طفرة السلطة القضائية في الدستور الجديد
محمد المهدي الحسني*
22 إبريل 2011
جهازعلى أعتاب الفوضى ...
يشهد جهاز السلطة القضائية في البلد اضطرابات خطيرة توشك أن تعطل نهائيا عمله عبر القطر كله. من هذه الاضطرابات ما هو ظرفي، مرتبط برياح الثورة الشبابية التي تشهدها الأقطار العربية. ومنها ما هو هيكلي كان الحكام قد وعدوا بإجراء إصلاحات لمعالجته منذ عهد وزراء اليسار الذين تتابعوا على رأس القطاع. فلم تتمخض تلك الوعود إلا بتغيير بعض الوجوه، وبقيت الأمور على أسوء ما هي عليه، مما دفع أخيرا ببعض القضاة إلى اللجوء إلى وسائل شباب الثورة من يوتوب، وفايسبوك، للتنديد بالحالة المزرية المخيمة على دواليب القطاع... وأعلن هؤلاء القضاة في موقع على شبكة الأنترنيت أن "التغييرات المجتمعية والمؤسساتية التي يعرفها المغرب في الآونة الحالية تجعلنا نحن القضاة عازمين على إسماع صوتنا في التعديلات الدستورية التي تهم السلطة القضائية".
ولقد طالب قضاة "بإرجاع زملاء لهم كانوا فُصلوا من سلك القضاة لاعتبارات قيل إنها مهنية بينما دفعوا بأن السبب الحقيقي أنهم وقفوا ضد لوبيات الفساد في هذا الجهاز، وأكد آخرون على أن نقطة بداية إصلاح القضاء في المغرب هو إبعاد وزير العدل من المجلس الأعلى للقضاء ونبذ سياسة التعليمات."
والأزمة أخطر من ربطها ببعض الأشخاص أو بعض الأحداث أو بعض الترقيعات. لأنها ضربت جهازنا في عمق عقيدته. فنخره السوس الذي لا دواء معه، إلا في إطار ثورة لمقاومة الغزو التشريعي الذي اجتاح القطاع، وعملية تطهير لرجالات السلطة القضائية من التلوث العقدي الذي سيطر على عقولهم وقلوبهم. وترسخ ذلك لما تطاول عليهم أمد تعطيل تراثهم التشريعي، واستكانوا إلى ذل هيمنة شرائع غريبة عن عقيدتنا.
مفاتيح منهاجية للتشخيص:
قوانين القضاء تصاغ مبدئيا انطلاقا من الأيديولوجيا أو العقيدة السائدة في مجتمع من المجتمعات. مثلا العقيدة االلاييكية ، أو العقيدة الماركسية، أو العقيدة التلمودية، أو العقيدة الإسلامية، أو غيرها من الملل والنحل. وكل عقيدة تنبثق عنها قوانين وتشريعات تطبيقية لمبادئها وتصوراتها وأهدافها. فعقيدة اللاييكية أصلت لتشريعات قانون نابليون، والعقيدة التلمودية تزعم أنها تشرع بأحكام التوراة، والعقيدة الصهيوإنجيلية تفرز مثلا قانون الإرهاب... وقس على ذلك.
ما من شك أن عقيدتنا هي الإسلام بمقتضى الخيار الراسخ في القدم عند المغاربة. والإسلام هو دين ودنيا. لكن القوانين المسيرة للمعاملات في البلد، يعترف الجميع أنها خليط قابل للانفجار بين قوانين وضعية ( قوانين استعمارية من تشريعات نابليون أو قوانين من وضع فقهاء القانون الدولي التلمودي الربوي، أو العقيدة الصهيو إنجيلية ) وشيء قليل من الشريعة الإسلامية، في مسائل الأحوال الشخصية، ربما قبل المدونة الجديدة التي قلصت نسل المغاربة، وكثرت من الفجور والسفاح). فنتج عن ذلك أزدواجية في الشخصية، تترتب عنها إحدى الحالتين:
· إما أن يطبق القانون الحالي بصفة كلية، فيكون ذلك على حساب العقيدة، ويكرس الاعتداء على الشريعة الإسلامية. مثلا في المعاملات الاقتصادية الربوية، وفي إنتاج وتوزيع الثروات، وأحكام الملكية وخراجية الأراضي الزراعية وغيرها... وكذلك الحدود الشرعية الضابطة للأخلاق والسلوكات العامة في قضايا الفساد، ونهب المال العام، وترويج المسكرات، وتشجيع الزنا واللواط والقمار، وغيرها من القضايا المنصوص عليها في الشرع.
· وإما أن يطبق في ما يساير العقيدة :الأحوال الشخصية، وينكر، أو يُـتحايل عليه في ما دون ذلك، فيكون بذلك تطبيقا مبتورا، بموازين مختلة، ومكاييل متعددة، لا يستقيم عليها حال. وتلك هي ظروف المياه الضحلة التي ترتع فيها جراثيم الفساد، وتتكاثر إلى حدود ظهور التعفن المميت...
لقد لاحظ الجميع الانحطاط الرهيب الذي تبوأته كرامة وحرية القضاة، والمحامين، والمشرعين، في السلطة القضائية. أصبحوا مجرد تقنيين منفذين ـ وأينك يا قاضي أيام زمان!!! وأينك يا قاضي الديار المصرية !!! ـ فهم لا يستطيعون الخروج عن سياج مدونات الأحكام اللاييكية، التي تحتقر الأحكام القرآنية... فأي استقلال للقضاء يؤمل في ظروف التكبيل هذه؟؟ لقد تبين مدى استلابهم الفكري، وقوبلتهم في القالب العلماني الذي لا يذكر الله بالحكم بما أنزل الله، ويذكرون الذين من دونه، شركا صارخا مفضوحا. وعوض أن يلتزم المشرعون بإصدار مدونات أحكام تطبيقية لميزان العدل الكوني، الذي وضعه من رفع السماء بغير عمد، عوض هذه الوظيفة السامية، اختاروا الخضوع للغزو التشريعي العلماني، ثم التلمودي، ثم الصهيوـ إنجيلي أخيرا في مدونة قانون الإرهاب...
فلما شهد رجال القضاء أن الفساد منزل إليهم عبر التعليمات، وعبر مدونات الأحكام والتشريعات التي تكبلهم، وهي متمردة على ميزان العدل القرآني، تجرأ بعضهم على التجرد من قيم الإسلام، حتى في الجانب السلوكي، والأخلاقي، والديانطولوجي. وهكذا برز من بين أطر سلك القضاء والعدالة والمحاماة من جهر بالفساد والزور، ومن تهافت على دنيا الرشاوى، ومن عاقر الخمر، ومن اعتدى على القاصرات وأكل أموال اليتامى والأرامل، واللائحة طويلة لا تخفى على أولياء الأمر...
ونحن المغاربة تعاقدنا عبر تاريخنا مع الحكام لإقامة الدين كله... خاصة في السلطة القضائية. فمن البديهي أن يعيش المغاربة في حمى دستور غايته إقامة شريعة الإسلام في كل السلطات الثلاث. لا يهمهم الأشخاص على رأس المسؤولية. الزمن الثوري سوف يمر. وسوف يتداول الناس على الحكم، طبقا لسنة الله، وقدر توليته الملك لمن يشاء، ونزعه ممن يشاء. ويبقى خيار الشعب لا تؤثر عليه تقلبات الدهر، أو تغير الدول والحكام، ولله الدوام.
منطلقات الإصلاح وترتيباته:
لذا يترتب علينا قبل الانطلاق في أي إصلاح قضائي أو غيره، أن نبدأ بإصلاح القوانين وردها إلى الأصل، والأصل هو الأحكام القرآنية الثابتة، وهذا مما لا يرتاب فيه مسلم. ثم إعادة تكوين القضاة والمحامين والمشرعين في إطار ثورة تشريعية إسلامية ملتزمة. يحصلون خلاله على تكوين في مدونات الأحكام التي لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية. ولربما شهد البلد مرحلة انتقالية قبل الاستقرار على الحالة المثلى: مرحلة التنافس بين المدونات اللاييكية والمدونات الإسلامية. فمن أتى القاضي بإرادة التحاكم إلى الشرع، يردد جهرة تلك الجملة الخالدة المعروفة عند المغاربة : " أنا بالله وبالشرع "، وجد عنده الحرية الكافية، والتكوين الفقهي الملتزم، لكي يقاضيه بما يُـتَـقَـرب به إلى الحَـكَـم العَـدل جل وعلى. ومن جاءه يريد التحاكم إلى قوانين وضعية معارضة للشرع، يجد مبتغاه، ولا إكراه في الدين. والدين هنا يعني دين اللاييكية أو دين الإسلام. وذلك هو استقلال القضاء الحقيقي، وتلك هي حقوق الإنسان المغربي المسلم. والتنافس بين المدونتين في قيم العدل الحقيقي شيء محمود، والبقاء للأصلح، أليس كذلك؟. أما وأن يكره المغاربة على التحاكم إلى قوانين مخالفة لدينهم، فتلك هي الفتنة الكبرى، والفساد الأعظم، والاستبداد الظالم الذي لم يشهده المغاربة إلا في عهد الدولة البرغواطية في القرن الحادي عشر للميلاد.
فأولى لمن تحمل شيئا من هذه الأمانات، أن يصدر باسم الشعب والدستور الجديد، الأوامر الصارمة لإرجاع مدونات الأحكام إلى أصلها. ثم يؤسس جهاز محكم لمراقبة الساهرين على إقامة العدل حسب الشريعة، وهو أساس الدولة العادلة التي يرضى عنها ساكن البر والبحر والسماء... وآنذاك سمها إن شئت خلافة راشدة، أو ملكا عادلا، أو جمهورية مدنية، أو دولة الحق والقانون، أو دولة تامزغا، أو ما يروق لك من الألقاب... والأسماء تفرق والعمل يجمع... نرقى به رقي الدول المستخلفة على الكون، بسبب عدلها وصلاحها، في زمن فسد فيه حكام العرب، وفرطوا في شريعتهم.
محاذير وعقبات...
ربما كان مندسا في دواليب جهاز القضاء، وفي مراكز القرار فيه، بعض عملاء الغزو التشريعي الأجنبي، ينافحون عنه حتى الموت، تحت شعار الكونية، أو الحداثة، أو المواثيق الدولية، أو غيرها من المبررات التافهة. وهنا يأتي دور الدستور وضرورة الانصياع لمقتضياته، التي ينبغي أن تكون أسمى من مقتضيات التشريعات الأجنبية. ولن تكون كذلك إلا إذا تم إخضاع الدستور لإرادة الشعب المغربي المسلم. والشعب المغربي لن يرتضي بمثل ما نصت عليه دساتير إخواننا المسلمين العجم في المشرق بديلا. وقد أكدوا عبر نصوصها على أن "الموازين القرآنية هي مصدر جميع القوانين والقرارات الأمنية والجزائية والمالية والاقتصادية والإدارية والثقافية والعسكرية والسياسية وغيرها، ويجب أن تكون هذه المادة نافذة على جميع مواد الدستور والقوانين والقرارات الأخرى إطلاقاً وعموماً." فهل منعهم ذلك من بناء الدولة القوية الراقية في مجال العلم والتكنولوجيا وتسخير الكون لخدمة الشعب؟؟؟
مادون ذلك من ترقيعات، لن يكون سوى استخفافا بكرامة المغاربة، وزعزعة شنيعة لعقيدتهم، ونقضا صارخا لعهد إقامة الدين كله، وهو ما لا يرضى عنه ملك يوم الدين. فهو سريع الزوال. والقضاء الذي يحتقر موازين العدل التي وضعها المشرع المطلق، قد حكم على نفسه بالموت بجراثيم فساده، فهو جثة هامدة فوق التراب، أولى لنا أن نصلي عليها صلاة الجنازة، ثم أولى لنا أن نعجل بمواراة نتنها عمق الثرى. وإنا لله وإنا إليه راجعون...
* https://sites.google.com/site/akilhacenter/makalat