العلمانية
وسيطرتها على سياسة المجتمع المغربي
جذور وآفاق البرغواطية الجديدة
محمد المهدي الحسني
بسم الله الرحمن الرحيم
العلمانية وسيطرتها على سياسة المجتمع الإسلامي
جذور وآفاق البرغواطية الجديدة
الفهرس
الفصل الأول: خصائص العلمانية وظروف انتقالها إلى بلدان الإسلام (المغرب نموذجا) 8
مفاهيم حول العلمانية أواللادينية أو اللاييكية أو البرغواطية الجديدة 9
كيف انتقلت العلمانية إلى أقطارنا؟ (المغرب نموذجا) 10
أين تتجلى مظاهر التسيير اللاديني للمجتمع ؟ 18
الفصل الثاني: هل هناك مبررات فلسفية للتسيير العلماني للمجتمع الإسلامي؟. 22
القوانين المنظمة لحركات التاريخ وعلاقاتها بالقوانين المسيرة للمجتمعات.. 23
المبادئ المسيرة للجمعيات الليبرالية : 26
المبادئ المسيرة للمجتمع الشيوعي والاشتراكي. 27
نحو منهج إسلامي لدراسة حركات التاريخ. 28
الفصل الثالث: هل هناك مبررات علمية للتسيير العلماني للمجتمع الإسلامي؟. 32
نسبية المعرفة العلمية وتواضعها 33
قوانين الشريعة على ضوء العلوم الكونية الثابتة : 37
التفسير الشرعي والتفسير العلمي لحركات التاريخ. 42
محنة العرب على ضوء التفسير العلمي للتاريخ. 44
المسألة اليهودية على ضوء هذا التفسير. 46
الفصل الرابع: المنطلقات الفكرية لدحض العلمانية. 50
أوهام المذاهب العلمانية للسمو بالإنسان. 51
تطبيق الشريعة للسمو المتواصل بالإنسانية 55
تطور المجتمع المفتون على ضوء القوانين الكونية والشرعية 58
الفصل الخامس: فقه الواقع وسبل مقاومة اللادينية. 61
المقاومة من أعلا: هكذا بكل بساطة؟ 62
المؤهلون لحمل أعباء التغيير. 63
النموذج الواعي بهازم الحضارات.. 65
جحور التبعية وسبيل الخروج منها : 67
الفصل السادس: عناصر لبناء الفقه المجدد الهازم للعلمانية. 71
مرصد الذهنية الفاسدة المتمردة على الشريعة 72
قوانين الشريعة وقوانين الطبيعة في الفقه المجدد للدين. 74
عالمية الدعوة المجددة أم عالمية العلمانية؟ 80
التجديد، والحذر من سقوط المستقبل، ومؤسسة التواصي بالحق والصبر: 84
الحمد لله الذي به بداية الخلق و نهايته، وصلاته و سلامه على أفضل من به أنيلت به هدايته، محمد صلى الله عليه و سلم على آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
يستطيع المؤرخ المسلم لأحداث الزمان أن يسمي الفترة التي جاءت بعد الاستعمار المباشر لأقطار الإسلام، من طرف نصارى الغرب في بداية القرن الماضي، يستطيع أن يسميها : عصر اللادينية أو عصر اللاييكية، أو عصر العلمانية. وكلها مرادفات لمفهوم واحد مضمونه: ترك أحكام الشريعة الإسلامية في تسيير شؤون المسلمين. في حين أن الشريعة تضم تلك القوانين السماوية التي تضبط ليس فقط جانب العبادات التي تحاول اللادينية حصرها فيه، و إنما كذلك جانب العادات ( كالزواج و الطلاق و النسل) وكذلك جانب المعاملات ( كالمعاملات الاقتصادية والحقوقية والسياسية و العسكرية و الخارجية وغيرها).
مذهب اللادينية هذا جاء به الاستعمار و فرضه في ظروف مختلفة. ولما أرغم على مغادرة ديار المسلمين تحت ضغط المقاومة الإسلامية، لم يسلم وثيقة الاستقلال إلا بعد اطمئنانه على مستقبل هذا النهج اللاديني. كما أن المستعمر في بعض الحالات لم يسلم تلك الوثيقة الصورية إلا للنخبة التي ضمنت له مجاوزة المذهب اللاديني إلى مذاهب صريحة الإلحاد كالشيوعية و الاشتراكية العلمية...
ومعلوم أن هذا المذهب المارق لم يعرفه المسلمون قط في تاريخهم حتى في أحلك الفترات و أحرجها كعصر التتر و المغول و الصليبيين . وقد أوشكت فتنة عرفها المغرب في بداية عهده بالإسلام في القرن الثامن، أن أن تفضي إلى مذهب مماثل للعلملنية لما ظهر نحلة البرغواطية وانتشرت على يد زنديق نسبه المؤرخون إلى ملة اليهود،[1] لكن سرعان ما تصدى لها المغاربة ورجع الحكم إلى الشريعة. لذلك يمكن تسمية عصر العلمانية الحالي"عصر البرغواطية الجديدة" بدون تحفظ.
موضوع الكتاب يحاول إلقاء أضواء على المكيدة التي سقط فيها المسلمون، حيث صاروا أذنابا محتقرين لا يؤدون أي دور حضاري، ولا يقدمون للبشرية أي عطاء.
مكيدة القرن هذه تتمثل في فصل الدين عن المسيرة الحضارية المادية و تهميشه في انتظار إقباره بواسطة المذاهب المادية الملحدة...
الفصل الأول من الموضوع يشخص هذا الداء الذي يسري في جسم الأمة المسلمة و يظهر كيف انتقلت عدواه من المغرب في ظروف غريبة و خاطفة. حاول البحث الابتعاد عن مطاردة الأشخاص الذين كان لهم دخل مباشر أو غير مباشر في ولوج جحر التبعية، علما أن الحديث على الأفراد من شأنه أن يفوت الفائدة على فئة تعصبت لرأي من الآراء، لكن لم نتردد في ذم من ذمه الشرع لأن الغضب لله هو المتنفس الشرعي لهذه الغريزة الإنسانية.
الجزئين الثاني و الثالث من الكتاب حاولا تجريد بعض جوانب الفكر الفلسفي والمعارف الكونية عما علق بها من استغلال مذهبي، و أفكار مسبقة وضعت لمناصرة المذاهب اللادينية أو الملحدة. أثبتنا عبرها أن العلم الكوني المضبوط يدمغ باطل اللادينية، ويشتت شمل القوانين المستنبطة منها و المسيرة حاليا للمجتمع اللاييكي.
الفصل الرابع يبحث في المنطلقات النظرية لإعادة صياغة الإنسان العلماني، انطلاقا من استبيان الحق من الباطل في تجارب الأمم، ومرورا بالتجربة الإنسانية التي طبعت عصر الخلافة الراشدة، مع ضرورة الوعي بأسباب الانكسار التاريخي وسبل اجتنابها.
الفصل الخامس يناقش مسألة تنزيل تلك المنطلقات النظرية للفكر المضاد للعلمانية على أرض الواقع المفتون. بدءا بتحديد الفئة المؤهلة لحمل أعباء التغيير، ومن يؤطرها، ومرورا بمرحلة بناء النموذج المجتمعي الواعي بمخاطر الذهنية المترفة الفاسقة، ثم التخطيط لحفظ ذلك النموذج من السقوط بدوره في دركات الخسران الذي يهدد المجتمعات التي لا تملك مؤسسات تحصنها من الترف والفساد والفسق المدمر للحضارات، وهي المسألة التي ناقشها الفصل السادس من الكتاب.
كل هذه المسائل، حاول البحث إلقاء نظرة جديدة عليها من زاوية العلوم المضبوطة وهي كلمات الله الكونية المنظمة للكون المادي، و كذا كلماته الشرعية المبعدة عن سبل الخسران. وقد أسهبنا الكلام لتبيين أمور مصيرية منها:
· أنه لا تعارض بين العقل و ما كشف له من علوم كونية وبين النقل الحافظ لمعارف الشريعة.
· زيف المذاهب الوضعية التي تقود الإنسانية حاليا و تناقضها مع القوانين العلمية كونية كانت أم شرعية.
· طريق السمو المطرد للبشر لا يمكن رسمه خارج كلمات الله الكونية و كلماته الشرعية. وبتعبير آخر، لا يمكن إصدار قوانين صالحة لتسيير المجتمعات خارج هذا الإطار.
· ضرورة إيجاد ذاكرة جماعية يشرف عليها ورثة الأنبياء تخترق المكان و الزمان للتواصي بالحق و الصبر، ولتكون جهازا لرصد الذهنية المترفة الفاسدة القابلة للتمرد على الشريعة، وتحديد سبل التخلص منها قبل استفحال أمرها.
***
*
وجاءت مادة الموضوع للإجابة على عدة تساؤلات راجت في هذه الحقبة من تاريخ المسلمين: كم من جهة تحاول الخروج من الواقع العلماني و من جحور التبعية؟ كم من تنظيم و مؤسسة، وكم من علماء و نيات و آراء و أفكار حول هذا الموضوع؟ رغم ذلك لازال الزيغ ملازما لجل الجهات الحاكمة...
ولو أن الأمر تعلق بإرادة الشعوب الإسلامية لاتنهي المشكل، لكن هناك في الساحة قوى خفية أو مكشوفة تحارب الدين و وتستحمر حكام الأقطار الإسلامية لتبقى بعيدة عن شريعتها، تمديدا لسيطرتها على العالم الإسلامي وثرواته.
خطورة المؤامرة و عمق المشكل: لا ينكر ذلك أحد. لكن إذا تظافرت الجهود للاستفادة من كلمات الله الكونية وكلماته الشرعية التي لا يتجاوزهن بر ولا فاجر، وإذا نظم العمل وأسند إلى الفئة التي ترشحها مظلوميتها واستضعافها لاستحقاق المن والوراثة والاستخلاف، وإذا خلصت النيات وشحذت العزائم، فالمدد لا محالة آت من الله الذي وعد المؤمنين بالنصر شريطة سلوك سبيله.
" ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز". صدق الله العظيم
محمد المهدي الحسني.
مفاهيم حول العلمانية أواللادينية أو اللاييكية أو البرغواطية الجديدة
كيف انتقلت العلمانية إلى أقطارنا؟ (المغرب نموذجا)
أين تتجلى مظاهر التسيير اللاديني للمجتمع؟
"العلمانية" حسب الاصطلاح الشرقي تقابلها في أقطار المغرب الإسلامي كلمة "اللادينية" وفي المفهوم الفرنسي يعبر عنها البعض "باللايكية" : "Laïcité"وحسب "لاروس" الفعل "Laïciser " أو"علمن" أي "جرد من صبغة الدين وأحل رجال لادينيين محل رجال الدين".
وفي الاصطلاح السياسي "دولة علمانية" "تعبير يعني" نظام سياسي يقوم على فصل الدين عن الدولة في ميادين الحياة الاجتماعية والتعليمية والقضائية والاقتصادية"، أي يلغي حكم الشريعة الإسلامية.
والملاحظ أن الغالبية القصوى من مثقفينا لا تعير الكلمة أي اهتمام، لأن التعليم الذي تلقته بطبيعته اللادينية لم يكشف لها عن مدلولها رغم أنها من أخطر الكلمات وأعمقها أثرا في حياة أمتنا في عصر الانحطاط والتبعية.
كما أن الخلط الممكن بين مفهوم كلمة علمي وكلمة علماني قد أدى بالبعض إلى إسدال هالة علمية على المفاهيم العلمانية وترتيبها في مستوى الحقائق الثابتة. والحقيقة، أن العلوم المضبوطة كالرياضيات والفيزياء هي على الأقل آلات محايدة إزاء القضية الغيبية. هذا رغم أن العلم حسم في أخطر قضية فلسفية تتعلق بقدم أوحدوث الكون، وحسم كذلك في أمور أخرى كثيرة نذكرها في مواقعها في هذا الكتاب. فإذا كانت العلمانية ليست لها أي علاقة بالحقائق العلمية، ما هي يا ترى المبررات المنطقية التي أدت بنا لاختيارها كأساس لبناء صرح القوانين المنظمة لسير مجتمعنا؟ وبتعبير آخر، لماذا أعرضنا عن التمسك بتعاليم ديننا في تسيير أمورنا؟
قد يجيب البعض أننا لسنا بعلمانيين لأن دساتير بلداننا تنص على أن الإسلام دين الدولة الرسمي..
ويظن البعض أن المذهب اللاييكي يحارب كل مظهر من مظاهر القضية الغيبية. وهذا خطأ كبير لأن اللادينية تعترف بل تشجع التعبد في الكنائس والمساجد والزوايا ... كما تلح على الطقوس ذات الطابع الديني في المواليد والأضرحة والمآتم إلى غير ذلك من الشعائر المحدودة أوالمبتدعة... لكنها ترفض أن يكون للدين وجود في الحكم، وفي الجهاز المشرع للقوانين المسيرة للمعاملات والعادات. وتبعده كذلك في الجهاز التنفيذي والقضائي، وتهمشه في الاقتصاد والتعليم والإعلام والصناعة والتجارة... وتحاربه كذلك في الشارع والمقهى والحانات وجوانب الطرق والحافلات والمصطافات والملاعب والحفلات. لذا ترى اللادينية تبغض الحجاب وتشجع السفور وتحلل الربا لأنه حسب زعمها من الضروريات التي تنمي الاقتصاد. وتراها تقول أن صناعة الخمور والقمار تذر على الدولة أرباحا طائلة فهي بالضرورة حلال! وتراها تحلل باسم الحرية كل ما يرفه على الإنسان حياته ويضمن له اللذة والمتعة. لذا يتضح جليا أن التصريحات الرسمية التي تعلن أن الإسلام هو دين الدولة يكذبها الواقع اللاديني الذي يحكم الميدان لأن الإسلام الحق يقرر أن من لم يحكم بشريعة الله ولم يتبع منهاج نبيه صلى الله عليه وسلم ينسلخ من الإسلام ويمرق عنه ولن ترده التصريحات الرسمية إلا أن يتدراكه الله بالتوبة والرجوع إلى تحمل أمانة إقامة الدين قولا وعملا ،لا نفاقا وهذا مصداقا لقوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " (المائدة: 46).
قبل الحماية الفرنسية: كان الأصل هوالتحاكم إلى الشرع إلى أن الفوضى التي حلت بالبلاد قبيل الاستعمار قلصت من تأثير الروح الإسلامية ففشى الجهل بين العامة والعلماء إلى درجة إصدار مثل تلك الفتوى التي رخصت آنذاك لحكام البلاد التقاعس عن إعلان جهاد المستعمر الذي بدأ يتسلل إلى ثغورنا، وحجة الفتوى: عدم وجود عنصر المفاجأة في الهجوم[2]!!
كما أن النظام القنصلي المفروض على المغرب في القرن التاسع عشر كان بمثابة رؤوس جسور للمد اللاديني، حيث فرضت قنصليات الدول الغربية على المغرب، التحاكم إلى قوانين غربية لا تعترف بالشرع الإسلامي. وانتشرت بين اليهود والمترفين بدعة الاحتماء تحت أعلام الدول الغربية، ولربما أثروا على بعض أعمدة النظام القائم فاتفى أثرهم في الهرولة نحو اليهود والنصارى.
خلال الحماية الفرنسي والإسبانية: بدل الاستعمار قوانين البلاد بأحكام لادينية، وشمل هذا الإجراء عم جل نواحي البلاد بعدما كان لا يتعدى المدن التي يقطنها الأجانب، وتم إقبار الشريعة رمزيا في مغارة الثعبان [3] " بأدروش" قرب مكناس، وخطط للتفريق بين العرب والبربر بعد تخصيص هؤلاء بأحكام "إزرف" أو" العرف" ثم غير مناهج التعليم وقلص من تألق نجم القرويين والجامعات الإسلامية الأخرى في تطوان ومراكش وغيرها، كما أن الحاكم المستعمر كان يوصي ويحذر من خطر "البيت المظلم" ويقصد به جامعة القرويين [4] . وذهبت نخبة من شباب المغرب لتلقي العلوم في جامعات الغرب، ولما لم يكن هناك وعي ولا توجيه ملزم لاختيار النافع من المضر، رجع هؤلاء بأفكار مغربة . وأخطر من ذلك: أتيح لمن يحمل الأفكار المضادة للإسلام، الفرصة لتجسيدها، وذلك في ما يتعلق بالعلوم الإنسانية كالحقوق وعلم الاجتماع. أما العلوم الثابتة والتكنولوجية الأخرى فلم تساهم في أي نهضة صناعية، ولم يصرف عملها إلا في صالح المستعمر.
ولقد تركزت حملة التغريب هذه على أول نخبة واعية كونت الحركة الوطنية. هذه الحركة التي انبثقت عنها الأحزاب السياسية في المغرب. والفضل في ظهورها يرجع إلى الحركة السلفية الدينية التي ظهرت في الشرق بزعامة الشيخ جمال الدين الأفغاني ثم الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا وانتقلت إلى كثير من الأقطار الإسلامية ومنها المغرب.
ولقد لاحظ البعض أن هذه الحركة السلفية الشرقية لم تؤت كل ثمارها لأن يد الماسونية قد تسللت لبعض أفرادها وتعاملوا معها عن جهل تام بمخططات حكماء صهيون.
فالأصل في مقاومة الاستعمار كان نابعا عن العقيدة الإسلامية التي توجب جهاد الغزاة وحماية ثغور أقطار المسلمين. ولكن نخبة من الجهلة، أوعلى الأرجح نخبة من الذين تغربوا فكريا حاولوا أن يجردوا نضال الأمة المغربية من روح المقاومة، فبدلوا الشعارات والمبادئ تبديلا حتى أصبحت مقاصد الشريعة الإسلامية التي قادت الأمة وشيدت صرح مجدها، أصبحت مهملة تماما.
وبلغ هذا الإفلاس آنذاك منعطفا عندما صرح أحد مسؤولي حزب الشورى والاستقلال أن حزبه "حزب لاديني"، في الوقت الذي كان يترأس فيه وفده في مؤتمر "إيكس ليبان"
هذا مع العلم أن علماء الأمة أجمعوا على أن الحفاظ على الدين هوالمقصد الأول من مقاصد الشريعة، يليه الحفاظ على الفرد ثم الحفاظ على النوع فالحفاظ على العقل وأخيرا الحفاظ على المال.
فكانت هذه التصريحات التي تناقلتها وكالات الأخبار آنذاك مركز اهتمام بعض الأوساط المشبوهة التي تحركها الصهيونية العالمية. وإن سأل سائل عن الدوافع التي كانت تحرك أمثال ذلك المسؤول فلن يجد جوابا خارج من التخذير الأزلي الواضح في قوله تعالى:
" لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون" (المائدة : 48).
" ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" ... الآية ( البقرة : 119).
" ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم. إن الله لا يهدي القوم الظالمين" (المائدة : 53) وهكذا، عانى شبابنا آنذاك من تأثير الأقطاب الثلاثة:
تأثير اليهود والملتزمين بالمكر الصهيوني: خصوصا عندما يكون هذا المكر جهازا منصوبا في البيت وفي الصحبة القريبة (يقول بعض الناس أن صاحب الإعلان المذكور آنفا وقع تحت تأثير زوجته التي هي من أسرة إسرائيلية نمساوية [5] وهذه الظاهرة منتشرة في الأوساط ذات النفوذ حاليا في هذا الثغر المغربي الإسلامي. وبذل ذلك المسؤول ومشايعوه جهدا كبيرا باسم الحزب لتخصيص مقعد وزير المالية في أول وزارة مغربية لأحد اليهود طبقا لما جاء في تصريحاته، ولما لم ينجح في ترشيح تاجر يهودي لهذا المقعد، وعين هووزيرا للمالية، بادر بتعيين هذا التاجر رئيسا لديوانه.
تأثير الصليبية: التي غرست فيه وفي أمثاله فكرة "الديمقراطية العصرية" عوض الشورى الإسلامية والتي أغرت به لإغراق بلده بقروض من فرنسا بشروط تمس بسيادة البلاد، وخصوصا بعقود الربا التي شرع له به مدير ديوانه اليهودي آنذاك.
تأثير الملحدين: عليه وعلى أمثالهم لما حقنوا فيه من سموم فكرة " لادينية الحزب " ثم " لادينية الدولة" عندما أصبح عضوا في الحكومة.
وهكذا، اطمأن الثالوث الخادع على مصالحه في المغرب لما لاحظ أن الحاملين لأفكاره أصبحوا من ذوي النفوذ في تسيير شؤون البلد. وتأكد لهم هذا الاطمئنان في معاهدة "إيكس ليبان" كما أشرنا له من قبل، عندما صرح المصرحون بلادينية بعض الأحزاب وبضرورة مشاركة اليهود في الحكومة المستقلة القادمة وباتخاذ مبادئ الديمقراطية والتقدمية العصرية...
ومن لادينية الحزب المعلنة انحدرت أمتنا إلى لادينية الدولة الباطنية لما صار مسؤولو هذه الأحزاب اللادينية داخل الحكومة .. وهذا بالذات هوالمنعطف الخطير الذي أدى إلى فتنة الإعراض عن الله والخضوع لقوى الشر العالمية التي وجدت حلا للمسألة الشرقية التي شغلتها طيلة قرون.
ومن المعلوم كذلك أن الأخذ عن الغرب والتقليد الأعمى له جذور معروفة ففي القرن التاسع عشر برز في أوربا طوفان من الغليان الفكري كان حافزه الثورة على الكنيسة. وأدى هذا الغليان الفكري كان حافزه الثورة على الكنيسة. وأدى هذا الغليان إلى ظهور فلسفات ملحدة طغت على الساحة.
أما في الميدان السياسي، وبوحي من هذه الفلسفات وبإيعاز من التنظيمات السرية للماسون [6]، كان هناك صراع بين اللادينيين الفرنسيين الذين نادوا بفصل الدولة عن الكنيسة وبين أنصار النظام القائم حول الكنيسة. تمخض هذا الصراع على تغلب التيار اللاديني. وكان ذلك قبيل دخول الاستعمار إلى الأقطار الإسلامية.
ولما صارت الأمور في أقطارنا إلى النظام اللاديني الغربي، طبقت مبادئ العلمانية حتى على بلدان الإسلام بدون أن ينظر إلى مدى صلاحية الإسلام لقيادة الأمة ... وعندما صارت الأمور إلى النخبة المثقفة المغربية أخذت بنفس الأحكام العلمانية وصارت على مناهجها جملة وتفصيلا بدون التساؤل عن مدى صلاحيتها بالنسبة لمجتمعنا... وهوموقف يتنافى مع أبسط المبادئ العلمية. إذ قبل الإعراض عن شريعة الإسلام يجب وضعها في ميزان العلم والعقل والمنطق، حتى لا نغرق في ميدان التقليد بدون مبرر معقول... فبالنسبة للمسلمين يلاحظ عبر التاريخ أنه متى أعرضت الأمة عن شريعة الإسلام وتحاكمت لشكل من أشكال الطاغوت فإنها تنزل إلى الحضيض ويسطوعليها الأعداء. ويكون رمز حضيضها ضياع القدس الشريف. وبالنسبة للنصارى، صلح شأنهم عند تطبيق العلمانية لأنهم فصلوا دينا منحرفا فاسدا في أمور دنياهم. وهذا الإنحراف ظاهر في أمور شتى منها أن:
- دينهم كان يعارض العلوم المضبوطة والثابتة بالنظر والتجربة (أعدم القساوسة من قال بدوران الأرض حول نفسها).
- دينهم كان يبتز مال الضعفاء للإستغفار لهم عند الرب (صكوك الغفران)
- دينهم أصله التثليت وعبادة البشر والصلبان والأصنام..
- دينهم تعددت وتعارضت أناجيله...
فالعلمانية تكون أحيانا صالحة في بعض الحالات، وأحيانا مرفوضة منطقيا:
- تكون صالحة إذا فصلت أمور تسيير الدولة عن دين منحرف فاسد.
- تكون غير معقولة إذا هدفت لفصل أمور الدولة عن دين صالح لا تشوبه شائبة. هذه النقطة لازالت مبهمة في فكر معظم مثقفينا الذين لا يزالون يرزحون تحت تخدير الثقافة الغربية اللادينية.
والغباء الكبير الذي أصاب المسلمين أتى لإثر سقوط في كمين هذا القرن ومكيدة العصر المتجلية في عدم القدرة على التمييز بين الحالتين: حالة الثورة على دين فاسد وحالة الثورة على دين صالح. فكانت هناك ترسبات تاريخه وضحت لنا الرؤيا أكثر فأكثر:
كان للعلمانية أثر إيجابي في تطور وتقدم مجتمعات أوروبا لأنها ثارت ضد دين فاسد منحرف؛
وكان للعلمانية أثر سيئ في بلاد الإسلام، لأنها ألغت أحكام دين لا تشوبه شائبة، لأن الله عز وجل حفظ القرآن من التحريف. كما أن صريح السنة النبوية وصل صافيا لا تشوبه شائبة، بعد تصدي فقهاء الإسلام الأوائل لحمايته وتدوينه عبر القرون، مما أنتج لنا تراثا تشريعيا يعترف به حتى أعداء هذا الدين الحنيف.
لا بد إذن من التأمل في هذا الظرف التاريخي الذي يمثل نقط التحول ومنعطفا من منعطفات تاريخ الأمة، ولابد من البحث عن المسؤولين عن ذلك المسخ، لكي نتعرف عليهم ونكشف لهم أخطاؤهم، لا للتجريح بهم ولكن طمعا في توبتهم، وفي تحذير المجتمع المسلم من تلبيساتهم، طبقا لمقتضيات الدعوة إلى الله التي تتعين على كل فرد مسلم.
- جذور الكفر متصلة وموروثة عند الشجرة الخبيثة:
زعم البعض أن فكرة اللادينية خطط لها في محافل الماسونية (Francs Maçons) التي روجت لوحدة الأديان مع تعطيل لشعائرها وعدم الالتزام بحدود الله المحفوظة بسياج الشريعة . وليست دعواهم إلا إرثا من مخططات أولئك اليهود الذين قست قلوبهم. وهي تستقطب الشباب الجاهل بدينه، المثقف ثقافة لادينية في ملحقاتها العلنية والسرية كنوادي الروتاري ووالليونز، والروزكروا والبهائية وغيرها.
ولقد سقطت في شباكها العديد من مثقفي هذه الأمة، وفيها يخطط للكفر عبر العالم. وكل أحداث العالم الهامة ترتبط ارتباطا وثيقا بأفرادها المنخرطين فيها وخصوصا معلمها الأكبر... ففي فرنسا مثلا كانت وراء الحركة الرمنطيقية التي قادها روسووالتي دعت إلى التحرر من الأديان. وكانت وراء أحداث الثورة الفرنسية وكانت وراء الدعوة القومية في العالم الإسلامي التي نادت بإلغاء الرباط الإسلامي وتعويضه بالعصبية القومية التي يحرمها الإسلام كما جاء في الحديث "ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من مات على عصبية" وقال أيضا عنها " دعوها إنها منتنة" هذه الدعوة العرقية شلت حركة المسلمين وأرجعتهم إلى الجاهلية، الأولى التي تجعلهم لا يتفقون على أمر مهما أصابهم من خطب جلل، ومهما وقع فيهم من تقتيل وتنكيل.
فالماسونية تنظيم يستقطب كل فرد فعال من أفراد مجتمع من مجتمعات العالم بغض النظر عن دينه وعرقه لاستدراجه بشتى الوسائل لكي يصبح خادما مطيعا لتحقيق أهدافها.
وللماسونية واجهتان: كما كشف عنه كثير من المفكرين الغربيين وغيرهم [7] :
- واجهة معلنة هدفها تحقيق الحرية والإخاء والمساواة لسكان العالم بأسره وهي واجهة خداع وتضليل كما سيتضح ذلك.
- واجهة حقيقية خفية أهدافها:
* محاربة الأديان المنزلة وتشويهها،
* العمل المنظم على بث روح الإلحاد والإباحية لتحطيم أخر رمق للدين وهوالحياء: "إن لم تستحي فافعل ما شئت".
* العمل على تأسيس حكومة صهيونية عالمية على أنقاض بشرية "مخدرة" "مستحمرة" على حسب تعبيرهم لا تستطيع ضبط شهواتها بوازع ديني.
والأساليب المتبعة لتحقيق الأهداف تتطور مع الظروف وتأخذ أشكالا والتباسات يصعب فيها التمييز بين الحق والباطل.
مثلا: في بلد إسلامي معين يتخذ هدف محاربة الأديان وتشويهها أشكالا يجعل من كبار مسيري ذلك البلد وكلاء يشجعون تقديس الأضرحة وإقامة صرح البدع التي تعمل على تخدير الشعوب المسلمة وصرفها عن الإسلام الحق، كما يشجع الغناء والرقص الفاحش في وسائل الإعلام وكذا التبرج في الشوارع والمصطافات باسم تحرر المرأة، كما تضمن الحماية الكافية لخمارات وحانات الخمر وتسخر المرأة داخل تنظيمات تختلف أسماؤها عبر أقطار الإسلام وتشجع بصفة مشبوهة، يظهر من خلالها الرمز السافر والجرأة البليدة كإقامة مقر نادي نسوي محل مسجد وغير ذلك...
أما العمل على تأسيس حكومة صهيونية عالمية فهذه الحكومة موجودة حاليا حسب ما قيل، ولكن أعضاءها يتكتمون بكامل السرية. أما الوجه المعلن حاليا لهذه الحكومة فيظهر في السيطرة على مال العالم بواسطة الربا والاحتكار والصناعات المخذرة أوالفتاكة، ويتجلى في أيامنا هذه في السيطرة السياسية على مراكز النفوذ الجغرافية كما فرضته معاهدة يالطا وغيرها. اما عن "استحمار" البشرية فيظهر ذلك جليا عندما يستعملون على رقاب الشعوب بلداء بدون وعي بهذه المسائل أوعملاء يخدمون مصالح الصهاينة، وينفذون تعليمات وأوامر حكام الجهة الجغرافية التي ينتمون لها، أما عن استقطاب الأفراد واستدراجهم، فيجري هناك انتقاء يتجه لذوي الكفاءات العالية ممن لهم تأثير ووجاهة في المجتمع. ويكون ذلك في نوادي خاصة "كالروتاري واللوينز" وأحيانا نوادي العراة أوخارج البلاد. ثم يتم الإرتقاء في مراحل التنظيم حسب ما جاء في المصادر المذكورة.
هذه المصادر تكشف أن الحجة عند ورثة الماسونية المعاصرة لمحاربة رسالة محمد عليه الصلاة والسلام هي قول مدون تاريخهم " لا في موسى لا في" : "وسن شرائع مخالفة لسنة ديانتنا اليهودية[8]" متكلما على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والحقيقة أن ما أصاب شرائعهم من التزوير في ترسبات أفكار الكهنوت، وما دون في التلمود وأصبح منافيا لتعاليم التوراة المنزلة على موسى عليه الصلاة والسلام كل هذا يجعلهم مرغومين شرعا على اتباع تعاليم القرآن الذي حفظه الله من التحريف والزيادة والنقصان، واليهود يعرفون هذا كله ولكنهم صموا وعموا وتلافوا كل حوار من هذا القبيل.
ولما لم يكن لليهود ربح في مناظرة تعاليم تلموذهم بقرآننا، صمتوا عن المجابهة العلنية، الحجة بالحجة، وحولوا المعركة إلى ميدان آخر: وهوميدان الكيد في الخفاء بطعن كل الأديان ومنها الدين اليهودي، ولكن هذا الطعن تقية محضة ومناورة، إذ أن الماسونية الكونية السرية لا تتحول طرفة عين عن تعاليم التلموذ المنحرفة. كما أن الشيوعيين منهم يلتزمون بحماس بطقوس دينهم بعدما جردوا المسلمين عن عقيدتهم. وتلك هي الخطة المنسقة كما تطرقنا لها في البداية : خطة النداء بالعلمانية التي تفتح الباب للإباحية ثم لاستحمار المترفين الفاسدين لاتخاذهم مطية ...
إن للكفر محافل تخطط في الظلام فلا يجوز لمسلم مشاركتهم أوالسكوت عليهم. وإن أدى مسلم قسما أوعهدا على مساندة الكفر في تلك المحافل أوفي معاهدة كمعاهدة "إيكس ليبان" فهوملزم شرعا أمام الله بنقض تلك العقود ومقاطعة محافل الكفر، نوادي الروتاري والليونز والبهائية وغيرها من التنظيمات المشبوهة، التي سنتطرق الآن للكشف عن أسرارها محذرين إخواننا من دخول مثلث الشيطان المتمثل في الصهيونية والصليبية والمذاهب المادية الملحدة، وكلها تفرعت عن الكفر الأزلي المدروس بدقة في محافل الماسون مهندسي التخريب.
جذور الداء تتشعب في الصليبية
قد يشعر البعض أن الكلام في هذا الموضوع من شأنه أن يحيي الحزازات القديمة ويخلق جوالحروب الصليبية التي أكل الدهر عليها وشرب ولم يبق لها أثر في عصر التكنولوجيا والعلم ... هذا إحساس رهيف له ما يبرره عندهم. والذي يهمنا نحن هوابتغاء أخف الضررين: عملية إنقاذ ودفاع. بل عندما نتصفح تاريخ حركة التنصير في بلاد الإسلام، نجد أن المكيدة الفكرية أطبقت علينا: تواطأ الجميع على السكوت عن المجابهة في العلن لما تيقن المبشرون أن دعوتهم لا تصمد أمام رسالة الإسلام، ولجأوا للعمل الخفي المنظم الذي يسري ويدب محاولا إطفاء نور الله... "ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولوكره الكافرون"[9] فرغم مهارة الداعين للصليب، ورغم تنظيمهم وإمكاناتهم الهائلة اشتكوا إلى أبيهم الروحي في مؤتمر جمع المبشرين في جبل الزيتون بفلسطين عام 1909 – وقف مقرر المؤتمر يقول: " إن جهود التبشير الغربية في خلال مائة عام قد فشلت فشلا ذريعا في العالم الإسلامي لأنه لم يتنقل من الإسلام إلى المسيحية إلا واحد من إثنين:
إما قاصر خضع بوسائل الإغراء أوبالإكراه، أومعدم تقطعت به أسباب الرزق فجاءنا مكرها ليعيش"
وهناك وقف القس "زويمر" ليقول:
"كلا إن هذا الكلام يدل على أن المبشرين لا يعرفون حقيقة مهمتهم في العالم الإسلامي، إنه ليس من مهمتنا أن نخرج المسلمين من الإسلام إلى المسيحية، كلا، إنما مهمتنا أن نخرجهم من الإسلام فحسب، وأن نجعلهم ذلولين لتعاليمنا ونفوذنا وأفكارنا، ولقد نجحنا في هذا نجاحا كاملا: فكل من تخرج من هذه المدارس، لا مدارس الإرساليات فحسب، ولكن المدارس الحكومية والأهلية التي تتبع المناهج التي وضعناها بأيدينا وأيدي من ربيناهم من رجال التعليم، كل من تخرج من هذه المدارس، خرج من الإسلام بالفعل وإن لم يخرج بالرسم، وأصبح عونا لنا في سياستنا دون أن يشعر، أوأصبح مأمون الجانب ولا خطر علينا منه ولقد نجحنا نجاحا منقطع النظير..."
يتضح جليا أن الحروب الصليبية لازالت قائمة رغم أنف من يريد الهدنة البليدة: تطورت الأساليب ولكن الهدف واحد: إطفاء نورالله.
كانت هناك اجتماعات ومشاورات، ورصدت أموال طائلة في أمريكا (مؤتمر التبشير في كولورادو) وتركز العمل الهادف على نقطتين:
- مناهج التعليم في المدارس والمعاهد لتظل لاييكية أوطاعنة في الدين أومشككة...
- التسلل إلى الوظائف الحساسة بواسطة المبهورين بالغرب والمثقفين الذين تزوجوا بكتابيات والذين برهنوا بسلوكهم أنهم أصبحوا بدون عقيدة. مثلا: برفض ختان الأولاد، أوالطعن المباشر في الدين وفي دعاته وتشويههم... وتلك حركات يائسة طبعا لأن بني جلداتنا الذي تزوجوا بكتابيات (يهوديات أونصرانيات) تكون لهم الغيرة الكافية لانتشال أولادهم وأزواجهم من الباطل، ويفطنون في الوقت المناسب لما يحاك ضدهم في الخفاء. والقليل منهم ترفض زوجته اتباعه فتلجأ إلى بلدها مهربة معها الأولاد والأموال، نسأل الله تعالى أن يحفظ أولادنا من تلك المآسي. وهكذا برز أهم ما خططت له الصهيونية والصليبية في ما يلي:
- فرض اللادينية على حزب من الأحزاب في الدول الإسلامية يمكن بواسطته فرض لادينية الدولة بعد التغلغل في هذا الحزب اللاييكي.
- فرض تبعية اقتصادية باحتكار أسواقنا التي أصبحت تابعة لهم يفعلون فيها ما يشاؤون.
- إغراقنا بالديون الربوية لتثبيت روح عدم الإكثرات بتعاليم الإسلام ولإحكام السيطرة على اقتصادياتنا.
- منع حكامنا من بذل أي عمل متقن في المنظمات العربية والإسلامية وإرغامهم العمل في تحالفات جغرافية ليس لها أي أساس إسلامي.
- فرض إعلام هادف لربط أقطار المغرب الإسلامي بشمال البحر الأبيض المتوسط فيما يتعلق بالانحلال الخلقي والاستهلاك المسرف لأن في ذلك رواج لبضاعتهم، فسخروا لهذا الإعلام مفكرين اختاروا السقوط في مستنقع العمالة والغدر. كما أن فضائياتهم تبث عبر الأثير برامج لتشجيع الفرقة بين العرب والبربر ولها إشهار يسعى لتحطيم الروح الإسلامية كالإشهار للقمار والربا والجنس والخلاعة، تحت شعار التقدم والتحرر؛
- مؤازرة الحركات الهدامة المنافية للإسلام كالدفاع عن الشيوعيين وكذا الأحزاب العرقية ومحاولة دفعها لتقلد مناصب هامة. ثم تترقب الفرصة السانحة لجعلهم على رأس الانقلابات والثورات.
- تضليل الأمة وتحذيرها من خطر وهمي يجسدونه في تكاثر النسل عندنا وهومن النعم ومن المبشرات التي تبشر بقرب عهد الإسلام العالمي الذي أنبأنا به رسولنا المصطفى، عليه الصلاة والسلام.
جذور الفتنة المحتملة وعلاقتها بالكفر الشيوعي:
لقد فكر حكماء صهيون أن قهر الشعوب والاستهانة بهم من طرف حكام الجبر والاستبداد هوضغط مسبب للانفجار. هذا الانفجار يتمخض عنه طرح قضية البديل. ففكروا في البديل: البديل لا بد له أن يتكلم عن العدالة الاجتماعية وعلى محاربة الاسراف وعلى التصدي للأنانية وغير ذلك من المثل العليا الرنانة، وهذا ظاهره خير. لكنهم نهجوا لهذه المثل العليا طريقا معاكسة للطريق التي رسمها الله. خططوا لها لتكون في إطار الكفر بالله والإيمان بالطواغيت، وكذبوا على الله لما رددوا في أسواقهم أن سبب الاستبداد والقهر أتى من شريعة الإسلام ...
ولا عجب أن يصدر هذا كله من الشجرة الخبيثة التي سوف توتي ثمرتها النهائية : الدجال الأعور الذي أنبأنا به رسولنا صلى الله عليه وسلم.
هذه الشجرة تنتج في بعض أغصانها ما ينذر بالدجال الأعور، فتلد دجالين صغارا أمثال "ماركس". ومع تفاهة أعمال ماركس أمام أعمال الدجال الأكبر، فإنه استطاع بأفكاره أن يخرج نصف خلق الله من الإيمان.
قال صلى الله عليه وسلم: " ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه: ك. ف. ر. أي كافر، يقرؤه كل مسلم " ( أخرجه البخاري ومسلم). لذا فإن فتنة المستقبل في أقطارنا ستكون لها علاقة بهذه الشجرة الخبيثة تحت تأثير أفكار الدجال الأصغر " ماركس" أوالدجال الأكبر، إن لم نرجع إلى ديننا...
لقد أرغمت دولنا على إفساح المجال لحملة الفكر اليساري العلماني أو الملحد، لولوج المناصب الحسساسة في تسيير شؤوننا وتربية أجيالنا والتخطيط لمستقبلنا، في انتظار الفرصة السانحة للسيطرة على ما تبقى من مظاهر ديننا، وهذا هوالمخطط الجهنمي الذي نحن مقبلون على مآسيه إن لم نتب الى الله توبة نصوحا من اللادينية التي تسيطر على الأجهزة المسيرة لأمورنا.
تتجلى مظاهر التسيير اللاديني للمجتمع في أجهزة الدولة ومؤسساتها وكذا في جل مرافق الحياة، ووصلت حتى إلى بيوت الله وتسيير الأسرة، إلا فيما يتعلق ببعض جوانب الأحوال الشخصية وشؤون المرأة التي يخطط أعداء الإسلام حاليا للإجهاز عليه.
فبالنسبة لنظام الحكم، تنص قوانين الشرع الذي أجمع عليه المسلمون، على وجوب قيام خلافة اسلامية التي اعتبروها ركنا من أركان الدين الذي به قوام المسلمين (تفسير القرطبي للقرآن الكريم للآية : " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " البقرة ). سئل الإمام مالك مرة : هل يجوز قتال الخارجين على الخلفاء ؟ فأجاب إجابة تتسم بالدقة والعدل قائلا: " يجوز إن خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز" واستطرد السائل قائلا : " فإن لم يكونوا مثله ؟ أي مثل عمر بن عبد العزيز، فيجيب مالك : " دعهم ينتقم الله من ظالم بظالم ثم ينتقم من كليهما "، ومعنى ذلك أنه ستظهر الفتنة والتنافس على الحكم بين المترفين فتحكم الدولة الظالمة على نفسها بخراب الملك لأنها أعرضت عن العدل والشورى، رغم أن باقي أحكام الشريعة في المعاملات لازال قائما.
نظام الحكم في الإسلام أمر معروف، وأصوله في القرآن والسنة والأثر وكذا في آراء المذاهب المتداولة. وطرق أخذ الحكم من الاختلافيات التي يجتهد فيها إذا تعذرت نقض طاغوت عروة الشورى السلمية. أما الغاية من إقامة الخلافة فلم يكن فيها أي اختلاف، فالغاية منها بلغة العصر هي محاربة الادينية التي نحن بصددها ... ولا يزيغ عن هذه الغاية إلا من استحب الكفر لقوله تعالى :
"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون "(المائدة : 46).
أما إذا خالف النظام الأحكام الشرعية وسير المجتمع بالقوانين اللادينية، فإنه بذلك اختار لنفسه اللاشرعية والكفر إن اعتقد عدم صلاحية الشرع لتسيير المجتمع.
أما الجهاز التشريعي في الإسلام فإنه يسن القوانين التطبيقية للشرع لاغير، وذلك مع الالتزام الكامل بروح مقاصد الشريعة التي طالما تكلم عليها الأصوليون.
لقد لجأ المستعمر إلى تغيير القوانين التي تسير البلاد فأعطى لنفسه حق التشريع بالقانون الفرنسي الذي يعرف بقانون نابليون المعدل، فأخرج جهازه التشريعي آنذاك قوانين مخالفة لروح الشرع، وألبسعا جلبابا إسلاميا ثم عززها بخاتم ملكي، ثم أشرف على تطبيقها جهازه التنفيذي. ومن هناك أتت برامج التعليم وقوانين الاقتصاد وشرائع القضاء التي لم ينج منها إلا جانب من الأحوال الشخصية ... فتعلم القاضي في كلية الحقوق كيف يجهل الشريعة واشتنغل الاقتصادي بحل المشاكل الرياضية التي تتصل بالفائدة الربوية، وكذلك الأساليب والحيل التي تراوغ إدارة الضرائب، وأصبح هم الحقوقي أن يأخذ عن مونتيسكيووأمثاله، وأن يذهب إلى دورات تكوينية في مدينة الأنوار... وهكذا أصبح كل أطر الدولة مجرد تقنيين منفذين لمناهج وبرامج وقوانين العلمانية.
بعد ذهاب الاستعمار، أسندت المهام لمسؤولين تكونوا في المدارس اللادينية أو ليهود في المراكز الحساسة كالاقتصاد والمواصلات والثقافة والتوجيه ... بينما همش ذووالكفاءات والوعي الإسلامي، أوحصروا في زوايا الإهمال أوأخذهم الله لجواره فبرأهم من مسؤولية الإشراف على عملية المسخ الحضاري الذي نكست بها الأمة.
واستمرت القوانين العلمانية سارية المفعول بعد إعلان الاستقلال في ظروف غريبة تختلف من بلد إسلامي لآخر ... فمنهما من أعلن حكامها جهرا عن اختيار النهج اللاديني كما نادى به أتاتورك في تركيا وزعماء البعث النصارى وكذا الحكام ذوو النزعة اليسارية. ورغم غرابة تلك الظروف نجد أثر الماسون الذي تشعب في الصهيونية ويهود الدونمة في تركيا وفلسطين، ثم عند زعماء القومية والبعث في العراق وسوريا، ثم كذلك في الاشتراكية كما نرى في الجمهوريات الإسلامية بأواسط آسيا وألبانيا وغيرها.
ومن أقطار الإسلام من تجنب حكامها تبني اللادينية جهرة ولكن اكتفى بتطبيقها سلوكا، إما نفاقا وإما تقية ! ومنهم من ليس له إلمام بهذه الأمور لتغلب الثقافة الغربية عليه، أوازدرائه من الفكر الإسلامي مطاوعة لبطانة مشبوهة أومرتبطة صراحة مع أقطاب المثلث الشيطاني ...
نعم، اختلفت الحالات والطرق، لكن النتيجة واحدة فردة ،تدل على وحدة الأصل المدبر الذي فات أن ذكرناه ... هذا الأصل لقن شبابنا كيف يجهل كل فكر إسلامي معتبرين إياه فكرا رجعيا، كنسيا، بائدا، ومرتبين كل نهوض إسلامي في مصاف ما سموه بالرجعية، أوبالثورة السوداء، مقلدين بذلك موقف الغرب من الكنيسة، لذا نرى حاليا الأقطار الإسلامية سائرة في إصدار تشريعات جديدة غير عابئة بالمشرع المطلق سبحانه وتعالى وبسنن نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام وعلى آله ... وبعض هذه الأقطار أحدث جهازا من علماء الشريعة، يعطي نظره في كل القوانين، ولكن يبقى هذا النظر استشاريا فقط في الوقت الذي يعلن فيه الإسلام رفضه الكامل لكل قانون يتعارض مع أحكام الشرع.
أما رجال السلطة التشريعية في الحكومات الحاضرة، عندما يضعون المذكرات التي تبين المقصد لأي قانون جديد، فإنهم لا يراعون مقاصد الشرع التي وضعها فقهاء الأمة ... هؤلاء المسؤولون عن التشريع ليس لهم إلمام بهذه الأمور نظرا لثقافتهم وتكوينهم، وطبعا منهم المتعمدون الأجانب من عملاء الماسونية الذين يتسللون لهذه المراكز عنوة لتوجيه كل قانون جديد ليكون منافيا لمقاصد الشرع. ثم إن تغلب الفكر الغربي على شبابنا، صور لهم أن مجرد فصل الدين عن القوانين يضفي على هالة علمية تقدمية، فرتبوا الأحكام العلمانية في مستوى الحقائق العلمية!
والحقيقة التي يمكن إثباتها هي مخالفة لادعائهم:العلوم المضبوطة والتجريبية إن استغلت لاستنباط الأحكام الصالحة، فإنها لن ترد إلا أحكام الشرع بالذات، مما يدل على وحدة المشرع للقوانين الكونية ووالقوانين الشرعية ... وهذا موضوع سوف نفصله في جزء لاحق. يبقى السؤال إذن مطروحا وبحدة وإلحاح : ما هي المبررات الموضوعية أوالعلمية التي جعلت حكام الأقطار الإسلامية يعرضون عن شريعة السماء ؟ ... أهوهذا المسخ الحضاري الذي نعيش في أحلك أحقابه أم هوهذا العجز التكنولوجي الذي جعل منا أمة الاستهلاك ؟... قرن مضى من الزمن ونحن حابسين عقيدتنا وشرعنا في قفص الاتهام. فما هي النتيجة ؟ .... انشغال ممقوت بالقشر ...انشغال بالقشور لا غير.
أكثر المحللين لمشاكل أقطارنا الممزقة يولون اهتماما مبالغا فيه لمشاكل الجوع والمرض والأمية، وكذلك مشاكل الأمن في الممتلكات، والأمن من الحروب التي تظهر من حين لآخر سحبها في الآفاق منذرة بالدمار. ولقد شعرت شعوب هذه الدول أن الحلول المفروضة عليها من الشرق أوالغرب، والتي قطعت صلة الوصل بينها وبين ماضيها ومعتقداتها لم تأت إلا بالانهيار الصريح والفشل الذريع لاقتصادياتها رغم امتلاكها لثروات ضخمة. ولقد انقاد المسلمون وراء مخططات المستعمر الذي لازال يغير من أساليبه للآستيلاء على ثرواتهم وامتصاص دمهم والتشويه بمعتقداتهم، فغير أسلوب الاستعمار المباشر عندما شعر أن خسارته أكثر من ربحه وذلك لما بدأت المقاومة المسلمة تحاربه باسم "لا إلاه إلا الله". ثم خطط الكفار لتشتيت كلمة المسلمين بزرع روح القومية فقضى على أثر الخلافة ومشيخة الإسلام، وزرع نار الفتنة والتفرقة بين العرب والبربر والأتراك والفرس والأكراد ... وأحكم السدود المنيعة في ثغور الإسلام وجبهاته الحية للحيلولة دون تسرب روحه السامية، فقسم الهند إلى طائفتين " طائفة الهندوس وطائفة المسلمين، وأرسل حملات تبشيرية إلى جزر أندونيسيا والفلبين وإلى إفريقيا السوداء، وزرع المدارس النصرانية في قعر جزيرة العرب وغيرها من البلدان العربية ... كما سفكت دماء ملايين المسلمين باسم الشيوعية الملحدة في أواسط آسيا وأوروبا والصين وكمبوديا ... ويخشى العقلاء أن يسقط المسلمون في كمين الدهاء الماكيافالي الذي خطط لضرب الشيعة بالسنة لا قدر الله. وذلك ضرب للإسلام من الداخل ...
القوانين المنظمة لحركات التاريخ وعلاقاتها بالقوانين المسيرة للمجتمعات
المبادئ المسيرة للجمعيات الليبرالية
المبادئ المسيرة للمجتمع الشيوعي والاشتراكي
نحو منهج إسلامي لدراسة حركات التاريخ
لقد حاول علماء الاجتماع اكتشاف قوانين علمية تتحكم في تطور المجتمعات وارتقائها من حالة البغي والتسيب والتخلف، إلى حالة العدل والرخاء والسلم، والاستقرار على تلك الحال. لكنهم أخفقوا في توحيد مناهجهم والاتفاق على منظومة قوانين مضبوطة، تفرز تطبيقات "تكنولوجية" في علم الاجتماع يعترف بها الجميع. التحيز الدكماتي لمذهب من المذاهب، أبعد هؤلاء الباحثين عن الموضوعية العلمية، فكانت هناك انطلاقة من المناهج الماركسية، صدرت عنها تحليلات للتاريخ تبلورت تطبيقيا في قوانين معروفة. وكانت هناك مناهج رأسمالية أو علمانية أو إمبريالية ولدت كذلك تشريعات لبرالية لتسيير المجتمعات المتقدمة، أو لترويض الشعوب المستعمرة، أو للتحكم عن بعد في الشعوب المتحررة بواسطة التشريعات النيوكولونيالية.
ولم تفلح البشرية حتى الآن في العثور على نظرية علمية كونية لتفسير حركات المجتمعات يخضع لها الجميع، كمثل تلك النظريات التي يزخر بها علم الفيزياء والكيمياء والبيوليوجيا. لأن ذلك الاكتشاف سيرشد العلماء إلى استنباط قوانين علمية لتسيير المجتمع تمثل " تكنولوجيا" للرقي المستمر للمجتمع الذي اختار هذه القوانين المضبوطة.
قبل تفصيل في البرهنة على سقم وهشاشة الأسس الفلسفية أوالمنطقية، للقوانين العلمانية المسيرة للمجتمع الإسلامي،
ينبغي بداية التأكد من وجود قوانين منظمة لحركات التاريخ، ودراسة علاقة تلك القوانين بالتشريعات المسيرة للمجتمع.
لقد تعددت النظريات في دراسة هذا الموضوع لتعدد المناهج المتبعة في علم الاجتماع. والمنطلق المتفق عليه هي بعض الملاحظات الميدانية، التي تدلنا على أن أمور الأمم عبر التاريخ لا تستقر على حال، فهي في ديناميكا مستمرة. عبر عنها البعض بدورات للتاريخ وتتابع لحياة البداوة والحضارة، وذهب آخرون إلى القول بأن المجتمعات تتوالد وتنمو مارة بالصبا، فالطفولة فالمراهقة فالشباب فالكهولة والشيخوخة، ثم تتلاشى كحياة الفرد تماما. وظن آخرون أن هناك أغراضا مستترة وراء أحكام القدر، كانت وراء حضارات سادت ثم بادت. أما أصحاب المذهب التاريخي فإنهم عبروا عن حتمية الانسياق نحو المستقبل بتأثير قوي لا يمكن مقاومتها. وهناك من يعتقد بوجود اتجاهات وميولات عامة نحو تحقيق حال أفضل للمجتمع. ومنهم من يرفع مرتبة الاتجاهات إلى درجة قوانين علمية نستطيع أن نجري عليها تجارب واختبارات، ويمكن أن نستنبط منها نظريات لأجل التنبؤ بحادث معين في المستقبل، وتختبر النظرية بالمقارنة بين الحادث الذي تنبأ بوقوعه والحدث الذي وقع بالفعل. وهناك من يعتبر الاتجاهات مرهونة بشروط أو ظروف معينة يحاولون اكتشافها.
و الاعتقاد السائد عند جل علماء الاجتماع أن المنهج العلمي الطبيعي يمكن استعماله في علوم الاجتماع. إلا أنه لم يكن بالإمكان إجراء تجارب للتنبؤ بصلاحية نظرية اجتماعية من النظريات، لكن يرجعون إلى التاريخ فيعتبرونه مختبرا ويرون أحداثه كالتجارب العلمية، والمذهب التاريخي يؤول التاريخي تأويلا ويعتبر هذا التأويل نظرية علمية، وشتان ما بين التأويل والنظرية، حيث أن النظرية العلمية تمتاز بفرديتها أما التآويل فمتعددة.
بعض علماء الاجتماع يرون أن تحرك المجتمعات يرجع إلى عوامل نفسانية أو ما يسمي بتقدمية النفس الإنسانية. فيقول " كونت" العالم الاجتماعي الفرنسي: " إننا إذا توصلنا إلى قانون في تعاقب الحوادث وكان هذا القانون يؤيده منهج المشاهدة التاريخية بكل ما لهذا المنهج من نفوذ، فلا ينبغي مع ذلك أن نقبله نهائيا إلا بعد رده بالاستنباط العقلي إلى النظرية الإيجابية الوضعية في الطبيعة الإنسانية ."
أما المذهب الماركسي فإنه يرد كل أحداث التاريخ إلى صراع بين الطبقيات. فالمذهب التاريخي يؤمن بقدرية مادية كما يقول " ماركس في مقدمة كتاب رأس مال :" إذا ما اكتشف مجتمع من المجتمعات قانونه الطبيعي الذي يغير حركته، فلن يمكنه ذلك من تخطي المراحل الطبيعية في تطوره أو حذفها من الوجود بجرة قلم، ولكن في استطاعته أن يفعل شيئا واحدا: هو التقليل من آلام الوضع والتقصير من مدتها ." ومثل هذه النظرية طرحها حكماء التخطيط النيوكولونيالي ووكلاؤهم المحليين، "لمساعدة" الأمم المسلمة على المرور من مرحلة الإسلام كنظام للحياة، إلى الليبرالية، ثم إلى الاشتراكية. والحقيقة أن كل التنبؤات التي يمكن أن نصل إليها عن طريق مذهب من المذاهب الجديدة المادية، ليبرالية كانت أم ماركسية، لها نظرة موحدة في مستقبل المجتمع البشري، الذي يسير إلى حالات أفضل، إذ أن الصراعات لا تخلف من ورائها إلا حياة أسعد، عندما تتوفر عوامل استقرار مادي آخر .
لذا فهي متفائلة في نظرتها لمستقبل الحضارة المادية الغربية ولا تؤمن بإمكان سقوطها تبعا للقوانين التي تفترضها. فمثلا إذا كانت قوانين الدياليكتيك أي الجدلية هي التي تسجل كل تطور وصيرورة بالصراع بين الأضداد في المحتوى الداخلي للأشياء، إذ أن كل شيء يحمل في صميمه جرثومة نقيضه فيخوض المعركة مع النقيض، فما هي يا ترى الجرثومة التي تكون نقيض المادية ؟ إنهم تجاهلوا وجود هذا النقيض أو غضوا الطرف عنه ظرفيا وظاهرا .
أما الليبرالية الغربية فهي لا تريد أن تتخيل بداية النهاية لزعامتها للعام، فحاولت أن تخفف من حتمية الافتراضات التي فسر بها أفلاطون إخلال وسقوط حكومات المدن اليونانية والإمبراطورية الفارسية كما فعل من بعده " ميكيافلي" وفيكو " وأخيرا " تويمبي " في كتابه " دراسة التاريخ " حيث قال :" ليست المدنيات حالات ساكنة للمجتمع وإنما هي حركات ديناميكية من نوع تطوري، وهي ليست فقط عاجزة عن التوقف بل إنها لا تستطيع أن تعكس اتجاهها دون أن تخرج عن قانون حركاتها ".
ثم كان أثر المذهب الدارويني التطوري الذي يرى أصلا واحد لجميع الأحياء، نشأت عنه فلسفات عنصرية أدت إلى ظهور النازية والصهيونية والفاشية، لما في نظرية الانتقاء الطبيعي للعنصر الأسمى من تأويل ودعوة إلى احتقار الآخرين. كما أن مذهب ما بعد الداروينية ( néo-darwinisme )لم يستطع أن يرفع افتراض التطورية السوسيولوجية إلى قانون علمي رغم تدعيم له كبير من قوانين علم الوراثة والتفاصل والطفرات ( mutation، ( hybridation، لأن تطور الحياة على الأرض أو تطور المجتمع الإنساني هو عملية تاريخية فريدة من نوعها، فقد يجوز أن نفترض هذه العلمية تمضي في طريقها طبقا لأنواع كثيرة من قوانين العليا كقوانين الميكانيكا والكيمياء والوراثة والتفاصيل وغيرها، ولكن العبارة التي نصف بها هذه العملية ليست قانونا وإنما هي قضية تاريخية مخصوصة (عقم المذهب التاريخي" لكارل يوبر").
مجمل القول أن البشرية لن توفق حتى الآن في العثور على قوانين علمية تتحكم في حركة المجتمع، كتلك القوانين التي يزخر بها علم الفيزياء، لأن هذا الاكتشاف سوف يتيح اختيارات " تكنولوجية" تتلائم مع ما يناسب حياة الفرد والجماعات. إلا أنه توجد اتجاهات ترسم الخط التطوري الصاعد. ويمكن استخدام حساب الاحتمالات والنمذجة ( modélisation ) لتقييم هذه الاتجاهات في كل مجتمع من المجتمعات، وعلى هذه الاتجاهات تبني الدول سياساتها وتشريعاتها، إن كانت قادرة على اختيار طريقها، ومستقلة في قرارها، وإلا سقطت في مدار كتلة تتكفل برسم الطريق لها، طبعا بما يناسب أهواء ومصالح الدول المهيمنة، وهذا ما يسمى بالهيمنة الفكرية ما بعد استعمارية ( néo colonailisme ). نستنتج إذن أن الاتجاهات الراهنة وما يترتب عنها من تشريعات وإيديولوجيات ليست في جملتها إلا اختيارات" أومبريقية " مختلفة لا صلة لها بالعلم المضبوط، وإنما هي مزيج مبني على فروض وضعية، فيها الصالح وفيها الفاسد، وهذا الاختلاف في الاختيارات يراه البعض رحمة للبشر، لأنه المحرك الحقيقي لعجلة تطور البشرية، بمقتضى منطق تزاوج الأطروحة ونقيضها وتولد النتيجة المركبة منهما. وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية، لضمان ردع التمادي في الاتجاهات الفاسدة. مثال ذلك : قضية تحديد النسل تحت تأثير النظرية المالتوسية في أوروبا التي حذرت من انفجار سكاني رهيب. ثم ظهر بعد ذلك فساد تلك النظرية رغم أنها اعتمدت على معادلات حسابية صحيحة! إلا أن البعض يرى أن الاختلاف بين الأمم ومذاهبها لم يعد رحمة لأن الحسم فيها بواسطة الحروب كالمعتاد سوف يؤدي بالبشرية إلى الهاوية إذا استعملت الأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية المدخرة لها حاليا!
لقد نشأ النظام الرأسمالي السائد حاليا في المجتمعات الغربية للإطاحة بالأنظمة الاستبدادية وضعية كانت أو دينية. وترعرع تحت ظل التقدم الصناعي الذي ظهر في أوروبا إبان القرنين الأخيرين. فهو يسلم أن مصالح الفرد الخاصة تكفل بنفسها بصورة طبيعة وآلية مصلحة المجتمع، فالدولة لا تتدخل إلا لحماية المصالح الشخصية لأفراد المجتمع. فالفرد حر سياسيا إذ أن له صوتا مسموعا، في إبداء رأيه في تقرير الحياة العامة ووضع قوانينها وتعميم سلطانها ثم أن كل أفراد المجتمع متساوون في حقوقهم السياسية. كما أن الفرد حر اقتصاديا، تباح له الملكية الإنتاجية التي يتكون منها رأس مال من غير حدود تقيده، وللجميع على حد سواء. فلكل فرد مطلق الحرية في اتباع أي أسلوب وسلوك وأي طريق لكسب الثروة وتضخيمها ومضاعفتها على ضوء مصالحه ومنافعه الشخصية، أما فكرة العدل والإنصاف بين الأفراد فيتكفل السوق بخلقها آليا بواسطة قوانين العرض والطلب والتنافس بالأثمان والإنتاج، ثم إن الفرد حر فكريا، له أن يختار أي دين شاء ويتبع الشعائر التي تروق له والطقوس والملل التي يرضاها، فالدين إذن تقهقر عند الرأسمال إلى مصاف فكر من الأفكار الشخصية، أما الأسس الفلسفية 1 التي قام بها بنيان الرأسمال فتتغلب عليها النزعة المادية التي تأثيرات بالعقلية التجريبية التي شاعت منذ الثورة الصناعية، إذ أن التجربة التي نبعت منها القوانين أثبتت النظريات العلمية المعاصرة واستحوذت على العقول ونبذت كل الحقائق التي لا تظهر في الميدان الفكر التجريبي. ويبقى موضوع الأخلاق مبهما في نظر الرأسمالية ترتبه في أمور المصلحة الشخصية أو الحرية الفكرية أو تصف من يهتمون بهذه المسألة بالعاطفة التي يجب أن تزول من الحسبان في نظرهم لأم السلوك كله يجب أن يبنى على الموضوعية، والحقوق توزع بعدالة عندما يكون كل فرد يدعو إلى المصلحة الشخصية، أما النظرة إلى مستقبل البشرية فتتغلب عليها النظرية الداروينية المدعمة بقوانين الوراثة، حيث أن البشرية في تطور مستمر، وحيث أن الطبيعة تتكفل بانتقاء الأصلح في الأفراد والمجتمعات .
و الأصلح في نظرهم هو الأكثر ذكاء والأكثر قوة حتى ولو استعمل هذا الذكاء وهذه القوة للاستيلاء على الغير أو التدمير .
و البشرية تقاسي حاليا من ويلات الحروب والميز العنصري والاستغلال منذ هيمنة هذا النظام الجائر على العالم. ولقد سخرت هذه الأغراض كل الإمكانات العلمية والتكنولوجية التي بلغت حدودا لم تبلغها من قبل، فبدأ الرعب ينتشر لما جهز للحروب المقبلة من قوة مدمرة تكفي لإخفاء الحياة من هذا الكون. تكهن البعض أن أمريكا التي تتزعم هذا الكتلة، مقبلة على حماقة المراهقة في حلمها بالاستيلاء على العالم. أما روسيا فخطرها يمكن في رد فعل رهيب، كما تكرر في تاريخها على مر العصور.
حسب الفكر الماركسي "قوانين الدياليكتيك أو الجدلية هي التي تفسر كل تطور وصيرورة في الصراع بين الأضداد في المحتوى الداخلي للأشياء. فكل شيء يحمل في صميمه جرثومة نقيضه ويخوض المعركة مع النقيض ويتطور طبقا لظروف الصراع ".
وقوانين الجدلية هذه، تنظر إلى التطور الاجتماعي بوصفه " حركة ديناميكية منبثقة عن التناقضات الداخلية طبقا لقانون الحركة الدياليكتيكية العام القائل " إن كل كائن يتطور لا بحركة ميكانيكية وقوة خارجية تدفع من ورائه، بل بسبب التناقضات الطبقية، تنمو شيئا فشيئا حتى تحين اللحظة المناسبة لتتفجر عن تحول شامل في بناء المجتمع ونظامه.
والدليل العلمي للنظرية يعتمد على منطق الافتراضية القائل :" إن أي تفسير افتراضي للواقع الذي يعالج العالم لا يصل إلى الدرجة العلمية إلا إذا استطاع الدليل العلمي أن يبرهن وينفي إمكان أي تفسير أخر". لذا، لما تفسر المادية التاريخية بقوانينها الدياليكتيكية نشوء الدولة، فهي تعتمد على العامل المادي الاقتصادي والتناقض الطبقي. فالمجتمع المتناقض طبقيا يلتهب فيه الصراع بين الطبقة القوية المالكة لوسائل الإنتاج، والطبقة الضعيفة التي لا ملك لها، فتقوم الطبقة الغالبة بإنشاء أدوات سياسية لحماية مصالحها الاقتصادية وللحفاظ على مركزها الرئيسي، وهذه الأداة هي الحكومة بمختلف أشكالها التاريخية وقوانينها. وهي تزعم أن هذا التفسير فرد لا يتعدد !
أما الاقتصاد الماركسي فيرتكز على إلغاء الملكية الخاصة ومحوها محوا تاما من المجتمع، وتمليك الثروة كلها للمجموع وتسليمها إلى الدولة، باعتبارها الوكيل الشرعي عن المجتمع في إدارتها واستثمارها لخير المجموع. وقد برروا هذا التأميم بأن المقصود منه إلغاء الطبقة الرأسمالية وتوحيد الشعب في طبقة واحدة. وكانت تعديلات سياسية حيث أن محو الدولة الذي استهدفته الشيوعية، استبدل إلى فكرة قيام دكتاتورية عمالية لحماية مصالح الطبقة العاملة، وخنق الرأسمالية والرجعية التي لا زالت تكمن في الطبيعة البشرية.
أما من الناحية العقائدية فإن الشيوعية تنصب نفسها لهذا المنصب بدون منازع أرضي أو سماوي آخر! بل تعتبر الدين أفيون الشعوب!
نظرة الإسلام لموضوع دورات التاريخ وحركات المجتمع تبني دعائمها من صريح القرآن الكريم ومن صحيح السنة النبوية. تلك المصادر تقرر :
أولا: وجود سنن ثابتة لهذه الدورات لقوله تعالى : (( فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلاً)) (فاطر:43).
ثانيا: التمكين والغلبة يكونان للمستضعفين في الأرض وليس للمستكبرين كما تراه المذاهب المادية، لقوله تعالى: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ".
ثالثا: ليست الأمم كلها على صواب في مسيرتها عبر الأجيال، بل هناك أمم تسير في خسران مطرد إذا تمادت في الفساد وجحود الخالق لقوله تعالى: (( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)). ( سورة العصر).
رابعا : فساد الأمم يأتي من ترفهها وإسرافها المادي. قال تعالى: (( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها)) ( الإسراء- 16 ).
تلك هي نظرة القرآن الكريم لتطور الأمم ولمستقبلها، وما من أمة إلا ويجري عليها حكم الله فلا يكون لها التمكين إلا إذا تغلبت على نوازعها المادية وتحررت من عبوديتها من أهواء النفس والشهوات. وسنة الله هذه في تطور الأمم هي كالقوانين الأخرى في خلقه التي أثبتها العالم التجريبي، كقانون الجاذبية أو قانون النسبية أو قانون انعكاس الضوء أو قانون القوى الكهرومغناطيسية. وسنحاول تفسير هذا القانون تفسيرا علميا كما تم ذلك للقوانين العلمية المذكورة. كما سننظر إلى إمكانية استخراج تطبيقات تكنولوجية مثلما كان لنظرة النسبية من تطبيقات في مجال الطاقة الذرية. وبعبارة أخرى سنبحث عن العلاقة بين القوانين الكونية المادية والقوانين الشرعية المنزلة. وسنتساءل: هل هناك تكنولوجيا ممكنة للسمو المطرد بالمجتمعات البشرية تجنبها دركات السقوط وفترات الخسران ؟
عندما يعزم الإنسان على تشريع قوانين لضبط المعاملات بين أفراد المجتمع أو قوانين لضبط علاقته مع الطبيعة، فإنه بفعله هذا يؤثر تأثيرا عميقا على البيئة المحيطة به، إما بصفة إيجابية إذا كانت القوانين التي شرعها صالحة، وإما بصفة سلبية إذا كانت القوانين فاسدة.
تراث البشرية التشريعي يبدو للمتأمل وكأنه كائن حي يولد ويترعرع ويشب ويهرم ثم يموت ليعوض بقوانين أخرى، لا تلبث بدورها قليلا حتى تتلاشى مع الزمن ولا يبقى منها إلا ما تبين صلاحه عبر الأجيال ... تجرب الإنسانية قوانين وتشريعات كما تجرب دواء من الأدوية أو اختراعا من الاختراعات، أو إبداعا من الإبداعات. فإذا ظهر صلاح هذا القانون، نقل إلى الأجيال اللاحقة وإلى رقع جغرافية أوسع، بعدما صارت تعاليمه ضرورة ملحة لا مفرا منها. لاحظ الناس عبر الأجيال أن الزواج بالأقارب ينتج عنه أولاد معتوهين، فظهر قانون يحرم الزواج داخل حلقات القرابة المباشرة. لاحظ الناس أن كل من سقط من أعلى الجبل إلى أسفله يصاب بأذى أو موت، فظهر قانون الجاذبية، وعبر عنه رياضيا بمعادلات معروفة، كما عبر رياضيا عن مرور الجينات المعتوهة المستترة من الآباء إلى الأبناء ... وهكذا، كل قانون منسجم مع البيئة يخترق الزمن ويصبح من بديهيات وضروريات الحياة التي لا مجال لإنكارها وجهلها، بل لا مناص من الخضوع لها كما نخضع لقانون الجاذبية وقانون القوى الكهرومغناطيسية وغيرها من القوانين الكونية.
إن العلم تقدم كثيرا عندما تعرف الإنسان على القوانين الكونية ودرسها بخضوع وإجلال، فما لبث قليلا حتى جنى ثمار معرفته واعترافه واحتكامه لهذه القوانين الكونية.
ترى ماذا يحدث للإنسان لو اتخذ نفس الموقف من القوانين الشرعية ؟ فلو حارب النفسية المتمردة على هذه القوانين، ثم تعرف على هديها واعترف بها وحكم بمقتضياتها، ماذا سيحدث ؟ ...
الإنسان اتخذ موقفا متواضعا بالنسبة للقوانين الكونية، فجادت عليه بإسرارها وخيراتها، فاخترع الكهرباء الذي صار ضوءا ينير به ظلمة الليل. واخترع الجناح الذي لامس الهواء، فغضت عنه الطرف جاذبية الأرض ليسبح في السماء. رجع إلى التعرف على أمه الأرض، فجادت عليه برضاها لما علمت بخضوعه لها ... لكنه أسرف من الأخذ منها وظلم لما حاول احتكار كنوزها وأسرارها، فانقلبت النعمة نقمة، وقالت له الأرض بلسان حالها: "لا تثخن مخالبك في لحمي ودمي، خذ مني بلطف وكن سخيا في العطاء، ولا تظلم، فإنك ستبلي بأظلم، وسيقوم أعوجاجك بعذاب ربك ... أطع ربك وتعرف عليه وعلى شرعه، إن عطائي نفد لما تعرفت على وخضعت لقوانيني ... وعطاء ربك لا ينفد لمن خضع لحكمه ... والكل منه بدأ وإليه يعود ... بدأنا من قدرته لما قال: "كن، فيكون". فتكونت طينتنا ثم قبض قبضة منها فصورك وعدلك ونفخ فيك من روحه فكنت أيها الإنسان... طينتك مني، وروحك من الرب، طينتك تخضع لقوانين الله الكونية، وروحك من الأمر العظيم. فكما تخضع لقوانين الكون يجب أن تخضع لقوانين الشرع لأنك مخلوق لأمر عظيم، استحققت به سجود الملائكة... فأنت أمرك عظيم، ومستقبلك ذو شأن خطير إذا نلت الرضا بخضوعك لقوانين الكون وقوانين الشرع ... فأنا أسبح بحمد الرب العظيم، لكنك لا تفقه تسبيحي، وسبحي في فلكي تسخيرا لك، هو من علامات خضوعي لأمر ربي. وأنت طينتك تسبح للرب العظيم، لأن جميع مكونات ذراتك في فلك يسبحون، فكن منسجما مع الكون واسمع لحديث الروح والأمر ....
مظاهر الكثرة في الكون تغري بالبعد عن المكون فتتسلط على الإنسان الدعوى العريضة التي تزاحم الحق في العزة والجبروت... وهل يحق ذلك في زمن كشفت للإنسان حقائق الكون ؟ العلوم كلها نطقت بالوحدة العميقة التي تربط كل مظاهر الوجود. الكون كله بناء من لبنة القدرة، لا فرق بين ذهبها وعنبرها وفضتها ووبرها... كل ذلك يتلاشى يوما ليعود إلى الأصل، إذا الكل طاقة وقدرة من الواحد... الواحد الذي قدر المقادير وقهر بالقوانين، فخضعت السماوات والأرض لحكمة فأتت طائعة وسبحت بحمده. ثم حمل الإنسان أمانة الاختيار بين الطاعة والعصيان، بعدما أخضع طينته لقوى الجاذبية، وعلمه الأسماء كلها ليكتشف جناح السمو إليه، فأرشده إلى اختراع كل شيء مسخر بإذن ربه ليعتبر، فسبح في الجو بطينته مع خضوعه لقانون الجاذبية، ولم يهتد للعروج إلى السماء بروحه، بخضوعه لوحي ربه، الذي شرع له قوانين العروج. فاختار النزول إلى دركات الجحود، ثم زاحم الحق في حكمه، وأصدر قوانين مخالفة للأمر العظيم ... إنه عاجز على خلق ذبابة، وخاضع لقوانين الكون، فكيف تسوغ له نفسه التجرؤ على الحق ومزاحمته في الحكم، والتمرد على شرعه، وهو يعلم أن لا أحد سواه له الخلق والأمر ؟ ... فلو كان هناك آلهة لفسدت السماوات والأرض...
والفساد يكون إذا ما زاحم الإنسان خالقه في الحكم، لأنه سيصدر أحكاما معتوهة، تطفو عليها أنانيته وجهله، ثم لا تلبث قليلا حتى تصير كارثة عليه وعلى بيئته ...
الإنسان الأناني لا قانون له عنده إلا قانون الحفاظ على النفس ! وهو قانون الغاب إن صار الكل يريد فرض أنانيته.
يسمو عقل الإنسان، وترشده الفطرة إلى قانون آخر هو قانون الحفاظ على النسل، فتظهر معالم الرحمة الحيوانية والنظرة الإنسانية المقدرة لعواقب الأمور المعتبرة لمقصد الحفاظ على النفس ومقصد الحفاظ على النوع...
ثم يزيد عقل الإنسان سموا ليعثر على بعد آخر لقوانينه : علاقته مع ثروات الطبيعة، فيصدر قوانين تأخذ بعين الاعتبار ضرورة الحفاظ على النفس وعلى النوع وعلى الطبيعة ...
ثم يزيد عقل الإنسان سموا، فيعثر على بعد آخر للقوانين وهو ضرورة الحفاظ على طاقات الإنسان المفكرة، فيصدر قوانين تأخذ بعين الاعتبار ضرورة الحفاظ على العقل المميز للأشياء، المقدر للعواقب. وهنا تنتهي أسمى نظرة شمولية للكون عند العلمانيين، إنسان ذو أربعة أبعاد في مقاصد قوانينه: الحفاظ على النفس، ثم النوع، ثم الثروات الطبيعية ثم العقل. النظرة العلمانية هذه، رفعت حاجزا من الفولاذ بين القوانين الكونية والقوانين الشرعية، ففرضت عوض نظرة أكثر شمولية للكون، نظرة مجزئة، تضع كل مصادر المعرفة عن طريق الرسل في قفص الاتهام بدون مبرر علمي منطقي، رغم أنها تدعي العلمية في أساليبها...
إذا تواضع الإنسان وأدخل في الحسبان أبعاد الحقيقة الدينية، ولم يهمل هذا الجانب الذي ينطق به كل شيء في الوجود، فإنه بذلك يعثر على كل الأبعاد الزمانية والمكانية التي تتحقق به إنسانيته، فيلتزم آنذاك بإصدار أحكام تطبيقية أو تفسيرية لما جاء من قوانين عن طريق الوحي.... وينظر بتواضع إلى مقاصد الشرع، ويقارنها بمقاصد أسمى قانون عثر عليه العقل، فيكتشف استحالة التعارض بين العقل والنقل، شريطة أن يدخل الإنسان بعدا خامسا في مبادئه: ضرورة الحفاظ على الدين. وهنا يسمو الإنسان إلى الشمولية المطلقة التي نطقت بها أحكام الشرع منذ زمان: الحفاظ على النفس، والنوع، والمال، والعقل، والدين. هذه هي مقاصد الشرع التي يعثر عليها الإنسان عن طريق العقل عندما ينضج ويجرب السبل كلها ... وما دام لا يراعي كل هذه الأبعاد الخمسة في تشريعاته، فهو قاصر لا بد من تقويمه بوصاية الشرع إذا أراد الله به خيرا. وإلا فالتدمير حليفه في الدنيا وله في الآخرة عذاب أليم: عذاب البعد عن الله كما اختار جحوده في الدنيا .
نسبية المعرفة العلمية وتواضعها
قوانين الشريعة على ضوء العلوم الكونية الثابتة
التفسير الشرعي والتفسير العلمي لحركات التاريخ
ابتلاء العرب في هذا العصر على ضوء هذا التفسير العلمي للتاريخ
المسألة اليهودية على ضوء التفسير العلمي للتاريخ
إن العالم الاجتماعي المعاصر، لكي يسدل مظهر الموضوعية العلمية على بحث من أبحاثه، يجتنب في دراساته كل ما يتعلق بالمرجعية الدينية. والأغلبية الساحقة من علماء الاجتماع لا تتحرج من ولوج المناهج ذات المرجعية الفلسفية الماركسية أو اللادينية أو الداروينية السوسيولوجية، وتدعي بذلك الموضوعية العلمية، لا لسبب سوى أنها تجنبت المرجعية الدينية. وهذا الموقف يظهر أثره جليا في كل العلوم الإنسانية. والحقيقة أن تلك المنهجيات وجدت نفسها في طريق مسدود، لما أفرزته من جدل وتناقض فيما بينها. فأكبر دليل على الابتعاد عن الحقيقة العلمية في هذه العلوم هو بالضبط كثرة الجدل وتناقض النظريات فيه وكثرة مدارسه. ويعد ذلك مؤشرا على عدم نضج هذا العلم.
والملاحظ أن علم الجماد من كيمياء وفيزياء يمكن دراسته بغض النظر عن موجد الكون، ويمكن الوصول إلى نتائج في إطار الحدود المرسومة، كالصانع الذي يصنع آلة، هذا العمل لا يستدعي من صاحبه أن يكون مؤمنا بالله أو ناكرا له. أما العلوم الاجتماعية، فالنظرة الشمولية التي تتطلب، والسنن التي تتحكم فيها، تقتضي الحسم في الموقف قصد الخروج من أزمة المدارس الملحدة.
وما من واحد يشك في أن النظرة العلمية للأشياء والأحداث هي التي يبنى عليها كل بنيان سليم وترتكز عليها كل حقيقة، مادام هذا البنيان وهذه الحقيقة في متناول حواسنا وإدراكنا. أما ما لا تستطيع أن تدركه الأبصار، فلا يمكن للنظرية العلمية إلا أن تضع افتراضات لتفسيره، وهذا ما توضحه آخر فلسفة لتفسير الكون، وهي الفلسفة النسبية التي سبق أن شعر بها عالم البصريات البيروني حينما قال: " يكفينا معرفة الموضع الذي يبلغه الشعاع ولا نحتاج إلى ما لا يبلغه، وإن عظم في ذاته، فما لا يبلغه الشعاع لا يدركه الإحساس". وبمعنى آخر، إن كل جسم متحرك بأكثر من سرعة الضوء البالغة 300000 كلم في الثانية، لا يمكن للعين مشاهدته بأي نوع من أنواع الأجهزة البصرية، لأن الضوء لا يستقر عليه، فكيف له أن يعكسه؟. أما احتمال وجود أشياء لا يمكن للحواس إدراكها، فشيء مؤكد طبقا لما وصل إليه العلم من اكتشافات في مجال علم الذرة والفلك، لقد اكتشف هذا العلم الأخير أجراما ذات كثافة هائلة، يمكنها أن تسجن الضوء في الثقب السوداء.
لقد بين العالم الفلكي جيمس كينز في كتابه الكون الغامض " أن الأبعاد الخارجة عن نطاق العالم المادي تعطي للفلسفة أساسا للقول بوجود حقائق خارج نطاق الكون المادي المعروف". كما أن لهذا العالم رأي بخصوص المادة والإشعاع مبني على أساس أن جميع الظواهر التي تمر بنا بسرعة الضوء اعتدنا أن نسميها إشعاعا، فيحين أن الأحداث المجسمة التي تسير ببطء شديد، أو التي لا تسير بتاتا قد اعتدنا أن نسميها مادة". أما العلامة الفيزيائي الدكتور مصطفى مشرفة فيرى أن "الإشعاع الذي يصحب راصدا يسير بسرعة الضوء يبدو له هذا النور وكأنه مادة، أما الأشياء المادية التي تمر به عندئذ بسرعة النور فتكون إشعاعا". وتلك هي مظاهر النسبية في الوجود. وعلم الفيزياء ما بلغ هذا الأوج من التقدم الذي بلغه إلا عندما آمن بأصغر جزء في المادة وهو الذرة ومكوناتها مع العلم أن الذرة لا يمكن للعين أن تراها. فلو أن العلماء قالوا لن نؤمن بالذرة حتى نراها لما تقدمت العلوم وبني صرحها. وهذا الموقف من يقول لن نؤمن بالله حتى نراه، تعالى ربنا عما يصفون. ومع ذلك لما زاد التعمق في علم المادة خسئت العقول لما لاحظت أن العدم والوجود المادي أشياء نسبية لا تفصلها إلا الطاقة، كما أشارت له معادلة العلامة أينشتاين ( E=MC2 ) . وتحير العلماء بعد ذلك عندما أعادوا النظر في الذرة من جديد فتساءلوا عن طبيعة الذرة ومكوناتها، هل هي موجية ذات ذبذبة كما أشارت له معادلة ماكس بلانك الألماني ( E=Hnu )، أو جسيمات ذات كثافة ووزن. ولم يعثر العلماء على الإليكترون في الذرة، وهم يستنيرون بقوته الكهربائية، إلا بعد تحطيم الذرة في المفاعلات النووية. أما عن وجوده في بناء الذرة فلم تتم مقاربته إلا في إطار المعرفة الاحتمالية كما أظهرته أبحاث العلامة الألماني هايزنبرغ. فقد نشر عام 1927 نظرية عُرفت بقانون الشك ( Loi d'incertitude d'Einsenbg) الذي نقض مبدأ النسبية في الفيزياء الكلاسيكية، فحل الاحتمال محل الدقة، وأصبحت المظواهر الفيزيائية تفسر بتعبير الاحتمالات الرياضية، والتوزيع الإحصائي( distribution statistique ).
ومعادلات هايزنبرغ تعني أنه إذا كان قياس سرعة متحرك ما، معلوما علم اليقين، أي إذا كان مقدار الشك في السرعة يعادل الصفر، فإن مقدار الشك في وضع هذا الجسم في مكان ما يكون غير متناهي. بمعنى أن الجسم يُحتمل أن يكون في مكان ما، ويغيب عنه في نفس الوقت، مما يعني كذلك إمكان تواجد متحرك ما في أمكنة متعددة في نفس الوقت.
خلاصة القول: إن العلم دعا إلى التواضع لما أثبت أن الحقيقة العلمية هي احتمالية ونسبية، لما هناك من احتمال وجود أشياء لا يمكن أن يقع عليه الحس. وأثبت علم الفلك أخيرا أن هذا الاحتمال صار حقيقة مؤكدة في رصد بعض الأجرام السماوية التي تجذب النور بقوة يظل سجينا فيها لا يمكن لأي جهاز من الأجهزة البصرية مشاهدتها. كما أن فرض ضرورة وجود فلك أو مدار لكل متحرك صار لا يعبر عن الحقيقة كلها لإمكان تواجد متحرك في أمكنة متعددة بنفس الاحتمال. وجاءت هذه النظريات كلها لتعترف أن المادة والتجربة ليست أساسا مطلقا للمعرفة، كما اعتقده علماء القرن التاسع عشر، حيث أن أكثرهم ظن أن الكون الحقيقي إن هو إلا مادة وطاقة تنظمهما قوانين الطبيعة. وكانت النتيجة المنطقية لهذا المذهب المادي أن يكون وجودنا نحن حقيقة مادية أيضا، علينا أن نفسرها على أساس المادة والطاقة والقوانين الطبيعية. حتى أن بعض الفلاسفة قام بتفسير الإحساس البشري والعواطف البشرية، بل التفكير البشري نفسه بأنها جميعا تفاعلات كيميائية في خلايا المخ والمخيخ والنخاع. وتلك هي معالم الغرور التي نراها الآن واضحة في مجتمعاتهم، لما يوجد بالضرورة من فارق زمني بين وعي العلماء ووعي العامة. أما القرن العشرين فلقد أثمر نخبة من العلماء يتسمون بالتواضع وبالتالي هم أقرب إلى الإيمان بالغيب من غيرهم، لأن الإلحاد هو في حد ذاته غرور لا يعادله أي غرور.
لذا، كان السؤال عن الجحود أو الإيمان لا ينتج عنه إلا الجدل، وهي مسألة عقدية، الموقف الشرعي منها يستند لقوله تعالى :((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ))، وقوله عز وجل ((ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)). أما التساؤل عن صلاحية قانون من قوانين شريعة السماء، فيمكن له، عن طريق المنهاج العلمي أن يكون موضوع بحث علمي وهو ما سيقلل من حدة الغرور اللاييكي.
نعم، إن الإيمان بخالق الكون غير محتمل من لدن الجميع. ويعتبره عامة الناس مسألة اقتناع شخصي وهداية. لكن هل هذا يبرر الابتعاد عن شريعة السماء؟ وبتعبير آخر، هل موقف الشك بوجود الخالق من لدن بعض أفراد المجتمع يبرر الإطاحة بشريعة السماء، والخضوع إلى ما للبشر من أهواء؟ ما ذنب الذين يريدون أن يتقوا مصير البشرية المنحرفة؟ ما ذنب هؤلاء الذين صاروا مستضعفين وسط هذا الطوفان الهائج من المتمردين على الشريعة؟
إن موقف العقل الراجح من هذا السؤال الخطير هو الموقف العلمي الذي سيرى أن أية شريعة من الشرائع قبل رفضها أو قبولها يجب أن تدرس على ضوء العلم الكوني، وتجري عليها تجارب في المختبر إن أمكن ذلك، وتسلط عليها أضواء الموازين كلها بالدقة والصرامة التي يتطلبها الموقف، لأن الأمر حاسم في حياة البشرية. فهو قضية حياة أو فناء، تقدم أو تقهقر، عدل أو جور، حركة أو جمود. والغريب في الأمر أن هذا التحكيم للعلم المحايد بين الشرائع التي تقود البشرية اليوم لم يهتم به إلا القليل من المفكرين، أو تم التحكيم بين الشرائع الوضعية وشريعة الأديان المنحرفة، كما حدث لأهل الكتاب في عصر النهضة الصناعية وقبلها، ثم طبق هذا التحكيم على كل الأديان الأخرى فصدرت عنه تلك القوانين العلمانية لتسيير المجتمع الإنساني. والحقيقة أن هذا السؤال كان مطروحا في عهد النبوة الأولى وكان الوعي بالمشكل في كامل النضج عند السلف الصالح لما في القرآن الكريم من وضوح أمام الموقف، لقوله تعالى أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله. الشورى؛ الآية: 21. وبهذا يتضح ما فات أن أشرنا له من قبل:
· يمكن قبول العلمانية منطقيا إذا فصلت السياسة عن دين منحرف فاسد؛
· وتكون مرفوضة إذا فصلت السياسة عن دين صالح نقي لا يتنافى مع العلم والعقل والمنطق السليم.
والغباء الكبير الذي ابتلى به المسلمون، أتى إثر السقوط في كمين القرن الذي أطبق علينا تماما، وهو عدم التمييز بين الحالتين، فكانت هناك نتائج حتمية توضحت إثرها لنا الرؤية أكثر فأكثر:
· كان للعلمانية أثر حسن في تطور وتقدم مجتمعات أوروبا لأنها ثورة ضد دين فاسد منحرف أفسدته الكنيسة التي اختارت أن يكون للرب ابنا وصكوكا للغفران.
· كان للعلمانية أثر سيء في بلاد الإسلام لأنها ألغت أحكام دين لا تشوبه شائبة لأن الله عز وجل حفظ القرآن من التحريف، كما أن صريح السنة النبوية وصلنا كالماء الزلال بعد تصدي فقهاؤنا الأوائل لحمايته وتدوينه عبر القرون، مما أنتج تراثا تشريعيا يعترف به حتى أعداء الدين.
زعيم العلمانية في بلاد الإسلام أتاتورك، أراد أن يبرهن على أن تشريعات سويسرا التي اختار ستمكن شعبه من ولوج عصر التقدم الغربي فهل تم ذلك لتركيا؟ إنها كانت في مصاف الدول القوية في بداية القرن العشرين، وهاهي الآن تصنف ضمن بلدان العالم الثالث.
والمستقرئ لأحداث التاريخ المعاصر، لا بد له من الوقوف على هذه النقطة الحساسة التي اجتاحت كالطوفان كل بلاد الإسلام. ما وقع في تركيا من ثورة علي الشريعة بدأ بثورة حزب تركيا الفتاة على الحكم السياسي أيام السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1909، حيث ألغيت الخلافة وألغي منصب شيخ الإسلام، وألغيت المحاكم الشرعية، وجعل لبس القبعة إجباريا، واستبدلت الحروف العربية بالحروف اللاتينية، وكان ذلك قد قرر في محافل الماسون التي ينتمي لها معظم قادة الحزب الثائر. أما من ناحية التشريع، فقد كان الانقلاب كبيرا وسريعا كما صرح بذلك وزير العدل محمود الأسعد بك للكونت استروروغ. لقد دون في رسالته "إصلاح أنقرة": "إن الترك قصدوا إلى توفير الوقت والعناء باختيار أحد القوانين الأوروبية الحديثة وترجمته والموافقة عليه بالجملة في المجلس النيابي على نحو ما فعل نابليون بقانونه، دون مناقشة تفصيلية. وبهذه الطريقة هاهم يكسبون قانونا جاهزا مع شروحه وتفاسيره والاجتهاد الماضي بشأنه وهكذا جاء القانون المدني التركي كالسويسري مع تعديل يسير كاختلاف سن البلوغ فهي تمام سن الثامنة عشرة في تركيا، وأنها تمام العشرين في سويسرا " [10] ومنذ عام 1920 اعتبر الإسلام دين الدولة في تركيا ولكن أتاتورك جرده من شريعته، فأصبح اختصاص الدين في ناحية العقيدة، واختصاص التشريع للحزب الحاكم أو قل للقانون السويسري، فخالفوا بذلك القرآن الذي قرر أن الحكم لله وحده. وما وقع لتركيا طبق لجميع أقطار الإسلام، إلا أنه في بعضها رخص للأسرة أن تتعامل في الأحوال الشخصية بواسطة قوانين الشريعة. أما الجانب السياسي لتسيير المجتمع فقد أسند لحاكمية البشر، وألغيت أحكام الدين فيه رغم أن الإسلام يكفر من نهج هذا النهج عمدا أو تجاهلا أو خوفا من البشر.
أما في المغرب فالتحول أخذ طابع السرية والنفاق، ولم يستدع سوى ضمان استمرارية الإدارة الفرنسية بقوانينها العلمانية وسيطرتها على كافة أجهزة الدولة، كما فاتت الإشارة إليه سابقا.
ربما تم الاتفاق سرا مع النظام لاقتسام الحكم لأن ضعفه في بداية القرن أدى إلى طلب تدخل فرنسا وإسبانيا لتهدئة الثورات في مناطق السيبة، ربما تعجل المفاوضون وخاصة حزب الاستقلال الذي أراد له نصيب في الحكومة، فتم التفريط في الأرض وفي العقيدة، ربما كان المكر اليهودي الماسوني حاضرا بكل نفوذه ومخططاته، فتم الاتفاق على هوية الدولة ومرجعيتها اللاييكية. وقد تطرق الفصل الأول لهذا المنعرج الخطير بتفصيل.
إن القوانين التي قرر الله في كتابه وفي سنة نبيه عليه الصلاة والسلام وعلى آله، تظهر للعلماني وكأنها مخالفة للعقل. فمثلا قانون المن على الأمم المستضعفة إذا ظلمتها الأمم المستكبرة، هو قانون ثابت لقوله تعالى: (( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)) (القصص؛4 )، وقوله تعالى: ((وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا)) (الكهف؛8 ). هذا ما يتكرر في التاريخ بصفة مطردة، إلا أن العلماني ينكر ذلك لأنه يقرن التمكين بالقوة المادية. فهذا قانون ثابت متكرر يقع في كل مكان وفي كل زمان وحتى بالنسبة لعالم الحيوانات كالديناصورات والفصائل التي اندثرت. علوم التاريخ والجيولوجيا وغيرها زاخرة بالأدلة على صحته. ولكن العقل المادي لا يستطيع أن يضع معادلات للإحاطة بهذا الأمر، بل يخطط سياسات وقوانين للمزيد من الظلم للانزلاق رغم أنفه في مهاوي الهلاك طبقا لما قرر الله. وتلك هي الحتمية التي نجد في سنن الله، لا مفر منها إلا لمن تاب وأصلح وذلك نادرا ما يحدث بالنسبة للأمم، ندرة تؤكد القاعدة. حدث ذلك لقوم يونس وأمة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله. كما بينه قوله تعالى: (( فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ )) ( يونس؛الآية: 98 ) وقوله عز وجل في نبي الهدى : (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)) ( الأنبياء؛الآية: 106 ).
وباستقراء سنن تاريخ الإسلام نجد ندرة في ظهور أمثال عمر بن عبد العزيز، وصلاح الدين الأيوبي، ويوسف بن تاشفين، ومحمد الفاتح. وستكون إن شاء الله كرامة يفرح بها المؤمنون إذا ما أنعم الله على هذا الثغر الغربي برجوع أولي الأمر إلى السياسة الشرعية. وترقب الكرامة لا يتنافى مع استقراء القوانين الكونية والقوانين الشرعية، للتعرف على آفاق ومستقبل التمرد على تلك القوانين.
وقبل استشراف مستقبل الحكم العلماني باستقراء قوانين الطبيعة وقوانين الشريعة، لا بد من مقارنة بين أصولها ومقاصدها لكي نستنبط نظرة شمولية موحدة تجمع لنا شتات الملاحظات الميدانية.
إن العلوم الكونية قد اكتشفت أخيرا قانون الوحدة العميقة التي تربط سائر المخلوقات. فالمادة هي الطاقة والطاقة هي المادة. والطاقة بدورها يرتبها العلم الحديث في أربعة أنواع : طاقة الجاذبية؛ الطاقة الكهرومغناطيسية؛ الطاقة القوية؛ الطاقة الضعيفة. هذه الأنواع تكون موحدة بدورها عند بداية الخلق حسب نظرية الانفجار العظيم "théorie du big bang " كما اكتشف ذلك العالمان وينبرغ وعبد السلام، في أواخر الستينات من القرن العشرين. [11]
أثناء هذه الوحدة كانت درجة الحرارة تبلغ ما قدره مليون مليار مليار مليار درجة حينئذ كان الكون كله أقرب إلى العدم لأن حجمه كان لا يتعدى حجم الإلكترون وهذا هو منتهى العلم في عالم الشهادة الذي قدر عمره ما بين 10 إلى 15 مليار سنة. هذه النظرية تعرض في تواضع، تلك الحجب التي لا يمكن للعقل رفعها في مسيرته للكشف عن المجهول، توضح المقادير التي تحدد الوجود المادي في المكان والزمان مستدرجة القارئ لاكتشاف تلك الوحدة العميقة التي تجمع الخلق، وتبرهن على وحدة الخالق الذي ليس كمثله شيء. ثم إن العالم الفيزيائي يوضح كيف تظهر الثنائية في المخلوقات فهذا السالب وهذا الموجب، وهذا الفصل وهذا نقيضه، هذا الذكر وهذه الأنثى، وهذه الظلمة، وهذا النور. هذا ما يروج في عالم المادة الذي لا يزال غامضا رغم الفتوحات العلمية التي شهدها القرن العشرين والقرن الحالي. أما ما يروج في عالم الغيب الذي تفصلنا عنه الحجب فلا سبيل لمعرفته إلا عن طريق الإيمان بالوحي. والإنسان نرى أنه يخضع بدوره للثنائية فهو مزيج من الخلق والأمر، أي مزيج من عالم الشهادة وعالم الغيب. مادته من قبيل الخلق، وروحه من قبيل الأمر. مادته الأرضية تخضع للقوانين الكونية المادية؛ وروحه تخضع لقوانين عالم الغيب. قال تعالى: ( ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) )الأعراف : 54 ). الروح من عالم الأمر الذي لا يتحيز فيدخل في حكم المكان والزمان، فيجري عليه حكم القوانين المادية. والإحاطة بعالم الأمر صعبة المنال عن طريق المناهج العلمية المادية. قال تعالى مخبرا عنه: (( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)) (الاسراء-85).
إذا قارنا أحكام الشرع وسنن الكون الثابتة نجد أنها موحدة في الأصل، فكلها أمر من المشرع المطلق سبحانه. فالذي أوجد قانون الجاذبية هو بالذات من سن سنة المن على المستضعفين في عالم الخلق. إلا أن القوانين الشرعية تظهر أكثر سموا من القوانين الكونية التي تحكم المادة، لأن الإنسان أسمى من الجماد والنبات والحيوان، بروحه وعقله، ولأن الكون كله مخلوق من أجل الإنسان ومسخر له، والإنسان مخلوق لعبادة الله وحده لا شريك له. قال تعالى: (( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض)) (لقمان؛19). وقوله عز وجل : (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)) (الذاريات؛56).
والإنسان يطبق قوانين الشرع فيعيش في سمو وتطور متزن ومطرد في جميع مقوماته، وهذا بالنسبة للفرد والجماعة. وإذا أعرض عنها بعد التعرف على هديها، تطبق عليه حدا بواسطة السنن الكونية الثابتة أو الخارقة في عالم الشهادة وكذا في عالم الغيب. وينتهي في خسرانه إلى النار بالنسبة للفرد، وإلى تدمير الحضارة وزوالها، بالنسبة للجماعة المنحرفة. يسلط الله سبحانه سننه لتقويم اعوجاج البشرية التي نخرها الفساد، لإنذارها لعلها ترجع لما يقوم اعوجاجها ويضمن مسيرتها لتحقيق إنسانيتها.
ومن السنن التي يسلط الله على الجماعة المترفة المنحلة لتطبيق الحدود عليها، ندرج البعض منها متيقنين أن مسنها قادر على إصدار أحكام خارقة لا يحيط بها علمنا المادي المحدود، مثل تلك العقوبات التي سلطها الله على قوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود وقوم لوط، وقوم شعيب، وقوم فرعون وغيرهم.
إن من الحقائق العلمية الطبيعية ما يهدم بناء التفاسير المادية للتاريخ، ويحطم القوانين اللادينية، ويفتح لنا أفق تفاسير أخرى لأحداث التاريخ. نذكر منها بعض العناصر، ونربطها بمقاصد الشريعة لكي تتضح لنا العلاقة بين كلمات الله الكونية وكلماته الشرعية.
العنصر الأول يرتبط بمقصد الحفاظ على النفس. الثاني والثالث حول مقصد الحفاظ على النوع. والرابع حول الحفاظ على العقل.
العنصر الأول : العلاقة بين قانون الحفاظ على النفس وقانون الحفاظ على النسل:
بعض القوانين البيولوجية تتظافر كلها لتنفيذ حكم ثابت متكرر، يقرر أن كل الكائنات الحية على وجه الأرض، إذا وصل إسرافها إلى درجة معينة في الأكل، تتضخم أجسامها ويقل نسلها من جيل لآخر، قد يؤدي بها إلى الاندثار. هذه حقيقة معروفة في عالم النبات والحيوان وكذا الإنسان.
ففي عالم النبات يلاحظ أن الشجرة إذا جاعت كثر حملها عكس ما يحدث إذا وضعت في ظروف الإسراف في تغذيتها حيث يكبر حجمها وتخضر أوراقها ويزداد رونقها، ولكن ثمارها تقل كثيرا. ويمكن افتعال هذه الظاهرة بقطع بعض جذور الشجرة إذا استحال صرف الماء عنها لتعطيشها مثلما يستعمل في غراسة شجر الجوز في الشعب العليا الأطلسية. كما أن غصن الليمونة لما يفتعل خنقه بكسر خفيف، ينتج ثمارا أكثر مما تنتجه الغصون العادية. مما أدى ببعض التقنيات الفلاحية لافتعال هذا التجويع قبيل ظهور الثمار ثم إذا ظهرت تسقى الشجرة بسخاء لئلا تسقط تلك الثمار.
أما بالنسبة لعالم الحيوان فإن القانون يبقى سائدا من أسفل مخلوق يمكنه التناسل، إلى أعلى مخلوق وهو الإنسان. نتأكد من ذلك بالنسبة للحيوان الوحيد الخلية الذي يتوالد بالطريقة الجنسية. فمثلا حيوان البراميسيا الذي يتكاثر في المياه الضحلة والذي نلاحظه تحت المجهر، إذا وضع في بيئة متوفرة الموارد، فإنه يتكاثر بالطريقة الانشطارية المحضة. وهذا النوع من التوالد يعطي أفرادا كاملي الشبه بالخلية الأم في عملية الانقسام، بعدما تركب الكروموزومات من موارد الخلية كروموزومات أخرى شبيهة لها في كل مكوناتها. وهذا يحدث كذلك لخلايا الجسم التكاثرية. إذا بدلنا البيئة المحيطة بهذه البراميسيا كتقليل الماء والغذاء نرى في المجهر تفاعلا عجيبا: بعض هذه الحيوانات يلعب دور الإناث، والبعض الآخر يلعب دور الذكور فيقع شبه تناسل يتم على إثره إدماج نصف كروموزومات الذكر داخل الخلية الأنثى، التي تتخلى بدورها على النصف الآخر لصالح مولود جديد يرث من الأم ومن الأب. ثم يحيط هذا المولود نفسه بغشاء صلب، ويلعب دور بذرة يتم بواسطتها اجتياز الظروف الجافة، وربح شيء ما في عالم التطور، عكس ما يحدث في التكاثر الانشطاري الذي تنتج عنه صور طبق الأصل فقط. لذا يقال إن الطريقة الجنسية للتوالد تزيد من تنوع الرصيد الوراثي بالتفاصل وكذا بالطفرات أما التكاثر الانشطاري فلا يغير الرصيد الوراثي إلا بالطفرات التي غالبا ما تكون مضرة بالنوع كمثل الطفرات التي تحدث في خلايا جسم الإنسان عند ظهور ورم السرطان.
نلاحظ نفس الظاهرة عند الأسماك والطيور، فالكل يعرف أن الدجاج إذا كثر مأكله تضخم جسمه، وقل بيضه، ومربو السمك يجوعونها قبيل التناسل ثم يطعمونها بكثرة عند ظهور البيض.
أما في عالم الإنسان فإن عقلانيته تقلل من هذه الظاهرة البهيمية، كما أن شهيته تنقص أو تزيد تبعا لعوامل نفسية وعوامل أخرى. ومع ذلك نلاحظ جملة حدوثها في المجتمعات التي انحرفت عن الوسط، إذ أن نسبة الزيادات في السويد لا تعادل نسبة الزيادات في بنكلاديش، كما أن جثة المواطن الوسط الأمريكي لا تعادل وزن جسم المواطن الوسط في نيكاراكوا. هذه إذن سنة تشمل جميع المخلوقات، وقد تودي لاختفاء كامل للنوع إذا تكرر تمادي أجيال كثيرة في حالة الإسراف البهيمي الغير المميز.
العنصر الثاني من الظواهر البيولوجية أيضا: علاقة العقم بالفسق:
يلاحظ أن العقم يكون متفشيا وشبه عام عند الإناث المستمتعات بأكثر من ذكر واحد. وتفسير هذه الظاهرة يعتمد كما رأى العالم البيولوجي شريدر في كتابه "بيولوجيا الإنسان" [12] على ظاهرة التطعيم، حيث أن منويات أحد الذكور تكون لها خاصية التسرب إلى الوسط الداخلي للجسم، أي للدم، فيطعّم البدن ضد منويات أخرى، بظهور العضويات المضادة التي تقضي على ماء الذكر قبل أي تلقيح لبويضة المرأة. ولقد اقترح بعض العلماء استعمال هذه الظاهرة لتحديد النسل عوض استعمال الأقراص التي تلحق أضرارا بصحة المرأة.
العنصرالثالث: الخصوبة وتأثيرها في الرصيد الوراثي:
يرى علم الوراثة أن احتمال ظهور طفرة أو طبع جديد في مجتمع ما، يكون في تناسب طردي مع عدد أفراد الجيل، وفي تناسب عكسي مع طول مدة الجيل. بمعنى آخر يتطور المجتمع بسرعة أكثر إذا ما كثر عدد أفراد الجيل مع التزاوج المبكر، فيلاحظ أن الرصيد الوراثي يزداد صلابة وتنوعا عند هذه الجماعة، عكس ما يحدث عند أخرى قل أفراد الجيل فيها وطالت مدة استحواذه.
ويزيد احتمال ظهور الجينات القاتلة ( gènes létaux ) أو الحاملة لأمراض وراثية لما يتكرر التزاوج بين الأقرباء ( consanguinité ). غير أن عوامل البيئة تؤثر في النتيجة فلا يظهر أي تغيير وراثي ( génotype) إلا وهو متفاعل مع عوامل البيئة ( phénotype).
فمثلا كم من موهبة فكرية خنقتها الأمية؟ وكم من عبقرية حرفتها وسائل الإعلام؟ وكم من مقدرة تلاشت في بحر الإهمال؟ نعم تختفي هذه المواهب ظرفيا في الجيل نفسه، ولكن سنن الوراثة تحفظها للأجيال اللاحقة، إلى أن يأذن الله بأمره، فيجعل الله لها سببا في الظهور إلى حيز الوجود وتستفيد منها الجماعة.
العنصر الرابع: الجماعة المستضعفة والرصيد الوراثي والعقل:
ملامح العقل والإرادة تظهر في الخلق من أول خلية إلى أسمى كائن حي، فمثلا عندما تتحرك خلية الأميبيا تجاه الضوء، أو تهرب من مادة غريبة ( tropisme ) تكون قد اختارت بين أمرين لا ثالث لهما. هذه القاعدة الثنائية نجدها تتحكم في نشاط خلايا الدماغ البشري، وتبين للعلم جدواها في التطبيق في أخطر آلة صنعها الإنسان وهي العقل الإلكتروني.
دماغ الإنسان يتكون من عشرة ملايير خلية، تبدأ هذه الخلايا في العمل شيئا فشيئا مع نمو الطفل، فتكون هذه الخلايا منفصلة بعضها عن بعض، ثم تترامى فيما بينها صلات عضوية، كأنها خيوط كهربائية، ثم تتعقد هذه الشبكة وتسري خيوطها في كل الأعضاء والحواس، ناقلة معها الإشارات الكهربائية التي تأتي عبر الحواس، إثر تأثير خارجي، أو داخلي صادر من تفاعلات هرمونية. بعدها يكون رد فعل الدماغ في أخذ قرار ما.
الأسلوب نفسه استوحى منه الإنسان صنع الآلات الحاسبة: دور الخلايا تلعبه الترانزيستورات التي تتصل بينها عبر شبكة معقدة وتعمل بالقاعدة الثنائية حسب معلومات سجلت فيها من قبل. وعمل هذه الآلة يتطلب أولا جهاز لتلقي الإشارات من الخارج؛ ثانيا جهاز لخزن المعلومات في انتظار طلبها؛ ثالثا جهاز منظم للسير الكلي حسب العملية المطلوبة؛ رابعا جهاز خروج حصيلة العملية.
عقل الإنسان يعمل بنفس الأسلوب مهما تعقدت عمليات فكره، إلا أن قدراته وسيره الكلي يتم بصفة مذهلة التعقيد. ويمكن تصنيف أجهزة الدماغ، إذا أردنا تبسيط الموضوع، إلى نوعين: جهاز خارجي يتصل بالبيئة الخارجية يتلقى المعلومات ويبثها عبر الحواس والجوارح. وجهاز داخلي يكمن في الدماغ نفسه، خلاياه وشبكاته العصبية وهرموناته. حيث يتوج العمل الكلي المنسق بظهور الفكرة من القوة إلى الفعل.
من المعلوم أن الجهاز الخارجي يمكن للمجتمع أن يتحكم فيه مباشرة بواسطة التلقين وعن طريق مناهج وبرامج التربية والتعليم، وتوجيهات الإعلام، وكذلك عن طريق ضمان حرية التعبير وتفجير الطاقات والمواهب.
أما الجهاز الداخلي أي الدماغ فلا يمكن للبشر التحكم فيه مباشرة إلا عن طريق تنمية الرصيد الوراثي بتسريع تتابع الأجيال وتكثير أفراد كل جيل. فكل ما يساعد على سرعة هذا التتابع وعلى تكثير التجارب المتمثلة في كل فرد من أفراد المجتمع، فهو سائر في خط السمو بالبشرية. وهذا لا يحدث إلا عند الجماعة التي ابتعدت عن الإسراف في الشهوات كما أثبتت التجربة العلمية في الأمثلة السالفة، وخصوصا الإسراف في شهوتي البطن والفرج.
والابتعاد عن الإسراف يكون وازعه إما طبيعيا وإما جبريا وإما اختياريا.
· طبيعيا عندما تقل موارد الطبيعة كما يلاحظ في مناطق معروفة في العالم. نسبة الزيادات في السكان تكون كبيرة في البلدان التي تقل فيها الموارد الطبيعية أو يتعثر التوزيع العادل لها، كبلدان العالم الثالث.
· جبريا عندما تستأثر جماعة بخيرات بيئة من البيئات دون غيرها، فيعم الفقر فئة عريضة من المجتمع.
· وإراديا عندما تختار جماعة من الجماعات تحت وازع أدبي أو ديني العيش البسيط الذي يحارب بقوانينه مظاهر الترف واحتكار الأقوات. يلاحظ ذلك في بداية الدولة المبنية على أسس دينية، أو في الحركات الجديدة التي تدعو إلى المحافظة على البيئة وثرواتها الطبيعية.
هكذا يتبين أن أمانة السمو المتواصل بالإنسان بتنمية قدراته العقلية الداخلية تحملها الأمم المستضعفة، وهكذا، تعمل كل القوانين الكونية وتتظافر جهودها لتطبيق الأمر السماوي: ((ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)) ( القصص-4 ). أما الجماعات المستكبرة المسرفة، فإن كل القوانين الكونية تتوحد ضدها لتطبق عليها الشرع لقوله تعالى: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " الإسراء؛ 16
بعد الوعي بهذه الحقائق البسيطة قد يفهم مما سبق أنني أسعى لابتكار نظرية أخرى لتفسير التاريخ كمثل التفسير المادي وغيره. كل ما أسعى لتوضيحه هو أن السنن التي تتحكم في الكون المادي مهما بلغت من التعقيد والدقة تبدو وكأنها قوانين تطبيقية للشرع المنزل على الرسل عليهم الصلاة والسلام. والرسالة نزلت بتمامها وكمالها عندما نضج عقل البشرية لتلقيها وتدوينها، وقد آن الأوان للإنسانية أن تطبقها. فلقد طبق الشرع في عهد النبوة وعهد الخلفاء الراشدين وكان أثر ذلك عظيما على الإنسانية جمعاء. لكن سرعان ما بدأت تنحط عندما طغى طوفان النسيان والترف. وفي عصرنا هذا ظهرت معالم في الطريق تدل على أن البشرية وصل عقلها لاستيعاب أمر السماء، وضرورة تطبيقه إذا أرادت أن تمر بسلام عبر تحديات التدمير النووي وغيره.
إن الحضارة الغربية تعيش قمة استهلاكها للرصيد الوراثي الذي تم تكديسه في القرون الوسطى. هذا الرصيد هو حاليا في طور التلاشي وعدم التجدد لأن سرطان الأنانية والذاتية تغلب على القوم، فأسرفوا باختيار إرادتهم في إرضاء الشهوات فظهرت المعالم الأولى للوعيد: تفشي السمنة، وتقلص النسل، وانتشار العقم.
لقد لاحظ المعهد الفرنسي للدراسات الديموغرافية ( INED ) أنه لا توجد أية علاقة بين تقلص النسل والتشريع المنظم للإجهاض. واستدل على ذلك بقوله إن البلدان التي تمنع الإجهاض تشهد بدورها نفس التقهقر في الزيادات. كما لاحظ مدير هذه المؤسسة أن هذا المرض ليست له علاقة بعقاقير ووسائل تحديد النسل. وقال: " ونحن إذا فرضنا أن فرنسا ألغت نهائيا هذه الوسائل بواسطة تشريع صارم فسوف لن يحدث أي تغيير في نسبة انخفاض النسل". واستدل على ذلك بما وقع لبلدان نهجت هذا النهج فمنعت تحديد النسل والإجهاض.
لذا قال أحد علماء التاريخ الفرنسي بيير شونو( Pierre Chaunu): " إن كل سنة تمر إلا وتقربنا من اللحظة التي سيتضح لنا أن حضارتنا تحتضر". أما جان فوراستي، فإنه عبر عن هذا الحدث بأنه انتحار جماعي. أما ميشال دوبري فقد رأى بدوره أن فرنسا تنهار بسبب تقلص الزيادات.
أما عن الحلول التي اتخذتها الدول المستكبرة، فبعضها يدل على الجهل البليد لجذور المشكل. فهم في فرنسا يشجعون النسل بإغراءات مالية مهمة . هذا هو حل الجاهلية الغربية العصرية التي تدور دائما في فلك الحل المادي، وإن كان لهم وعي بمخلفات الترف لاختاروا الحل المعاكس تماما، أي لقللوا من جنون الترف والسطو على خيرات الغير. ثم إن الجاهلية الغربية تفرض نفسها قسرا لتحديد نسل المسلمين في العالم بوسائل أكثر بلادة، ولو أرادت أن تحصل على نتيجة مرضية، لكفت عن الاستيلاء على خيرات الشعوب، ليعم الترف فيها فيتقلص نسلها طبيعيا. فهل هي مستعدة لذلك؟ كلا وتلك هي الحتمية التي تفرض على المترفين حتمية من نوع جديد لا تمت بصلة بحتمية الثورة الحمراء أو البيضاء إنها ضريبة السطو على ثروات الآخرين واحتكار أقوات العالم.
أما تدهور الرصيد الوراثي، فتظهر معالمه في تدهور القدرات الأدبية والفكرية، ويتجلى ذلك واضحا عند زعماء السياسة في الدول المستكبرة. ونكتفي بشهادة واحد من مفكريهم الذي يقول: "إن أكثر ما يعرض الأمم العصرية للخطر هو النقص العقلي والأدبي الذي يعاني منها الزعماء السياسيون (الكسيس كاريل: الإنسان ذلك المجهول). ومن المعالم الأخرى التهافت على الفساد والدوابية والانحلال والخواء الروحي والقلق والأمراض النفسية. رمز ذلك نراه في الانتحار الجماعي الذي حدث في غوييانا بأمريكا سنة 1979 حيث انتحرت جماعة يبلغ عدد أفرادها ما يقرب من ألف شخص دفعة واحدة بعد تناول المخدرات. وقد نجح الإعلام الغربي في خنق هذا الحدث الخطير. أما تدهور الأخلاق فحدث ولا حرج تتابعت مراحل الانزلاق بسرعة فائقة فمن الاستمتاع الحرام بالمرأة وما حدث من رواج في سوقه، إلى مرحلة اللواط والسحاق ثم مرحلة الاستمتاع بالأحداث، فمرحلة الاستمتاع بالكلاب أمام الملأ، وأخيرا الاستمتاع بالمحارم والأقارب. ولا أظن أن تكون هناك مرحلة أخرى سوى نزول الصاعقة النووية عليهم، أعاذنا الله من بأسها.
تدهور الرصيد الوراثي والفكري ظهر كذلك في الكتلة الاشتراكية عندما تداعي بنيان الشيوعية فعدلت أهدافها أولا بإطلاق سراح الدين والملكية الخاصة في نطاق محدود، مبرهنة بذلك على زيف المذهب المادي. لكن رغم التعديلات لم تفطن للمرض الحقيقي، واشتغلت بالتصدي للنقيض الروحي في بولندة وآسيا الوسطى وأفغانستان.
إن ابتلاء المسلمين العرب على ضوء القوانين الكونية والشرعية التي تفسر التاريخ، يظهر كبيرا في هذه المرحلة من عصرهم. فتنة الأعراض عن الشريعة وتدفق ثروات النفط، استدرج القوم إلى الترف والإسراف والفجور، فظهرت عندهم السمنة وكاد العقم أن يصيب نساءهم كالأمم الأخرى التي رخصت أو تساهلت مع حرفة الدعارة، لولا الحماية التي لازال الإسلام الفردي يضمن للأسر العريقة المحافظة على الدين.
ونلاحظ أن تدهور النسل بدأ فعلا يطرق باب الجماعات المترفة في هذه الأمة، كما أن نسبة العقم بسبب الدعارة عند النساء بدأت ترتفع في بعض الأقطار التي يدافع حكامها بحرارة على تفسيق المرأة وتحريفها عن دورها الطبيعي. وأوشكت تلك الدول أن تجمع إذن مساوئ المستضعفين ومساوئ المستكبرين في تكتل قابل للانفجار في أي وقت، إذ أن الفئة المترفة تستعين بقوى خارجية لتظل مستحوذة على الفئة المستضعفة رغم الغليان الفكري والاستعداد الطبيعي الذي يؤهل هذه الأخيرة لتعويض الطائفة المترفة في تحمل الأمانة بدورها، هذا هو الوضع القائم حاليا وملخصه أن طائفة مستكبرة مترفة اختارت المنهج اللاديني للحكم على رقاب فئة كثيرة أغرتها وسائل الإعلام فصورت لها أن الرجوع إلى الحكم السماوي لا يمكن بل هو مستحيل، لأنه هو التقهقر والتخلف الذي لن يسكت عنه المجتمع الدولي . لكن طائفة قليلة تكشف الحقيقة وهي حاليا تشهد غليانا فكريا لا مثيل له في التاريخ الحديث، ونراها تحتل جبهة الأحداث في كل أقطار الإسلام.
وإذا رجعنا قرونا قليلة إلى الوراء، وسلطنا الأضواء على رقعة أوسع، نرى أن تدهور النسل في البلدان العربية كان مخيفا خلال القرن التاسع عشر الميلادي، وكان مهولا وانتهى بفاجعة في اسبانيا خلال القرن الخامس عشر، حيث طرد ما تبقى من المسلمين، بعدما قل نسلهم بسبب الترف والفسق الذي انتشر في دويلات ملوك الطوائف.
وكاد البرتغاليون أن يستوطنوا بلاد المغرب لولا لطف الله، لأن عدد السكان كان ضعيف جدا بالنسبة لما كان عليه قبل القرن الخامس عشر الميلادي.
أما الأقطار الأوربية فإنها شاهدت ازدهارا سكنيا في هذه الحقبة، أي منذ القرن الخامس عشر الميلادي، إلى بداية القرن العشرين الميلادي، حيث تم إعمار قارات بأكملها: أمريكا وأستراليا، وبدأنا اليوم نلاحظ العكس، حيث أن تزايد السكان بالضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط وتقهقره بالشمال أصبح مقلقا بالنسبة لدول أوربا، فاستنفرت طائفة منهم لمساعدة الجنوب على التخطيط لتحديد النسل، مبرهنة على ذلك بضروريات اقتصادية واجتماعية وفي نفس الوقت يشجع النسل في الشمال، وبالطبع امتثل وكلاء الاستعمار للوصفة، فخططوا ببلادة لتحديد النسل صراحة أو لتنظيم الأسرة، والتنظيم هو التحديد السري المنافق، وكلاهما دعوة مخالفة لأحكام الشرع ومنافية لقوانين الكون الثابتة لقوله تعالى:
· ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم. الأنعام ؛ 161
· ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم . الإسراء؛ 31
وقول الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى آله: "تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم".
وهي أحكام تفيد التحريم الصريح لتحديد النسل تحت مبررات أو ضروريات اقتصادية، لأنها وضعيات اجتماعية عابرة، سببها تسيير فاشل للمجتمع من طرف أنصار اللادينية الذين فتحوا الأبواب لعوامل التجويع والسطو من طرف الاستكبار الخارجي والداخلي.
كما أن خطر تقهقر النسل في البلدان الإسلامية يأتي كذلك تبعا لعوامل الترف والتنعم المسرف عند الطبقة المترفة، وذلك طبقا للقوانين البيولوجية التي فات أن أشرنا لها. والسياسة الرشيدة في قضية النسل هي الرجوع إلى الشريعة التي تدعونا إلى :
· التصدي للترف والدعوة لحياة البساطة ومحاربة الدعارة وذلك لرفع الكابوس الطبيعي لنقص الزيادات الذي يلاحظ عند المسرفين في شهوتي البطن والفرج؛
· التصدي للفقر المقذع الذي يدعو إلى قتل النسل خشية إملاق وإلى العقم الاصطناعي بواسطة الوسائل التي تروج لها بعض الجهات المشبوهة .
إن أهم حدث طبع تاريخ اليهود المعاصر، هو اختيارهم فلسطين كمستقر لإنهاء حالة التيه والترحال الذي طبع حياتهم منذ البداية مع سيدنا يعقوب وسيدنا يوسف وسيدنا موسى عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
لقد اقترحت عليهم بريطانيا رقع أرضية شاسعة أكثر ثراء وخصبا في أمريكا الجنوبية وغيرها، حيث يمكنهم إقامة كيان مستقل. لكنهم اختاروا شظف العيش والبساطة في صحراء النقب وما جاورها، ولعلهم فهموا الدرس أكثر من غيرهم من أن الترف هو هازم الحضارات. لكن لماذا لم يحدث عندهم ازدياد في النسل مثلما حدث عند الأمم المستضعفة أو الأمم التي تختار حياة البساطة تحت وازع أدبي أو ديني؟ السر يكمن في عنصريتهم العمياء التي ترغمهم على التزاوج بينهم في دوائر القرابة المتكررة مع السنين، مما سبب لهم عقما أو تقلصا في نمو السكان، ليس فقط عن طريق الترف الكثير والإسراف في الشهوات بل كذلك عن طريق صلات الدم المتكررة ( consanguinité) التي تساير عنصريتهم وزهوهم بشعبهم المختار، وذلك رغم إطلاعهم على معادلات علم الوراثة، وعلى الحقائق التي تبرهن على أن العنصرية وعلاقة الزواج الضيقة المتكررة يمكن لها أن تنجب عباقرة عظام، وتلك حالات استثنائية، ولكن الغالب في علاقات الدم المتكررة يكون حصيلتها العقم أو إنجاب جماعات معتوهة يتغلب عليها البخل والأنانية والصفات المفرزة للحقد إزاء الغير والكيد في الظلام ضد البشرية جمعاء.
إلا أن الفرصة التاريخية التي أتيحت لهم أخيرا بجمع شتاتهم في فلسطين، عدلت ظرفيا من هذه الظاهرة، حيث تم لجماعات بعيدة في المكان أن تتناسل بينها. نفس الحدث الذي وقع لشعوب أوربا لما اختلطت في العالم الجديد أمريكا وأستراليا في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، فامتزج دم الروس والأرمن والطليان والإغريق والصاكسون وغيرهم. لذا وقع التمكين لإسرائيل كما وقع لأمريكا، وسيزداد هذا التمكين ومعه مدد أمريكا بقدر ما تتمادى الشعوب العربية في ترفها. واليهود يعرفون هذه الحقائق بل يشجعونها بكل الوسائل، فسخروا لذلك النساء وما يدور في فلكهن من جنون أزياء العري والموضة السافرة، وبيوت الماكياج والدعارة، ودور الغناء والرقص وسينما الجنس، والمخدرات والخمر، وسخروا لذلك السلاح، فأصبحوا يضرمون نيران الحرب في كل مكان لتزداد تجارتهم رواجا.
لذا تم ترحيل قبائل الفلاشا اليهودية الأثيوبية عبر السودان، في أواخر سنة 1984 لدفع طاقة الإنجاب عند اليهود. كما تخطط الصهيونية العالمية لترحيل يهود روسيا لنفس الغرض.
يبدو واضحا أن العنصر البشري له أهمية خاصة عندهم، لأنهم يعقدون آمالا عريضة على ظهور مواهب وعبقريات إثر تزاوج يهودية روسية بيهودي حبشي، أو يهودية من العراق ويهودي أصله من المغرب، أو يهودية من إسبانيا بيهودي من يهود إصفهان ... وقس على ذلك إلى أن يعثروا على المسيح الدجال!
والواقع أن هذه الحالة التي تعيشها البشرية من جرّاء إفساد الصهاينة لها، هي حالة استثنائية سوف لن تدوم إلا بقدر ما يمدهم البشر من مدد طبقا لقوله تعالى : ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله، وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق. ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. آل عمران؛ 112
فالمدد لا يأتيهم من أمريكا فحسب، بل البشرية كلها تمدهم، حتى بعض زعماء العرب، لأنها وقعت في مخطط إفسادهم طبقا لمحتوى بروتوكولات حكماء صهيون. والتمكين الاستثنائي آتاهم أيضا من ظاهرة بزوغ مواهب وعبقريات مؤثرة كما يبرز إثر التناسل داخل دوائر الدم الضيقة، إذا تمكن اجتماع جينات مميزة. لكن هذه الأوصاف سرعان ما تتلاشى في الأجيال اللاحقة، مما يرجعهم إلى حالة الذلة والمسكنة التي اختاروا التيه في مغاورها باختيار من أنفسهم، لأن الله لا يظلم أحدا. هذا ولقد انبهر الناس بهذه المواهب الاستثنائية، مما أثر على زعيم من زعماء العرب فاقترح على المال العربي أن ينضم للعقل والذكاء اليهودي للتمازج في توليد حضارة إنسانية لا تساويها حضارة! ويبرر استهزاءا اقتراحه العبقري بقوله تعالى: ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. فصلت ؛ 34 متجاهلا قوله سبحانه وتعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم. المائدة؛ 51 .
وبالفعل وقع التمازج والتطبيع مع خونة العرب، وأقيمت حضارة القردة والسفهاء، وكانت صفقات بيع القرد وحلقات الضحك على من اشتراه وكل من يريد توضيحا فعليه بحانة خمار يهودي، يسقي سفيها من سفهاء العرب!
إن حالة الاستثناء التي يعيشها اليهود ستزول عندما يستعد المسلمون لقطع المدد عليهم، وعلى السفهاء من مترفي العرب، تحقيقا لمقصد الحفاظ على المال الذي قررته قوانين الشريعة، لقوله تعالى : ولا توتوا السفهاء أموالكم. النساء؛ 5 .
وعندما يظهر الحجاب عند المرأة المسلمة، ويحارب العري في الشواطئ وتغلق الحانات، وبيوت الدعارة...وبكلمة أعم، عندما تعلن حرب لا هوادة فيها على اللادينية الحالية التي توجه المجتمع المفتون...
والمعركة الفاصلة لا بد أن تبدأ من جهاد أنفسنا لقطع المدد عن المفسدين لأن شركهم وخديعتهم أحكمت الخناق علينا حتى عايشنا الفتنة وشربت منها عروقنا، وخدّرتنا، فصعب علينا الافتطام والإقلاع. وهذه الفتنة لا تخرج بدورها عن مقررات حكم الله تعالى، لأن المدد الذي يصدر من العرب إلى اليهود، هو فتنة لكلا الطرفين طبقا لما يشير له القرآن الكريم:
فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء: الأنعام،
ونرى اليوم أن كل شيء سخره الله لليهود ليبتليهم بذلك. سخر لهم القوى الإعلامية والاقتصادية والتكنولوجية والسياسة. كل شيء بدون استثناء
حتى إذا فرحوا بما أوتوا نفس الآية السابقة
وهم الآن باستيلائهم العقلي والمالي على أمريكا، يسيرون العالم بواسطتها،
أخذناهم بغتة، فإذا هم مبلسون، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين. الأنعام؛ 45 و46
وذلك هو جزاء من يحمل كتاب الله وهو التوراة، حمل الحمير للأسفار، فيسعى في الأرض فسادا، لقوله عز وجل:
مثل الذين يحملون التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا. الجمعة؛ 5
وهكذا تحق كلمة الله عليهم، فيلتحقون بوضعهم الرئيسي المقرر في قوله تعالى:
وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، إن ربك لسريع العقاب، وإنه لغفور رحيم. الأعراف ؛ 167
وفي هذه المدة من تاريخنا، بعد احتلال للقدس الشريف جاوز الأربعين عاما، واجتياح لرقع شاسعة من بلاد الشام، ظهرت عوارض الجزر والتقهقر والانهزام على يد المسلمين الشيعة في جنوب لبنان، الذين ندبهم الله لكسر شوكة الظلم، بعدما امتنع حكام المسلمين السنة من فتح باب الجهاد المقدس لشعوبها. ولا يمكن لليهود أن يتقدموا أكثر مما بلغوه عند اجتياحهم لسيناء والجولان وجنوب لبنان لأنهم بذلك سيتفوقون على نبي الله سليمان عليه السلام، وذلك مستحيل لأن الله استجاب دعاء سليمان لما دعا ربه، كما جاء في القرآن:
قال ربي اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب. سورة صاد؛ الآية 34 . أما ملك سليمان فخريطته معروفة، ومجده بلغ أقصاه عندما زارته ملكة مصر والحبشة. وقد زار إسرائيل حاكم مصر المقتول أنور السادات سنة 1979، وهي بداية انحطاط ملك الصهاينة.
وقد يتساءل البعض ومن حقهم ذلك : ما هو الحل الملائم اعتبارا لقوانين الطبيعة والشريعة بالنسبة لهذا الشعب الغريب الذي قاسى من ويلات التهجير وقهر الجبابرة عبر التاريخ؟ الجواب موجود في القرآن بالنسبة لليهود ولغيرهم، ولا يمكن لأحد أن يكون أرحم بهم من ربهم ومن قوانينه الكونية والشرعية. .. فإذا تخلوا عن عوامل الإفساد للبشرية فلا شك أنهم سينالون حبلا ومددا من الله ومن الناس. وعوامل الإفساد هذه التي يتحتم عليهم اجتنابها هي
الإسراف والترف والفسق والتناسل داخل حلقات القرابة المتكررة والعنصرية والزهو بشعبهم المختار، وذلك لاحترام قانوني الحفاظ على النفس والحفاظ على النوع.
تحريف الكلم عن مواقعه ونشر إعلام مضلل ومشوش ملؤه الأكاذيب والإشاعات التي تخدر عقل البشرية وتعيق الإدراك السليم للأشياء، وكفهم على ترويج المخدرات والخمور وذلك لاحترام قانون الحفاظ على العقل؛
المعاملات الربوية والاحتكارية وعبادة العجل الذهبي بكنز الذهب ومنعه من الرواج وتسخير البشر من خلال التداين بالربا لخدمتهم دون تحمل عناء الكد وكلفة السعي وراء الرزق المشروع، وباجتناب ذلك سيسخر الله لهم الأعمال الصناعية المنتجة، كما سخر الله المعادن لآل داوود. وهذا هو شرط احترام قانون الحفاظ على ثروات البيئة.
الاعتراف والإيمان بالرسالة المحمدية التي تذكرهم بالأمانة وترشدهم لما اختلفوا فيه، عندما زور أحبارهم تعاليم الرسائل السماوية وشريعة التوراة، وهذا هو شرط احترام قانون الحفاظ على الدين.
وبعد استيفاء شروط مقاصد الشريعة المنزلة في التوراة والإنجيل والقرآن، يمكنهم أن ينعموا بطيب العيش بين بني عمومتهم في فلسطين وغيرها، أو في أقطار العالم القديم والجديد، وأرض الله واسعة...
وبكلمة موجزة، لا يمن الله عليهم إلا إذا رجعوا لتحقيق لمقاصد الدين التي أثبتتها تعاليم التوراة والإنجيل والقرآن. أما إذا تمادوا في غيهم فوعيد الله لهم بالمرصاد ولو أفلحوا في جر البشرية إلى نار الحروب النووية، طبقا لقوله عز وجل:
كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله. المائدة ؛ 64
وهم يتهيأون لها بمقتضي عقيدة ملحمة هرمجدون ( Armageddon )، أو ظهرت الخوارق الكونية على يد كبيرهم المسيح الدجال.
ذلك هو الحل الوحيد بالنسبة لكل البشرية وبالنسبة لهذا الجنس الغريب، الذي فات له أن قاد البشرية قيادة راشدة في عهد أنبياء بني إسرائيل. فلما تخلى يهود عن الأمانة، حملها بنو عمومتهم العرب، وهم بدورهم تخلوا عنها لما استكانوا وخضعوا لحكم العلمانية. ويستعد غيرهم من المسلمين العجم لتعويضهم في مهمة حمل الرسالة، لقوله عز وجل : وتلك الأيام نداولها بين الناس. آل عمران؛ 140 . لأن الله لا يظلم جنس من الأجناس، فكلهم خاضع لعدالته، لقوله تعالى : وما ربك بظلام للعبيد فصلت ؛ 46.
أوهام المذاهب الوضعية للسمو بالإنسان
تطبيق الشريعة للسمو المتواصل بالإنسان
تطور المجتمع المفتون على ضوء القوانين الكونية والشرعية
كيف يمكن لمجتمع أن يخرج من الحلقة المفرغة التي ميزت تاريخ الأمم؟ كيف يمكن التحرر من دورات التاريخ بين نقطتي التقدم والتأخر، الصعود والهبوط، هل من سبيل لسلوك الخط الصاعد والاستمرار فيه للسمو المتواصل بالبشرية؟ ثم ما هي القيم التي تميز السمو والارتقاء، وما هي المعايير التي تشير إلى الاتجاه المعاكس؟
لنفرض جدلا أن التكنولوجيا الحية توصلت إلى تحكم كامل في قوانين علم الوراثة وهندستها (génie génétique )، ولم يبق إلا قرار تحديد أهداف الانتقاء، ما هي الصفات التي ستحدد في عمليات انتقاء الإنسان الكامل؟ ما هو المصير الذي سيقرره الإنسان لنفسه؟ إن العلم عاجز على إدراك ذلك الهدف الذي يسعى نحوه تطور الإنسان. والمشكل حقيقة ليس من اختصاص تقانات الانتقاء، لأنها مجرد آلة مطيعة لبرمجة عقل الإنسان. تبقى أهداف الانتقاء من اختصاص العقل الإنساني فهو الذي يقرر مثلا أن الانتقاء في قطيع من البقر سيكون للبقرة الحلوب أو السريعة النمو. فلنفرض جدلا أن عالما وراثيا أراد أن يحسن نسل الإنسانية ما هو يا ترى الهدف الذي سيقع عليه اختياره ؟ هدف الجثة الضخمة، أو اللون الأبيض، أو هدف الذكاء الخارق، أو هدف الشعور الروحاني الحاد أو الشعور الصوفي المتواجد، أو مزيج من هذا وذاك ؟ ثم لنفرض أن هذا الهدف قد تقرر وأقيمت أبناك لمنويات العباقرة والمختارين الحاملين للجينات المنتقاة، ثم تحكمت التقنيات في التلقيح الأنبوبي وصناعة الجنين خارج الرحم، هل يستطيع الإنسان أن يتنبأ بمصير هؤلاء الأشخاص المنتقين وسلوكهم عبر الأجيال ومدى مقاومتهم للأمراض ومدى صحتهم النفسية والأدبية؟ إلى غير ذلك من علامات الاستفهام المثيرة للجدل، والتي تبقى من اختصاص العلوم الفلسفية الغير المضبوطة، لذا كانت اقتراحات فلسفية شتى لإعادة صياغة الإنسان، منها الاقتراحات النخبوية الأمريكية، كما يراها الفيلسوف الأمريكي ألكسيس كاريل حين قال: " إن مزاولة تحسين النسل الحرة تستطيع أن تؤدي لا إلى أفراد أقوى فحسب، بل أيضا إلى إنجاب سلالات وهبت مزيدا من قوة الاحتمال والذكاء والشجاعة. وهذه السلالات يجب أن تكون من طبقة الأرستقراطية التي يحتمل أن يظهر الرجال العظماء من بينها. ونرى بطبيعة الحال أن هذا الاقتراح العنصري سيؤدي إلى طريق مسدود لاسيما إذا لجأت الطائفة الملونة من السود والهنود، أو الطائفة الإسبانية في أمريكا إلى نفس الأسلوب . ويقول أيضا مشيرا إلى استخدام الانعكاسات الشرطية التي اكتشفها الروسي بافلوف : "تتوقف قيمة الإنسان على قدرته على مواجهة المواقف المعاكسة بسرعة، ودون بذل مجهود، ويمكن بلوغ مثل هذه اليقظة بإنشاء أكثر ما يستطاع من أنواع الانعكاسات وردود الفعل الغريزية وكلما كان الفرد صغيرا، سهل توليد الانعكاسات، ففي استطاعة الطفل أن يكدس كنوزا هائلة من المعلومات بصفة غير واعية كما أنه أسهل تدريبا، بل إنه لا يقارن في ذلك حتى بكلب الحراسة الذكي، كما أنه يستطيع أن يتعلم كيف يركض دون أن يتعب وكيف يسقط كالقط وكيف يتسلق ويسبح ويقف ويمشي بانسجام ويلاحظ الأشياء بدقة ويستيقظ بسرعة، ويتكلم عدة لغات ويطيع ويهاجم، ويدافع عن نفسه ويستعمل يديه بتناسق في تأدية مختلف أنواع العمل وتخلق العادات الأدبية بطريقة مماثلة فالكلام نفسها تتعلم ألا تسرق فالأمانة والإخلاص والشجاعة تنمو بواسطة العمليات نفسها التي تستخدم في تكوين الانعكاسات أي بغير محاجة أو مناقشة أو شرح صفوة القول يجب أن يُكيَّف الأطفال والتكييف، تبعا لفن تعليم بافلوف ، لايزد على أنه دائرة الانعكاسات المشتركة فهو يكرر بطريقة علمية وفي شكل عصري الإجراءات التي يستخدمها مدربو الكلاب وقتا طويلا".
نرى من خلال هذه الاقتراحات لإعادة صياغة الإنسان، إن الكاتب انتهى في نهاية خلطه بين النخبوية والعنصرية البافلوفية، والقول بأن الأخلاق ليست إلا مجرد انعكاسات شرطية، انتهى في الأخير إلى صياغة إنسان على صورة كلب. وبالفعل إن أفكار هذا الفيلسوف هي التي صاغت الإنسان الغربي المعاصر ويزيد قائلا والخطابُ ليس موجها لكل البشرية طبعا: "إن فصل الأطفال الموهوبين من أسرهم على هذا النحو يمكنهم في إظهار قوتهم الوراثية كذلك يوجد في الأسر الأوربية الأرستقراطية أفرادا على درجة عظيمة من الحيوية، إذ أن سلالة رجال الحروب الصليبية لم تنقرض بعد". أما الشعور الروحي فلقد رتبه الفيلسوف في مصاف العاطفة والشعور الفني وقال : " إن أصحاب هذه الشعور الذين لا يصمد حسن إدراكهم في كفاح الحياة العصرية، يجب أن يحاطوا بالرعاية ويهيأ لهم بيئة أكثر ملائمة لنمو صفاتهم المميزة والإفادة منها أما ذوي الجهات والمشوهين والمجرمين فقد قرر التخلص منهم بكيفية اقتصادية وإنسانية بقتلهم بالغاز المناسب في مؤسسات صغيرة لهذا الغرض ولقد مات هذا الطبيب الفيلسوف بعدما رأى بأم عينيه خلاصة الوصفة التي وصفها لمرض الحضارة الغربية، وذلك سنة 1945 أثناء الحرب العالمية الثانية.
ظلت أمريكا ممتثلة لهذه الوصفة، وتم لها أن تستمر طويلا في خط التطور المادي المطرد، والاصطدام وشيك بينها وبين شعوب ودول نهجت نفس النهج، مما جعل الرئيس الفرنسي السابق جيسكار دستان يفتح أول مؤتمر صحفي عقد حول الوضع الدولي بكلمة متشائمة قال فيها "العالم بائس، وهو بائس لأنه لا يعرف إلى أين المسير، ولأنه يعرف أنه إذا كان يعرف، فما هذا إلا لكي يكتشف أنه في طريق الكارثة". وارتفعت مع ذلك أصوات متفائلة وضعت المشكل في معادلات عالمية كما صار له السياسي الذي اعتزل السياسة ليخدم الإنسانية بوصفة أخرى غير وصفة الاكتئاب والبؤس أو وصفة السويرمان على صورة كلب. ظن جان جاك سرفان شريبر في كتابه التحدي العالمي أن مجتمع الغد سينجو من الكارثة إذا هو برع في تفجير الطاقة الإعلامية بمفهومها العام الواسع الذي يذهب من العقل الإلكتروني والكمبيوتر إلى الإعلام الوراثي وتطبيقاته في الهندسة الوراثية ولاحظ هذا الكاتب أن الدخول في غد أفضل للبشرية سيتحقق عندما تصعد دول العالم الثالث إلى مستوى السوق العالمية، وعندما تحصل على التكنولوجيا المتقدمة التي لاحتاج للكثير من الطاقة، وإنما لسليسيوم الرَّمل، لصناعة الكمبيوتر ،ثم للعقل البشري لمنهجة العقل الإلكتروني ويرى كذلك أن مع استعمال الإنسان الآلي سيكون هناك احتياج إلى اليد العاملة المتطورة، وبرهن على ذلك بما وقع لليابان، وما صارت له من احتياج أكثر فأكثر للإنسان رغم توسعها في استعمال الإنسان الآلي، بعد تخطي العصر الصناعي الذي كان يكتفي باستعمال الآلة ثم رأى أن استعمال الصناعات البيولوجية التي وتستعمل الهندسة الوراثية ليس إلا تفجيرا أو للطاقة الإعلامية التي تحتوي عليها جينات الحيوانات الوحيدة الخلية أو غيرها والكاتب يريد أن يستفيد من كل الإشارات الإعلامية، إلا أنه في ما يتعلق بالإعلام السماوي الذي ينادي من أعماق تاريخ البشرية ومع أعماق قلوبها، لا يرى في هذه الإشارات إلا مجرد تراث ثقافي يجب لينا احترامه والاحتفاظ عليه، كما نحتفظ بالفلكلور والفن ،وتراه لا يعطي للأبعاد الإنسانية إلا الأبعاد المتمثلة في ثروة الإعلام والمعرفة والعقل أما البعد الروحي فيرتبه مع العقل ليس إلا ثم تراه لا يتكلم عن السر في تقهقر حضارة الغرب إلا في ما يتعلق بسوء استعمال الآلة المتطورة في شكل الكمبيوتر فهو بذلك تطغى عليه النظرة الآلية اللادينية المادية، ويحلم بإمكانيات تمديد تسلطها على البشرية لوقت أطول ويقول إن سبب تطور البشرية راجع لحسن استعمال الآلة والواقع أن هذه الوصفة وإن كان فيها جانب من الصواب، جاءت متأخرة جدا لأن السيادة على عالم التكنولوجيا طارت كما يطير العصفور من القفص من يد فرنسا والغرب عموما إنها وصفة يائسة وكئيبة لأن التكنولوجيا الفرنسية غير قابلة للتصدير لأن مرض الشيخوخة أصابها كما أصاب طاقتها البشرية حيث بلغت نسبة الشيخوخة بين سكانها حدودا مخيفة والقوة العاملة التي تؤخر ساعة التداعي الحضاري والانهيار الاقتصادي هي تلك القوى البشرية التي تمدهم بها بسخاء رغم عنصريتها الصليبية هذه العنصرية لازالت تحذر العالم من المفاعلات النووية في بعض أقطار الإسلام فكيف لها أن تكون ذات مصداقية تذكر في دعوتها لإقامة نظام اقتصادي مصدر للتكنولوجيا كما ينادي به ج ج س شريبر ؟ ثم إنها دعوة بليدة لأن العقلاء يعرفون أن احتكار العلم والتكنولوجيا هو أمر مستحيل لأنها ثروة بشرية شاركت كل الأمم في وضع لبناتها عبر مسيرة الإنسانية وعبر الأجيال، وأحسن دليل على ذلك هو ما لليابان حاليا من سيادة مطلقة في هذا الميدان، وفي ذلك عبرة لمن يعتبر هذا البلد النائي عن منابع الحضارة التقليدية المنطوي على نفسه طيلة قرون طويلة، في رقعة صغيرة بدون موارد طبيعية، هاهو اليوم يتزعم العالم في التكنولوجيا ومجال العلم لازالت الحضارة الغربية تفرض وصايتها على هذا التراث الإنساني، ولازالت أهدافها هي رفع المستوى المادي للأفراد في إطار مجتمعات الاستهلاك الذي لا يعرف حدا للإسراف والجشع لأن ذلك ربما يرغمهم على وضع تعريف وصياغة أخرى للإنسان غير التعريف والصياغة التي أقاموا عليه بنيانهم المادي اللاديني أو لا يكفي شريبر هذا العدد الهائل من البشر الذين تحولوا آلات للاستهلاك تحت ضغط الدعاية والموضة والإعلام ؟ أوَلا تكفيه هذه الإنسانية المبرمجة ببرامج اللادينية والبعيدة عن الإعلام السماوي، الذي يصلح ما أفسده الناس عبر تاريخ البشرية ؟ أوَلا تكفيه هذه المجتمعات التي خدرتها حضارة الإسراف والمهددة بقنابل التسابق على أسلحة الدمار النووي والبيولوجي ؟
فيلسوف غربي آخر يرى عكس ما رأى شريبر لأنه يملك أفقا أكثر اتساعا فلقد حذر توينبي في ختام كتابه "المغامرة الكبرى للإنسانية" قائلا إن الإنسان يمكن له أن يغتال الأرض وما عليها بإسرافه بالقوة التكنولوجية الدائمة التطور ويمكن له في خط موازي أن يحرر هذه الأرض إذا تغلب على جشعه الفتاك الذي يدعو للانتحار، هذا الجشع الذي يمثل ثمن الحياة في الأرض الذي تؤديه جميع المخلوقات بما فيها الإنسان."
وهذا هو السؤال الغامض لذي يواجه البشر اليوم، ومع ذلك لازالت أهداف هذه الحضارة هي رفع المستوى المادي للأفراد بأي وسيلة من الوسائل ولم تكن حتى الآن أية دعوة لمحاربة الإسراف والجشع بل لا زالت سياسة الغاب قائمة في كل شراستها وجاهليتها كأن البشرية استحال عليها التحكم في مصيرها شأنها شأن الأنواع الحيوانية الأخرى التي اندثرت.
في مجتمعات الاستهلاك اللبرالية، الجشع عندها طبيعي، بل ضروري فهو الذي يدعم قواعد حضارتها فلا يمكن لبنيانها أن يقوم إلا إذا كان الإسراف قائما، وكلما زاد الإسراف والجشع، زاد الإنتاج حسب زعمهم حتى وإن أدى الجشع إلى الاستيلاء قهرا على الأسواق ومواقع المواد الخام من طاقة ومعادن هي في ملك الدول المستضعفة فلقد طاش عقلهم لما اكتشفوا سهولة نهب هذه الموارد الغير المتجددة، فدخلوا في دوامة البذخ البشع المتمثل في صورة ذلك الأمريكي الذي يستقل لوحده سيارة ضخمة تنفث من ورائها الغازات السامة إثر احتراق كميات ثمينة وهائلة من الطاقة النفطية ثم تراه يهرع عند سماع صفارت الإنذار إلى المخابئ الجماعية لوضع أقنعة التنفس الاصطناعي، لأن تسمم الهواء وصل إلى درجة الخطر.
سيقول قائل أن دول الاستكبار سوف تقوم اعوجاج ما اختل في حضارتها في طغيانها المادي وسيقوم مصلحون منهم يدعون للتقليل من الإسراف في إرضاء الشهوات الجسدية. فعلا حدث ذلك، فلقد قام فيهم دعاة لمحاربة الإسراف ومخلفاته من إفساد البيئة ودعوا لحياة البساطة ولكن هؤلاء المصلحين يفتقرون لشريعة واضحة فعالة لبلوغ تلك الأهداف وحتى برامجهم تبرهن على أنهم لم يحيطوا بالمشكل وإحاطة شاملة نعم، لقد ظهرت منظمات ونوادي تجمع فئات من الشباب شعرت غريزيا وحدسيا بالخطر الذي يهدد مجتمعاتهم، فتكتلت لحماية البيئة أو حماية المستهلك، أو ضد سباق التسلح النووي. وتطورت هذه الجمعيات إلى أحزاب في بعض البلدان، لكن هذا التيار الذي أدرك اختلال العلاقات المادية بين الإنسان والطبيعة، لم يستطع مقاومة تيارات الجشع المادي لذا كان الفشل ذريعا عندما أرادت أن تتحول إلى قوة سياسية حاكمة. ولا عجب في ذلك: فبناء المجتمع الغربي كله يعتمد على الاستهلاك المتصاعد طردا ؛ وفنون المائدة والجنس هي مقومات سعادتهم . فلا يمكن للمسلم أن يتصور فرحتهم عند فحص وصفة الطعام في أحد المطاعم إلى غير ذلك من الظواهر التي تفضي إلى ظهور العقم والانقراض وكذلك الأعراض المرضية المختلفة، كالسمنة والسرطان وأمراض القلب والشرايين وأمراض السيدا وغيرها.
كانت البشرية مسيرة في تطورها ضمن قوانين علم البيئة والوراثة طبق الخط الذي رسمه لها مدير حكيم، لا طبق العشوائية التي فسر بها داروين الفيلسوف نظرية التطور. وقبل ظهور رسائل السماء كانت البشرية أمة واحدة تسيرها هذه القوانين الطبيعية. قال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين البقرة. مظ ثم تنزلت الرسائل السماوية لتوضح الخط المستقيم الذي يجب أن تنهجه الأمم لتثبت في سيرها نحو السمو المتواصل. تتابعت الإشارات السماوية، والبشائر الإلهية لإظهار هذه الحقائق مدعمة بمعجزات عندما كانت الإنسانية في ريعان شباب عقلها، ثم بدعوة صريحة للعقل وللرجوع إلى الذاكرة الجماعية وإلى التاريخ للاتعاظ بأحداثه. وها هو العلم يفسر هذه الأحداث، فيكشف بدوره عن مدى انسجام دعوة السماء مع الكون بأكمله. وتوضح أن المرحلة المسيرة التي جمعتنا مع الأنعام قبل بداية تمييز عقلنا، تلتها المرحلة المخيرة بين تقدم البشرية إلى الأمام، طبق الخط السليم والصراط القويم، أو الخسران في الدنيا والآخرة. وهكذا صار السمو المتواصل في متناول الإرادة الإنسانية. لكن رغم بلوغ العقل إلى الدرجة التي هو عليها، تاه مرارا في جاهلية النسيان.
نعم قد يكون هناك مجتمع يسير ضمن الحدود التي تراعي قوانين الشريعة والطبيعة في جانب من حياته، صدفة وبدون قصد، فيحدث له التمكين في دنياه، وتنتشر قيمه ويبسط سيطرته على أمم تداعي بنيانها نتيجة الإفراط في الترف الهادم للحضارات.
إنها الظاهرة التي نعتناها بقانون المن على المستضعفين. قانون جاء لتطبيق إرادة مدبر أمر السماء والأرض عز وجل: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين؟ القصص ب.
ربما استلهم منه ماركس ولينين نظرياتهم الفلسفية فتكهنوا بالتمكين للجماهير المستضعفة، وكان الأمر كذلك بالنسبة لنصف سكان العالم حاليا. لكنهم أخطئوا خطأ ذريعا في تحليلهم لأسباب التمكين، حيث رتبوها في عوامل اقتصادية محضة، فانتهوا إلى صياغة مجتمع مستحيل لأن من أهداف مشروعهم أن يشمل الترف كل أفراد المجتمع، وأن تحطم الأسرة التي تحمي المرأة، وتلك هي أسباب تقهقر النسل، وطول استحواذ الجيل، وهي سمات المجتمع الراكد الذي لن يصمد طويلا.
وظهرت أخيرا دعوة خجولة تحمل على الإسراف والتلوث الحاصلين في مجتمعات الاستهلاك الغربية، وتدعوا للمحافظة على البيئة وكذا لحياة التقلل والبساطة، حتى أن طائفة ذهبت في غلوها للاكتفاء بالتغذية النباتية. ثم إن طائفة منهم تخصصت في معارضات سياسات التسلح النووي، وتلك دعوة علاجية عجزت حتى عن التوقيع، فكيف لها أن تقترح منهاجا لتغيير الإنسان؟
من الممكن لتلك الحركات أن تلتقي مع المنهاج النبوي لتغيير المجتمع في بعض الملامح، وتلك هي عوامل القوة فيها. ثم إن اعتمادها على العلوم الكونية في صياغة بعض قوانينها، يمكن لنا الاستفادة منه لإرساء قواعد فهم تجديدي لفقه التغيير المجتمعي.
من هذه الزاوية يمكن فتح باب الحوار مع هاتين الطائفتين: طائفة المستضعفين الذين كاد الكفر أن يبتلعهم بإغراء تعميم الترف تحت بريق العدالة الاجتماعية ؛ ثم طائفة البيئويين الذين فهموا أن الاستهلاك المسرف وما ينتج عنه من إفساد وتلوث، هو الخطر الذي يهدد مجتمعاتهم المستحوذة على ثروات الكون.
والحوار يكون منطلقه تلك الآيات التي توضح لنا أسباب الفساد ونتائجه ومصيره: قول ربنا المدبر الخبير:
((ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)) "الروم؛ 41 "
وقوله: (( فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم، واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين)) هود؛ 116 ".
وقوله تعالى : (( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى سعي في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد)) "البقرة؛ 205 ".
إن كل نظرية علمية لابد لها من الخضوع للمنهج العلمي بالخصوص في مرحلة مقارنة ما تتنبأ به وبما يحدث في الواقع، فإذا صدقت التنبؤات كسبت النظرية تلك القيمة العلمية التي تبعدها عن التخبط الفلسفي.
إذا قل الترف ورجعت أمة من الأمم إلى حياة البساطة والتقلل هل يزداد نسلها؟ إذا اختفت الدعارة عند نساء أمة من الأمم هل تقل نسبة العقم فيهن ؟ِ إذا كثر النسل وتسارع تتابع الأجيال في أمة من الأمم هل تظهر ملامح الحيوية والذكاء وتذهب ملامح الركود والخمول فيها ؟. إذا تخالطت الأجناس البعيدة جغرافيا، هل يزيد الرصيد الوراثي تنوعا وصلابة ؟ وهل يحدث العكس إذا وقع التزاوج داخل حلقات القرابة وتكرر ؟
هذه الحقائق الطبيعية يؤكدها المنهج العلمي التجريبي وعلوم الوراثة ويمكن لكل راغب أن يجري التجارب ليتأكد من مصداقيتها العلمية وجريان حكمها الثابت على الفصائل والأنواع من أسفل النبات إلى أعلى الحيوان. الاختلاف يبدأ والأمور تتعقد عند محاولة تطبيقها في علم الاجتماع المملوء بالأفكار المسبقة والحواجز المذهبية التي لا تمت بصلة مع الموقف العلمي. تتعقد الأمور كثيرا بتعقد النفس البشرية ويتعدد الأهواء والأرباب كل حزب بما لديهم فرحون . الروم
وتتعالى الأصوات تريد فرض نفسها بمجرد صراخها وهرائها، غير عابئة بما يقول العلم، وساخرة مما يقول الدين. وهذا هو النوع الإعلامي يصفه العليم الخبير بقوله تعالى : (( فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث)) "الأعراف؛ 176 "
وتتلوها أو تواكبها أصوات البلادة التي تخلط بين أهوائها والحقيقة السرمدية التي تطبقها الحقيقة الكونية، وتظن أن نظرتها هي المحور الذي تدور حوله كل يقينيات الكون. وهذه بالذات هي الأصوات التي يذمها ربنا الحكيم العزيز:(( إن أنكر الأصوات لصوت الحمير)) " لقمان؛ 19 " .
ناهيك عن الأصوات المقلدة الببغاوية التي تجتر النظريات المعتوهة رافعة إياها إلى مصاف اليقينيات الكبرى لأنها من قول ذلك العالم أو هذا، وكأن هؤلاء معصومون من الخطأ. وتلك هي أصوات العابثين في مستنقع العمالة الفكرية.
سياسة الدنيا باللادينية لا يقوم انحرافها إلا عبر الحدود التي تقام عليها بواسطة قوانين الطبيعة وقوانين الشريعة. اللادينية تساعد على نمو أمراض البشرية، كتلك الأمراض التي تسبب الموت الحضاري والتي ذكرناها آنفا. ذهبت في انحرافها إلى تغيير الطبيعة البشرية، فشجعت الشذوذ الجنسي ليصبح مذهبا سياسيا يساعد أو يفشل الحملات الانتخابية لهذا أو ذاك المرشح للرئاسة. وأصبح الإعلام يصف المتحامل على هذا الانحراف بالرجعية والتخلف والظلامية.
يسخر الله قوانينه الكونية إذا عطل الحكام تتطبيق قوانينه الشرعية، فتظهر الطفرات على الفيروسات، فيظهر فيروس متخصص في إنذار هؤلاء المسرفين. فيروس السيدا الذي يصيبهم بمرض فقدان المناعة، يقلل من عوامل وقاية أجسامهم ضد جنود لا يرونها : جحافل المكروبات المحيطة بهم من كل جانب. هذا هو الإنذار، والعذاب الأدنى الذي أنبأنا به الرسول عليه الصلاة والسلام . أمراض خبيثة لم تكن في أسلافهم إن ظهرت فيهم الفاحشة.
أما العذاب الأكبر الذي دمر قوم لوط في صودوميا فموعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب ؟ إن لم تعم التوبة، سوف تتناثر الأشلاء تحت الأنقاض إثر الزلازل أو القنابل النووية. هذا هو التنبؤ الذي يمكن تصوره في النظرية التي تستخرج من قوانين الشرع حكما يطبق بواسطة السنن الكونية. من هذه السنن تلك المعادلات الفيزيائيّة والقوانين النووية والطاقية التي طبقها الإنسان في صنع القنابل النووية. وكذلك قوانين تحرك قطع القشرة الأرضية وتصادمها، مخلفة صدوع وشقوق وزلازل وبراكين مثل الصدوع التي نشاهدها متجهة من الصومال إلى البحر الميت، وللتذكير كانت صدوميا قرية قوم لوط بجوارها، أو ما نشاهده ممتدا من أكادير إلى تونس، وقد شجعوا فيها السياحة الجنسية المختصة باغتصاب الأطفال. وكذلك تلك الفجوة الحية التي حان تحرك الأرض بجوارها فجوة سان فرانسيسكو، ولوس أنجلوس، حيث نجد نفوذا كبيرا للجمعيات الشاذة في السياسة والحكم.
لقد رأينا فيما سبق أن الكيان المادي للإنسان يخضع لقوانين الطبيعة كسائرالكائنات الحية الأخرى. وناقشنا جانبا من التوقعات المستقبلية التي يمكن تصورها مجردة عن المقومات العقلية والروحية التي تميز الإنسان عن الحيوانات الأخرى. في مجال العقل رأينا بصفة مجملة كيف يزيد الله بسطة في العقل للمستضعفين، إثر تنوع الرصيد الوراثي الذي تتيحه سرعة تجدد الأجيال وكثرة الإنجاب، التي تميز المجتمع الذي اجتنب الترف والإسراف. وعرضنا كذلك تلك القوانين على ضوء أحكام الشرع وظهر لنا مدى الانسجام بينها، أو على الأرجح تبين مدى استعداد القوانين الكونية كلها لتطبيق أحكام الشرع، ولتحقيق التنبؤات الشرعية المستقبلية لتطور البشرية. والقصد من التنبؤات الشرعية، تلك التنبؤات المستخرجة من الكتاب والسنة. منها ماقد تحقق بالفعل، ومنها ما هو محيط بنا من كل جانب، ومنها ما لم يأت زمانه. ومنها أيضا ما يتكلم على نظام الحكم والخلافة والجهاز التشريعي، ومنها ما يخبرنا على المشاكل الاجتماعية والفتن والقلاقل تحت الأنظمة اللادينية، وكذا القضايا المصيرية الكبرى كضياع القدس واسترداده، ونصرة الدين على يد إخوان سلمان الفارسي، بعد ظهور أمراض الترف والفاحشة عند العرب إثر تدفق المال، إلى غير ذلك من التنبؤات الشرعيّة القطعية.
إن مصداقية أي نظرية من النظريات العلمية تتوقف على قوتها التنبؤية التي يفرضها المنهج العلمي. هذا الطرح المنهجي كان واضحا عند علماء الإسلام. فمنذ عشرة قرون، عمم حجة الإسلام أبو حامد الغزالي المنهج التجريبي في العلوم اليقينية، ليشمل على علم الظواهرالاجتماعية. وغاب ذلك على علماء الغرب لأن رصد نتائج التجربة في عالم الظواهر الاجتماعية يتطلب مدة طويلة. سند ذلك ماجاء في كتابه "المنقد من الضلال" قوله: " وأعضد قولي بتجربة ما قاله - أي ما قال النبي صلى الله عليه وسلم- في العبادات وتأثيرها في تصفية القلوب، وكيف صدق في قوله من عمل بما علم ورثة الله علم ما لم يعلم. وكيف صدق قوله: "من أعان ظالما سلطه الله عليه"،... فإذا جربت ذلك في ألف وألفين وآلاف، حصل لك علم ضروري لاتتماري فيه، فمن ذلك الطريق فأطلب اليقين بالنبوة، لا من قلب العصا ثعبانا، وشق القمر، فإذا ذلك إذا نظرت إليه وحده ولم تنضم إليه القرائن الكثيرة الخارجة عن الحصر، ربما ظننت أنه سحر".
أما تكهنات القوانين العلمية القطعية التي تثبتها التجربة، فهي من سنن الكون الداخلة تحت لواء كلمات الله الكونية التي لاتتبدل، لقوله تعالى : سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا. كالتنبؤ بمفعول لقاح، أو بتمدد الزئبق تحت تأثير الحرارة. فالشرع والعلم المضبوط هي المرجعية الصحيحة لكل قانون ومخطط وهدف وغاية لسياسة الدنيا بالدين.
والمنطلق هو واقع مسير بأحكام اللادينية البعيدة عن الموضوعية العلمية والمناهضة لأحكام الله. هذا الواقع لايخرج بدوره عن تنبؤات الشرع إنه واقع الفتنة والبلاء والتبعية الفكرية للغرب، ورمزه الأكبر ضياع القدس. وهو كما يصفه النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله: "إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة، حل بها البلاء. فقيل: وما هن يا رسول الله ؟ قال : إذا كان المغنم دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وأطاع الرجل زوجته وعق أمه، وبر صديقه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره وشربت الخمور، ولبس الحرير، واتخذت القينات يعني المغنيات والمعازف أي آلات الطرب ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء، أو خسفا، أو مسخا، رواه الترميذي، عن علي كرم الله وجهه .
إن هدف الجيل المسؤول عن اللادينية هو تقفي أثر الغرب في كل شيء بدون تمييز، أو قل على الأرجح تقفي الآثار السيئة واجتناب كل ما من شأنه أن يأتي بخير لهذه الأمة. قال صلى الله عليه وسلم : " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا يارسول الله، اليهود والنصارى ؟ قال فمن؟" والحديث مخرج من الصحيحين. والمعنى أننا في تابعية عمياء لهم خصوصا، في الأمور اللامعقولة.
وتقليدهم قد يسري في العلماء وفي العباد وفي الحكام وفي عامة الناس.
تقليد أحبار اليهود يظهر عند بعض العلماء والمحدثين، يظهرون بعض الأحاديث ويخفون البعض، كمن يرخص اللادينية ولايراها ظلما ولامعصية ولاكفرا، أو من يأمرون بطاعة السلطة اللادينية بسرد أحاديث صحيحة في طاعة السلطان، ويكتمون الأحاديث التي تقول "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" ولاتلك الآيات التي تكفر من لم يحكم بما أنزل الله معتقدا عدم صلاحية الشرع لهذا العصر.
أما العباد أصحاب الذوق والسلوك الديني فابتلاؤهم يأتي إثر الميل إلى زيغ العيسوية التي تعتقد الحلول والاتحاد، وانصرافهم إلى الرهبانية التي لاتهتم بأمور الدنيا، تاركة تسيير شؤون الأمة في يد اللادينية المارقة عن الدين.
أما الحكام فقد تبعوهم في سياسة الشأن العام بالقوانين اللادينية المتمردة على الشريعة. فإن ادعى أحدهم أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه أواستهان به مع تيقنه أنه حكم الله، فهو كافر. أما إذا اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاص ويسمى كافرا كفرا مجازيا، أو كفرأ أصغر. وإن جهل حكم الله مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه فهذا مخطئ له أجر على اجتهاده كما جاء في العقيدة الطحاوية. أما من ترك الشريعة ليرضي اليهود والنصارى ويخضع لحكمهم في ما يسمى القانون الدولي، حتى فيما يخالف صريح الشريعة، فهذا متبع لملتهم لقوله تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم. أو أصبح واحد منهم لقول الله تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾ [المائدة: 51]،
المقاومة من أعلا: هكذا بكل بساطة؟
المؤهلون لحمل أعباء التغيير
مسألة تأطير المستضعفين
النموذج الواعي بهازم الحضارات
التخطيط للتغيير وفقه الواقع
جحور التبعية وسبيل الخروج منها
الشاذ الذي يعضض القاعدة
سبل التغيير تبدو واضحة وسهلة في ظاهر الأمر، إذ يقول البعض نعلنها ثورة على اللادينية وأحكامها الزائفة، فنستبدل قوانين التسيير في مجتمعاتنا العلمانية، بقوانين شرعية منسجمة مع الكون نفجر ثورة على الفكرة والقوانين لاعلى شخص من الأشخاص أو جماعة من الجماعات. هؤلاء يتعهدهم الشرع بعناية الطبيب الدي يداوي مرضا عضالا والمريض ليس من المعقول أن نلومه على مرضه بل نصف له الدواء ونحثه على تجرعه ولو كان مرا، ونبين له أسباب مرضه للابتعاد من التيارات الموبوءة، أو مناطق التلوث، أو مستنقع المكروبات... وقس على ذلك. لكن هذا يستدعي وجود الطرفين: المريض الذي يعرض نفسه للتداوي، والطبيب المختص في استئصال الداء. أما إذا لم يعترف المريض بمرضه ولم يعرض نفسه على الطبيب، أو إذا أخطأ الطبيب في تشخيص عاهات بني جلدته، أو كيف يتم العلاج، فالأمر ليس بالهين... وهذا بالذات مايكون سببا في ظهور العنف والمواجهة بين شيع المسلمين التي زرع بينها الشيطان بذور سوء التفاهم المؤدي إلى مواجهات ما كان لها أن تكون. والأحرى بهم أن يتعرفوا على كيد أعداء الدين المحاربين للإسلام فيقوموا قومة رجل واحد ضدهم. وبالفعل، نرى بأم أعيننا في هذه المدة أن أي حاكم من حكام المسلمين يركن قليلا إلى تطبيق الشريعة أو مجرد ماينوي ذلك، تتكالب عليه قوى الكفر العلماني وتتصدى لمشروعه بشتى الوسائل. نقول هذا لنستهلك نيات حسن الظن بولاة أمرالمسلمين، وإلا فلماذا لايتركوا الأمر للأمة لتقول كلمتها، لسد الطريق على المستكبرين ؟ سيناريو بسيط أنا ولي أمر هذه الدولة المسلمة رجعت إلى شريعة الإسلام، لأن الأمة جمعاء أرادت ذلك حسب الاستفتاء الذي أقيم. فرنسا أو أمريكا تريد أن تعاقب الشعب على قراره ؟ أقطع معها العلاقة وأطرد كل الجواسيس الذين كنت على علم منهم. المحيطين بي من كل جانب وأجند شعبي ليأخذ الحذر من الخطر الخارجي وأستغل هذه التعبئة والحماس العام لاعادة تربية أمتي، وبناء صرحها، وليكن ما كان وانتهى الأمر هكذا نستغل الرسالة النبوية لتصير رحمة ونتفادى الفتن الداخلية التي ترغم على تناحر الإخوة أما إذا أُرغِمنا على المناضلة والفداء لرد هجوم الكفار فسيكون ذلك جهادا في سبيل الله، وشتان بين الجهاد لرد غزو الظالمين، والذي شرعه لنا ربنا وجعل أجره لا يضاهى، والفتنة التي تشعل الحرب بين المسلمين. صريع الجهاد في أعلى مراتب الجنة، وصريع الفتنة في النار، خصوصا إذا ناضل مع الفئة الباغية طبقا لما جاء في الخبر إذا التقى المسلمان بسلاحهما، فالقاتل والمقتول في النار :
وستكون إن شاء الله كرامة يفرح بها المؤمنون إذا ما أنعم الله على هذا الثغر الغربي للإسلام برجوع أولي الأمر إلى السياسة الشرعية. لكن وكما فاتت الإشارة له من قبل، مختبر التاريخ الإسلامي يخبرنا بندرة ظهور حكام عظام من صنف عمر بن عبد العزيز، وصلاح الدين الأيوبي، ويوسف بن تاشفين، ومحمد الفاتح. وترقب الكرامة لا يتنافى مع استقراء القوانين الكونية والقوانين الشرعية، التي تخبرنا أن الطبقة الحاكمة غالبا ما تكون سجينة قيود الترف والفسق والفساد، فهي غير مرشحة ولا مرغوبة ولا مؤهلة لقيادة التمرد على سلطان الفساد العلماني. والذين يقومون بالمهمة حسب قوانين المن على المستضعفين التي ناقشناها من قبل، هم الذين ظلموا تحت جور حكم اللادينية.
ينبغي تحرير قانون المن على المستضعفين من أسر الفكر اليساري، وتفسيق الفلسفة المادية الجدلية. وكذلك من سراب حلول ديموقراطية اللادينية، التي لم تدق أبوابنا إلا لتلغي الشورى الإسلامية.
الجدلية التي يكشفها لنا ديننا، هي من نوع آخر: إنه جدل بين الطبقة المترفة التي تحتال على الطبقة المستضعفة فتستعبدها وتفرض عليها هيمنة فكرية لادينية تخدم مصالحها بتعطيل الحدود والحقوق. وتذم الطبقة المستضعفة التي ركنت إلى حياة الخنوع والاستسلام دون مقاومة. يبرزها قوله تعالى: ((... ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مومنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ؟ بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له إندادا وأسروا الندامة لما راوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا وهل يجزون إلا ماكانوا يعلمون ؟ وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون)) "سبا ؛ 31-34 "
وقال تعالى في نفس السياق: (( إن الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم ؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ؟ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا)) "النساء ؛ 97 "
إنها حجة أهل النار من المستضعفين الذين جعلوا الاستضعاف ذريعة لاتباع المستكبرين في تمردهم على شرع الله في الدنيا. وهي حجة لن تكون لها أي قيمة يوم الحساب لأن الله أمر المستضعفين برفض ظلم العلمانية، والخروج من أرضها، إن اقتضى الأمر. ووعد المهاجر في سبيله بالسعة في الرزق والأجر الكبير في الدنيا والآخرة.
سخر الله لتحقيق موعود المن على المستضعفين تلك السنن الكونية الثابتة المتحكمة في المستكبرين: يستحوذون على الثروات فيحتكرون ويجمعون ويسرفون فيتقلص نسلهم وتطول أعمار أجيالهم فتقل عناصر التجدد فيهم ويضعف الرصيد الوراثي بعكس ما يحدث للمستضعفين. ويسهل بعد حين على هؤلاء التفوق على المستكبرين خصوصا في القدرات الإبداعية وطاقات التكيف مع الظروف الصعبة.
التمكين الأرضي للمستضعفين قانون يجري حكمه على المسلمين وغيرالمسلمين، لأن الدنيا لاتساوي شيئا عند الله لقوله تعالى ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا، والآخرة عند ربك للمتقين الزخرف إلى
لقد استغل دهاة الفكر اليساري الصهيوني هذا القانون المطلق ليكون جسرا للكفر. فرأوا أن قهر الشعوب والاستهانة بهم من طرف حكام الاستبداد هو ضغط مسبب للانفجار، مما يطرق قضية البديل. والبديل المطلوب لابد أن يتكلم عن العدالة الاجتماعية وعلى محاربة الإسراف وعلى التصدي للأنانية وغير ذلك من المثل العليا، وهذا كله خير لكنهم نهجوا لهذه المثل العليا طريق معاكسة للطريق التي رسمها لها الله خططوا لها لتكون في إطار الكفر بالله، والإيمان بالطواغيت. والأحداث كلها مخطط لها لدفع بلداننا لاتباع أنصار اليسار أو اليمين، باسم الديموقراطية العلمانية.
ولايمكن أن نتصور حرصهم على تلميع وتبرئة المواطنين اليساريين والعلمانيين الذي تم إعدادهم لتنفيذ مخططهم المناهض للصحوة الإسلامية. هؤلاء العملاء ضحوا بشعبيتهم طكتيكيا في سبيل تولي المناصب القيادية لأجهزة الدولة في انتظار تسليمهم زمام الأمور كلية لبلوغ هدفهم الاستراتيجي وهو نشر المذاهب المحاربة ليس فقط للشريعة، وإنما كذلك لعقيدة التوحيد والإيمان بالله.
أما المسلم المستضعف الذي يريد نفس الحقوق، فلا يرى من هذه الديمقراطية اللادينية إلا ماكيافالية مراوغة، احتالت على الشعوب والحكام، وزيفت الحقائق للمسلمين، فصورت الصحوة الإسلامية وكأنها الخطر الأسود الذي سيدمر البشرية.
لذا فالتأطير الإسلامي للمستضعفين لن يكون منحة أو هدية من الغرب ووكلائه المحليين. لأن نظامهم بني بأكمله على الأسس العلمانية التي تحارب الشريعة وعدلها الاجتماعي. التأطير سيكون تلقائيا من خلال السلوك والتربية والقدوة الحسنة. ويكون خاصة بتجسيد تلك التقويمات التي اتفقت عليها الطبيعة والشريعة، والتي تحقق موعود المن على المستضعفين واستخلافهم على المترفين.
التأطير الواعي بأخطار الترف والفساد والفسق، ربما يندر في الميدان من يمثله في زماننا هذا، بالكيفية التي تجعل منه منهاجا وبرنامجا وهندسة وتكنولوجيا للتغيير.
ولربما اتجهنا في بحثنا على هذا النموذج إلى عهد النبوة والخلافة الراشدة للتنقيب على دعائمه الأصلية.
الدعامة الأولى: تستند لأمر نبوي ملزم : يقتضي الاقتداء بهدي النبوة وهدي الخلفاء الراشدين من بعد النبوة في أمر تأطير العمل السياسي وإدارة اختلاف المسلمين، طبقا لقوله صلى الله عليه وسلم في أواخر عمره: " قد تركتم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لايزيغ عنها إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهددين عضوا عليها بالنواجد، وعليكم بالطاعة وإن كان عبدا حبشيا، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد." أخرجه احمد وابن ماجة وأبو داود والحاكم عن عرباض بن سارية رضي الله عنه
الدعامة الثانية: الحذر من انهيار المستقبل وتداعي البنيان بسبب تسلط المترفين الفاسقين على أجهزة النظام الحاكم. ولم تظهر معالم الذهنية المترفة الفاسدة إلا في زمن الخليفة الرابع علي كرم الله وجهه، لذا فنموذجه هو النموذج الشرعي الذي يلزمنا اتباعه استنادا للدعامة الأولى: وجوب اتباع الخلفاء الراشدين، واعتبارا لمعاصرته لبداية الانهيار بسبب تسلط الترف على بعض الولاة.
لقد قام عليّ قومته المنسجمة مع تعاليم الدين وقوانين الكون، لما حذر من مغبات الإسراف والأنانية والجشع المادي وحذر من بطانة الشر التي لايهمها إلا الحرص على السلطة والجاه والثروة، متناسية تعاليم السنة النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: "إنا لا نولي هذا الأمر من سأله ولامن حرص عليه". وقوله:" إن بعدكم قوم يشهدون ولايستشهدون، ويخونون ولايؤتمنون، وينذرون ولايفون، ويظهر فيهم السمن.
فظهرت واضحة نظرته صلى الله عليه وسلم بعين الغيب لتلك الشرذمة المسرفة في الأخذ من خيرات الدنيا لتلبية شهواتها المريضة حتى ظهر فيها السمن، وهو بداية الأعراض التي فات أن أشرنا لها في ما سبق.
كان موقف الإمام علي رضي الله عنه منسجما مع تعاليم الدين وسنن الكون لما ساند المستضعفين في تذمرهم من استحواذ طبقة على أخرى بالخيرات التي فتح الله بها على الأمة، لكن لم يساندهم في أساليب العنف التي استعملوا لأخذ حقوقهم ،لأن تعاليم الدين لاتسمح بذلك مادام الخليفة خاضعا لله وشريعته، مقيما للصلاة. وكان قتل الخليفة عثمان الذريعة التي استغلها معاوية للحفاظ على جاهه وقيصريته في الشام، وللتملص من مبايعة علي رضي الله عنه، وذلك لما أعلن أنه ولي الخليفة الشهيد الذي أعطى له حق المطالبة بدمه الزكي الطاهر. لكن علي رضي الله عنه أفشل ادعاءات معاوية بحجج واضحة أظهرت للعام والخاص، أنه انفصالي وطالب ملك ودنيا، لاطالب إنصاف للشهيد. لقد طالب علي بإقامة الحد على قتلة عثمان، ولم يبايعه فقال له علي "بايع ثم طالب"، لأن الحدود لايقيمها إلا ولي الأمر المعترف له بالبيعة. وهناك بدأ المنعرج الخطير في تاريخ المسلمين، الذي أدى إلى الانكسار التاريخي لما صارت الخلافة ملكا دشنه معاوية بتوريث ابنه يزيد.
لقد أقبلت الدنيا بحذافيرها على الرعيل الأول، وتدفقت الأموال من الأمصار المفتوحة بشكل لم تعهده الجزيرة العربية قط في تاريخها القديم، فهرول إليها الناس، ورجعت الغرائز إلى مألوفها البهيمي، فماذا كان موقف علي رضي الله عنه من هذا الطوفان الذي شتت الناس عنه ؟ قال كرم الله وجهه : " ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمرية، ومن طعمه بقرصيه ألا وإنكم لاتقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد، فوالله ماكنزت من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولاأعددت لبالي ثوبي طمرا، ولاحزت من أرضها شبرا، ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لاطمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثا وأكباد حرى، وأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر. وكأني بقائلهم يقول : إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان، ألا و إن الشجرة البرية أصلب عودا، والروائع الخضرة أرق جلودا، والنباتات البدوية أقوى وقودا وأبطأ خمودا. والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها. نهج البلاغة لعلي بن أبي طالب.
أنه موقف من أدرك آفة الشره والجشع على الإنسانية جمعاء وآفة الإمساك عن الإنفاق والتوزيع بالقسط للأرزاق. ومن روائع مأثوراته ماقاله في علامات فناء الدول وأسبابها، قوله كرم الله وجهه: "وإنما يوتى خراب الأرض من أعواز أهلها وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع"، أي تطلع الولاة إلى جمع المال طمعا وجشعا .وقوله : "ولكنني آسى أن يلي هذه الأمة سفهاؤها وفجارها فيتخذوا المال دولا" أي يتداولونه بينهم في غير حق، "وعباده خولا" أي عبيدا . وقوله "ظلم الضعيف أفحش الظلم، والظلم يدعو إلى السيف وخاب من حمل ظلما"
من كتاب روائع نهج البلاغة للإمام علي، ص 166 الشروق ترتيب وتقديم جورج جرداف، الذي رأى في كتاب له عنوانه بين علي والثورة .
ومن كلامه للصحابي أبي ذر الغفاري لما أخرجه الخليفة عثمان رضي الله عنه إلى الربذة وهو موضع قفر على قرب من المدينة، وبعث من ينادي في الناس: ألا يكلم أحد أبا ذر ولايشيعه، وقد تحماه الناس إلا ابن أبي طالب، وعقيلا أخاه، والحسن والحسين وعمارا، فقال له علي: " يا أبا ذر، إنك غضبت لله فارج من غضبت له، وإن القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عما منعوك لو أن السماوات والأرض كانتا على عبد رتقا ثم اتقى الله، لجعل الله له منها مخرجا. لايؤنسنك إلا الحق ولايوحشنك إلا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبوك، ولو قرضت منها لأمنوك.
ل ب ىك!:··..ب·: الفرنسية ، أن تعاليم عليّ وحمْلَتَه على الترف لم يستيقظ لها الغرب إلا قبيل الثورة الفرنسية نفس المصدر ص ض، ف
لقد ظن بعض القوميين العلمانيين العرب في عصرنا أن الوعي بمخاطر النفسية المترفة كان ناضجا عند الصحابة ولكن هذا الوعي لم يتطور ليرسم منهاجا وليسن قوانين واضحة للتصدي لها، والبشرية اليوم اهتدت إلى أسلوب راق في الفكر الماركسي، يجهض كل محاولة تصدر من الطبقة المترفة للتسلط على زمام الحكم. والأسلوب يتمثل في الاشتراكية العلمية التي تضمن للطبقة المعوزة ماديا قيادة الشعب وتدوم على زمام السلطة، ما دامت لم تستول عليها النفسية المترفة. أما إذا لاحظ الشعب عكس ذلك، فإنه يقوم بثورة ثقافية أقرب لتعاليم التقشف والتقلل والبساطة المنسجمة مع البيئة.
تلك تمهيدات يروج لها من أراد للأمة دخول جحر التبعية لدين الاشتراكية الملحدة، وقد توضح فيما فات أن النموذج اليساري لم يفلح في محاربة الجشع والتسلط والإسراف، إنما استبدل طبقة مترفة بأخرى، الأولى برجوازية والأخرى بيروقراطية. وذلك بعدما وعد بتعميم الرخاء للجميع، لكل حسب حاجاته، ففسح الطريق لتعميم الركود التطوري، حسب مكنزمات القوانين العلمية التي وضحنا فيما سبق.
وقولهم لم يتطور وعي الصحابة لمخاطر الترف ليرسم منهاجا ويصدر قوانين واضحة لمحاربته، هذا القول يظهر جهلا أو تجاهلا لتعاليم الشرع الاقتصادية التي تحارب الربى والاحتكار والاستغلال البشع للعمال، وتأخذ الزكاة حق على رأس المال والربح، وتلزم الحاكم للأخذ بمقتضيات الإنتاج الحلال والتوزيع العادل للثروة وتنظيم الاستهلاك، وغيرها من المسائل التي يعرفها المختصون في ميادين الاقتصاد الإسلامي.
حقيقة، إن بعض الدعاة سقطوا في تطرف إهمال الجانب السياسي والاقتصادي للإسلام بخضوعهم لحكم العلمانية، وسكوتهم على فسادها. ولم يهتموا بما فيه الكفاية للجانب المحذر من أخطار الترف والفساد. وهذا التقصير يلازم خاصة الدعوة والفكر الوهابي، الذي انبعث مع تفجير سيل النفط. فكانت أموال النفط الخيالية بمثابة الثروة التي تدفقت على العرب بسبب الفتوحات الإسلامية الأولى. وعوض اتباع قوانين الشرع في توزيع تلك الثروات على المسلمين، سكتوا عما يجري في الواقع من تفويت لتلك الأموال إلى المرابين اليهود وإلى الأبناك الغربية، وإلى قارونات وبارونات مافيا الفساد المالي...
فيبدوا واضحا ضرورة تدارك هذا النقص، والعمل على إيجاد صيغة تطبيقية لتعاليم الإسلام في هذا الجانب المحارب للترف ومخلفاته، ورصده الدائم عبر مؤسسة تخترق الزمان، لكي لا يركن المجتمع إلى النسيان. لأن ترك ذلك للوازع الشخصي الديني وللضمير اليقظ، بدون تدخل الوازع القسري الملجم للتجاوزات، والمحدد للمعايير والضوابط والأحكام، يعد من غير المجدي في عصر بلغ تسلط الماديات أوجا لامثيل له في التاريخ.
إن بعض المسلمين الذين بسط الله لهم في الرزق لايعانون من مرض النفسية المترفة إطلاقا، لأنهم فقهوا ما جاء في الشرع فطبقوه وغنموا دنياهم وأخراهم. اتبعوا أحكام الشريعة في التكسب الحلال، وأداء الحقوق، وزادوا بنوافل القربات، سلطهم الله على الدنيا فأنفقوها في سبيل الله، ولم تتسلط عليهم كعامة الناس.
لذا مفهوم النفسية المترفة المستكبرة لا علاقة له بالبسط في خيرات الدنيا، ولكن في الغالب تجري سنة الله على معظم من أقبلت عليهم الدنيا، فيتنافسون فيها ثم يتجاهلون كيف ينبغي التصرف في الثروة المادية المكتسبة أوالموروثة، ثم يتظالمون، ثم يلقون بأنفسهم إلى التهلكة لقوله تعالى:
ولو بسط الله لعباده في الرزق لبغوا في الأرض.
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.
ولأن من سنن الله الجارية في خلقه الاستدراج والتدرج في الأمور وترتيبها مرحلة مرحلة: من مرحلة الزهد إلى مرحلة الاستكبار، تتتابع الأجيال وفق المراحل التالية :
· جيل نشأ في طاعة الله، وفهم خطر الدنيا بعد وعي صحيح لمدلول الغنى بالله، والفقر إليه : جيل الصحابة الأبرار نموذجا ؛
· جيل ورث هذه الثروة المادية والروحية لكنه نسي مدلول الفقر إلى الله، فعصى ولكن لم يخرج من دائرة الإسلام، لأنه لازال معترفا بمدلول الغنى بالله : جيل التابعين؛
· جيل لاحق ورث الثروة، ونسي مدلول الغنى بالله والفقر إليه، ففسق عن أمر ربه واستكبر مثل قارون، وهذا هو جيل الفتنة والتدمير، لأنه حاول إعاقة تطور الإنسانية، وزاحم الحق فيما لم يأذن له في مزاحمته فيه: الكبرياء والعظمة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى : "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في جهنم ولاأبالي". أخرجه مسلم، وابن ماجة، وأبو داود.
ذلك هو التسلسل الذي يمليه علينا الفقه السليم لكلمات الله الكونية والشرعية، والسؤال الذي يمكن طرحه: كيف يمكن الخروج من هذه الحلقة المفرغة: " الاستضعاف- الترف - الفسق - التدمير؟ وهل يمكن ذلك ؟
البحث في هذا الأمر يقتضي ابتداء معرفة النقطة التي نحن فيها الآن بالنسبة لتلك الحلقة المفرغة. ويقتضي ذلك فقه واقعنا الحاضر فقها شموليا واعيا بخبايا الفساد. ولنفرض أن البداية والمنطلق هو ذلك المستوى الثاني : جيل بسط الله له في الرزق ولازال معترفا له بذلك فهو غني بالله لكنه، نسي مدلول الفقر إليه، فافتقر وركن إلى الذين ظلموا، فتبعهم فيما عرضوا عليه من علمانية وتمرد على الشرع. فهو بذلك غني بثروته، لكنه فقير لأسياده الذين يأمرونه بالكفر الصريح، فيركن إليهم بدون مقاومة، ويسلم أمر مجتمعه إليهم غير عابئ بمسؤولية الأمانة، ويركب مخاطر الخيانة بكل تهور. ولذلك أطلق الشرع على هذا الجيل: جيل التيه في جحر التبعية لليهود والنصارى، والملحدين، أو جيل مبايعة الشيطان تحت الشجرة الخبيثة التي غرسهتا الماسونية في هيكل قلبه.
هذا الجيل في مرحلة حاسمة، أو قل إن شئت إننا على مفترق الطرق وليس لنا سوى أمرين لا ثالث لهما:
· تصحيح المسار التطوري بواسطة القوانين الكونية، في غفلة عن القوانين الشرعية؛
· تصحيح المسار بواسطة القوانين الكونية والقوانين الشرعية معا.
الطريق الأول هو ماتفرضه علينا تعاليم الاشتراكية العلمية، وقد بينا زيف بريقه، وقلنا إن غايته أن يعم الترف في إطار مبدأ لكل حسب حاجته فهو بذلك يدعو لتعميم طريق الخسران المطرد. رغم ذلك نجد في الساحة الإسلامية من استغل الفقر والظلم لتوظيفه لخدمة الكفر، والخسران المطرد.
هذا الكفرالعابد للعجل الذهبي المناضل من أجله، يدعو الناس للمطالبة بفولها وعدسها وبصلها وما يملأ البطن، وبكل ما هو أدنى وأحط، وإن أدى ذلك إلى أسر الاستعباد تحت حكم اليسار العلماني الشمولي.
قال تعالى: وإذا قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وقومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم. وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءو بغضب من الله الآية ف، من سورة البقرة
الطريق الثاني يدبر أمر محاربة النفسية المستكبرة المترفة للخروج من حتمية التدمير الحضاري الذي تنبأت به كلمات الله الشرعية في قوله تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها الإسراء، والذي كشف لنا العلم الكوني عن ميكانزماته.
الطريق الثاني هو طريق قيم التواضع والبساطة ومعارضة الفساد بكل أشكاله. كل ذلك في إطار تعميم للزهد وللصبر، لا في إطار تعميم للعوز والفاقة. الصبر الذي يقتضيه البذل والعطاء ونكران الذات، لأن مفارقة ما تشتهي النفس صعب لا يقدر عليه إلا من بلغ مرتبة سامية في سلم تطور الإنسانية، والعكس صحيح، لقوله تعالى: (( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر العصر)) " سورة العصر" .
مرصد الذهنية المترفة المتمردة على الشريعة
قوانين الشريعة وقوانين الطبيعة في الفقه المجدد للدين
عالمية الدعوة المجددة أم عالمية العلمانية؟
غالبا ما يتم انتقاء أعمدة النظام العلماني في الدول الإسلامية من بين الحاملين لفيروس الذهنية المترفة القابلة للفساد والإفساد. مؤسسات كثيرة تقوم بمهمة التصفية والاختيار لهؤلاء الأشخاص المرضى باستلاب ثقافي مزمن، وبخفوت واضح للضمير، يفضل المصالح على المبادئ. مؤسسات الانتقاء تلك تنتهي خيوطها إلى عقل مدبر واحد ينبغي افتراضه إن لم نكن مقتنعين بوجوده. لماذا؟ لوحدة وتشابه مناهج وبرامج التفسيق والإفساد وتتكررها في كل بلد إسلامي. وقد مر في الفصل الأول من الكتاب الحديث على التنظيم العالمي المرشح عن جدارة واستحقاق ليكون هيكل الشيطان، وقبلة كبار المتآمرين على الشريعة. يعهد لهؤلاء السدنة أن يؤلفوا حواليهم مساعدين من المحتالين والفساق الصغار، يكونون شياطين مردة في عمليات الفساد والمكر والسطو. لا يقبل منهم بأقل من أن يتفوقوا على فرقة علي بابا والأربعين محتال!
أي جهاز يعهد له رصد هؤلاء المتآمرين على مستقبل الشريعة في أرض الإسلام؟ يجيب البعض: جهاز المخابرات طبعا! وهو الحق لو كان النظام إسلاميا يطبق الشرع، ولربما كان هذا الجهاز سليما في بدايته. لكن من خلال منجزات هذا الجهاز يمكن استنباط نتيجة بديهية واحدة: إنه هو المستهدف الأول من اختراق كهنة العقل المدبر والأجهزة المعادية لشريعة القرآن. وهو ما تؤكده وثائق تسليم المهام، وشهادات وتسربات من تلك الأجهزة المعادية نفسها. لذا لا يحتمل الاعتماد على جهازنا المخترق، بل سيستمر في شغله الموجه نحو حماية شرذمة المترفين الذين يعثون في الأرض فسادا، وسينشط في رصد كل مدافع عن شرع الله، والتصدي له في كل مكان، وهو تماما عكس ما نأمله من المؤسسة التي نبحث عنها...
والحقيقة التي هي أدهى وأمر : أن أموال الشعوب الإسلامية تمول أكثر من جهاز مخترق وخادم مطواع لمخططات أعداء الدين. والاختراق تم منذ بداية استقلال البلدان، عندما تسلمت كل إدارات البلد مفاتيح ومهام التسيير من يد المستعمرين. وتم لهم تعيين خلفهم بالمواصفات التي أشرنا لها آنفا. وقد تم ذلك الاختراق ليس فقط في جهاز المخابرات والجيش والداخلية، بل في كل الإدارات والوزارات والمؤسسات المالية والاجتماعية والقضائية والتشريعية والتنفيذية والسياسية...
وتمت العلمنة كذلك بواسطة أشخاص ومؤسسات، وكذلك بواسطة قوانين وبرامج تخترق المكان والزمان، قطعت الطريق على رجوع الشريعة إلي حكم المسلمين كما كان قبل الاستعمار. وتم ذلك في إطار عقود الاستقلال التي من أهم شروطها اتباع النهج العلماني المارق عن الدين.
وقد آن الأوان للتفكير في مواجهة جهاز الهدم الماسوني بجهاز مماثل معارض: مماثل له في المخملية الناعمة، لا يتطلب قوة ولاعنفا ولا سلاحا. معارض هدفه التصدي للذهنية المترفة الفاسدة التي يرتكز عليها هيكل الشيطان في عمله لتثبيت العلمانية المحاربة للشريعة. ووسيلته قوة الحجة الدامغة لباطل العلمانية. ومشروعيته وجوب الدفاع عن قيم الإسلام الثابتة.
بعد استبعاد أجهزة الدولة المخترقة بعبيد الماسون، قد يميل البعض للقول: هذا الجهاز هو الدستور الذي ينص على أن ديننا هو الإسلام، وفي بعض الدول يشار إلى الشريعة كمصدر أساسي للقوانين. ربما هو كذلك لو تم لنا بواسطته التحرر من استيلاء العلمانية على سياسة المجتمع الإسلامي بالقوانين المتجاهلة للشريعة.
يجيب آخرون إنها المؤسسة التي تلزم الحاكم باتباع الشرع متى كانت منه بادرة الزيغ عنه، وتلك هي وظيفة مشيخة الإسلام التي قضى عليها الاستعمار. ولقد كان عبر التاريخ أكثر من مشيخة وأكثر من زاهد قال للحاكم الطاغي اتق الله فأنزل به أنواع العذاب. ولربما كان لابد من وجود الطرفين تنفيذا لحكم الله وسنته في خلقه، التي اقتضت أن يميل الحاكم إلى الترف والفساد والطغيان، وتكتب الدرجة العليا للعالم الزاهد الذي أمر بالمعروف ونهى عن منكر العلمانية، فقتل على يد الطاغوت، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام ظالم فأمره ونهاه فقتله". رواه الحاكم بسند صحيح.
يقول آخرون: إن الجهاز الرادع للفساد، والداعي لتطبيق الشرع هو تلك الجماعة التي لا تزال قائمة على الحق لا يضرها من خالفها ،كما جاء في الحديث الشريف: "لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة". رواه الحاكم بسند صحيح. وهي الجماعة التي قال عنها تعالى: (( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وأولئك هم المفلحون ))، "آل عمران؛ 4 ".
هذه الجماعة موجودة بالتأكيد في كل مكان وفي كل زمان عبر التاريخ ولها مجدد على رأس كل قرن كما جاء في الحديث الشريف: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". حديث متفق عليه.
التفكير للجهاز المعارض لتخريب المفسدين سدنة هيكل العلمانية، هو من مهام الفقه المجدد للدين، لأن موعود التجديد على رأس كل قرن، هو الضامن لشرط اختراق الزمان لجهاز التواصي بالحق والتواصي بالصبر، المعارض لديمومة تخريب الماسون الذين يسمون أنفسهم البناة الأحرار والأحرى أن نسميهم البناة الأشرار.
العلمانية بنت الماسونية تريد اسغلال العلوم ونظرياته العلمية واحتكارها، مدعية أن الشريعة تتعارض معها. فمن هنا يبدأ التجديد لكي يفند هذا الادعاء ويقوض الأسس العلمية والفكرية لدعاة دين العلمانية. ولربما تأكد وجوب ذلك أكثر من ذي قبل لما وصلت له العلوم الكونية من تقدم باهر ليس له مثيل في القرون الماضية. ولازالت مواقف بعض الدعاة المشهورين الذين يقودون الصحوة الإسلامية تحتاج للمراجعة لكي لا يبقى أي مبرر عقلي لدعاة الفكر اللاديني لفرض نفسه مدعيا تعارض الشريعة مع العلم.
لذا فالتجديد يقتضي الفقه المعاصر لكلمات الله الكونية، وهي السنن الجاري حكمها على الخلق، وهي القوانين العلمية التي أوجدها الله وكشف عنها للإنسان شيئا فشيئا، لأنه مفطور على اكتشافها، وهي تلك السنن التي تتحكم بأمر الله في ضبط تطور الأحياء عموما والإنسانية خاصة في المقومات التي خلقت لها.
ويقتضي التجديد كذلك فقها لكلمات الله الشرعية، وهي قوانين الأصول وقوانين الفروع المستنبطة من القرآن والسنة الثابتة، وفقه تطبيقها تطبيقا سليما بعيدا عن زيغ الزائغين وضلالات المضلين.
ويقتضي التجديد كذلك الإلمام بعناصر الربط بين الكلمات الكونية والكلمات الشرعية، وتنزيل أحكامها على أرض الواقع، لتصحيح مسيرة الإنسان ولرسم الاختيارات المستقبلية التي تصلح للقرن.
مؤسسة التجديد للقرن يفتح الله لها آفاق الحقيقة الكونية والشرعية وتعيد النظر في تراث الإنسان العلمي، واجتهاده الفقهي، لمراجعة الأفكار المسبقة والآراء المتحجرة التي كانت وبالا على الدين.
وأول ما يلزم من العلم بالضرورة لمواجهة العلمانية هي تلك الأسس التي بني عليها مذهب التمرد على الشريعة، ليستبين الصواب من الباطل فيها.
رجال الكنيسة في أوربا كفروا من قال بكروية الأرض أو بدورانها. جاليلو توصل بعد ذلك إلى صنع مرصد، فأيد تجريبيا ما كان بديهيا عند علماء المسلمين قبل قول جاليلو بقرون. فكان ذلك مبررا للقبض عليه ومحاكمته، ولم ينج من الموت بعد ثلاث سنوات من السجن، إلا باعترافه أمام رئيس محكمة التفتيش قائلا : أنا جاليلو قد بلغت السبعين من عمري سجين راكع أمام فخامتك، والكتاب المقدس أمامي ألمسه بيدي، أرفض وألعن وأحتقر الاعتقاد الملحد الخاطئ القائل بدوران الأرض.
لو كانت تلك الكنيسة هي الممثلة الشرعية لكل دين في الأرض، لكان كل عقلاء الدنيا متفقين مع العلمانية.
ولتحصين وظيفة التجديد الديني من جحر التبعية لليهود والنصارى، لابد للفقيه المجدد من معرفة تطور النزاع بين الكنيسة ودعاة العلم في أوربا. ففي القرن السابع عشر للميلاد، تبلور النزاع بين العلم والكنيسة واتخذ شكلا رهيبا: ثار العلماء ودعاة التجديد في أوربا مطالبين بتقديس العقل واستقلاله بالمعرفة بعيدا عن الدين. ولم يجرؤ دعاة المذهب العقلي أول الأمر على إنكار الدين بل جعلوا لكل من الطرفين دائرة خاصة يعمل فيها مستقلا عن الآخر. ديكارت دعا إلى تطبيق المنهج العلمي في الفكر والحياة، واستثنى من ذلك العقائد الكنسية. هذه الازدواجية وجدت لها نظيرا في منهج بيكون التجريبي الذي قال عنه أندرسن : إن أعظم مآثر بيكون، الفصل بين العلم البشري والوحي الإلهي.
في نفس القرن، دعا فلاسفة آخرون بتطبيق المنهج العقلي على كل جانب من جوانب الفكر والتراث، فوضع اسبينوزا الأسس التي قامت عليها مدرسة النقد التاريخي، فأظهر عند تطبيق النظر العقلي على التوراة، على أن أسفارها لم يكتبها موسى عليه السلام، مستدلا بما جاء في سفر التثنية من ذكر موت موسى ورثائه، وقول كاتب السفر: "لم يأت نبي مثله من بعده".
الفقه المجدد يكمل أبحاث سبينوزا التي أطلعتنا بصفة علمية موثوقة على شيء في غاية الخطورة، كان قد أخبرنا به القرآن الكريم: العهد القديم الذي يبني عليه اليهود والنصارى دينهم، ليس هو التوراة المنزلة على سيدنا موسى عليه السلام. الفقه المجدد يكمل أبحاث سبينوزا، ولا يرى أي حرج في دراسة شريعة الإسلام على ضوء العلوم المضبوطة الحديثة، كما قام به سبينوزا بالنسبة للعهد القديم الذي يتداوله اليهود والنصارى زاعمين أنه الكتاب المنزل على موسى...
الدراسة المكملة لأبحاث سبينوزا، كانت في صلب الموضوع الذي ناقشه الفصل الثالث من كتابنا، ويبقى فيه مجال متسع لدراسة الباحثين.
ثم جاءت مرحلة النداء بإخضاع الوحي للعقل عند التعارض، كما طالب به الفيلسوف جان لوك. وهذا كلام مصيب إذا كان "الوحي" الذي يعنيه هو الكتب المحرفة التي بين أيديهم.
والغريب في الأمر أن سبينوزا الفيلسوف اليهودي نكس على رأسه ورجع إلى توراته المزوره، كما سنرى بعد فقرات، واعتبرها هي المرجعية الملزمة للمجتمعات العلمانية الغربية. يظهر ذلك في تصورات مدرسته التي تعتبر رائدة الفكر العلماني، ولذلك يربط العلماء المسلمون مذهب العلمانية بالمكر اليهودي الماسوني الممتد عبر العصور.
هكذا نرى أن الفلسفة الأوروبية تاهت أكثر من خمسة قرون ولم تهتد بعد لما وصلت له المعرفة عند المسلمين الذين لا يرون أي تعارض بين العقل والنقل، كما وضح ذلك ابن تيمية رحمه الله في القرن الثالث عشر الميلادي في كتابه: " درء تعارض العقل". بل لا يستطيعون الوصول إلى هذه النتيجة ماداموا جاهلين للإسلام، ولأن الخرافات التي نسبت للتوراة والإنجيل لازالت عالقة بهما، وهي الخرافات التي بررت إحراق المسلمين وكتبهم في الأندلس، وإحراق كتب ديكارت، وسبينوزا، وجان لوك، وغيرهم.
تطبيق المنهج العقلي على العلوم الفلسفية وغيرها كان حافزا لا يستهان به لظهور العلوم الطبيعية الفزيائية التي تألقت باستعمال آلة الرياضيات، على يد نيوتن بواسطة نظرية الجاذبية التي كان لها أثر عميق في تراث البشرية العلمي. اختارت الكنيسة معاداة نيوتن رغم أنه كان مؤمنا بالله، فتطرفت بذلك وتزمتت مبررة ذلك بالخرافات التي كان يمكن لها أن تتحرر منها بمقارنة كتبها المزورة بالقرآن الكريم المحفوظ من التحريف.
وبالطبع سيقابل هذا التطرف الكنسي تطرف آخر نشأ عنه الفكر اللاديني ثم الفكر الملحد الذي اتخذ من الهجوم على الخرافات العالقة بالمسيحية مطية له لإنكار الوحي جملة وتفصيلا، سواء كان الوحي توراتا أو إنجيلا أو قرآنا.
التيار المحارب لتزمت الكنيسة احتكر نظرية نيوتن العلمية المحايدة لبناء فلسفة طاعنة في الدين، كان لها دعاة مهرة في القرن الثامن عشر من أمثال روسو، وفولتير، ويددرو. وكان لها كتب ومراجع مهمة، "كدائرة المعارف"، و "العقد الاجتماعي"، و "روح القوانين".
تطور هذا الاتجاه ليصبح مذهبا طبيعيا، ثم دينا إنسانيا جديدا عند "كنت" في القرن التاسع عشر، وعنه انبثقت الماديات المتعددة التي تفسر الكون تفسيرا آليا حسب القوانين التي نسبت للطبيعة.
يصف "ابرانتن" شيئا من مظاهر الصراع بين الدين والعلم في عصره بقوله : "إن المسيحية التقليدية لم تعد قادرة على أن تمد المستنيرين بنظرية كونية، فقد بدأ الناس يعرفون ما يكفي من الجيولوجيا لكي نبين أن تاريخ الخليقة الذي حدده سقف آشر بعام: 4004 ق. م.، وتاريخ الطوفان هما بعيدا الاحتمال. ولكن لم تكن هناك حاجة إلى أن ينتظر الناس نمو المعرفة الجيولوجية، خذ مبدأ التثليث في المسيحية مثلا، إن الرياضيات كانت ضد هذا المبدأ، فإن أي نظام رياضي محترم، لا يسمح بأن يكون الثلاثة واحدا في آن واحد.
وأفكار "برانتن" هذه ينطلق منها فكرنا التجديدي لكي يدعو المتنورين الجدد للقيام بالخطوة المكملة لمنطق الحق. تلك الخزعبلات حذر منها القرآن فلماذا عممتم حكمكم على دين الإسلام؟
لخص لنا العالم السعودي "سفر الحوالي" في كتابه "العلمانية" تلك الأسس الفكرية للعلمانية التي بزغت في عصر التنوير، بمدارسه المختلفة:
· مدرسة ذات طابع علمي عام، رواده الكتاب الذين كتبوا دائرة المعارف بزعامة "ديدرو".كانوا كما يقول "ويلز" : "يناصبون الأديان عداوة عمياء. " وسيسائلهم فقهنا المجدد: أيحق لكم تعميم حكمكم على دين تجهلوه؟
· مدرسة ذات طابع اجتماعي وسياسي ويترأس هذا الاتجاه "روسو" صاحب كتاب "العقد الاجتماعي" الذي أطلق عليه "إنجيل الثورة الفرنسية" و "مونتسكيو" صاحب كتاب "روح القوانين"، أما الأفكار التي يحوم حولها روسو ومشايعوه، فتتلخص في النداء باستبدال الأخلاق والنظم الدينية بالرابطة النفعية للأفراد، المتمثلة في الوطنية والقومية. وسيسائلهم فقهنا التجديدي: ماهي المعايير التي استعملتم لتحديد القيم السامية والأخلاق الفاضلة في مجتمعاتكم؟
· مدرسة ذات طابع فلسفي عقلاني تحث على استبدال الأديان السماوية بالدين الطبيعي أو القانون الطبيعي كما نادى به الفيلسوف اليهودي سبينوزا رائد الفكرة العلمانية باعتبارها منهجا للحياة. يوضح ذلك ما جاء في كتابه "رسالة في اللاهوت والسياسة"، قال فيه: "ومن الخطر على الدين وعلى الدولة على السواء إعطاء من يقومون بشؤون الدين الحق في إصدار القرارات أيا كانت، أو التدخل في شؤون الدولة. وعلى العكس يكون الاستقرار أعظم إذا اقتصروا على الإجابة علىالأسئلة المقدمة إليهم، والتزموا في أثناء ذلك بالتراث القديم الأكثر يقينا والأوسع قبولا بين الناس!!
وفقهنا المجدد سوف يرى بالطبع في دعوة سبينوزا دعوة لتهويد المجتمع الدولي هكذا بهذا المنطق الفاسد الذي يعمم حكما على كل الحالات دون وجود أي تشابه بينها.!
تلك هي الجذور التاريخية لموقف الحكام من الدين والسياسة.
لقد جسدت الثورة الفرنسية هذه الأفكار اللاييكية اللادينية، وكانت محقة في ثورتها على الاستبداد والطغيان الكنسي الذي حارب العلم ودافع عن المترفين الإقطاعيين طيلة القرون الوسطى. لكن لما عممت العلمانية على أقطار الإسلام بعد استعماره، ولم تحاول الاستفادة من قوانين الشريعة، هنا يكمن الخلل القاتل للدين العلماني الذي بني على تعميم يرفضه العقل والمنطق والطبع والشرع.
كل هذه الأفكار والأحداث يقيمها الفقه المجدد على ضوء العلم والشرع المحفوظ من التحريف فيفسرها تفسيرا آخر بعيدا عن المواقف المتزمتة.
يرى مع ابن تيمية أن العقل لا يتناقض مع القرآن وما صح من السنة النبوية وتلك نظرة أسمى مما بلغت له المعرفة عند علماء أوربا في قرون نهضتهم وما بعدها. هؤلاء نادوا بإخضاع الوحي للعقل عند التعارض والموقف العلمي يقتضي منهم التيقن من صحة النقل ومقارنته مع ما جاء في الإسلام، ثم بعد ذلك يحكمون العقل عليه إذا أرادوا. علماء معاصرون من أوربا أدركوا الآن هذه الحقائق فقارنوا الكتب المنزلة كما فعل موريس بوكاي فأدركوا فعلا أن العلم لا يتعارض مع ما جاء في القرآن، عكس ما ظهر له واضحا في الكتب السماوية المحرفة.
الفقه المجدد يزيد في المعرفة لبنات أخرى، فيوضح أن العلوم والنظريات الكونية الحديثة كنظرية النسبية ونظرية تطور الخلق وغيرها، لا تتعارض مع حقائق القرآن وصحيح السنة النبوية. ولولا مخافة التطويل لبرهنا على ذلك وسوف نخصص إن شاء الله كتابا مستقلا لموضوع ما استجد في مسألة درء تعارض العقل والنقل، مواكبة لازدهار العلوم الكونية، وتألق العقل البشري.
فقه الواقع، فقه الكلمات الكونية، فقه الكلمات الشرعية، فقه التجديد كل ذلك يقتضي طرق باب المعرفة والتعمق فيها واقتفاء مصادرها للتعرف على ما فيها من حق وما يتلبس فيها من باطل. ذلك هو الدرب الذي سار عليه علماء الإسلام الأوائل. هؤلاء تعرفوا على علوم الفرس والهند والروم فعرضوها على ميزان العقل الذي لا يتناقض مع ميزان النقل، فازدادوا بعد ذلك إيمانا وقوموا اعوجاج الأمة في عصرهم. وفي زمان وصلت فيه المعرفة المادية آفاقا لم تبلغها فيما مضى، واستغلتها اللادينية بأفكارها الملحدة، هل يحق لنا ترك المجال لها خاليا لنشر ضلالاتها؟
بعض الأفراد يفضلون الانزواء والاعتزال في صوامع عاجية، معللين موقفهم بأن الكتاب والسنة فيهما ما يضمن النجاة في الدنيا والآخرة، ويبررون موقفهم بغضب النبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى بيد عمر صحيفة من صحف التوراة. كل هذا صحيح بالنسبة لفقه كلمات الله الشرعية: كتابنا ينسخ جميع الكتب التي تسللت لها يد التحريف. سنة نبينا هي المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك. لكن النظر في ملكوت السماوات والأرض، والنظر في سنن الأولين والآخرين، والنظر في العلوم التسخيرية للوسائل المادية، هي من الأمور التي حث عليها القرآن وأمرت بها السنة النبوية، وهذا لا ينكره إلا جاهل. لكن الباحث في سنن الله الكونية يعرض عليه خياران :
· إما أن تكون له نية استغلال العلم للطعن في الدين، وتلك هي أهداف الفلسفات الملحدة واللادينية التي تختار التمرد على الشريعة، وتعوضها بشرع سقيم يتعارض مع القوانين الطبيعية؛
· وإما أن تكون له نية اكتشاف آيات الله للاعتراف بآلائه، ولعقد العزم على تطبيق أوامره. هذه الأوامر تعتبر مقاومة الباطل ودفع أذى الفساد والإفساد في الأرض سنام الدين وذروته وأغلى ما فيه.
لو ترك المجال لمقارعة الكفر بالحجة العلمية، والدليل المنطقي، لانقشع الغبار للإنسانية، ولظهر الحق وزهق الباطل أمام الناس. لكن أصحاب النفسية المترفة يصدون عن طريق الصواب، ويعرقلون سير الإنسانية، ويضعون الحواجز بينها وبين الحقائق، حفاظا على أغراض خسيسة لا ترجع بالخير لا عليهم ولا على النوع البشري.
فهم مرضى القلوب الذين لا يرجا شفاؤهم، والمسلمون في كل مكان وزمان يريدون أن يلعبوا دورهم كاملا لمقارعة الكفر ولتصحيح مسار البشرية القلقة إلا أن سنة الله تتكرر في ظهور ذوي النفسية المترفة الذين يخشون على امتيازاتهم المادية. ولو فتحوا قلوبهم لعدل الإسلام، لوجدوا ما يطمئنهم على امتيازاتهم برهة قبل أن يقتنعوا من عند أنفسهم بضرورة البذل والعطاء، بعدما تسري روح الإيمان في القلوب فيتخلوا عن فضولها عن طيب خاطر.
وترك بعض العلماء المجال فارغا للعلمانية فصالت وجالت في دهاليز النسيان والجهل، مستغلة آلة العلوم الكونية وحولتها جهازا ناطقا يبث إعلاما كافرا انبهر به مضطربو الشخصية فتقهقر الدين حتى أشرفنا على نقض كل عراه. تم ذلك لما طاوع بعض العلماء الأنفس المترفة المريضة، عوض رعايتها وتقديم الدواء لها، فكان ذلك أول جحر تبعنا فيه علماء بني إسرائيل الذين كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه.
تم ذلك أيضا لما انصرف بعض العباد منقطعين عن الحكام والمجتمع، ملتزمين الصمت ملازمين زواياهم فكان ذلك أول جحر تبعنا فيه رهبان النصارى المبتدعين، وقد حذرنا الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله " لا رهبانية في الإسلام." رواه أحمد ورواه الحافظ أبو يعلى.
الأحبار والرهبان كانوا سبب تعاسة الأمة عبر القرون، ولعل الفرقة الأولى التي كانت تجمع بقايا ولائم المترفين وتطاوعهم على الشهوات التي تمس بصحة المجتمع وتطوره محرفة الكلم عن مواقعه، لعل تلك الفرقة هي التي كان لها التأثير الحاسم في تدهور الأمة، لأن مطاوعة الأهواء والشهوات هو استدراج لنمو سرطان النفسية المترفة المدمرة لتطور الإنسانية. أما الرهبانية المبتدعة التي لا يرعاها أهلها حق رعايتها فهي استدراج من الشيطان لعبادة الأغيار من دون الله، وتقديس من لاقداسة له واتباع الخرافات، وموالاة السلطة العلمانية، تحت دريعة قول بعضهم إذا تعارض كشفهم مع الشريعة نرجح الكشف. فيضل المجتمع ويبقى في ضلاله، حتى يثور على "الكنيسة" التي تمثل الدين المحرف، فتنمو الأفكار اللادينية لكي تتبلور في مناهج علمانية لتسيير المجتمع.
وهي الانحرافات التي يصورها لنا حديث نبينا، قال ابن مسعود : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ياابن مسعود» قلت: لبيك يارسول الله. قال: "هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة ؟ لم ينج منها إلا ثلاث فرق، قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم عليه السلام، فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم، فقاتلت الجبابرة فقتلت فصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال، فقامت بين الملوك والجبابرة فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فقتلت وقطعت بالمناشير وحرقت بالنيران فصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال ولم تطق القيام بالقسط، فلحقت بالجبال فتعبدت وترهبت وهم الذين ذكر الله تعالى: "ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم". ونستنبط من الحديث أن فرقة الأحبار والرهبان الذين يزينون للجبابرة تمردهم على الشريعة ويسكتون عليهم ليست من الفرق الناجية.
نمو سرطان النفسية المترفة، تسيير علماني للأمة تلك هي الفتنة التي يوشك بركانها أن ينفجر لينقشع الجو على الإنسانية الحاملة لمشعل التطور، بعدما تاهت في جحور التبعية وجربت كل السبل. كيف ومتى وأين يتم ذلك ؟ التؤدة والصبر وتفويض الأمور لمقدرها كل ذلك يجعل من هذه الأسئلة فضولا وسوء أدب مع الله، لأن الشرع يحث على سلوك درب التغيير، وهو طريق فيه ابتلاء وغربلة حتى لا يستمر في الدرب إلا المتقون الأخيار الذي قطعوا الوسائط والدعوى، وصححوا التوكل والعزم ونسبوا الأمور لمسببها، وتيقنوا من أن لا مفر من الله إلا إليه، بعد تزويدهم بالعلم الكافي لفقه كلمات الله الشرعية والكونية، ولفقه الواقع والمواقف، لمعرفة أسقام المجتمع وكيفية التدرج في اختيار العلاج وكيف تتم رعايته من كيد الأعداء الذين يكيدون في السر والعلانية، في الداخل والخارج.
الرفق واللطف والحلم وسائل تربوية للتغيير حث عليها ديننا عندما تكون الغلبة للمسلمين أو عند ضمان حرية الرأي والكلمة وحرية الدعوة وتأطير المجتمع. أما عند استفحال بغي الطواغيت الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويمزقون كل إعلام يدعوهم لدين التوحيد، هؤلاء يصيبهم دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسب رد فعلهم فيمزقون كل ممزق، ضرورة لأنهم أرادوا مزاحمة الحق في كبريائه وجبروته، وقد حرم على الملوك وعلى عامة الناس مزاحمته في تلك الصفات تبعا لما جاء في حديث قدسي: عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( قال الله عز وجل : الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار )
راينا في ماسبق أن العلمانية:
· مذهب له ما يبرره منطقيا في حال فصل العقل والسياسة عن دين محرف ظاهر الفساد، شهد له أهله بذلك. ويصدق ذلك على بلدان الغرب. ولذلك شهدت تطورا وازدهارا لا مثيل له بعد التخلص من سيطرة الكنيسة المنحرفة.
· مذهب باطل وبدعة مارقة في حال فصل العقل والسياسة عن وحي ثبت حفظه من التزوير، وشريعة ليس فيها ما يعارض العقل، بل هي مفتاح السمو المطرد للبشرية في جميع مقوماتها. ولذلك تقهقرت البلدان الإسلامية التي سيطرت عليها العلمانية، وسيرتها بقوانين متمردة على شريعة الإسلام.
لذا يتضح أن العلمانية ليس لها أي سند منطقي أو علمي لكي يعمم حكمها على أقطار الكون وخاصة على أقطار الإسلام.
وعلى العكس من هذه الحال سوف يتضح لنا ضرورة بناء فقهنا التجديدي على مبدأ الكونية والصلاحية لكل مكان ولكل زمان. لماذا؟
أولا لأن اليهود يعترفون أنفسهم أن دينهم هو دين خاص بهم، ولا يمكن لأحد أن يدخل في كنفه إلا إذا كانت أمه يهودية. لكن إذا اخترعوا دينا أو مذهبا يمكن به استحمار البشرية لركوبها وتوجيهها لتحقيق مصالحهم، فمن الممكن قيادة العالم بذلك المذهب، ومحاربة كل معتقد يتعارض معه. وهذا المذهب ببساطة هو دين العلمانية التي نحن بصددها، وقد بينا أساسها وحجتها مع ذكر سبينوزا وعلماء التنوير.وذكرنا علاقة نشره بواسطة الجمعيات السرية والعلنية التي يدبر أمرها عقل واحد فرد سماه البعض الماسونية. والعالم في زماننا هذا يتجه إلى الخضوع لحكمه تحت مقتضيات القانون الدولي، وأحيانا يسمونه "القانون الكوني" خداعا لربطه بالقوانين العلومية الكونية التي تتحكم في الطبيعة. وهو نفس الخداع في تسمية العلمانية حين ينسبها الجهال إلى العلم والعقل.
وإرادتهم السياسية يفرضونها كذلك بادعاء مخادع كاذب فهي إرادة المجتمع الدولي، ولو لم تكن إلا إرادة إسرائيل وإرادة بعض أفراد الكنغريس الأمريكي المتصهين، أو بعض الوصوليين من الشواذ البريطانيين.
نظرا لذلك، لزم فقهنا المجدد معارضة هذه العالمية المزيفة التي من أغراضها إفساد البشرية، بعالمية أمر بها ديننا لإصلاح ما أفسده كهنة العجل الذهبي، ولرفع خطر الحروب التي يوقدها الصهاينة في كل مكان وفي كل زمان، فيبعث الله من يطفئها رحمة بعباده، لقوله تعالى: (( كلما أوقدوا نارا للحرب أطفاها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين))
ذكر ابن هشام في سيرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه ذات يوم بعد عمرته التي صد عنها يوم الحديبية فقال: " يا أيها الناس، إن الله قد بعثني رحمة وكافة فلا تختلفوا علي كما اختلف الحواريون. فقال أصحابه وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله ؟ قال دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضي وسلم وأما من بعثهم مبعثا بعيدا، فكره وجهه وتثاقل، فشكا ذلك عيسى إلى الله فأصبح المتثاقلون وكل واحد منهم يتكلم بلغة الأمة التي بعث إليها."
وفعلا تجد أن رهبان النصرانية يزيدون وينقصون من رسالة سيدنا عيسى لكي يجعلونها تحاكي معتقدات الأقطار التي يحلون بها. وهكذا لوثت المعتقدات الوثنية دينهم فنحتوا أصناما وصوروا صورا لقديسيهم وعبدوها كما تعبد آلهة الإغريق والرومان، واخترعو الطقوس الوثنية للاقتراب من معتقدات الشعوب التي احتلت أقطارهم.
بتلك الخطبة المحذرة، هيأ النبي صلى الله عليه وسلم العقول لتقبل مبدأ عالمية الدعوة الإسلامية، رغم أن مكة لم تفتح بعد. بعد الخطبة مباشرة، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا من أصحابه، وكتب معهم كتبا إلى الملوك الذي يحسب لهم حساب آنذاك، يدعوهم فيها إلى الإسلام، بعث عبد الله بن حذافة إلى كسرى عظيم فارس بكتاب جاء فيه كما ذكر في رواية ابن إسحاق "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين فإن أبيت، فإثم الأريسيين عليك".
مزق كسرى الرسالة، وأمر جنده باعتقال ذلك الشخص الذي تجرأ على مخاطبته، وهو من جملة عبيده في ملكه.
وجاءه الوحي ليخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله. ودعا مبعوثا كسرى وأخبرهما الخبر، فقالا: هل تدري ماتقول؟ يحذرانه عاقبة هذا القول. فقال: "اذهبا وأخبراه بذلك عني، وقولا له إن ديني وسلطاني يبلغ ملك كسرى، وإن أسلمت أعطيتك ما تحت يدك، وملكتك على قومك من الأبناء، وأعطيك "خرخسرة"، منطقة فيها ذهب وفضة." وكان بعض الملوك أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم. فلم يلبثوا إلا أن قدم عليه كتاب "شرويه": " أما بعد فإني قد قتلت كسرى ولم أقتله إلا غضبا لفارس لما استحل من قتل أشرافهم وتسخيرهم في ثغورهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة مما قبلك، وانظر الرجل الذي كان كسرى كتب فيه إليك، فلاتهجه حتى يأتيك أمري فيه".
وجاء في صحيح البخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، وبعث بكتابه إليه مع دحية الكلبي، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعه إلى عظيم بصراي ليدفعه إلى قيصر، وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيليا شكرا لما أبلاه الله، فلما جاء قيصر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال حين قرأه، التمسوا لي هنا أحدا من قومه لأسألهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس فأخبرني أبو سفيان أنه كان بالشام في رجال من قريش قدموا في تجارة في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش قال أبو سفيان فوجدَنا رسول قيصر ببعض الشام فانطلق بي وأصحابي حتى قدمنا إيليا، فأدخلنا عليه فإذا هو جالس في مجلس ملكه وعليه التاج وإذا حوله عظماء الروم. فقال لترجمانه سلهم أيهم أقرب نسبا إلى هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي. قال أبو سفيان فقلت أنا أقربهم إليه نسبا قال ما قربة ما بينك وبينه، فقلت هو ابن عمي وليس في الركب يومئذ أحد من بني عبد مناف غيري فقال قيصر أدنوه، وأمر بأصحابي فجعلوا خلف ظهري عند كتفي ثم قال لترجمانه قل لأصحابه إني سائل هذا الرجل عن الذي يزعم أنه نبي، فإن كذب فكذبوه قال أبو سفيان والله لولا الحياء يومئذ من أن يأثر أصحابي عني الكذي لكذبته حين سألني عنه، ولكني استحييت أن يأثروا الكذب عني، فصدقته ثم قال لترجمانه قل له كيف نسب هذا الرجل فيكم ؟ قلت: هو فينا ذو نسب. فهل قال هذا القول أحد منكم قبله، قلت لا. فقال كنتم تتهمونه على الكذب قبل أن يقول ما قال، قلت لا. قال فهل كان من آبائه من ملك. فقلت لا. قال فأشرف الناس يتبعونه أم ضعفائهم فقلت بل ضعفاؤهم. قال فيزيدون أو ينقصون. قلت بل يزيدون. قال فهل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه. قلت لا. قال فهل يغدر ؟ قلت لا، ونحن الآن منه في مدة أي هدنة الحديبية نحن نخاف أن يغدر. قال أبو سفيان ولم يمكني من كلمة أدخل فيها شيئا أنتقصه به لاأخاف أن يؤثر عني، غيرها. قال فهل قاتلتموه أو قاتلكم ؟ قلت نعم. قال فكيف كانت حربه وحربكم. قلت كانت دولا وسجالا، يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى. قال فبماذا يأمركم. قال يأمرنا أن نعبد الله وحده لانشرك به شيئا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدقة، والعفاف والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة. فقال لترجمانه : حين قلت ذلك له، قل له إني سألته عن نسبه فيكم فزعمت أنه ذو نسب وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله فزعمت أن لا، فقلت لو كان أحد منكم قال هذا القول قبله، قلت رجل يأتم بقول قد قيل قبله، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ماقال، فزعمت أن لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك هل كان من آبائه من ملك؟ فزعمت أن لا، فقلت لو كان من آبائه من ملك، قلت: يطلب ملك آبائه. وسألتك أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فزعمت أن ضعفاؤهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك هل يزيدون أو ينقصون فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان، يزيد ويتقص حتى يتم. وسألتك هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فزعمت أن لا، فكذلك الإيمان حين تخلط بشاشته لايسخطه أحد. وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أن لا، وكذلك الرسل لايغدرون. وسألتك هل قاتلتموه وقاتلكم؟ فزعمت أن قد فعل، وإن حربكم وحربه تكون دولا يدال عليكم المرة وتدالون عليه الأخرى، وكذلك الرسل تبتلى وتكون لها العاقبة. وسألتك بماذا يأمركم فزعمت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولاتشركوا به شيئا، وينهاكم عما كان يعبد آبائكم، ويأمركم بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، قال وهذه صفة النبي، قد كنت أعلم أنه خارج، ولكن لم أظن أنه منكم وإن يك ما قلت حقا، فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين، ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقيه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه. قال أبو سفيان ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرئ فإذا فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بداعية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فعليك إثم الأريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لانعبد إلا الله ولانشرك به شيئا ولايتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون. قال أبو سفيان: فلما أن قضى مقالته علت أصوات الذين حوله من عظماء الروم، وكثر لغطهم فلا أدري ماذا قالوا، وأمر بنا فأخرجنا. فلما خرجت مع أصحابي وخلوت بهم قلت لهم أمِر أمْر ابن أبي كبشة، هذا ملك بني الأصفر يخافه، قال أبو سفيان : والله مازلت ذليلا مستيقنا بأن أمره سيظهر حتى أدخل الله قلبي الإسلام وأنا كاره انتهى.
تلقى كسرى ملك الفرس رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بغلظة وكبرياء وحال دون تبليغها إلى الرعية ومزقها، فمزق الله ملكه على يد ابنه، ثم على يد المسلمين.
أما قيصر ملك الروم في الشام فقد كان أكثر أهلية بالاستخلاف على قومه لما جعل الأمر شورى بينهم، وكان له أن يحتقر أمرا أتاه من العرب الذين لم يكن لهم وزن في الخريطة السياسية آنذاك. لكنه تبين في الأمر، وتصرف باتزان وحكمة، وشاور كبراء الروم، إلا أن البطانة المترفة حالت دون الاستجابة لداعي الله، وتصرفت باستكبار وعناد، فأرغم القيصر على التراجع للحفاظ على مملكته، وعلى ولاء بطانته المستكبرة.
لقد كانت دعوة موجهة لجبابرة العصروأقوامهم، تبين لهم أن تطور البشرية يقتضي اتباع الأمر الشرعي، وأن متاهات المظاهر الاستكبارية تحول دون تقدم الإنسان في مقوماته الخاصة التي تسمو به عن البهيمية. وأن صفحة من صفحات تاريخ البشرية التائهة قد طويت، وهي الآن ستدخل مرحلة التطور الإرادي المطرد باتباع تعاليم الرسالة الخاتمة، والكف عن طلب المعجزات الخارقة للعقل، لأن عهد المعجزات قد انتهى مع الرسالة الخاتمة، إذ لا رسول بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
فالعقل والوحي المحفوظ في القرآن والسنة هما مصدر الحجة والإقناع لكل من يريد اتباع طريق السمو المطرد للبشرية لا طريق التردي والاندثار :
· العقل يدلنا على قوانين الله الكونية الثابتة في كل مكان وكل زمان، وهو الأجدر بأن يكون الدليل لا طلب المعجزات، أو الكرامات، لأن المعجزة دليل لمن حضرها، وحتى بعض الذين حضروها نكسوا على رؤوسهم وقالوا: ما هذا إلا فعل ساحر كذاب. أما الكرامات التي تنسب لأولياء الله، فلا عصمة لها من تسرب الفتح الظلماني الشيطاني، مما يجعلها أقل تأثيرا في الإقناع، بل تعتبر ابتلاء ينزل بالبر والفاجر، والأسلم هو الاستقامة على الأمر كما يقول المحققون منهم: الاستقامة خير من ألف كرامة. والاستقامة لا تتاح إلا لأهل العقول لا للخرافيين القابعين في جهل الانتظار.
· الوحي الذي صاحب الرسالة الخاتمة يدلنا على قوانين الله الشرعية الضابطة لموازين العدل والقيم السامية. والسنة النبوية هي جزء منه، لأن النبي المعصوم لا ينطق عن الهوى.
الوعي بعلاقة الاستكبار والترف والظلم بانقراض الدول كان حاضرا بقوة في هذه الدعوة. وقتها قال صلى الله عليه وسلم: " هلك كسرى ثم لايكون كسرى بعده، وقيصر ليهلكن ثم لايكون قيصر بعده، ولتقسمن كنوزهما في سبيل الله" حديث من صحيح البخاري.
فما حدث لكسرى وقيصر هو ماحدث لحضارات انقرضت عندما حان الوقت لاستخلافها بأفضل منها في سلم التطور. وكل البشر حكم عليهم بالتقهقر المطرد، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، كما قال عز جلاله في سورة العصر: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين أمنوا وتواصوا بالحق وتواصو بالصبر.
الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر تلك هي شروط السمو المطرد لهذا النوع البشري في لطيفته التي يتميز بها عن الحيوان. وبين الاستسلام لقوانين التطور البيولوجية التي تحكمها كلمات الله الكونية التي لا تبديل لها، والتطور الإرادي المطرد الذي تحكمها كلماته الشرعية، يتضح الفرق بين الإنسان البهيمي والإنسان الحامل لأمانة الاستخلاف.
الشرط الأول: الإيمان وهي قضية اعتقاد واختيار شخصي، يقذفه الله في قلب من يستحقه لأن الإعلام السماوي واحد، لكن أجهزة الاستقبال تختلف من شخص لآخر، ولايقدر أي فرد في العالم أن يتحكم في جهاز صاحبه ليرغمه على الاقتناع بالإعلام السماوي، لقوله تعالى: إنك لا تهدي من أحببت ولمن الله يهدي من يشاء؛ وقوله لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.
· الشرط الثاني: العمل الصالح، وهو العمل الذي يراعى قوانين الطبيعة المتيحة للاستخلاف المادي، وقوانين الشريعة الضابطة لموازين المعاملات العادلة بين الناس؛
· الشرط الثالث: مطلب الاستمرارية في الخط الصاعد واستدامة ما يجلبه للبشرية من مصالح وما يجنبها من مفاسد.
ذلك هو التواصي بالحق والصبر، هي مسألة اجتماعية تفترض وجود فئة تميل مع الشهوات وتزيغ مع الأغراض الشخصية لترد الإنسانية بدون أن تشعر إلى مهالك الخسران المطرد، وفئة تبين لها الحق الساطع نوره في كلمات الله الشرعية لترشد الناس إلى طريق السمو المطرد في الدنيا وفي الآخرة. فئة تميل مع الأهواء لتغذية النفسية المترفة المضيعة للرصيد الوراثي بتقهقر النسل وبظهور العتاهة الفكرية والأدبية، وتلك هي معالم الاندثار ونهاية الاستخلاف تحت حكم كلمات الله الكونية، وهي قوانين التطور والوراثة وغيرها من السنن الطبيعية التي يجري حكمها على جل الأحياء لقوله تعالى: سنة الله ولن تجد لسنته تبديلا . ثم هناك فئة أخرى تدعو للصبر على ما يمكن أن يحدث عند مخالفة الهوى، في انتظار التلذذ بما هو أسمى: نشوة الانتصار على النفس بالنسبة للشخص والسمو في مراتب التقرب إلى الله، وفرحة رفع تحدى الطاغوت والانتصار على الفئة التي بلغت بها الأنانية إلى ولوج طريق الخسران المطرد وهي طريق النفسية المترفة الفاسقة، التي تكره البذل والعطاء حتى للبنين الذين هم من الأصلاب. وتكره أن ترى أحدا يركب رأيا مخالفا لرأيها ولو كان نابعا من كلمات الله الشرعية.
ورد في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يارسول الله، أي الذنب أعظم ؟ قال: "أن تجعل لله ندا أي شريكا وهو خلقك" قلت ثم أي ؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك"، قلت ثم أي ؟ قال: "أن تزني بحليلة جارك". فأنزل الله تصديق ذلك، قوله تعالى: (( والذين لايدعون مع الله إلها آخر ولايقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولايزنون، ومن يفعل ذلك يلق آثاما يضاعف لع العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا)) الفرقان الاية
تلك الضوابط الشرعية توضح لنا طريق السمو المطرد وشروط التي اقتضتها سنن الله الكونية: تشجيع النسل بالوسائل التي تحارب الإسراف في الأكل قصد البذل والعطاء للبنين والأهل وذلك يقتضي صبرا لردع شهوة البطن، ثم تشجيع النسل بالوسائل التي تمنع انتشار الدعارة وقد فات توضيح علاقتها بظهور العقم عند المرأة، وهذا يقتضي صبرا لضبط شهوة الفرج.
طريق السمو المطرد تقتضي كذلك شروط احترام كلمات الله الشرعية للتقرب إلى الله بالأخذ بهذه الأسباب في إطار الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره والتواصي بالحق والتواصي بالصبر
هذا التواصي تنبع منه ذاكرة جماعية لاتنضب مع الأزمان منذ أن وعدنا الله بحفظ القرآن. آدم عليه السلام كان يعرف كلمات الله التي لقنها إياه، لكن الأجيال التي جاءت بعده فقدت هذه الذاكرة، ولذلك أرسل الله رسله لإعادة هذه الذاكرة الدينية وكذلك الحال بالنسبة لسيدنا نوح، ولكن جاءت أجيال انحرفت عن الطريق وعبدت الأصنام فأرسل الله سيدنا ابراهيم وبعده رسل رسلا إلى بني إسرائيل، ثم ظهر سيدنا موسى ثم سيدنا عيسى ثم رسولنا الكريم عليهم جميعا الصلاة والسلام، وكل ذلك لاستعادة الذاكرة الدينية كما أطلق عليها الدكتور صلاح محمد عدس في مقاله "ضرورة العودة إلى الله" ( مقتبس من مجلة منارالإسلام يناير 1985 )، يقارن فيه الذاكرة الدينية بالذاكرة التي تتحكم في انشطار خلايا الجسم، " إذا حدث لخلية أن فقدت ذاكرتها، فإنها تضل تنمو بلا حدود وبلا قانون، فتكون ورما سرطانيا يقضي على الحياة نفسها. ويعطي الدكتور لذلك مثالا "أصبع اليد مثلا لها شكل ولها حدود ولها طول معين محدد بقانون، بحيث يظل ينمو منذ الطفولة حتى يصل إلى هذا الحد المعروف، ولكن إذا ما ظل ينمو بلا حدود وبلا قانون، فإنه يتحول إلى ورم سرطاني مدمر للكائن الحي نفسه على المستوى البيولوجي. وكذلك الحال بالنسبة للذاكرة الدينية عندما تفقد في جماعة ما وفي زمان ما، فإن القوم يصيبهم سرطان الترف والفسق والفساد المدمر للحضارة الإنسانية مثل ما حدث للامبراطورية الفارسية والامبراطورية الرومانية، ومثل ما هو نازل الآن بالمجتمعات العلمانية المترفة، حيث أصيب القوم بانتشار العنف والجريمة والجنون والانتحار والطلاق والفسق والفوضى الجنسية وهلم جرا...
لقد بعث الله رسله إلى البشر للتذكير، فقال تعالى: (( كلا إنها تذكرة)) "المدثر "وقال أيضا: (( وما هي إلا ذكرى للبشر)) "المدثر ". ويقول أيضا: (( فذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)) "الطور "
لما نضج عقل البشرية لفهم كلمات الله الكونية وكلماته الشرعية، ختمت الرسائل السماوية برسالة نبينا عليه الصلاة والسلام، وضمن تجديد الذاكرة الدينية على يد العلماء الوارثين لوظيفة التجديد لدين الله، وهم في مرتبة أنبياء بني إسرائيل.
تلك عناصر لبناء مؤسسة التواصي بالحق والصبر، المعارضة لجهاز الإفساد العلماني. وهيكل عبدة الشيطان كيده ضعيف، بني على شفا جرف هار، فانهار بهم في نار جهنم الدنيا والآخرة. فلا استمرارية لباطلهم إذا أقلعت جماهير المستضعفين عن مدهم ونصرتهم والاستكانة تحت قهرهم وإفسادهم. ويوشك آنذاك أن يتحقق لهم موعود الاستخلاف.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
تم بعون الله في آخر يوم من رمضان سنة 1405، الموافق ليوم الأربعاء 19 يونيو1985
القرآن الكريم
تفسير القرآن الكريم لابن كثير
تفسير القرطبي
صحيح البخاري وصحيح مسلم وغيرهما
الفتاوى لابن تيمية
العقيدة الطحاوية
إحياء علوم الدين للغزالي
المغرب المسلم ضد اللادينية : ادريس الكتاني
فلسفتنا للشهيد محمد باقر الصدر
اقتصادنا للشهيد محمد باقر الصدرُ
فلسفة التشريع الإسلامي للدكتور صبحي المحمصاني
إسلام بلا مذاهب للدكتور مصطفى الشكعة
نحن والحضارة الغربية لأبي الأعلى المودودي
تحديد النسل لأبي الأعلى المودودي
موجز تاريخ تحديد النسل لأبي الأعلى المودودي
عبقرية الإمام علي، لعباس محمود العقاد
روائع نهج البلاغة الإمام علي بن أبي طالب
العلمانية لسفر الحوالي
الإنسان والكون في الإسلام للدكتور أبي الوفا الغنيمي التفتزاني
تاريخ ابن خلدون
الإسلام بين العلماء والحكام لعبد العزيز بدري
السرابية أو الموت لروني ديمون ترجمة حسن قبيسي
المنهج الإسلامي لدراسة المجتمع للدكتور السمالوطي
الإمامة والسياسة لابن قتيبة
Les trois premières minutes de la création par Steven Weinberg
La biologie humaine par Eugene Schreider
La population mondiale par Jean Marie Poursin
Lhomme cet inconnu par Alexis Carrel
Le défi mondial par JJ Servan Schreiber
La grande aventure de l’humanité par Arnold Toynbee
Au pays des quanta par Léonide Pnomarev
Les grands courants de la biologie par Jean Rostand
[1] بدعة ظهرت في المغرب بداية من القرن الثامن الميلادي على يد " مؤسس الدولة البرغواطية الروحي، صالح بن طريف وقد كان حضر مع أبيه طريف حروب ميسرة ضد العرب وكان من أهل العلم والخير فيهم. ثم انسلخ من آيات الله وانتحل دعوى النبوة وشرع لهم الديانة التي كانوا عليها. ذكر أبو صالح زمور، الذي كان سفيرا لبرغواطة في قرطبة، ذكر أن طريف ينحدر من أصل يهودي، إذ كان أحد أجداده يحمل اسم شمعون بن يعقوب" : ابن خلدون.
"ديانة برغواطة إسلامية في شكلها، بربرية في طقوسها، يهودية في عمقها وميولاتها" : المستشرق سلوش
دين بني طريف " بدّل عقول الناس وبدّل معارفهم وافترض عليهم طاعته في سنن ابتدعها. قواعد التشريع البرغواطي تبيح الزواج من النساء بقدر ما استطاع الرجل مباعلتهن كما يبيح العود بعد الطلاق، دون قيد" : ابن حوقل.
- المغرب المسلم ضد اللادينية للدكتور إدريس الكتاني[2]
- شهادة تاريخية مروية عن المؤرخ مولاي هاشم العلوي[3]
[4] - عن مقال "الكتاتيب القرآنية" للعلامة قدور الورطاسي يقول : أن " المارشال ليوطي" حذر قائلا : " إني لا أخاف على فرنسا من أي شيئ في المغرب، ولكن أخاف عليها من أولئك الذين يدخلون ويخرجون مطرقي الرؤوس من أبواب تلك البناية التي يطلق عليها إسم "القرويين".
ومن المعروف أن اليوطي كان من محاربي اللاييكية في فرنسا الذين انهزموا أمام ما يسمى آنذاك بالمتنورين اللاييكيين. إثر انهزامه عين في المغرب لإبعاده عن الساحة السياسية الداخلية.
[5] - المصدر السابق : ص 130.
[6] - لجأت جمعية البنائين الأحرار (Francs-Maçons) إلى عمل دقيق هوترفيه كل العسكريين اللادينيين في فرنسا وتلميعهم لإحكام الهيمنة على الساحة السياسية إبان الثورة الفرنسية وبعدها.
[7] - انظر: الماسونية ذلك العالم المجهول: لصابر طعيمة أوكتاب بروتوكولات حكماء صهيون: للتونسي.
[8] - الماسونية ذلك العالم المجهول: صابر طعيمة، ص: 158. طبعة دار لجيل.
[9] - سورة التوبة، الآية 9.
[10] فلسفة التشريع في الإسلام للدكتور صبحي المحمصاني.
[11] Les trois premières minutes de l'univers : S Weinberg ; pp 167 Ed. Le Seuil.
[12] La biologie humaine par Eugene Shreider p. 26, collection « Que sais-je »