المسألة الزراعية في المغرب ومشروع البديل الإسلامي
تأليف محمد المهدي الحسني
1998
بسم الله الرحمن الرحيم
المسألة الزراعية في المغرب ومشروع البديل الإسلامي
المحتوى
الفصل الأول: واقع رعاية الثروات الطبيعية
إمكانات طبيعية مهمة وتدبير يبحث عن المزيد من الكفاءة والأمانة
الخطط والوسائل المادية المرصودة لقطاع الفلاحة
هاجس الاكتفاء الذاتي الذي لم يتحقق
الصادرات وخطر الكساد
استيراد وسائل التجهيز وتكريس العجز التجاري
اقتصاد فلاحي يسير على وتيرتين
الفصل الثاني: تدخل الدولة في المجال التشريعي ونتائجه
الهياكل والقوانين العقارية الحالية
المرجعية القانونية لتدبير الموارد الطبيعية
حصيلة التطبيق الفعلي على أرض الواقع لهذه التشريعات
حصيلة التدابير المتخذة لحل مشاكل إتلاف الموارد الطبيعية
وسائل الإنتاج والمسألة العقارية عبر أحكام الشريعة
ملكية الأراضي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله
ملكية الأراضي في عهد عمر بن الخطاب
عمر أول من مسح الأرض في الإسلام.
عمر يفرض الخراج على أرض الشام ومصر كما فعل بأرض السواد:
عدالة عمر في تقرير الخراج على الأرض ورعايته لأهلها من غير المسلمين
أنواع الأراضي في عهد عمر
ملكية الأراضي في الفقه الإسلامي
الفصل الرابع: معالم في سبيل تدبير مستدام للثروات الطبيعية.
سبل الإصلاح : نهج تشجيع الفوضي، أم نهج التخطيط الراشد
تنزيل الأحكام الشرعية على أرض الواقع
الأصول الثابتة والأحكام الاجتهادية المرسلة
أحكام الشرع في المراعي والغابات لمعالجة آفة التصحر
فضاءات الاجتهاد للعصر في المسائل المتغيرة والمصالح المرسلة
المراجع
بسم الله الرحمن الرحيم
المسألة الزراعية في المغرب ومشروع البديل الإسلامي
مقدمة
الأمن الغذائي الذي استعصى على الحكومات المتعاقبة على المغرب منذ الاستقلال السياسي، تعرض للدراسة والتحليل من طرف المختصين على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والمذهبية والحزبية، خاصة بمناسبة الإعداد للانتخابات. فبعد تشخيص أزمة ضعف أداء قطاع الفلاحة وخطورة التبعية الغذائية، وتحديات العولمة، اقترحت هذه الفعاليات برامج مختلفة لإخراج هذا القطاع الحيوي من الأزمة التي يعيشها.
ندرج هذه الدراسة، مستعينين بالله، لإبداء وجهة نظر أخرى تحاول الانطلاق من المرجعية الإسلامية، وتسعى للتفكير في الطرح البديل للنظرة الوضعية، استعدادا لسنة التداول الحقيقي، بعد تهيئ الظروف الموضوعية لاستقبال البديل الاسلامي بكل تلقائية، عندما يعترف الزمن اللاييكي بانقضاء أجله المحتوم.
تنطلق المقاربة للبديل الإسلامي للمسألة الزراعية انطلاقا من أرض الواقع، وما وصلت له الحكمة البشرية من تقانة في استغلال الثروات. لذا سوف لن نجد أي حرج للاستعانة بالخبرة الميدانية والنظرة التحليلية لكافة المختصين بغض النظر عن الانتماء الأيديولوجي والمرجعية الفكرية .
حصاد العقل البشري هذا، سنحاول تنويره بما أثبته النقل الصحيح في المسائل التي تكلم عنها الشرع، وسوف نحاول اقتراح منهجية لترجيح ما سكت عنه الشرع، مستعينين بما استجد من اكتشافات في مجال الحفاظ على الثروات المتجددة والثروات الغير متجددة.
الفصل الأول من هذه الدراسة سيلقي نظرة تحليلية لواقع قطاع الفلاحة بما فيه من ثروات زراعية وحراجية ورعوية وثروات بحرية. ما هي إمكانات هذا القطاع الحيوي؟ وكيف يؤدي وظيفته الأساسية التي تكمن في توفير الأمن الغذائي وتصدير الفائض إن أمكن ذلك؟
الفصل الثاني سيناقش في حدود النقد البناء الحلول الوضعية المطروحة في الساحة لتجاوز الأزمة ولتصحيح المسار، خاصة في المسألة العقارية التي تقف حجر عثرة أمام تقنيات التحديث والتدبير العقلاني لاستغلال الأراضي.
الفصل الثالث يطرح أفكارا لبناء البديل الإسلامي لرعاية ثروات البيئية، على ضوء المقاصد الشرعية والقوانين الطبيعية والحكمة الوضعية.
الفصل الرابع والأخير، سيعرض خلاصة لأهم الممهدات لتنزيل هذا البديل على أرض الواقع في إطار الشورى والتدرج وإشراك أهل الخبرة والمعنيين برعاية الثروات الطبيعية.
وما التوفيق إلا بالله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه .
الرباط، عشية يوم الجمعة ، 24 صفر الخير 1419 الموافق 19 يونيو 1998
محمد المهدي الحسني
الفصل الأول: واقع رعاية الثروات الطبيعية
إمكانات طبيعية مهمة وتدبير يبحث عن المزيد من الكفاءة والأمانة
الخطط والوسائل المادية المرصودة لقطاع الفلاحة
هاجس الاكتفاء الذاتي الذي لم يتحقق
الصادرات وخطر الكساد
استيراد وسائل التجهيز وتكريس العجز التجاري
اقتصاد فلاحي يسير على وتيرتين
الفصل الأول: واقع رعاية الثروات الطبيعية
إمكانات طبيعية مهمة وتدبير يبحث عن المزيد من الكفاءة والأمانة:
مساحة المغرب التي تقدر ب 71 مليون هكتار تتوزع بين الاراضي القاحلة التي لا تصلح للزراعة 44 % والمراعي 30 % والغابات 8 % ومروج الحلفا 5 % والأراضي الزراعية 13 %.
هذا الثغر الغربي للمغرب العربي يطل على 500 كلم من شاطئ البحر الأبيض المتوسط وعلى 1300 كلم من شاطئ المحيط الأطلسي.
الأراضي الزراعية تبلغ 9,2 مليون هكتار عشرها مسقي والباقي يعتمد على الأمطار الموسمية في ريه. إمكانيات الري المنتظم تقدرها وزارة الفلاحة في حدود 1ة3 مليون هكتار، وهذا ما يعني محدودية في االمناورة في هذا المجال أي أن القرن المقبل سيشهد تقلصا مخيفا في مستوى نصيب الفرد من المساحة المسقية. هذا المعدل شاهد فعلا هبوطا واضحا من 0,2 هكتار في سنة 1956 و0,19 هكتار سنة 1969 إلى 3,50 م مربع سنة 1996. وسوف نرى كيف يمكن مراجعة تقدير هذه الإمكانيات اعتمادا على مقاربة أخرى لمسألة الري. تأخذ بعين الاعتبار النسبة الضعيفة المعباة للسقي من مياه التساقطات المطرية التي يستقبلها المغرب في السدود 13,7 مليار متر مكعب من بين 150 مليار أي نسبة 9 % فقط هي التي يستفاد منها، والباقي يذهب سدى عن طريق التبخر أو يرجع للبحر أو ينساب إلى أعماق الأرض[1].
الغابات تبلغ مساحها 5,8 مليون هكتار منها ما هو منتج (31%) ومنها ما يصنف في غابات الوقاية من التصحر (69%) الغطاء الغابوي يمثل 8 % من المساحة الإجمالية للقطر وهي نسبة ضعيفة مقارنة مع بلدان البحر الابيض المتوسط القريبة ( إسبانيا: 25% ، البرتغال: 33 %، اليونان: 35 %). إنتاج هذه الغابات يغطي 30 % من حاجة القطر من خشب الصناعة، 30 % من الحاجيات الطاقية و17 % من أعلاف الماشية. ويوفر للجماعات المحلية موارد تقدر ب220 مليون درهم سنويا.
المراعي مساحتها تبلغ 21 مليون هكتار (30 % من مساحة القطر) يمكن تصنيفها كالتالي:
- مراعي صحراوية تتجاوز مساحتها 10 ملايين هكتار (48 % من المساحة الإجمالية للمراعي) يقدر إنتاجها بمليار من الوحدات العلفية.
- مراعي الهضاب العليا: 5 ملايين هكتار (22 %) تنتج كذلك حوالي مليار من الوحدات العلفية.
- مراعي " أطلسية ": 6 ملايين هكتار (30 %) تنتج قرابة 1,8 مليار وحدة علفية.
العوائق الأساسية التي تواجه استغلال الثروات الطبيعية الفلاحية والبحرية ترجع أساسا للعوامل الطبيعية كالتقلبات المناخية وعوامل تدهور الأراضي وانجرافها وتصحرها. عوائق أخرى مرتبطة بنشاط الإنسان كمشاكل النهب و الاستغلال المفرط للثروات البرية والبحرية ومشكل التوسع العمراني الذي سيجتاح مساحة 450.000 هكتار على المدى المتوسط، ومشكل الهياكل العقارية كتفتت الأراضي عبر أجيال الورثة وتبعثرها تحت قوانين عقارية مختلفة ، أو مشاكل احتكار الأراضي الخصبة، زيادة على مشاكل هياكل وعوامل الإنتاج كالمشاكل التقنية ومشاكل الأثمنة والتمويل والتسويق، وغيرها.
لمعالجة هذه العوائق، دأبت الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال على إعطاء الأولوية لقطاع الفلاحة، ترجمتها خطط للتنمية، ورصدت لها الوسائل المادية والبشرية، وشرعت قوانين مختلفة لتجسيد التوجهات السياسية المسطرة.
ويمكن القول أن هذه التدابير صادفت الصواب في مجال درء مخاطر المجاعات الكبرى التي كانت تجتاح القطر خاصة في زمن الاحتلال الأجنبي. لكن ما هو ثمن هذا الإنجاز؟ ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين لا بد من الإشارة لوجود نقط ضعف يمكن أن تسبب نكسة تفقدنا استقلالنا السياسي، إذا زادت تبعيتنا الغذائية للخارج، واستفحلت المديونية للحد الذي يذكر بمديونية بداية القرن التي مهدت لدخول المحتلين.
الخطر وارد وليس ضربا من الخيال في غد العولمة الوشيك، خاصة وأنه لم يخطط لأي دفاع جدي يحمي البلد كما خطط له وأنجز في باكستان وإيران. وخاصة أيضا في غياب أي دراسات مستقبلية استراتيجية متحررة من أفكار ومعتقدات الخبراء الأجانب.
الخطط والوسائل المادية المرصودة لقطاع الفلاحة:
حظيت الزراعة المغربية بالأولوية منذ فجر الاستقلال السياسي من خلال برامج بناء السدود، والتهيئة العقارية، والتمويل، والهيكلة لتشجيع الرأسمالية الزراعية الموجهة نحو الصادرات والمندمجة في النظام العالمي.
إلا أن الاستثمارات الضخمة الموظفة في القطاع الفلاحي خلال العقود الثلاثة الماضية، لم ينتج عنها ذلك التطور المنشود في الإنتاج الذي يهدف لتحقيق الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي من المواد الاستراتيجية والأساسية، والحد من نزيف العملة الصعبة الذي تحدثه الواردات من هذه المواد الغذائية وواردات التجهيز المتمثلة في الجرارات وآلات الحصاد ومضخات إلى غير ذلك من المواد المصنعة في الخارج.
ميزانية الدولة الموجهة إلى الزراعة والري تراوحت بين 20 بالمئة و37 بالمئة من مجموع النفقات في مختلف مخططات التنمية ابتداءا من 1961 إلى 1976، وبين 10 إاى 15 منذ 1976. مبلغها السنوي تضاعف 8 مرات بين 1965 و1985. وقد هبطت كما أوردنا هذه النسبة لما لوحظت هزالة النتائج التي سجلها القطاع، ونهجت الحكومات الأخيرة توجهات سياسية أخرى.
الاستثمارات كانت موجهة خاصة للمناطق المروية، مستهدفة فئة من الفلاحين القادرين على تسديد مستحقات التهيئة، التي غالبا ما تكون مكلفة بسبب التبذير الذي يميزها، وضعف التقنيات المستعملة فيها.
وتتدخل الدولة في توفير القروض الخارجية اللازمة لإنجاز الأشغال الكبرى المرتبطة ببناء السدود والقيام باستصلاح بعض المناطق، كما أنها تساهم في نصيب كبير من الإنتاج الزراعي عن طريق الشركات التابعة لها.
هاجس الاكتفاء الذاتي الذي لم يتحقق:
رغم ظخامة الاستثمارات في القطاع الفلاحي، خاصة في الدوائر المروية، يبقى الإنتاج الزراعي في المغرب خاضعا للتقلبات المناخية وحساسا تجاه الظروف والعوامل الطبيعية المختلفة. فالإنتاج الزراعي ،حسب المالكي، "لم يتطور بين 1981 و1985 إلا بنسبة واحدة بالمئة سنويا، وهذا المعدل منخفظ جدا بالمقارنة مع النمو الديمغرافي. ونسجل أيضا أن إنتاج الحبوب في نهاية هذه الفترة قد انخفض إلى 29 مليون قنطار سنة 1992، بعد أن كان 85 مليون قنطار في 1991. وقد أصيب المغرب سنة 1995 بموجة من الجفاف مما حتم على الدولة رفع الواردات الغذائية. وقد وجه الملك نداءا رسميا إلى الشعب بهذه المناسبة كي يساعد القرويين المتضررين في وثبة تضامنية. "
وهنا نطرح السؤال البديهي المشروع: ما جدوى سياسة السدود إذا كانت لا تحقق السقية أو السقيتين الحساستين المكملتين لري الأمطار الموسمية، قصد ضمان الكفاية من المواد الاستراتيجية والأساسية؟
نعم، حسب بعض الدراسات ، " لقد تطور الإنتاج على العموم بين 1963 و1991-1992 على شكل أسنان المنشار المتصاعدة. وهكذا فقد انتقل الإنتاج السنوي المتوسط للحبوب من 34 مليون قنطار خلال الستينات إلى أكثر من 85 مليون قنطار في عامي 1991 و1992. أما إنتاج الحوامض فقد تضاعف أكثر من مرتين في ثلاثين سنة. والتطورات الأكثر أهمية سجلت في إنتاج الشمندر السكري الذي تضاعف 12 مرة وفي إنتاج القصب السكري المتضاعف ب 126 مرة خلال العقود الثلاثة الاخيرة ". لكن هذا التطور لا يرقى إلى التطلعات المرسومة في خطط التنمية التي كانت أصلا متواضعة بالنسبة للإمكانات الطبيعية التي يحظى بها المغرب. والقطاع السكري الذي شهد هذا النجاح هو الآن بصدد إعادة هيكلته بسبب تراجع المساحات المخصصة له، نظرا لعدة عوامل، منها عامل سوء أداء معامل السكر.
نقط الضعف تتجلى كذلك في ميدان تربية البقر والغنم الذي اتسم بالركود خلال العقدين الأخيرين بمتوسط سنوي يقدر ب 17 مليون رأس. وعرفت منتوجات الحليب ارتفاعا طفيفا خلال الفترة المدروسة لكنها لم تستطع مواجهة الحاجيات المتزايدة للمستهلكين. المنتوج الذي تطور بسرعة مهمة هو التربية الصناعية للدجاج، التي بلغت نسبة نموها 6 في المئة، حيث قفز الإنتاج من 29000 طن عام 1970 إلى 160000 طن عام 1997 ، ومن 400 مليون بيضة إلى مليار ونصف في نفس المدة. وليس للدولة استثمار يذكر في هذا المجال الذي قامت به فئة من الخواص بدءا من الإنتاج وانتهاء بالذبح والترييش. الأخطار المحدقة بهذا النشاط الحيوي هو محاولة تقنينه لصالح الذين يحاولون احتكار حق الذبح والترييش تحت ذريعة الأمن الصحي للمواطنين.
المراعي والغابات تتعايش هي كذلك مع شبح التصحر وتدهور البيئة حيث تقدر المساحات التي تفقد غطاءها النباتي بما يقرب من ثلاثين ألف هكتار في السنة.
مؤشرات الأزمة في قطاع الفلاحة تتجلى كذلك في:
- تراجع طاقة التشغيل في القطاع الفلاحي الذي يشغل حاليا 45 بالمئة من السكان النشيطين بدل 56 بالمئة في 1960؛
- انخفاظ القيمته المضافة للزراعة من 30 بالمئة من الناتج الداخلي الخام في السبعينات ، إلى 15 بالمئة في موسم 1992-1993.
- معدل النمو السنوي المتوسط للقيمة المضافة الزراعية (التي تغطي المنتوجات الموجهة إلى السوق الداخلية أو للتصدير) كان يبلغ 3,9 بين 1961 و1970 و1,1 بالمئة بين 1970 و1980، و2,6 بالمئة بين 1980 و1992.
ومن مؤشرات التخلف كذلك انعدام التضامن بين الزراعة التقليدية المفتتة العاجزة المكبلة بقيود الديون الربوية ، وبين الزراعة العصرية الغنية المرتبطة هيكليا بالخارج. هذه الزراعة العصرية التي تتعامل بموارد مالية داخلية وخارجية كبيرة، وتنعم بالعفو الجبائي، ولا تؤدي الحق المعلوم للسائل والمحروم، تجدها تسارع في التوسل بالأجانب لحل مشاكل تسويق منتوجاتها، عوض أن تلتفت تجاه الشعب لتلبية حاجاته. التوسل بالأجانب يتخذ أشكالا مفجعة تذكرنا بزمن العار وقابلية الآستعمار في بداية هذا القرن. من هذه الفواجع كراء بعض الأراضي التي تسر الناظرين خصوبتها لبعض الصهاينة وبعض الصليبيين الذين لا يجدون أي حرج في غرسها بالكروم المنتجة للخمور، ربما تأسيا بشركات الدولة: أكبر منتج لها في هذا البلد المسلم. وقد تجد من يشعر بالحنين لزمن الاستعمار ويطعن في ظهيراسترجاع الأراضي المغتصبة ( قانون 2 مارس 1973 ). فتحت عنون "المطالبة بعودة الحماية" كتب أحد المحامين[2]: " إن صدور قانون 2 مارس 1973 قد ترتبت عنه عدة قضايا: أولا إن استرجاع الدولة لهذه الممتلكات هو بمثابة طرد لهؤلاء الأجانب المقيمين بالمغرب، وهذا خطأ سياسي في علاقات المغرب مع الحكومات التي ينتمي لها هؤلاء الأجانب في الوقت الذي يعيش آلاف المواطنين المغاربة في البلاد الأجنبية والتي كان من الممكن أن تنهج نفس الأسلوب انتقاما . ثانيا: إن هذا الاسترجاع هو مساس بحق الملكية ولو تعلق الأمر بأجنبي." ... مرافعة لو وردت في زمانها لتبدلت هوية هذا البلد المسلم بتناسل شريحة واسعة من الغاصبين الصليبيين، ولكنا قاب قوسين أو أدنى من الطرد من وطننا كما طرد المسلمون من الأندلس يوم أمس. فما أجرأ هذا المحامي الفاضل على كلمة باطل يرجى بها باطل.
الصادرات وخطر الكساد:
السياسة الزراعية المتبعة أثمرت إذن عجزا في إنتاج الزراعات المعيشية الاستراتيجية (الحبوب والبقول)، والمنتوجات الغذائية الأساسية ( اللحوم الحمراء، مشتقات الحليب، الزيوت). وكرست التبعية للوسطاء الأجانب لعلاج مشاكل صادرات الفلاحة العصرية ( الحمضيات، الطماطم، البطاطس...)، في زمن إجراءات الحماية التي وضعتها السوق الأوروبية المشتركة. وغد يأتيك بأخبار كيد العولمة من لم تزود.
الزراعة الموجهة إلى التصدير تعتمد على مجموعة من المنتجات الساعية للربح الآني على حساب الأجيال، كلفتها باهظة بالنظر لما تخلف من عوامل الإفساد للبيئة والتبذير لمواردها الطبيعية . فهي مستهلكة لكميات كبيرة من مياه السقي، (سقي الهكتار الواحد منها يعادل سقي 5 هكتارات بواسطة السقي المركز أو السقي المكمل) ، وتحتاج لتربة خصبة، وتستهلك أسمدة ومبيدات كيماوية لا ننتجها بل تستنزف عملتنا الصعبة، وتجعل منا بلدا يستهلك أحيانا سموما محرمة في أغلب الأقطار.
الزراعة الموجهة إلى التصدير تستهلك كذلك تمويلات ومعونات الدولة، وتكبل البلد بقيود الديون والقروض الخارجية، سواء من أجل التجهيز (السدود، أشغال تهيئة الدوائر المسقية ...إلخ) أو الاستثمار (الأدوات الزراعية والبيوت البلاستيكية والتجهيزات المستوردة المتنوعة ... إلخ). هذا زيادة على إعفائها من أداء حتى الدرهم الرمزي في سبيل التكافل الاجتماعي عن طريق الزكاة أو الضرائب.
خيار الزراعة الموجهة إلى التصدير كان من أهم مبرراته جلب العملة الصعبة للبلد، وقد صعب فعلا جلبها، لأن جل السلع المصدرة تفتح أبواب تهريب الثروة الوطنية، التي ساهمت في تكوينها الأجيال الحاضرة والمقبلة، المطلوبة بتسديد الديون مضاعفة بتبعات الربا المتفاحش.
ولقد كره المزارع الأوروبي هذه السلع الرخيصة بسبب ما حشي فيها من إعانات الدولة المرئية وغير المرئية، حتى قيل أن المواطن المغربي يتبرع بنصف ثمن ما يبيع لنظيره الأوروبي.وهذا ما أدى إلى إجراءات الحماية التي وضعتها السوق الأوروبية المشتركة، وبالتالي، تداعي حجم الصادرات التي تداعت من 59 في المئة من الصادرات العامة لسنة 1970، إلى 26 في المئة سنة 1992، و20؟ في المئة سنة 1994.
اتجاه هذه الصادرات نحو الانخفاض، والتي بقيت تمثل رغم ذلك 30 بالمئة من الصادرات الإجمالية خلال الثمانينات و26 بالمئة منها في بداية التسعينات، هذا الإتجاه يعود سببه أصلا إلىانضمام بعض الأقطار المتوسطية الأوروبية إلى السوق الأوروبية خلال الثمانينات.
وقد زاد هذا التراجع وتكرس في مفاوضات الشراكة بين المغرب والاتحاد الأوروبي. هذه الشراكة اتسمت بالطابع الغير المتكتفئ للعلاقات الاقتصادية للطرفين، فمن جهة يقف 18 بلد "ذات اقتصاد معقد ومتقدم ومميز بالتعاضد بين القطاعات والمناطق الاقتصادية، وهو اقتصاد رفيع الأداء" كما يصفه فتح الله ولعلو ، ومن جهة أخرى يقف المغرب فردا تنتابه مشاعر الغربة، وهو البلد النامي"الذي يملك اقتصادا مفككا ترتبط فيه جل القطاعات العصرية بالخارج إيرادا وتصديرا للمواد الأولية أو المصنعة". ولا يسمح لبلدان المغرب العربي بأي تنسيق، بل يأتون فرادى متنافسين أيهم يكسب فتاتا زائدا على حساب الآخر,,,
وكل المؤشرات تعلن أن الأمر سيستفحل والتبعية ستتكرس أكثر فأكثر في زمن العولمة الذي سيفاجئ من يهمهم الأمر ويداهمهم على حين غفلة منهم في غياب شبه كامل للدراسات المستقبلية لهذا الأمر.
وقد أصبحت خيبة أمل الصادرات الفلاحية هيكلية بفعل ميزان القوى التي هي في صالح الاتحاد الأوروبي بصورة دائمة، وهو ما ساهم في تحطيم الاقتصاد المغربي وإضعافه رغم الخيار الاديولوجي الرأسمالي والليبيرالي، ورغم اندماج الفلاحة والاقتصاد المغربي مع الاقتصاد الرأسمالي العالمي، ورغم تداخل المصالح الاقتصادية للطبقة الحاكمة مع مصالح الدول الأوروبية.
ونظرا لإعراض هذا النموذج الاستعماري عن الحاجيات الاستهلاكية الداخلية، ظهرت معضلة ارتفاع الواردات الغذائية، وتظافرت مع معضلة انخفاض الصادرات الزراعية بفعل العراقيل الخارجية، مما أدى للعجز العيكلي للميزان التجاري وتفاقم الديون الخارجية.
استيراد وسائل التجهيز وتكريس العجز التجاري:
إعادة النظر في توجهات السياسة الفلاحية أفصح عنها منذ الخطتين الخمسيتين (1973-1977) و(1981-1985) لإعطاء الأولوية لبعض المنتجات الأساسية كالسكر والحليب والزيوت. فبالنسبة للسكر، الاكتفاء الذاتي تمت برمجة تحقيقه لسنة 1984. لكن شتان ما بين التخطيط والأموال المرصودة للوفاء به وبين الإنجاز. إن الاكتفاء الذاتي لم يتحقق حسب الحبيب المالكي ، " إلابنسبة 74 بالمئة، وبعد مرور 7 سنين على الموعد. وقد اضطر المغرب في نهاية هذه الفترة إلى استيراد مادة السكر لتغطية حاجياته" . وشهدت نهاية التسعينات عزوف المزارعين عن زراعة الشمندر، بعد رفع قانون إلزامهم بها، تبعا لمتطلبات تحرير التجارة الدولية.
بالنسبة لمادة الحليب، توقع المخططون الاكتفاء الذاتي في 1975سنة لكن رغم الاستثمارات المرصودة في هذا المجال فإن الاستهلاك الداخلي لم تتم تغطيته إلا بنسبة 60 بالمئة فقط خلال هذه المرحلة، حسب نفس المصدر. وقد تم الإعلان أخيرا عن بلوغ هدف الاكتفاء بنسبة مئة في المئة، لكن المسكوت عنه يبين حقيقة الأمر: ارتفاع الأسعار يجعل المواطن يهجر هذه المادة، وهذا ما يفسر وفرتها. المؤشر الذي ينبغي مراعاته هنا هو معدل استهلاك المغربي ( 37 كلغ سنويا للفرد )، ومقارنته مع المعدل الذي أوصت به منظمة الأغذية والزراعة ( 87 كلغ ).
كما تم الإعلان عن مخطط آخر يتعلق بالمواد الزيتية، لكن نتائجه بدت ضعيفة ومتواضعة ما دامت الحاجيات الرئيسية بعيدة عن التلبية إلا بنسبة 33 بالمئة خلال نهاية الثمانينات في وقت سيرتفع فيه استهلاك الزيت بنسبة 77 بالمئة، أي أنه سيصل إلى 460,000 طن في عام 2000 بدل ال 237,000 طن المسجلة حاليا.
البرنامج الاختياري للاكتفاء الذاتي الغذائي في مادة السكر والحليب والمواد الزيتية لم ينجح كثيرا، باستثناء ما سجل بالنسبة إلى السكر الذي غطى إنتاجه سنة 1991 نحو ثلاثة أرباع الاستهلاك الداخلي.
وقد استمر الارتفاع المذهل لاستيراد هذه المنتوجات، بالإضافة إلى استيراد الحبوب وباقي المنتوجات الزراعية ذات الاستهلاك الواسع الموجه إلى تلبية الحاجيات، استمر في التأثير على الميزان التجاري، ما دامت الفاتورة الغذائية قد وصلت إلى 844 مليون دولار في 1991 وهو ما يعادل 14 بالمئة من مجموع الواردات.
وقد انتقل معامل التبعية الغذائية الممثل بعلاقة الاستيراد بالاستهلاك من حدود 18 بالمئة بين 1961 و1971 إلى حدود 28 بالمئة خلال الفترة 1986 - 1988 ، حسب ما أورده عبد الحميد براهيمي، الوزير الأول الجزائري السابق في كتابه القيم " المغرب العربي على مفترق الطرق".
وفي الحقيقة، فإن تفاقم تبعية المغرب لم يقتصر على نمو الواردات الغذائية فقط، بل قام على نماذج أخرى من الواردات الناتج عن برنامج الاكتفاء الذاتي الغذائي، فمخططات السكر والحليب، قد تطلبت استيراد تجهيزات صناعية لإنشاء 17 مصنعا للسكر و13 مصنعا للحليب، وكذلك استيراد آلاف البقر المنتج للحليب، والبذور الموجهة إلى نباتات السكر وزراعات الأعلاف (بذور الفصة والبرسيم والذرة البيضاء...الخ). هذه التجهيزات الصناعية يبالغ في تقدير حجمها مما يجعلها تشتغل أحيانا تحت طاقتها الانتاجية. المستفيد الأول من التصنيع الفلاحي هي الجهة المصدرة لهذه المعامل (clef en main) زيادة على أن صيانتها كل خمس أو سبع سنوات يمثل في الحقيقة إعادة بناءها تقريبا. وهذا ما يجعلها تستهلك كل أرباحها في هذه التبعية التقنية للخارج.
اقتصاد فلاحي يسير على وتيرتين:
خلاصة القول: لم يحالف التوفيق جل الإجراءات التصحيحية التي خططت لبلوغ أهداف الكفاية بالنسبة للمواد الإستراتيجية والأساسية ، ولم يتم أي دمج للزراعة المغربية التي لا زالت تسير على وتيرتين هما:
- زراعة متطورة متمركزة في المناطق الغنية تشجعها الدولة على المستوى المالي والجبائي وعلى مستوى الأسعار والاستثمارات والتجهيزات وهياكل التأطير الخاصة بالفروع المحظوظة، وتقوم هذه الزراعة على نشاطات إيرادية موجهة أساسا إلى التصدير.
- زراعة تقليدية مجزأة، (مستثمرات من هكتار إلى 5 هكتارات تمثل 70 بالمئة من المستثمرات ولا تغطي سوى 23 بالمئة من المساحة الزراعية الصالحة)، محرومة من الوسائل المالية والتقنية المناسبة ومميزة بالنقص الهيكلي وضعف التأطير وضعف دعم الدولة لها وعدم الاهتمام بالزراعات المعيشية.
وقد أدت هذه الوضعية إلى نمو الواردات الغذائية بفعل نمو الطلب السريع بالمقارنة مع نمو إنتاج الزراعة المعيشية الاستراتيجية.
لقد وكل للزراعة التقليدية النصيب الأفر من مهمة بلوغ الكفاية للمواد الإستراتيجية والأساسية، دون أي مؤازرة من القطاع العصري الذي ربما زاد من المساحات المنتجة للورود والخمورعلى حساب ما يستهلكه المواطنون. ولا يمكن للقطاع التقليدي حل الأزمة وحده لأنه غارق في مشاكل مستعصية نخص منها بالذكر: إشكالية الهياكل والقوانين العقارية ومعضلة التمويل والمديونية وضعف البحث الزراعي، وهذا ما ترتب عنه انخفاض انتاجية الهكتار مقارنة مع انتاجية نظيره في أوربا: الإنتاجية المحلية تتراوح بين 10 و15 قنطار في الهكتار بينما تبلغ في أوربا 80 إلى 100 قنطار في الهكتار.
الفصل الثاني: تدخل الدولة في المجال التشريعي ونتائجه
الهياكل والقوانين العقارية الحالية
المرجعية القانونية لتدبير الموارد الطبيعية
حصيلة التطبيق الفعلي على أرض الواقع لهذه التشريعات
حصيلة التدابير المتخذة لحل مشاكل إتلاف الموارد الطبيعية
الفصل الثاني: تدخل الدولة في المجال التشريعي ونتائجه
الهياكل والقوانين العقارية الحالية:
المنعطفات التاريخية الكبرى تركت بصماتها في العالم القروي في شكل تراكمات لقوانين مختلفة بدءا بأعراف الملكية المشاعة التي اعتمدتها المجتمعات البدائية عندما كانت كثافة السكان قليلة وحاجياتها من الأراضي المستغلة أقل من المساحات المتوفرة. وهو الوضع السائد قبل الإسلام، وانتهاءا بطغيان قانون التملك الخاص الوضعي الذي يحاول اكتساح كل الأراضي والقضاء على كل أنواع الملكيات، ومرورا بالأحكام الشرعية التي أتى بها الإسلام، والتي كانت سدا منيعا ودرعا واقيا من خطر الإفساد والتصحر الذي سرى بعد انهيار حرمة تلك الأحكام، تحت حكم الأهواء.
الأرقام التي كشف عنها الإحصاء الفلاحي لسنة 1974 كانت في وقتها ناطقة ومنذرة بخطر تدهور الأراضي وتدهور إنتاجيتها بسبب الفوضى والغموض اللذين يميزان المسألة العقارية.
الأراضي الفلاحية المتبعة لقانون الملكية الخاصة الوضعية تبلغ مساحتها حوالي 5،5 مليون هكتار تمثل 75 % من المساحة الإجمالية للأراضي الفلاحية بالقطر. معدل المساحة الوسطى للضيعات المملوكة لا تتجاوز خمس هكتارات. كان هذا بالنسبة لإحصاء 1974، أي منذ فترة جيل كامل. هذا يعني أن هذه المساحة الوسطى بعد فعل حكم التوراث في العالم القروي المعروف بمعدل الزيادات في السكان تفوق 3 % ، هذه المساحة يتوقع أن تنزل إلى مستوى دون الهكتار الواحد للعائلة . يتضح أننا بعيدون عن الحد الأدنى الذي وضعه الإقتصاديون في تعريف المساحة الدنيا المنتجة التي توفر الاكتفاء لأسرة عادية . وسيكشف الإحصاء الفلاحي المنجز في هذا الموسم ( 96 - 97 ) عن أرقام بلا شك أخطر مما ترقبنا تنذر عن قرب استفحال الكارثة العقارية والبيئة في العالم القروي، بانهيار التوازن بين أنواع الملكيات وأنواع المؤهلات الطبيعية للأراضي.
كارثة تفتت الأراضي الزراعية في العالم القروي التقليدي ترتبط ارتباطا وثيقا بمعضلة تكدس الإقطاعات الشاسعة تحت يد أقلية من الملاك.
الأراضي العامرة طبيعيا والتي كانت مراعي لا يجوز تملك رقبتها كانت ولا زالت المرشحة الأولى للإنهيار والتصحر بعدما انقلب حكم وضعها وتأرجح في حكم الملكية الخاصة الوضعية. الأراضي الجماعية أو أراضي الجموع أو أراضي الجماعات السلالية ، هي التسميات العرفية لهذا القسم من الأراضي العامرة طبيعيا، الذي تبلغ مساحته 12 مليون هكتار تقريبا، لقد سقط منها مليونا هكتار في حكم قريب من حكم الملكية الخاصة: ما يطلق عليه اسم الملكية على الشياع propriété dans l' indivision وهو وضع متذبذب بين الحكم الأصلي الجماعي، والملكية الخاصة الوضعية ، يتقاسم فيه أفراد السلالة الأرض الجماعية ويستغلونها كأنها ملكية خاصة، ويتوارثونها عرفيا، النساء ليس لهن أي نصيب من الإرث، دون أن يكون أي توثيق لهذه الملكية. وضع غامض، ترتع فيه جراثيم الرشوة والتحايل على القانون، وتتعطل الإنتاجية، حيث أن أول قرار يتخذه القاضي عند النزاعات، هو تعطيل الاستغلال لأجل إصدار الأحكام. وقد يستغرق النطق بالحكم وتنفيذه مدة جيل كامل وزيادة. غموض وفوضى و بعث جديد لحكم الجاهلية ونزاعات تشكل أغلب القضايا المعروضة على المحاكم في القرى والمدن ، والقاضي يحكم فيها بما شاء من أعراف واجتهادات سقيمة.
بعض التقنوقراطيين يرجحون رفع كل حرج عن الملكية الخاصة الوضعية لهذه الأراضي الموزعة عرفيا شريطة أن لا تنزل مساحتها عن الحد الأدنى القابل للاستغلال المجدي اقتصاديا. إلا أنهم لم يلبثوا قليلا في موقف الدفاع عن حلهم هذا حتى داهمهم واقع التوراث الذي قسم الأرض تقسيما صار معه الكلام عن المساحة الدنيا الكافية عبثا أو ترياقا من شأنه تأجيل المشكل لا حله حلا جذريا. تقنوقراطيون آخرون لاحظوا أن الشمل المجموع لبعض الأراضي الجماعية التي بقيت على أصلها، يمكن من تسييرها تسييرا ناجعا وسقيها بالأذرع المحورية، وهو ما لا يتأتى مع الأراضي المملوكة المفتتة، لذا فهم يصرون على المحافظة على النظام التقليدي. وقد أدت سهولة استعمال التقنيات الجديدة للسقي في الأراضي الجماعية إلى تنافس بين وزارة الفلاحة ووزارة الداخلية الوصية على أراضي الجموع، في رهان سقي المليون هكتار، وزارة الفلاحة بواسطة قنوات الإسمنت عموما، ووزارة الداخلية بواسطة الأذرع المحورية.
نوع آخر من الأراضي الفلاحية في القطر، تعرف بأراضي الجيش، وتبلغ مساحتها 280.000 هكتار، وهي تعتبر من أراضي الدولة التي أقطعها السلاطين لأخلاط القبائل، مقابل خدمات عسكرية أسدوها للدولة، إقطاع انتفاع لا إقطاع تمليك. فهي إذن أرض لا يجوز تملك رقبتها أيضا. ذوو الحقوق من هذه القبائل دأبوا على تقسيمها عرفيا تحت أعين الإدارة التي تتولى تدبيرها، كما تقسم أراضي الجموع، فهي كذلك في وضع غامض، مولد لمشاكل تزخر بها المحاكم في كل مكان وتستفحل مع الزمان. أصلها الشرعي يمنع تملك الرقبة، إذ ليس لولي الأمر أن يقطع إقطاع تمليك إلا بالنسبة للأراضي الميتة كما سنتعرف عليه في الفصول التالية، أما الأراضي الفلاحية فهي خاضعة لحكم الأراضي الخراجية ، ملكيتها لعامة المسلمين واستغلالها يتولاه أصحابها الأصليون حسب شروط وعقود مع ولي الأمر. أما إذا انجلى عنها أصحابها الأصليون وهجروها، ففي هذه الحال يستطيع الأمير أن يقطعها لمن يحسن عمارتها إقطاع استغلال بشروط معلومة لا إقطاع تمليك. فإذا مات من يستغلها فإن رقبتها ترجع للأمير لينظر من يتولاها بنفس الشروط أو بشروط أخرى مستجدة تبعا للمصلحة العامة.
أراضي الأحباس هي كذلك من الأراضي المعروفة أصولها الشرعية تتجلى من خلالها أسمى ما يميز الإنسان من قيم التكافل والإيثار ونكران الذات، حيث أن هذه الأراضي المحبسة أو الموقوفة على باب من أبواب الخير أو ثغرة من ثغور الإحسان كانت تلعب دورا أساسيا في تلاحم أفراد المجتمع الإسلامي، وكذلك في تربيته وتعليمه.
حاليا تدير هذه الأراضي التي تتسع على مساحة 80.000 هكتار وزارة الأحباس والشؤون الإسلامية . هذه الأراضي غالبا ما تكون في مواقع مسقية ذات خصب وعطاء وافر. طرق استغلالها في غاية التعقيد والغموض وهو موضوع يستحق دراسة شاملة، خاصة فيما يتعلق بتطور غايتها الإحسانية التي أسست من أجلها ، في زمن فقدان الذاكرة الذي نعيش أحلك أيامه تحت حكم اللادينية .
القسم الأخير من الأقسام العقارية هو ما يعرف بأراضي الدولة الذي تبلغ مساحته 445.000 هكتار.
الرصيد العقاري من الأراضي الفلاحية التي تملكها الدولة كان مصدره ما يسمى بضيعات الاستعمار الرسمية وضيعات الاستعمار الخاص. ضيعات الاستعمار الرسمية أصلها في الغالب أراضي الجموع التي تعرفنا علي حكمها الشرعي ، أقطعها حكم الاستعمار جورا لصنائعه الأجانب وغيرهم، جاؤوا لعمارة الأرض كما يفعل اليهود حاليا في أراضي فلسطين.
عندما نقضت حرمة الأحكام الأصلية، وتم تفويتها للمعمرين، أرغم الناس على الإكتفاء بما بقي من هذه الأراضي بعد أن صار الجزء الأكبر منها لصنائع الاستعمار.
حالة واحدة من حالات عدم اعتبار الحكم الأصلي، كانت كافية لتداعي الحرمات . نضرب مثلا بقضية حماية المستعمر لبعض قواده الذين ساهموا في إخضاع المسلمين لحكم النصارى. هذا القائد أو ذاك استولى على بقعة أرضية مساحتها شاسعة، تضم غابات ومراعي وأراضي فلاحية، حكم الشرع القاضي بشراكة الناس في "الغابات والمراعي والمياه" لم تبق له أي حرمة عندما أقره المستعمر على تسلطه. وكما أن صنيع الاستعمار استولى على آلاف الهكتارات من الغابات والمروج، فأن آلاف الناس سوف يرون في ذلك أكثر من مسوغ وحجة للترامي على هكتار أو هكتارين لكل واحد منهم. فهي إذن آلاف الهكتارات ذهبت أدراج الرياح وأدركها التصحر بعد أن تعرت من غطائها الطبيعي. فانظر كيف تسبب حكم المستعمر في تأسيس آليات التصحر التي لا زالت عجلتها تدور تحت حكم اللادينية ملتهمة ثلاثين ألف هكتار في السنة من الأراضي العامرة طبيعيا.
الأراضي المسترجعة، شملها المجموع مكنها في الغالب من اتباع أنماط الانتاج المعقلنة المستعملة للتقنيات المتطورة في التسيير والتدبير والخدمة . تمثل اليوم واحة وسط صحراء من الفوضى العقارية المفتتة للأراضي المعطلة للإنتاج. نظرة من الطائرة توضح الصورة: ضيعات تذكر بمنظر ريفي في البلدان المتطورة اقتصاديا، وسط فلاة شاسعة تذكر بواقع التخلف والفوضى .
أدرجنا المثال العقلاني للاستغلال المنظم للأرض وربطناه بشركات التسيير الفلاحية الشبه عمومية، فهل هذا يعني أننا نزكي هذا النوع من أنواع علاقة الإنسان بالأرض في جميع جوانبه ومميزاته؟
نجيب على هذا السؤال بعد التعرف على أنواع المعاملات والمزارعات المتبعة حاليا في العالم القروي، وعلاقاتها بالأصول الشرعية التي كانت معتمدة قبل جولة اللادينية ونترك موضوع كيفية إنزال الأحكام الشرعية القطعية على أرض الواقع وأنواع مرجحات الأحكام الإجتهادية في إطار فقه المرسلات بالنسبة لما خيرنا فيه الشرع أو سكت عنه إلى الفصل الموالي إن شاء الله.
بعد هذه النظرة المجملة، للمسألة العقارية، لا بد من تفصيل في موضوع أثر الهياكل العقارية في التنمية الزراعية، لكي يتم التشخيص لمكامن الداء.
الحالة العقارية الراهنة للرقعة الجغرافية القطرية التي تبلغ مساحتها الإجمالية 71 مليون هكتار هي كالتالي:
- ما يقارب نصف هذه المساحة (31,8 مليون هكتار ) يمكن تصنيفه تحت نوع الأراضي الميتة لأنها تتميز بمناخها الصحراوي القاحل.
- المراعي الخاضعة حاليا لقانون أراضي الجموع أو مراعي الجماعات السلالية تقدر مساحتها بعشرين مليون هكتار، لا تزال في معظمها شركة عامة لكن بين أفراد الجماعة السلالية فقط، وتحت وصاية وزارة الداخلية وتحوم حولها الأطماع لتمليكها لما يسمى بذوي الحقوق مع غموض المصطلح بالنسبة لهذه الحقوق وبالنسبة لمصدرها.
- الملك الغابوي ( بما فيه مروج الحلفا ) الذي يغطي مساحة تسعة ملايين هكتار. ملك للدولة، تحت تسيير إدارة المياه والغابات. مشاكله لا يتسع لها موضوعنا المخصص للآراضي الزراعية، يمكن الإشارة فقط لعناوين منها، تتعلق بنتائج تدبيرها وتسييرها من طرف العقول الأجنبية والصنائع المحلية؛ وكيف تم رهنها لأحقاب من الزمن لتسديد القروض التي مولت مشاريع يوجه ريعها لصالح شركات لا تساهم إلا بقسط هزيل في تنمية البلد كمعامل الفلين والسيليلوز؛ ومن يخطط ويشرع لتفويت أراضي شاسعة لشركات تضم أجانب لا يشتبه في وطنيتهم وولائهم؛ وكيف كان رد فعل السكان المجاورين للغابة الذين أرادوا نصيبهم من الخيرات الحراجية من حطب وخشب وثمار وكلأ وصيد (حقوق الصيد منع الناس منها في تفويتات لشركات سياحية لا يأتي منها خير للبادية ) ؛ وكيف ساهم المنتخبون في تآكل الغابات حينما رجحوا مصالح الفترة الانتخابية على مصالح الأجيال المقبلة، ثروة طبيعية تكونت عبر مئات وأحيانا آلاف السنين، تذهب أدراج الرياح عندما تبدل خطط الاستغلال البعيدة المدى الراعية لشروط التنمية المستديمة، ببرامج ظرفية سياسية... وقس على ذلك من مشاكل أخرى.
- الأراضي الزراعية: 9,2 مليون هكتار وهي حسب حكمها العقاري أنواع مختلفة سنذكرها بعد حين. هذا الصنف يمثل نسبة %13 من مساحة القطر الإجمالية، وهو في توسع مستمر على حساب المساحات العامرة طبيعيا: كالغابات والمراعي. عشر هذه الأراضي المحروثة يسقى بصفة دائمة بعد اعتماد سياسة محمودة : بناء السدود. إلا أن مجهود إيصال هذه المياه إلى الأراضي القابلة للسقي كان دون المستوى نظرا لعوامل مختلفة.
الهياكل العقارية لهذه الأراضي الزراعية، تتميز بمعضلات شتى أهمها كما فاتت الإشارة له : تفتت الملكيات بالنسبة للزراعة التقليدية وتكدس الإقطاعات الشاسعة في يد قلة من الملاك .
1 - تفتت الملكيات وضآلة حجم الضيعات، يتبين لنا من خلال إحصاء 1974 الذي ذكر أن المساحة الإجمالية للأراضي القابلة للزراعة ( 2،9 مليون هكتار ) تتوزع على 8,8 مليون قطعة ، بمعدل هكتار واحد لكل قطعة. معدل عدد القطع في كل ضيعة هو 6 . حوالي 70 في المئة من الضيعات معدل مساحتها نحو 5 هكتارات. كان هذاكما أشرنا له سابقا بالنسبة لإحصاء 1974، أي منذ فترة جيل كامل. هذا يعني أن هذه المساحة الوسطى بعد فعل حكم التوراث في العالم القروي المعروف بمعدل الزيادات في السكان تفوق 3 % ، هذه المساحة يتوقع أن تنزل إلى مستوى دون الهكتار الواحد للعائلة .
المساحة الدنيا الموفرة لمتطلبات العيش تختلف حسب المعطيات الزراعية والبيئية لكل منطقة. وعموما، الدراسات كانت تؤكد أن استغلال أقل من 5 هكتارات في المناطق المروية و15 هكتار في المناطق البورية، لايسد غالبا إلا رمق العائلة، ولا يمكن أن ينتج فائضا لمزاولة أي استثمار لمواكبة عوامل الإنتاج العصرية.
يعتبر انتشار الممتلكات الصغرى وكذا تفتتها وتوزيعها من أهم العوائق أمام استصلاح الأراضي وتكثيف الإنتاج، ولا يخول للقطاع الزراعي لا التكيف مع متطلبات الزراعة العصرية، ولامواجهة المشاكل التي يفرضها تزايد السكان، الشيء الذي يكرس اختلال التوازن بين الإنتاج ومتطلبات تغذية السكان.
وبالفعل،فقد أبانت التجربة على أن توزيع الممتلكات وتفتتها يتسبب في سلبيات خطيرة منها استحالة تطبيق مناوبة ملائمة على بقع محوطة وضيقة، وضياع الوقت، وارتفاع كلفة الإنتاج وصعوبة استعمال المعدات الزراعية في الضيعات الصغيرة.
وفي حالة الحفاظ على الاستغلال تحت نظام الملكية المشاعة، فإن عدة مشاكل تطرح، منها: صعوبة العمل بخيارات تقنية واقتصادية في مجال الاستغلال، وصعوبة تفاهم المشتركين في اختيار ممثل واحد للقيام بالمهام الإدارية.
جهل الوضعية الحقيقية للضيعة، يشكل كذلك حاجزا كبيرا لأي تدبير معقلن، علىصعيد توزيع مياه السقي، والمناوبة الزراعية، وأشغال الأرض، والحسابات المالية...
كما أن ارتفاع عدد المشاركين في الملكية الواحدة يؤدي إلى توزيع المداخيل إلى الحدود التي لا تفي بحاجيات الفرد، مما يضيع فرص توفبر الجزء من الفائض الذي لا بد من توظيفه في الضيعة، كاستثمار لتحسين الإنتاج.
واقع الملكية على الشياع وصل حاليا إلى الطريق المسدود حيث أن نصيب الفرد في بعض الأحيان نزل إلى مستوى 0,14 هكتار في سنة 1991 بعدما كان سنة 1952 1,29 هكتار. ثم إن نسبة الضيعات التابعة لعرف الملكية على الشياع قفز من 48 % سنة 1952 إلى 78% سنة 1991 ( مثال مأخوذ من دراسة أنجزت في الدائرة السقوية لأولاد فرج بدكالة).
رغم مظهر الجمع الذي تأتي شكلا عملية ضم الأراضي، فأن حالة تقسيم الأرض بين الورثة وصل إلى الحدود التي تحول دون عمارة الأرض عمارة عقلانية كالعمارة التي يتيحها نظام التسيير عن طريق الشركات الشبه عمومية أو غيرها من الأنظمة التي يبقى فيها شمل الأرض مجموعا وإمكانية الإستثمار فيها على المدى البعيد ممكنا لصالح كل المجتمع.
ومن ناحية أخرى، فإن الاستثمار الزراعي غير المباشر، عن طريق الاكتراءات القصيرة المدى، وبالمشاركات بنصيب من المحصول الزراعي، يمنع بذل أي جهد لتكثيف الإنتاج ومراعاة شروط التنمية المستديمة.
هذا الوضع العقاري المزري الذي يمكن اعتباره السبب الأول في تدهور إنتاجية الأراضي، له علاقة وطيدة مع المشكل المعاكس وهو تكدس الإقطاعات الشاسعة عند فئة قليلة من الملاك.
- 2 الملكية الإقطاعية:
كارثة تفتت الأراضي الزراعية في العالم القروي التقليدي ترتبط ارتباطا وثيقا بمعضلة تكدس الإقطاعات الشاسعة تحت يد أقلية من الملاك الذين قل ما يبتغون فيما استولوا عليه الدار الآخرة. هذه الإقطاعات التي ننتظر من الإحصاء الفلاحي العام الإفصاح عنها، يمكن لمسها عبر بعض الدراسات." ففي منطقة الغرب الذي يمثل بحق تركيز الأراضي الغنية، فنلاحظ أن 300.000 هكتار ( 58 بالمئة منها مروية ) مملوكة من طرف واحد في المئة من العائلات بينما 43,3 في المئة من العائلات هم مزارعون بدون أرض، و40 بالمئة منها لا تملك سوى ما بين هكتار و3 هكتارات غير مروية غالبا، وهي تغطي 11,7 بالمئة من الأراضي فقط " [3]. أو كما أورده بنسالم حميش" أن 5 إلى 10% من كبار المستفيدين من تصفية الإستعمار القروي، يملكون 60% من الاراضي، و40 % من الفلاحين يملك الواحد منهم قطعة نصف هكتار فقط. [4]
المرجعية القانونية لتدبير الموارد الطبيعية:
النصوص المهمة التي صدرت في شأن المسألة العقارية، تتناول القضايا التالية:
التسجيل العقاري ؛ التشريع المطبق على العقارات المسجلة ؛التشريع المطبق على الاكتراءات القروية ؛ تدبير أراضي الجموع والأحباس ؛ ضم الأراضي القروية ؛ استرجاع الأراضي المستعمرة ؛ الإصلاح الزراعي ؛ مراقبة الصفقات العقارية ؛ الحد من تجزيء الممتلكات الزراعية ؛ دوائر الاستثمار الفلاحي في الأراضي البورية.
النظام القانوني للملكية العقارية:
تخضع الملكيات المحفظة للتشريعات المتعلقة بالتسجيل العقاري، على ضوء ضهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتسجيل العقاري، وضهير 2 يونيو 1915 ، الذي يحدد التشريعات المطبقة على العقارات المحفظة.
تنسب الملكيات غير المحفظة إلى الأحكام المستوحاة من الإسلام أو العرف. الربط بالأصول الإسلامية له ملابسات سوف نتعرف عليها بعد حين.
النظام العقاري للتسجيل:
عرف المغرب هذا النظام بعد صدور ضهير 12 غشت 1913،المستوحىمن عقد طرانس الأسترالي، الذي يرتكز على المبادئ التالية:
- إرساء نظام لإثبات نقطة انطلاق دقيقة للملكية، لتخليصها من كل التبعات المادية ومن كل التحملات العقارية السابقة للتسجيل، إن لم يصرح بها قبل الوقت المحدد.
- الإشهار الواسع لحق التملك وللحقوق الأخرى المادية العقارية.
- القوة المقنعة للتسجيلات المصرح بها في السجلات العقارية.
ارتكازا على هذه المبادئ، فإن نظام التسجيل العقاري، يُمكِّن من تعريف وتحديد كل عقار بصفة دقيقة، و من إحصائه في السجل العقاري، تحت اسم ورقم خاصين، مع إشارات طبغرافية وقانونية، تجعل مالك هذا العقار يتمتع بكامل حقوقه بشكل صحيح ومأكد.
الحقوق الواقعية والتحملات العقارية، التحويلات والتغييرات، وكل ما يهم العقار، يصرح به ثم تسجل في السجلات العقارية، التي تعتبر الحالة المدنية الكاملة والمدققة لكل عقار مسجل.
اللجوء إلى نظام التسجيل العقاري يعتبر اختياريا، لكنه يصير إجباريا كلما دعت المصلحة العامة لذلك.
إن المسطرة المتبعة في التحفيظ طويلة ومعقدة، وهذا يثبط المالكين ، وبالخصوص الصغار منهم، على القيام بالإجراءات اللازمة لتسجيل ممتلكاتهم.
منذ 1915 ، وهو تاريخ تطبيق هذا النظام، عرف التسجيل العقاري تطورا مهما، وشمل مساحة كبيرة تقارب: 2.403.618 هكتارا، من بينها: 2.370.813 هكتارا من الوسط القروي، يعني تقريبا: 26 بالمائة من المساحة المزروعة. والمساحة التي في طريق التسجيل (مرحلة تقديم طلب قانوني)، مهمة وتصل إلى: 4.842.377 هكتارا.
النظام العقاري للملكيات غير المسجلة:
تخضع الملكيات غيرالمسجلة، إلى الأحكام المنسوبة للإسلام و العرف. وفي هذه الحالة يعبر عن عقد الملكية "برسم المُلكية" الذي يضمن كامل حق الملكية المستمرة والمؤمنة. ويعتبر نقطة انطلاق لهذا الحق.
هذه الازدواجية في النظام العقاري، يرى بعض التقنوقراطيين أنها تضر بالملكية العقارية بالمغرب والإتجاه الذي يرسمونه يسير نحو توحيد النظام العقاري، وذلك بتعميم السجلات العقارية التي تمكن من الاستفادة من قروض الاستثمار. وهذا التعميم يقترن بإنجاز مشاريع تهتم بإعادة تنظيم البنيات العقارية في المناطق ذات المؤهلات الزراعية.
النظام القانوني لأراضي الجموع:
أراضي الجموع تخضع لنصوص تشريعية متنوعة من بينها:
- ضهير 27 أبريل 1919 الذي ينظم الوصاية الإدارية على الجماعات السلالية ، ويقنن التسيير والتصرف في الممتلكات الجماعية. هذا الضهير الذي يعتبر القانون الأساسي للأراضي الجماعية الموجودة في مناطق البور، يقضي بتمليك هذه الأراضي لصالح الجماعات العرقية، التي تتولى تسييرها تحت وصاية وزارة الداخلية، وهو وضع غريب للملكية في القطر، عبارة عن تردي وضع الملكية الجماعية نحو الملكية الفردية، دون بلوغها.
- ضهير 18 فبراير 1924 الذي يقنن المسطرة الخاصة لتحديد أراضي الجموع. فبعد إعلان مرسوم التحديد، وبعد الإشهار وجمع التعرضات، يحدد بصفة نهائية المحتوى والطابع الجماعي للعقار المعني.
- الضهير رقم:1.69.30 المتعلق بأراضي الجموع الموجودة في مناطق الري، الذي وضع الصيغة الإجرائية لتمليك أراضي الجموع الموجودة في المناطق المسقية لصالح مستغليها، وحددت الطرق المتبعة للوصول لهذا الهدف.
وقد أحدث هذا الضهير تغييرا جذريا في النظام القانوني لأراضي الجموع المسقية، بهدف تمكين مستغليها من التملك، كي يسهل تكثيف الإنتاج لضمان مردودية استثمارات الدولة في هذه المناطق.
التشريعات المطبقة على ضم الأراضي:
الضهير رقم: 1.62.105 في: 30 يونيو 1962 المتعلق بضم الأراضي القروية الذي نسخ كل الضواهير السابقة له، يقضي بتعميم عملية الضم، المتوقع في بداية الأمر في المناطق السقوية، إلى مناطق البور.
ومن أجل تسهيل عمليات ضم الأراضي، أصدر سنة 1969 نصان لمدونة الاستثمارات الزراعية، ويتعلق الأمر بالضهير رقم: 1.69.32 وبالمرسوم رقم: 2.69.38، الذي يقنن مجانية عملية تجديد العقود العقارية وتسجيل العقارات، ويمنع كل المعاملات العقارية التي تهم الملكيات الموجودة بمناطق ضم الأراضي المحددة بمرسوم، وهذا اعتبارا من تاريخ التصريح بالحالة والتصميم التجزيئي بمقر السلطات المحلية إلى حين المصادقة على مشروع ضم الأراضي(الفصل 4 مكرر من الضهير رقم: 2.69.32 ).
وبالتالي، فهذا النص لم يطبق إلا على الأراضي السقوية في البداية، وبعدذلك، شمل حتى الملكيات الخارجة عن المنطقة السقوية.
أهمية المساحة المضمومة:
إن تطبيق التدابير المنظمة لضم الأراضي شمل خصوصا المناطق السقوية، حيث ارتبط الضم بعمليات التجهيز العقاري، البارز في تجهيز الري. وبلغت إنجازات الضم إلى مساحات تقارب:571.000 هكتار، منها: 500.000 هـ سقوية، و71.000 هـ في مناطق بورية.
استرجاع أراضي المستعمرين ومراقبة العمليات العقارية:
إن الضهير رقم: 1.63.289 ل: 26 شتنبر 1963 الذي يحدد شروط استعادة أراضي المستعمرين من طرف الدولة، يصرح بالتحويل للدولة، لتمليك الأراضي الحكومية المسلمة للاستعمار الرسمي، وينظم كيفيات تمليك هذه الأراضي للدولة. فالاسترجاعات المنفذة في هذا المجال تقدر ب: 320.000 هـ تقريبا.
تحويل الممتلكات الزراعية أو شبه الزراعية التي يملكها أشخاص فعليين أجانب أو أشخاص معنويين، للدولة:
إن الضهير رقم:1.73.213 بتاريخ:2 مارس 1973 والمتعلق بالتحويل للدولة للممتلكات العقارية الزراعية أو شبه الزراعية التي يملكها أشخاص فعليين أجانب أو أشخاص معنويين، جاء ليتمم عملية تحويل الأراضي التي في حيازة الأجانب. وتطبيق هذا الضهير خول للدولة استرجاع مساحة تقارب: 450.000 هـ.
الاسصلاح الزراعي:
إن المرسوم الملكي رقم: 267.66 بتاريخ: 4 يوليوز 1966 والمتعلق بتعيين الأراضي الزراعية للأملاك الخاصة للدولة، المنسوخ والمستبدل بالضهير رقم: 1.72.277 بتاريخ: 29 دجنبر 1972 والمتعلق بنفس الأهداف، يسمح بتحويل هذه الأراضي لصغار الفلاحين والعمال الذين لايملكون أرضا، ويحدد تدابير هذا التحويل وكذا الواجبات التي يتحملها كل من الدولة والمستفيدين.
توزيع الأراضي في نطاق الاسصلاح الزراعي شملت مساحة تقارب: 325.000 هـ لصالح: 23.000 مستفيد، منطوين تحت:750 تعاونية.
المعاملات والمزارعات القروية:
الضهير المؤرخ بتاريخ: 12 غشت 1913 الذي يحدد الالتزامات والعقود، يعالج في عنوانه الثالث الاكتراء وبالخصوص إيجار المزرعات. ويصرح بالقوانين التي تتعلق بوضع عقود الاكتراء، وضبط مدة الاكتراء، وحقوق وواجبات كل من المالك والمستـفيد، وقيمة الكراء وطرق أدائه وكذا كل ما يتعلق بتجديد الكراء وتسليم العقارات.
حصيلة التطبيق الفعلي على أرض الواقع لهذه التشريعات:
التطبيق الفعلي على أرض الواقع لهذه التشريعات اصطدم بعدة عراقيل، ترجع أساسا لعدم مراعاتها للأصول الثابتة، أوانطلاقها من قاعدة تشريعية مغلوطة سقط فيها المشرع في تخبط وخلط بين أعراف جاهلية، وأحكام إسلامية أنزلت في غير محلها، واقتباسات من القوانين الغربية لا تتناسب مع الواقع المحلي.
بالنسبة لوضع أراضي الملك الخاص، فبالرغم من صرامة القانون ومنعه لتقسيم الأراضي التي تقل مساحتها عن المساحة الدنيا المعاشية المحددة بالنسبة للأراضي المسقية وبالنسبة لأراضي البور المشمولة بعملية الضم، فإن القسمة العرفية لا تزال سارية المفعول بين الورثة، بدون تصريحات رسمية، حتى في الدوائر المضمومة التى يفرض فيها المنع قبل عملية الضم بواسطة إجراءات ممولة من قروض الدولة كالتخارج القانوني بين الورثة، حيث أنه من الواضح أن المشكل سيتكرر عند وفاة كل مالك، وحيث أن آليات التخارج تفرض أوضاعا شاذة تعقد المشكل أكثر مما كان عليه، كحالة كتابة الملك على الأم، لئلا يتهارش الأولاد على الأرض عند وفاة الأب.
وزيادة على هذا، فحين يشكل هذا التقسيم خطرا ملموسا، فإن الورثة يلجأون إلى وضع موقت: الملكية المشاعة مع قسمة النتائج بتوافق داخل العائلة. وتتسبب هذه القسمات السرية في تكاثر الاستغلالات غير المعاشية، وتشكل حاجزا أمام تكثيف الانتاج وتمويل التجهيزات والاستصلاحات اللازمة.
إن الوضعية الداخلية للشيوع تتأزم باستمرار وبسرعة، إذ أن عدد المشاركين في العقار الواحد يزداد مع النمو الديمغرافي، والانسحاب من الملكية المشاعة لايكون إلانادرا نظرا لشظف العيش الذي عم البادية، إلا بالنسبة لأبناء صنائع الاستعمار، الذين لا تزال تحت أيديهم العقارات الشاسعة. وسواء أن الملكية المشاعة استمر ت أو أن المشاركين قرروا القسمة، فكلا الحلين مر ويعتبر حاجزا بالنسبة لضروريات تكثيف الإنتاج.
ففي حالة القسمة، نتوصل في الحال إلى تجزيء ، وبالتالي وفي كثير من الحالات ،نصل إلى استغلالات غير معاشية.
وفي حالة استمرار الملكية المشاعة، فإن عدد المشاركين في العقار الواحد يرتفع. وحتى لو أننا تجنبنا قسمة الأرض، فإن المدخول يوزع، مع مايجره ذلك من مخلفات على انخفاض الفائض الممكن إعادة استثماره في الضيعة.
بالنسبة لأراضي الجموع: لا بد من تتبع معضلة الملكية على الشياع فيها، ومناقشة كيفية تطورها وتعقدها بتزايد السكان في البادية. لقد تواطأ الناس على حرث أراضي الجموع بعد تقسيمها فيما بينهم تقسيما عرفيا يعيين "لذوي الحقوق" البقع التي يمكنهم حرثها. هذا التعيين يتم كل سنة يتناوب عبره الناس على كل البقع لئلا يتم إقرارهم على بقعة واحدة بعينها خشية النزوع إلى الاختصاص بها ثم تملكها. هذه الطريقة لم تصمد كثيرا أمام مطالب تكثيف الإنتاج التي تقتضي استثمارات على المدى البعيد في بقعة واحدة كحفر الآبار وجر القنوات وغراسة الأشجار.
في مرحلة تالية بعد إرغام الناس على الاستقرار في بقع معينة داهمهم واقع الإرث ففرض وضع الملكية على الشياع نفسه أي اشتراك عدة أشخاص في استغلال بقعة واحدة لا يجوز تقسيمها رسميا. ونلاحظ حاليا في أكثر الحالات ثبات المشاركين كل في نصيبه ولا يتم التخارج إلا نادرا.
استقرار التقسيمات يكون شائعا في المناطق السقوية وفي مناطق البور الخصب. فمن بين: مليوني هكتار من الأراضي الجماعية، لايشمل التقسيم الدوري إلا أقل من:300.000 هكتار، والباقي يتبع وضعا يقوم مقام التمليك العرفي، يستثني المرأة من التوزيع والإرث.
رغم ثبات هذه التقسيمات، فإن هذا الوضع الشاذ، يشكل هو أيضا عائقا مهما لسبل تكثيف الإنتاج الزراعي وللاستثمارات متوسطة وبعيدة المدى.
بالنسبة للاكتراءات والمزارعات القروية، فرغم تقنين هذه المعاملات وخاصة الاكتراءات القروية، فإن المزارعين يلجأون في بداية كل موسم زراعي، إلى إبرام اتفاقيات الاكتراءات القروية، خلال مدة لاتتعدى دورة زراعية واحدة (في الغالب سنة واحدة أو سنتان). إن هذا النوع من العرف الذي يستجيب للمصلحة الظرفية القريبة للمالكين، لايلبي رغبات المكتري إلا نادرا. وعليه فإن هذا الأخير يستغل موارد العقار بإجحاف، فلا يبالي بالحفاظ عليها ولا بتحسينها. وبالفعل، فإن المستغل للأرض خلال دورة زراعية أو اثنتين لاينفق أي استثمار في تحسين التجهيز العقاري ما دامت مدة الاكتراء لاتسمح له باستغلال مربح لما أنفق فيها.
حصيلة التدابير المتخذة لحل مشاكل إتلاف الموارد الطبيعية:
للتخفيف من العوامل التي تتسبب في إتلاف الموارد الطبيعية، ولضمان تنمية مستديمة، تم وضع نصوص تشريعية جديدة نذكر منها: - قانون دوائر الاستثمار في أراضي البور: للتذكير قانون الاستثمارات الفلاحية، الصادر في ضهير: 1.69.25 (25/7/1969)، وضع إطار تشريع الاستصلاح الزراعي الخاص بالمناطق السقوية فقط، أما المناطق البورية فلم تكن داخلة في مجال اهتماماته. ومن الواضح أن التنمية الزراعية والاقتصادية في البلاد لن تتأت إلا بالاهتمام بالمناطق البورية كذلك. ولهذا ،فإن ظهير: 1.95.10 (22 فبراير 1995) ، المتضمن للقانون رقم: 94/33 ، المتعلق بدوائر استثمار أراضي البور، جاء ليتمم البناء التشريعي الوضعي التقنوقراطي. ومن إضافات هذا القانون ما يلي:
- تدخل الدولة في مناطق البور المحددة بمرسوم، وذلك بالسعي إلى إنجاز الإصلاحات العقارية والتجهيزات الضرورية ، وكذا البنية التحتية الاجتما عية والاقتصادية، حسب خطة تنموية مندمجة.
- مساهمة المستفيدين في تمويل هذه التجهيزات بقدر : 40 بالمائة. ويعفى من ذلك مالكو المساحات الصغيرة التي لاتتجاوز الحد المعاشي الأدنى.
- تحديد الشروط التي تخضع لها مراقبة تعهدات المزارعين، وكذا العقوبات الناجمة على خرقها.
- يأخذ بعين الاعتبار مناطق لاستصلاح الأراضي والمحافظة عليها.
- يضع خطة ومنهاجا لإشراك السكان المعنيين في جميع مراحل المشروع.
- قانون الحد من تقسيم الأراضي وتفتتها:
هو بيت القصيد وحوله يحوم المهتمون. فلقد برهنا في الفقرات السابقة أن الحد من التجزيء يشكل أمرا من الصعب أن تحيط به أي سياسة وضعية، إلا ما يدخل في صنف الاصلاحات الترقيعية للبنيات والهياكل العقارية.
انطلاقا من هذه الإطار الواضح، أُعلن على قانون رقم: 94/34 المتعلق بالحد من تجزيء وتفتت الملكيات الزراعية في الدوائر السقوية وكذا في دوائر استثمار أراضي البور.
القانون يمنع كل تجزيء يتولدعنه استغلال أراض تقل مساحتها من 5 هـكتارات في المناطق السقوية، وعلى حد أدنى في دوائر استثمار أراضي البور، يحدد بقرار وزاري، حسب معطياتها الزراعية والبيئية.
ويندرج حكم هذا القانون كذلك على الملكية المشاعة بنفس الحدود المتعلقة بالمساحة الدنيا المعاشية.
ومن الواضح أنه لايمكن احترام هذه التدابير إلا إذا أقصي عدد من المشاركين، ثم يعوضون على انسحابهم. ولإنجاح هذا التخارج القانوني، صدرت مقتضيات لإشراك الأبناك فيه، لتمويل تعويض المشاركين المنسحبين. ويحدد القانون الفوائد المطبقة لهذا القرض في 6 % ، وتتحمل الدولة الفرق بالنسبة لفوائد السوق.
ثم إن هذا القانون يمنع كلا من العدول، والكتاب، والمستقبلين في التسجيل، والمحافظين، من أن يقبلوا، أو يقيموا، أويسجلوا، أو يقيدوا أي عقد يخرج عن التدابير المذكورة.
يظهر أن القانون المذكور وضع آليات مؤسساتية وعقارية ومقتضيات قانونية واحتاط غاية ما يمكن لضمان تطبيق هذه التدابير، تجنبا إلى النقائص التي أدت إلي عدم تطبيق الضهير: 1.69.29 بتاريخ: 25 يوليوز 1969 المتعلق بنفس الموضوع.
هذا أقصى ما وصلت له الحكمة الوضعية التقنوقراطية داخل المجال المحدد لها مسبقا. وقد ترك الباب مفتوحا على مصراعيه كالعادة في مثل هذه النوازل لإشراك القطاعات الأخرى في المسؤولية، وذلك لإيواء جيوش المبعدين عن المجال القروي، هذا إذا افترضنا أن القانون الجديد سوف لن يلق نفس مصيرسابقه.
وسائل الإنتاج والمسألة العقارية عبر أحكام الشريعة
ملكية الأراضي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله
ملكية الأراضي في عهد عمر بن الخطاب
عمر أول من مسح الأرض في الإسلام.
عمر يفرض الخراج على أرض الشام ومصر كما فعل بأرض السواد:
عدالة عمر في تقرير الخراج على الأرض ورعايته لأهلها من غير المسلمين
أنواع الأراضي في عهد عمر
ملكية الأراضي في الفقه الإسلامي
قبل تفصيل مقاربة البديل المنطلق من المرجعية الإسلامية، يمكن إجمال شروط "توبة" قطاع تدبير الثروات الطبيعية في المبادئ الكلية التالية: مبدأ اعتماد الأصول الشرعية للقوانين المتعلقة بوسائل الإنتاج والمنظمة لكل المعاملات والمزارعات والاستغلالات، مبدأ تأدية الحقوق الشرعية ورد المظالم لأهلها كحق الزكاة وغيرها من الحقوق التي سنتعرف عليها، مبدا تحرير القطاع من القروض الخارجية والتمويل الربوي الذي لا يعبأ بالحرب المعلنة عليه من الله ورسوله وتعويضه بالتمويل الإسلامي، مبدأ محاربة التبذير والإسراف والإفساد في البر والبحر، مبدأ اعتماد شرطي القوة والأمانة لتأطير القطاع ويدخل في هذا الباب كل ما يرجع للموارد البشرية المكلفة بالبحث والخبرة في المجال التقني والتشريعي وهذا من شأنه أن يدفع عنا خطر الذيلية والتبعية. وبداية ينبغي إلقاء نظرة على الأصول الشرعية التي أتى بها الإسلام، مساهمة منه في وضع اللبنة التي بها يكمل بنيان التجربة البشرية.
وسائل الإنتاج والمسألة العقارية عبر أحكام الشريعة:
غالبا ما تنسب معضلة تفتت الأراضي الفلاحية وتقسيمها عبر أجيال الورثة لنظام الميراث الإسلامي المتبع حاليا إلى جانب القوانين الوضعية التي تنظم المعاملات في العالم القروي. هذه المعضلة هي فعلا من أهم أسباب تدني الانتاج الفلاحي سواء في الأراضي البورية أو الأراضي المروية، إلى الدرجة التي تهدد الأمن الغذائي للقطر عوض أن يلعب دور كالفورنيا بالنسبة للعالم العربي.
تفسيرها يرجع إلى وجود شركاء متشاكسين متناحرين في ملكية ضيعة لا ترقى مساحتها إلى الحد الأدنى الذي يلبي الحاجيات المادية للأسرة الواحدة، ناهيك أن توفر الفائض الضروري لتمويل الاستثمارات اللازمة. ومع الزمن يتضاعف عدد هؤلاء الشركاء إلى الحد الذي يتعطل فيه الانتاج نهائيا، وتقطع فيه الأرحام بسبب النزاعات العائلية، وتتعطل فيه مصالح الناس في كل مجالات الحياة. والشاهد هو ما تعج به المحاكم في البوادي من نزاعات حول العقار.
كما أن نظام إقطاع الأراضي العامرة طبيعيا قصد التمليك، الذي يمثل الطرف الآخر للمعضلة العقارية، كثيرا ما ينسبه الناس عن قصد أو عن جهالة، للشرع الإسلامي.
وإذا ما علمنا من خلال مقاصد الشرع، وأصوله، وقواعده أن حيث ما وجدت مصالح الناس فثم شرع الله، الذي من آكد غاياته جلب المنافع ودرء المفاسد، صار لزاما إعادة النظر في نسبة هذه المعضلات إلى شرع الله. الأمانة العلمية تقتضي إذن التروي و التبين قبل هذا الربط بالشريعة لكثير من المسلمات التي فشت ممارساتها في المجتمع، حتى صارت عرفا متبعا وهوى مطاعا، رغم براءة الشريعة منها.
حكم الأرض يرتبط شرعا بكيفية دخولها إلى حوزة دار الإسلام والحالة التي كانت عليها حين أصبحت أرضا إسلامية. الأراضي التي دخلت دار الإسلام نتيجة الجهاد في سبيل الدعوة، كأراضي العراق وسوريا ومصر وأفريقيا الشمالية وأجزاء شاسعة من العالم الإسلامي، كان فيها العامر بسبب مجهود وعمل بشري، وكان فيها العامر عمارة طبيعية دون تدخل مجهود بشري، كالغابات والمراعي، وكان فيها الميت الخالي من أي إعمار بشري أو طبيعي. فهذه أقسام ثلاثة للأرض كل له حكمه في الإسلام.
إطلالة سريعة عبر تاريخ الفتوحات الإسلامية وعبر قواعد الفقه الإسلامي المتعلق بالأرض، تبين لنا أن الأراضي الفلاحية في المغرب العربي دخلت إلى حوزة الإسلام عنوة، فهي أراضي خراجية، موقوفة على كل المسلمين لا تملك رقبتها ملكية خاصة، بل هي للدولة ثم هي لمن يحسن عمارتها بعقد معلوم يمنع فيه انتقال الأراضي عن طريق الأرث. فإذا توفي المتعاقد معه انتقلت مسؤولية التسيير والاستغلال لمن تراه الدولة أصلح لذلك.
هذا الوضع يجد أصله الشرعي فيما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر، عندما افتتحها انتقلت ملكية هذه الأرض له ثم ترك مهمة تسييرها لليهود مزارعة على شطر من غلاتها. نفس الحكم سار عليه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم عندما فتحت أراضي الشام والعراق ومصر وإفريقية وغيرها، وقضى به مذهبنا الرسمي في المغرب مذهب الإمام مالك الذي قال: " لا تقسم الأرض، وتكون وقفا يصرف خراجها في مصالح المسلمين من أرزاق المقاتلة، وبناء القناطر والمساجد، وغير ذلك من سبل الخير".
إنه النظام الذي استقرت عليه الحكمة البشرية بعد التجربة الشيوعية الفاشلة. الأراضي في المعسكر الشيوعي البائد لم ترجع لسلبيات الملكية الخاصة المقدسة ، بل هي أولا ملكية للدولة التي تقتطعها لمن يحسن تدبير أمرها إقطاع استغلال لا إقطاع تمليك.
وننتقل بعد هذه النظرة المقتضبة إلى تفاصيل ملكية الأراضي في الإسلام، ومناقشة مدى ملائمة القواعد الإسلامية للتطبيق العملي في الوقت الحاضر، ومدى استعدادها لحل مشاكل العالم القروي، الذي يعاني من أزمات متنوعة تزداد خطورتها مع السنين.
ملكية الأراضي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله
الأراضي الزراعية في الجزيرة العربية قليلة، وفتح البلاد ذات الأراضي الزراعية الواسعة كبلاد فارس والشام ومصر وإفريقية قد حدث في عهد عمر رضي الله عنه. فليس هناك من مسائل الأرض في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، سوى غنيمته لأراضي اليهود حول المدينة.
لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود خيبر، وطلبوا منه أن يسمح لهم بالجلاء، اعتبرت جميع أموالهم فيئا أي غنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ضمن أموالهم الأرض والنخيل.
وقد روي عن أنس بن مالك " أن رسول الله(ص) دفع خيبر إلى اليهود مساقاة بالنصف، وكان يبعث إليهم عبد الله بن رواحة فيخرص عليهم ثم يخيرهم أي النصفين شاءوا، أو يقول لهم : أخرصوا أنتم وخيروني يقولون: بهذا قامت السموات والأرض".
وقد استمرهذا الوضع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وحياة ابي بكر وعامة ولاية عمر، ثم كان عمر هو الذي ردها إلى بيت المال بعد جلائهم عن المدينة.
كما أنه صلى الله عليه وسلم سمح لعمر بن الخطاب بوقف أرض أصابها بخيبر.
الحمى في عهد الرسول صلى الله عليه سلم وعلى آله :
جاء الإسلام، وكان العرب قبله يحمون بعض الأراضي كمراعي، وكان هذا الحمى يقوم على أساس القوة والغلبة، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم وعلى آله : " لا حمى إلا لله ورسوله". وذلك يعني أن "الحمى" يجب أن يقوم على الملكية الجماعية للناس جميعا، لا للأقوياء دون الضعفاء. وقد روى نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه سلم وعلى آله حمى (النقيع) لخيل المسلمين، أي جعل أرض النقيع الواقعة بقرب المدينة "حمى" ترعى فيه خيول المسلمين.
الرسول صلى الله عليه سلم وعلى آله يشجع على إحياء الأرض الموات:
وقد خصص يحيى بن آدم القرشي بابا في كتابه الخراج بعنوان " باب من أحيا أرضا بعد ميتة "، وروى فيه كثيرا من الأحاديث النبوية التي تحث على إصلاح الأرض، والمحافظة على حقوق من يقوم بإحياء أرض ميتة. ومن أهم هذه الأحاديث قوله صلى الله عليه سلم وعلى آله " من أحيا مواتا من الأرض فهي له، وليس لعرق ظالم حق".
وقد رأينا أن الرسول صلى الله عليه سلم وعلى آله قد حدد مدة ثلاث سنوات للتحجير، يسقط بعدها حق المحتجر، وذلك للحث على إحياء الأرض الموات، وعدم تركها معطلة.
الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله يقطع الأرض لإصلاحها وزراعتها :
يروي يحيى بن ىدم القرشي حديثا يقول: " اعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا بئر قيس والشجرة".
كما يروى أيضا أن بلال بن الحارث المزني جاء إلى رسول الله صلى الله عليه سلم وعلى آله " فاستقطعه أرضا، فأقطعها له طويلة عريضة". وقد كانت هذه الأرض الطويلة العريضة من السعة بحيث لم يستطع بلال إصلاحها أو زراعتها كلها، فلما ولى عمر بن الخطاب الخلافة أرغمه على ترك ما لم يستطع زراعته وقسمه بين المسلمين. ويدخل هذا الإقطاع في باب إحياء الأرض الميتة التي لا مالك لها
ملكية الأراضي في عهد عمر بن الخطاب(ر)
التوسع في الفتح ونتائجه:
كانت أرض السواد بالعراق أول أرض زراعية يختلف المسلمون في أمر توزيعها وكيف يتم. وسنرى أن القاعدة التي وضعها سيدنا عمر بن الخطاب طبقت بعد ذلك في البلاد الأخرى التي فتحت من بعد.
على أن اهتمام سيدنا عمر بالأرض لم يقف عند رسمه طريقة الانتفاع بأراضي البلاد المفتوحة، بل إن له إصلاحات هامة فيما يتعلق بالأراضي الزراعية، وأراضي المراعي، وإصلاح الأاراضي الميتة بواسطة إقطاعها أو تحجيرها، والتشدد في التمسك بالمدة التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله للإحياء.
فنقول كلمة في موقف عمر من أرض السواد، وأنواع الأراضي في عهده، واهتمامه بإحياء الأرض الموات، والقواعد التي وضعها في ملكية لأرض والماء.
لما فتح المسلمون بلاد فارس أطلقوا على الأراضي الزراعية الخصبة فيما بين دجلة والفرات " أرض السواد". وقد اختلف الصحابة الأجلاء في أمر هذه الأرض، فكان من رأي بعضهم أن تقسم الأراضي كما يقسم الفئ، تطبيقا لقوله تعالى: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم".( سورة الحشر، آية 7 ). وكان على رأس الصحابة المنادين بتوزيع الأرض كما توزع غنائم الحرب سيدنا بلال بن رباح(ر)، وعبد الرحمان بن عوف، بينما كان رأي سيدنا عمر أن الأرض لا تقسم بل تبقى ملكا لبيت المسلمين، ينفق منها على شئونهم من كان حاضرا منهم ومن يأتي من بعد، تطبيقا لقوله تعالى: " والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان"
وقد احتدم الجدال بين الفريقين، وقال فريق بلال لعمر : " أتقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا، ولأبناء القوم، ولأبناء أبناءهم، ولم يحضروا؟ فكان عمر لا يزيد على أن يقول: هذا رأي. قالوا: فاستشر، فاستشار المهاجرين الأولين فاختلفوا" ويستطرد أبو يوسف: " فأما عبد الرحمان بن عوف فكان رأيه أن تقسم لهم حقوقهم، ورأى عثمان وعلي وطلحة وابن عمر رضي الله عنهم رأي عمر. فأرسل إلى عشرة من الأنصار، خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج من كبائرهم وأشرافهم. فلما اجتمعوا حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال : إني لم أزعجكم إلا لأن تشتركوا في أمانتي فيما حملت من أموركم، فإني واحد كأحدكم وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هواي. معكم من الله كتاب ينطق بالحق، فوالله لئن كنت نطقت بأمر أريده ما أريد به إلا الحق. قالوا: قل نسمع يا أمير المؤمنين. قال : قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم. وإني أعوذ بالله ان أركب ظلما. لئن كنت ظلمتهم شيئا هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت، ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى؛ وقد غنمنا الله أموالهم وأرضهم وعلوجهم(رجالهم) فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله، وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه، وأنا في توجيهه. وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها، وأضع عليهم فيها الخراج، وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئا للمسلمين، المقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم. أرأيتم هذه الثغور لابد لها من رجال يلزمونها. أرأيتم هذه المدن العظام، كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر، لا بد لها من أن تشحن بالجيش وإدرار العطاء عليهم فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضين والعلوج؟ فقالوا جميعا: الرأي رأيك: فنعم ما قلت وما رأيت، إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجري عليهم ما يتقوون به، رجع أهل الكفر إلى مدنهم. فقال : قد بان لي الأمر، فمن رجل له جزالة وعقل يضع الأرض مواضعها، ويضع على العلوج ما يحتملون؟ فاجتمعوا على عثمان بن حنيف.."(المرجع المذكور سابقا، ص35 و36 ). وإذا كنا قد توسعنا في نقل النصوص، فإنما أردنا أن نعطي صورة للعدالة وحرية الرأي، وما يسمى الآن "بالديمقراطية"، التي أرسى الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله قواعدها في الإسلام عملا بقوله تعالى : " وشاورهم في الأمر "(سورة آل عمران،آية 159 ). وقوله تعالى: "وأمرهم شورى بينهم " (سورة الشورى آية 38 )، وجاء أبو بكر وعمر رضي الله عهما، فسار في نفس الطريق الذي رسمه القرآن الكريم قولا، وطبقه الرسول صلى الله عليه سلم وعلى آله عملا. وقد بلغ إلحاح هذا الفريق على عمر حدا جعله يلجأ إلى الله ويقول : اللهم اكفني بلالا وأصحابه".
ويقول أبو يوسف: " فمكتوا بذلك أياما حتى قال عمر(ر) : قد وجدت حجة في تركه وأن لا أقسمه قول الله تعالى :" للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا" فتلا عليهم حتى بلغ إلى قوله تعالى : " والذين جاءوا من بعدهم " (سورة الحشر الآيات 10-8 )، قال : فكيف أقسمه لكم، وأدع من يأتي بغير قسم؟ فأجمع على تركه، وجمع خراجه، وإقراره في أيدي أهله، ووضع الخراج على أراضيهم والجزية على رؤوسهم".
وهكذا ترك عمر ارض السواد لملاكها على أن يدفعوا عنها الخراج لبيت مال المسلمين، الذي يكفل للمسلمين جميعا، في أي مكان كانوا على ظهر الأرض، حياة حرة كريمة. وفي ذلك قال عمر قولته الشهورة التي تعتبر أساسا لنظام الضمان الاجتماعي في الإسلام، وهي: " قد أشرك الله الذين يأتون بعدكم في هذا الفيء فلو قسمته لم يبق لمن بعدكم شيء ولئن بقيت ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء".
عمر أول من مسح الأرض في الإسلام:
مسح أرض السواد في العراق، وتقرير الخراج على الأرض:
ما إن تم فتح العراق حتى عمد عمر إلى وضع نظام لحكم هذه الأقاليم, فبعث الحذيفة بن اليمان على ما وراء دجلة، وبعث عثمان بن حنيف على ما دونه. وطلب إليهما مسح الأرض الزراعية الموجودة في هذه الأقاليم، وتقدير الخراج عليها. وقد بلغت دقة عمر وحنكته الإدارية وعدالته أن أطلب إلى كل من الواليين أن يرسل إليه بدهقان (رئيس الإقليم أو المقاطعة) من كل إقليم. فبعث كل واحد منهما بدهقان ومعه ترجمان من أهل الحيرة. وقد ناقش عمر بنفسه هذين الدهقانين وسألهما: " كيف كنتم تؤدون إلى الأعاجم في أرضكم؟ قالوا سبعة وعشرين درهما. فقال عمر : لا أرضى بهذا منكم. ووضع على كل جريب عامر أو غامر يناله المال قفيزا من حنطة أو قفيزا من شعير ودرهما، فمسحا على ذلك" . ويستطرد أبو يوسف قائلا: " فكانت مساحتها مختلفة. كان عثمان عالما بالخراج فمسحها مساحة الديباج، وأما حذيفة فكان أهل جوخي (إقليم) قوما مناكير فلعبوا به في مساحته" (نفس المرجع، ص )، وسيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزى، المرجع المذكور سابقا، ص81.
ويبدو من مناقشة عمر للدهقانيين أنه استقل مبلغ الخراج الذي كان مفروضا على الأرض من قبل الاعاجم، أي الحكام الفرس، وانه زاد في هذا المبلغ . ولكن مناقشة عمر لحذيفة بن اليمان وعثمان بل حنيف، حين عادا إليه بعد مسحهما للأرض، وتقديرهما للخراج عليها، تدل على ما اشتهر به عمر من العذل والرحمة بالرعية، سواء للمسلمين وغير المسلمين. فقد سالهما : " كيف وضعتما على الأرض، لعلكما كلفتما أهل عملكما ما لا يطيقون؟ فقال حذيفة: لقد تركت فضلا، وقال عثمان: لقد تركت الضعف، ولو شئت لأخذته. فقال عمر عند ذلك : أما والله لئن بقيت لأرامل أهل العراق لأدعنهم لا يفتقرون إلى أمير بعدي".
عمر يفرض الخراج على أرض الشام ومصر كما فعل بأرض السواد:
لما فتح أبو عبيدة بن الجراح الشام، طلب إليه الصحابة أن يوزع عليهم الأراضي الزراعية كما فعل الرسول صلى الله عليه سلم وعلى آله بأرض خيبر. فأبى عليهم ذلك، وكتب إلى أمير المؤمنين عمر يستشيره. وقد رد عليه عمر متمسكا برأيه الذي نفذه في أرض السواد . وزاد في تفسير قوله تعالى: " والذين جاءوا من بعدهم"، أنهم "ولد آدم الأحمر والأسود"منهم. ثم قال :"فأقر ما أفاء الله عليك في أيدي أهله، واجعل الجزية عليهم بقدر طاقتهم تقسمها بين المسلمين، ويكونون عمار الأرض فهم أعلم بها وأقوى عليها". ويذكر أبو يوسف رواية أخرى أكثر تفصيلافيقول: " وحدثني حسين بن عبد الرحمان عن عمر وبن ميمون الأودي قال: شهدت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بثلاث أو أربع، واقفا على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف، وهو يقول لهما، لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق. كان عثمان عاملا على شط الفرات، وحذيفة على ما وراء دجلة جوخي وما سقت. فقال عثمان ، حملت الأرض أمرا هي له مطيقة، ولو شئت لأضعفت أرضي. وقال حذيفة: وضعت عليها أمرا هي له محتملة، وما فيها كثير فضل . فقال عمر رضي الله عنه : انظرا ألا تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق، أما لئن بقيت لأرامل أهل العراق لأدعنهن لا يحتجن إلى أحد بعدي". وكان حذيفة على ختم جوخى، وعثمان بن حنيف على ختم أسفل الفرات-ختم الأعناق"(نفس المرجع،ص37 ).
كتب عمرو بن العاص إلى عمر ، فرد عليه بنفس ما رد به على أبي عبيدة فيما يتعلق بأرض الشام. وكان مما قاله :" أقرها حتى يغزو منها حبل الحبلة"، أي دع الأرض في يد أهلها من وافرض عليها الخراج، يكون دخلا لبيت مال المسلمين، ينفق منه عليهم حميعا، لا على الحاضرين منهم فقط، بل وما يخلفون من ذرية، يغزو منها في سبيل الله أولاد الأولاد وهكذا.
عدالة عمر في تقرير الخراج على الأرض ورعايته لأهلها من غير المسلمين:
رأينا كيف ناقش سيدنا عمر عامليه حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف في كيفية تفدير الخراج على الأراضي الوراعية، وحرصه على عدم إرهاق غير المسلمين بالخراج. والواقع أن تاريخ عمر كله وأعماله في الحكم والإدارة تدل على توخيه للعدالة التامة لا بالنسبة لرعاياه المسلمين فقط، بل وبالنسبة لرعاياه من غير المسلمين. وإن طريقة تقديره لخراج الأراضي الزراعية لتدل على حكمة الخبير الزراعي والمالي. وينقل أبو يوسف رواية تقول: " إن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فرض على الكرم عشرة دراهم، وعلى الرطبة خمسة، وعلى كل أرض يبلغها الماء عملت أو لم تعمل درهما ومختوما (وهو الصاع)، وعلى ما سقت السماء من النخل العشر، وعلى ما سقي بالدلو نصف العشر، وما كان من نخل عملت أرضه فليس عليه شيء".
وذلك يدل على أن عمر جعل الأرض من حيث فرض الخراج عليها أنواعا، تختلف باختلاف ما تحتاجه من مجهود لسقيها وإصلاحها وما تنتجه من محصول. فقد فرض على جريب الأرض الزروعة كرما عشرة دراهم. وذلك لات زراعة الكرم تحتاج لأرض خصبة ومجهود ورعاية. بينما فرض على جريب الأرض المزروعة بالرطبة خمسة دراهم، أي نصف المفروض على أرض الكرم.
أما فرضه درهما وصاعا على جريب الأرض التي يبلغها الماء والتسوية بين زراعتها وعدم زراعتها فيدل زيادة على العدالة في تقدير قيمة الخراج، علىحث الناس على زراعة الأرض التي يمكن ريها. ومن لم يقم بواجب الزراعة ألزم بدفع الخراج كمن زرع تماما.
وأما فرضه على جريب الأرض المزروعة نخلا عشر محصولها إذا سقيت بالدلو، فيدل على العدالة من حيث التفرقة بين ما يحتاج لمجهود في سقيه بعمل الانسان، وما لا يحتاج إلى ذلك؛ لأن المطر يسقيه فلا يحتاج لبذل مجهود في السقي.
كما ذكر يحيى بن آدم القرشي أن عمر قرر بعد فرضه الخراج، أن من عجز عن دفع الخراج خفف عنه، ولو زاد المحصول لا يزاد الخراج. " فإن احتملوا أكثر من ذلك فلا يزاد عليهم، وإن عجزوا عن ذلك خفف عنهم"(كتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي ، المرجع السابق ذكره،ص23 ، رقم 29 وكتاب الأحكام السلطانية للماوردي، المرجع السابق ذكره ص173 وما بعدها).
أنواع الأراضي في عهد عمر
ملكية الاراضي في البلاد المفتوحة لبيت مال المسلمين، ولكن عمر تركها لأهلها الأصليين:
قبل انتشار الإسلام في البلاد المجاورة للجزيرة العربية في عهد عمر والخلفاء من بعده، لم تكن ملكية الأراضي في الجزيرة العربية تثير أية مشكلة. فمساحة الأراضي الزراعية محدودة، وقد عرفنا كيف قسم رسول الله صلى الله عليه سلم وعلى آله الأراضي الزراعية التي كانت مملوكة لليهود قبل إجلائهم. أما بعد الفتوح الإسلامية للبلاد ذات الأراضي الخصبة الواسعة والمروج والكلأ والغابات والأنهار الجارية والينابيع الغزيرة المياه، كأرض دجلة والفرات شرقا وأرض الشام ومصر غربا؛ فقد رأينا أن كبار الصحابة الأجلاء قد طالبوا وألحوا في الطلب وجادلوا وأطالوا المجادلة لتقسيم هذه الأراضي عليهم. ولكن عمر الحازم النافذ البصيرة، المشرع الملهم، رأى بثاقب فكره أن المصلحة العامة للمسلمين والإسلام تقتضي عدم توزيع هذه الأراضي على المجاهدين الفاتحين من المسلمين، وإبقائها في أيدي أهلها في البلاد المفتوحة ويكفي المسلمين ما يدفع من الخراج عليها لبيت المال.
وقد كانت الأراضي تختلف فيما بينها من حيث طرق الانتفاع بها وما يؤدى عنها لبيت المال. فهناك الأرض الخراجية والأرض العشرية والأرض العامة وهي أرض الكلأ والمروج، ثم الأرض الموات. ونقول كلمة في كل نوع منها.
أولا) الأرض الخراجية:
وقد رأينا أن سيدنا عمر قرر ترك الأراضي في البلاد المفتوحة في أيدي أهلها، وفرض عليهم الخراج. والخراج قدر معلوم من النقود، يدفع عن كل وحدة قياسية من الأرض كالجريب. وقد يقدر الخراج بقدر معلوم من النقود وكمية من محصول الأرض. وقد عرفنا أن سيدنا عمر قد جعل الخراج على أرض السواد " قفيزا من حنطة أو قفيزا من شعير ودرهما". فالخراج هنا يتكون من الدرهم وقفيز الحنطة أو الشعير. وفي رواية أخرى أن الخراج كان يقدر بمبلغ من النقود فقط هو عشرة دراهم لجريب الكرم، وخمسة دراهم لجريب السمسم وجريب القطن وثلاثة دراهم لجريب الخضر من غلة الصيف.
ويمكن إدراج أرض الوقف في نوع الأراضي الخراجية، وقد عرفنا أن عمر وقف أرضا بخيبر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثانيا) الأرض المحمية:
وهي الأرض التي خصصها عمر لعامة المسلمين، بل لفقرائهم دون أغنيائهم. فقد أثر عنه أنه خصص "أرض الحمى" لرعي الماشية ، وأنه استعمل عليها مولى له يسمى هنيأ، وأوصاه بالرحمة بالناس، وأن يؤثر الفقراء على الأغنياء. فقد أمره أن لا يسمح لماشية عثمان بن عفان وعبد الرحمان بن عوف بالرعي في هذه الأرض؛ لغناهما وقدرتهما على كسب المال الكثير.
بل لقد أثر عنه أنه كان يتعاهد أرض الحمى بنفسه. فقد كان يذهب إليهما في نصف النهار واضعا ثوبه على رأسه، ليتقي حرارة الشمس المحرقة ليتأكد من أن أحدا لا يسيء استعمال حقه في الانتفاع بهذه الأرض المخصصة للرعي.
هذا ويجب عدم خلط بين هذا النوع من الأرض الذي تحميه الدولة وبين أرض المراعي والكلأ. فإن الدولة تبيح الانتفاع بالأول للجميع، مع المحافظة على شجره وكلئه ليبقى صالحا للانتفاع بصفة دائمة. وهذا يشبه في وقتنا الحاضر الأموال العامة للدولة كالحدائق والميادين وغيرها. أما أرض المراعي والكلأ فإنها من المباحات للناس جميعا يستعملونها كيف شاءوا كما كان متعارف عليه في أراضي الجموع حاليا.
رابعا):الأرض الموات:
وهي الأرض التي ليست فيها عمارة طبيعية أو بجهد بشري، وفيها يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: " من أحيا أرضا مواتا ليست في يد مسلم ولا معاهد فهي له".
وقد عرفنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله قد وضع القاعدة في تمليك الأرض الموات لمن يحييها ولكن سيدنا عمر قد وضع شرطا هاما تقتضيه المصلحة العامة . وهذا الشرط يقضي بأن من يحجر أرضا، أي يحددها بحدود من الحجر، فلا يملكها إلا بإحياءها. وقد نفذ عمر ما قرره الرسول وقال في ذلك : " من عطل أرضا ثلاث سنين لم يعمرها فجاء غيره فعمرها فهي له". كما روى يحيى ابن آدم القرشي:" كان الناس يتحجرون على عهد عمر رضي الله عنه، فقال، من أحيا أرضا فهي له. قال يحيى: كأنه لم يجعلها له بالتحجير حتى يحييها".
وقد تشدد عمر في هذا الشرط كثيرا، كعادته في التمسك بالحق ولو كان ذلك ضد صحابي جليل من صحابة رسول الله صلى الله عليه سلم وعلى آله . فقد أقطع الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله أحدهم "أرضا طويلة عريضة"، لم يقدر على إحياءها أو زرعها كلها، فلما ولي عمر الخلافة أرغمه على ترك ما لم يستطع زراعته ووزعه على المسلمين.
كما اشترط عمر أيضا لجواز إقطاع الأرض ألا ينشأ عنه ضرر لأحد المسلمين، وألا تكون الأرض مما فرض عليه الخراج، لأنها تكون في هذه الحالة في يد شخص من أهل البلاد المفتوحة وهو ملزم بدفع خراجها، زرعها أم لم يزرعها. فقد طلب رجل من البصرة يقال له نافع أبو عبد الله من عمر أن يقطعه قطعة أرض بالبصرة وحدد موقعها. فكتب عمر إلى أبي موسى واليه على البصرة قائلا له:"إن كانت ليست تضر بأحد من المسلمين، وليست من أرض الخراج فأقطعه إياها".
المظاهر التي ذكرناها لاهتمام عمر بإصلاح الأراضي والشروط التي وضعها لها تعتبر قواعد عامة في إصلاح الأراضي ونضيف إليها:
أولا) الأرض الخراجية نوعان: أرض صلح وأرض عنوة:
والأرض الخراجية التي أخذت عنوة أي لم يسلم أهلها إلا بعد قتال تظل دائما أرضا خراجية، سواء أسلم أهلها أو انتقل استغلالها لآخرين فقد "جاء رجل إلى عمر بن الخطاب(ر) فقال: إني قد أسلمت فضع عن أرضي الخراج، قال: لا، إن أرضك أخذت عنوة".
وبذلك فأرض الخراج التي أخذت عنوة لا تتغير حالتها بإسلام صاحبها أو باستبداله بمستغل آخر ولو كان مسلما. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه سلم وعلى آله أنه قال:" من أقر بالخراج بعد أن أنقذه الله عز وجل منه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". وهذا يدل على أن المسلم إذا استغل أرض الخراج فإنه يلتزم بدفع الخراج، مع أن المسلم لا يلتزم إلا بالعشر . وسنرى أثر ذلك في الفقه الإسلامي.
والرواة على أن "السواد كان بعضه عنوة وكان بعضه صلح"، أما أرض الحيرة فكانت صلحا ولذا جاز شراؤها. وكان عمر لا يرى بأسا بشراء أرض الصلح.
ملكية الاراضي في البلاد المفتوحة في عهد عمر وتطورها بعده
ملكية الأراضي المفتوحة عنوة في عهد عمر كانت لبيت المال
- رواية قاطعة المعنى، وروايات عامة المعنى:
الروايات والعبارات المأثورة عن سيدنا عمر في ملكية الاراضي المفتوحة عنوة في عهده، تنقسم إلى قسمين، أولهما روايات وعبارات واضحة ذات أحكام قاطعة في أن ملكية هذه الأراضي للمسلمين عامة. أي لبيت المال، بينما القسم الثاني ورد عام المعنى، يمكن أن يدل على هذا المعنى الأول، كما يمكن أن يدل أن ملكية هذه الأرض لم تكن لبيت المال، بل كانت لأصحاب هذه الأراضي الأصليين، من أهل البلاد المفتوحة. فلنتتبع هذه الروايات.
- أولا "وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها، وأضع عليهم فيها الخراج":
وقد وردت هذه العبارة، ذات الحكم القاطع على لسان سيدنا عمر(ر) في خطبته التي ألقاها أمام لجنة التحكيم التي كونها "من عشرة من الأنصار، خمسة من الأوس، وخمسة من الخزرج من كبرائهم وأشرافهم". وقد علل عمر(ر) رأيه في حبس الأرض وتقرير الخراج عليها . والجزية على الرءوس أن تكون الأرض والخراج والجزية " فيئا للمسلمين المقاتلة والذرية، ولمن يأتي بعدهم".
ولذلك رأى بعض الفقهاء أن الأراضي المفتوحة عنوة، تحبس أو توقف على مصالح المسلمين.
ثانيا - "دعها حتى تغزو منها حبل الحبلة":
وقد وردت هذه العبارة في كتاب سيدنا عمر إلى عمرو بن العاص، الذي سأله عما يفعل بأرض مصر بعد فتحها. وقد شرحها أبو عبيد قائلا: "أراه أراد أن تكون فيئا موقوفا للمسلمين ما تناسلوا يرثه قرن عن قرن فتكون قوة لهم على عدوهم".
ثالثا - "المسلمون أهل الأرض":
والرواية تقول: " اشترى عتبة بن فرقد أرضا من ارض الخراج، ثم أتى عمر رضي الله عنه فأخبره. فقال: ممن اشتريتها؟ قال: من أهلها. قال: فهؤلاء أهلها-للمسلمين- أبعتموه شيئا: قالوا: لا، قال: فاذهب فاطلب مالك حيث وضعته".
ومن الواضح أن عتبة كان يعتقد أن المنتفعين بالأرض من أهل العراق الأصليين هم ملاك الأراضي الخراجية، فاشترى منهم. ولكن سيدنا عمر قد اعتبر بكل صراحة ووضوح، كبقا لهذه الرواية الصحيحة، أن ملكية هذه الأراضي الخراجية للمسلمين. وليست لأهلها قبل الفتح. وذلك يعني أنه ليس لهؤلاء إلا حق الانتفاع بالأرض في مقابل دفع الخراج. أما ملكية الأرض فللمسلمين، أي لبيت المال.
يناقش الإمام باقر الصدر في كتابه "اقتصادنا " قضية بعض الاجتهادات التي سوغت تملك الأرض الخراجية فيقول:"لقد فهم بعض الفقهاء الحنابلة وبعض الحنفية من إجراءات الخليفة الثاني بأن " أرض السواد ملك لأهله" كما جاء في كتاب الأموال لأبي عبيد، لأنه حين رده عليهم عمر، صارت لهم رقاب الأرض، وتعين حق المسلمين في الخراج، فالملكية العامة تعلقت بالخراج، لا برقبة الأرض. والحقيقة غير ذلك ، مبدأ الملكية العامة طبقه عمر على رقبة الأرض، ولم يكن ترك الأرض لأهلها اعترافا منه بحق الملكية الخاصة، وإنما دفعها إليهم مزارعة أو إجارة ليعملوا في أراضي المسلمين ويتنفعوا بها نظير خراج يقدمونه إليهم.
والدليل عما جاء في كتاب الأموال لابي عبيد، من أن عتبة بن فرقد اشترى أرضا على شاطئ الفرات، فذكر ذلك لعمر فقال: ممن اشتريتها؟ فقال: من أربابها، فلما اجتمع المهاجرون والأنصار عند عمر قال: هؤلاء أهلها، فهل اشتريت منهم شيئا؟ فقال:لا، قال عمر: فارددها على من اشتريتها منه وخذ مالك.
وعن أبي عون الثقفي في كتاب الأموال كذلك، أنه قال: أسلم دهقان على عهد علي كرم الله وجهه فقال له: " أما أنت فلا جزية عليك، وأما أرضك فلنا".
وفي صحيح البخاري عن عبد الله قال:" أعطى النبي صلى الله عليه وسلم خيبرا لليهود أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها" وهذا الحديث يدل على حكم الملكية العامة الصادر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر، بوصفها أرض العنوة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان قد قسم الأرض بين المحاربين خاصة، على أساس مبدأ الملكية الخاصة كما جاء في بعض الروايات بدلا عن تطبيق الملكية العامة، لما دخل مع اليهود في عقد مزارعة بوصفه حاكما.
ملكية الأراضي في الفقه الإسلامي
- القواعد العامة في ملكية الأرض استقرت منذ عهد عمر (رضي الله عنه):
بعد دراستنا لنظام ملكية الأراضي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، نستطيع أن نؤكد ان القواعد العامة في ملكية الأراضي في الإسلام قد حددت واستقرت قبل وفاة عمر رضي الله عنه.
نتعرف في إيجاز على نظام ملكية الأراضي في الفقه الإسلامي، بإثبات القواعد العامة، ونقتصر حتى لا تتشعب بنا المسائل، على المذهب المالكي المعتمد في بلاد المغرب العربي والمذهب الجعفري الذي يقترب منه.
أولها في: ملكية الأراضي في الفقه الأسلامي.
وثانيها في : إحياء الأرض الموات في الفقه الإسلامي.
ملكية الأراضي في البلاد المفتوحة
- أولا) في المذهب المالكي: أرض العنوة فيء للمسلمين يوقف عليهم وأرض الصلح لأهلها:
يقول الإمام مالك: " وأما أهل العنوة الذين أخذوا عنوة فمن أسلم منهم فإن أرضه وماله للمسلمين، لأن أهل العنوة قد غلبوا على بلادهم وصارت فيئا للمسلمين. وأما أهل الصلح فإنهم قد منعوا أموالهم وأنفسهم حين صالحوا عليها فليس عليهم إلا ما صالحوا عليه".
فالإمام مالك يرى أن الأراضي الزراعية في البلاد التي فتحت عنوة " كمصر والشام والعراق" تصير " وقفا بمجرد الاستيلاء عليها"، ولذلك فهو لا يجيز للإمام إقطاع المعمور من الأرض ملكا، ولكنه يجيز له إقطاعها "إمتاعا" فقط، أي ما نسميه الآن حق الانتفاع، مع الاحتفاظ بحق ملكية الرقبة لبيت مال المسلمين.
وأما أراضي البلاد التي فتحت صلحا فهي لأهلها، "فليس للإمام أن يقطع معمورها ولا مواتها ملكا ولا إمتاعا".
ولذلك يقول ابن رشد في حكم " ما افتتح المسلمون من الأرض عنوة"، قال مالك: " لا تقسم الأرض، وتكون وقفا يصرف خراجها في مصالح المسلمين من أرزاق المقاتلة، وبناء القناطر والمساجد، وغير ذلك من سبل الخير".
- ثانيا) في الفقه الشيعي "الجعفري": الأرض المفتوحة عنوة توقف على المسلمين، وأرض الصلح لأهلها:
يقول الفقيه جعفر بن الحسن الحلي في حديثه( في أحكام الأرضين) : " كل أرض فتحت عنوة وكانت محياة فهي للمسلمين قاطبة، والغانمون في الجملة، والنظر فيها إلى الإمام، ولا يملكها للتصرف على الخصوص، ولا يصح بيعها ولا هبتها ولا وقفها، ويصرف الإمام حاصلها في المصالح، مثل سد الثغور ومعونة الغزاة وبناء القناطر".
وعلى ذلك فهذا الفقيه يأخذ برأي عمر رضي الله عنه من أن الأرض في البلاد المفتوحة عنوة ملكا عاما للمسلمين قاطبة، ولا توزع على المجاهدين الذين فتحوا هذا البلد. وهو يعطي للإمام سلطة محدودة بحيث لا يستطيع التصرف في هذه الأرض بأي نوع من التصرفات، وهو لا يملك إلا صرف الحاصل من هذه الأرض وهو خراجها في مصالح المسلمين.
ثم يقول هذا الفقيه أيضا: " وكل أرض فتحت صلحا فهي لأربابها، وعليهم ما صالحهم الإمام، وهذه تملك على الخصوص، وصح بثعها والتصرف فيها بجميع أنواع التصرف.. هذا إذا صولحوا على أن الأرض لهم، أما إضا صولحوا على أن الأرض للمسلمين ولهم السكنى، وعلى أعناقهم الجزية كان حكما حكم الأرض المفتوحة عنوة، عامرها للمسلمين ومواتها للإمام.
وجاء في رواية عن الحلبي قال: سئل الإمام جعفر الصادق عن السواد ما منزلته فقال: "هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم، ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم، ولمن لم يخلق بعد. فقلنا: الشراء من الدهاقين؟ فقال: لا يصلح إلا أن يشترى منهم على أن يصيرها للمسلمين. فإدا شاء ولي الأمر أن يأخذها أخذها. فقلنا فإن أخذها منه، قال: يرد إليه رأس ماله، وله ما أكل من غلتها بما عمل". وأرض السواد هي الجزء العامر من أراضي العراق التي فتحها المسلمون في حرب جهادية، وإنما أطلق عليهم المسلمون هذا الإسم، لأنهم حين خرجوا من صحرائهم القاحلة في جزيرة العرب جهادا في سبيل الله، ظهرت لهم خضرة الزرع والاشجار في أراضي العراق المسقية بدجلة والفرات، فسموا خضرة العراق سوادا، لأنهم كانوا يجمعون بين الخضرة والسواد في الإسم. وأرض الخراج مصطلح فقهي يطلق على هذه الأراضي الخاضعة لحكم الملكية العامة التي يدعها ولي الأمر في يد القادرين على استثمارها، ويتقاضى منهم أجرة على الأرض، على قدر طاقتهمن النصف، أو الثلث أو أقل أو أكثر من ذلك مقابل انتفاعهم بها.
الإمام باقر الصدر ترجم هذه القواعد الثابتة بلسان العصر في قوله: " إن كل أرض تضم إلى دار الإسلام بالجهاد، وهي عامرة بجهود بشرية سابقة على الفتح، تطبق عليها الأحكام الشرعية الآتية :
- أولا: تكون ملكا عاما للأمة، ولا يباح لأي فرد تملكها والاختصاص بها ؛
- ثانيا: يعتبر لكل مسلم حق في الأرض بوصفه جزءا من الأمة، ولا يتلقى نصيب اقربائه بالوراثة ؛
- ثالثا: لا يجوز للأفراد إجراء عقد على نفس الأرض من بيع وهبة ومعاوضة وتمليك ونحوها ؛
- رابعا: يعتبر ولي الأمر وهو المسؤول عن رعاية الأرض واستثمارها وفرض الخراج عليها عند تسليمها للمزارعين ؛
- خامسا: الخراج الذي يدفعه المزارع إلى ولي الأمر، يتبع الأرض في نوع الملكية، فهو ملك للأمة كالأرض نفسها ؛
- سادسا: تنقطع صلة المستأجر بالأرض عند انتهاء مدة الإجارة، ولا يجوز له احتكار الأرض بعد ذلك ؛
- سابعا : إن الأرض الخراجية إذا زال العمران عنها واصبحت مواتا لا تخرج عن وصفها ملكا عاما، ولا يجوز للفرد تملكها عن طريق إحيائها وإعادة عمرانها من جديد ؛
- ثامنا: يعتبر عمران الأرض حال الفتح الإسلامي بجهود أصحابها السابقين شرطا أساسيا للملكية العامة، والأحكام الآنفة الذكر، فإذا لم تكن معمورة بجهد بشري معين لا يحكم عليها بهذه الأحكام".
وأهم استنتاج لهذا الحكم، أن الأراضي الخراجية لا تورث، إنما تنقل إلى من يحسن عمارتها ومن يراه ولي الأمر أحق بها بمقابل.
وهذا الحكم يمنع تفتت الأرض عبر الأحقاب بين أجيال الورثة إلى مستوى استحالة استثمارها إن هي نزلت إلى الحدود التي لا يمكن أن تسد رمق أهلها فأحرى أن يجلب منها خراجا. وهي الحال التي يتخبط فيها عالمنع القروي في زماننا هذا بعد قرون من انتقاض عروة حكم الأرض الشرعي، مباشرة بعد انتقاض عروة الخلافة على منهاج النبوة وسريان حكم الاستيلاء والغلبة والجبر.
إحياء الأرض الموات في الفقه الإسلامي
رأينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد شجع الناس على إصلاح الاراضي وزراعتها، ووضع القاعدة العامة في أن"من أحيا أرضا ميتة فهي له". وأن عمر رضي الله عنه قد سار في نفس الطريق الإصلاحي الذي سنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وتشددفي تنفيذ الشرط الذي يقضي بأنه "ليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين".
وقد سار الفقهاء المسلمون القدامى والمحدثون جميعا، على اختلاف مذاهبهم وآراءهم في الطريق القويم الذي خطه الرسول صلى الله عليه وسلم وتابعه فيه عمر رضي الله عنه.
- أولا) في المذهب المالكي:
لا يعتبر الإمام مالك الأرض الموات إلا "في الصحاري والبراري، وهو ما يصنفه اليوم علماء البيئة في المناخ القاحل الصحراوي ( bioclimat aride et saharien ) وأما ما قرب من العمران وما يتشاح الناس فيه، فإن ذلك لا يكون له أن يحيه إلا بقطيعة من الإمام". وذلك لأن الإمام مالك لا يتطلب في الإحياء إذن الإمام، مادام ذلك بعيدا عن العمران. أما ماقرب من العمران فلا يجوز إحياؤه إلا بإذن الإمام. والإحياء عند مالك يكون "بشق العيون، وحفر الآبار وغرس الشجر وبناء البنيان والحرث فإذا فعل شيئا من ذلك فقد أحياها".
وقد جاء في المدونة : " قلت: أرأيت مالكا هل كان يعرف هذا الذي يتحجر الأرض أنه يترك ثلاث سنين فإن أحياها وإلا فهي لمن أحياها(قال): ما سمعت من مالك في التحجير شيئا، وإنما الإحياء عند مالك ما وصفت لك"
ويبدو من ظاهر النص ان الإمام مالكا لم يأخذ بالحديث المروى في التحجير، ولكن الواقع أنه لا خلاف بين الرأيين. فقد اشترط الحديث أن يتم إحياء الأرض في خلال ثلاث سنين من تحجيرها. ومالك لا يعتبر الإحياء إلا بأحد الأمور التي ذكرها من شق العيون وما أشبه، فلا تملك الأرض إلا إذا حدث فعلا أحد هذه الأمور، والنتيجة العملية لذلك هي نفس النتيجة التي أرادها الحديث.
وبما يؤيد ما فهمناه قول مالك: " ولو أن رجلا أحيا أرضا مواتا، ثم أسلمها بعد حتى تهدمت آبارها، وهلكت أشجارها، وطال زمانها حتى عفت بحال ما وصفت لك، وصارت إلى حالها الأول، ثم أحياها آخر بعده كانت لمن أحياها بمنزلة الذي أحياها أول مرة".
وهذا الحكم يتفق مع ما فهمناه من رأي عمر رضي الله عنه من أن تعطيل الأرض بدون زرع ثلاث سنين يسقط ملكيتها عن المحتجر.
- ثانيا) إحياء الأرض الموات في المذهب الشيعي الجعفري:
يعرف المحقق الحلي الموات بأنه " الذي لا ينتفع به لعطلته، إما لانقطاع الماء أو لاستيلاء الماء عليه أو لاستجمامه، أو عير ذلك من موانع الانتفاع، فهو للإمام عليه السلام، لا يملكه أحد وإن أحياه ما لم يأذن له الإمام.
ويشترط هذا الفقيه للتملك بالإحياء خمسة شروط:
الأول: - ألا تكون الأرض مملوكة لمسلم.
الثاني: - ألا تكون " حريما للعامر، كالطريق والشرب وحريم البئر" وما أشبه.
الثالث: - ألا تكون " مشعرا للعباد، كعرفة ومنى والمشعر".
الرابع: - ألا تكون مما أقطعه الإمام ولو كانت " مواتا خاليا من التحجير".
الخامس: - ألا يكون قد سبقه "سابق بالتحجير، فأن التحجير يفيد الأولوية"، ولكنه لا يفيد الملك. فمن اقتصر على التحجير وأهمل العمارة يخيره الإمام بين أمرين: إما الإحياء وإما التخلية بينها وبين غيره ولو امتنع أخرجها السلطان من يده لئلا يعطلها. وهكذا يأخذ هذا الفقيه برأي عمر رضي الله عنه في إرغام المحتجر على الإحياء أو استرداد الأرض منه، ولكننه لم يحدد للإحياء وقتا كما جاء في الحديث وفعل عمر من تحديد ثلاث سنوات.
فقيه جليل معاصر من فقهاء آل البيت، باقر الصدر، يقول في الأرض الميتة حال الفتح :
" وإذا لم تكن الأرض عامرة حين دخولها في الإسلام لا بشريا ولا طبيعيا، فهي ملك للإمام، وهذا ما يصطلح عليه اليوم بملكية الدولة والدليل الشرعي على ملكية الدولة للأراضي الميتة حين الفتح: أنها من الأنفال كما جاء في الحديث، والأنفال عبارة عن مجموعة من الثروات التي حكمت الشريعة بملكية الدولة لها في قوله تعالى: "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله وللرسول ...الآية "
وورد في الخبر عن علي كرم الله وجهه أنه قال: "إن للقائم بأمور المسلمين الأنفال " مصير هذه الأراضي الميتة حال الفتح تكون بيد ولي الأمر طبقا لما ورد في الحديث: " ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه" وقد استدل أبو حنيفة بهذا الحديث على أن الموات لا يجوز إحياؤها والاختصاص بها دون إذن الإمام".
- ثالثا) في المذهب الحنفي:
يعرف أبو يوسف الأرض الموات بأنها الأرض التي لم يمكن فيها "أثر بناء ولا زرع، ولم تكن فيئا لاهل القرية، ولا مسرحا ولا موضع مقبرة ولا موضع محتطبهم ولا موضع مرعى دوابهم واغنامهم، وليست بملك لأاحد، ولا في يد أحد".
- رابعا) في المذهب الشافعي:
يقسم الإمام الشافعي أرض الموات إلى نوعين، الأول: الموات الذي "قد كان عامرا لاهل معروفين في الإسلام، ثم ذهبت عمارته فصار مواتا لا عمارة فيه، فذلك لأهله كالعامر، لا يملكه أحدا أبدا إلا عن أهله، وكذلك مرافقه وطريقه وأفنيته ومسايل مائه ومشاربه". وأما النوع الثاني فهو "ما لم يملكه أحد في الإسلام يعرف، ولا عمارة ملك في الجاهلية، أو لم يملك، فذلك الموات الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحيا مواتا فهو له".
- خامسا) إحياء الأرض الموات في المذهب الظاهري:
إحياء الأرض الموات عند ابن حزم " هو قلع مافيها من عشب أو شجر أو نبات بنية الإحياء لا بنية أخذ العشب والاحتطاب فقط أو جلب ماء إليها من نهر أو من عين، أو حفر بئر فيها لسقيها منه، أو حرثها أو غرسها، أو تزبيلها أو ما يقوم مقام التزبيل من نقل تراب إليها أو رماد، أو قلع حجارة، أو جرد تراب ملح عن وجهها حتى يمكن بذلك حرثها أو غرسها أو أن يحتفظ عليها بحظير للبناء" ويكاد ابن حزم بهذا التعداد المفصل أن يكون قد استقصى في بعض ما أحصى، كل ما يمكن عمله لتعرية الأرض لا لإحيائها، لذا نعترف أن النظريات الحديثة في علوم البيئة ترجح رأي مالك على رأي ابن حزم. وحينما ذكر قلع ما فيها من عشب أو شجر، يبدو أنه صنف الأرض العامرة طبيعيا تحت حكم الأراضي الموات، عوض إخضغعها لحكم الغابات والمراعي. وقد يعذر ابن حزم في ذلك لأن الأراضي الميتة بصفة شبه مطلقة، أي ما يوصف اليوم بالأراضي القاحلة الصحراوية تكاد تنعدم في إسبانيا مقر إقامة فقيهنا. وهو الغلط نفسه الذي سقط فيه فقهاء المناطق الشمالية المغربية في جبال الريف، عندما وزعوا رسومات " الملكية " لكل من أضرم النار في غابة من غابات الأرز أو البلوط لزرعها. والحاصل من الإفساد الذي خلفه المحراث في هذه المناطق المنحنية، يؤكد دقة أحكام الشرع الذي من أهم مقاصده الحفاظ على الثروات الطبيعية بعد الحفاظ على الدين والنفس والنوع والعقل.
الفصل الرابع: معالم في سبيل تدبير مستدام للثروات الطبيعية.
سبل الإصلاح : نهج تشجيع الفوضي، أم نهج التخطيط الراشد
تنزيل الأحكام الشرعية على أرض الواقع
الأصول الثابتة والأحكام الاجتهادية المرسلة
أحكام الشرع في المراعي والغابات لمعالجة آفة التصحر
فضاءات الاجتهاد للعصر في المسائل المتغيرة والمصالح المرسلة
الفصل الرابع: معالم في سبيل تدبير مستدام للثروات الطبيعية.
سبل الإصلاح : نهج تشجيع الفوضي، أم نهج التخطيط الراشد
تدهور إنتاجية الأراضي في المغرب بسبب الوضع القائم للهياكل العقارية، عرف أخيرا تسارعا لامثيل له، رغم بعض النصوص التشريعية الترقيعية التي ولدت موؤودة التطبيق في عالم قروي يكتظ بقاطنيه، فصار معظمهم في عداد العاطلين. وانطلاقا من تشخيص الواقع المتأزم لمسألة رعاية الثروات الطبيعية، لا يمكن تصور آفاق أي إصلاح إلا عبر نهجين اثنين لا ثالث لهما. النهج الأول، استمرار نهج الفوضى العقارية المتبع حاليا، النهج الثاني، نهج التخطيط الراشد للقومة الزراعية المنظمة.
النهج الأول: يترك عناصر الفوضى العقارية الحالية تتصارع وتتدافع فيما بينها إلى الحدود التي يتعطل فيها الإنتاج، فيضطر الناس للهجرة إلى المدن. فإن كان هناك نهوض بالقطاعات الاقتصادية الأخرى لإمتصاص التزييف البشري، تمت الطفرة، والتحقنا بالنموذج التنموي الغربي الذي خفف الضغط على المجال القروي إلى الحدود المتلائمة مع شروط التنمية المستدامة كما في أوربا وأمريكا ، حيث نسبة السكان في البادية لا تتجاوز 5 % ، بعدما تم توفير مناصب شغل منتج فعال للنازحين من البادية. لكن إن لم يتوفر شرط النهوض بالقطاعات الاقتصادية الأخرى، فإن التدافع سينتقل كذلك إلى المدن، ليتم الاستقرار على وضع اجتماعي متأزم، تبعا لقوله تعالى:(( ولولى دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)). هذا الاحتمال الأخير هو المرتقب لأن النهوض بالقطاعات الأخرى لم يتم إلى يومنا، حتى التخطيط المحكم له، تحت حكم التقنوقراطية المراعية لمصالح الغرب، التي تقوم على مبدأ منع كل نهوض اقتصادي عربي وإسلامي.
النهج الثاني: نهج التخطيط الراشد والقومة الزراعية المنظمة، التي تجتهد للرجوع إلى الأوضاع الأصلية الشرعية لوسائل الإنتاج، ودراسة العقود المثلى التي تحدد علاقة الفلاح بالأرض وشروط استغلالها، في إطار الحكم الشرعي للمزارعات والمعاملات القروية.
تنزيل الأحكام الشرعية على أرض الواقع
في مجال الأحكام الشرعية للأراضي الفلاحية والرعوية والغابوية والميتة، نكون بحاجة إلى معلومات تاريخية واسعة عن الأراضي، ومدى عمرانها، لنميز على ضوئها ما كان منها عامرا وقت الفتح عن غيرها من الأراضي الميتة أو الغابات والمراعي العامرة طبيعيا.
هذا لتحديد الشرعية الأصلية وأنواع الملكية السارية بعد أن استقرت الأوضاع وقت الفتوحات الأولى التي حضرها الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم جميعا.
هذه الأحكام الأصلية وإن لم يبق لها أي وجود في زماننا بعد أن توالت عمليات التنازع والتداول على الأرض عبر الأجيال، بين عرب وعجم، مستضعفين ومستكبرين، لا بد للمشرعين من معرفتها، لتكون لهم منبعا ومنارا لسن الأحكام العادلة، ورد المظالم لأهلها، ورفع تراكمات الجبر والقهر. وقد لا يحتاج المشرع المسلم للرجوع إلى أشكال التسلط الغابرة الناقضة لعرى الأحكام الشرعية الأولى التي طبقت على الأرض بعد أن دانت كل الأقاليم لحكم الإسلام . فلربما سنكتفي في مرحلة أولى بالتعرف على أشكالها الأخيرة.
أشكال التسلط الأخيرة ظهرت بوادرها في بداية القرن الماضي عندما لجأ الغزاة الفرنسيون والإسبان بعد إبرام عقد الحماية لتغيير أحكام الشرع واستبدالها بقوانين تسوغ لهم الاستيلاء على الأراضي قهرا، وتبيح لهم تفويتها لصنائعهم من الأجانب والمقيمين الذين ساهموا في مهام إخضاع المسلمين لحكم النصارى.
الأصول الثابتة والأحكام الاجتهادية في المصالح المرسلة
قوانين المحافظة العقارية الحالية لا تلزم وليست لها حرمة إن كانت مخالفة للأصول الثابتة لأحكام الشرع، خاصة بالنسبة لما أفرزه حكم اللاييكية من تسلط وغصب واستيلاء بالقوة.
رأينا أن الأراضي الفلاحية في المغرب تخضع لحكم شرعي أصيل، وهو حكم الوقف أي حكم الأراضي الخراجية، الذي سنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وفصله الخليفة عمر رضي الله عنه، وكذلك الإمام مالك رضي الله عنه، مؤسس المذهب الذي يتبعه المغاربة. وهو الحكم الذي يمنع تفتت الأرض بمنع تملك رقبتها والذي يقرر ترك الأرض في يد أصحابها بعد إبرام عقد يحدد شروط الإستغلال. بعد تقرير هذا المبدأ، سيطرح سؤال: من هم أصحابها؟ أهم سكان المغرب الأوائل وهم الأمازيغ، قبل مجيء عرب الفتح في القرن الأول الهجري وعرب بني هلال وبني سليم في القرن السادس الهجري أيام الفاطميين. ثم إذا رجعنا إلى التاريخ وحددنا بدقة الحالة التي كانت عليها الأرض أيام الفتح والكيفية، التي دخلت بها إلى دار الإسلام، وتم تقرير حكمها الشرعي النظري، سيطرح السؤال المتعلق بكيفية إنزال هذا الحكم النظري على أرضية الواقع الذي تتشابك خيوطه في شتى الميادين :
- الحالة العقارية الراهنة للأراضي وعلاقتها بالتراكمات التشريعية عبر العصور؛
- واقع الاختلاط العميق الذي حدث بين السكان عربهم وعجمهم؛
- القوانين العقارية المختلفة التي طرأت أيام مدة الاحتلال الأجنبي للبلاد؛
- الإقطاعات الشاسعة التي كافأ بها المحتلون صنائعهم في عهد الاحتلال؛
- الإقطاعات التي ظهرت في عهد اللائيكية.
قبل تقرير أي حكم في ما سكت عنه الشرع وتركه الاجتهاد، ينبغي التعرف على ما يمكن به ترجيح كفة هذا الرأي أو ذاك.
الوسائل الترجيحية يمكن اختيارها استنادا إلى ما جد في التجربة البشرية عبر العالم ، إذ الحكمة ضالة المسلم يأخذها أنا وجدها.
فمثلا المعسكر الشيوعي نبذ الملكية الجماعية للأراضي الفلاحية لعدم تجاوبها مع الفطرة، لكنه لم يعثر حتى الآن على أي صيغة ملائمة تجعله في مأمن من استجداء أقواته من المعسكر اللبرالي، وبدأ يرجح العلاقة التعاقدية بين الفلاح والأرض.
تجربة الملكية الخاصة المتبعة في بلادنا نتج عنها تفتيت الأراضي عبر أجيال الورثة إلى الحدود التي كاد أن يتعطل فيها أي نمط من أنماط الإنتاج. تجربة ضم الأراضي وإخضاعها لشروط استغلال معينة، وهي عملية شاقة ومكلفة، لا تكاد تجدي شيئا تحت حكم قانون الإرث، وتحت واقع ازدياد السكان في البادية، وعدم قدرة المجال الطبيعي القروي على استيعاب كل حاجيات السكان من المساحات الفلاحية القابلة للاستغلال المجدي اقتصاديا. تجربة الإصلاح الزراعي التي اعتمدت على توزيع بعض الأراضي المسترجعة من المحتلين الأجانب والتي كان باعثها الإيديولوجي المرجعية اليسارية، توقفت مع انهيار المعسكر الاشتراكي. واستبدل اسم "وزارة الفلاحة والأصلاح الزراعي" بإسم " وزارة الفلاحة والإستثمار الفلاحي" إبرازا وتأكيدا للإرادة السياسية الجديدة في توقيف كل سياسة عقارية تتعلق بتوزيع الأراضي المسترجعة على صغار الفلاحين في إطار ما كان يعرف بتعاونيات الاصلاح الزراعي. بينما شرع في سياسة تفويت أراضي الدولة وتمليكها أو كرائها، اعتمادا على العامل السياسي، الساعي لتوسيع قاعدة صنائع عصر اللائيكية وسدنته. وتتجه بعض الأطماع حاليا إلى العقارات الشاسعة التي تقع تحت ملك الجماعات السلالية وأراضي الأوقاف وأراضي الجيش وغيرها من الأراضي التي لا تمتلك رقبتها حسب أصلها العقاري الشرعي، تنادي بتمليكها ملكية خاصة حسب قوانين الملكية الخاصة التي صاغتها المحافظة العقارية ونسبتها افتراءا أو جهلا إلى الشريعة، وهو ادعاء فيه كثير من المغالطات وعدم فهم أحكام الأرض الأصيلة، لا غير. فمعلوم أن الملكية الخاصة لرقبة الأرض لا تكون إلا في الأراضي الميتة بعد عملية الأحياء كما ناقشنا في موضوع الأراضي الميتة. لقد أطلقوا حكم الملكية الخاصة كما هو الحال في القوانين الوضعية الأجنبية وأدعوا أنها مستقاة من الشرع بمجرد إخضاعها لأحكام الإرث. والشريعة بريئة من توريث ما لا يجوز امتلاك رقبته، وهو حكم معظم الأراضي الفلاحية والمراعي والغابات في المغرب كما أسلفنا.
هذا الحكم هو أصل الوضعية العقارية قبيل احتلال البلاد من طرف النصارى الذين تحيروا عندما عاينوا شساعة أراضي الجموع وأملاك الدولة والملك الغابوي، وهي في الأصل منتجعات ومراعي لماشية القبائل ، شركة عامة بين الناس أجمعين. وتحيروا أيضا عند معاينة الأملاك المحبسة على المساجد والجامعات والمدارس العلمية. ومع مرور الأحقاب تقلصت مساحات هذه الأملاك العامة أو الموقوفة، بعد اقتطاع المحتلين منها ما يعرف ب"ضيعات الاحتلال الرسمي" و"ضيعات الاحتلال الخاص ". وبعد استرجاع هذه الأراضي، لم ترجع إلى أصولها الشرعية الأولى لأن هذه الأصول عفا رسمها باندثار باعثها الإسلامي، بعد صفاء الأمر لحكم اللادينية. فكان منها ما ذهب اقطاعات لذوي النفوذ، وكان منها ما دخل تحت حوزة الشركات الفلاحية الشبه عمومية، ومنها ما وزع في إطار تعاونيات الإصلاح الزراعي.
تنزيل هذه الأحكام الشرعية سيتطلب كذلك معرفة الحالة العقارية الراهنة للرقعة الجغرافية القطرية التي تبلغ مساحتها الإجمالية 71 مليون هكتار:
- نصف هذه المساحة (31,8 مليون هكتار ) يمكن تصنيفه تحت نوع الأراضي الميتة لأنها تتميز بمناخها الصحراوي . إحياء هذه الأراضي بالشروط المتقدمة يكسب المحيي حقوق ملكية خاصة مفصلة في موضوع الأراضي الميتة.
- المراعي الخاضعة حاليا لقانون أراضي الجموع أو مراعي الجماعات السلالية تقدر مساحتها بعشرين مليون هكتار، لا تزال في معظمها شركة عامة لكن بين أفراد الجماعة السلالية فقط، وتحت وصاية وزارة الداخلية وتحوم حولها الأطماع لتمليكها لما يسمى بذوي الحقوق مع غموض المصطلح بالنسبة لهذه الحقوق وبالنسبة لمصدرها.
- الملك الغابوي ( بما فيه مروج الحلفا ) بمساحة تسعة ملايين هكتار.
- الأراضي القابلة للزراعة: 9,2 مليون هكتار وهي حسب حكمها العقاري أنواع مختلفة ذكرها في الفصول المتقدمة.
أحكام الشرع في المراعي والغابات لمعالجة آفة التصحر
سن الأحكام التطبيقية للشرع بالنسبة للمراعي والغابات، سوف لن يشكل أية عقبة إذا ارتقى الوعي وكانت الإرادة السياسية في تطبيق الحكم الشرعي لكل صنف منها، خاصة ما يتعلق بعدم جواز تملك رقبة ما الناس فيه شركاء: الماء والكلأ والنار. ودروس الماضي كفيلة بالدفع في هذا الإتجاه والتعلق بهذا الحكم: فلقد ظن الناس جهلا غداة استقلال القطر، أن زوال حكم النصارى يبيح لهم الاستيلاء على ما كان تحت حكم " رجل الغابة"، فعمدوا إلى اقتلاع أشجار الغابة ومروج الحلفا وطوعوا المراعي المنحدرة. وما هي إلا سنوات معدودة بعد اغتصاب هذه الأراضي، وولوج سكة المحراث فيها حتى انجرفت تربتها مع المياه أو ذرتها الرياح فتركتها صلدا، قاعا صفصفا، خاوية على عروشها، وهو ما تحير فيه التقنوقراطيون الحاليون وأطلقوا عليه ظاهرة التصحر. لقد استمر هذا الترامي على الملك الغابوي ومروج الحلفا بنسبة 30000 هكتار في السنة في الغابات. وبلغت احصائيات المساحات التي تتعرض للتلف ما يقدر بثمانية ألف هكتار في السنة في مجموع إقليم وجدة (دراسة اعتمدت صور الاستشعار عن بعد). بعد عملية حرث هذه الأراضي وبعد هبوب عواصف الخريف ينقلب النهار ليلا في المنطقة، ثم تهدأ العاصفة ليكتشف الناس فداحة الخسارة: تربة غنية تكونت عبر ملايين السنين من ذبال جذور الغطاء الطبيعي، تذهبت أدراج الرياح في أول سنة من حرثها.
نفس الكوارث تلاحقت بعد الاستقلال في المناطق الجبلية، خاصة منطقة جبال الريف التي قام فيها السكان بإحراق غابات الأرز والبلوط لتوسيع رقع حرث وغرس القنب الهندي. ولقد تلاحقت الكوارث في هذه المنطقة التي حولتها أخاديد انجراف التربة إلى صحاري تحت مناخ ممطر رطب.
فضاءات الاجتهاد للعصر في المسائل المتغيرة والمصالح المرسلة
بعد تثبيت الأوصول الشرعية للمسألة العقارية، سوف تكون هناك اجتهادات في الفروع والمسائل التي سكت عنها الشرع. وسوف تنتقى الأحكام بالنظر إلى المصالح المرسلة التي يحددها الفقيه والخبير الزراعي. فمثلا بعد تثبيت حكم الوقف الخراجي على الأراضي الزراعية، ربما رجح المشرع المسلم ترك هذه الأراضي في يد أصحابها الحاليين مقابل تأدية الخراج لبيت مال المسلمين، بعد إبرام عقد حق الاستعمال، لا حق التملك. ربما سيرجح، بعد استشارة خبراء التصحر والتدبير المستدام للثروات الطبيعية، إبرام نفس العقد في جزء من الأراضي الفلاحية الخصبة في سهول الغرب والشاوية ودكالة وغيرها من السهول، مع السكان الأمازيغ بعد ترحيلهم، لتجنب أي نشاط زراعي في المنحدرات والغابات والمراعي الماسكة للتربة والمسهلة لتسرب المياه إلى العيون. وذلك نوع من رد المظالم التاريخية الكبرى لإخواننا الأمازيغ.
تتظافر الجهود إذن بين الخبرة الفقهية والخبرة التدبيرية العقلانية، لترجيح الأحكام الراشدة في المجالات الاجتهادية، وكذلك في مجال التدرج والشورى ورد المظالم في تنزيل الأحكام الشرعية الأصلية. والمسائل الاجتهادية مجالها والحمد لله رحب متسع، وذلك برهان على مرونة الشرع وصلاحه لكل زمان ولكل مكان، شريطة أن لا يكلف به أصحاب العقيدة اللادينية المتمردون عليه أصلا. وفي ما يلي نماذج من المسائل الاجتهادية حسب أصناف الأراضي :
· مسائل للاجتهاد تخص صنف الأراضي العامرة طبيعيا (الغابات والمراعي):
- كيف يتم تحديد المساحات المقتطعة منها خطأ؟ كيف يتم استرجاعها للملك العمومي لانتزاعها من خطر التصحر؟ هل عن طريق شرائها كما حدث في فرنسا؟ أم بعد الترحيل الاختياري أو القسري للمترامين عليها بعد أم بدون معاوضة؟ أم يكفي أن نلزم المتمسكين بها بخراج مدروس يقنعهم بالرحيل؟
- كيف يتم إدماج السكان المحاذين لها في إطار استغلال "معقلن" مستديم مقاوم للتصحر الحالي، وأنشطة حديثة لا تشكل أي خطر على الموارد الطبيعية، كالسياحة البيئية والصيد والصناعة..؟
- كيف يتم تحديد الحمى فيها للاستخلاف الإحيائي، وللحفاظ على التنوع البيولوجي ولإعادة الإعمار بالحيوانات التي انقرضت منها..؟
· فضاءات ومسائل الاجتهاد تخص صنف الأراضي الخراجية (الأراضي الزراعية):
- مسائل تتعلق بتعيين المستغل وبشروط الاستغلال:
هل هو المستفيد الحالي؟ أم مستفيد آخر للتداول على الأرض، يحدد عن طريق سمسرة للكراء، أو في إطار تعاونيات أو شركات تعمل بشروط يحددها كناش التحملات لمنع تفتت الأرض..؟
- مسائل تتعلق بتحديد الخراج (الضريبة):
أنكتفي بالدرهم الرمزي للتعبير عن المواطنة ووفاء بالحق الشرعي الأدنى؟ أم تحدد مبالغ تصاعدية لتشجيع الإصلاحات العقارية المقررة من لدن السلطة السياسية الراشدة ؟ مثلا لتشجيع تجميع الضيعات المفتتة وضمها لتستغل في إطار تعاونيات أو شركات تحترم الحدود الدنيا والعليا لمساحة المستغلات، كي لا تكون الأرض محتكرة بين الأغنياء في جانب، وكي لا تضيع الإنتاجية من جراء التفتت في جانب آخر؟
أم تحدد مبالغ مدروسة للخراج لتشجيع سياسة ما للتنمية القروية، كخيار التمويل الذاتي للصناعات المحلية، لتخفيف الضغط على الأرض وعلى المجال الطبيعي قصد الحد من عومل التصحر والإفساد البيئي؟
· فضاءات ومسائل الاجتهاد تخص صنف الأراضي الميتة:
- كيف يتم تحديدها في مجالها الطبيعي القاحل الصحراوي؟ كيف يتم حث الناس على إحيائها؟
- كيف تتم معالجة التفتت فيها حيث إنها الصنف الوحيد القابل للتوارث؟
· فضاءات الاجتهاد تخص مسألة توحيد وتبسيط القوانين العقارية:
- أصناف الأرض الأصلية عددها خمسة بينما يتجاوز عددها تسعة في القانون الوضعي المعتمد من طرف الإدارة الحالية، يتعدد فيه المتدخلون، وتضيع بينهم حقوق المواطنين. ألا يمكن توحيد الأحكام الوضعية التي تخضع لنفس المقتضيات، مثلا الملك الغابوي وأراضي الجموع الرعوية والملك العمومي كالشواطئ وضفاف الأنهار والبحيرات وكلها فضاءات لا تباع ولا تتقادم مبدئيا، إلا أنها أخيرا شهدت فوضى عارمة لم تراع فيها المبادئ والقوانين، تسببت في بعض القلاقل الاجتماعية الخطيرة، بعدما استغلت أحيانا لبناء خمارات الاستثمار السياحي المخرب.
- ألا يمكن توحيد الأصناف الوضعية التالية: أراضي الجيش الأراضي العرشية أراضي الإصلاح الزراعي، أراضي الشركات الفلاحية، أراضي ملك الدولة الخاص، أراضي الجموع الفلاحية، ,تجميعها ضمن التسمية الأصلية: الأراضي الخراجية؟
· اجتهادات لإحياء مؤسسات ومصالح أصيلة
- مؤسسة الخراج والمسح العقاري(cadastre) : للتذكير كان المسح معتمدا في المغرب بعيد فتحه ثم في عهد دولة المرابطين والموحدين، وهو حاليا معطل لتعطيل جباية الخراج، ولاستئثار قلة من الملاكين المتغيبين بأراضي شاسعة.
- مؤسسة جباية الزكاة التي تأخذ الحق المعلوم من أغنياء القرية لتوزعها على فقراء نفس القرية، وهي كذلك معطلة من طرف الإدارة اللاييكية الحالية.
- مؤسسة الوقف الاجتماعي الذي حرفته الإدارة الحالية عن دوره الأصلي، فأصبح دولة بين بعض من ابتلوا بأكل الحرام المحض. وعن سبيل هذه المؤسسة العظيمة يمكن مثلا دمج المرأة القروية في "مسلسل التنمية" لقطع الطريق على قروض وصدقات الجمعيات التنصيرية.
- مؤسسة إعادة إعمار ورعاية الأراضي المستردة في إطار عملية رد المظالم الطوعي أو القسري... إلى غير ذلك من الاجتهادات النابعة من الأصول، وهذا لا تكاد تجد من يناقشك ويحاورك فيه في الإدارة المنصبة على مؤسسات الدولة الحالية، بل إن منهم من ينظر إليها بغطرسة واستعلاء تمردا على الشريعة، ولا يتحرج في التوسل لفقهاء الشرائع المحرفة لابتداع الحلول المستوردة للمسألة العقارية. فهي دعوة لنا جميعا لتغيير موقفنا أزاء تراثنا التشريعي المنبثق عن آخر رسالة من رسائل السماء المرشدة للمسيرة الإنسانية. وإن لم نفعل، فذل العولمة التشريعية التلموذية لنا بالمرصاد. ولله الأمر من قبل ومن بعد، ولكن أكثر الناس لا يفقهون.
· اجتهادات للحد من تبذير مياه الري وأموال التجهيزات في الأراضي المسقية
حوالي مليوني هكتار من الأراضي المحروثة يسقى بصفة دائمة بعد اعتماد سياسة محمودة : سياسة بناء السدود. إلا أن مجهود إيصال هذه المياه إلى الأراضي القابلة للسقي كان دون المستوى نظرا لعوامل شتى منها:
- غياب باعث العدل في توزيع المياه بين المناطق، من تخمة بعض الدوائر السقوية لدرجة ظهور مشاكل حقيقية لصرف المياه الفائضة عن حاجات الأرض، إلى عوز بعض المناطق البورية التي لا تتوفر لها حتى الكمية الربيعية الضامنة لمحصول السنة، وتبين كذلك مشكل اتباع بعض التقنيات المكلفة، ولماذا لم يتم استبدالها بتقنيات حديثة مكنت مثلا لتقنيي الجزيرة العربية وسوريا من سقي مساحة مماثلة للمساحة المسقية في المغرب في مدة خمس سنوات فقط، بدل أربعين سنة وأكثر، المدة المستغرقة في بلادنا.
- استفحال ظواهر التبذير التي تطغى في تدبير مشاريع الدوائر السقوية، وما تستهلكه مكاتب الدراسات المحلية والأجنبية من أموال لانتاج دراسات يمكن الاستغناء عنها، بالنظر لما جد في عالم تقنيات السقي الحديثة. هذه الأموال التي تحصل عليها بسهولة بعض الإدارات كقروض من الأبناك الخارجية تضمنها الدولة بعد امتثالها لشروط تمس بسيادة البلاد، زيادة على إثقال كاهل القطر بما يمكن الاستغناء عنه. وطبعا يرجع هذا التبذير وسوء التدبير على الفلاحين وخاصة ضعافهم في صورة " فواتير" على الماء وعلى التجهيزات والإصلاحات العقارية .
- ولربما رجح الاجتهاد والتدبير العقلاني إمكانية الاستغناء عن المكاتب الجهوية للاستثمار الفلاحي، وتعويضها بمكاتب شبيهة بمكاتب الماء الصالح للشرب، تنتهي مهمتها بإيصال الماء إلى الضيعات وكفى، وما تبقى من أشغال يتحمله المستغلون باعتماد ما بدأ ينتشر دون أن يكون للمصالح التقنية أي تدخل فيه، من تجهيزات بسيطة، كأنابيب البلاستيك، وأدوات الري المركز، والري المكمل لحاجيات المحاصيل عند شح االمطر ( Irrigation d'appoint ) إلى غير ذلك من مواضيع وفضاءات المصالح المرسلة التي يرجحها الاجتهاد في الفروع، بعدما يتم تنزيل أحكام الأصول الثابتة وتطبيقها في الميدان. وبطبيعة الحال يستحيل ذلك تحت حكم الإدارة اللادينية الحالية، لأنها اسست أصلا على مبدإ التمرد على الشريعة الإسلامية الغراء.
والله ولي التوفيق، يهدي الصراط المستقيم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
المراجع
- القرآن الكريم.
- الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم، صحيح مسلم، دار المعرفة، بيروت لبنان.
- القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، كتاب الخراج، المطبعة السلفية، مصر.
- أبو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، مطبعة الحلبي، مصر.
- محمد عبد الجواد محمد، 1982. ملكية الأراضي في الإسلام، منشأة المعارف بالأسكندرية، مصر.
- الإمام محمد أبو زهرة، أصول الفقه، دار الفكر العربي، مصر.
- محمد باقر الصدر، 1980 اقتصادنا، دار الكتاب اللبناني، بيروت لبنان.
- وزارة الفلاحة والإصلاح الزراعي- الإحصاء الفلاحى العام لسنة 1974
- وزارة الفلاحة والتنمية القروية والصيد البحرى - الإحصاء الفلاحى العام لسنة 1996
- عبد الحميد إبراهيمي، المغرب العربي على مفترق الطرق،
- بنسالم حميش. في الغمة المغربية. سلسلة شراع، العدد 20.
- التشريع الغابوي 1917 (وزارة المياه والغابات)
- قانون الاستثمار الفلاحي 1969 (وزارة الفلاحة)
[1] Gazette du Maroc n° 69 " Dossier Agriculture".
[2] الأسبع الصحافي - عدد 17 / 455 - 19 يونيو 1998.
[3] المغرب العربي على مفترق الطرق، عبد الحميد إبراهيمي.
[4] في الغمة المغربية، سلسلة شراع العدد 20 ص 51.