عناصر أصيلة
لبناء ثقافة بحرية حديثة
محمد المهدي الحسني
بسم الله الرحمن الرحيم
البحر خلق مسخر من الله عز وجل للعباد فيه آيات بينات للمعتبرين. جاء ذكره في آية منها الآيات التي تدعو للتأمل في هذا الخلق ليزداد اليقين بالخالق
ومنها من يؤكد تسخيره لمن أراد ركوبه لحاجاته ولجني ثماره
ومنها ما
ولقد بشر النبي أمته بركوبه وترويضه والجهاد في سبيل الله في خضمه. بشرى من جملة المبشرات، ودليل من دلائل النبوة، نجعلها من أصول ثقافة بحرية واعية نؤسسها على منهاج النبوة إن شاء الله تعالى.
من ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم عن غزاة البحر كما جاء في الصحيحين: " قال مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أن رسول الله كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه وكانت تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها يوما فأطعمته ثم جلست تفلي رأسه فنام رسول الله ثم استيقظ وهو يضحك قالت فقلت ما يضحكك يا رسول الله قال ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة شك إسحق فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ وهو يضحك قالت قلت ما يضحكك يا رسول الله قال ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله كما قال في الأولى قالت قلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت من الأولين قال فركبت أم حرام بنت ملحان البحر في زمان عثمان رضي الله عنه فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت"
بشر النبي صلى الله عليه وسلم بغزو البحر في زمن لم يكن العرب لبداوتهم مهرة في ثقافته وركوبه. بينما الروم والإفرنجة أحكموا الدراية بثقافته، فملكوا سائر ضفافه قبيل البعثة، ومنها ضفة بلدنا هذا.
في بداية الاحتكاك مع البحر توجس منه المسلمون خيفة. فهذا عمر الفاروق يحذر الناس من أهواله، لما خبر من أمره. فلقد كتب عمر ابن الخطاب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن صف لي البحر فكتب إليه إن البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود فأوعز عمر حينئذ بمنع المسلمين من ركوبه ولم يركبه أحد من العرب.
ولم يزل الشأن كذلك حتى إذا كان لعهد سيدنا عثمان أذن للمسلمين في ركوبه والجهاد على أعواده.
فاتخذ المسلمون الأسباب الصحيحة لبناء حضارتهم البحرية التي بلغت الآفاق. واتجهوا شرقا عبر الخليج حاملين الرسالة الخاتمة التي اقتنع بها سكان الشرق الأقصى وآسيا الجنوبية الشرقية. وهم لعهدنا هذا يمثلون السواد الأعظم لأمة الإسلام. واتجهوا غربا حتى صارالبحر الأبيض المتوسط بحيرة يسمع الآذان في جل شطآنها وجزرها.
***
**
ونحن عبر هذه الكلمة الداعية لبعث وعي بحري أصيل على أسس منهاجية جهادية، لا بد في البداية من مقارنة الخطط التي اتخذتها الدولة الإسلامية لبناء قوتها البحرية، مع الاستراتيجيات الحالية التي رسمت معالمها الدولة اللاييكية اليسارية التي أسندت لها أمورنا في زمن الزور الذي ابتلينا به.
يقول ابن خلدون في مقدمته :" فلما استقر الملك للعرب وشمخ سلطانهم وصارت أمم العجم خولا لهم وتحت أيديهم وتقرب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمما تكررت ممارستهم للبحر وثقافته واستحدثوا بصراء بها فشرهوا إلى الجهاد فيه وأنشأوا السفن فيه والشواني وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر".
كلمات جمعت فيها من الفوائد ما لانجد في الأسفار التي يكتبها خبراء الاستراتيجيات الحديثة.
فنجد أن هدف بناء القوة البحرية كانت غايته الجهاد للتقرب من الله مسخر الكون لمن أطاعه واجتهد لتبليغ رسالته. بعد إخلاص النية لله سبحانه واتخاذ الأسباب الشرعية، أتت الوسائل طائعة لخدمة من يخدم دعوة الخبير القدير.
في غد الإسلام أن شاء الله لا بد لجند الله بعد إخلاص النية وسنستحدث بصراء بممراسة البحر وثقافته، وسيتقرب كل ذي صنعة بصناعته إلينا، وسنشأ السفن والشواني وسنشحن الأساطيل بالرجال والسلاح لحماية الثغور، وللتحكم في التجارة والصيد والنقل، وسنفتح الآفاق للتعامل المباشر مع الأمم، بالمعاملات القرآنية التي ستعرفهم بديننا قبل الدخول فيه أفواجا أفواجا كما دخلته أمم آسيا طوعا لا بحد السيف كما يزعم أعداء الدين.
ومقارنة بما سطره خبراء اللادينية لثغرنا، نجد أنهم فرضوا على الدولة الفلكية الراعية لمصالح الغرب ، تولية أمور البحر لمن هم أبعد الناس عن ثقافته وممارسته، فعوض أن ينتخب لتدبير شؤونه أحفاد المجاهدين الذين طردوا من ديارهم الأندلسية لاعتناقهم دين التوحيد، ولي من سكان الجبل البعيدين عن ثقافة البحر، من حسبتهم الأمم الغربية أبلد وأطوع لتحقيق أهدافهم. لكن بدون شك ستخيب أحلامهم عن قريب أن شاء الله تبارك وتعالى، لأن أجداد هؤلاء الأمازغ هم الذين بوؤوا المغرب اسمى مجد بحري عرفه في التاريخ، في عهد المرابطين والموحدين.
من الأهداف الاستراتيجية الغادرة التي سطرها خبراء التخطيط الموظفون لدى الغرب بأبخس الأجورما يمكن تحسسه عبر النتائج الميدانية للمخططات الماضية والحاضرة. إنها أهداف ترمي لهدم مستقبلنا البحري وبسط سيطرة الغرب عليه، وتتوق لزرع الفشل وتأسيس آلياته عبر:
1. تقزيم أسطول المسلمين والحد من ولوجهم البحروالتمرن عليه؛
2. إفشال كل مشروع جاد لبناء صناعة بحرية متحررة ولفتح أوراش كبرى مرتبطة بالبحر؛
3. تكريس الاعتماد الكلي على الغرب لشراء المعدات والتجهيزات البحرية؛
4. تجريد الأسطول من السلاح الدفاعي ومنع بناء أي قوة عسكرية بحرية؛
5. حرمان أبناء الشعب من جني خيرات البحر واعتماد سياسة منع ترخيص المراكب؛
6. تسمين الثروة السمكية والحفاظ عليها لتكون نهبا سهلا لا حارس عليه لأساطيل الغرب ومن يقومون بحراستها لهم من بني جلدتنا؛
7. التسلل لمراكز البحث العلمي والدراسات الاستراتيجية والسيطرة عليها عبر تمويلات مشبوهة ورشاوى.
في غد الإسلام، لا بد من الاستفادة من التجربة الماضية التي أسسها جيل الصحابة ومن تبعهم بإحسان، ونحلل ماهي أسباب النجاح وماهي الأخطاء التي ينبغي اجتنابها وما نتج عن مخططاتهم السليمة. يقول ابن خلدون: " وأوعز الخليفة عبد الملك إلى حسان بن النعمان عامل أفريقية باتخاذ دار صناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية حرصا على مراسم الجهاد ومنها كان فتح صقلية على يد أسد بن الفرات شيخ الفتيا وفتح قوصرة أيضا في أيامه بعد أن كان معاوية بن حديج أغزى صقلية أيام معاوية بن أبي سفيان فلم يفتح الله على يديه وفتحت على يد ابن الأغلب وقائده أسد بن الفرات"
يتساءل الخبير المقطوع عن هويته: ما علاقة شيخ الفتيا بالبحر؟…
ونسمع جواب ابن خلدون على هذا السؤال كما جاء في المقدمة : "وكان المسلمون لعهدة الدولة الإسلامية قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه فلم يكن للأمم النصرانية قبل بأساطيلهم بشيء من جوانبه وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه وامتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم فكانت لهم المقامات المعلومة من الفتح والغنائم وملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل فيه مثل ميورقة ومنورقة ويابسة وسردانية وصقلية وقوصرة ومالطة وأقريطش وقبرس وسائر ممالك الروم والإفرنج.
أن ذلك من أنجاز الدولة الإسلامية لا الدولة اللاييكية يا أيها المستلب المقطوع عن دينه.
ويتساءل النبيه المتبصر لمذا لم يبق وجود في تلك الثغور للمسلمين مثلما هو الحال في أندونيسيا وماليزيا والفلبين وغيرها في الجانب الشرقي للتوسعات الاسلامية؟
سؤال أوجه من السؤال الأول، سيتضح أكثر بعد قراءتنا المتأنية للماضي قراءة بدونها لا يمكن بناء المستقبل.
يستطرد ابن خلدون في تحليله لما كان عليه الشأن البحري في القرون الماضية قائلا:" ولما استفحلت دولة الموحدين في المائة السادسة وملكوا العدوتين أقاموا خطة هذا الأسطول على أتم ما عرف وأعظم ما عهد … ولما قام صلاح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر والشام لعهده باسترجاع ثغور الشام من يد أمم النصرانية وتطهير بيت المقدس أوفد على أبي يعقوب المنصور سلطان المغرب لعهده من الموحدين رسوله عبد الكريم بن منقذ إلى ملك المغرب طالبا مدد الأساطيل لتحول في البحر بين أساطيل الأجانب وبين مرامهم من أمداد النصرانية بثغور الشام. وفي هذا دليل على اختصاص ملك المغرب بالأساطيل وما حصل للنصرانية في الجانب الشرقي من هذا البحر من الاستطالة وعدم عناية الدول بمصر والشام لذلك العهد وما بعده لشأن الأساطيل البحرية والاستعداد منها للدولة ولما هلك أبو يعقوب المنصور واعتلت دولة الموحدين واستولت أمم الجلالقة على الأكثر من بلاد الأندلس وألجأوا المسلمين إلى سيف البحر وملكوا الجزائر التي بالجانب الغربي من البحر الرومي قويت ريحهم في بسط هذا البحر واشتدت شوكتهم وكثرت فيه أساطيلهم وتراجعت قوة المسلمين فيه إلى المساواة معهم كما وقع لعهد السلطان أبى الحسن ملك زناتة بالمغرب فإن أساطيله كانت عند مرامه الجهاد مثل عدة النصرانية وعديدهم ثم تراجعت عن ذلك قوة المسلمين في الأساطيل لضعف الدولة ونسيان عوائد البحر بكثرة العوائد البدوية بالمغرب وانقطاع العوائد الأندلسية ورجع النصارى فيه إلى دينهم المعروف من الدربة فيه والمران عليه والبصر بأحواله وغلب الأمم في لجته على أعواده وصار المسلمون فيه كالأجانب"
لكن ابن خلدون يستنهض الهمم ويبذر الأمل ويذكر بأن" من المشتهر بين أهل المغرب عن كتب الحدثان أنه لا بد للمسلمين من الكرة على النصرانية وافتتاح ما وراء البحر من بلاد الافرنجة وأن ذلك يكون في الأساطيل والله ولي المؤمنين."