرتين من الكآبة الموجعة. وتبعه الحضور في سكوته العميق الذي ضاع صداه الصامت على جنبات الكهف الشاسع، وبين ظلاله الغامضة. ويحدث أنس غريب بالسكوت، لأن في مثل هذا الظرف الثقيل، يفقد الشعور الوجودي المطلق من أسراره ومعانيه عندما يراد تقييده بالعبارة، أوتجسيده بالكلام، أو تشويشه بسوء الأدب...
وتأتي لحظة الفراق مسرعة، ويشايع المجذوب زائريه إلى مسلك الوداع في وقت الأصيل. ينزلان بحذر من الجبل، أمامهم منبسطات وقرى قد شرع الظلام في إسدال أثوابه عليها، بينما قمة الجبل، والكهف، والمجذوب، لازالت شمس المغيب الحمراء تسكب عليهم ما تبقى من خيوطها الذهبية.
والتفت صاحبنا عندما اتضحت له حقيقة الوداع صوب القمة وما تضمها، ثم تردد برهة في نزوله صوب عمارة البشر، مستحضرا ما ينتظره بعد الرجوع إلى مدينتهم، من أتعاب الحياة، وتكاليف العمر، ومكابدات المعاشرة.
وصديقه " امباصو" الذي كان دليله ومساعده في التسلق والهبوط في هذه الرحلة، يوشك أن يكون من المجاذيب لولا أنه كان مولعا بلعب رياضة "كرة المضرب" يدرب علية القوم عليها ويحافظ بها على لياقته الجسدية والعقلية، ويموه بها على العامة! وقد كان محفوظا في زياراته المتكررة للمجذوب حتى في الأيام التي تنزلق فيها الأرجل على الثلوج وصقيعها الغادر.
لكن "امباصو" كان مجذوبا في داخله لا شك في ذلك! وجذبه تقمص صورة شاب وسيم في أسمى مظاهر السعادة بالله، لا تعرف له الكآبة طريقا، وليس ذلك فقط، له قدرة عجيبة على نقل حاله للآخرين! يقدم على أمور غريبة لا يتصورها الآخرون حتى في خيالهم. يحكي قصة عن أحد - بلاشك كان هو، ولكنه التواضع- كان في زيارة لضريح سيدي يحيى بضاحية مدينة وجدة، ورأى صبيا مقعدا بين يدي أمه فصاح به قائلا : هيا قف وأقبل ! فوقف الصبي تحت أنظار أمه المبهوتة!
ومرة رافقه صاحبنا لزيارة شيخ جاوز التسعين من فقراء الزاوية الهبرية، تقدمت الإشارة إليه، يسكن كهفا قرب ضريح الولي الصالح سيدي يحيى الشرق، فاشتكى الشيخ من أهله، سئمت الحياة في الكهف، تريد ماء الصنبور، ومصباح الكهرباء، وثلج البراد كعامة الناس، فنهرها المجذوب "امباصو" على إغضاب الشيخ وقال لها: " تريدين مسكنا في المدينة؟ غدا سوف ترحلين إن شاء الله"! وذهب وأحضر لها مفتاحا لشقة في المدينة! وطلب من صاحبنا مساعدته لترحيل قش الفقير، والمجذوب امباصو لا يزال في دار الكراء!
ربما نقل "امباصو"عدوى جذبه لشقيق صاحبنا يسمى "المختار" في مدينة فاس لما زاره برفقته، وكانا في طريقهما إلى الرباط! سوف ينتقل "المختار" ليتمم تملك الشيخ للشقة، بعدما استشعر شيئا يأمره بذلك. فركب القطار من فاس إلى وجدة ودخل على موظفي المحافظة العقارية أو الأملاك المخزنية، وقال لهم كلاما أقنعهم لكي يشطبوا على ما تبقى من تبعات لتملك الدار عوض دفع ثمن الرهن، ثم عاد لتوه في القطار إلى فاس!
ومن المجاذيب من لقيهم صاحبنا في الزاوية الهبرية. قيل له تصدق على أحدهم بدراهيم، فلما وضعها في يده عند السلام عليه صاح صيحة، مفزعة ورماها من يده. فضحك الحضور الذين يعلمون السر، بينما كاد قلب "متواجد" ينفطر من صدق الصيحة وفجأتها! ففسروا له أن المجذوب كره الله له إمساك الدراهيم في يده. ومن يرد أن يتصدق عليه، فبطعام أو لباس أما الدراهيم فلا لا ثم لا!
كان المجذوب يوما جالسا قربه في مجلس ذكر مع الفقراء الهبريين في بلدة "عين الصفا". ينظر في وجه رجل يبيع الذهب كان من رجال التبليغ وفي قلبه شيء عن طبل أصحاب الزاوية! أطال المجذوب النظر في وجه الأخ، وكانت فيه نضارة ووسامة يوسفية، فباغتتة عطسة أطلق لها كامل الحرية لتخرج رذاذا، بل قل نخامة، استقرت على خد بائع الذهب الوسيم! ولو لم يكن مجلس الفقراء مجلسا مفتوحا على كل الأحوال، لاستهجن الحضور ما وقع، وما تبع ذلك من استغراق في الضحك من جانب النفر المصاحب لصاحبنا "متواجد".
وعلم التصوف والسلوك توغل في سبر أغوار النفس المجذوبة بواسطة القواميس والمصطلحات اللغوية والمناهج العلمية والمعارف الكونية التي كانت رائجة في زمان المحققين من رجال الطريق. وكادوا يحصلون على نتائج دقيقة اكتشفها العلم الحديث في موضوع العلاقة بين الجسد والعقل والنفس والروح.
والعوام لا يرون في المجاذيب إلا الغباوة التي هي مرقد الراحة... وذلك نظر من يولد ميت الشعور، ويعيش جثة باردة فوق التراب، لا يحركه مثلا ذلك السماع الذي يلامس في صدقه براءة الطفل، يباغث به "امباصو" مجالس الأنس والفرح بالله، كلما جنحت إلى مكروه اللغو، ومألوف الفضول، مبتهلا بتلك الكلمات الممجدة لله في القصيدة المنسوبة للعارف بالله سيدي يحيى الملقب بالبهلول:
يهون بها كل شيء عسير
فربي على كل شيء قدير
ويبدئ سبحانه ويعيد
ويفعل في ملكه ما يريد
أنا عبد رب له قدرة
فإن كنت عبدا ضعيف القوى
يقول لما شاء كن فيكون
ويحكم في خلقه ما يشاء
وأهل الطريق يرون الوجد بالتواجد، والجذب بالتجاذب، والعادات قاهرات، فمن اعتاد شيئا في السر فضحه في العلن... علاقة مجربة بمعايير العلوم التجريبية الحديثة.
والعلوم السيكولوجية الحديثة توضح أثر الشعور والعواطف والسلوك في تحفيز الإفرازات الهرمونية التي تحدث آثارا نفسية معلومة مسبقا. فيظهر استغراق المجذوب في حاله، تفاعل ينتج هرمونات تحدث أثرا في سريان التيار بين خلايا الدماغ المتحكمة في الحواس. والتفاعل تصاعدي الوقع، فكلما زاد مثلا حنو امرأة على رضيع ولو لم يكن ولدها، تحفزت هرموناتها التي تتحكم في تفجر الحليب، وإذا نقص الحنو انقطع الحليب.
وهو الحال نفسه عند مجاذيب الوساويس القهرية، ويسمونها هنا في أمريكا " Obsessive Compulssive Disorder: OCD "، ابتلي به أحد أبناء صاحبنا، وتجسدت له في وسواس الوضوء والنظافة والشك في الأكل الحلال، وتكاد تفسد عليه حياته وترمي به في عزلة المجاذيب الذين رفع عنهم قلم التكليف، فكلفوا أنفسهم ما لايطاق، وكأنهم يحملون فوق رؤوسهم أثقال الجبال... نسأل الله لنا وله ولجميع المسلمين العفو والعافية والمعافاة.
وإذا تعمق الإنسان في الموضوع يجد أن لكل وسواسه الخاص، فتارك الصلاة مثلا سيطر عليه وسواس استثقال السجود والركوع لله، وهناك وسواس الخمر أو المخدرات، ووسواس الكبر والغرور، ووسواس الشرك، ووسواس جمع المال، ووسواس القمار ... وقس على ذلك ... ومن متعه الله بنفس ذاكرة لله متزنة قاصدة في سلوكها الصراط المستقيم، لا إفراط ولا تفريط، فليحمد الله على توفيقه، ومن سلب شيئا من هذه المواهب المتوازنة، فلا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها. نسأل الله ألا يحملنا ما لاطاقة لنا به، وألا يجعل مصيبتنا في ديننا.
نعم تلك هي الأجواء الجاذبة التي اكتشفها صاحبنا في مدينة وجدة التي كان من قبل قد رفض الالتحاق بها، وأوشك أن يسيطر عليه الاكتئاب لما دخل أرضها لأول مرة بالقطار. كانت أجواء التحاب في الله والاستغراق في الهيام بمناجات القريب الرحيم، وسط قوم لم تكن محبتهم من أجل نسب يجمعهم، أو من أجل مال غرهم، إنما محبتهم لمرضاة الله تعالى.
وبقدر ما كانوا رهبانا بالليل، بقدر ما كانوا فرسانا بالنهار، لا يعترفون بالأقفاص القطرية والخطوط الوهمية التي رسمها الاستعمار حدودا لا تنتهك، ونفذتها الحكومات اللادينية المفروضة على المسلمين، لتفصل بين العائلات المنتشرة بين القطرين الشقيقين، وتقطع أرحامهم. وفرساننا الأشاوس في "غزوات " متكررة كما يعبرون عنها لكسر الحصار، منتزعين حقهم في التجارة مع إخوانهم في الدين، وفي التواصل بين أقربائهم، غير عابئين بكلاب الحراسة من جانبي الحدود، أعمى الله بصيرتهم فهم ينفذون خطة أعداء المسلمين في تمزيق الأمة، بينما هم في الغرب يتوحدون ويتعاونون. أخزى الله حكم العلمانية الغبية! وحفظك، ونصرك اللهم، لفرساننا الشجعان من جانبي الحدود المفروضة!.
ولم يكن من السهل على صاحبنا فراق رجال الشرق والهضاب العليا، لما جاء وقت الرحيل. ولقد تزامن انتقاله إلى الرباط بعد مرور ثلاث سنوات في وجدة، بانتقال الأخ العبادي، عضو مجلس إرشاد الجماعة، من سطات إلى وجدة كأستاذ لللغة العربية. وما كان له من مواساة سوى حفل وداع نظموه وحضره الأستاذ، ذكر لهم فيه مناقب أخيه وقال لهم : "لقد عوضكم الله صحبة من هو خير مني." ويتذكر صاحبنا أن الأستاذ ألقى درسا في ذلك الحفل حول العلمانية، وقد كلفه المرشد في تلك الأيام بتصحيح كتاب صاحبنا " التسيير العلماني للمجتمع المغربي جذوره وآفاقه"، سبقت الإشارة إليه!
يتعجب الإنسان من أحوال الفقراء في مجالس الحضرة وعند السماع ودق الطبول. وبعض المريدين يدعون أن الطريقة الفلانية غير صادقة لأن الحال فيها منعدم. وينتقصون من فضل جماعة العدل والإحسان من أجل ذلك. ويكاد الحاضر في المجلس أن يتهم نفسه في صدقه عند مشاهدة الفقراء في سكرتهم وفنائهم يهتزون ويدورون ويصيحون، وهو لا يتحرك رغم استحسان العبارات وهطول العبرات، واقشعرار الجلد. هذا من جهة. ومن جهة أخرى ربما تذكر حال المكاء والتصدية وغيبوبة الراقصين على النار عند الشعوب الوثنية، وأشياء غريبة تصدر عن الخارجين عن أطوار العقل، الخارقين للعوائد.
والصواب والأدب هو أن يسلم الإنسان للفقراء حالهم في حدود الشرع، ويتهم نفسه بالتقصير في جنب الله. وإن كان من أصحاب التحقيق فلربما استعان برأي أكابر المكاشفين من أهل التصوف السني، وحاول فهمه عبر ما استجد في علوم الفيزياء الكمية والفيزياء النسبية وعلوم الفلك وعلوم البصريات والذرة، والعلوم السيكولوجية وغيرها... لأن الوجود كله موسيقى رائعة، وموازين محكمة، لا يفتر عن التسبيح بحمد المبدع الخالق البارئ...
فإن قال لك المكاشف رحمه الله: " لا يقول هؤلاء الرجال ( يعني أكابر الصوفية ) بالسماع المقيد بالنغمات لعلوّ همتهم ويقولون بالسماع المطلق فان السماع المطلق لا يؤثر فيهم إلا فهم المعاني وهو السماع الروحانىّ الإلهى وهو سماع الاكابر. والسماع المقيد انما يؤثر في أصحابه النغم وهو السماع الطبيعى".
فينبغي هنا أن نحقق ماهو الفرق بين النور المطلق والنور المقيد؟ ولما تقيد النور بالدوران حول نواة الذرة في فلك من أفلاكها هل فقد من إطلاقيته شيئا؟ أم مازال مطلقا في فلكه الصغير؟ وماهي النغمة؟ وما هو التناغم؟... ولا يمكن التفكر في هذه المسائل بدون علوم الفيزياء الكمية، والفيزياء النسبية، ونظرية الأوتار والوجود متعدد الأبعاد، وعلم أوزان النغمات، وعلم فيزيولوجيا سريان التيار في خلايا الدماغ، وهي الكفيلة بمقاربة المسألة مقاربة دقيقة تفسر ما هي طبيعة الضوء هل جزيئية أو موجية؟ أم هي هذا وذاك في نفس الوقت، بتعليل علم الرياضيات الإحصائية، وعلم الطيف الضوئي وعلاقته بأفلاك دوران الأليكترونات حول نواة الذرة.
ونتابع المكاشف في كلامه، يقول : " فإذا ادّعى من ادّعى انه يسمع في السماع المقيد بالالحان المعنى، ويقول لولا المعنى ما تحرّكت، ويدعى انه قد خرج عن حكم الطبيعة في ذلك، يعني في السبب المحرك، فهو غير صادق. وقد رأينا من ادّعى ذلك من المتشيخين المتطفلين على الطريقة، فصاحب هذه الدعوى إذا لم يكن صادقا يكون سريع الفضيحة، وذلك ان هذا المدعى إذا حضر مجلس السماع، فاجعل بالك منه، فإذا أخذ القوّال في القول بتلك النغمات المحركة بالطبع للمزاج القابل أيضا، وسرت الأحوال في النفوس الحيوانية، فحركت الهياكل حركة دورية لحكم استدارة الفلك، وهو أعني الدور، مما يدلك على ان السماع طبيعي، لأن اللطيفة الإنسانية ما هي عن الفلك، وانما هي عن الروح المنفوخ منه، وهى غير متحيزة، فهى فوق الفلك، فما لها في الجسم تحريك دوريّ ولا غير دوريّ، وانما ذلك للروح الحيوانيّ الذي هو تحت الطبيعة والفلك، فلا تكن جاهلا بنشأتك ولا بمن يحركك. "
فيفهم المتفكر من قول المكاشف: أن التحيز يقتضي حبس النور في أفلاك الذرات فتظهر العناصر ثم النشأة الطينية النباتية الحيوانية التي لها رنينها الخاص ( resonance ) . فإن وافقت نغمة الموسيقى رنينها، اهتزت واضطربت، كما يحدث ان يتناغم كأس البلار مع نغمة الشادي، فيتهشم الكأس تحت تأثير خاصية الرنين. والحركة الدورية أو الاهتزاز والذبذبة هي من خواص حركات الأليكتورونات في أفلاكها حول نواة الذرة، وكل عنصر له رنينه الخاصة. وكل إنسان له رنينه الخاص كذلك.
ويستمر المكاشف في تفسيره موضحا الفرق بين السماع الطبيعي الذي يحرك المسلم وغير المسلم، والسماع الروحاني الصادر عن النور المطلق الذي لا يحده مكان ولازمان، يقول: " فإذا تحرك هذا المدعى وأخذه الحال ودار أو قفز إلى جهة فوق من غير دور، وقد غاب عن إحساسه بنفسه، وبالمجلس الذي هو فيه، فإذا فرغ من حاله ورجع إلى إحساسه، فاسأله ما الذي حركه؟ فيقول ان القوال قال كذا وكذا، ففهمت منه معني كذا وكذا، فذلك المعني حركني. فقل له ما حركك سوى حسن النغمة، والفهم انما وقع لك في حكم التبعية، فالطبع حكم على حيوانيتك، فلا فرق بينك وبين الجمل في تأثير النغمة فيك. فيعز عليه مثل هذا الكلام، ويثقل ويقول لك ما عرفتني وما عرفت ما حركني. فاسكت عنه ساعة، فان صاحب هذه الدعوى تكون الغفلة مستولية عليه، ثم خذ معه في الكلام الذي يعطى ذلك المعني فقل له ما أحسن قول الله تعالى حيث يقول واتل عليه آية من كتاب الله تتضمن ذلك المعني الذي كان حركه من صوت المغني، وحققه عنده حتى يتحققه فيأخذ معك فيه ويتكلم، ولا يأخذه لذلك حال، ولا حركة، ولا فناء، ولكن يستحسنه ويقول: لقد تتضمن هذه الآية معني جليلا من المعرفة بالله. فما أشد فضيحته في دعواه! فقل له يا أخي هذا المعني بعينه هو الذي ذكرت لي انه حرّكك في السماع البارحة، لما جاء به القوّال في شعره بنغمته الطيبة، فلاىّ معني سرى فيك الحال البارحة؟ وهذا المعني موجود فيما قد صغته لك وسقته بكلام الحق تعالى الذي هو أعلى وأصدق، وما رأيتك تهتز مع الاستحسان وحصول الفهم، وكنت البارحة يتخبطك الشيطان من المس، كما قال الله تعالى، وحجبك عن عين الفهم، السماع الطبيعى، فما حصل لك في سماعك إلا الجهل بك، فمن لا يفرق بين فهمه وحركته، كيف يرجى فلاحه؟ فالسماع من عين الفهم هو السماع الإلهىّ، واذا ورد على صاحبه وكان قويا لما يرد به من الاجمال، فغاية فعله في الجسم أن يضجعه، لا غير، ويغيبه عن احساسه، ولا يصدر منه حركة أصلا بوجه من الوجوه، سواء كان من الرجال الاكابر أو الصغار. وهذا حكم الوارد الإلهىّ القوىّ وهو الفارق بينه وبين حكم الوارد الطبيعىّ فانّ الوارد الطبيعىّ كما قلنا يحركه الحركة الدورية، والهيمان، والتخبط فعل المجنون."
ويستمر المكاشف في رفع الإشكال لرد الأمور إلى ما كان عليه الأنبياء والرسل والصحابة، يقول: ... "هذا سبب اضطجاع الانبياء على ظهورهم عند نزول الوحى عليهم، وما سمع قط عن نبىّ انه تخبط عند نزول الوحى، هذا مع وجود الواسطة في الوحى وهو الملك فكيف إذا كان الوارد برفع الوسائط لا يصح أن يكون منه قط غيبة عن احساسه، ولا يتغير عن حاله الذي هو عليه، فانّ الوارد الإلهى برفع الوسائط الروحانية يسرى في كلية الإنسان ويأخذ كل عضو بل كل جوهر فرد فيه حظه من ذلك الوارد الإلهى من لطيف وكثيف..."
وذكر المكاشف "الجوهر الفرد"، يبين لنا أنه كان على دراية من الذرة التي هي لبنة عناصر الطين. واللطيف ربما إشارة إلى الطبيعة الموجية أو عالم الأمر، أو عالم الروح. (( قل الروح من أمر ربي )) الإسراء : 85. والكثيف إشارة إلى الطبيعة الجزيئية أو عالم الخلق، (( ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين )) الأعراف : 54.
ويخلص في النهاية إلى تفنيد زعم من زعم أن سريان الحال عند طائفة من طوائف الصوفية يعني أنها على المحجة البيضاء، أو أنها في منأى عن بدع أصحاب الموسيقى والنغمات، لا يحرك أصحابها سوى ما يحرك أصحاب المزامير، وهم في زماننا لا ينطقون بكلمة يرجى فهمها ليحصل السماع الروحي، ويتواجدون فقط بالسماع الطبيعي على نغمات المزمار، وطائفة "عيساوة" ربما كانت مثالا للتواجد بالسماع الطبيعي. لهذا يفصل في المسألة موضحا موقف التصوف السني قائلا: " فلما رأت هذه الطائفة الجليلة هذا الفرق بين الواردات الطبيعية والروحانية والإلهية، ورأت ان الالتباس قد طرأ على من يزعم انه في نفسه من رجال الله تعالى، أنفوا أن يتصفوا بالجهل والتخليط، فانه محل الوجود الطبيعى..."
فانظر يا أخي القارئ ما أعمق كلام هذا المحقق الذي آتاه الله من علمه اللدني!
أما أهل الإدلال فهم أهل الانبساط، الذين تذهب بهم أحوال فنائهم إلى الشطح والتصريح بالكلام الذي يطوى ولا يروى ولا يؤدى، كمن يقول للناس في حال سكره "استغيثوا بي في البر أو في البحر أغثكم" أو ما شاكل ذلك. فهذا إن كان في حالة فناء وسكر، قيل في حقه إنه أساء الأدب مع الله، وهو الحال الغالب عند متصوفة العراق، كما يؤكده محققنا، وليس هذا من صفات الأكابر، ويعتبرونه كدلال الصبي الذي تضرب به العرب المثل يقولون " احتكم علي حكم الصبي على أهله" وذلك أن الصبي إذا كان عزيزاً في أهله حمله الدلال على طلب ما يستحيل وجوده، ويصعب مرامه، فهم أبداً يسعون في تحصيل أغراضه وآرابه ليظفروا برضاه.
وسيف الشرع مسلول على من تعدى الحدود، وكسر القواعد والعهود. أما من اعتقد جواز الاستغاثة بالشيخ الغائب أو الميت، وهو في حالة صحو، فهذا لا كلام معه. ولنا عودة للموضوع فيما بعد إن شاء الله.
ربما لما سمع مدير الفلاحة الإقليمي تحذير عامل الإقليم للمهندس " ثائر" لئلا يعاشر الصالحين، ظن أن من آكد مهماته وأخطرها أن يعلم الصغيرة والكبيرة عليه، وأن يكدر صفو حياته، ويزرع في طريقه العراقيل. حتى قيل إنه رصد له من يفتش سلة النفايات التي تخرج من مكتبه ومن منزله! ثم انتقل إلى مرحلة مكر أخرى، يشجع كل ما من شأنه أن يوقع الفوضى في المصلحة: يتعامل مباشرة مع المهندسين في مقاطعات المصلحة، يعرقل البريد ذهابا وإيابا، يريد نصيبه من مصاريف السفريات المخصصة للمصلحة... وغيرها من المكائد الخسيسة التي لا تليق بمدير. والمهندس "ثائر" يقابل تصرفاته بالصبر والمداراة ، إلى أن سنحت فرصة دفع العدوان والرد الملائم.
كان المدير الذي قبله من الذين عانوا كذلك من خسته. وكان فاضلا سخيا، يفر من الشرف والشرف يتبعه. وكان من رفاق الدراسة لصاحبنا "ثائر"، سبقه بثلاثة أعوام في المعهد الزراعي. استقال من وزارة الفلاحة والتحق بسلك التعليم كأستاذ في جامعة وجدة، وأخلى له دار المديرية، لكنه تأخر في تسليم دار للاصطياف تابعة لمصلحة المياه والغابات في مصطاف مدينة السعيدية. طرق باب المهندس "ثائر" ذات ليلة فرحب به وجلسا في جلسة حميمية يتذكران أيام الدراسة وشؤون الغابة وقد كانوا في بداية عطلة الصيف. فلما أراد الانصراف، قال له: " إن المدير الغليظ أساء إلي كثيرا، - وفعلا كان المدير غليظا حسا ومعنى- ، وسيؤلمني تسليم مفتاح دار مصطاف السعيدية إليه، وهي أصلا من أملاك مصلحة المياه والغابات، وقد سكنتها بصفتي رئيسا للمصلحة لا بصفتي مديرا للفلاحة، فيلزمني تسليم مفاتيحها لك." فقال له صديقه شكرا لك على حسن التفاتتك، ولكن ألا تظن أن ذلك سوف يجر علي شرور من إذا خاصم فجر؟ وعلى كل حال، كان ذلك سيحدث يوما من أيام الله بسبب علاقتنا المتوترة، وغدا سوف يجدني في دار "السعيدية"، إن شاء الله، وليحدث ما كان في الغيب أمرا مقضيا."
رحل المهندس للتو، ليلته تلك، إلى دار المصطاف، وهي دار فارهة توجد قرب الدار المخصصة لوالي الإقليم. حديقتها الشاسعة تتصل برمال الشاطئ الذهبية، عبارة عن شاطئ خاص اقتطعه المستعمر بدون حرج أيام عزه من الغابة المحاذية لساحل البحر المتوسط.
بمجرد ما سمعت بذلك عائلة المهندس "ثائر"، شدوا الرحال عن بكرة أبيهم للاستجمام في مياه المتوسط الرائعة، وكان من بينهم من لم ير البحر من قبل!
كانوا في تجمع سعيد، والأطفال يسبحون في المياه الهادئة، فتصيح إحدى الصبيات المداعبات لأمواج البحر " ما أحلى السعادة في السعيدية"! فيسبح الأطفال نحوها مكررين قولها. ويستغرقون في اللعب مع البحر برهة، ثم يعودون إلى بناء قصورهم على الرمل سرعان ما تسويها يد الأمواج المخملية، فيعيدون البناء، ويعيد الموج الكرة، إلى أن يغلب إصراره الأزلي فعل الزائر المار على مسرح الحياة. ثم يركضون ويتسابقون على الشاطئ، ولما ينال منهم التعب والجوع، يستظلون تحت أشجار الحديقة الصنوبرية، قرب أعين أمهاتهم المنشغلات بإعداد الأطباق الشهية. أشرفن على إتمام زخرفة المائدة بما لذ وساغ من الطعام والشراب، لما استأذن الحارس ليخبر المهندس بزيارة المدير.
توجس المهندس خيفة من زيارة المدير، وتعجب كيف وصله الخبر، فتحرك بتلك السرعة المريبة. وأدخله من الباب، وكاد أن يرحب به لولا أن المدير لم يستطع كظم غيظه طويلا. فنفث كالبركان حمم زفير غليظ : "أعطيك يوما للرحيل من دار المدير التي تجرأت على احتلالها". فما كان من جانب "ثائر" إلا أن طلب منه الخروج وإلا اعتبر ذلك هجوما على الحرمات. وخارج الدار، فسر له أن المنزل يحسب على الأملاك الغابوية، وأن المدير السابق كان يسكنه كرئيس سابق للمصلحة، وأن له عدة فيلات يقطنها هو وذويه..." فلم يزده ذلك التبرير إلاغيا، فقال كلاما استكباريا ثارت معه ثائرة صاحبنا "ثائر" الذي لا يرضى بالذل في مثل تلك النوازل، فقال له : ربما جسدك الغليظ يحتاج لأكثر من دار، فاذهب إلى الجحيم فإن لك متسعا فيها". فأوصد في وجهه الباب، وتركه يغلي غلي الحميم!
ثم رجع "ثائر" إلى ما كان عليه من سعادة في إسعاد زائريه، ولم يخبر اسرته بما حدث مع المدير، خوفا من تكدير صفو التجمع العائلي المحتفل، إلا أنهم لاحظوا أنه فقد شهيته في الأكل!
ومرت أيام العطلة كحلم جميل يكره الإنسان الاستيقاظ من الكرى الذي ساقه، كما يسوق السحاب ذلك الغيث الذي تغنى به الشاعر في لوعة شوقه:
جادك الغيـث إذا الغيـث همـى "" يـا زمـان الوصـل بالأنـدلـس
لـم يكـن وصـلـك إلا حلـمـا "" في الكرى أو خلسـة المختلـس
ولسان حال صاحبنا يقول "اليوم اصطياف، وغدا ألطاف"! فلم يرد معرفة ما يحاك ضده، ولربما تردد في أعماق سريرته صدى المثل السائر عند العرب: " أظلم من حية " لأن الحية لا تتخذ لنفسها بيتاً، بل كل جحر انسابت إليه هرب أهله منه وتركوه لها، فهي كثيرة البيوت كهذا المدير!
" محضر تحقيق موجه ضد المهندس..." تلك هي الرسالة الأولى التي ضمها البريد الذي هيأته الكاتبة للمهندس "ثائر" صباح رجوعه من عطلته بعد أيام الراحة!
فكان الحدث سببا لنقل المهندس " ثائر" من وجدة إلى محطة الأبحاث الغابوية بالرباط، أواخر سنة 1986، فقال في نفسه "ذلك ما كنا نبغي" منذ سنوات، وتلك هي تصاريف أقلام القدر الربانية، وقد تعاطف معه رجال الإدارة المركزية في المجلس التأديبي الذي عقدوه، معتبرين موقفه في الدفاع على الأملاك الغابوية - ولو كان فيه ما يشوبه- هو من ضمن المهمات التي كلف بها. فجعل الله في قضائه اللطف لصاحبنا وتهيأ بسرعة للرحيل الذي رغب فيه هروبا من منصب الكمائن العسكرية والمخالفات الشرعية، والمكائد الاستكبارية.
كانت كولادة جديدة للمهندس "مرتاح" لما التحق بمنصبه الجديد في الرباط، كباحث في المجالات العلمية التي يفضلها على مهمة التدبير الإداري العسكري للملك الغابوي. لذا لما رزقه الله الولد السادس في هذه المدة سنة 1987، سماه "عبد الفتاح"، فتح الله لنا وله ولجميع أبناء وبنات المسلمين أبواب كل خير. فاحتفل بعقيقته في منزل أسند له قرب مقر عمله، قبالة قصر أم الملك الحسن الثاني، الذي يعج بكل أنواع رجال الأمن، غير بعيد عن المقر القطري لرجال المخابرات. ولم يمنعه ذلك من استدعاء الإخوان لحضور العقيقة، فتطوع الأخ عبد الحميد زاهر جزاه الله خيرا لتصوير وقائع الحفل، وقد كان هو المسؤول الإقليمي للجماعة، والمسؤول في تلك البدايات الزاهرة كان يقوم بكل الأعمال، حتى ولو لم يكن مدربا عليها، فظهر الشريط متجولا بين السقف والأرض، يتمايل بتمايل المصور ذات اليمين وذات الشمال! فلما شاهدا الشريط، ضحكا كثيرا، وختما جلسة الفحص بكلمة سر كانت بينهما: "ومن يقترف " تعبيرا على الإقدام على واجبات الفتوة بنية صادقة، ولكن الأداء يكون على قدر الحال! والأجر حاصل على كل حال! وإنما الأعمال بالنيات!
أثناء العقيقة تعالت أبواق الصدع بالأناشيد الإسلامية الحركية الملتزمة! حتى أن بعض المحتفلين اسمه " أبو مدية " - والمدية السكين الكبير، اسم على مسمى!- وكان من الذين يؤطرهم "مرتاح" في الشعبة، ظن أن وقت التحدى قد أذن، فقال كلاما لا يليق عن النظام، فخرج بعض المدعوين من غير الإخوان من الحفل خائفين مذعورين، وهم على مقربة من معتقل غابة تمارة الرهيب، وعلى مرمى حجر من مركز المخابرات، وقصور الملك وأمه وبنيه بحي دار السلام!
ومنذ ذلك الحفل الخارج عن أعراف الحذر والريبة السائدة هناك، نشأت عادة سيئة عند عقيد متقاعد يقطن قرب صاحبنا، يطلق كلبه الألماني الشرس على كل أخ يهم بزيارة "مرتاح". ومن بينهم ذات يوم كان شقيق صاحبنا وزوجه الحامل، أشرفت المسكينة على الإجهاض من هول الهلع الذي أصابها عند هجوم الكلب المتوحش كصاحبه. وفعلا كان العقيد متوحشا لا يقترب من داره أحد، حتى والده، يأتي لزيارته من قرية بربرية أطلسية هي موطنه، فلا يستقبله، فيستضيفه الجيران لقضاء فترة الزيارة. ولقد سكنت العقيد كآبة بعد فراق زوجته الفرنسية وابنتيه، فانعزل عزلة انتهت بفاجعة انتحاره بسلاح العمل الذي ظل يحتفظ به رغم إحالته على المعاش. سمع الطلقة النارية حارس المكان فأخبر الشرطة، واقتحموا المنزل وقد كان مفتوحا. فوجدوا الصريع ماسكا سلاحه، وأجزاء دماغه لاصقة على الجدران، وكلبه الوفي يعوي من ألم الفراق.
ولربما سكن الشؤم ذلك المنزل، لأن فاجعة الانتحار ستزوره ثانية، وهذه المرة لتأخذ ابن عقيد آخر سكنه من بعده، لم ترض عنه أمه في نتائج الامتحان، فآثر فراق الدنيا وهو في زهرة العمر. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ورحمة الله نرجوها لجميع خلق الله.
ولولا تهاوننا في تحبيب الله للخلق، وتحبيب الخلق لله، ونشر سعادة عبادته والتعلق به لما وقعت مثل هذه المصائب، نسأل الله أن لا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. وما أحوج علية القوم لسماع خطاب رب رحيم يريد تحريرهم من أغلال القنوط واليأس، تذهب بهم إلى حد تقديم مهجهم قربانا لشيطان الوسواس الخناس، نعوذ بالله منه ومن الهم والحزن ومن العجز والكسل ومن غلبة الدين وقهر الرجال. ولقد قارن " مرتاح " بين المعاناة النفسية لهؤلاء المترفين، وبين سعادة أهل الطريق واطمئنانهم بذكر الله، حتى المجاذيب منهم المنعزلين في كهوفهم، فوجد الفرق شاسعا، والبون عميقا. فهل من مبلغ للتعساء قول ربهم الخبير بما في الصدور : (( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ )) الزخرف: 36 ؟ والدواء المجرب الذي يطرد شقاوتهم في الدنيا وفي الآخرة: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ )) الرعد: 28 !
وكانت لصاحبنا بعض المواساة في صحبة "الدكتور فشتال" رحمة الله عليه، من العاملين معه، يسكن بالجوار، استجاب لدعوته، فانخرط في سلك الجماعة. لكن يد المنايا سارعت في أخذه وهو في مقتبل العمر، سرطان لم ينفع معه دواء. وكان في المصحة لما طلب من زوجه استدعاء صاحبنا للحضور العاجل. فلما وصل قرأ معه سورة الملك ثم أسلم روحه لبارئها بعد رفع السبابة للشهادتين، فكانت له خاتمة سعيدة نسأل الله أن يثبتنا على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وشهد مواراته التراب بعض صالحي إخوان الجماعة، استشعروا بحاسة المقربين، يرون بعين الله ما لا نرى، ملائكة الرحمة مستبشرين باستقبال روحه الطاهرة! رحمة الله عليه وعلى موتى المسلمين كافة.
كان عدد الأطر العليا في بداية تأسيس لجنة أطر الجماعة لا يزيد على العشرين، شكلوا النواة الأولى لرعاية الملتحقين الجدد منهم، وكانوا أقلية ممن استطاعوا تجاوز مغريات الترف، وغرور التكبر، ومحاذير التخويف السلطوي، لما يشاهدونه أمامهم من تكالب السلطة العلمانية على الصحوة الإسلامية. والواقع أن هذه الشريحة المجتمعية هي أبعد الناس عن الانضمام إلى صفوف الحركة، بل كانت ولازالت هي المستنفرة من جانب أعداء الأمة لكي تحارب التيار الإسلامي بتحريض من الغرب والإدارة الأوفقيرية العميلة، خاصة منهم من يحسبون على التيار اليساري. لذا كان لزاما على الجماعة أن ترعى أطرها مستمدة الحول والقوة من الله ثم بجهدها الخاص. ويأبى الله إلا أن لا تكون للمدرسة اللاييكية أي منة على الجماعة في تربية أطرها الأوائل، إلا فيما يدخل في حكم النادر. وهذا النادر كان من الطبيعي أن ينظم عمله ليصبح مسؤولا على الجامعات والمعاهد التي تخرج منها، يحاصر- بكل ما في المعنى من فاعلية- الطلبة فيها ويرعاهم من السنوات التحضيرية إلى تخرجهم، ثم يدمجهم بعد التخرج والتوظيف في أقسام اللجنة لكي يصبحوا بدورهم حاملين لهم الدعوة في صفوف الطلبة والموظفين الذين يعملون معهم. وكان ذلك يقتضي جهادا بالوقت والمال، وحركية عبر القطر يبارك الله فيه، فتأتي الثمار رغم كل الصعوبات والحواجز.
تزامنت هذه الفترة بانتقال الجماعة من مرحلة التأسيس إلى مرحلة التنفيذ، بعدما استعاد المرشد حريته بعد سنتين من الاعتقال، فأسس المجلس التنفيذي واللجان المتفرعة عنه. ونظرا لقلة الأطر آنذاك كلف الأستاذ المرشد صاحبنا "راعي" بمسؤولية الإشراف على لجنة الأطر، زيادة على تأطير الشعبة التنظيمية. وكان كذلك عضوا في لجنة الإعلام، التي تعقد معظم جلساتها الشهرية عنده، وكان أمير لجنة الإعلام لا ينشط في "جذباته" وتسييره "الجهوري" إلا بعد أن يقدم له صاحبنا "قهوة الغلاي"، وكانوا يتندرون بالتغني برائحة بهاراتها المهيجة!.
ولقد تميزت المرحلة بتوسع الجماعة العضوي فتأكدت الحاجة إلى تأسيس العمل الوظيفي تحت شعار جديد، يلخص الوظيفة الكبرى التي أمر بها رب العزة سبحانه وتعالى، فاختار المرشد للجماعة اسم "جماعة العدل والإحسان"، الذي عوض اسم "اسرة الجماعة".
ولربما تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حرصه على دعوة الملأ من القوم، كان الأستاذ المرشد ينتقل شخصيا ليحضر مجالس تلك اللجنة في بدايات عملها، ولا ينتقل إلى غيرها من المجالس إلا نادرا.
ولقد دعم المرشد فكريا أيضا عمل اللجنة بإصداره كتبا قيمة تدور مواضيعها حول إدارة التنازع والتدافع مع النخب المثقفة المساندة للتيار العلماني، ككتاب الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية، وكتاب الإسلام والقومية العلمانية، وكتاب "الرجال". فجنت الجماعة ثمار رعايتها للأطر في مجالات لا تحصى، منها ظهور رجال تولوا مهمة طبع كتب المرشد ونشرها، وبزوغ زمرة من المهندسين يسروا استعمال الكمبيوتر والبرمجة المعلوماتية في مؤسسات الجماعة، وانبراء نواة من المحامين والأطباء والأساتذة ساهموا في وضع الأسس التفصيلية لعمل الأطر، وكانوا حاضرين في كل المحاكمات التي يتعرض لها الإخوان عبر القطر.
ويذكر صاحبنا "راعي" أن الأستاذ المرشد بعث له "مهندسا بارزا" لصحبته قصد الاستفادة المتبادلة. فمكث عنده أياما في منزله هو وزوجه، رغم ظروف الانشغال باستقبال هبة الله في المولود السابع الذي سماه " محمد ياسين" بارك الله فيه وفي جميع أبناء وبنات المسلمين. وسيصبح "المهندس البارز" عضوا حاملا في رعاية طلبة المعاهد ومدارس المهندسين، يقدم لهم دعما في توفير التدريبات وفي التوظيف. فرأى "راعي" فيه كفاءة ينبغي تشجيعها، فشجع اختياره مسؤولا عن لجنة الأطر عوضا عنه. ولقد أبلى البلاء الحسن في العمل، لكنه غضب غضبة مدمرة لما لم يتم تعيينه في مجلس الإرشاد عندما زاد الإخوان من عدد أعضائه. فانسحب من الجماعة انسحابا مؤسفا، كان يمكن تداركه لو عمل الإخوان بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في حق معاوية: عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله عام الفتح جاءه العباس بن عبد المطلب بأبي سفيان بن حرب فأسلم بمرّ الظهران، فقال له العباس يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر فلو جعلت له شيئا، فقال "نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن".
ومن المستملحات التي كان الإخوان يتندرون بها في لجنة الأطر: بعد يوم من العمل المنهك جاء وقت تقديم شيء من الأكل للحضور، فقدم لهم الأخ "الطنجوي" الذي استضافهم طواجين فاخرة المظهر، شحذت شهيتهم للأكل. فلما أزالوا الغطاء عنها وجدوا مأدبة من كراعي الغنم المخضر بالحمص، فضحكوا كثيرا، وكأنما يريد الأخ تنبيههم بقوله تعالى في سورة التكاثر: (( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)). وقرروا أن يكثروا لقاءاتهم في مدينة أسفي عند "المهندس البارز" طلبا للأطباق الفاخرة من ثمار البحر التي كانت زوجة الأخ هناك جزاها الله خيرا، تبرع في تحضيرها. فلربما كان هجير الأطر أثناء تلك المأدوبات يذهب مع قوله تعالى : (( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )) الأعراف؛ 38 !.
تفرغ المهندس " الناجي" من مسؤولية رعاية الأطر بعد عمل دام خمس سنين، وكثف نشاطه التطوعي- وكل نشاطه في الجماعة كان تطوعا يراد به وجه الله- مع لجنة الإعلام التي كان عملها في غاية الأهمية في الظروف الخاصة التي عاشتها الجماعة بداية من أواخر سنة 1989. سخر الله فيها وسائل الإعلام الدولية لتنشر أخبار حملات من الاعتقالات والاعتداءات والمحاكمات، اقترفتها السلطات عبر كل الأقاليم.
فلما كان يوم من أيام يناير 1990، ذهب "الناجي" هو وصهر من أصهار المرشد لاستخلاص خبر من مجلس الإرشاد، طلبته منهم وكالة ألمانية للإعلام، فوجدا الشرطة قد عسكرت أمام مسكن المرشد، وعلما عندئذ أن مجلس الإرشاد قد سيق إلى مركز الشرطة، والسلطات قد دشنت حصارها ضد الأستاذ، وقد قررت حل الجماعة. فلما هما بالدخول إلى دار المرشد، اعتقلهما رجال المخابرات، ونقلوهما إلى مخفر الشرطة وألحقا بإخوانهم أعضاء مجلس الإرشاد!
مكث صاحبنا "الناجي" في ضيافة الشرطة أياما. ولم تكن له من مواساة سوى أنه كان في صحبة من يعتبرهم من الأخيار، فاعتبر نفسه كمن عمل قليلا وأجر كثيرا. فكان يقول لأصحابه: " اعتبروني كالزائد على أصحاب الكهف والرقيم!"، وكانوا يتندرون بذلك. وكانوا في مكتب من مكاتب المخفر، لا يفصلهم عن الأسمنت سوى أغطية رقيقة لا تقي برد شهر يناير. فاتخذوا لهم من أبواب خزانات المكتب أسرة طلبا للدفء.
واستعد صاحبنا لمنحة السجن، فبادر بتجزئ حفظ كتاب الله، وتلقي العلم في محضن مجلس الإرشاد الذي كان يضم حينئذ سبعة أفراد. وكان المحققون يستغفلونهم بأوقات في الليل لإخضاعهم للتحقيقات، والحق يقال، لم يلحقهم أي صنف من أصناف التعذيب الجسدي المشهورة عند الجلادين في تلك المدة، سوى ذلك الترويع الذي يصيبهم عندما يقادون إلى الاستنطاق. وذات يوم قرروا عزل صاحبنا " الناجي " والأخ "العلوي" رحمة الله عليه في حجرة مستقلة، ربما نظرا لسنهما. فما كان منهم إلا أن رفضوا العزل وأصروا إصرارا في المطالبة بجمعهم، فرجع الأخوان إلى المجموعة.
ثم يتذكر " الناجي " سيارته التي تركها قرب مسكن المرشد، فيقال له إنها قد سيقت إلى مرأب مخفر الشرطة، ويسر لأخوانه إسرارا، إنه قد خبأ فيها في مكان ما وثائق مهمة. ولم يعلم أن للحجرات آذانا تسمع بها، وأعينا تبصر بها!
فكان من الطبيعي أن يكون موضوع الاستنطاق التالى يدور حول تلك الوثائق التي استخرجوها من صندوق السيارة، وكانت تحت عجلة الطوارئ، لا تراها الأعين بسهولة!
"من زودك بهذه الوثيقة؟" وألقى المحقق أمام صاحبنا دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فتبادر أمام " الناجي" جواب كان الأستاذ المرشد يأمر الإخوان به : "إن سألوكم عن شيء فانسبوه إلي بدون حرج. فأنا كفيلكم". فطبق ذلك الترياق الناجع ولكن نسبه للأخ المسؤول في السجن. وانتظر من المحقق إبراز وثائق أخرى يسأل عنها. فلا يدري لم لم يفعلوا، والوثائق كانت في نفس المكان، هل أعمى الله أبصارهم فلم يروها؟ أم أن الله صرفهم أن يسائلوه عن وثائق كانوا يدينون الإخوان على أتفه منها. فلما أخبر "الناجي" إخوانه في الأسر أنهم وجدوا الوثائق، وكانت إحداها ربما ستورط ابن " العلوي"، صفق الشريف بيديه وقال : "الولد الذي كان سيحمل السلة إلى الدار جنيت عليه!"... فضحك الإخوان، فصار بدوره يضحك على الحدث. وقطعا، ما قال المرحوم ذلك إلا بقصد النكتة المراكشية التي كانت تلطف أجواء المعتقل!
وأطلق إخوان مجلس الإرشاد على الأسير " الناجي" شعار " التنوير في إسقاط التدبير"، لأنه اطمأن إلى سبب خزن الوثائق، كان الإخوان قد نصحوا به في تلك الأيام من استعار حملات الاعتقال، فأبى الله إلا أن يكتشفها رجال المخابرات، ثم أبى إيضا إلا أن يحفظه من تبعات اكتشافها... فتيقن أن تدبيره لم يكن ليحفظه إلا أن يشاء الله، فقرر أن يسقط التدبير في مثل هذه النوازل. كما أنه اكتشف في نفس السياق أن من "شدة الظهور الخفاء"!
وفعلا لما لم تر السلطات طائلا في تكثير الأعداء وصنع الضحايا، أطلقوا سراحه هو وصديقه في لجنة الإعلام.
وبعد خروجه ذهب مباشرة إلى مكان بعيد، حتى إذا تيقن أن لا أحد يقتفى أثره، فتح صندوق السيارة ووجد الوثائق الأخرى على حالها، صرف الله أبصارهم عن رؤيتها، فاعتبرها آية من الآيات التي لم يكن ليمر عليها دون اعتبار وشكر للوكيل الحفيظ. فردد دعاء الدمياطي الذي علمه له أبوه، رحمة الله عليه:
"وأنت وكيلي يا وكيل عليهم # وحسبي إذاكان الــــــــقوي موكلا"
فلما رجع إلى أهله بعد أسر دام عشرة أيام، وجدهم قد أقاموا الدنيا في البحث عنه في مخافر الشرطة في العدوتين سلا والرباط، ولم يعثروا عليه إلا بعد معاناة وجهد ونضال في كل المخافر... فلما عثرت على مكانه، لم يرخصوا لها برؤيته، فتعاقدت مع مطعم يوصل له ولأصحابه المأكل والمشرب. وقد كانت تسهر وحدها دون عون في نقل أبنائها إلى المدارس التي كانت تبعد عن سكناها بعشرة كيلومترات، وكانت بعد ذلك تقوم بواجبها في عملها كمفتشة للتعليم الثانوي. فلما رآها لأول مرة بعد تسريحه، وجدها قد فقدت بضعة أرطال من وزنها، فقال لها: "ربما من المفيد أن تتكرر التجربة لكي تحافظي على رشاقتك!".. فأعرضت عنه، وقالت له: إن "شايب الرأس" نصحني أن أحبسك في المنزل، وإلا سيحبسك عنده"... "وشايب الرأس" هو الاسم الذي يطلقه الإخوان على عميد شرطة سلا آنذاك!.
أما إخوان مجلس الإرشاد فلقد بدا للسلطات ليسجننهم حتى حين، سنتان كاملتان مرت في مساوماتهم للركون، ولم يعلموا أن السجن أحب إليهم مما يدعونهم إليه، ولا حاكم في الحقيقة إلا الله. فشاء الله بعد الحدث أن يكثر سواد الجماعة، فأراهم منها ما كانوا يحذرون. وكان تزامن سطوع نجم الجماعة مع سجن أعضاء مجلس دليلا ساطعا على أن الله هو المؤيد بنصره من يشاء ، فلا ينبغي ربط ذلك بحول ولا بقوة مجلس الإرشاد ولا غيره.
نعم لقد تزامنت فترة سجن أفراد مجلس الإرشاد مع تلك المظاهرات المليونية التي لم تعرف البلاد مثلها من قبل، كانت تنظمها الجماعة نصرة لقضايا الأمة. يتذكر المهندس " مفاوض" أن إخوان الصف الثاني بعد إخوان مجلس الإرشاد المسجونين بعثوه لينسق مع ممثلي الأحزاب والجمعيات والجماعات المشاركة في تنظيم مظاهرة 3 فبراير 1991، احتجاجا على غزو العراق في سنة 1990. وكانت الأحزاب من قبل قد بهتوا للحضور القوي والمنظم للجماعة في مظاهرة مليونية سابقة، دعت إليها "اللجنة الوطنية لمساندة كفاح الشعب الفلسطيني"، في يونيو 1990. وكان همهم الأكبر في ذلك اللقاء التنسيقي، هو إلغاء كل المظاهر التي تميز الحضور القوي للجماعة. أرادوا منع اللافتات المميزة لها، وأرادوا عدم تخصيص مكان محدد لأفرادها ، وغير ذلك من المكائد المحبوكة لئلا يظهر ضعف الأحزاب وقزمية انتماء الشعب لهم، مقارنة مع قوة الجماعة وحسن تنظيمها.
فكاد الإجماع أن يحصل حول هذه المسألة، لولا الموقف المعارض لصاحبنا " مفاوض". لما جاء دوره لإبداء رأيه الذي كانت تشرئب له الأعناق، قال لهم : "هل الرصاصة إذا أطلقت يمكن إرجاعها؟ أكيد لا يمكن، وأبناء العدل والإحسان قد بادروا بالتلبية لإنجاح تظاهرتكم، وهم الآن في الطريق وقد نظموا أنفسهم من منطلقاتهم الإقليمية، وكتبوا شعاراتهم ولافتاتهم، وعينوا المسؤولين على نظامهم وأمنهم لئلا يتسرب إليهم المشاغبون فتنفلت الأمور، فيستحيل الآن الاتصال بهم لتغيير أي شيء "... فتم للجماعة أن تتجاوز تلك المكيدة، وظهرت في المسيرة ظهورا بديعا لا يضاهى كما ونوعا. ولقد اعترف "زيان" أحد المنسقين، أمام أحد أعضاء مجلس الإرشاد بعد إطلاق سراحم ، "أن ممثل الجماعة كانا مفاوضا ناجحا"! ولما يعلم أن الحسد الذي ستجره على الجماعة تلك المظاهرات جعل كل أطياف المشهد السياسي في البلد تهرول إلى القصر لتستمد منه بعض الأكسجين لإطالة حياتها المتهرئة... وستبرع أحزاب اليسار في استنفار توجسات الغرب والقصر معا من "الظاهرة العدلية"، لكي تجلب عطفهم لقيادة البلد، ثم تجعل من أهم مخططاتها محاربة التيار الإسلامي في البلد.
وفي جانب آخر، سيفرض هذا الظهور القوي على السلطة الدخول في مساومات الجماعة قصد احتوائها. وسيتبع مفاوضو النظام سياسة الجزرة والعصا الخسيسة. فوعد المفاوض الحكومي المرشد بجزرة سمينة مثل التي أعطيت لحزب الاستقلال، مقابل التنازل عن بعض المواقف. ورخصوا له بالتنقل إلى المركب السجني بسلا للتشاور مع أعضاء مجلس الإرشاد المعتقلين... فلما فشلت المفاوضات، نزلت العصا غليظة على القطاع الطلابي في كل المدن الجامعية، وخاصة في وجدة، للضغط على الجماعة. ومدد القرار الإداري القاضي بالإقامة الإجبارية وحصار المرشد بضع سنين.
لما انتقل المهندس " بحاث" إلى عمله الجديد في الرباط، كلف بمتابعة المغارس التجريبية عبر القطر. كانت وظيفتها انتقاء الأنواع الشجرية والنباتية التي تصلح لبيئة كل منطقة، تعمم بعد اختيارها للاستعمال في برامج التشجير التي ينجزها رؤساء المصالح الإقليمية. فكانت مساهمة مصلحته في برنامج انتقاء واستنساخ أنواع شجر الأوكاليبتوس مساهمة مباشرة عبر أعوانه. ولم يساهم هو فيها شخصيا لأن رئيس قسم الاقتصاد الغابوي استولى على المشروع الذي بدأه في غابة معمورة، وتعاقد مع مهندسين فرنسيين لإنجازه، في الظروف التي ذكرت في الجزء الأول من الكتاب. لم يكترث من ذلك الترامي على اختصاصاته، واعتبر ذلك تخفيفا من ربه ورحمة، فرغه للقيام بالمهمات التي ذكرنا. بل لم يقبل ذلك التفرغ، فقدم مشاريع أخرى لكي تمولها إدارة محطة الأبحاث، وبقي ينتظر الجواب الذي لم يظهر، إلى حين استبدال المدير بآخر. رد المدير الجديد بعض الاعتبار للمهندس، فقبل تمويل مشارعه، وخصص له الوسائل المادية والبشرية التي يحتاجها. فكانت فترة جديدة ربط فيها "بحاث" مع العمل العلمي الجاد. توج العمل بنتائج بحثية مهمة ظهرت في "حوليات البحث الغابوي" وفي منشورات أخرى. جلها خصص لمشكل استخلاف الغابات الطبيعية عبر القطر: غابات البلوط الفليني والبلوط الأخضر وغابات الأرز وغابات السنديان والصنوبر والصفصاف. فكانت له دراسات ومغارس تجريبية في كل جهات القطر، من البسائط الساحلية الخصبة إلى الجبال الأطلسية والريفية المزينة بغابات الأرز الخالدة ، ومن المروج الشرقية إلى القفار الجنوبية، يسبح عبرها بحمد الخالق المبدع، ويكتشف عجائب صنع الله، وسريان آيات الجمال والجلال في خلقه. ويحلل ويركب تلك الكشوفات فتشحذ آلة التأمل عنده، بينما يطول ذكره لربه في المسافات الشاسعة التي يقطعها، سائلا ربه أن تشهد له البقاع التي يقطعها يوم الحساب بذلك. فيجمع الله له طريق الفكر وطريق الذكر في الإدراك، يشعر معها بأحوال السائحين المتقلبين في نعم اعتبار عجائب صنع الله.
وبلاد المغرب جمع الله لها من أشكال جمال الطبيعة الباعثة على الاعتبار ما يناسب كل الأذواق والأميال.
فمن وجد حنينا وعشقا للصحراء، كما باح به شعر ذي الرمة بعدما تراءت له كثبان الرمل كأجساد العذارى وشفاه العذارى كأزهار الرمال ، وأنفاسهن كأنفاس الصحراء، فله ما يريد في جنوب البلد، وزيادة.
ومن افتتن بالجبل وقممه التي تنافس في العلو جهات السماء، فرآه تارة كأنه شيخ كبير على رأسه عمامة بيضاء يتحدث عن أحزانه و همومه، أو رجل وقور رزين يفكر في العواقب طوال الليالي، كما شعر به شاعر الطبيعة ابن خفاجة الأندلسي، وتارة كأنه فتى متكئ على ساعده تحت نقاب لطيف يخفي أعضاءه ولا يخفيها، كما ظهر لجبران خليل جبران من تحت أشعة القمر الفضية، فله ما طلب وأضعاف ذلك في هذا البلد. ولو رأى أديب لبنان أرز المغرب لصار حلمه بأرز بلده، الذي لم يبق إلا في صورة العلم، حقيقة تأسره بجمالها وشساعتها في جبال الريف الحاضنة لثغور البحر الأبيض المتوسط المحروسة. وكذلك في جبال الأطلس الشامخة التي تروي قصص المجد والخلود، وتذكر المار عبر أكنانها وسرابيلها بقوافل الأحرار الذين رفضوا الظلم، فاستجاروا بها، فحمتهم من بأس الفجار.
ومن له ميل إلى البحر وأنغام أمواجه الأبدية، ورمال شواطئه الذهبية، فأي بديل ينسيه عذرية الشواطئ المتوسطية ومياهها الصافية الدافئة الهادئة، أو جلال أمواج المحيط الغضوب، الذي طالما حجب عن الأنظار بظلماته وجبروته ما هنالك من ورائه من أسرار.
فما تغرب أحد عن هذا البلد الجميل إلا وسكنه الحنين إلى نجوده الخضراء، وهضابه المزهرة، وسهوله الخصبة، وأوديته المثمرة، وأنهاره الجارية... وما تغير الزمن على المهاجر أوتكدر، إلا وحن إلى أنفاس ربيع بلاده العطرة، وإلى نشوة صيفها، وحميمية شتائها، وتنوع ثمار خريفها...
وحب الأوطان من الإيمان...
وكان الحب هو المحرك لصاحبنا في مذكراته هذه لبسط ما يؤلمه عند معاينة يد الفساد ممتدة لتغيير ملامح الجمال والجلال في وطنه. والإيمان هو المعيار للتمييز بين الحسن والقبيح في أداء الواجب نحو البلد. لأن جل الناس يتزايدون في الدعوى، لكن تصاريفها هي الفيصل في ظهورها حبا خالصا، أوكرها بواحا، أو غدرا مبطنا. فمن كان حبه للوطن من أجل نهب خيراته، وحرمان الأجيال الحاضرة والقادمة منها، فالوطن يتبرأ من دعواه، والخلق شاهد على سوء ما اقترفت يداه. ومن عارض بسط عدل شرع الله وقيمه السامية فيه، استرضاء لأعداء الدين، فقد سارع في استمطار جفاف السماء، وفي استجلاب أسباب قحط الفتن... ومن ادعى حب الوطن ولم تحدثه نفسه بمحاكاة المصلحين في تدبير عمارة الأرض، كما يراه صاحبنا أثناء كتابة هذه السطور في أمريكا، فهذا ما كسب ذرة إيمان لأن أدنى درجات الإيمان إماطة الأذى عن الطريق... وأذى الطريق موجود في الوطن الحبيب بكثافة! وبكافة أشكاله! وفي كل شبر من أراضيه المكلومة بالنفايات والأزبال! وفي كل حيز من أجوائه المخنوقة بالدخان والغبار! فمن يصدق أنهم في كاليفورنيا المشابهة للبلد في مناخها وفي طبيعتها الخلابة، يستحيون أن تظهر للأرض عورة ترابها، وهي غير مكسية بشيء من النبات، أو القش، أو التبن، أو لحاء الشجر؟ ومن يصدق أن من يبول أو يلقي قمامة في العراء، أو يشعل نارا أو يرمي قطة في الخلاء ... يعاقب على سوء فعله عقابا يثنيه عن التكرار؟
وهنا يفهم سر استخلافهم، وزوال ملك من استخف بشرع يأمر فيما يأمر، بإماطة الأذى عن الطريق، وذلك أدنى درجات الإيمان...
(( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)) " هود: 117 ".
ويوشك المرء هنا أن تحدثه نفسه بمراجعة مشروعة في مفهوم الوطن، وأن يختار من أرض الله الواسعة أرضا لا يتأذى فيها النظر، بما يجلب للنفس الكدر، ولا يتعرض فيها إلى قهر البشر.
لكن سبل الهجرة الشرعية لا تفتح إلا بعد بذل الوسع في سبيل دفع الفساد عن مرقد الأجداد ومحضن الأولاد، ومرتع الأحباب ومعقل الأصحاب، وملاذ الأحلام والذكريات.
بقدر ما كان صاحبنا "محروس" يسير في الأرض خلال الأسبوع لأداء واجبه في مهنته الدافعة لفساد التصحر وتدمير ما جعل الله للأرض من زينة، بقدر ما كان يخصص عطلة الأسبوع ومعظم لياليه للأنشطة الدعوية، لدفع خطر الفساد الفكري والعقدي المستخف بشرع الله، والله حافظه، وهجيره كان دوما " التنوير في إسقاط التدبير" و"من شدة الظهور الخفاء"، طبقا للحكمة التي تعلمها أثناء أسره. فلذلك كان لا يرى محظورا في زيارة الأستاذ المرشد رغم حصاره، كاشفا للمحاصرين هويته، وقد أبعدها عن حرج المسؤولية العسكرية التي رفع فيها إلى درجة عقيد، يستحيل معها النضال مع الإخوان، كما ذكر من قبل.
رزق في هذه المدة مولودا ثامنا، أنثى حفظها الله من الإجهاض الذي نصح به أمها الطبيب بعد تحاليل أظهرت إصابتها بالحصبة الرقيقة، نسأل الله لها ولجميع أبناء وبنات المسلمين الحفظ والستر وسلوك الصراط المستقيم.
ويسر الله له في هذه الفترة بناء منزل قرب المدارس التي يدرس فيها أبناؤه الستة، وكان قبل ذلك يصرف وقتا ثمينا في نقلهم من مسكن الإدارة عبر عشرة كيلومترات ذهابا ومثلها أيابا... فلما وضع تصميم داره، كان هاجسه مطابقته لاحتياجات الإخوان في المجالس الدورية التي يعقدون. فما أن تم البناء حتى صار بمنة الله مقرا للدعوة، تعقد فيه أهم اللقاءات القطرية والجهوية والمحلية. وقد سارع الإخوان بتفريشه بالحصر، لملايمته مع ظروف الصلاة والمرابطة.
ويسر الله لزوجه خدمة الإخوان والأخوات واستضافتهم عدة مرات في الأسبوع، غير ملتفتة لنضارة اللحف المزركشة التي يفترشها الإخوان، أو لصباغة الجدران. وكان الجيران يرونهم يدخلون ويخرجون بالليل وبالنهار، وقد قيل إن بعضهم أوعزت لهم السلطات أن يقدموا لها شكاية إزعاج يقترفه الإخوان، فرفضوا معترفين بحسن جوار المهندس “محروس”، وبالقيم الأخلاقية والدينية التي يمتاز بها الإخوان.
ورغم شهادة الجيران تلك، عسكر رجال المخابرات أمام المنزل، أو بجانب البقالة القريبة، يحصون أنفاس الداخل والخارج، وقد كانوا ينفذون أوامر أربابهم ، وقد كان " محروس " يؤدي ما أمر به ربه، ((قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا )) " الإسراء 84 "
والدار العامرة بالإخوان كانت محروسة لا ريب في ذلك، حفظا وسترا من ((الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم))، ولصاحبنا " محروس" البينة في ذلك : مرات في جوف الليل يوقظه ابنه عبد الفتاح، يطلعه على لص يستعد للنزول من سور الدار، فيباغثوه، فيلقي المتسور بنفسه خارج الدار، ويركض بعيدا في الخلاء الممتد خلف الحديقة. ومرة قيل له عند البقال المجاور إن أحدا تسور الجدار، فلما أراد أن يطل على الداخل، خرج له ثعبان هم بالانقضاض عليه لولا ترديه من أعلى السور، مفزوعا طالقا ساقيه للريح بعيدا عن المنظر المفزع!. ومرة في عمق الليل باغث “محروس” لصين داخل حديقة الدار، فلما شعرا به انطلقا بهدوء خارج الدار، وقد تمكن من رسم صورة لهما في ذاكرته. فأخبر بوصفهما الشرطة. وكان العميد من الفضلاء المعترفين بالجميل، وكان من قبل ممن درسوا الرياضيات في الثانوية على يد زوجة صاحبنا لما كانت أستاذة في القنيطرة. فأحضر رجلين كانا من ذوي السوابق، وأمر "محروس" بالدخول عليهما وهما ينظران إلى الحائط لكي لا تحدث المقابلة بينهم. فلما وقع بعض الشك في مطابقة الأوصاف، أخلى سبيلهما، درءا للحدود بالشبهات. من أجل ذلك، أطلق الإخوان على الدار، اسم "الدار المحروسة"، وبعضهم يسميها "الدار العامرة".
كان من بين اللقاءات الفاصلة التي شهدها منزل صاحبنا، ذلك اللقاء الذي رجح الخيار "الصوفي" للجماعة عوض الخط "السلفي" الذي كان يحرص عليه الأستاذ البشيري رحمة الله عليه. ويتذكر صاحبنا "آسف" أنه هجم عليه حال من البكاء أثناء ذلك اللقاء الطارئ، ولم يكن يعلم السبب. والراجح أنه كان أسفا على إفساح المجال لإبليس لكي يغلب كيده فيتفرق الأحبة... ولم يدر لم اختاره أمير اللقاء لكي يدلي بدلوه في حدث إقالة الأستاذ البشيري، ولم يكن يعلم عن خلفياته أي شيء. وشجعه الأمير ليقص مبشرة تخبر بصحة الطريقة... وحتى تلك المبشرة لم يتذكرها بل حاول الأمير تذكيرها له، فلم تستعدها ذاكرته، وعوضها، قص على الإخوان مبشرة أخرى في موضوع رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، قائدا لمعركة فاصلة بين المشركين والمسلمين، يرمى فيها "آسف" رماحا تدور دورانا سريعا في انطلاقها فتحصد رؤوس المشركين حصدا.
ومنذ ذلك اللقاء الحزين، انطلقت مجالس النصيحة انطلاقة "سياسية"، وليدة التنازع بين الأحبة، ولم تكن في بداياتها سوى امتدادا للقاءات التربوية التي كانت تخصص للذكر ولقيام الليل، ولم تكن حينها لتنغص حفيظة الأستاذ البشيري. ثم تطورت فيما بعد لكي تخصص بعض فقراتها لتدارس كتاب "الإحسان" الذي أصدره المرشد في تلك الفترة. وكانت مواكبة لبداية عمل الدائرة السياسية. ولا يخفى أن المجالس الحركية السياسية تكاد الرعونات والطبائع المتغولة تطغى عليها، فكانت مجالس النصيحة كالترياق الشافي، والهواء الصافي الذي ينقي الأجواء وينعش لحمة التحاب والتآلف والتعاضد.
امتد إحياء مجالس النصيحة عشر سنين في الدار العامرة، كل ليلة خميس كان الإخوان يشدون الرحال إليها من المدينة القديمة ومن الأحياء المجاورة، لا ينزل عددهم عن الخمسين مرابط، تبدأ بحصة الختمات القرآنية، وتنتهي بقيام الليل ثم بجلسة قص المبشرات، ثم حصة الذكر حتى الشروق، ويقدم للذاكرين وجبة إفطار يبرع ولد أحد المحامين جزاه الله خيرا في تحضيرها: عبارة عن حساء الشعير المعطر بالزعتر، وأكواب الشاي بالنعناع.
فما كانت تلك المجالس الربانية لينفر منها إلا كل مغبون محروم بئيس، وكل ما يتقرب به إلى الله فيها لا تشوبه شائبة بدعة أو غلو أو تطرف.
ربما كان ذلك صحيحا قبل وفاة البشيري رحمة الله عليه. أما بعدها فستنمو فيها بعض الشوائب سوف يأتي ذكرها بعد حين، بعد إجمالها هنا في ثلاثة عناوين: علاقة تصوف الجماعة بالتصوف العراقي، انحرافات التصوف العراقي وأثرها في التصوف المغربي، الخطوط الحمراء المتجاوزة والمراجعات الضرورية لتداركها...
أتيحت لمهندسنا فرصة الانتقال من محطة الأبحاث الغابوية إلى مديرية الإعداد العقاري لشغل منصب جديد أحدث فيها: مسؤول مصلحة استصلاح الأراضي الفلاحية في القطر والمحافظة عليها. علم أن ذلك سوف يوسع مداركه بخصوص المسألة العقارية في البلد، ويطلعه على أثر حكم الاستعمار الفرنسي والإسباني في الأرض، وما تبعه من تجاوزات في الترامي على الأراضي الفلاحية والرعوية والغابوية. وقد كان يثير المسألة مع الإخوان ويربطها بالانكسار التاريخي وانتقاض عرى حكم الأرض التي لم تذكر في أي دراسة من دراسات الأستاذ المرشد - حسب علمه -. ولا حكم لمن لا سلطة له على الأرض. فرأى صاحبنا أن ذلك سوف يفيد الجماعة عندما ستنتقل إلى مرحلة بناء مشروعها المجتمعي الإسلامي والحكومة الإسلامية العادلة. ثم إن ذلك الانتقال سوف يعالج تلك الرتابة التي تضني الموظف الذي يمضي أكثر من أربع سنين في نفس العمل، وتقلل من عطائه وإبداعه.
فانتقل المهندس " ماسح" سنة 1995 إلى المديرية الجديدة التي كانت على اتصال وثيق مع مديرية المسح العقاري الخبيرة في شؤون ملكية الضيعات الفلاحية، ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
واتيح له تعاقد مع المعهد الزراعي لكي يلقي دروسا في موضوع التدبير المستدام للثروات الطبيعية لبعض الطلبة من القطر اليمني. فكان ذلك منطلقا لتقييد تآليف في موضوع المسألة العقارية والتشريعات المرتبطة بها، وانتقاض أحكامها مع ظهور الحكم الإقطاعي الأموي.
لم يكن "ماسح " يخفي نتائج دراساته حول المسألة العقارية في البلد، ويجعلها حكرا على الجماعة. وكما كان متوقعا، صارت مسألة تفتت الضيعات بسبب التوارث ومسألة أراضي الجموع في العالم القروي مسألة ملتهبة، تعج المحاكم بالنزاعات المتعلقة بها، ويكون لها الأثر السيء على إنتاجية الأراضي وتصحرها.
ولقد استنفرت الإدارة مكاتب الدراسات للبحث عن الحلول الملائمة، وأشركت في الدراسة جميع أطر مديرية الإعداد العقاري ومنهم المهندس الجديد "ماسح".
تدرس هذه المسألة من طرف المختصين من خلال مفهومي الأنظمة العقارية والهياكل العقارية. الأنظمة العقارية يقصد من مضامينها كل ما يتعلق بأحكام ملكية الأرض، ملكية فردية خاصة أو ملكية عامة أو أنواع أخرى من الملكيات. أما الهياكل العقارية فيقصد بها حالة المستغلات البنيوية : مساحتها، حالة تجمعها أو تشتتها في بقع متناثرة، حالة تفتتها بين الورثة، عدد المستغلين، نوعية الاستغلال المباشر أو غير المباشر، نوعية المزارعات والمعاملات. وهي أوضاع عقارية مختلفة، أفرزتها المنعطفات التاريخية الكبرى، في شكل تراكمات مختلفة، بدءا بأعراف الملكية المشاعة التي اعتمدتها المجتمعات البدائية، حيث كانت كثافة السكان قليلة، و حاجياتهم من الأراضي أقل من المساحات المتوفرة، و انتهاء بطغيان قانون التملك الخاص الوضعي، الذي يحاول اكتساح كل الأراضي و القضاء على كل أنواع الملكيات، ومرورا بالأحكام الشرعية التي أتى بها الإسلام، و التي كانت سدا منيعا و ذرعا واقيا من خطر الجور والإفساد والتصحر.
فلما عرض المهندس " ماسح " في مناظرة نظمتها الوزارة، الحلول المتاحة انطلاقا من أحكام الأرض في الفقه الإسلامي، نالت تقدير الحاضرين، وقد كان من بينهم مبعوث مكتب الدراسات الذي استنفرته الإدارة لمعالجة الإشكالية، ولم يكن سوى ذلك الأستاذ اليهودي الذي درس لصاحبنا في المعهد الزراعي مادة " الشرع الإسلامي في المعاملات القروية"! وقد فاتت الإشارة إليه في الجزء الثاني من المذكرات. وذكر صاحبنا "ماسح " الأستاذ اليهودي بما كان قد تلقاه عنه ومدى تعارضه مع الأحكام الشرعية الأصلية، فأجابه الأستاذ: " أنا الآن غير متفق على ما كنت أدرسه". فتعجب " ماسح " كيف تتصرف المقادير في عقول الخلق، ليمضي الله حكمه في الأمور، فهنا يكاد اليهودي يتفق مع صاحبنا في الحلول التي يتيحها الشرع للمسألة العقارية، لكن مسؤول الوزارة ينبذ الفكرة، وهو الذي أتى بالخبير اليهودي لحل المشكل! ولربما رجوع اليهود لحكم تلمودهم في الأرض هو الذي مهد استخلافهم على أرض من فرطوا في شريعتهم المحمدية والله أعلم!
كما كان المرشد قد كلف صاحبنا بعمل شاق في أواخر العقد الثامن من القرن الماضي يقتضي ترجمة كتاب "الله أكبر"، كلفه في أوخر العقد التاسع بعمل لا يقل إعجازا، ليظهر له تمكن الأستاذ من أسرار اللغات، وطريقته في التأليف، واقتداره على مخاطبة العقل الغربي.
استدعاه عند بداية تأليف كتاب بالفرنسية عنوانه "أسلمة الحداثة"، أولا لتزويده بمراجع أجنبية في الموضوع، ثم لمعالجة نصوص الكتاب بالحاسوب، يؤلفها كل أسبوع، وما أن يرقنها صاحبنا حتى يسلم له نصوصا جديدة، إلى أن اكتملت كتابة النص، فسهل على المرشد مراجعته، ثم طبعه في وقت قياسي، مقارنة مع الكتب التي كانت تتكلف بها المطابع. وكانت الحواسب حينئذ نادرة الوجود عند الإخوان، فتم إهداء واحد منها للمرشد، استطاع بسهولة فائقة اكتشاف مجاهله، فصار مبدعا يعلم من جاء يعلمه طرق استخدام هذا الجهاز الخطير، فدل ذلك على الذكاء الخارق الذي وهبه الله له!
هذا الجانب "اللوجيستيكي" هو الذي كان مطلوبا من صاحبنا "معاند"، فقط! لكنه أبدى سذاجة مخلة بالمروءة، لما ظن أن الأستاذ يريد منه استشارة في مضمون الكتاب. فأطلق العنان لفهوماته العنترية أو الدونكيشوطية، وهذا الوصف الأخير هو الأرجح، لأن الفهومات غربية المصدر، ولو كانت شرقيته لمررتها الفصاحة الشعرية! ولم يشعر أنه كان يضيع من وقت الأستاذ الثمين عندما يعرض عليه رأيه السقيم في هذا الفقرة أو تلك. والأستاذ يعامله بحلم ورفق وتجاوز...وكأنه يستفيد من ملاحظاته! ربما كانت في الصميم أحيانا، ربما ذكر الكتاب أن موسى انشق له بحر النيل فقطع ببني إسرائيل إلى الضفة الأخرى، فلفت انتباهه أنه البحر الأحمر وليس النيل، وبعد أسبوع ضحك الأستاذ وقال له كنت محقا في ملاحظتك على النيل!..
لكن الأستاذ ضاق ذرعا بعناد صاحبنا عندما تعرض لمسألة التطور التي بنى عليها أسس هجومه على الحداثة والفكر الغربي عامة، فيما سماه ب"المسلمة الدوابية" ( postulat bestial ). حاول "معاند" إقناع المرشد بتجنب التعرض للنظرية العلمية التطورية، والكلام فقط عن التوظيف المذهبي للنظرية، أو ما يسمى بالداروينية السوسيولوجية، لأن المجتمع العلومي خاصة، والمثقفون في الغرب عامة، سوف يتبرمون من الكتاب جملة وتفصيلا بسبب موقفه من التطورية يعتبرها باطلا مطلقا، بينما هم يعتبرونها حقيقة نسبية، فيفوتهم الخير الكثير من كنوزه الأخرى. وظن أنه كان مقنعا لما ناوله ورقات كتبها في الموضوع، اقتطفها من كتابه حول العلمانية، وكذلك كتابا للفيلسوف الفرنسي " جان روستاند".
فلما ضاق المرشد ذرعا بتدخله السافر في ما يراه يقينه الخاص، قال له قولا بليغا قطع به لسانه المتطاول على القمم الشامخات: "أنا لا أكترث بالمجتمع العلومي...! هذا كتابي أنا...! أضمنه رأيي..! وإن شئت فاكتب كتابك وقل فيه ماشئت...!" أو كلاما قريبا من هذا.
لم يكن قصد "معاند" اقتراف زلة إغضاب مرشده، ولقد غضب غضبة تمنى صاحبنا أن تفتح الأرض ليواري فيها حالته السيئة، خاصة لما أخذ شيئا من وقته النفيس لكي يردف له بكلام غريب لاعلاقة ظاهرة له بالموضوع. قال له : "إن فلانا عمل الخير الكثير للجماعة، لكنه لم يجن شيئا لأنه كان كثير المن عليها. فحذاري أن تمن عليها بشيء!". فاعتبر ذلك العناد كبيرة من الكبائر، أحبطت كل أعماله، فاستغفر ربه واستأنف، والله غفور رحيم، وأمسك سنين عن الكلام برأيه حتى في مواضيع تخصصه، ورجع إلى الحصير كسائر الذاكرين!
لكن توقعات " معاند" حول موقف الغرب من كتاب "أسلمة الحداثة" سوف تتحقق بعد حين!
نعم، لقد أقحم الكتاب النخبة المحلية المغربة وأظهر لها قزميتها في فهم العقل الغربي، وحلل لها واقع تبعيتها وملابسات انجرارها إلى مساوئ الحداثة وإعراضها عن مزاياها. ولقد أقام الإخوان حفلا كبيرا لعرضه، تألق فيه الأستاذ "الحاتمي" والأستاذة "ندية" في مخاطبة النخبة المفرنسة بأبلغ مما يتخيلون إدراكه. فكأنما لسان حالهم آنذاك كان يقول "لقد اقتنعنا نحن دعاة الحداثة المغاربة بما جاء به كتاب "أسلمة الحداثة"، ولكن دعونا ننظر ماذا سيقول لنا أسياد الحداثة في فرنسا."
فاتفق أن عرض الإخوان الكتاب على دور النشر في فرنسا لطبعه، فاقترح الناشرون على المرشد تغيير رأيه حول نظرية التطور وحول المسألة اليهودية، فأبى، فرفض النشر، فتأسف الإخوان على تفويت الفرصة على الغرب لاكتشاف كنوزه الأخرى. وبحكم التبعية والذيلية، سوف تتبرم النخبة المفرنسة المحلية منه كذلك. فحدث ما حذر منه "معاند".
فكأنما كان ذلك محفزا لتنشيط التعاون الفكري والسياسي بين العلمانيين الفرنسيين ومريديهم المحليين، يوعز لهم بالدفاع عن العلمانية، في تحالف مع المخزن ضد التيار الإسلامي. والمخزن كان همه الأكبر في تلك الأيام من أواخر القرن الماضي تدبير استمرارية الدولة العلوية بعد وفاة الملك الحسن الثاني.
وفي تلك السنوات الأخيرة من العقد التسعين للقرن الماضي انطلق الإعداد لتأسيس مكاتب الدراسات للدائرة السياسية للجماعة، انطلاقا من عمل لجنة الأطر التي كان يتعهدها صهر المرشد في منزل صاحبنا. وتكثف عمل اللجنة الحركي القيادي في مخيمات "سيدي أبو النعائم"، ليرسم الطريق لمجلس الإرشاد لتأسيس عمل المكاتب المنبثقة عن الدائرة السياسية. كلف فيها صاحبنا "مؤطر" بتأسيس مكتبها الفلاحي، بحكم تخصصه. وخلال بضع سنين من تأطير مهندسي وأطر القطاع، تمت هيكلة المكتب جغرافيا وحسب التخصصات، وأنجزت عدة دراسات، وانطلقت عدة ندوات ومناظرات ورحلات. فحصل الإخوان على تراكمات معرفية سوف تصب كلها في بلورة مشروع الجماعة في التدبير المستدام للثروات الطبيعية من غابات وأراضي فلاحية وثروات بحرية...
فلما اطلع الأستاذ المرشد على دراسة من بين تلك الدراسات، ألفها صاحبنا "مؤطر" تحت عنوان " الحفاظ على الأراضي بين القوانين الطبيعية والأحكام الوضعية والمقاصد الشرعية " قال لصاحبنا: "هذا الجانب من الدراسة نعم"، مشيرا إلى التقنيات الحديثة المستعملة في الحفاظ على الأراضي. "أما هذا- مشيرا إلى الأحكام الشرعية - فلا أوافقك الرأي أن حكم الأراضي الفلاحية في المغرب هو حكم الأراضي الخراجية." فتبادرت لصاحبنا هنا معضلة، إن كان الفرد مقتنعا بحكم من الأحكام الفقهية، ورأى صلاحه لمعضلة من المعضلات البيئية المعاصرة، وكان الولي المرشد يرى عكس ذلك، فهل يمكنه مراجعته في رأيه، أم عليه أن يتظاهر بالاتفاق معه، وهو يضمر عكس ذلك؟
في هذه الفترة كان المهندس "مؤطر" يكن لمرشده كامل التقدير والاعتراف، فلم يكن الحدث سوى مناسبة لإقناع النفس أن ولي الله يرى بنور الله، ولم ترق النفيسة لدرجته، فعليها أن تتبين من الأمر الفقهي، ما كان منه حكما ثابتا وما كان منه قابلا للاجتهاد... لكن مما كان ثابتا في عميق اعتقاد "مؤطر"، أن المراجعة فعل ينبغي أن يكون عاديا عند أي جماعة تريد أن تتطور إلى أحسن، وقد حدد الشرع طرق حسمها في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا )). " النساء 59 ".
ولقد راجع الرسل رب العزة تبارك وتعالى، وراجع الصحابة رسول الله المعصوم عن الخطأ صلى الله عليه وسلم، وراجعت المرأة الخليفة الفاروق رضي الله عنه... فكانت مراجعة الخلق للحق ليظهر في الوجود تجلي اسم الله "الحليم"، والحلم عدم المؤاخذة مع الاقتدار، وكذلك تجلي اسم الله "الصبور"، وقد ورد انه ما أحد أصبر على أذى من الله. وكانت مراجعة الخلق للخلق عناد، و"العناد من المحق سداد، ومن المبطل فساد، الأوّل ليس بمعاند حتى يعانَد، فان صمت كان كمثل من بهت، والباهت مقطوع الحجة، دارس المحجة." كما قال بعض الحكماء. وعلى كل حال لابد من الاستغفار من ذنوب الجدل والعناد محقا كان الفرد أم مخطئا، والأولى للمستغفر أن يهرع إلى الرحمة المهداة للعالمين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ليجدد توبته ويستأنف، عملا بأمر الخبير الحليم سبحانه وتعالى في قوله: (( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا )) " النساء 64 ". وهيأ الله الظروف للتعجيل بالأمر الملح.
كان الإخوان في مكتب الفلاحة قد أحدثوا صندوقا للحج، يساهمون فيه شهريا بمبلغ حدد لإتاحة فرصة الحج لهم. وساهموا لتعيين دور كل أخ، في دورية تمكن الحج لهم جميعا خلال ست سنوات. فأتى دور صاحبنا "مستغفر" بداية سنة 2002 واستعد لحجته الثانية، بعد حجة أولى سنة 1981 ذكرت تفاصيلها في الجزء الثاني من المذكرات.
قرر مهندسنا أن يستفيد من الخبرة التي حصل عليها في الحجة الأولى، ويتخلص من أي خدمة من خدمات سماسرة الحج، يفرضونها غصبا ومكوسا ظالمة على حجاج بيت الله، مقابل خدمات تافهة أو منعدمة لا وجود لها على أرض الواقع. عرض رأيه على طبيب صديق له من الإخوان فقبل الفكرة، وتعاقدا مع وكالة أسفار من أجل النقل فقط، أما الخدمات الأخرى فسوف يتدبرا أمرهما. فكانت حجة متميزة، اعتكاف بالليل والنهار في المسجد الحرام، حوالي عشرين يوما، وعشرة أيام في المدينة المنورة، في ضيافة خاصة، توقعها صاحبنا قرى في طيبة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، فيسرها الله في ظروف عجيبة لا تنسى.
وقبل السفر، كان لقاء توجيهي مع السيد المرشد وممثلين عن مجلس الإرشاد والدائرة السياسية والتنظيم، حضره بعض أفراد وفد الإخوان. عينت الجماعة أمير الوفد في شخص صاحبنا “مستغفر”. فخشي أن تؤثر أعباء المسؤولية على روحانية الحج وشعائره العبادية، لكنه تذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم صنف تلك الفريضة ضمن العمل الجهادي الحركي السياسي الذي تعلن فيه البراءة من المشركين، ويتهمم فيه لأحوال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. فسأل صاحبنا ربه أن يثبته على هدي الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في الجمع بين الأمور التي تشتت بعد مرحلة النبوة ومرحلة الخلافة الراشدة.
أعمال مكة المكرمة
في أول لقاء حول برامج الدعوة وشؤون الحج، اتفق أعضاء الوفد على برامج مختلفة، تخص الشعائر والعبادات، والتواصل مع الحركات الإسلامية والمؤسسات والشخصيات العاملة في مجال الدعوة الإسلامية. وهكذا يسر الله للوفد لقاءات يومية في المسجد الحرام بين العشائين، وبعد العشاء، يتناوب عليه حوالي ثلاثون أخ ممن حضر في مكة. تكون فيها ختمات جماعية لكتاب الله عز وجل، والقيام الجماعي، وجلسة الاستغفار بالأسحار ثم صلاة الفجر ثم جلسة الذكر إلى الشروق. يحرصون أن يكون ذلك الاعتكاف في مقابلة الميزاب، يتنعمون بالنظر إلى الكعبة المشرفة، والناس حافين بها يطوفون حولها، مجسدين في الدنيا طواف الملائكة حول عرش الرحمان... فتشع في القلوب أنوار الخشية والمهابة، ويستشعر الفرد بطواف وسبح كل جزيء منه، يتناغم فيه مع سبح الكون كله، في اتجاه واحد، كل قد علم فلك سبحه، بدءا من أفلاك الذرات المتناهية في الصغر إلى أفلاك الكواكب والمجرات، إلى الفلك الأعظم الذي تدخله الملائكة فلا ترجع لشساعته وعظمته وأين هي من عظمة الرحمان المستوي على عرشه؟
أعمال النهار تتخللها عمرات جماعية يقوم بها الإخوان ويهدون ثوابها للمرشد وللإخوان وللوالدين ولذوي القربى وللمجاهدين. وكانت زيارات جماعية لمزارات مكة: أمنا خديجة، مسجد الشجرة، مسجد الجن، دار الندوة، مكان مولد النبي صلى الله عليه وسلم، دار الأرقم، شعاب علي رضي الله عنه...
الأعمال التواصلية التي قام بها الإخوان كانت باتجاه إخوان الحركة الإسلامية لعدة أقطار، تم خلالها التعريف بالجماعة وبمرشدها وبعض كتبها. منهم الإخوان المسلمون في مصر، وأهدي لهم كتاب الأخ منير الركراكي " حسن البنا بين سهو أحفاده وحقد حساده". ومنهم إخوان حزب الإصلاح اليمني، وإخوان من سوريا والسعودية والسودان والجزائر وماليزيا، ومن تركيا، وكان منهم حفيد النورسي، كتب رسالة للأخ المرشد، تسلم من الإخوة كتاب الإحسان.
وتمت زيارة البعثة الإيرانية، كان فيها لقاء مع سفير إيران في المغرب. تسلمت البعثة الإيرانية من الإخوة كتب المرشد في قرص مضغوط.
ثم يسدل الليل أثوابه ولا تزداد الكعبة إلا تألقا وجلالا والأنوار تظهرها في زينتها كالعروس في خدرها. فيهرول صاحبنا كالطائر يحن إلى عشه، فيبدل حركيته النهارية رهبانية ليلية تستغرق في الطواف وفي السعي وفي التضلع بماء زمزم، وفي الصلاة بالمقام الإبراهيمي. كل ذلك بقلب حاضر مع الله ويخيل انه في تلك العبادة كالحافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم فيزيد في التسبيح والتحميد والتهليل وقول لا حول ولا قوّة إلا بالله العليَّ العظيم.
مرة يفكر في مدى تناغمه مع الكون الذي هو في طواف وسبح دائم لا ينقطع ما دامت السماوات والأرض، والوجهة واحدة وكل في فلك يسبحون. فيتيقن “مستغفر” حق اليقين أن هذا الدين وهذه الشعائر هي من عند الله. ثم يرجع البصر ويتعمق في المقارنة بين ما كشف للإنسان من أسرار الكون، وما ترمز له شعائر الحج، يتذكر أن الأليكترون الذي يطوف حول نواة الذرة، إن انتقل من فلك إلى فلك أصغر فإنه يكتنز فوتونا من النور كان من قبل شاردا مطلقا في تقيده بالفلك الأكبر الذي هو عرش الرحمان. فيسعى صاحبنا لتضييق فلك طوافه لكسب المزيد من الأنوار، وما ذلك إلا ليقربه من ملامسة يمين الله في أرضه، ذلك السر العظيم المودع في الحجر الأسود. فتتبادر له أسرار الوجود مخزونة مكنوزة في يمين رب العرش العظيم. الله نور السماوات والأرض. نور مطلق يسري في جميع أرجاء الكون لا يحده مكان لا يقيده زمان، ترمز له الملائكة الحافون من حول العرش يدخلون البيت المعمور للطواف لا يخرجون، نظرا لاتساعه المطلق. وكل هذا يسميه أولياء الله عالم الأمر، وعلماء الفيزياء والكوسمولوجيا يسمونه الطبيعة الموجية للوجود: nature ondulatoire du photon.
يحبس ذلك النور تحت قهر الجاذبية في قلب الثقب السوداء، فيتقيد إطلاقه حول النواة في الفلك الصغير لتظهر جزيئات الذرات ثم تتكون الذرات فالعناصر فالنبات فالحيوان فالإنسان، وسبحان الله الذي حول عالم الأمر المطلق المشار إليه بالكلمة، أو كلمة " كن"، إلى عالم الخلق الذي ليس سوى نوره المقيد في إطلاقه، لأن النور لا يزال في إطلاقه لم يفقد من سرعته ومن خصائصه شيئا، لكنه في سجن أفلاك العناصر، ليظهر الله منه عالم الخلق وليس سوى الطبيعة الجزيئية للنور: nature corpusculaire du photon.
الثقب السوداء التي تجذب النور مع إطلاق سرعته، فتحبسه في أصغر الأفلاك، لتظهر العناصر في جوف النجوم الهاوية تحت قهر الجاذبية، ترى الكعبة في أثوابها المزركشة بماء الذهب فتذكرك بتلك الدوامات التي تطوي المكان والزمان تحت قهر جاذبيتها الهائلة، لتدرك أن الله ما جعل لنا فريضة الطواف بها إلا لنعتبر أسراره في خلقه. وهنا تتبدد افتراءات اليهود على هذا الدين، أن الطواف والسجود تجاه الكعبة المشرفة هو عبادة للجماد من دون الله! فيقهرهم الخبير بعباده بالتوجه إلى حائط المبكى يندبون أمامه حظهم وأفق سعيهم المحدود.
والمحققون من أولياء الله، من اتسع علمهم وقل اعتراضهم على الله هيهات أن تنطلي عليهم حيل إبليس الذي عصى أمر ربه بالسجود لآدم. فهم في طوافهم وسجودهم في صلواتهم تجاه الكعبة على بينة من أمر ربهم. وهذه واقعة ذكرها أحدهم يسوقها لنا “مستغفر” ليطلعنا على بعض ما كان يجول فيه فكره عند الطواف. قال أحد المحققين من أهل المكاشفة في موضوع تشريف الكعبة:
"اني كنت أفضل عليها ( أي على الكعبة ) نشأتى، واجعل مكانتها في مجلى الحقائق دون مكانتى، واذكرها من حيث ما هي نشأة جمادية في أوّل درجة من المولدات، واعرض عما خصها الله به من علوّ الدرجات، وذلك لارقى همتها ولا تحجب بطواف الرسل والاكابر بذاتها وتقبيل حجرها، فاني على بينة من ترقى العالم علوه وسفله مع الانفاس، لاستحالة ثبوت الأعيان على حالة واحدة، فان الاصل الذي يرجع اليه جميع الموجودات، وهو الله وصف نفسه انه كل يوم هو في شأن، فمن المحال ان يبقى شيء في العالم على حالة واحدة زمانين فتختلف الأحوال عليه لاختلاف التجليات بالشؤون الإلهية."
وهذا كلام تعضدده قوانين الفيزياء الكمية والفيزياء النسبية ومعادلات احتمالات هايزنبرغ، وما أشرنا له سابقا من خصائص النور المطلق والنور المقيد في إطلاقه. ثم يزيدنا المكاشف من تجلياته الغريبة، محذرا من سكر الحال، يقول:
" وكان ذلك مني في حقها لغلبة حال غلب عليَّ، فلا شك انّ الحق أراد ان ينبهني على ما أنا فيه من سكر الحال، فأقامني من مضجعى في ليلة باردة مقمرة فيها رش مطر، فتوضأت وخرجت إلى الطواف بانزعاج شديد، وليس في الطواف أحد سوى شخص واحد فيما أظنّ ... لما نزلت قبلت الحجر، وشرعت في الطواف فلما كنت في مقابلة الميزاب من وراء الحجر، نظرت إلى الكعبة فرأيتها فيما تخيل لي، قد شمرت أذيالها واستعدت مرتفعة عن قواعدها، وفى نفسها إذا وصلت بالطواف إلى الركن الشامى، ان تدفعني بنفسها، وترمى بى عن الطواف بها، وهى تتوعدني بكلام أسمعه بأذني. فجزعت جزعا شديدا وأظهر الله لي منها حرجا وغيظا بحيث لم أقدر على ان أبرح من موضعى ذلك. وتسترت بالحجر ليقع الضرب منها عليه جعلته كالمجنّ الحائل بيني وبينها، واسمعها والله، وهى تقول لي: تقدّم حتى ترى ما أصنع بك كم تضع من قدرى وترفع من قدر بني آدم، وتفضل العارفين عليَّ، وعزة من له العزة لا تركتك تطوف بى. فرجعت مع نفسى وعلمت ان الله يريد تأديبى، فشكرت الله على ذلك، وزال جزعى الذي كنت أجده، وهى والله فيما يخيل لي، قد ارتفعت عن الارض بقواعدها مشمرة الاذيال كما يتشمر الإنسان إذا أراد أن يثب من مكانه، يجمع عليه ثيابه. هكذا خيلت لي قد جمعت ستورها عليها لتثب عليَّ، وهى في صورة جارية لم أر صورة احسن منها، ولا يتخيل أحسن منها. فارتجلت أبياتا في الحال اخاطبها بها وأستنزلها عن ذلك الحرج الذي عاينته منها. فما زلت أثني عليها في تلك الابيات، وهى تتسع وتنزل بقواعدها على مكانها، وتظهر السرور بما أسمعها، إلى ان عادت إلى حالها كما كانت، وأمّنتني وأشارت إليَّ بالطواف. فرميت بنفسى على المستجار وما فىّ مفصل إلا وهو يضطرب من قوّة الحال، إلى ان سرّى عني وصالحتها، وأودعتها شهادة التوحيد عند تقبيل الحجر، فخرجت الشهادة عند تلفظى بها، وأنا أنظر اليها بعينىّ في صورة سلك وانفتح في الحجر الاسود مثل الطاق حتى نظرت إلى قعر طول الحجر، فرأيته نحو ذراع، فسألت عنه بعد ذلك من رآه من المجاورين حين احترق البيت، فعمل بالفضة وأصلح شأنه، فقال لي رأيته كما ذكرت في طول الذراع. ورأيت الشهادة قد صارت مثل الكبة واستقرت في قعر الحجر، وانطبق الحجر عليها وانسدّ ذلك الطاق، وأنا أنظر اليه."
وما ذكر المكاشف عن شهادة التوحيد في صورة سلك صار مثل الكبة، تعبير عن طي السماوات والأرض يوم القيامة، وتصوره ما يراه علماء الكوسمولوجيا في تطور الثقب السوداء التي تلتهم المجرات وتحبس النور، إلى أن تطوى (( كطي السجل للكتاب)) كما قال ربنا في سورة الأنبياء، في خيط دقيق أو عمود نوراني أو جوف الصور وهو على صورة قرن، والقرن يطوى جانبه الرقيق كالكبة، ولا يبقى في الوجود إلا الأبعاد الأمرية الموجية، وقد درسها علم فيزياء الأوتار في الوجود متعدد الأبعاد.
ويزيدنا المكاشف من وقائع قصته مع الكعبة، يقول:
" فقالت لي هذه أمانة عندى أرفعها لك إلى يوم القيامة، أشهد لك بها عند الله. هذا قول الحجر لي وأنا أسمع، فشكرت الله ثم شكرتها على ذلك. ومن ذلك الوقت وقع الصلح بيني وبينها وخاطبتها بتلك الرسائل السبعة (كتاب للمؤلف عنوانه: " تاج الرسائل ومنهاج الوسائل") فزادت بى فرحا وابتهاجا، حتى جاءتني منها بشرى على لسان رجل صالح من أهل الكشف، ما عنده خبر بما كان بيني وبينها مما ذكرته، فقال لي رأيت البارحة فيما يرى النائم هذه الكعبة وهى تقول لي: يا عبد الواحد سبحان الله ما في هذا الحرم من يطوف بى إلا فلان، وسمتك لي باسمك. ما أدرى أين مضى الناس ثم أقمت لي في النوم وأنت طائف بها وحدك، لم أرى معك في الطواف أحدا. قال الرائى فقالت لي: انظر اليه هل ترى بى طائفا آخر، لا والله ولا أراه أنا. فشكرت الله على هذه البشرى من مثل ذلك الرجل وتذكرت قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له. وأما الابيات التي استنزلت بها الكعبة فهى هذه:
بالمستجار استجار قلبى لما أتاه سهم الاعادى
يا رحمة الله للعباد أودعك الله في الجماد
يا بيت ربى يا نور قلبى يا قرّة العين يا فؤادى
يا سرّ قلب الوجود حقا يا حرمتى يا صفا ودادى
يا قبلة أقبلت اليها من كل ربع وكل وادى
ومن بقاء فمن سماء ومن فناء فمن مهاد
يا كعبة الله يا حياتى يا منهج السعد يا رشادى
أودعك الله كل أمن من فزع الهول في المعاد
فيك المقام الكريم يزهو فيك السعادات للعباد
فيك اليمين التي كستها خطيئتى جدة السواد
ملتزم فيك من يلازم هواه يسعد يوم التناد
ماتت نفوس شوقا اليها من ألم الشوق والبعاد
من حزن ما نالها عليهم قد لبست حلة الحداد
للّه نور على ذراها من نوره للفؤاد بادى
وما يراه سوى حزين قد كحل العين بالسهاد
يطوف سبعا في اثر سبع من أوّل الليل للمنادى
بعبرة ما لها انقطاع رهين وجد حلف اجتهاد
سمعته قال مستغيثا من جانب الحجر آه فؤادى
قد انقضى ليلنا حثيثا وما انقضى في الهوى مرادى
إنها المعاني التي جعلت صاحبنا “مستغفر” يحن إلى المجاورة حين يذهب الناس إلى مآويهم ويخلدون إلى مألوفاتهم من مكيفات للهواء وبرادات للماء وفرش حريرية. يمضي ليله في السبح فيها، ذاكرا ربه، متهجدا، تاليا ومتدبرا لكتاب الله، قائما، ناظرا إلى بيت الله التي استودعه سر الوجود، من دخله كان آمنا، كما يأمن من اصطفاه الله يوم الفزع الأكبر، وهو الأمن الذي يكون في قلب محور الوجود، كل ما حوله يدور ويسبح وهو ساكن مرتاح قرير العين. وهو ما يتصوره العلماء في قلب الثقب السوداء التي تسحق المجرات سحقا ومحورها قد اختفى فيه كل وجود لعالم الشهادة، فلا مكان ولا زمان، ولا ليل ولا نهار، ولا فزع لمن روحه أقدرها الله على تحمل تلك الأهوال العظيمة، قبل السكون المطلق الذي يميز اللاوجود، لما تنمحي المادة وسط نقيضها اللامادة، في فترة بين النفختين في الصور. تلك الفترة التي لا يخرق سكونها سوى كلام الوارث الملك القهار يقول: (( لمن الملك اليوم)) فلا سامع ولا مجيب سواه : (( لله الواحد القهار)) .
وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن النفخ في الصور يكون مرتين : الأولى يحصل بها الصعق ، والثانية يحصل بها البعث مستدلين بقوله تعالى : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّه ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ). " الزمر- 68" .
ثم يسترجع “مستغفر” وعيه من الحال السارح في تلك الآفاق الرحبة التي ليس لأحد القدرة في تدبيرها سوى خالقها الجليل العظيم. يتذكر تدبيره الضعيف برنامج الغد مع الإخوان، الساعي إلى الحركة من أجل إحياء الأمة ببعث شرع الله، وما يضمن من قيم العدل والإحسان. ويستيقن من حقارة سعيه أمام تدبير القادر القاهر لأمر السماوات والأرض، بل يتبرأ من أن ينسب لحوله وقوته شيئا مما يقوم به و" الله خلقكم وما تعملون" .
وهناك عند السعي بين الصفا والمروة يتعمق في تلك المعاني بفهم ييسره الله لعقله المستشعر لطبيعته الأولى التي ابتدأ به خلقه، طبيعة التردد بين الإقبال والإدبار. وما شعيرة السعي بين الصفا والمروة إلا رمز ذلك التردد للعقل الولهان الساعي في مصلحة الغير. وهو المعنى الظاهر في الخبر المروي عن الإمام الصادق رضي الله عنه: "إن الله خلق العقل وقال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر ثم قال له: وعزتي وجلالي ما خلقت شيئاً أحب إلي منك لك الثواب وعليك العقاب"
نعم لا بد من الحركة لإصلاح شأن الأمة شريطة أن يتبرأ الفرد من الشرك بالله فينسب لنفسه أي حول أو قوة. إنه الحال الذي يستشعره “مستغفر” عند الشروع في السعي عند الصفا. يقرأ : (( إن الصفا والمروة من شعائر الله)) ويقول " أبدأ بما بدأ الله" يرتقى على الصفا حتى يرى البيت، ويقول ثلاثا: " لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. لا اله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الاحزاب وحده". ثم ينزل إلى المروة حتى إذا كان في بطن الوادى يسرع، حتى إذا صعد من الوادي، يمشي حتى يأتي المروة فيفعل على المروة كما فعل على الصفا. وهكذا سبعا، ويكون آخر طواف على المروة. أثناء السعي يستشعر “مستغفر” حال هاجر أم اسماعيل عليه السلام، تهرول في بطن الوادى سبع مرّات تنظر إلى من يقبل من أجل الماء، لعطش قام بابنها اسماعيل فخافت عليه من الهلاك. والخاطر النفسي الذي ينبغي استجلابه هو الشفقة على العباد والسعي في إرجاع الحكم لشرع الله في بلدانهم... عسى أن تجلب تلك الشفقة القبول في الجناب الإلهي، فيهزم الأحزاب العلمانية وحده، وينصر الحركة الإسلامية المتبرئة من أي مظهر من مظاهر الشرك والغرور ومزاحمة الربوبية والاعتماد على حولها وقوتها.
وكما يقول أحد المكاشفين بأسرار الحج: ... ينال الساعى من الصفا إلى المروة، وهما الحجارة، ما تعطيه حقيقة الحجارة من الخشية والحياة والعلم بالله والثبات في مقامهم ذلك، فمن سعى ووجد مثل هذه الصفات في نفسه حال سعيه، فقد سعى وحصل نتيجة سعيه، فانصرف من مسعاه، حىّ القلب بالله، ذا خشية من الله، عالما بقدره وبما له وللّه، وان لم يكن كذلك فما سعى بين الصفا والمروة". ويزيدنا في تفسيره يقول: " فالحجر يهرب من مزاحمة الربوبية في العلوّ فيهبط من خشية الله وبهذا أخبر الله عنه فقال : (( وان منها لما يهبط من خشية الله )) " ... " ثم ان الله جعل هذه الاحجار محلا لاظهار المياه التي هي أصل حياة كل حىّ في العالم الطبيعي، وهى معادن الحياة، وبالعلم يحيى الإنسان الميت بالجهل، فجمعت الاحجار بالخشية وتفجر الانهار منها بين العلم والحياة، قال تعالى: (( وان من الحجارة لما يتفجر منه الانهار))، مع اتصافها بالقساوة وذلك لقوّتها في مقام العبودية فلا تتزلزل عن ذاتها لانها لا تحب مفارقة موطنها لما لها فيه من العلم والحياة اللتين هما من أشرف الصفات."
وماء زمزم الذي تفجر لهاجر من تلك الحجارة جاء ليتمم التفهيم لمن ألقى السمع وهو شهيد. يتضلع منه المعتكف “مستغفر” ويسأل ربه الحي العليم أن يزيده من العلم به، ومن خشيته، ومن حياة قلبه بالإيمان والإحسان، ومن الشفقة على عباده المستجلبة لرأفة الرؤوف، الناصر لجنده الهازم لأصحاب الشرك والطغيان.
أعمال منى وعرفة:
التقى صاحبنا في منى برجال من أطر الدولة للوفد المغربي، يتذكر أنه تحدث معهم في موضوع تغيب بعض الحجاج عن موقع عرفات بسبب تعطل حركة السير، وفي موضوع موت ألف حاج بسبب الانخناق بعد تعطل تهوية الأنفاق الرابطة بين مكة ومنى. رأى المهندس أن جشع الشركات السعودية والأمريكية والأوروبية هي السبب في كل ما وقع. كان من الممكن أن تجهز تلك البقاع بشبكة مواصلات بنظام الترام والميترو والسكك الحديدية الكهربائية، عوض تلك الملايين من الحافلات التي تخنق الجو بانبعاثاتها السامة، تقف كلها عند أول حادث فتتعطل الحركة نهائيا، ولا يمكن إسكات محركاتها المشغلة لمكيفات الهواء داخلها، لئلا يموت الناس حرا. لا يموت الناس حرا نعم، لكن الآلاف منهم يموتون اختناقا من التلوث الذي يخيم على الأجواء.
ويأتون لهم في منى بأصناف "البوركر"، و"الكي. إف. سي". وغيرها من الوجبات السريعة الأمريكية التي غزت مقاهيها تلك البقاع المقدسة، لتعمم أسباب فناء أمريكا على أبناء الجزيرة المهددين بأمراض الربو والسمنة والذبحة القلبية لم تكن في أسلافهم! هل للمسؤولين السعوديين وعي بتلك الأمور؟ أليس من حق كل مسلمي العالم التدخل لتحسين ظروف الحج وتوفير مال المسلمين الذي تلتهمه تلك الشركات جالبة معها السموم والملوثات؟ يتفق الجميع على تلك الحيثيات، ولكن ما العمل؟
وجد صاحبنا الحل في اجتناب ما أمكن من تلك الوسائل الكريهة، لأنها كانت حجته الثانية، تعرف أثناء الحجة الأولى على مكامن الخلل فحاول تجنبها. ولكن بالنسبة لملايين الحجاج الآخرين، فلا حول لهم ولا قوة أمام التدبير الإجرامي للمسؤولين السعوديين المقيدين بجشع الشركات الأجنبية وسماسرة الحج. قاطع كل وسائل النقل بين مكة وعرفة ومنى، فربطه ذلك بما تمتع به السلف الصالح في رحلات الحج، فتمكن من السير على خطى النبي صلى الله عليه وسلم في أداء الشعائر...
الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج ومن فاته فعليه الحج من قابل والهدى في قول أكثر الفقهاء، وهو ما وقع لأولئك المغاربة الذين لم يجدوا من يأخذ بأيديهم للدخول بهم إلى حدود عرفة القريبة.
وقد دخلها “مستغفر” صباحا مشيا على الأقدام من منى بكل يسر، سبق الذين تعلقوا بالحافلات. فلما كان الزوال حضر خطبة مسجد عرفة، وجمع بين الظهر والعصر في أول وقت الظهر، ثم وقف حتى مغيب الشمس، متضرعا مبتهلا خاشعا، يسأل ربه من كل الخيرات له ولكل من يدعو لهم في دعاء الرابطة.
وقد اطلع صاحبنا على كشوفات أهل السر في عرفات عساه يحظى بشئ من أحوالهم السنية، يقول أحدهم مقارنا حال العلم الذي يحصل بجوار بيت الله وحال المعرفة التي يغلب على الواقف بعرفة:
" فاعلم ان الله قد فرق بين العارفين والعلماء، بما وصفهم به وميز بعضهم عن بعض. فالعلم صفته، والمعرفة ليست صفته. فالعالم إلهي، والعارف رباني، من حيث الاصطلاح وان كان العلم والمعرفة والفقه كله بمعني واحد، لكن يعقل بينهما تميز في الدلالة كما تميزوا في اللفظ، فيقال في الحق إنه عالم ولا يقال فيه عارف ولا فقيه. وتقال هذه الثلاثة الالقاب في الإنسان وأكمل الثناء تعالى بالعلم على من اختصه من عباده أكثر مما أثني به على العارفين، فعلمنا ان اختصاصه بمن شاركه في الصفة، أعظم عنده لانه يرى نفسه فيه. فالعالم مرآة الحق، ولا يكون العارف ولا الفقيه مرآة له تعالى. وكل عالم عندنا لم تظهر عليه ثمرة علمه، ولا حكم عليه علمه، فليس بعالم، وانما هو ناقل. والعلم يستصحب الرحمة بلا شك، فإذا رأيت من يدعى العلم ولا يقول بشمول الرحمة، فما هو صاحب علم، فان الرحمة تتقدم بين يدى العلم تطلب العبد، ثم يتبعها العلم .هذا هو علم الطريق الذي درج عليه أهل الله وخاصته، وهو قوله تعالى ((... آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما...)) وهذا هو علم الذوق لا علم النظر."
من أجل ذلك كان الغالب على صاحبنا " “مستغفر” " هو حال الدعاء بالرحمة للعباد يوم الجمع ليوم الحساب، ووقفة عرفة ترمز لوقفة يوم القيامة، عندما يجيء الرب مالك يوم الدين والملائكة للحكم بين العباد، فلا يتصور من العبد دعاء إلا طلب الرحمة والصفح والمغفرة. لذا يقول العارف في الموضوع: " لما عظم القيام، وجاء ربك في ظلل من الغمام، والملائكة للفصل والقضاء والنقض والابرام، وعظم الخطب، واشتد الكرب، وماج الجمع، بحكم الصدع، فريق في الجنة، وفريق في السعير، ثم إلى النعيم المصير " وهو عموم الرحمة لأهل الجنة ولأهل العذاب، يستعذبون ما هم عليه بعد انقضاء زمن النقمة...
ويسترسل العارف العليم في تفهيمنا الفرق بين المعرفة والعلم، يقول :
" المعروف الذات، والمعلوم الصفات، من عرف نفسه عرف ربه، ما وسع القلب ربه حتى علم قلبه العلم، ما علم بالعلامة فالعالم علامة، فلا تعلم ذات إلا مقيدة، وان اطلقت، هكذا عرفت الأشياء وحققت. فالاطلاق تقييد في الارباب والعبيد، والتحديد لباس، وفى التحديد الالتباس، فاحذر من اللبس فانه من أخفى ما يكون في النفس..."
وهذا الكلام العجيب لا يفهم إلا بالرجوع إلى ما فات أن أشرنا له من خصائص النور المقيد في أفلاك الجوهر الفرد، أي الجزيء الذي تبنى به ذرات العناصر، وقولنا أنه مطلق في تقييده، لأنه ما فقد خصائصه في السرعة والموجية ، إنما ضاق فلكه حول الذرة فيبدو كالمتحيز في المكان، بمعنى يظهر في قوله تعالى: (( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب)). وقوله أيضا: (( خلق الإنسان من عجل)).
ففهم صاحبنا “مستغفر” من الموقف، أن عليه الحذر من التحديد لما هو مطلق عند الإشارة للعلامة التي بجبل عرفة، كما فعله النصارى في نبي الله عيسى، والمشركون في أصنامهم الحجرية أو الحيوانية أو البشرية.
وعند النفور إلى مزدلفة، يسر الله للحاج “مستغفر” صحبة مهندس من الأخيار، مختص في علوم الأنوار - كهربائي- ، يسمى الوافي العمراني، على بينة من المناسك كما قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على آله وصحبه، لأنه تنور بالفريضة وبالعمرة عشرات المرات. وهو أخ جواد العمراني الذي صار مديرا لمجلة " معالم وآفاق" التي سوف يأتي ذكرها. نسأل الله أن يجمعنا بهم والمقربين، على سرر متقابلين، ناظرين إلى وجهه الكريم في جنات النعيم.
كان “مستغفر” في نفوره مستحضرا نصائح عارف آخر، هو أبي السعود الشبلي رحمة الله عليه، يتحاور مع حاج يعلمه أسرار الفريضة، : " قال لي نفرت إلى المزدلفة ؟ قلت نعم، قال رأيت المشعر الحرام؟ قلت نعم، قال: ذكرت الله ذكرا أنساك ذكر ما سواه فاشتغلت به؟ قلت لا، قال ما وقفت بالمزدلفة. ثم قال لي دخلت مني؟ قلت نعم قال ذبحت؟ قلت نعم، قال نفسك؟ قلت لا، قال ما ذبحت. ثم قال لي رميت؟ قلت نعم، قال رميت جهلك عنك بزيادة علم ظهر عليك؟ قلت لا، قال ما رميت. ثم قال لي حلقت؟ قلت نعم، قال نقصت آمالك عنك؟ قلت لا، قال ما حلقت. ثم قال لي زرت؟ قلت نعم، قال كوشفت بشيء من الحقائق؟ أو رأيت زيادات الكرامات عليك، للزيارة فانّ النبى صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "الحجاج والعمار زوار الله وحق على المزور أن يكرم زواره" ؟ قلت لا، قال ما زرت.
أماني “مستغفر” في جوائز الجواد الكريم، راى لها معالم تحقق في منى، عندما حضر مجلسا للنصيحة ضم حوالي مائة وخمسين أخا، نظمه الإخوان الذين أتوا من إيطاليا. وكان يتتبع فقراته إخوة من تونس والجزائر. كانت وليمة كبيرة ذبحت فيه العجول وأطعم الطعام للمائات. بلغ التسجيل المصور لهذا اللقاء إلى مجلس الإرشاد فسر به، وقرروا تكتيف اهتمامهم بالإخوان في إيطاليا الذين شكلوا نموذجا فعالا للدعوة العملية في بلاد الغربة.
ثم كان ذلك التأطير للقومة الاحتجاجية التي نظمها الإخوان، دفاعا على عشرات الحجاج الذين لم يتمكنوا من الوقوف في عرفات، نظرا لسوء تدبير سماسرة الحج السعوديين. انتهى الاحتجاج الناجح بوعد من السلطات السعودية لتمكينهم من الحج في الموسم المقبل.
وزيادة على الجوائز والكرامات الحسية، كانت هناك كرامات معنوية واضحة المعنى، منها مبشرة في المسجد الحرام : مشاهدة السيد المرشد وأمامه جموع غفيرة من الناس، وكأنه يسقيهم من الماء ظنه “مستغفر” ماء زمزم، وأشار له إشارة فهم منها أنه يسأله هل يحب أن يعطر له كأسه بماء الزهر، فأشار له برأسه: نعم. ومنها مبشرة رآها أخ من الإخوان: يقول : كأننا كنا في مجلس الحديث وكان حديثا يروي أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله كان يزور قبر سيدنا حمزة مرة على قدميه وتارة على حصان، فأغمضت عيناي فشاهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، يقف معه “مستغفر” وهذا الأخير يمسك لجام حصان.
ومبشرة أخرى رآها أخ آخر، قال: كنا ننتظر وصول الأخ “مستغفر” من الحج وعند وصول السيارات عند الشروق، شاهدت كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله يرافق الموكب.
وبعد الرجوع من الحج، سوف يزور صاحبنا الأستاذ المرشد حفظه الله، رفقة جاره الشريف الصقلي، فيسارع في استقبالهما ولما ينته بعد من الباقيات الصالحات بعد صلاة العشاء، حتى أتمها معهما. وكان وجهه مهللا مستبشرا مفعما بالأشواق والحنين لعناق من له عهد قريب بتلك الديار. أثناء هذا الاستقبال، قدم لهما الأستاذ المربي هدية سنية لا تنسى، ينتشلهما بها من غفلة العدم، ويرفع لهما بها الهمم، ليكون لهما في محبة رسول الله رسوخ القدم. أنشدهما قائلا:
إن قيل لنا: بم رجعتم؟ يا رسول الله ، ما نقول؟
قولوا: رجعنا بكل خير، اجتمعت الفروع والأصول.
اللهم اجمعنا برسول الله دنيا وأخرى، في الحس والمعنى، اللهم انصر من يجاهد لإحياء هديه ولبسط نوره ليشمل أمته في مشارق الأرض ومغاربها - والإنسانية كلها أمته-. آمين!
أعمال المدينة:
أما الكرامة التي كان “مستغفر” يتوقعها في طيبة الرسول، وقد بشر بها صاحبه في الحج الطبيب "الشباني" ، فهي المجسدة المتممة لكل تلك الهدايا التي ذكرت.
لما كانا في طريقهما إلى المدينة، لاحظا أن الجو أصبح باردا، فخافا أن لا يتمكنا من المكوث في المسجد النبوي كما فعلا في المسجد الحرام، لأن السلطات السعودية تغلقه بعد صلاة العشاء إلى ما قبل الفجر بقليل. فقال لصاحبه "لا تقلق سوف ترى إن شاء الله ما يعجبك من كرم الضيافة في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه".
فلما وصلا المدينة، جاء مدير شركة الأسفار التي سافرا معها يزف لهما خبرا مثيرا : " المهندس " ك " رقي في عمله إلى درجة مدير، وطلب منه الحضور إلى المغرب فورا، فاختصر زيارة المدينة وقد أهدى لكما مكانه هو وزوجه في الفندق " س""!. والفندق "س" يعتبر من أفخم فنادق المدينة، وأقربها من القبة الخضراء. والمهندس "ك" هو من النجباء الذين أطرهم صاحبنا “مستغفر” في لجنة الأطر التي كان من قبل مكلفا بها في الجماعة.
أتم “مستغفر” وصاحبه آداب زيارة مضجع الحبيب المصطفى صلى الله عيه وسلم وعلى آله والروضة الشريفة، مع استمطار عبرات الإلحاح في الاستغفار قرب رسول رحيم يرجع الله له روحه لرد السلام على الزائرين وللإستغفار لهم عند رب غفور حليم.
ثم اتجها إلى الفندق للاحتفال والفرح بهدية الله في طيبة. فلما أخذا مكانهما أمام جبال المأكولات وأنهار المشروبات في مطعم الفندق، ضحكا كثيرا، وتيقنا أن الأمر فيه ما فيه! فحمدا الله وشكراه على كرم ضيافته في مدينة الحبيب المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم على آله وصحبه.
وقيل إن السلطات السعودية كفت عن تلك العادة السيئة في إغلاق بيوت الله، بين صلوات الليل، فالمسجد المدني مفتوح الآن للزائرين ليلا ونهارا والحمد لله. فلربما إن يسر الله لصاحبنا “مستغفر” حجة ثالثة، فلن يبغي عن المرابطة في الروضة الشريفة بديلا، ولو كان فندقا بمليار نجم، وهل العاقل يبغي بديلا عن الجنة؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول " مَا بَيْنَ بَيْتِى وَمِنْبَرِى رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ ". رواه البخاري ومسلم.
كرم الضيافة وفهم الإشارة، ذلك ما شحذ همة صاحبنا “مستغفر” على إتمام مهمته التي كلف بها كأمير لوفد حجاج الجماعة. وأول شيء تثبت منه، أن كل تلك الكرامات هي للجماعة، وما أوتي منها، فمن حيث انتمائه إليها، لا من حيث استحقاقه الشخصي، لأنه يعترف بكثرة ذنوبه، وحاله آنذاك يستغيث داعيا: اللهم لا تفضحني بخفي ما اطلعت عليه من أسراري، ولا بقبيح ما تجرأت به عليك فى خلواتي!
وهكذا حرص “مستغفر” على لقاءات يومية قبالة القبة الخضراء التي تضم مضجع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان يقوم فيها الليل مع الإخوان، فلا تزعجهم سلطات الحسبة الدينية السعودية، كما تفعل مع أي تجمع أو نشاط غير مرخص...
وبتأطير من أحد الإخوان القاطنين بالديار المقدسة، نظمت زيارات جماعية لمزارات المدينة: البقيع، مسجد الجمعة، مسجد قباء، جبل أحد وشهدائه، وخاصة سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه، مسجد القبلتين، الخندق ومساجده، خاصة مسجد الفتح، مسجد الغمامة، مسجد أبي بكر الصديق، مسجد علي.
وكانت كذلك زيارة بعض الشيوخ المجاورين في المدينة: الشيخ التبر الذي بلغ السلام إلى السيد المرشد، الشيخ أبو الأمين من سوريا، الذي أوصى بالتعلق بالمرشد وعدم الالتفات عنه.
فكان ينبغي للمسؤول “مستغفر” أن يرصد طاقات الجماعة، أولا لشكرهم وتهنئتهم على جديتهم وتفانيهم في خدمة الدعوة، ثانيا لكي يحسن الإخوة في الجهات توظيفهم لاستجلاب المزيد من الخير للجماعة عن طريقهم المبارك. فكان من بينهم من يسر الله ذكره، مع العلم أن جند الله المخفيين قد خصهم الله بما هو أهله، والإنسان يحكم بالظاهر والله يتولى السرائر.
تطور عمل المكاتب الدراسية المرتبطة بالدائرة السياسية في ظرف وجيز. وكان لابد من التنسيق بينها لتتوحد النظرة، وتتلاقح الأفكار، وتنجمع الجهود لتحليل الواقع والبحث عن البديل الإسلامي، فيتيسر تفصيل المشروع المجتمعي الذي تدعو له الجماعة، وقد ظهر مجملا في كتابات المرشد طيلة نشاطه الدعوي. فانتخب الإخوة المشرفون على المكاتب منسقا لهم في ذلك العمل الجماعي، في شخص صاحبنا "مساعف".
ثم تظهر الحاجة لتأسيس واجهة علنية لمنسقية عمل المكاتب، فيؤسس " مركز ابن خلدون للدراسات والأبحاث"، في بداية الألفية الثانية. يكلف بإدارته الأخ "بدر" الشاب الألمعي الذي كان من أنشط مسؤولي المكاتب الدراسية. يودع قانونه الأساسي لدى السلطات، ويساهم له الإخوان في كراء مقر في وسط المدينة، ويشرع في العمل دون انتظار رد السلطات. فكان ظن صاحبنا "مساعف" أن المركز سوف يلقى ترحيب الدولة وترحيب الجماعة معا، نظرا لندرة مراكز الدراسات في البلد، مقارنة مع الغرب أو حتى مع المشرق العربي. والنادر الموجود ليس سوى فرعا من فروع مراكز الأبحاث الأجنبية خاصة المراكز الفرنسية، هاجسها التمويل، وإنتاجها، تبعا لذلك، لا مصداقية له في الدفاع عن مصالح البلد.
أثناء مدة عمله القصيرة، كان من بين أنشطته الإشعاعية تظاهرة إمضاء كتاب الأستاذة ندية " الإبحار"، وكذلك استقبال بعض الطلبة الهولنديين، أتوا ليتعرفوا على التيار الإسلامي في البلد. وكانت له أنشطة فكرية وتواصلية وتأطيرية مكثفة على امتداد أيام الأسبوع على مدى ثلاث سنوات.
وستأتي مناسبة يثير فيها الأستاذ موضوع التطورية بمناسبة ظهور كتب الخلقيين الأتراك من فريق هارون يحيى. فيشير على صاحبنا "بالنظر في كتبه فهي عميقة حول التطورية"، ويقترح عليه الكتابة في الموضوع، بصفته مسؤولا عن مكتب الدراسات والأبحاث.
استمر عمل منسقية مكاتب الدراسات والأبحاث ووكل لها تفصيل المشروع المجتمعي للجماعة تحت إشراف صهر الأستاذ المرشد. أما العمل الإشعاعي فلقد ارتأى صاحبنا أن تتولاه مجلة علمية، حرص على تأسيسها، وطلب من المكاتب تعيين ممثل لها يكون في هيئة التحرير. فكانت مجلة "معالم وآفاق" تصدر كل ثلاثة أشهر، تنتقي مواضيعها "التقنية" مما يكتب الإخوان وغيرهم حول الاستراتيجيات التنموية، وحول المناهج، وحول التشريعات وتدبير وتسيير المؤسسات والاقتصاد التعاضدي والتمويلات، وحول الهندسة والتكنولوجيا والإبداع، وحول العولمة وغيرها من المواضيع التقنية التي ساعدت أعضاء هيئة التحرير على البروز وعلى الارتقاء في طلب العلم والحصول على أعلى الشهادات، واختيار بعضهم في سلك الأساتذة الجامعيين، فاستفادوا وأفادوا، وبورك في المجهود، وهم على ذلك شهود.
مع نشاطه في منسقية مكاتب الدراسات، كان صاحبنا "مساعد" يحضر جل لقاءات الجماعة مع المبعوثين الإعلاميين والخبراء الأجانب. لم تكل الدول الغربية أبدا في بعث جواسيسها ومخططيها وكبار محلليها لاكتشاف سر اكتساح الجماعة السريع لكل طبقات المجتمع المغربي، واتساع عدد المنتمين والمتعاطفين معها في حواضر البلد وبواديه. فيسألون الناطق الرسمي للجماعة عن الأنشطة الاجتماعية، عن المخيمات الجماعية في الشواطئ التي تجلب آلاف الأسر، وتنظم نفسها تنظيما إسلاميا تظهر فيه كل عناصر قوة المجتمع المسلم، مثل التي كانت زمن المرابطين والموحدين. اتضح لصاحبنا "مساعد" الذي كان مترجما بين أولئك المبعوثين والناطق الرسمي للجماعة فتح الله أرسلان، أن الظاهرة التي بلغت أوجها في نهاية القرن الماضي، أزعجت الغرب والصهاينة وكل القوى السياسية والاقتصادية الدائرة في فلكهم. كما أن اكتساح الجماعة للجامعات والمعاهد العليا شكل لهم لغزا استعصى عليهم فهمه بأدوات تحليلهم التقليدية. ومعظم المستخبرين يخرجون مقحمين بما سمعوا من الحق (( مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)). فكان ذلك سببا لتوتر الأعصاب، والانزعاج وفقدان الصواب من لدن العناصر الماسونية التي تبعثتهم للتجسس. وعندئذ يعهد للأبالسة بالتخطيط للوءد في المهد بدم بارد. فتعقد الصفقات بين النظام المنشغل بالبيعة، وهاجسه استمرارية الدولة العلوية، قبيل موت الملك الحسن الثاني؛ وبين مخابرات الغرب والصهاينة، وشعارهم "العلمانية ولا شيء غيرها لضمان مصالحنا"؛ وبين الأحزاب اليسارية، وحلمها حينئذ: "التداول على الحكم والنصيب الوافي من الكعكة."
كلهم وعدوا بما طلبوا ورغبوا، شريطة الاتفاق على التضييق على أنشطة الجماعة لتقزيم حجمها وتهميشها قبل فوات الأوان!
فلما استتب الحكم لليسار في بداية ملك محمد السادس، عهدت الحكومة "التقدمية" لقوى القمع تنفيذ مخططات أعداء الإسلام، فعمدوا إلى جيوب المغاربة لتمويل حربهم على مخيمات الإخوان، وحربهم على الجامعات وحربهم على التظاهرات السلمية... وكلهم يتطلعون بشغف إلى فقدان الجماعة لأعصابها فتدخل في دوامة العنف السوداء، والحرب نائمة لعن الله من أيقظها. والصهاينة وأزلامهم هم شياطين الدس وإشعال الفتائل، فضحهم الخبير الصبور في قوله تعالى: (( .. كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ))" البقرة؛ 64.
ولقد شاهد صاحبنا " محفوظ " عدة تدخلات لتفريق التظاهرات السلمية التي دأب عليها الإخوان. لكن لم ير قط مثل ذلك القمع الذي سلط على أخوات الجماعة بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان، يوم الثاني عشر من شهر رمضان الأبرك لعام 1421 الموافق لعاشر دجنبر 2000.
لقد تم إشعار السلطات بعزم الجماعة على تنظيم هذه الوقفة للمطالبة بحقوقها المشروعة وحرياتها العامة، وإشهاد الناس على ما تتعرض له من مضايقات، خاصة بعدما تيقنت أن أعداء الأمة يعدون الخطط للمزيد من التنكيل بالجماعة وتضييق الخناق عليها.
وكان صاحبنا "محفوظ" صبيحة ذلك اليوم في رفقة ابن المرشد المهندس كميل وجاره المهندس الصقلي، عندما انطلقت جحافل قوات التدخل السريع، والقوات المساعدة، والشرطة، والمخابرات، قاصدة الإخوان والأخوات لتفريق التظاهرة السلمية. فكانت الهراوات تتكسر فوق الرؤوس! وكانت الدماء تسيل والعظام تتهشم!.. وكأن القوم كانوا في سكرة الجلاد يعمهون!
يذهب صاحبنا "محفوظ" نحو تلك المجموعات التي أحاطوا بها يشبعون الرجال والنساء ضربا بكل ما أوتوا من قوة. فيقترب منهم غير عابئ بهم وهو يصيح : "اتقوا الله! اتقوا الله! أمروكم بالضرب، ولكن هناك ضرب! وهناك ضرب! لا تزيدوا فيه من عند أنفسكم! لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"!
وحفظه الله، لم يصبه سوء رغم دخوله المعمعة. وكان من رجال الهراوات من جاء يقول له : لقد احترمناك يا حاج فلا تعرض نفسك للخطر!
حسبنا الله ونعم الوكيل! لا حول ولا قوة إلا بالله! بقدر ما هم أذلة على الكافرين، بقدر ما هم أعزة على المؤمنين. بقدر ما هم خرفان أمام أسيادهم في الاستخبارات الأجنبية، أو أكابر معلميهم في المحافل اليهودية الماسونية، بقدر ما هم أسود كواسر في وجه المطالبين بالحكم بما أنزل الله، أو المنادين بأبسط حقوق الإنسان.
كان ذلك أقسى ابتلاء نزل بالجماعة. فلولا أن ثبتها الله لانجرت إلى دوامة العنف السوداء. وذلك ما كان الأعداء يبغون: الحرب الضروس بين المسلمين. لكن الجماعة تحكمها مبادئ معلنة وثابتة جعلت من خياراتها "الاستراتيجية" التغيير باللطف عوض العنف، بجانب خيار العمل العلني عوض العمل السري، وخيار الاعتماد على الذات عوض الاستعانة بقوى خارجية تعادي ثوابت الأمة، مثل ما فعله اليسار، وكذلك النظام القائم الذي جعلته مفاوضات "إيكس ليبان" منقوص السيادة وتابعا لشروط المستعمر، التي منها اعتماد الهوية العلمانية الرافضة لشريعة الإسلام.
منهج اللطف والرفق والمداراة لا ينفي إطلاقا القوة اللامادية، القوة المعنوية، القوة الروحية، قوة التأهب والإعداد والقيام بالقسط وانتزاع الحقوق المضمونة في إطار الكرامة الآدمية والمواثيق الدولية المتعارف عليها. منهج اللطف والرفق لا يتعارض مع المطالبة الميدانية بحرية الرأي والتحزب والمساهمة في تسيير شأن الشعب حسب المرجعية التي تعبر عن هوية الأمة، والتي ضمنها الدستور بعد انتزاع مشروعيتها بعد سنوات الاحتلال الفرنسي.
حقوق طبيعية، وأعراف إنسانية، ومواثيق دولية، اهتدت لها الحكمة البشرية بعد طول الممارسة ودروس التجارب، أو اعتقدها الملتزمون بالرسائل السماوية، لا يهم مصدرها إن تم فعلا اعتمادها وتوظيفها كوسائل حضارية تحمي البشرية من ويلات العنف والعنف المضاد، عند كل عملية تشاورية لتدبير الشأن العام، أو تداول السلطة، أو مع كل تدافع أرضي على منافع مشتركة أو مصالح متضاربة.
ويأتي في هذه الحقبة من تاريخ البشرية من يريد سلب هذه المكتسبات الحضارية والرجوع بعقارب الزمن لعهد فرعون وهامان وقارون.. ؟! ويأتي هامان الألفية الثالثة مسلحا بهراوات رجال المغارات ليسلطها على مطالبين باحترام الكرامة الإنسانية والقيم البشرية المشتركة..؟ !ويأتي المغاوير الأشاوس والأبطال الصناديد "ليشتتوا شمل" وقفة حضارية لحفنة من المستضعفين والمستضعفات انبرت بلطف ورفق لترشيد وسائل التدافع بين الناس...؟!
"حققنا انتصارا.. لم يثبتوا طرفة عين أمامنا.. أشبعنا نساءهم لطما وخدشا.. نزعنا عنهن حجابهن ..أهناهم.. لم نعبأ بمصاحفهم ولا بحسبلتهم .. ولا بحوقلتهم... هجومنا المركز ضيق الخناق عليهم.. وخطتنا المدروسة تبعت المنهزمين منهم في كل الدروب .. اقتحمنا حصونهم في المساجد.. ! أسرنا أسرة مرشدهم ..." هكذا فعلهم وقولهم...
لقد ضج العقلاء وحوقلوا ولسان حالهم يسأل في ذهول: ما بال قومنا استنفروا علينا كل أصناف الجند للتنكيل بأبنائهم وبناتهم وإخوانهم وأخواتهم؟ أنكسوا على رؤوسهم وصاروا أعداء ذاتهم وهويتهم؟ أم أنهم صاروا أشد تعصبا للفرعونية من فرعون؟ وللصليبية من الصليبيين؟ وللصهيونية من الصهاينة؟ أم أنهم جادوا على الأبناء والبنات بفيض العصا الذي يصبها عليهم سادتهم ؟
جند يكسرون عظام نسائهم وبناتهم ويطمعون في مجد أكبر من مجد جيش عمورية! وما أدراك ما جيش عمورية!؟ تنادي المرأة التي سباها الروم وامعتصماه، فيركب القائد الأبي لوقته ويتبعه الجيش لفتح عمورية وانتزاعها من الروم، فيقول لبيك أيتها المنادية! وقومنا يجودون بالعصا، ويضربون النساء، في زمن حقوق الرجال والنساء التي اتفق عليها البر والفاجر! كفى بالمرء شرا أن لا يكون صالحا ويقع في الصالحين!
بعد الذهول أمام الفاجعة الأخيرة، وما ألفنا منهم غير زوابع الفواجع، تأتينا من جانبهم تترى، "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون" سال مداد أقلام الواصفين، وحلل المحللون وفسر المفسرون، وتفرس المتفرسون.
لا يستطيع المرء تصديق ما وقع ولا تفسير ما حدث يوم الاحتفال بذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان. ويكون مضطرا لاعتماد بعض أدوات التحليل آسفا على الفخوخ التي سقطت فيها الإدارة اللادينية في مواجهتها للواقع. لا بد من نفي التهم على تدبير ما حدث على المسلم الغيور على دينه وعرضه ونفسه، لا بد من تبرئة ساحة كل من يستشعر كرامة وعزة المنتمي لهذا الدين.
وتجاوزا، ورفقا، ولطفا ببني جلدتنا، واحتراما وحفاظا وتعززا لشهامتنا، نلصق التهمة كاملة غير منقوصة بالشخصية المعنوية المتمثلة في الإدارة اللاييكية التي استبدت بتسيير أمورنا. ونشير بأصابع الإدانة لمن له مصلحة في تجريد المغاربة من إسلامهم، وفي مصادرة حقوقهم الآدمية، ليلزموا بيوتهم في دركات التخلف والذل، لئلا تحدثهم نفسهم بأداء أي دور حضاري خاصة إذا اتصل ذلك الدور بسبب عزهم البائد الذي قرن بتجسيد الرسالة المحمدية وتبليغها للعالمين.
الأوفقيريون، بقايا موظفي الاستخبارات العسكرية الفرنسية، ومن تحالف معهم من المنتمين للجدلية المادية الملحدة أو المجندة تحت شعارالوردة الصليبية: rosicruciens، ومن عباد العجل الذهبي الحريصين على استنزاف ثروات البلد والاستئثار بها أبد الدهر. لوبي منظم في سرية تامة تحت لواء الماسون والروتاري، ومدعم من الخارج المتآمر على الأمة في مشارق الأرض ومغاربها. إدارة تتآمر ضد الهوية والوحدة والتآزر بين أفراد الأمة وتكافلهم وتراحمهم وتعاطفهم. إدارة تريد تفريق المسلمين شيعا بعضهم يضرب أعناق بعض، بعد تكميم أفواه الشرفاء، والتنكيل بالدعاة والحكماء. إدارة تريد استقرار الجهل واستغفال الموظفين السذج لتمرير استراتيجيات رهن البلد وأهله، وما فوق وما تحت أرضه من خيرات ليكون نهبا مشروعا للثالوث المتحالف المتآمر على مصالحنا وهويتنا وحاضرنا ومستقبلنا.
تلك هي الأحوال التي هجمت على صاحبنا "مستلهم" عند معاينة ثبات الإخوان وخاصة الأخوات في ساحة التدافع بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان يوم الثاني عشر من شهر رمضان الأبرك لعام 1421 الموافق لعاشر دجنبر 2000... كانت من الأسباب التي دفعته إلى إعادة قراءة تاريخ الفتوحات الأولى من أجل تدبر أسباب الثبات والنصر في المعارك الفاصلة بين الحق والباطل.
فكان تأليف " روح وقعة اليرموك، وسبل بعثها في تدافعنا السياسي الحديث". وهي دراسة تروم الاستفادة من العبر الغزيرة لهذه الفتوحات العجيبة، والاستهداء بهديها في ميادين التدافع بين الناس الذي قرره الله لإمضاء قانون ثابت، قانون المن على المستضعفين، عندما تضيق الأرض عليهم بفساد المترفين. وتتوخى المدارسة عدة أغراض، أولها تعميق فهم قواعد التدافع الأرضي لتتويج قيم العدل، من خلال منجزات وتجارب عاشها جيل الصحابة رضوان الله عليهم، الذي حقق الغاية الاستخلافية الأولى، والغاية الإحسإنية المثلى. الغرض الثإني تحفيز الهمم لرفع مستوى أداء المؤمن والمؤمنة والمتعاطفين معهم في عملهم الجهادي ليكون في مستوى أداء جيل الخلافة الأولى. الغرض الثالث استقصاء شروط التمكين واستطلاع نماذج حية للتعامل اللطيف مع الظروف المستعصية والوسائل المتواضعة لبلوغ الغاية الاستخلافية الكبرى للأمة، ولقضاء الحاجة الأخروية الفردية العظمى: الكينونة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. الغرض الرابع استخلاص بعض الدروس لفهم الأحكام الشرعية وتطبيقها الميداني في الساعات الحرجة وأثناء المنعطفات الكبرى التي يقف فيها التاريخ إجلالا ليخلد نماذج ساطعة من أيام الله الحاسمة."
ولم يكن للدراسة أي وقع داخل الجماعة رغم توصل القيادة بها، ربما لخلل في صياغتها أو لركاكة في أسلوبها، أو ربما لصعوبة تطبيق ما جاء فيها من اقتراحات، أو لجميع ذلك وهو الأرجح. فمثلا تحت عنوان " روح المسؤولية ونجدة القائد المسلم وحرصه على ألا تصاب شعرة أحد من جنده " جاء في بحث صاحبنا "مستلهم" : " في إحدى صولات اليرموك، تفقد خالد بن الوليد أصحابه الستين رجلا فلم يجد منهم الا عشرين فجعل يلطم على وجهه وهو يقول " أهلكت المسلمين يا ابن الوليد فما عذرك غدا عند الرحمن وعند الأمير عمر بن الخطاب رضي الله عنه ". والدرس لمعاركنا الحالية: ينبغي حساب ألف حساب قبل الزج بالمؤمنين في معركة تدافعية من المعارك، والحرص على سلامتهم ونصرهم. ثم أن أبسط قواعد المروؤة أن يتحمل من تولى مهمة فيها، المسؤولية الكاملة في أية خسارة تحدث، ولا ينسب لنفسه أي ربح يحصل في ولايته. ونرجو أن لا يكون الوزير الياباني المستقيل بعد فضيحة ما، مثالا لنا، وقد كان خالد بن الوليد رضي الله عنه قد درب نفسه على الانتقال من رتبة "جنرال" إلى رتبة "جندي صف" لئلا يفتتن الناس بالانتصارات التي يقدرها الله لمعسكر المسلمين في ولايته.... إذ يبدو للملاحظ أحيانا أن وقت الإخوة القادة ضاق بالمهام التي تتنازعهم حتى أوشكوا على إغفال بعض الآليات التي يتم عبرها تكوين الطاقات وتدريبها على تحمل المسؤوليات. فلربما سنستفيد مستقبلا من الحكمة المقننة لبعض المساطر التي تمكننا من تجديد الدماء وتسريع وتيرة اكتشاف القيادات الميمونة الغرة. ولربما سيستحسن حصر ممارسة المسؤولية في الأجهزة المقررة والمسيرة والمنفذة، في ولايتين متتاليتين تحدد مدتهما. ولربما نفكر في اجتناب الجمع بين مسؤوليات مختلفة... إلى غير ذلك من آليات إدماج الطاقات المعطلة والخبرات الشابة...". و في موضوع اكتشاف الطاقات الميمونة، جاء في الدراسة: " اقبل معاذ بن جبل على الناس في اليرموك وقال في حق خالد بن الوليد: "أما إنكم قد أمرتم بطاعة رجل ميمون الغرة مبارك الطلعة. فإن أمركم بأمر فلا تخألفوه فيما يأمركم به فما يريد غير صلاح المسلمين والأجر من رب العالمين."... فراسة المؤمنين كفيلة بالتعرف على القائد الميمون الغرة الذي يتبعه السعد أينما حل وارتحل. وهو الكنز الثمين الذي نحافظ عليه كما حافظ المسلمون الأوائل على أصحاب السعادة في معارك القادسية واليرموك والبهنسا وفتوحات افريقيا والسند و الهند وغيرها. لكن نحرص على حفظه وحمايته من الغرور الذي يفرز النفسية الديكتاتورية التي سرعان ما تتحول إلى الصنمية ثم إلى الفرعونية التي توشك أن تقول للناس: " ما علمت لكم من إله غيري".
وكان لصاحبنا "مستلهم" كذلك مشروع كتاب قدمه للإخوان في "رابطة الكتبة"، من بين فصوله فصول تقترح محاولة المبادرة بإخراج ملف الجماعة من التدبير الأمني إلى التدبير الحقوقي، والمضي في التدافع الحقوقي على الصعيد المحلي ثم الدولي، ثم محاولة إخراج الملف من التدبير الحقوقي إلى التدبير السياسي.
فكأنما فطن خبراء الماسون لهذا الجانب الحقوقي، فقرروا سلب ما ضمنته حقوق الإنسان بواسطة ما أطلقوا عليه "قانون الإرهاب"، تفرضه فرضا على المسلمين خاصة. المسلم ينظر إليه من خلال قانون الإرهاب، وغير المسلم يكرم بما تنص عليه حقوق الإنسان!
لم يتذكر صاحبنا "مناهض" تلك الظروف التي دعته إلى مرافقة أحد المحامين المنتمين للجماعة للحضور في اجتماع عقد لمناهضة قانون الإرهاب.
فلقد قام بعض الفضلاء في جمعية حقوقية مغربية بمبادرة التشاور مع بعض مكونات المجتمع المدني من أحزاب وهيئات وجمعيات، وذلك من أجل الوقوف ضد تمرير قانون مكافحة الإرهاب، الذي سارعت الحكومة المغربية في تقديمه في إطار مشاريع القوانين التي عرضتها على البرلمان سنة 2003.
اتخذ هذا العمل النضالي من عدة دراسات تحليلية نقدية، قام بها بعض الحقوقيين، مرجعا نظريا مهما، يتم من خلاله مقارعة قانون مكافحة الإرهاب، بالمعيار القانوني والحجة الحقوقية الداحضة لدعوى صلاحية هذا القانون، الذي يبدو أن الجهاز التشريعي الأمريكي أملاه على الحكومة المغربية.
ومن الطبيعي أن تكون تلك الدراسات النقدية تخضع إلى المنطلقات الفكرية والعقائدية التي يتبناها أصحابها، وخاصة المرجعية اللاييكية التي ينطلق منها الفضلاء الداعون لهذه الوقفة المناوئة للهيمنة الإمبريالية.
كان مسؤول تلك الجمعية الحقوقية، المهندس "أمين"، من معارف صاحبنا " مناهض"، عمل معه في اللجنة المختلطة التي تسهر على ترقيات مهندسي وزارة الفلاحة. اتفق معه على ضرورة تعزيز المنطلق الفكري لمناهضة القانون المشبوه، بالآراء التي تمثل جميع المرجعيات الموجودة في الساحة. وهكذا اقترح " مناهض " دراسة تحليلية من زاوية أخرى، تحاشت معالجة الموضوع انطلاقا من المجال التقني الصرف الذي ينتقد من الداخل مقتضيات ذلك القانون، مخافة تكرار ما قام به أهل الحرفة. وأبرزت الدراسة عدة أفكار، من شأنها إعطاء عملية دفع خطر الغزو التشريعي الخارجي أبعادا استراتيجية رحبة. ويمكن تلخيص هذه الأفكار في النقط التالية: 1-إشكالية مشروعية هذا القانون، بالنظر لمصدر التشريع المتفق عليه في بلدنا.2- تواتر انتهاك المشروعية باعتماد مصادر دخيلة للتشريع نتج عنه تراكم تشريعي هجين يتوسع على حساب الرقعة المتآكلة المتروكة للشريعة الإسلامية التي تدين بها الأمة.( مرجعية اللاييكيية الكاثلوكية، مرجعية القانون الدولي، مرجعية الأصولية الأمريكية...) 3- اعتماد الأصولية الأمريكية كمصدر جديد من مصادر التشريع يهددنا بخطر تسرب التحريف الذي طال التوراة والإنجيل، إلى تشريعاتنا. 4- لا يمكن مكافحة الإرهاب بعقيدة محرقة "هرمجدون" التي تقوم على الحروب المدمرة والتوسع على أراضي الغير والرعب في أقصى معانيه. 5- مناقشة عناصر لبناء استراتيجية لدفع خطر الغزو التشريعي.
وذكر " مناهض " في تلك الدراسة، وعنوانها: عناصر لدفع خطر الغزو التشريعي : قانون مكافحة الإرهاب نموذجا"، أنه حتى وإن قدر للقانون أن يمرر، فلن يكون مصيره سوى مصير كل الحملات التي مرت على أمة الإسلام، يجعلها الله سببا لظهور الدين وانتشاره ولو كره الكافرون. فلقد اجتاح التتر بلاد المسلمين، وتحالفوا وتواطأوا مع الصليبيين للقضاء على الأمة، لكن شاء الله أن يضع أسرار الرحمة والحكمة والغيرة على الدين في طريقهم، فانقلبوا بنعمة الله حاملين للرسالة إلى آفاق رحبة لم تكن في الحسبان:
أسرار الرحمة متمثلة في رجال الإحسان، والشيخ "الباخرزي" واحد منهم، أسلم على يديه كبراء التتر، فنشروا الإسلام في سيبيريا والصين والهند في أكبر أمبراطورية شهدها العالم؛
أسرار الحكمة متمثلة في رجال الفكر المتقدم على عصره، وابن خلدون واحد منهم، رد ظلم التتر بحكمة فائقة؛
أسرار الفقه الغيور على الشريعة، متمثلة في ابن تيمية الذي كان له سجال معهم حتى أقنعهم بكف الأذى عن دمشق.
فعند ظهور أقطاب هذه الأركان وسطوع نجمهم، سوف يقتنع الغزاة الجدد، الذين هم في حاجة إلى من يحيي قلوبهم وهي رميم من جراء التزوير الصهيوني. وهذا القول سيراه البعض في غاية الشطح والتخريف، وسيراه آخرون مرحلة من مراحل إقامة الخلافة على منهاج النبوة، التي بشرنا بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيراه المنصفون من فضلاء النحل والملل الأخرى حلما مشروعا في عالم التشبث بالاستشرافات المستقبلية التي يستسقيها كل من معتقده. ولا بأس في هذا الصدد، تصحيحا لنبوءات الأصولية الأمريكية التي هي منبع قانون الإرهاب، من توضيح بعض الثوابت التي ينطلق منه المستشرف المستقبلي المسلم.
ويسوق " مناهض " هذا الكلام في أيام كان فيها في أمريكا، زاره في منزله أحد رجال الدين الإنجيليين، يشرف على كنيسة لا يفصلها عن داره سوى الشارع، تكلم معه ومع أحد أبنائه في موضوع النبوءات المستقبلية كما يرونها. فكان مما قال له:
" نعتقد أن السلم سيعم العالم في ظل قوانين آخر شرعة أنزلت للبشر. (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33) )هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً) (الفتح:28)
نؤمن أنه كلما أوقد الصهاينة نارا للحرب أطفأها الله " كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة:64)..
نعتقد كذلك أن أعداء الأمة ولو كانوا في بأس التتر والمغول والصليبيين والصهاينة جميعا، لن يضروها إلا أذى، تأديبا ربانيا رحيما غيورا لمن شهد لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة مصداقا لقوله تعالى: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (آل عمران:111) .
ونؤمن أن النبي عيسى عليه السلام سوف ينزل إلى الدنيا، وسوف يتعاون مع المهدي المنتظر لقتال المسيح الأعور الدجال، وسوف يقدم المهدي ليكون إماما بالناس اعترافا بعموم شريعة الإسلام ونسخ كل الشرائع الأخرى. "
من أجل ذلك، تظهر حقارة وعبثية من يحاول أن يملي علينا قوانينه المريضة، ويريد أن يلصق بنا التهم، أننا هم أولئك الجلادون البشعون الذين وضعوا قوانين وآليات محاكم التفتيش، والهولوكوست، والميز العنصري، وإبادة الفلسطينيين، واحتلال بلدان الغير...
لكن واأسفاه!.. بعد فترة قصيرة جدا شهرين أو ثلاثة، سوف يرحب في المغرب بالقانون المملى به من عند الأسياد، وسوف يصوت عليه بالإجماع في البرلمان المحبوك، في ظروف خاطفة كالبرق، مخافة أن يفهم الناس مضمونه، فيقع التردد والشك والتأخر في فرضه!..
تأسف صاحبنا "مناهض" على عدم جدوى الدراسة التي كتبها ونشرها الإخوان في موقع الجماعة... وأدرك عمق انتكاسة العقل المغربي الذي قبل أن يكون عقلا فلكيا ذيليا، لا يؤدي أي دور حضاري مثل تلك الأدوار التي زخر بها عهد الأسر المرابطية والموحدية والمرينية... ورضي أن تملى عليه التشريعات وهو المشرف المكرم بآخر شرعة أنزلت لتحكم بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون... إنه الزمن اللاييكي العلماني اللاديني البئيس الذي أخضع المغاربة لحكم التلمود، بعدما ساد حكمه على القوم الضالين، من التائهين في اختراع الأناجيل والكنائس الصهيو أنجيلية التائهة في دهاليز الخرافة الإسرائيلية!
لقد عرض الإخوان في الجماعة على المجتمع المدني المغربي ميثاقا إسلاميا لتدبير الاختلاف السياسي ولبناء مغرب ذي مصداقية على أسس العدل والشورى.
وفي نفس الوقت، كلفوا منسقية المكاتب بإعداد البرنامج المجتمعي استعدادا لكل احتمال في المشاركة السياسية.
لكن لا الميثاق الإسلامي، ولا المشاركة السياسية سيكتب لهما التوفيق في العشرية الأولى من القرن الحالي. ولقد تتابعت الاستحقاقات الانتخابية خارجة من قالب واحد، صمم لكي تحبك النتائج من قبل ومن بعد إجراء الانتخابات الصورية التي ليست سوى مناسبات للتنافس في الشر بين المغرضين.
فلما أجمع القوم على رفض الميثاق الإسلامي تنازل الإخوان- ويا ليتهم لم يفعلوا- لاقتراح ميثاق سياسي لإدارة الشأن العام بين مكونات المجتمع، إسلامية كانت أم علمانية.
وكتب صاحبنا "متحسر" مقالا في موقع الجماعة، يقترح فيه وجهة نظر في الحل الأمثل للتعايش بين كل مكونات المجتمع، يمسك فيها النظام القائم - إن أراد بداية خير للبلد - بالعصا من وسطها بين كل الأطراف، هاجسه الوحيد تفجير آليات التنافس في الخير. فتحت عنوان " الانتخابات في المغرب بين التنافس المحمود والتنافس المذموم"، دون " متحسر" صرخته الصادقة يقول فيها : " في كثير من البلدان المتطورة اقتصاديا، تكون مواعيد الاستحقاقات مناسبة لانطلاق التنافس في برامج الأعمال الصالحة، التي يوفون بها بمجرد انتهاء حمى الانتخابات. هذا التنافس المحمود وسيلة مطلوبة عند ذوي الألباب، لو لم تلجأ له البشرية للبثت في بطن التخلف إلى يوم يبعثون. والبلدان التي أفلح حكامها في تفجير آليات التسابق بين الناس في الخير، تتقدم وتنمو وتتطور، ويعتد بها وتحترم أيما احترام. لكن الأمم التي ابتليت بولاة فجروا آليات التنافس في الشر بين الناس، فهي لا تنتج إلا نكدا، ولا يعتد بها بين الدول، بل يشار لها سرا وعلانية بالاحتقار والسخرية.
بلدنا لا يزال قابعا في مؤخرة البلدان المتخلفة في المرتبة ما بعد 120 من بين دول العالم، بعد نصف قرن من الاستحقاقات الماضية. فهل تلك الفرص كانت مجرد مواعيد يبرع فيها الدجالون لإحكام ربطنا مع النوع الثاني من التنافس؟ هل هناك مؤشرات أو استعدادات أو حتى مجرد نيات للقطيعة مع هذا الواقع المزري؟
لا نقول كما قال بعضهم عن الاستحقاقات المقبلة: "زوبعة أخرى ثارت في فنجان عرافة، وسينقشع الغبار عن زمرة جمعت كل رويبض فويسق، تكلم في الناس ووعدهم ومناهم، ووجد فيهم قابلية التعلق بكل قشة هشة وسط سيل الفقر والجهل الذي يجرفهم، محاولا تجريدهم من لباس التقوى والكرامة."
بل نقول الكلمة السواء التي تدعو للتعاون على البر والتقوى، وتذكر بالحكمة البشرية التي استطاعت نفخ الروح في الأمم بعد سباتها.
في القرن الماضي أعطى الأمريكيون الانطلاقة لتنافس شركتين في بناء خطوط السكك الحديدية، فما لبثوا إلا قليلا حتى غطت شبكتها كافة الولايات من المحيط الأطلسى إلى المحيط الهادي. وكان الأمر كذلك بالنسبة لخطوط الهاتف وشبكة الطيران ومعامل الصلب والفولاذ ومركبات السيارات وغيرها من المشاريع الكبرى التي تحرك كافة القطاعات المنتجة وتيسر القطاعات الخدماتية المؤطرة. حماسة ومسارعة وحيوية تحرك الناس وتدفعهم لبذل الجهد، والتعاون ، وتوزيع ثمار التقدم والنماء.
وقبل هذا النموذج دعا سلطان العلماء العز بن عبد السلام الأمراء وعلية القوم في مصر للتنافس على تمويل الجهاد ضد التتر والصليبيين، فجمع لبيت المال ما فيه الكفاية، دون أن تفرض المكوس على الشعب الفقير، واستطاع الجيش المصري رد هجوم أخطر الغزوات في التاريخ الإسلامي.
وكذلك الحال في المغرب عندما نفر العلماء الربانيون، وتنافس الحكام والناس في مؤازرتهم لرد الهجمات الصليبية عندما اشتد جنونها في القرون الأخيرة ...
هذا التنافس المفجر للطاقات، الذي يقلب دول العادات، يكاد ينعدم تحت أجوائنا في هذه الفترة من تاريخنا. لقد حل مكانه التنافس غير الشريف، الذي يحرك الأجهزة الساهرة على حماية الزور وأهله، ودوام إمداده وإرضاعه بأساليب التوزيع الجائر لوسائل التنمية وثمارها، وبنظام الهبات المزاجية للثروات العامة ومصادرها، طلبا لولاء زائف متزلف، أو مصانعة لمتملق منبطح ، أو ثمنا قليلا يفرح به الشياطين الخرس ديدان القراء وعلماء القشور. وعلية القوم لا يدفعون من جيوبهم شيئا أبدا ، بل الدافع المؤدي الشعب، يزداد فقرا وتخلفا وحرمانا ومديونة وتبعية للخارج.
في هذه الظروف الحرجة، يتعايش في البلد جنبا إلى جنب صنفان من الناس:
- فريق من أنصار الزور الذين تضيق صدورهم كالذي يصعد إلى السماء كلما سمعوا القول الفصل من ربهم "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون... الفاسقون...الظالمون "؛
- فريق يخشى أن يقع في الفتنة التي لا تصيب الذين ظلموا منا خاصة، بل تأتي نارها الدنيوية إذا سعرت، على البر والفاجر. وهو أشد خوفا من أن يحشر مع الكفار والفساق والظلمة في النار الأخروية أعاذنا الله من نار الدنيا والآخرة.
وسيبقى الفريقان في تدافعهم وتنافسهم إلى يوم يبعثون، سنة من سنن دار الامتحان والبلوى والتمحيص، ولذلك خلقهم ربهم، حتى ظن البعض أن وجود الفرقاء وتدافعهم يشكل سبب تطور البشرية.
شيء مطلوب أن يتنافس ويتساكن ويتعايش الناس تحت قيادة مصلحة تستثمر المسارعة الطبيعية للناس لجلب المصالح ودرء المفاسد والعمل الدنيوي الجاد. عندئذ تتحسن الأوضاع وتتفجر الإبداعات ويبرز النماء والتطور. لكن خير من هذه الحال أن يتاح ذلك التنافس تحت قيادة صالحة مصلحة تقود الناس وتوجههم لتحقيق سعادة الدارين.
والعكس صحيح، تتدهور أحوال المجتمع وتفشل جهوده وتفشو الأمراض إلى حدود اندثار الأمم وسيطرة أخرى عليها كلما وجه الحكام الناس للتنافس في الشر وإفرازاته من فاحشة وفسق وزيف وسرقة ورشوة وتهميش للطاقات الشابة وطلب حماية أعداء الأمة ونصرتهم ...
فأي إمكانية للتساكن والتعايش تتاح في هذه الظروف؟ إنها بوادر الفتن والمحن سحبا قاتمة ورياحا عاتية توشك أن تعصف بالعمران الأخوي وترمي به في مكان سحيق.
عاش اليهود والنصارى في كنف الدولة الإسلامية ولا حرج عليهم أن يتحاكموا إلى توراتهم، أو أن يأتون إلى حاكم المسلمين ليحكم بينهم بشرعة القرآن.
رغم تآمر الغرب ومكائده، تساكن الصينيون البوذيون مع المسلمين في سنغافورة وماليزيا وإندونيسيا، وفجر فيها الحكام آليات التنافس الحر الشريف، فكان التطور والازدهار الاقتصادي، والكل يحترم مبدأ "لكم دينكم ولي دين".
أما تحت أجوائنا، فقد أفلح المارقون في إخراج ثلة من بني جلدتنا من دينهم الذي يسوس شؤون الدنيا والآخرة، وتفردوا بدولة تدين بمذهب اللادينية، وهي مجرد برغواطية حديثة، استبدت فارضة قوانينها على من ينكرها. وهي تروم بشراهة وحرص شديد تسطيحنا بمواثيقها، بذريعة المشروعية الدولية، مع علمهم باتصال بعض مسلماتها بشرعة التلمود الصهيونية المزورة للتوراة .
اللادينية تريد أن نتعايش معها على مواثيقها، بدون أن تتشاور معنا في أي بند من بنودها، وتلكم ذهنية متخلفة لم تكن حتى في الجاهلية الأولى، أحرى أن يقبلها العصر الحديث.
ميثاق التربية والتعليم... ميثاق إدماج المرأة... ميثاق الاستثمارات الاقتصادية... ميثاق الشرف... ميثاق اللعبة السياسية... ميثاق الحكامة... ميثاق توزيع الكعكة الاقتصادية... وهلم جرا. مواثيق من السهل التعرف على مرجعيتها وغايتها ووسائلها ودعاتها وأنصارها...
اللادينية تصمم على التحكم فينا بقوانين منافية لشرعنا، وتحاول بإصرار مراوغتنا ببند من الدستور يقول دون أن يفعل بإسلامية الدولة.
واليوم وقد صحا الشعب من سكرته، واستقام الجواد من كبوته، وتيقن كل ركاب السفينة أنهم مهددون بالغرق، فما المطلوب لتدبير الاختلاف؟ كيف يمكن صرفه إيجابيا ليصير تنافسا بناءا للمستقبل المشترك؟ كيف يساهم الجميع في البناء كلا منطلقا من معسكره ومن مرجعيته ووجهته التي ارتضاها لنفسه؟
حتى لا تغرق السفينة المشتركة... ولكي نتقي فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منا خاصة... فتنة كون الدين بعضه لله وبعضه لقيصر، كما يدعون... لا بد من ميثاق للتعايش السلمى بين الفرقاء الذين من حقهم أن يختلفوا، لكن ليس من حقهم أن يستبدوا. من حقهم أن يتنافسوا، وليس من حقهم أن يحتكروا ويفرضوا رؤيتهم وشرعتهم التي ابتدعها لهم من تولوهم من أعداء الدين.
ألا وإنه استبداد غير مسبوق في دار الإسلام : فرض قوانين تتناقض مع شريعة الإسلام. ألا وإن من آكد الواجبات الدينية والدنيوية التصدي له لدحضه وتسفيه أحلامه بقوة المعارضة السلمية وصرامة لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وقد آن الأوان لذلك لما اتضح الأمر وانقشع الضباب .
اللائيكية حققت كل ما وكل لها تحقيقه، بحكم انتمائها ومرجعيتها وولائها ووجهتها ومصالحها وبيعتها وهويتها...
... فما العمل للتساكن مع اللادينية؟ إنها تستبد اليوم وتقصي من لا يدين بدينها، وتتساءل عن مصيرها تحت الحكم الإسلامي، وتلقي عليه باللائمة على نواياه المبيتة في إقصائها. كيف يمكن نبذ هذا التصابي الفكري ؟ هل اللادينية مستعدة لميثاق يمنع الاستبداد على كل الفرقاء ويمهد للتعددية الحقيقية التي لا تقصي أحدا؟ كيف يمكن إدارة الاختلاف بالشكل الذي لا يفضي للعنف ويمكن في آن واحد بناء البلد وتنميته تنمية حقيقية تبعث الأمل للأجيال الحالية والمقبلة؟
كاد الفقر أن يكون كفرا... عجبت لمن لم يجد قوت يومه، ولم يقم للناس بسيفه... توشك حكمة سيدنا علي وسيدنا أبي ذر رضي الله عنهما، أن تترجم في واقعنا المزري في صورة شباب ملفوظ يائس يقوم لانتزاع الحقوق بالسيوف المهندة، وبالصيغ والمسوغات التي توفرها له اللاييكية /المافيا، والمؤسسات المنبثقة عنها، التي تدين بدين الاحتكار والرشوة، ولا تطيق من ينافسها ولا من يراقبها في طغيانها واستبدادها وضعف أدائها وسوء تدبيرها...
فلربما مهدنا للميثاق الإسلامي السياسي بميثاق اجتماعي اقتصادي، يمنع انزلاق شبابنا في ويلات العنف المتولد عن الموبقات التسع التي أشرنا لها آنفا.
والحل الذي يفرض نفسه على النظام حتى وإن كان له حلف ومودة وتعاطف مع اليسار المنصب حاليا ومع مرتزقة الاستعمار الجديد، بقايا مسامير الإدارة الأوفقيرية، الحل هو فتح باب التنافس لبناء المستقبل المشترك والمسارعة في العمل الصالح الذي يمكن أن ينجينا جميعا من الهلاك.
فلربما هندسة التغيير السلمي تفلح حيث فشل الغاوون الذين يحتكرون ويقولون ما لا يفعلون، وينظرون من بروج عزلتهم عن الشعب المسلم وهم يعمهون في تصميمهم على إبعاد أصحاب الأرض من المشاركة في البناء، وفتح الباب على مصراعيه للاستعمار الجديد، كما فتحوه له في القرن الماضي، ولربما من نفس المكان الذي دشن فيه نظام الحماية: مدينة الدار البيضاء حرسها الله بحفظه، وحماها مما يحاك ضدها من شر(...).
ينخرط في ميثاق التساكن ورعاية الحقوق، كل من أراد عصمة ماله واستجاب للتوبة و العفو الاقتصادي ، تأليفا للقلوب... و الجيوب.
ميثاق التساكن والتنافس في بناء المستقبل المشترك ربما يكون فرقاؤه أصحاب الميثاق الإسلامي من جهة، والذين لا يقبلون حكم الشريعة، واختاروا التحلل من فرائضها، وكذلك أصحاب الملل والنحل من أبناء البلد، من جهة أخرى.
فهي دعوة حضارية لإدارة الاختلاف، وللتنافس في العمل الجاد الذي يصلح ما أفسده زمن الزور، الذي فقد كل مصداقية. نتفق جميعا على منطلقاته، وغاياته، والطريق الموصلة إليه، والوسائل المرصودة له، ومصادرها، وطرق مراقبتها. أسلوب للتفاهم وكسر العزلة ومد جسور الحوار الهادئ المسؤول.
يمكن أن ينطلق من الاتفاق على آليات التنافس الطبيعية باعتماد مبدأ القطبين أو الأقطاب المتنافسة في العمل الصالح، في جميع المجالات الحيوية، وخاصة في المجالات التالية:
في المجال الاقتصادي والمالي: التنافس بين الاقتصاد الربوي والاقتصاد الإسلامي- توطين التكنلوجيا الغربية يتنافس مع توطين التكنلوجيا الإسلامية أو المحايدة - بيت مال الزكاة والخراج والصدقات و الوقف وغيرها من مصادر مال الدولة الإسلامية، يتنافس مع صناديق الجبايات والضرائب والرسوم. والتنافس يكون في مجالات التحصيل والصرف - صفقات وأوراش تتولاها شركات إسلامية ممولة من بيوت التمويل الإسلامي تتنافس مع الشركات العالمية - وقس على ذلك من مشاريع النماء الحقيقية والاعتماد على الذات .
في المجال الاجتماعي: يتنافس الناس في اختبار مقترحاتهم لحل المعضلات الاجتماعية بالنسبة للمرأة والعاطل والطفل والمعوق والمشرد ، وفي محاربة الأمية والرشوة والفساد والميوعة، وفي مجال حماية البيئة والنظافة...الخ
في المجال الإعلامي والثقافي: القنوات الفضائية اللاييكية تتنافس مع قنوات فضائية إسلامية - جمعيات ثقافية لاييكية تتنافس مع جمعيات إسلامية في تأطير الشعب وتربيته وتوجيهه - تعليم لاييكي يتنافس مع تعليم إسلامي- ...الخ
في المجال الحقوقي والقضائي: ضمان الحريات العامة والتصدي للاستبداد من خلال آليات الشورى والديمقراطية، واعتماد خيار ازدواجية القضاء وضمان حرية التقاضي إلى المحاكم الإسلامية أو المحاكم اللاييكية التي لا تعتمد الشريعة الإسلامية...
وقس على ذلك من الإبداعات التدبيرية للاختلاف، التي ستبقى مجرد حلم، ربما يتحقق في سنغافورة، أو كوالالمبور، أو جكرتا، أوطهران، أو استنبول، لكنه تحت أجوائنا، ينتظر رجالا وارثين لميراث التجديد والإبداع، يكون لهم قدم السبق في إيقاظ الهمم وشحذ العزائم، لنكون قدوة صالحة للمسيرة البشرية، في مقومات وقيم التكريم والاستخلاف الآدمي على الكون كله، عوض أن نكون نموذجا للخمول في مؤخرة الأمم، ومثالا للتنافس المذموم." الأربعاء 25 أكتوبر/أيلول 2002."
انتهى المقال.
ومرة أخرى لم يصدر أي صدى يذكر لما اقترحه "متحسر"، وكأنما الجهة الوحيدة التي قرأت الموضوع بجدية هي الجهة المتآمرة على البلد. دشنت فترة النظام العالمي الجديد في المغرب بمؤامرة تفجيرات الدار البيضاء المؤلمة، يوم 16 ماي 2003، كما توقعها صاحبنا "متحسر" عندما قال في مقاله الصادر يوم 25 أكتوبر 2002 : "وفتح الباب على مصراعيه للاستعمار الجديد، كما فتحوه له في القرن الماضي، ولربما من نفس المكان الذي دشن فيه نظام الحماية: مدينة الدار البيضاء حرسها الله بحفظه، وحماها مما يحاك ضدها من شر(...). " ولقد ركب العلمانيون اليساريون على تلك الأحداث لكي يسعروا حربهم على كل أطياف مكونات الصحوة الإسلامية، وحتى على دور القرآن الكريم والعياذ بالله. وجيء بخبراء يهود ونصارى إلى وزارة التعليم ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لكي يغيروا مناهيج التعليم الشرعي، وبرامج التربية الإسلامية. يسارعون إلى بناء حلف خفي مع أهل التصوف البدعي، المتغالي في الاعتقادات الرهبانية ! ( ... وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.) "الأنفال- 30 "
توج صيف سنة 2002 بتنظيم الرباط الأربعيني في منزل صاحبنا، في فترة سفر حرمه سفرتها الأولى إلى الولايات المتحدة لتتفقد أحوال أبنائها. فلما أشرف الرباط على النهاية، أتيح للمريد "حائر" السفر مع مرشده إلى مدينة أسفي، مع وفد من الإخوان، لحضور ختم رباط قطري ضم مسؤولي الجماعة. واختاره المرشد "أميرا" في السفر، تطبيقا لسنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في التأمير عند السفر. فلم يعتبر الأمر بالهين وقد كان يعتقد في مرشده القطبية العظمى. فحدثته نفسه أنه عند تأميره، للسفر، وهو غير طالب إمارة، قد غدا يحمل الأمانة الكبرى التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال وكافة خلق الله، تبعا لقوله تعالى : (( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً )) "الأحزاب- 72 ". وكأن حديث النفس تحول حقيقة، لما كان معه في السيارة التي يركبون، محط اهتمام رجال الشرطة والدرك عند مدخل ومخرج كل المدن والقرى التي يمرون بها، يؤدون لسيارتهم التحية العسكرية، كما يؤدونها لوفد رسمي للحكومة! ثم بعد الدهشة الأولى أتاه هاجس نفسي آخر يسأله : ما المطلوب منه فعله الآن لإصلاح ما اختل في أمر مملكة الإنس، وربما حتى مملكة الجن والحيوان والنبات والجماد والأفلاك التي يتولى أمرها القطب الذي أنت خليفته الآن!؟ فأجاب صاحبنا "حائر" نفسه قائلا: " افعل ما تشاء، إلا أن تشوش على مرشدك في أمر الختمة القرآنية التي عزم عليها عند ركوبه السيارة، ونوى ختمها قبل الوصول إلى مدينة أسفي! فلزم إذن ذلك السكون المطبق الذي لم يتخلله سوى دعاء السفر والاستغراق في الذكر والتأمل. ولم يستطع التركيز لغلبة الشعور بحرج ثقل الأمانة، وهاجس فعل شيء يصلح به أمر خلق الله!
وكان الحال نفسه الذي هجم على صاحبنا أثناء الذهاب، سيستمر في سفر الإياب، لو لم تقع الواقعة... وما أدراك ما الواقعة! والواقعة جاءت عبر حدثين، زلزل فيهما صاحبنا "حائر" زلزالا عظيما... في الحس والمعنى...
زلزال في الحس، ارتج له كل من كان في السيارة المقلة للمرشد ولمرافقيه من جراء صدمة قوية أحدثتها سيارة صاحبنا التي يسوقها أحد الإخوان، لم يفطن للكبح المباغث الذي أقدم عليه سائق سيارة المرشد لسبب ما، فوقع الحادث الخطير. وكان معه لطف الله فلم يصب أحد بأذى. وكان سببا لإخراج من كان في السيارة من الصمت المطبق الذي يسود، احتراما للمرشد المنهمك في ختمته الثانية للقرآن الكريم، كما كان في سفر الذهاب. فبادر المرشد بالحديث حاكيا عن حادثة مماثلة وقعت له قديما في طريقه لزيارة الشيخ العباس في زاوية مداغ. وأردفها بحكاية عن نفر من الشباب سافروا إلى إسبانيا خفية في حاوية للشحن، وكان الحر الشديد داخل الحاوية، ووقع شح في الهواء. فحبست أنفاسهم واختنقوا كلهم حتى الموت ما خلا واحد منهم، استغاث بشيخه فنجا من الموت الذي أصاب مرافقيه.
وكان ما حكاه المرشد بمثابة الزلزال في المعنى المذكور آنفا. فلأول مرة يسمع صاحبنا " حائر" بالاستغاثة بالشيخ. فارتبك... وتحير... وزلزل زلزالا شديدا...
ولما حاول الكلام وجد لسانه معقودا، وصوته غائرا، فلم يعقب، ولم يستفسر، ولم يقرر سوى اتهام نفسه بقلة زاده في فقه المسألة، أو بسوء فهم ما قيل. فوجب عليه التبين في الأمر دون إثارة غضب مرشده، فيحبط عمله بقلة الاعتقاد فيه، أو ما شابه ذلك من الأقوال الرائجة عند الإخوان. ومما زاد في حيرته، ما أسر له به أحد المرافقين عند وصولهم إلى سلا راجعين إليها من أسفي: أن الشيخ العباس كان له تدخل جسدي عن بعد في نجاة المرشد في الحادث التي وقع له في طريق زيارته. وظن أن القائل حكى ذلك اختراعا من عند نفسه، ناتجا عن الغلو في الاعتقاد في الشيوخ.
استغرق صاحبنا في التفقه في المسألة سنتين، واعتقد أن ذلك تعين عليه، لما كان حاملا للأمانة أثناء السفر الذي اكتشف فيه الأمر! وعليه أن يصرح بما خلص له من فهم فيها، بعد استقراء معتقد محققي الصوفية ومعتقد فقهاء المذاهب كلها.
فرض على صاحبنا “منسجم” قبل طرح مسألة الاستغاثة بالشيوخ في حال غيابهم أو موتهم، أن يعالج مسألة التطور مرة أخرى لما طلب منه ذلك في اجتماع لرباط الكتبة سنة 2003. أثناء ذلك اللقاء، أثار الأستاذ المرشد موضوع التطورية من جديد بمناسبة ظهور كتب الخلقيين الأتراك من فريق هارون يحيى. واقترح على الإخوان في مكتب الدراسات والأبحاث "النظر في كتبه فهي عميقة حول التطورية"، وأمر صاحبنا بالكتابة في الموضوع، بصفته مسؤولا عن مكتب الدراسات والأبحاث. لكن “منسجم” لم يفقد من قناعاته القديمة شيئا خاصة لما اطلع على ما كتبه هارون يحيى، وهو ليس من رجال العلوم الطبيعية، وكذلك لما اطلع على رد المجتمع العلومي على تخريفات الخلقيين الأمريكان وتلامذتهم من أتباع هارون يحيى التركي. فلما نفذ أمر الأستاذ في الكتابة حول الموضوع، وقع ما لم يكن في الحسبان. لقد انزعج بعض المسؤولين في الجماعة لموقف صاحبنا “منسجم” من النظرية التطورية لعدم مطابقته لموقف المرشد، فانبرى لصاحبنا من مجلس الإرشاد من صرح له أنه مطعون في عقيدته بسبب ذلك. وأغضب ما كتب “منسجم” الشريفة ندية غضبة واضحة صعب عليها كظمها في زيارة لها إلى مقر المكتب في تلك الأيام ، وكل كتبها في نقد الغرب، ترتكز مثل كتب الأستاذ على " المسلمة الدوابية".
فلربما رأى الإخوان ضرورة إنهاء نشاط المركز، وتسليم مهامه لمؤسسة "رباط الكتبة"، يشرف عليها المرشد إشرافا مباشرا.
أما الدولة، فلقد استنفرت من جهتها مخابراتها لأستدعاء “منسجم” ومدير المركز، "بدر" واستنطاقهما حول أنشطته، وحول استقباله طلبة جامعة هولندية. وبعد ذلك استنفروا قائد المنطقة لكي يمنع أي نشاط من أنشطة المركز. فكأنما اتفق الأضداد على كبح جماح البحث والتفكر العلمي المتحرر من تشنج التوظيف السياسي والمذهبي للنظريات العلمية.
فاستسلم صاحبنا للقدر، بعد مرابطة قوات التدخل السريع أمام المكتب لمنع تظاهرة كان مقررا إقامتها. وتعجب من اتفاق الخصمين على عرقلة عمل البحث والدراسة لمتطوعين، عوض تشجيعهم وصرف الأموال عليهم من مال المواطنين، كما تفعله دول العالم الوازنة. ورجع إلى الصف يحضر لقاءات رباط الكتبة، يكرر فيها أمير اللقاء، أمره بنشر محاضرات التركي هارون يحيى على أوسع نطاق!
وكاد “منسجم” أن يصدق حديث نفيسته وهي تقول " مغنية الحي لا تطرب"، لكنه اتقى الغرور، والتمس ألف عذر لأحبته، واعترف مع نفسه أن القضية ليست بالهينة: أن يتخلى الإنسان عن أفكار بثها من قبل في كتبه التي نشرها الإخوان على أوسع نطاق، وعن مواقف شائعة ومهيمنة في الأوساط الإسلامية... ليس ذلك بالأمر الهين، خاصة عندما يدخل الإنسان في الحساب احتمال زلزلة المصداقية عند كل من يعتقد في أحد شيئا يشبه العصمة. ولم يقتحم “منسجم” تلك العقبة إلا بعد أن اعتبر أن الجماعة تبني فقها مجددا لكلمات الله الشرعية، وفهما معاصرا لكلمات الله الكونية، لا تعبأ بما سيقوله الناس إن كانت على الصواب في ابتغائها الحق المبين.
وكان فيما قبل ذلك بسنين، قد طبق مع مرشده أدب الصحابة رضوان الله عليهم مع المعصوم صلى الله عليه وسلم، فلقد سأله عندما كان يؤلف كتاب "أسلمة الحداثة" : "هل موقفك من التطورية هذا بنيته على كشف كشفه الله لك، أم على نظر ورأي شخصي ؟" فلم يجبه مباشرة، بل قال له: " انظر ما قاله عبد العزيز الدباغ في كتاب الإبريز." وسوف ينظر ما قاله أهل المكاشفة في الموضوع، وسيكتشف أن كبراء الطريق كانوا على بينة من الأمر، بل لمح أحدهم أن من لا ذوق له في شهود اندراج الكون كله في الإنسان، جماده وحيه، نباته وحيوانه، لا يمكن أن يرقى إلى القطبية العظمى... وفصل صاحبنا "منسجم" تلك الاكتشافات في كتاب عنوانه :" التفكر في بدء الخلق وغاياته الاستخلافية."
فلم يجد صاحبنا سبيلا سوى طلب استقالته من مسؤولية "الأبحاث والدراسات"، كما فات له أن هرب من مسؤوليات أخرى عوض أن ينافق بإظهار رأي وهو يرى غيره، حرصا على كرسي المسؤولية حتى الموت، وقبل الموت ربما أوصى بنقلها وراثة لأحد أبنائه كما يفعل بعض أمراء الدول العربية، أو بعض رؤساء الأحزاب الخربة! وآثر أن يحافظ الإخوان على الانسجام الفكري، ريتما تهدأ الزوبعة والتعصب للرأي، ويتبين في الأمر بعمق. وقبل الموافقة على الاستقالة، أمره أحد الإخوان في مجلس الإرشاد بطلبها إداريا في رسالة مسؤولة، فبعث له رسالة يقول فيها: "حرصا على الانسجام الفكري بين الإخوة في الجماعة المباركة؛ ونظرا لما ترسخ لدي من اقتناع بالمنهجية العلومية المتعارف عليها في مسألة تطور الخلق، وتطور الخلقة الطينية البشرية، وذلك بعد التتلمذ على علماء معروفين على الصعيد العالمي؛ وتسجيلا لما سمعته من بعض الإخوة: أن هذه الحمولة العلومية توجب طعنا في عقيدتي؛ واطلاعا على ما جاء به قرآننا العظيم وأحاديث نبينا الكريم من يقينيات في الموضوع، وكذلك ما ذكره السلف الصالح من أهل النظر العقلي، وأهل المكاشفة؛ ونظرا لأهمية المسألة في قضية الصراع المفتعل بين العقل والدين، هذا الصراع الذي تتخذه اللاييكية مبررا لإرساء معتقداتها المارقة؛ ونظرا لتدخل المسألة في تذكير الإنسان بتركيبة نشأته الترابية النباتية الحيوانية لئلا يختزل نفسه في النفحة الروحية، يفنى فيها فتصير حالا يردد "ما في الجبة سوى الله" أو "سبحاني" أو يقر من قال له " يا سيدي فلان شافيني" وغيرها من الشطحات المنسية الإنسان حقيقته الترابية؛ وحيث أن ذلك مدعاة لتسويغ أمور توشك أن تفتح الباب على مصراعيه: للطعن في عقيدتنا ، والإعراض عن دعوتنا؛ لتنفير للمجتمع العلومي عنا كما ينفر من الخلقيين النصارى؛ لموانع النصر تخيم وتؤخر ظهور أهل الحق على أهل الباطل ممن يحكموننا بغير شرع الله؛ اعتبارا لكل ما سبق، أقترح على الإخوة دراسة ما كتبته في الموضوع لما طلب مني ذلك قبيل رمضان المنصرم فامتثلت بعد إمساك عن الخوض فيه دام قرابة 18 سنة : من سنة 1985 إلى سنة 1998 بمناسبة كتابة كتاب "islamiser la modernité " ، وحينها أبديت رأيي في الموضوع فظننت أني كنت مقنعا بعض الشيء لما تكلم الكتاب خاصة عن الداروينية السوسيولوجية، أي ما سميته الاستغلال المذهبي للنظريات العلمية. لكن تبين عكس ذلك عندما ظهرت في السوق هذه السنة، إصدارات التركي يحيى هارون، التي رددت عن وعي أو عن غير وعي مقالة الخلقيين الأمريكان في موضوع النظر كيف بدأ خلق الله، والتي يشجعها العلمانيون الأتراك لإعطاء البرهان على تعارض الدين والعلم وذلك هو أساس اللاييكية الأتاتوركية الملعونة. ( أنظر الوثائق المصاحبة لهذه الرسالة التي تؤكد علاقة يحيى هارون بالخلقيين النصارى الأمريكان وسخرية المجتمع العلومي منهم)
وبعد التمعن في البحث المرفق مع هذه الرسالة "المبتدأ والخبر في مسألة الخلق وغايته الاستخلافية" ، سينصحني الإخوة جزاهم الله خيرا لأحد المخارج: ما كتبته يشكل خطرا على الانسجام الفكري عند الجماعة وبالتالي لا يعقل أن يستأمن من يحمل مثل هذا النظر على مركز في غاية الأهمية: "مركز الدراسات والأبحاث التابع للدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان"؛ ما كتب لا يشكل أي خطر على الانسجام الفكري عند الجماعة التي دربت الإخوة على منهاج التناصح في الله وإبداء الرأي والحرص على ألا يؤتى المسلمون من جهة تخصص أحدهم. عندها تكون انطلاقة محفزة لهذا العمل التطوعي: دراسات نريدها قيمة إن شاء الله، تدور مع الحق حيث دار، في حضن جماعتنا المباركة، نستمطر بها نفحات الفرج والنصر والتمكين لأمة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.
"اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني وأحبتي لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله
الوثائق المرفقة: وثائق تؤكد علاقة يحيى هارون بالخلقيين النصارى. وثائق حول رفض المجتمع العلومي لأفكار الخلقيين. ما كتبته في الموضوع في شكله المنقح شبه نهائي: "المبتدأ والخبر في مسألة الخلق وغايته الاستخلافية". حرر بالرباط يوم الخميس 4 محرم 1425 ، الموافق 26 فبراير 2004 ."
انتهت الرسالة.
وبعد شهر أو شهرين، جاء الجواب من مجلس الإرشاد يستدعي فيه صاحبنا "مستقيل" للبث في طلب استقالته. وسبحان الله كانت الجلسة مناسبة للبدء في معالجة المسألة الثانية: مسألة التوجه والاستغاثة بالشيوخ السالف ذكرها. حيث أن المجلس لم يكن يحضره أي أحد من أهل العلوم الطبيعية، ولم يقدم في الموضوع أي بحث مضاد للمجهود المبخوس الذي قام به "مستقيل" لما طلب منه الكتابة في الموضوع. وما أقرب الإنسان إلى نسيان قول الحكيم العليم تبارك وتعالى : (( وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ... الآية)) الشعراء : 183
لم يستقم أمر قيام حكومة على صاحبنا، ولربما أثار انتباه الإخوان مفهوم اندراج الكون كله في الإنسان، فقال أحدهم: نعم أهل الله يتكلمون عن اختصار الجرم الكبير وهو الكون، في الجرم الصغير، وهو الإنسان، أو قريبا من هذا القول. فاستغرق بعض الإخوان في التفكر، ولربما كادوا يقتنعون بمسألة ارتباط الخلق بعضه ببعض، وبضرورة فك الارتباط بين موضوع " من خلق الخلق "، وموضوع "كيف بدأ الخلق" لئلا نسقط في غبش الخلط الموضوعي. أو في زلة الخطأ المنهجي الذي يرتكبه الرافض لنظرية علمية دون الإتيان بنظرية علمية بديلة، والله قد أمرنا بالسير في الأرض والنظر كيف بدأ الخلق. ومن لم يقيد هذا النظر بنظرية علمية فما نظر وما اعتبر!
وقد أسر أحدهم قوله: "علينا ألا نغمط أخانا حقه". ربما كادوا يعترفون بالحق لولا أن أحرصهم على التأثير في المجلس، ردد قولا ساخرا عن سلحفاة جزر كالاباكوس في المحيط الهادي، جاءت في بعض مؤلفات الأستاذ المرشد، وأردفه قناعة مطلقة رافضة للنظرية، فسلك بالمجلس وجهة المنكرين، وهو معذور لأن تكوينه الجامعي كان تقنيا صرفا، أكسبه قدرات تنظيمية وتنفيذية فائقة، لكنه ربما لم يدرس له مثلا علم الوراثة ولا علم التصنيف ولا علم بزوغ الأنواع وتفرقها.
واقترح غيره مسلكا يروم الإنصاف: أن تكون مناظرة في المسألة بين أهل الصنعة، إلا أنه طرح استفهاما في فقرة وردت في رسالة طلب الاستقالة : الفقرة التي تتكلم عن الشطح. فقال: لا حرج بالاستغاثة بالشيوخ، أما الشطحات الأخرى مثل من قال "سبحاني" أو من قال "ما في الجبة إلا الله" ففيها كلام. وقد كان "مستقيل" يحسب الأمر لا تختلف خطورته إلا بحسب الحال: حال الفناء والسكر، أو حال البقاء والصحو. وكلام أصحاب الحال الأول يطوى ولا يروى، ورفع القلم عن صاحبه حتى يصحو. أما من قال بالاستغاثة بالشيوخ أو الموتى، وهو في حالة صحو، فهذا لا كلام معه... فأجابه قائلا:" على كل حال الموضوع الذي يناقش هو موضوع النظرية التطورية... ولكم فسحة ستة أشهر لكي تقرروا ما أنتم فاعلون".
بعد تلك الجلسة بأيام معدودات، صدر أمر سحب أشرطة هارون يحيى من التداول داخل الجماعة. فكأن الإخوان اقتنعوا، لكنهم لم يذهبوا بعيدا لإزالة أثر الخطأ. وتمت معالجة المسألة معالجة صامتة مستترة. وتم كذلك قبول استقالة صاحبنا للحفاظ على الانسجام العقدي والفكري في صفوف الإخوان، وكان ذلك من حقهم الطبيعي: فهم أولياء أمر الجماعة، والأمور تقدر بالأولويات، وأمرهم شورى بينهم.
واستدعي صاحبنا "مستقيل" إلى مجلس الشورى في دورته الثانية عشرة سنة 2005، ولم يكن من قبل عضوا فيه، ربما ليسمع تأكيد رئيس المجلس على " ضرورة الحفاظ على الانسجام الفكري والعقدي للجماعة". فعلم أن هامش التفكر الحر الخارج عن مسلمات أولياء أمر الجماعة هامش ضيق، مثلما هو الحال عند سائر الأحزاب والدول والحكومات، وهو ما يعبر عنه بملزمات عقد الانتماء، القاضي بتنازل الفرد عن حريته مقابل مصالح يتكفل له بها الحزب. والمصلحة التي طلبها صاحبنا "مستقيل" من انتمائه إلى الجماعة، هي الغاية الإحسانية والفوز بالجنة والنظر إلى وجه الله، وكذلك الغاية العدلية التي تطلب الاستخلاف للجماعة الداعية لإقامة شرع الله، وليس منصب وزير الفلاحة كما همس به في أذنه أحد الإخوان المسؤولين غفر الله لنا وله . فما العمل إن تيقن أن هناك موانع لتحقيق تلك الغايات السامية؟ ما العمل إن تيقن أن تأخر النصر على الخصوم في التيار المعطل لشرع الله له أسباب موضوعية كتلك المواقف المنفرة للمجتمع العلومي المنافح حتى الموت عن مكتسبات العقل المتحرر من قبضة الدوكماتية الكنسية؟ مالعمل إن تأكد أن الغاية الإحسانية في خطر كذلك لما تساهل الإخوان مع التسرب الخفي، تحت برقع "علم الحقيقة" الذي لا يعلم ما يخفيه إلا الله سبحانه وتعالى عما يصفون من المعتقدات المنحرفة التي تغازل الزيغ العيسوي، وتجر على الساكت عنها أوزار الزيغ الموسوي كما سماهما ابن تيمية رحمة الله عليه؟
فلما تأخر النصر على الأعداء المعطلين لشرع الله، واقتربت الساعة التي تعلقت بها رؤا وأحلام الإخوان- والأحلام حوادث طبيعية، ولكل حلمه، والمبشرات جزء من النبوة، والتعبير هو الفيصل- فلما تأخر النصر، تأكدت ضرورة إحياء سنة السلف الصالح في المراجعة والمحاسبة الجماعية: يسائلون أنفسهم عند امتناع فتح حصن من حصون أعداء الدين، أي شيء من مستحب السنة أو مؤكدها تركوا؟ أي زلة أو ظلم اقترفوا؟ فتأخر النصر، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، تحت قهر النظام الرافض للحكم بما أنزل الله ...
فقارن صاحبنا "محذر" بين كبيرة ظلم الحاكم وتنكيله الذي كان - والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه - ممن عانوا منه قريبا من ربع قرن: أُسر واستنطق أياما، وكان بيته في مراقبة بوليسية دائمة، وعانى من جراء الرسائل المهددة بالتحرشات المختلفة، ومن التنسطات الهاتفية، والاستدعاءات والاستنطاقات البوليسية المتكررة، والاستفزازات والعراقيل في الحياة المهنية، وتحذيرات عمال الأقاليم التي يحل بها في تنقيلاته التعسفية، ومنع سنين هو وزوجه من جواز السفر... وغير ذلك، مما كان ولا زال يحتسبه على الله، ويسأله عز وجل أن يجعله في ميزان حسناته، وألا يحبط عمله بشيء من المحبطات ... قارن "محذر" بين هذا الظلم الذي من الشرع التنديد به ومحاولة رفعه، أو هجر قريته، لأن من يسكت عن الظلم يكون حليف الباطل على الحق، وشريكا في الإثم العظيم، قارن بين هذا الأذى وبين ظلم الشرك بالله، أو حتى الحوم حول حماه، فوجد الفرق شاسعا والأمر خطيرا، لا يجازف فيه إلا مسلوب عقل سكران، أو تائه في أحوال السلوك حيران!
ظلم الحكام غايته القصوى أن ينشروا الأجساد بالمناشير، أو يسجنوا الإنسان حتى حين، أو غير ذلك من المحن الزائلة، بزوال الحياة الفانية، نسأل الله السلامة والعفو والعافية. أما غاية ظلم الشرك بالله، فهي معاقبة القهار الجبار مقترفه بالخلود في النار، نعوذ بالله من سوء القرار. فهل هناك مجال للمقارنة بين ظلم يُرتكب ضد إنسان يرفعه درجات عند الله، وظلم يقترفه الفرد، تكون عاقبته الخلود في لظى والعياذ بالله؟
ولماذا لا يقدر الإخوان هذا الأمر حق قدره، فيبتعدوا عن حمى الله ابتعاد الفار من غضب القهار خالق الجنة والنار... وهم أقرأ الناس لقوله تعالى (( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِك َلِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا)). " سورة النساء الآية 48"؟ ولربما كان من بينهم أفقه الناس لقوله تعالى: (( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )) " لقمان : 13 ". ؟؟
وهل يحتاج الناطق بلغة الضاد أن يكونا بحرا في الفقه أو ألمعيا في النحو ليستوعب آيات محكمات لا تحتمل التأويل، في ربط الاستغاثة المذكورة بالشرك الأكبر، في قوله عز وجل : {{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ }} . الحج- 73. ؟؟
{{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا }} . الفرقان - 3.
{{ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ }} . النحل - 20.
{{ أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ }} . الأعراف - 191.
وغير هذه الآيات كثير في كتاب الله. ويختارها بالضبط صاحبنا نموذجا لاستشهاده، نظرا لتحديها بمسألة الخلق التي كانت محور موضوع كتابه المذكور في ما سبق، وموضوع رسالة طلب الاستقالة. ولتوضيح فكرة ربما ماسبقه إليها أحد: لو رخص لأحد أن يستغاث به، لرخص للنبي الذي خلق بإذن الله الطير... لأنه سبحانه يقرن بين الاستغاثة ومسألة القدرة على الخلق بهذا التحدي الواضح في قوله تعالى: (( قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا)) "فاطر: 40 ".
فحتى من أعطاهم الله معجزة الخلق بإذنه، كمثل عيسى بن مريم عليهما السلام، حذر الناس أن يستغيثوا به، أو أن يدعوه، أو أن يعبدوه من دون الله عز وجل، والدعاء هو العبادة. فقال تبارك وتعالى: (( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ َوَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) المائدة: 16.
وجاءت رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم لتوضح لنا تلبيس إبليس على النصارى، كي لا نضع معجزة الرسول في غير محلها، ولو كانت من قبيل معجزة الخلق ومعجزة إحياء الموتى، فنتخذه شريكا لله ندعوه ونستغيث به في غيابه وفي حال موته.
معجزات سيدنا عيسى في إحياء الموتى بإذن الله، وخلق الطير بإذن الله، ومداواة الأبرص والأكمه بإذن الله وغيرها، لم تتخذ أساسا للقول بجواز استغاثتنا بسيدنا عيسى. ومن باب أحرى وأولى، كرامة الولي وإن كان يخرق الحيطان، أو الصحابي، ككرامة سيدنا عمر مع سارية، لايمكن أن تنسخ معلوما من الدين وردت فيه آيات محكمات من كتاب ربنا، وأحاديث صحيحة من سنة نبينا، لا يعرض عنها إلا متهور هالك.
ولقد ناقش أحد الإخوان صاحبنا "محذر" مصرحا بجواز الاستغاثة بالشيخ دون أن يعتقد بأن المستغاث به هو الفاعل! فرد عليه قائلا: قولك يا أيها الحبيب، قول والله عجيب، فيه من التناقض المريب، ما لا يخفى على لبيب: فإذا كنت تعتقد أن المستغاث به ليس هو الفاعل، فلم لا تتوجه إلى الفاعل مباشرة ، دون أن تتخذ واسطة تدعوها لتقربك إلى الله زلفى؟ أنسيت قول ربك عز وجل: (( وَالّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللّهِ زلْفَى ))[الزمر:3]؟
وسأل "محذر" عالما " مسؤولا " ممن حضر مجلس الشورى المذكور آنفا عما يقوله أهل علم الشريعة والحقيقة في الأمر، فلم يفصح بشيء مبين، وكأن المسألة لا تستحق كبير الاهتمام. بل لقد صرح بذلك أحد المسؤولين حين قال لصاحبنا: " لقد ضخم لك إبليس هذه المسألة"! ولم يفطن لخطر تصغيرها له! ولقد استغرق صاحبنا "محذر" في دراستها كما سبقت الإشارة إليه سنتين بعدما سمعها لأول مرة صيف سنة 2002. واكتشف أن أكابر الصوفية يرفضونها ويرفضون حتى مسألة التوسل التي فيها خلاف بين الفقهاء.
فلما اقتنع بنتائج دراسته، صار ملزما بتطبيقها عوض التقليد الأعمى. (( ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها)) ولم تكن له "مملكة" أو "رعية" يطبق عليها حكمه سوى داره، و"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، كما قال المعصوم عن الخطأ صلى الله عليه وسلم. وقد ظهرت له الحجة في رواج تلك البدعة في مجلس النصيحة الذي يعقد في داره، فصار ملزما بفعل شيء لئلا يطاله وعيد من "آوى مبتدعا". وهكذا اشترط "محذر" لكي يستمر عقد مجلس النصيحة في بيته أن يصدر بلاغ للتبري من البدعة. ولا هادي إلا الله.
لقد تواترت رؤا الإخوان للتبشير بسنة 2006 سنة قيام الخلافة على منهاج النبوة، أو سنة نجاح الثورة كما سماها العلمانيون. والرؤا والأحلام حوادث طبيعية، ولكل حلمه، والمبشرات جزء من النبوة، والتعبير هو الفيصل كما قيل من قبل. لكن الحدث تفلت من عقاله، وتعلقت بالسنة الشمسية الآمال، من أول إلى آخر يوم فيها، إلى الليلة الحاسمة، التي تكلم عنها بيقين بعض مسؤولي الجماعة، حتى أطلق بعضهم العنان لعنتريته ليرخص للناس محاسبة الجماعة إن لم تقع الواقعة في الساعة المعلومة!
في تلك الليلة التي اشرأبت لها أعناق المتتبعين للمسلسل المثير، كان صاحبنا "ملتمس" في " سان جوزي" رفقة صديقه "أنس". وأنس مهندس عبقري من أدمغة البلد الذين أكرهوا على الهجرة. كان من أطر الجماعة الباذلين، استقر في كاليفورنيا التي تقدر قيمة العقل، ولا تسمح بالاستخفاف به، كما هو العرف المتبع على الطرف الآخر من الأرض، وبالذات في الوطن الحبيب الذي تسيطر عليه الآن ذهنية انتظار الخوارق وطلب المعجزات، التي ذمها رب العباد.
استضاف أحد أبناء صاحبنا المهندس "أنس"، مع أمريكيين يعملون معه، صحبة أسرهم. وكانوا يشاهدون جميعا عروض الشهب النارية المحتفلة بدخول السنة الشمسية الجديدة. والشهب تتوهج بأنوارها الساطعة، وألوانها الزاهية، ونجومها المتفجرة، وتسكب بروقها ورعودها على كل أرجاء وادي السيليكون، الممتد بين مدينة سان فرانسيسكو ومدينة سان جوزي. ومسكن ابن "ملتمس" على تلة تشرف على الوادي المتألق، الذي انطلقت منه أخطر ثورة للعقل البشري في التاريخ : ثورة علوم الكمبيوتر والبرمجة الإعلامية. كان صاحبنا قد أشار إلى خطورتها في كتابه حول العلمانية سنة 1984 وهي في مهدها، محذرا من ضياع فرصتها كما ضاعت المواعيد الحاسمة مع الثورات العلمية والتكنولوجية الماضية: الثورة الزراعية، الثورة البخارية، الثورة الصناعية، الثورة الطاقية، وغيرها من الفتوحات العقلية.
والاستخفاف بالعقل، وضياع الفرص الحاسمة، ذلك ما يؤلم كثيرا صاحبنا. ويجر عليه حزنا عميقا مثل الحزن الذي يخيم عليه الآن، وهو في تلك الأجواء المحتفلة مع صديقه "أنس". يتحدثان بمرارة عن تبخر حلم 2006، بينما الناس حواليهما يفرحون ويتبادلون التهاني والأماني بمناسبة السنة الجديدة.
فلربما شعر "أنس" بما يجول في خاطر صاحبه، فأراد مؤانسته بشيء يبسط عليهما الانشراح، ويدفع عنهما لوعة القنوط، لينسجما مع الجو المخيم على الضيوف المحتفلين.
"ربما كان خيرا لك هجر بلد الإحباطات! أقم هنا بجوارنا، لتذكرنا بمستملحات "الشعيبية""!
فكان كلامه اللطيف كالنسيم الذي يتسرب إلى أعماق القلوب جالبا لها أنفاس الأمل. وكلمة "الشعيبية" تختزل مستملحات لطيفة، وذكريات مشرقة لأيام كان الشاب "أنس" صحبة صنوه في العطاء والتألق " المهندس الصقلي" يسهران فيها الليالي، يساعدان الإخوان في تصميم مواقع الجماعة، مستخدمين حاسوب صاحبهما "ملتمس"، وكانت الحواسيب نادرة الرواج في ذلك التاريخ. فيأتي من يتجرأ على الألوان المختارة، فيشبهها بألوان الرسومات الساذجة التي تنتجها الرسامة المغربية " الشعيبية"! فيضحكون على هذا النقد الفني اللاذع، و يغيرون التصميم، ويبدلون الشعار، ويكررون ذلك عشرات المرات بدون كلل أو ملل، إلى أن تستقر الأمور على ما يوافق ذوق المرشد!
نعم لقد ضيعت الجماعة فرصة ثمينة قبل سنة 2006 ، فلم تتحرك في الاتجاه الصحيح الذي يحميها من الورطات التي أحاطت بها من كل جانب. كان صاحبنا ملتمس قد حذر منها من قبل. فلما استخف بتحذيراته ولم يعبأ برأيه، ولما صار هو ملزما شرعا باجتهاده، دخل في مرحلة تحلل من مسؤوليات الجماعة في انتظار جواب الإخوان على المراجعة الداخلية لأمر الاستغاثة بالشيخ الغائب أو بالموتى.
ونظرا لمحبته لجماعته، وخوفا على ضياع المكتسبات الماضية، وعملا بتحذير الله في قوله تعالى: (( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ )) " النحل : 92 "، فلقد كان ملحا في الطلب إلى حدود، ربما رآها من لا يطيق أن يعارض، تلامس الإزعاج، أو حتى الاستفزاز!
وفي فترة الانتظار، تفرغ لما كان يؤجل سنين من أعمال لإصلاح منزله، ثم للقيام برحلات لزيارة أقاربه، في فرنسا وإيطاليا وأمريكا. والسياحة للتأمل والاعتبار، مع الاستغراق في التفكر والأذكار، هي الترياق المفيد لمن أحاط به الأسى، وأوشك أن يرديه الأسف. ربما لو كانت متاحة لأخينا البشيري رحمة الله عليه، لأمهلته المنايا لكي يتصالح مع إخوته، ويستأنف معهم ذلك العمل المثمر الذي كان من مؤسسيه، بعد تنقيته من شوائب الفترة، وعوالق الجمود، و طول عهد رفض المراجعة والمقاربة والتسديد.
فلما رجع من أمريكا في ربيع سنة 2007، ظن صاحبنا "ملتمس" أن الإخوان المنكسرة قلوبهم بعد عدم الإصابة في تعبير الرؤا المتعلقة بسنة 2006، ربما هم الآن أقرب إلى التعلق بالحق وإلى قبول النصيحة. لأن محاسبة الجماعة نفسها لا يستقيم أمرها إلا عند حالة التبري من الإدلال والزهو والشطح، وهو الحال الذي كان غالبا على الجماعة قبل منتصف ليلة 31 دجنبر 2006. وبعد إحاطة سيول الانتقادات بالجماعة، من جهة الصديق ومن جهة العدو، سرا، في المجالس المغلقة، وعلانية، عبر أبواق وسائل الإعلام، توقع "ملتمس" أن الفرصة سانحة والمجال مفتوح لدعوة الإخوان للدخول في مرحلة المحاسبات الذاتية والمراجعات الكبرى لتصحيح المسار. وهذه المرة تأكد وجوب فعلها علانية لأن الأمور لم تبق داخلية أو محصورة في مجال ضيق. وانطلاقا من هذه الخلفيات، استخار "ملتمس" ربه، فأرسل ملتمسا إلى الإخوان، يطلب منهم تصحيح السير إلى القريب المجيب، تأسيا بفعل الصحابة عند العسر، عسى أن يرتفع عنا حكم العلمانية المقيت. اقترح عليهم في رسالة مذيلة بدلائل من نظرات الفقه والتصوف وعلوم العصر التي لا مفر من اعتبارها، البدء بتصحيح الأساس الذي يقوم عليه الدين كله، عبر إعلان براءة من عقيدة الاستغاثة بالشيوخ وبالموتى.
كتب في مشروع الإعلان المقترح يقول : " تبين مؤخرا أنه يوجد من بين الأعضاء المنتمين إلى الجماعة :
- أفراد يقرون أو يقولون بجواز الاستغاثة بالشيوخ في حال غيابهم أو موتهم، ولا يرون مانعا شرعيا لذلك، بل يعتبرونها من "القربات" عند الله؛
- كما يوجد في الجماعة أعضاء يعتبرون المسألة ركنا من أركان "الشركيات" أو "المحدثات" التي ما جاء الرسل والأنبياء إلا ليحذروا من الوقوع فيها، أو الخوض في ممهداتها، بتكلف اجتهاد سقيم، أو حبك تأويل بعيد، أواختراع نظر عليل، أوباتباع شبهة تحوم حول حمى الحرام، غير متورعة من الوقوع فيه؛
- وتضم الجماعة كذلك فريقا آخر يرتب هذا المعتقد ضمن "الخلافيات" التي يمكن العمل بها أو رفضها دون أن يكون لذلك تبعات على عقيدة التوحيد والإيمان الفردي، أو على تماسك وحدة صف الجماعة؛"
... إلى آخر نص مشروع البراءة. وهو الملتمس الذي اقترحه "ملتمس" على إخوانه، وهي المادة الأولى في مشروع المحاسبة، تتبعها مسائل أخرى، خبأ بعضها صاحبنا على الإخوان إلى حين توفر شروط إظهارها، وذكر بعضها في الرسالة التي جاءت في مقدمة المشروع . ومشروع البراءة مع مقدمته كان موجها إلى الأستاذ المرشد مباشرة، علما أن الجماعة بعيدة كل البعد عن السلوكيات الاستكبارية القاضية باحتجاب الأمراء عن الرعية... مما جاء في المقدمة: " ... منذ تاريخ 5 محرم 1425 الموافق 26 فبراير 2004 ، فَرَرْتُ مِنْ مؤسسات الجماعة لما خفت أن أكون سببا في خلخلة الانسجام الفكري بين الإخوة بعدما تبين لي وجود اختلاف جوهري في ثلاث مسائل مبدئية: مسألة عقلية تتعلق بالموقف الرسمي للجماعة مع النظرية العلمية، ومسألة إحسانية تخص التوجه عند الاستغاثة والدعاء، ومسألة عدلية تعالج بعض شروط الاستخلاف الأرضي. "
... المسألة الأولى والمسألة الثانية سبق الحديث عنهما، أما المسألة الثالثة فقال عنها... المسألة العدلية التي "تفيد أن الأحكام العمرية بخصوص خراجية الأرض الزراعية في المغرب هي التي تنسجم مع القوانين العلمية في التدبير المستدام للثروات الطبيعية، وهي البداية الشرعية لرد المظالم التي اقترفت منذ الانكسار التاريخي، وسارت عليها بعض الدول الماضية والحاضرة في حق سكان المغرب الأصليين، عندما جردتهم من أراضيهم بغير حق، لما انتقضت عروة الأحكام الأصلية التي تقول بخصوص أراضي الفتح " تترك في يد مالكها وعليه حق الخراج، وإذا مات فإنها لا تورث إنما يضعها ولي الأمر تحت تصرف من يصلحها" وفي هذا سر عظيم لا يفطن له إلا ذوو الخبرة في التدبير المستدام للثروات الطبيعية: منع تفتت الأراضي وتقسيمها إلى مستوى اللامعاشي، أي مستوى تعطل الإنتاج بسبب صغر الأرض وعدم قدرتها على كفاية الورثة فتصير معطلة وتتصحر. وكل من احتقر هذه الأحكام العمرية، إنما يريد تكريس الظلم المقترف في حق الأمازيغ المعدومين في المغرب، ويكرس كذلك الظلم المقترف في حق البيئة بعدم احترام قوانين الحفاظ عليها، فيظهر الفساد والتصحر في الأرض... ومن يتغاضي عن هذه الأمور، بقصد أو بغير قصد أو غفلة أو استغفالا، فهو يعطي لأعداء الأمة حقا قدريا لتأطير الدولة الحالية وتأجيج نار النعرات العرقية، وتمزيق البلد شذر مذر (...). أضمن هذه الرسالة مشروعا لهذا البيان، يؤخذ منه ويرد حتى يصفو في الشكل النهائي المناسب. ولا أشك طرفة عين، إن تم اقتحام هذه العقبة، أن تتنزل علينا بشائر النصر والتمكين لشرع رب العالمين...
نسأل الله أن يلهمنا الحق والصواب وكرامة الاستقامة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين. سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. حرر بالرباط يوم الخميس 24 ربيع الأول 1428، الموافق 12 إبريل 2007 . الإمضاء : محبكم في الله... "
انتهى مقتطف المقدمة لمشروع البراءة.
وبها يتم بعون الله وتوفيقه الجزء الثالث من المذكرات، ليلة يوم الخميس آخر شهر رمضان المبارك 1431 الموافق 7 شتنبر 2010. ويليه إن شاء الله الجزء الرابع بعنوان " عبر من أرض الله الواسعة".
كتب بمدينة إلكهارت في ولاية إنديانا - الولايات المتحدة
ليلة يوم الخميس آخر شهر رمضان المبارك 1431 الموافق 7 شتنبر 2010.
محمد المهدي الحسني