سياسات العفو

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قراءة في كتاب :

سياسات العفو

للكاتبة : سندرين لوفرانك

 

)Politiques du pardon

Par Sandrine Lefranc(

 

 

 

 

تأليف  محمد المهدي الحسني

 

 

26  دجنبر 2004

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المحتوى

 

مقدمة

المسائل المتناولة     

نماذج تجارب تاريخية للانتقال الديموقراطي

تجربة الأرجنتين

تجربة الأوركواي

تجربة الشيلي

تجربة أفريقيا الجنوبية

أهم الاستنتاجات المنهاجية والتنظيرية للدراسة

ملابسات الفترة الانتقالية

تحديات وشروط الانتقال الديمقراطي الصحيح

ارتسامات من وحي الدراسة - إسقاطات على الحالة المغربية

شرط النية والقدرة الإرادية في الانتقال الديموقراطي الفعلي

شرط التحديد الوجيه للنخبة المتفاوضة من فاعلي العهد القديم والعهد الجديد (Acteurs pertinents)

شرط إشراك أهل النظر الإستراتيجي في إعادة بناء المؤسسات الديموقراطية، وبناء الاقتصاد، والتصدي للجيوب الباقية للعنف والعنف المضاد

شرط إصلاح المؤسسة التي بيدها القوة العمومية

شرط عدم التعجيل في طي صفحة الماضي مخافة انهيار المستقبل

شرط البعد عن الغلو والمزايدة في طلب الانتقام نيابة عن الضحايا

شرط تثبيت حقوق الإنسان التي أتاحتها الفترة الانتقالية، ومراعاة إرضاء المنظمات الممثلة للضحايا

الشروط الأخرى

 

 

 

 

مقدمة:

         

موضوع الكتاب تعالج فيه الكاتبة سندرين لوفرانك سياسات العفو التي تنهجها الدولة في مرحلة الانتقال من العهد الاستبدادي إلى العهد الديموقراطي. صدر هذا البحث عن أطروحة لنيل درجة دكتوراه في العلوم السياسية، وتولى طبعه سنة 2002 المعهد الوطني للبحث العلمي الفرنسي، في إطار سلسلة "أسس السياسة"( Ed. Presses Universitaires (

تم تناول الموضوع من خلال مقارنات بعض التجارب التي عرفها عقد الثمانينات والتسعينات في أمريكا اللاتينية، وإفريقيا الجنوبية، وذلك بعد تقهقر منهجية التغييرالثوري اليساري القائم على الانقلابات والثورات الدموية.

عالجت الكاتبة مرحلة المخاض هذه بأدوات تحليل تخصص جديد في علم السياسة: "فقه المرحلة الانتقالية" (transitologie).

أثناء هذه الفترة الدقيقة، تطفو رواسب الفتن الاجتماعية، والتجاوزات الأمنية، وما يتمخض عنها من مآسي لضحايا العنف والعنف المضاد، لتترجم في شكل مطالبة شعبية عارمة للانتقام والقصاص، تهدد بناة العهد الجديد بانفجار الأوضاع. لذا يسارع النظام الجديد إلى إرساء آليات مختلفة لتدبير شؤون المرحلة، بصيغ متفاوتة في القسوة والصرامة أو الاعتدال والتجاوز، حسب الظروف التي تمليها الواقعية السياسية. من ضمن هذه التدابير التي ترمي إلى طي صفحة الماضي :

§         آليات العفو العام التي يصدرها الجهاز التشريعي؛

§         آليات  العفو الخاص الرئاسي؛

§         مراسيم أو قرارات التعويضات المادية والمعنوية للضحايا؛

§         آليات مرتبطة بالجهاز القضائي.

ويتم ذلك من خلال مؤسسات الدولة القديمة، أو مؤسسات مؤقتة تحدثها الدولة الجديدة، تختلف مكوناتها وطبيعتها ووظيفتها باختلاف التجارب وحسب موازين القوى الموجودة في الساحة، بين فاعلي النظام السابق وأصحاب النظام الجديد، وكذلك مراكز صنع الرأي العام وكتل الضغط في المجتمع المدني. وتكون تلك الآليات في الغالب وليدة المفاوضات التي تنظم بين الأطراف المعنية.

 

المسائل المتناولة   

 

التجارب التي تمت معالجة الموضوع من خلالها، تطورت في أمريكا الجنوبية، خلال العقد الثامن للقرن الماضي الميلادي، في الشيلي والأرجنتين والأوروكواي، وفي أفريقيا الجنوبية. حاولت الكاتبة من خلالها إلقاء الضوء على عدة إشكاليات، كالتالية :  

§         كيف يتم للديموقراطية إدماج فئة من المجتمع كانت متورطة بشكل من الأشكال مع النظام الديكتاتوري؟

§         كيف تتم المصالحة، ليتوحد الشعب على أسس جديدة، ولكي تصرف الهموم إلى مشاكل ما بعد الفترة الانتقالية؟

§         ما هي الآليات التي ينبغي ضبطها لكي يتم تمرير السلطات والمهام بشكل سليم يمنع تسرب الذهنية الاستبدادية القديمة ويحول ضد كل انفلات أمني؟

§         كيف يمكن إرساء أسس المشروعية للنظام الجديد؟

§         إلى أي حد يمكن قبول الشروط التي تقتضي حصانة العنصر القمعي القديم ضد كل متابعة، بالنظر لبقايا نفوذه في ميادين استعمال القوة العمومية وتحكمه في مراكز النفوذ الاقتصادي؟

§         ما هي التنازلات القضائية المتاحة في فترة الجو المشحون بالمطالبة الشعبية العارمة في الانتقام من سفاكي العهد القديم؟

§         كيف يمكن التعامل مع الحجج التي يرفعها مسئولو النظام القديم لإلصاق كل التهم بالمؤسسات والأوامر والتعليمات التي يتلقونها من أعلى هرم السلطة؟

§         هل يمكن قبول رفضهم لطلب العفو الذي يعتبرونه اعترافا ضمنيا بالمسؤولية في مآسي وتجاوزات الماضي؟

          تلك هي بعض النماذج من قضايا وملابسات العدالة الانتقالية التي تتناولها الكاتبة من خلال ما يتيحه " فقه المرحلة الانتقالية" من أدوات التحليل والتنظير، في محاولة لبناء نظرية فلسفية وسوسيولوجية، وذلك باعتمادها على مختبر التجارب التاريخية والميدانية.

 

نماذج تجارب تاريخية للانتقال الديموقراطي:

 

الانتقال الديموقراطي كما تعرفه الكاتبة هو ذلك التغيير التدريجي الذي يحافظ على مؤسسات الدولة القديمة ويقتضي ضرورة استمراريتها. وهو غير الانتقال الثوري الذي يعني القطيعة مع الدولة القديمة ويكسر آلياتها ومؤسساتها وتشريعاتها. فهو إذن انتقال سلمي، لكن من أهم مطالبه التعامل بالصرامة المتاحة مع التجاوزات والخروقات التي طبعت النظام الاستبدادي.

في البداية تقارن الكاتبة بين الحالات الانتقالية وسياسات العفو السياسي في كل من الأرجنتين، والأوروكواي، والتشيلي، وإفريقيا الجنوبية، محاولة اكتشاف نقط الشبه والاختلاف بين أسس ومرجعيات السياسات القمعية التي تؤصل للاستعمال البشع والمبالغ فيه للقوة العمومية. فهي أحيانا مسوغات المحافظة على الأمن واقتلاع جذور التآمر على الدولة بالاعتماد على مرجعيات فقهية معينة، منها:

§         نظريات التهدئة الاستعمارية الفرنسية؛

§         القوانين المؤسسة للميز العنصري، والفرز بين مكونات المجتمع؛

§         مقتضيات النظام المسيحي.

وهي أحيانا مجرد نزوع شخصي للشر و"سادية" مريضة تفرز جرائم ضد الإنسانية، أو دواعي خسيسة للحصول على نفع مادي شخصي، أو اجتهادات متطرفة لجلب محمدة المؤسسة، في كثير من الأحيان، لا علاقة لها مع الامتثال الصارم للأوامر العليا أو الهاجس الأمني للدولة.

 

تجربة الأرجنتين :

           

بعد انهزامها في حرب "الملوين"، بادرت المؤسسة العسكرية إلى إعداد مرحلة الانتقال الديموقراطي في إطار ما يسمى ب " الوثيقة النهائية حول الحرب ضد التجاوزات الأمنية والإرهاب "

حاول العسكر طي صفحة الماضي، بعد الاعتراف الجماعي للمؤسسة بالخروقات التي حصلت. بعدها تم في إطار قانون يسمى "التهدئة الوطنية" منح العفو العام للمتورطين في العنف السياسي من كلا الطرفين، باستثناء لائحة ضيقة من المتورطين في الجرائم السياسية:تسعة من الطغمة العسكرية وسبعة من اليسار الثوري، وذلك في إطار مقاربة أطلق عليها "نظرية الشيطانين".

موازاة مع المحاكمات التي لم ترق إلى متطلعات أولياء الضحايا (جمعية أمهات المختطفين)، وعلى الصعيد الحقوقي، قرر الرئيس ألفونسين إحداث "اللجنة الوطنية للتحقيق في الاختطافات"

وقد سجلت حصيلة إدارة المرحلة الانتقالية بعض الإيجابيات في كثير من المجالات:

§         على صعيد العدالة: صدرت أحكام على بعض كبراء الطغمة العسكرية.

§         على الصعيد الحقوقي الإنساني: تم الكشف عن الحقيقة التاريخية المتعلقة بجرائم العهد الديكتاتوري وكذلك عن تجاوزات العنف المضاد اليساري.

لكن الرئيس لم يفلح في إقناع العسكر بإجراء التحقيقات الشخصية في صفوفه في إطار محاسبة داخلية، وعندما تضايقت المؤسسة العسكرية بعمل الجهاز القضائي، أرغمت الرئيس على التعجيل بطي صفحة الماضي وإسقاط كل المتابعات. هذا الأخير اضطر إلى الاستعانة بالجهاز التشريعي الذي أصدر ما أطلق عليه "قانون النقطة النهائية" والذي حدد مدة شهرين فقط لتلقي تظلمات الضحايا وأوليائهم، قبل إبطال كل المتابعات الجنائية بذريعة التقادم.

ورغم قصر هذه المدة تمكنت المنظمات الإنسانية والحقوقية، وكذلك الجهاز القضائي من توريط بعض الرؤوس في الطغمة العسكرية و متابعة أحد الجنرالات. ولقد كان ذلك بمثابة تجاوز للخطوط الحمراء، أفضى إلى تمرد عسكري يطالب بحل سياسي للمعضلة. لنزع فتيل الانفجار، بادر الرئيس إلى إصدار قانون تقادم القضايا وتبرئة المتابعين العسكريين بحجة خضوعهم للأوامر التي تصدر من أعلى المؤسسة أو من خارجها...

نفس المهمة أتمها الرئيس كارلوس، الذي دشن فترته الرئاسية بإصدار مرسوم العفو الرئاسي في حق عسكريين ومدنيين أدينوا في عهد الرئيس السابق، كما أنه لجأ إلى المجلس الأعلى للبث في التعويضات المادية لأولياء ضحايا الاختطاف والتصفية الجسدية والتعذيب.

في المجمل برزت التجربة الأرجنتينية كمدرسة في عدة مجالات :

1- تمكنت من متابعة مسؤولين في أعلى هرم المؤسسة العسكرية.

2- كانت لها قدم السبق في تأسيس لجنة تقصي الحقائق والاستماع للضحايا.

3- التحديد الدقيق للمسؤوليات من أجل كبت جماح الجهاز القضائي.

 

تجربة الأوركواي:

 

تمت هندسة المرحلة الانتقالية بصفة مشتركة بين العسكر الذين يهيئون رحيلهم وتسليمهم السلطات للنظام الديموقراطي المدني، وبين أطراف المعارضة.

تمخض عن اللقاءات المارطونية بين الفاعلين ما أطلق عليه اسم" اتفاقية النادي البحري". تضمنت هذه الاتفاقية بعض البنود السرية التي تقتضي الإفراج عن المعتقلين السياسيين مقابل التخلي عن المتابعة الجنائية للعسكر. ترجمت هذه "الصفقة " فيما بعد في أشكال تشريعية صادق عليها البرلمان:

§          قانون التهدئة الوطنية الذي نفذ في أشغال لجنة عودة المنفيين.

§         قانون إبطال حق الدولة في العقاب الذي أتاح العفو العام على عدد كبير من قادة العسكر والبوليس ما عدا الذين أدينوا بجرائم لا علاقة لها بالأوامر العسكرية ( الإجرام السادي أو الإجرام الخسيس من أجل غرض نفعي شخصي)

إلا أن قانون بطلان المتابعات هذا واجهته معارضة قوية في شكل "عمل مجموعة أولياء الضحايا" الذي طالب باستفتاء شعبي لإلغائه. تمت فعلا ممارسة  هذا اللجوء الدستوري لكنه لم ينل الأغلبية في عملية الاستفتاء. ومن أجل إرضاء أولياء الضحايا بصيغة أخرى، تم تشكيل لجنة برلمانية من أجل تقصي الحقيقة التاريخية. إلا أن تقرير هذه اللجنة ظل سرا من أسرار الدولة. وتبعا لذلك لم يتخذ أي قرار لتعويض الضحايا تعويضا يرضيهم.

 

تجربة الشيلي:

 

اختصر مهندس المرحلة الانتقالية الرئيس الجنرال " بينوشى" المراحل في إصداره لقانون /مرسوم العفو العام للمتورطين في العنف والعنف المضاد من جميع الأطراف المتناحرة. هذا المرسوم الرئاسي ظل ساري المفعول رغم محاولات فاشلة لإلغائه، صدرت من عدة مؤسسات، من الجهاز القضائي ومن الجهات الحقوقية وممثلي الضحايا. ذلك لأن البرلمان تم تركيبه من الصنائع لكي يفشل أي إجراء قضائي أو تنفيذي أو حقوقي يهدف إلى إلغاء قانون مرسوم العفو العام.

كما أن عملية تقصي الحقيقة التاريخية لم تتح إلا بعد فترة رئاسة بينوشي، بعد ما صدر مرسوم لإحداث "اللجنة الوطنية لتقصي الحقيقة والمصالحة". حددت مهمة هذه اللجنة بدقة مكبلة وصلاحيتها كانت قصيرة : 9 أشهر فقط. ولزيادة تنغيصها، قوبلت بمعارضة الأحزاب اليمينية وعرقلة الجهاز الإداري والمؤسسة العسكرية. لكن المعارضين لها اضطروا إلى قبول نتائج عملها، بعد كشفها عن حقائق مرعبة لا يمكن المرور عليها بسهولة: اكتشاف مقابر جماعية، أكثر من ألفي اغتيال بدون محاكمة، منها 1068 تصفية بعد الاختطاف...

مكن عمل هذه اللجنة تعويض ذوي حقوق الضحايا، لكن بالنسبة للمتابعات الجنائية، لم تفلح اللجنة، ولا المنظمات الحقوقية ولا مجموعات أولياء الضحايا من تجاوز الحماية الدستورية الصارمة التي يتيحها للجناة قانون العفو العام الذي مرره الجنرال بينوشي.

 

تجربة أفريقيا الجنوبية:

كانت البداية الإفراج عن مانديلا، وإلغاء قانون الميز العنصري. بعدها انطلقت سلسلة من المفاوضات بين الأطراف المتشاكسة لتهيئة الفترة الانتقالية. بعد الاعتراف المتبادل والتعارف المعمق بينهم، تمت مناقشة وجهات نظر كل المنخرطين في إطار حوار وطني مفتوح:

§         النظام القديم يدافع على نظرية النظام المجتمعي المزدوج، الذي يعني التعايش دون التمازج بين الطائفة الملونة والطائفة البيضاء.

§         دعاة النظام الجديد يريدون دستورا جديدا تضعه جمعية تأسيسية منتخبة.

تم الإتفاق في تلك المفاوضات على التشارك في الحكم خلال 5 سنوات، وكذلك على تأسيس مجلس تنفيذي لتحضير انتخاب الجمعية التأسيسية للدستور.

عند تحرير الدستور، حرص النظام العنصري تضمينه بندا محددا لمقتضيات الوحدة الوطنية والمصالحة والعفو العام عن مسئولي عنف الدولة وكذلك عنف التشكيلات التحررية السوداء.

بذلك، تكون المرحلة الانتقالية قد هيأت الانتقال السلمي عن طريق الدستور الذي سيفرض مقتضياته على الأجهزة التشريعية والقضائية والتنفيذية، متيحا بذلك تجاوز كل الظروف الصعبة.

وإلى جانب هذه الحماية الدستورية، لم يتخل الرئيس دوكليرك عن حقه في إصدار مراسيم العفو الشخصي الذي تم من خلالها تحصين لائحة تضم حوالي أربعة آلاف متورط في العنف السياسي.

إلى جانب الإجراءات الحمائية، أسس منديلا " لجنة الحقيقة والمصالحة" "ل ح م"، صادق البرلمان على قانون يضبط أهدافها وطريقة عملها: وهو" قانون تثبيت الوحدة الوطنية والمصالحة". من أهداف هذا القانون :

§         كتابة الحقيقة التاريخية حول العنف السياسي؛

§         منح العفو؛

§         إتاحة فضاءات للاستماع لشكاوى المتضررين وكذلك فضاءات لمن يريد التكفير عن ذنوب الماضي؛

§         النظر في التعويض المادي والمعنوي للضحايا؛

§         اقتراح توصيات للوقاية من خروقات وانتهاكات حقوق الإنسان.

حددت مدة تفويض هذه اللجنة في سنتين. وإلى جانب "ل ح م" أحدثت "لجنة العفو " التي أسندت لها مهمة استقبال والنظر في طلبات المتضررين.

بعد الإعلان عن تقرير "ل ح م" الذي حدد المسئولية الفردية والجماعية عن الخروقات الماضية، رفضته كل الأحزاب المرتبطة بنظام الميز العنصري الذين كانوا قد رفضوا الامتثال لحضور جلسات "ل ح م" بحجة براءتهم الشخصية مع الاعتراف بالمسؤولية الجماعية والمؤسساتية. أما "لجنة العفو" فهي أيضا قوبلت بمعارضة الضحايا وأوليائهم. ولكن مع كل ذلك استطاعت "ل ح م" :

§         كتابة الحقيقة التاريخية رغم ضخامتها وبشاعة حقائقها، وذلك بالاستماع لأكثر من 20 ألف متضرر، بمساعدة الكنيسة.

§         تسهيل التقارب بين النخب السوداء في أعلى هرم السلطات مع النخب البيضاء الذين يسيطرون على دواليب الاقتصاد...

لكنها عجزت عن تعويض أولياء الضحايا وتضميد جراحات الماضي، إلا في حدود تعويض مادي هزيل...

 

أهم الاستنتاجات المنهاجية والتنظيرية للدراسة:

 

ملابسات الفترة الانتقالية:

 

اعتمادا على تشخيصات التجارب الميدانية لسياسات المرحلة الانتقالية، تناولت الكاتبة سندرين لوفرانك في بحثها تحليل ملابسات هذه الفترة الحرجة في نظرة سوسيو فلسفية، وأثارت خاصة عدة قضايا مرتبطة بحالة الترقب والانتظار التي تطغى على مؤسسات وأجهزة الدولة منها:

1- الفراغ القانوني والتشريعي المتعلق بالعفو، إذ في هذه المرحلة يسارع المتفاوضون في الاتفاق العلني أو السري على شروطه، سالبين ممارسة هذا الحق أصحابه الشرعيين: الضحايا وأوليائهم. فهو العفو العام الذي يوعز للبرلمان تمريره، وكذلك العفو الخاص الرئاسي الذي لا يضبطه سوى السلطة التقديرية للحاكم.

2- لتصحيح هذا الخلل أو تلطيفه، يعمد أصحاب العهد الجديد إلى إحداث لجن الحقيقة التاريخية ولجن المصالحة. وبطبيعة حال عمل اللجن، سرعان ما تعتريها علل وتعترضها إكراهات مختلفة تحد من فاعليتها، منها:

§         طعونات في مشروعية اختيار أعضائها،

§         تحديد مدة قصيرة في تفويضها للإسراع في دفن الماضي،

§         التحكم في تحديد مجال عملها.

ومع كل ذلك، وفي ظروف الفراغ التشريعي الذي يطبع المرحلة، يطلب منها أن تحقق عدالة خارج العدالة...

في هذه الفترة التي لا تخضع لأي نظام تشريعي بشكل صريح، لا النظام القديم ولا النظام الجديد تطرح إذن إمكانية اللجوء لنظام قانون خارج الدولة.

فهل يمكن للمؤسسات الدولية وتشريعاتها أن تملأ هذا الفراغ مع العلم أنها لا يملك الوسيلة الرادعة إلا إذا قررت الدولة المعنية اللجوء إليها، متخلية بذلك عن جزء من سيادتها وقوامتها؟

في غياب أي شكل من أشكال العدالة الانتقالية المقنعة للجميع، هل يمكن السماح بطغيان المجال السياسي على كل المجالات الأخرى وتخويله تمثيل الأطراف الحقيقية للمجتمع، مع العلم أن الإكراهات السياسية تختصر هذه التمثيلية في علاقات قوى بين نخب تتطلع إلى الحكم، وأخرى لها استراتيجيتها وخططها للحفاظ على مصالحها...

 

تحديات وشروط الانتقال الديمقراطي الصحيح:

 

لقد استنتجت الكاتبة أن تحديات الفترة الانتقالية مرهونة أولا بوجود رغبة عند مسئولي النظام القديم في تغيير أوضاع بلادهم للارتقاء بها من المرحلة الاستبدادية ( الحكم العسكري) إلى المرحلة الديمقراطية (الحكم المدني). التحدي الثاني يكمن في التحديد الموفق للمتفاوضين الوجيهين الذين يملكون الخيوط في العهد القديم وفي العهد الجديد (Acteurs pertinents). والواقع السائد هو أن النخبة الضيقة جدا التي تتفاوض، تتفق في الكواليس على عامل موحد: الاحترام المتبادل والتخلي الظرفي عن الاعتبارات الأخلاقية والإكراهات القانونية. والقرارات التي تتخذ، تنطلق من الواقعية السياسية وتكون لها علاقة بحسابات القوة والربح والخسارة. هذه الحسابات غالبا ما تفضي إلى أحد المخارج:

§         مخرج العفو العام في حالة تكافؤ القوى بين فاعلي العهد القديم وفاعلي العهد الجديد؛

§         مخرج الغلو في المحاسبة في حالة اختلال التوازن:

o        لصالح رموز النظام القديم وهو ما ينذر بالمزيد من الاستبداد والقمع وتبرئة المجرمين.

o        لصالح رموز النهج الديموقراطي وهو ما يشجع على المزيد من الصرامة في طلب القصاص.

وللتخفيف من هذه الإكراهات يحبذ بعض فقهاء المرحلة الانتقالية الإشراك الواسع لأهل النظر الإستراتيجي في إعادة بناء المؤسسات الديموقراطية، وبناء الاقتصاد، والتصدي للجيوب الباقية للعنف والعنف المضاد. هذا الإشراك من شأنه أن يسهل سير المفاوضات التي يتربصها الفشل إذا غلبت عليها حدة أصحاب المعتقدات الإيديولوجية الذين تطبعهم الطوباوية في غالب الأحيان.

كما أن هؤلاء الفقهاء يرون أن عامل الزمن وانتظار الوقت الملائم لحل مآسي الماضي ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار وأن لا يخضع هذا الزمن الحقوقي للزمن السياسي الذي تطبعه العجلة بحكم الأجندة السياسية المكبلة... ذلك أن التعجيل في طي صفحة الماضي يكون في غالب الأحيان سببا في انهيار المستقبل، لأن الملابسات التي اختزلت فيها العدالة الانتقالية، ربما تشعر الجهاز الطاغية القديم أنه كان محقا في فهمه للعدالة.

لذلك لابد من التمسك بمبادئ العدالة المجردة وعدم السماح بالتعايش مع الخطاب الذي يرفض الاعتراف بالذنب والاعتذار عنه....هذا الرفض يصر عليه مسئولو النظام القديم (بينوشي، بوطا...) معللين ذلك بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم، بل ربما يعتبرون أنفسهم منقذين منعوا سقوط الدولة في الخراب والدمار.

وهناك نوع آخر من الخطاب التبريري، يستعمل دهاء واضحا في تغليف مآسي الماضي بنهجه طريق الاعتراف الجماعي باسم المؤسسة القمعية. هذا الخطاب غالبا ما يصل إلى الاعتذار والتعهد بالإقلاع عن تصرفات الماضي.

خطاب ثالث يصدر في شكل اعتراف شخصي لبعض رؤِوس أو منفذي النظام القديم، يريدون فعلا تبرئة ضميرهم والتبري من الموقف التضامني مع المؤسسة العسكرية القامعة...

لذلك يرى خبراء المرحلة الانتقالية أن جميع الفرقاء يعترفون بضرورة التوافق على مبادئ ملحة لطي صفحة الماضي، منها خاصة:

1-     مبدأ إصلاح المؤسسة القمعية.

2-     مبدأ الواقعية السياسية البعيدة عن الطوباوية الإيديولوجية والعض السلطوي.

3-     تقليص دور الجهاز القضائي في متابعة النظام القديم وذلك من أجل تثبيت حقوق الإنسان التي أتاحتها الفترة الانتقالية.

4-     مراعاة إرضاء المنظمات الممثلة للضحايا وأوليائهم.

مراعاة مبدأ الواقعية ومبدأ إرضاء المنظمات الحقوقية لا بد أن يتيح إعادة النظر في تمثيلية المجتمع وفي بناء مؤسساته الجديدة.

إعادة النظر في بناء المؤسسات وفي التمثيلية قد يظهر كانتقال ثوري يهدف إلى القطيعة مع النظام القديم. لتفادي ذلك المنزلق يكون من الضروري إشراك جميع الفرقاء في كل مراحل البناء. ونموذج إفريقيا الجنوبية يعطي مثالا ناجحا لهذا الإشراك في إعادة البناء، حيث إنه دشن بميثاق وطني شاركت فيه جميع مكونات المجتمع بدون استثناء، وتم بعد ذلك إحداث جمعية تأسيسية كلفت بوضع أسس ودستور النظام الديموقراطي...

هذا النهج يعطي للمؤسسات الجديدة دورا حاسما في التهدئة والمصالحة الوطنية دون الخضوع لرغبات النظام القديم في النسيان السريع للماضي، ودون الغلو والمزايدة في طلب الانتقام نيابة عن الذين ضحوا بما يملكون لتحسين أوضاع البلد، والذين يستحيل على أي عدالة أرضية أن تنصفهم.

 

ارتسامات من وحي الدراسة - إسقاطات على الحالة المغربية:

 

للتأكد من البناء النظري لدراسة من الدراسات الأكاديمية يعمد الباحثون في عملهم التطبيقي إلى المعاينة والتجربة على حالات أخرى، وذلك لاستنباط المجهول من المعلوم من الحقائق المستقبلية، في إطار المنهج العلمي الذي من ميزاته التكهن بالنتائج بناء على المسلمات والفرضيات أو الحقائق المعلومة.

فليس المهم معرفة القواعد والقوانين والاصطلاحات في حد ذاتها؛ وإنما المهم القدرة على استخدامها والاستفادة منها عملّياً.

فإذا كانت أهم النتائج التي توصل إليها البحث محاولة الإلمام بشروط نجاح الانتقال الديموقراطي، فلربما تفيدنا في فهم الحالة المغربية التي دشنت في عهد الحسن الثاني رحمه الله.

فما الذي بمكن استنباطه بإسقاط تلك النتائج على الحالة المغربية؟

وهل كانت الشروط متوفرة والظروف متاحة لولوج العهد الديموقراطي كما تتصوره الكاتبة؟

 

شرط النية والقدرة الإرادية في الانتقال الديموقراطي الفعلي:

 

لنفترض أن الإرادة كانت موجودة، والقدرة متوفرة، وأصحاب القرار يملكون الشجاعة والحرية، ويتحكمون في تقرير الشأن السياسي والاقتصادي لصالح الشعب، ولا يرضون  بحال  "القابلية للاستعمار الأيديولوجي" ... افتراض منهجي يتعفف عن الحكم على النيات، لكنه يتبنى آليات « البرهنة بالخلف » المعروفة عند الرياضيين«raisonnement par l'absurde » 

 

شرط التحديد الوجيه للنخبة المتفاوضة من فاعلي العهد القديم والعهد الجديد (Acteurs pertinents):

 

في الحالة المغربية يمكن القول إن الخبراء الأجانب في السفارات ومراكز الأبحاث الخاضعة لها ( CNRS نموذجا)، ربما وجدوا فراغا محليا في مجالات البحث والفكر الاستراتيجي، فانبروا للتخطيط للمرحلة عوضنا. ولما لم يكونوا محيطين بمعطيات موضوعية في شأن التمثيلية إلا بما قدمه لهم بعض المساعدين المحليين، انطلقت العملية بخلل بنيوي في المشروعية التمثيلية للشعب المغربي، يجعل البنيان الذي سوف يقام وكأنه على شفا جرف هار.[1]

والظاهر جليا من خلال الواقع، أن بعض الفرقاء الذين تم اختيارهم ليس لهم أي تمثيلية وازنة عند الشعب، وهم أدرى الناس بذلك، لذا تراهم يتوسلون الخارج لتكون لهم حظوة في الداخل، ولا يبدون أي استحياء أو خجل عندما تزور الانتخابات لصالحهم. من أجل ذلك يعتبر الشعب البعض منهم مجرد مقاولين سياسيين أبدوا استعدادا واضحا لبيع البلد ورهنها لأحقاب عديدة في يد الاستعمار الجديد مقابل إشراكهم في الحكم. كما أن الشعب اكتشف في بعضهم انتهازية سياسية للحفاظ على مناصبهم باستغلال أحداث 16 ماي المفجعة، وبما أظهروه للعلن من حنكة ذليلة (persévérance servile) كمنفذين لاستراتيجية تروم عرقلة المشروع المجتمعي ذي المرجعية الإسلامية، الذي يهدف إلى تحريرنا من ذل الاستعمار الجديد. وهم حاليا بصفتهم منفذين لاستراتيجيات الخارج يقفون سدا وحاجزا أمام نهضتنا الذاتية الحقة، يحاربون الدين وحماته بدون تمييز، ويقدمون على الأطباق الذهبية مكوسات وأتوات وضرائب، في صورة تفويتات وصفقات مشبوهة، وعبر فوائد عن قروض ربوية ومديونية يرهنون بها الحاضر والمستقبل، لتكريس العبودية والذيلية للاستعمار الغربي الجديد (néocolonialisme).

 

شرط إشراك أهل النظر الإستراتيجي في إعادة بناء المؤسسات الديموقراطية، وبناء الاقتصاد، والتصدي للجيوب الباقية للعنف والعنف المضاد:

 

هذا الإشراك كما تراه الكاتبة سندرين لوفرانك، من شأنه أن يسهل سير المفاوضات التي يتربصها الفشل إذا غلبت عليها حدة أصحاب المعتقدات الإيديولوجية وأصحاب العض على السلطة الذين تطبعهم الطوباوية في غالب الأحيان.

في حالة المغرب هؤلاء الخبراء ليس لهم تقريبا أي مكان في صنع القرار المغربي المستقل، لأنهم ببساطة يدفعون دفعا للعمل في فريق أبحاث لهذه المؤسسة الخارجية أو تلك، أو يكون مآلهم التهميش والتلاشي في زوايا الإهمال. لسان الحال يقول "كما أننا لا نحتاج إلى صناعة محلية مصنعة ( بكسر النون) ، فلا حاجة لنا بالخبراء المتحررين، لأن هذا الدور يِؤديه لنا خبراء مراكز الأبحاث الأجنبية".  

 

شرط إصلاح المؤسسة التي بيدها القوة العمومية:

 

لقد فهم الغرب بعد فترات العنف الثوري والعنف المضاد، أن القوة المعنوية المتمثلة في العدل والقيام بالقسط وتوفيرالحقوق المضمونة في إطار الكرامة الآدمية هي أقرب الطرق للمجتمع المنضبط. أرقى من هذا المستوى حالة العمران الأخوي الذي تصبو إليه الأمة حسب مرجعيتها الإسلامية: المجتمع الآمن في سربه، المالك لقوته، المعافى في جسده وفي عقله.

حقوق طبيعية، وأعراف إنسانية، ومواثيق دولية، اهتدت لها الحكمة البشرية بعد طول الممارسة وحنكة التجارب، أو اعتقدها وطبقها الملتزمون بالرسائل السماوية، لا يهم مصدرها إن تم فعلا اعتمادها وتوظيفها كوسائل حضارية تحمي البشرية من ويلات العنف والعنف المضاد، عند كل عملية تشاورية لتدبير الشأن العام، أو تداول للسلطة،  أو مع كل تدافع أرضي على منافع مشتركة أو مصالح متضاربة.

ويأتي في هذه الحقبة من تاريخ البشرية من يريد تخصيص هذه المكتسبات الحضارية لفرقة شاذة عن الأمة دون غيرها من الغالبية المسلمية الملتزمة بإسلامها، و الحريصة على أن لا يحكمها سوى شرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

يبدو أن المتربصين بالأمة قد تمكنوا من تلقين حفنة من المتسلطين على أمورنا إكسير القيم كما يعتقدونها، وترياق الشجاعة والنجدة كما يرونها. فصاروا أعزة على المؤمنين، يرومون استئصالهم. وبقدر ما هم أعزة على المؤمنين، بقدر ما هم أذلة على الأجانب، يبذلون لهم من جيوبنا الأتوات، ويفتحون لهم في حصوننا الفجوات، ويرشدونهم فيها على كل الثغرات ويدلونهم منا على كل العورات،  ويجعلونهم يجوسون خلال الديار، ويتخذونهم حماة لهم بالليل والنهار. ويأمنون مكر الله، ولا يعلمون أنه "لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون".  وقد يوشك أن يحل بهم ما حل بمن يفعل الخير في غير أهله، ويضع المعروف في غير محله، كما حكوا في باب الغدر حين قالوا: خرج قوم لصيد فطردوا ضبعة حتى ألجأوها إلى خباء أعرابي فأجارها وجعل يطعمها ويسقيها، فبينما هو نائم ذات يوم إذ وثبت عليه فبقرت بطنه وهربت، فجاء ابن عمه يطلبه فوجده ملقى، فتبعها حتى قتلها وأنشد يقول:

ومن يصنع المعروف مع غير أهله     يلاقي كما لاقى مجير أم عامر 

اعد لها لما استجارت ببيته     أحاليب ألبان اللقاح الدوائر

وأسمنها حتى إذا ما تمكنت     بقرته بأنياب لها وأظافر  

فقل لذوي المعروف هذا جزاء من     يجود بمعروف على غير شاكر

 

شرط عدم التعجيل في طي صفحة الماضي مخافة انهيار المستقبل:

 

ولأن الملابسات التي اختزلت فيها العدالة الانتقالية ربما تشعر أصحاب الذهنية المستبدة في العهد القديم أنهم كانوا على صواب مطلق في ما اقترفوه، وأن لهم العصمة في ما فعلوه، وهذا يستحيل قطعا في مذاهب المسلمين، إلا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، فمن أدرى لعل من كان سببا في مآسي الماضي لا يزال ينفذ بدقة أوامر الجهات التي تتربص بنا الدوائر ،وتتمنى لنا الغوائل، ولا تأمل صلاحا إلا في فسادنا، ولا رفعة إلا في سقوط حالنا. وقد أكدت لنا وسائل الإعلام أن ما حدث في الدار البيضاء يوم سادس عشر ماي الماضي له علاقة بالخارج.

و لا يسعنا بعد الإدانة القوية لما حدث، إلا الإشارة بأصابع الاتهام لخارج الذات لصرع عفريت الشر: من له مصلحة في تجريد المغاربة من إسلامهم وأمنهم، وفي مصادرة حقوقهم الآدمية، ليلزموا بيوتهم في دركات التخلف والذل، ولئلا تحدثهم نفسهم بأداء أي دور حضاري، خاصة إذا اتصل ذلك الدور بتجسيد الرسالة المحمدية وتبليغها للعالمين ترشيدا للمسيرة البشرية.

لا بد إذن من إلصاق التهمة بخارج الذات، رحمة بالمتغربين من بني جلدتنا، واعتماد فرضية اضطرارية للتنقيب عن ظروف التخفيف، واعتبارهم قوما ضعافا جرفهم تيار من وضع البلد تحت سيطرة المتربصين بأمنها وعبقريتها في إبداع طرق التصدي للحملات المعادية دون الاستعانة بأحد سوى الله ثم بأولياء الله اليقظين. ولا بد من التخطيط لفك أسر هؤلاء المتفرنجين، لأن الظروف رمت بهم رهائن لدى المتربصين بالبلد، في غفلة منهم بما يحاك ضدهم وضد أبنائهم ونسائهم وإخوانهم وأخواتهم. ونتعفف عن ترديد ما قيل في حق شرذمة، اتهمت أنها لا زالت تتسلم رواتب وإكراميات من يد المحتل القديم/الجديد، مقابل تآمرها وخنوعها.

وإنه لمن الحكمة أن نفرق هذه الشرذمة في مراتب مختلفة لتدقيق تشخيص ما حل بهم لعلهم يرجعون لنا سالمين غانمين، ومجندين أنفسهم لخدمة رسالة خاتم المرسلين، لتدارك ما فات من عمرهم، عسى الله أن يعفو عنهم ويتوب عليهم ليتوبوا.

أما الفرقة المتطرفة الأخرى المتلقية عن الخارج مذهب التشدد والتكفير، فلا سبيل لمعالجة أمرها إلا بتسليم أمر تربية الشباب لخبراء منهاج الرحمة المهداة للعالمين لا للمنتحلين أو المائعين. ورغم ما هو معروف عن بعض الجماعات من اعتدال وصواب، فهي منبوذة عند بعض الاستئصاليين الذين يضعون المسلمين جملة وتفصيلا في قفص الاتهام. وهذا الموقف بعيد كل البعد عن الحكمة، ولربما يبتغى منه الجاهلون صناعة الأعداء وتكثير سوادهم، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.

ويمكن للمغاربة أن يحمدوا الله على تجنيبهم أمثال تلك المآسي التي ساقها لنا كتاب سندرين لفرنك. ولو اطلعت هذه الفاضلة على حالة الجزائر الشقيقة، ولو علمت ما تضمه المقابر الجماعية البعثية، لولت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا. حقيقة تازمامارت والمسألة المنغصة في حق بعض الجماعات التي تنبذ العنف رغم العنف المسلط عليها منذ نشأتها، يمكن تضميد جراحها بشيء من الحكمة والنية الصادقة في حال قطع الطريق على الفكر الاستئصالي الذي يحرض المغاربة بعضهم على البعض والعياذ بالله. اعتبارا لذلك، ما حذرت منه الكاتبة من انهيار للمستقبل في حال التعجيل في طي صفحة الماضي يكون في الحالة المغربية متجسدا أكثر في الحذر من تكرار مؤامرات المخابرات الخارجية مثل التي كادت أن تعصف بنا في الماضي، محاولة النفخ في نار الفتن، ما بطن منها وما ظهر، خاصة بيننا وبين إخواننا الأمازيغ، اللهم إنا نسألك اللطف في ما جرت به المقادير، لا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر.    

 

شرط البعد عن الغلو والمزايدة في طلب الانتقام نيابة عن الذين ضحوا لتحسين أوضاع البلد، والذين يستحيل على أي عدالة أرضية أن تنصفهم.

 

يكون هذا الشرط مهيمنا على الساحة السياسية كلما تخلى مسئولو النظام القديم عن دور جلب المنافع للناس والاهتمام بمشاكلهم، وبرعوا في صناعة الأعداء بذريعة الحفاظ على الأمن. هذه الذريعة كما حللتها الكاتبة ربما تكون أحيانا مجرد نزوع شخصي للشر، "سادية" مريضة تفرز جرائم ضد الإنسانية، أو دواعي خسيسة للحصول على نفع مادي شخصي، أو اجتهادات متطرفة لجلب محمدة المؤسسة القمعية، لا علاقة لها بالامتثال الصارم للأوامر العليا.

 

شرط تثبيت حقوق الإنسان التي أتاحتها الفترة الانتقالية، ومراعاة إرضاء المنظمات الممثلة للضحايا وأوليائهم:

 

المتضرر الأول من المرحلة السابقة واللاحقة هم المنتمون إلى التيار الإسلامي المعتدل بشهادة المراصد الحقوقية الداخلية والخارجية. ذلك رغم أن هذا التيار الذي يمثل غالبية الشعب المغربي والذي يستحيل على الديموقراطية أن تتحقق بدون إشراكه، تبنى بصدق مبادئ استراتيجية ثابتة: خيار التغيير باللطف ونبذ العنف، بجانب خيار العمل العلني عوض العمل السري وخيار الاعتماد على الذات عوض الاستعانة بقوى خارجية تعادي ثوابت الأمة.

هذه المبادئ راسخة ومتجذرة عند الحركة لأنها منبثقة عن فهمها المتميز للشريعة الإسلامية. فهي لا تدعي احتكار الإسلام وبالتالي لا تكفر أحدا من المنخرطين في الأحزاب أو الجماعات أو الجمعيات التي يضمها المجتمع المغربي، إلا من أعلن ذلك من تلقاء نفسه وجهر سلوكه بذلك. على العكس من ذلك فهي تنصح دائما التيارات التي تكفر بسهولة بعض أهل القبلة بالكف عن ذلك الحكم الخطير، لأن كل من يسارع في تكفير مسلم، يسهل عليه حصاده بالكلاشنيكوف إن أتيح له ذلك، حتى وإن لم يتم تنصيبه تنصيبا شرعيا ليتولى أمر المسلمين فيقيم بعد ذلك على متهمه حكومة شرعية، ويكون حريصا على درء الحدود بالشبهات ليكون على أثر رسول الرحمة المهداة للعالمين عليه الصلاة والسلام وعلى آله وصحبه. ذلك هو أصل العنف الذي يتربص خطره بالمجتمع، خاصة إن قابله العنف الإداري المتحالف مع القوى الأجنبية المعادية للإسلام، وهي القوى التي يطلق عليها الإسلاميون في الجزائر الشقيقة مصطلح " حزب الفرنكومان " الذي يجمعون فيه كلا من المخترقين بالاستخبارات الأجنبية وهم كثير في بعض دواليب الإدارة اللادينية وبعض جمعيات المجتمع المدني،  واليسار المتحالف مع الاشتراكية الفرنسية، وبعض التجمعات الأمازيغية التي تتنصل من الهوية الإسلامية. نفس الخليط المتفجر يتوثب لكي يفتح جبهة أخرى على المسلمين في المغرب، لولا لطف الله ورحمته ثم حكمة وحسن تدبير مسئولي الحركة الإسلامية المعتدلة، الذين اعتمدوا زيادة على منهج اللطف منهج الرفق بالأمة وعدم الحرص على تحمل أية مسئولية في تدبير الشأن العام قبل الأوان، قد يؤدي لتفجير عنف المتربصين بالأمة.

 

الشروط الأخرى

 

الشروط الأخرى التي ذكرتها الكاتبة في نموذج أفريقيا الجنوبية (إشراك جميع الفرقاء في كل مراحل البناء ، ميثاق وطني، جمعية تأسيسية لوضع دستور النظام الديموقراطي الجديد)، فهي تقريبا تلك المطالب التي يقترحها التيار الإسلامي المعتدل، الذي يستحيل على الديموقراطية تهميشه إن أرادت فعلا تحقيق الانتقال الديمقراطي الصحيح، في إطار العدالة الشرعية المراعية لحتمية الانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء، ومن الباطل إلى الحق ... وهو المخرج الوحيد الكفيل برفعنا إلى مصاف الدول المحترمة، المتحررة فعلا من الفلكية السياسية ومن التبعية الاقتصادية التي لا يرضى بها إلا كل ذليل ((هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم، أن كان ذا مال وبنين، إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين.))( سورة القلم 11-15) نزه الله المغاربة أن يكونوا منهم آمين والحمد لله رب العالمين.

 

 

[1] لتقريب الفهم بهذا الخلل البنيوي انظر الفقرة التالية المقتبسة من بحث كتبته بالفرنسية في مكان آخر سنة 2002.

 

Qu’en est-il de la transition vers la démocratie au Maroc ?

 

Le processus dit de démocratisation au Maroc repose pour l'essentiel sur une conception minimaliste de la démocratie qui tend à légitimer un  pacte entre élites prédésignées par les politologues et stratèges  néo-coloniaux. Ce pacte est érigé pour verrouiller la démocratie contre l’incursion islamique. Les partis associés ont adhéré sans condition à ce pacte, qui leur offre une chance de légitimité plus que ne leur procure les urnes. Ce pacte à la va vite a eu pour conséquences :

Ø       La réminiscence  des  enclaves totalitaires (loby  conservateur du Makhzen/administration oufkirienne) ;

Ø       La marginalisation de la sphère des représentations substantielles à obédience islamique.

Cette conception restreinte de la démocratie souffre donc d'un important déficit de légitimité, dont les symptômes les plus visibles sont :

o        le désintéressement électoral ;

o        la résurgence des maux  sociaux ;

o        l’absence d’un projet de société mobilisateur ;

o        la traduction des frustrations par une adhésion massives à la mouvance islamique ;

o        la marginalisation des modérés de cette mouvance, notamment Al Adl Wa l’Ihsane, ouvre la voie à la nébulosité extrémiste, avec risque de dérapages terroristes.

 

Ce déficit de légitimité oblige à :

Ø       revenir sur le caractère restreint du compromis entre anciennes élites paniquées, qui a autorisé  une transition confortable du totalitarisme ;

Ø       chercher une médiation active permettant une communication approfondie entre islam modéré et une certaine néo modernité libérée des paradigmes coloniaux.