من أهم شروط التدبير المستدام للحفاظ على الأراضي، أولا مراعاة قوانين الطبيعة الدالة على أرقى التقنيات في الدبير المستدام للبيئة؛ ثانيا اعتماد أحكام الشريعة، وهي القوانين التي تضبط موازين العدل في التعامل بيننا وبين الطبيعة، من جهة، وبيننا وبين من نتشارك معه في استثمار ثرواتها. غياب تلك الشروط سوف يمدد أجل فوضى الأحكام الوضعية الحالية، تتصارع فيما بينها إلى الحدود التي يتعطل فيها الإنتاج وتتصحر فيه الأرض.
الحفاظ على الأراضي
في المغرب
بين القوانين الطبيعية
والأحكام الوضعية
والمقاصد الشرعية
الحفاظ على الأراضي في المغرب
بين القوانين الطبيعية والأحكام الوضعية
والمقاصد الشرعية
محمد المهدي الحسني
الرباط - 1997
بسم الله الرحمن الرحيم
المحتوى:
الفصل الأول: الأرض وقوانين الطبيعة والتدبير العقلاني للثروات 8
عوامل تدهور الأراضي الزراعية 11
انجراف التربة و أنواع التعرية 11
* التعرية الخادشة أو التعرية الخطية : 11
- تغيرات الانجراف مع الزمن: 14
الاستراتيجيات التقليدية لمحاربة تدهور الأراضي: 16
1 - الزراعة المتنقلة (culture itinérante ) 16
2 - استراتيجية المسطحات المزروعة في الأراضي المائلة : 17
استراتجية الحقول المسيجة ( Bocage ) : 17
النظريات العصرية في محاربة تدهور الثروات الطبيعية: 17
1 - استصلاح الأراضي الجبلية (RTM ) 17
2 - استراتيجيات المحافظة على التربة و الماء (CES ) 18
3 - استراتيجيةحماية و استصلاح الأراضي (DRS) 18
التدبير المحافظ على الماء و التربة (ت م م ت GCES ) 19
تقنيات التدبير المحافظ على الأراضي المنحدرة. 20
التقنيات الزراعية المحافظة : 20
طريقة الحرث الملائم تحدد حسب عوامل مختلفة: 21
تجهيز الأراضي المائلة اعتمادا على تقنيات المحافظة على التربةو المياه. 21
تثبيت مجاري الأنهار و ضفافها : 25
الفصل الثاني: الأرض تحت حكم القوانين الوضعية 27
عوائق في طريق الحفاظ على الأراضي 27
أثر الهياكل العقارية في الحفاظ على الأراضي 30
تذكير بالمرجعية القانونية لتسيير الموارد الطبيعية: 34
الأساس التشريعي للقوانين العقار ية للأراضي: 34
النظام القانوني للملكية العقارية: 34
النظام العقاري للملكيات غير المسجلة: 35
النظام القانوني لأراضي الجموع: 35
التشريعات المطبقة على ضم الأراضي: 36
استرجاع أراضي المستعمرين ومراقبة العمليات العقارية: 37
المعاملات والمزارعات القروية: 38
حصيلة التطبيق الفعلي على أرض الواقع لهذه التشريعات: 38
حصيلة التدابير المتخذة لحل مشاكل إتلاف الموارد الطبيعية: 40
الوضعيات التشريعية والقانونية الجديدة: 41
الفصل الثالث: الأرض عبر أحكام الشريعة 43
تفاصيل ملكية الأراضي في الإسلام 44
ملكية الأراضي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله 44
الرسول (ص) يشجع على إحياء الأرض الموات: 45
ملكية الأراضي في عهد عمر بن الخطاب(ر) 45
عمر (ر) أول من مسح الأرض في الإسلام. 47
عمر (ر) يفرض الخراج على أرض الشام و مصر كما فعل بأرض السواد: 48
عدالة عمر (ر) في تقرير الخراج على الأرض و رعايته لأهلها من غير المسلمين: 49
أنواع الأراضي في عهد عمر (ر) 50
ملكية الأراضي في الفقه الإسلامي 54
- القواعد العامة في ملكية الأرض استقرت منذ عهد عمر (رضي الله عنه): 54
الفصل الرابع: في سبيل تدبير مستدام للأراضي 62
تنزيل الأحكام الأصلية والصيغة التعاقدية للعلاقة بالأرض 66
وسائل أخرى للتدبير المستدام 68
مقدمة:
يسجل تدهور إنتاجية الأراضي في المغرب تسارعا كبيرا، بسبب تصحر الأراضي وانجرافها وتوسع العمران على حساب الأراضي الزراعية. وهي من العوامل التي تأتي نتيجة التلوث البيئي (الإيكولوجي). والقصد من التلوث الإيكولوجي: الفساد الذي يصيب البيئة عند عدم مراعاة قوانين الطبيعة، تلك القوانين التي تتحكم في وسائل تسخير الكون للإنسان كقوانين الإيكولوجيا وعلوم الأحياء والأرض والبيولوجيا والفيزياء والكيمياء... وغيرها. عن طريق التدبير العقلاني للثروات الطبيعية يحاول الإنسان تجنب ذلك التلوث البيئي، بالرجوع إلى مراعاة قوانين الطبيعة. والفصل الأول للبحث يعرض خلاصة ما وصلت له التجربة البشرية في منظومة التدبير العقلاني المستدام للأراضي والثروات الطبيعية.
من العوائق التي تعترض مهمة الحفاظ على الأراضي، يشكل الوضع الحالي للمنظومة العقارية، أهم عقبة أمام التدابير العلمية العقلانية التي تعالج الفساد البيئي. الفصل الثاني يفصل في هذه المسألة، بمناقشة علاقة الفساد والتصحر بالقوانين العقارية الوضعية، بشقيها المتلازمين: الأنظمة العقارية، والهياكل العقارية. مفهوم الأنظمة العقارية يتعلق بأحكام ملكية الأرض: ملكية فردية خاصة، أو ملكية عامة، أو أنواع أخرى من الملكيات. أما الهياكل العقارية فيقصد بها حالة المستغلات البنيوية : مساحتها، حالة تجمعها أو تشتتها في بقع متناثرة، حالة تفتتها بين الورثة، عدد المستغلين، نوعية الاستغلال المباشر أو غير المباشر، نوعية المزارعات والمعاملات. وهي أوضاع عقارية مختلفة، تروي التاريخ ميدانيا. حيث تركت المنعطفات التاريخية الكبرى بصماتها في العالم القروي، في شكل تراكمات مختلفة، بدءا بأعراف الملكية المشاعة التي اعتمدتها المجتمعات البدائية، حين كانت كثافة السكان قليلة و حاجياتها من الأراضي أقل من المساحات المتوفرة، و انتهاء بطغيان قانون التملك الخاص الوضعي، الذي يحاول اكتساح كل الأراضي و القضاء على كل أنواع الملكيات، ومرورا بالأحكام الشرعية التي أتى بها الإسلام.
الفصل الثالث ، يذكر بتلك الأحكام الإسلامية التي ضبطها الشرع لكي يصلح ما أفسدته الأحكام الوضعية الجائرة التي توجت باستفحال ظواهر الفساد والتصحر والفتن الاجتماعية.
الفصل الرابع يناقش شروط التدبير المستدام للحفاظ على الأراضي، وآفاق تنزيلها على أرض الواقع. أهم تلك الشروط : أولا مراعاة قوانين الطبيعة الدالة على أرقى التقنيات في الدبير المستدام للبيئة؛ ثانيا : اعتماد أحكام الشريعة، وهي القوانين التي تضبط موازين العدل في التعامل بيننا وبين الطبيعة، من جهة، وبيننا وبين من نتشارك معه في استثمار ثرواتها. غياب تلك الشروط سوف يمدد أجل عناصر الفوضى الحالية، تتصارع وتتدافع فيما بينها إلى الحدود التي يتعطل فيها الإنتاج، فيضطر الناس للهجرة إلى المدن. فإن كان هناك نهوض بالقطاعات الاقتصادية الأخرى لإمتصاص التزييف البشري، تمت الطفرة والتحقنا بالنموذج التنموي الغربي الذي خفف الضغط على المجال القروي إلى الحدود الملائمة لشروط التنمية المستدامة. مثال ذلك ما حدث في أوربا وأمريكا ، حيث نسبة السكان في البادية لا تتجاوز 5 % ، بعدما تم توفير مناصب شغل منتج فعال للنازحين من البادية. لكن إن لم يتوفر شرط النهوض بالقطاعات الاقتصادية الأخرى، فإن التدافع سينتقل كذلك إلى المدن، وتلك مقدمات لوضع اجتماعي متأزم ينذر بالاضطرابات والفتن.
الفصل الأول: الأرض وقوانين الطبيعة والتدبير العقلاني للثروات
توطئة
توجد في مناطق مختلفة أثريات تدل على تدخلات الإنسان لحماية الأراضي من التعرية ،ولترشيد استعمال الثروات المائية ببناء السدود و جر القنوات قبل 7000 سنة (1953, LOWDERMIK) و مع ذلك لا يزال هناك مجال شاسع يستحق البحث والتنقيب لتوسيع المعارف في موضوع عقلنة استعمال الأراضي .
الدراسة العلمية لمشكل الانجراف لم تبدأ إلا في أوائل القرن الحاضر في ألمانيا أولا (WOLLNY) ،ثم بعد أربعين سنة في الولايات المتحدة حيث أن الرأي العام الأمريكي أجبر الحكومة على التدخل لحماية الأراضي بعد كارثة " DUST BOWOL "، و هي زوابع ترابية حولت النهار ليلا مظلما في عدة ولايات ، بسبب الإفراط في حرث أراضي هشة، دون مراعاة القواعد السليمة. و لقد كلفت الحكومة المهندس " BENET" بهيكلة ما أطلق عليه "مصلحة المحافظة على الأراضي و المياه". معززة ببضع محطات ميدانية لجمع المعطيات و للتجارب حول انسياب المياه و الأتربة.
في الخمسينيات، بعد مؤتمر ماديسون للجمعية العالمية لعلوم التربة، انتقلت الأبحاث الميدانية من أمريكا إلى إفريقيا بواسطة الفرنسي F.FOURNIER ، وبواسطة البريطاني N.W. HUDSON ، ثم إلى أمريكا اللاتينية و حديثا إلى آسيا و أوربا .
كان إذن للولايات المتحدة سبق عشرين سنة في جمع المعطيات و تحليلها بواسطة النموذج الحدسي للتنبؤ بالتعرية وفقدان التراب في الحقل: نموذج WISHMEIER و SMITH ، من سنة 1960 إلى سنة 1978 . هذا النموذج المعروف كذلك بنموذج USLE، يساعد المهندس في أخذ قرار نوعية التدخلات اللازمة لمحاربة الانجراف اعتمادا على معطيات تتعلق بالتربة و الطقس و مقاييس ميل الأرض و الغطاء النباتي.
لكن هذا النموذج لم يصادف النجاح الشامل إلا في المجال الذي حدد لتطبيقه. و رغم ذلك سيبقى لفترة طويلة أخرى شائع الاستعمال إلى حين بروز نماذج أخرى أكثر دقة. هذا النموذج لا يصلح استعماله إلا في حالة ما يسمى بالانجراف السطحي كما سنرى.
و لقد فشلت مشاريع بأكملها استمدت هذا النموذج لعدة أسباب أخرى نذكر منها: متطلبات تلك المشاريع من اليد العاملة و الآليات و التقنيات المعقدة ؛ شروط الصيانة و الحراسة الدائمة لتلك التجهيزات، مما يزيد في كلفتها الباهظة أصلا. ثم لم يلاحظ بعد تدخل تلك المشاريع إلا تحسين ضئيل للإنتاج، رغم بقاء القشرة الترابية في محلها بسبب تلك التجهيزات، حيث لوحظ تدهور خصوبة الأرض ، لأن الانسياب يهم كذلك جزئيات الخصوبة العضوية و المعدنية التي لا ترى بالعين.
في بعض الأماكن، هجر السكان حقولهم بعد تدخل الدولة، أو عمدوا لاقتلاع الأشجار المغروسة لحماية الأرض، ظنا منهم ان الدولة لم تتدخل في منطقتهم إلا بنية نزع الأراضي من أيديهم عملا بالمقولة المعروفة "الأرض لمن يستصلحها".
في أمريكا أيضا، كشف تقويم و جرد عام لستين سنة من التدخلات الميدانية للمحافظة على الأراضي و المياه، على تواضع النتائج بالنظر للبلايين من الدولارات التي صرفت في عدة مشاريع . لقد كشف هدا التقويم أن %25 من الأراضي المهيئة لا زالت تفقد أكثر من 12 طن/هـ/سنة من الرسوبات و الأتربة، و هو الحد المسموح به رسميا في تشريعات الولايات .
لكن التقويم أكد أن الحالة كانت ستكون كارثية لولا تلك التدخلات، و اقترح تبعا لذلك تعديل استراتيجية حماية الأراضي، لتصبح إلزامية، بعدما كانت تدخلات الدولة تنجز على الأراضي التي يسمح ملاكوها بذلك، أما الرافضون منهم فتبقى مزارعهم عرضة للانجراف دون أي رادع.
الاستراتجية الجديدة تمحورت حول مبدأ المحافظة المستدامة على الثروات الأرضية و المائية للأجيال الحاضرة و المقبلة. و تعتمد و سائل رادعة يفهم من خلالها الفلاح أنه إذا لم يساهم في برنامج عدم حرث الأراضي الهشة أو الشديدة الميل أو المغمورة أو إذا لم يتبع شروط استغلال الأراضي بانجاز التجهيزات الحائلة دون الانجراف، فإنه يفقد حقه في الإعانات التي تخصصها الدولة في إطار برنامج تنويع الاستغلالات.
لقد ظهرت الحاجة لوضع قيود على الملكية المطلقة للأرض وعدم ترك المالك الحاضر يتصرف فيها بشكل يضر بمن سيأتي بعده.
بالنسبة للوعي العام على المستوى العالمي، أظهر عدة كوارث طبيعية و عوامل اقتصادية و ديموغرافية، ما يفرض حالا ومستقبلا، ضرورة التدبير المحافظ على الأراضي قصد بلوغ أهداف التنمية المستدامة، نخص منها بالذكرما يلي.
1 ) التقلبات المناخية الأخيرة و حدتها المتزايدة و علاقتها بتدهور الغطاء النباتي : مثلا فيضانات القارة الهندية و علاقتها بالقضاء على الغابات في جبال الهمالايا... الجفاف في منطقة الساحل الافريقي و علاقته بتدهور المراعي إثر تزايد عدد رؤوس قطعان الماشية. هذه المعطيات الجديدة أظهرت ضرورة، ليس فقط حماية الأراضي من الانجراف ( الذي يقاس بمقادير التربة المنجرفة : الطن/الهكتار/السنة)، و لكن كذلك ترشيد استعمال الماء المتوفر، وكذا موارد خصوبة و تماسك التربة ( السماد العضوي، المواد العضوية المتحللة، الأسمدة المعدنية المكملة)، و ضرورة منع ضياع الماء و مواد خصوبة الأرض عن طريق الانسياب السطحي و العمودي.
2 ) العامل الثاني الذي يظهر الحاجة الماسة لمشاريع التدبير المحافظ على الأراضي و المياه (ت م أ م)، هو تسارع زيادة السكان على الصعيد العالمي. ( زيادة بنسبة 2,5 إلى % 3,7 سنويا، و هو ما يعني تضاعف السكان كل عشرين سنة ). قديما، شيوع الأراضي ووفرتها، يتيح للسكان التوسع في أراضي جديدة، يتم إحياؤها أو استعمالها عامة للناس كمراعي أو أماكن احتطاب. أما في الوقت الراهن، فإن التوسع و عمارة أراضي أخرى أصبح مستحيلا لندرتها أو نفاذها أو عدم صلاحها للزراعة و الرعي. و الضرورة دعت لتحميل الأراضي أكثر مما تطيق من أجل تغذية ساكنيها الذين هم في تضاعف مستمر.
أمام هذا الضغط العقاري أي ندرة الأراضي و تكاثر السكان، كانت هناك سياسات و استراتيجيات متعددة لحل المشكل، نذكر منها:
- الهجرة نحو مناطق أخرى أكثر خصبا و وفرة في الموارد الطبيعية، هذه الهجرة تكون إما ظرفية أو دائمة.
- الاستعانة محليا بموارد أخرى للعيش زيادة على المورد الفلاحي ( التجارة، الصناعة، التعليم...)
- تحسين استغلال المنطقة باتباع أساليب و طرق جديدة أكثر جدوى اقتصادية، وأكثر تأهيلا للمحافظة على الأراضي و خصوبتها على المدى البعيد.
فتقنيات الحرث الآلي العميق للأراضي التي كانت شائعة الاستعمال دون مراعاة طبيعة التربة و تضاريس الأرض، صارت تستعمل بحذر شديد في الأراضي المائلة، و عوضتها شيئا فشيئا أساليب أخرى لنبش الأرض بمحاريث مسننة عوض المحاريث ذات الصحون. كما أن تقنيات ترك هشيم الحصائد و تقنيات أخرى سنتعرف عليها، يمكنه أن يمنع انجراف التربة و تسرب العناصر المخصبة مع مياه السيل. تدخلات أخرى في مجال التقنين و التشريع تتظافر مع العامل التقني لبلوغ أهداف التدبير المحافظ و المستديم لثروات التربة و المياه.
عوامل تدهور الأراضي الزراعية
تدهور الأراضي يرجع لعوامل مختلفة : التملح، الاختناق بالمياه الراكدة، تفكك المواد العضوية إلى العناصر المعدنية، غور المواد المخصبة و رحيلها الأفقي أو العمودي، الانجراف، غزو الرمال، هذا زيادة على التدهور الذي ينتج عن نشاط الإنسان، وتدخله في المجال التقني و في المجال التشريعي و التنظيمي.
سنركز في هذا الفصل على العامل الشائع من عوامل التدهور هذه: عامل تعرية الأراضي.
علاقة تدهور الأراضي بالمجال التشريعي نخصص له فصلا خاصا نلقي فيه نظرة مقارنة للتشريعات الوضعية والأصيلة، و أثرها على المحافظة على الأراضي و استمرارية خصوبتها عبر الأجيال.
انجراف التربة و أنواع التعرية
* التعرية السطحية:
تكشط التربة بانتظام عند زوال الغطاء النباتي، وتكاد تعريتها لا تلاحظ من سنة لأخرى لأن حالة تعرية مهمة بقدر 15 إلى 30 طن / هكتار/ سنة ، لاتترجم إلا بانخفاض في العلو بقدر 1 إلى 2 مليمتر فقط. لكن بإمكانها كشط الطبقة العضوية للتربة في بضع سنين ( علو 10 إلى 20 سم).
من علاماتها المشهورة، وجود بقع فاتحة اللون في أكثر الأماكن كشطا في الحقول و ظهور الحجارة .
أخفى مظهر لهذا النوع من التعرية هو فقدان الخصوبة، التي تأتي إثرنزوح المادة العضوية و العناصر المخصبة.
* التعرية الخادشة أو التعرية الخطية :
هي التعرية الناتجة عن سيلان الماء الذي يحفر أشكالا تزداد عمقها شيئا فشيئا:
. خدشات التعرية : أخاديد بعمق بعض السنتميترات.
. جداول ( بارتفاع يفوق 10 سم)
. مساييل يفوق علوها 50 سم
هذه الأنواع الثلاثة لا تتطلب إلا وسائل بيولوجية لعلاجها.
. أودية : تمتد على عدة كلمترات، وتوجد في الأخدود الرئيسي كتل صخرية كدليل على انجراف مهم.
. انهيارات كتلية
تتطلب لتثبيتها و سائل مكانيكية باهظة الثمن.
* تقويض حافات الوديان
هو نتيجة هجوم السيول على الضفاف التي تنهار مسببة في بعض الحالات تغيرات في مجرى النهر.
* التحركات الكتلية (انزلاق التربة)
تتجلى في نزوح كتلة أرضية بأجمعها و هي نتيجة ابتلال أساسها الطيني، الذي يلعب دور المزولج، أو هي نتيجة انهيار التربة تبعا لتشوه بطئ للطبقة التحتية (ملح).
- عوامل التعرية:
هناك عوامل طبيعية تتعلق بالمناخ والتضاريس والتربة والغطاء النباتي.
و هناك عوامل ترتبط بنشاط الإنسان، كثيرا ما تتظافر مع العوامل الطبيعية، فتكون الأمطار و الرياح مثلا أشد خطرا على التربة في الخريف، حيث تكون الأرض جرداء و مفتتة بعد عملية الحرث.
- المخلفات:
نذكر منها:
- انخفاض انتاجية التربة. قياس لهذه الخسارة في الظروف الخاصة بشمال المغرب قدرها ب 400 درهم/هكتار/ سنة.
- من بين 20 مليون هكتار للمساحة العامة للأحواض الصابة ، 75 % ، يعني 15 مليون هكتار كلها مهددة بالتعرية.
- انخفاض عمق الجذور و انخفاض مخزون الرطوبة .
- ترسب الوحل في السدود: من بين 10 ملايين م3 كطاقة استعابية عامة لمخزون السدود تضيع سنويا 0.56 في المائة نتيجة للاستوحال ( يعني 50 مليون م3) . المجموع الضائع نتيجة هذا الاستوحال يقدر بأكثر من 800 مليون م3 .
- استوحال أجهزة الري.
- اضطراب النظام المائي: فيضانات متبوعة بجفاف.
- طرق تقدير ضياع التربة
1 - طريقة سريعة باستعمال أوتاد خاصة:
تتم بقياسات منتظمة لسطح التربة في نقط معلومة بأوتاد. الوتد يغرز وسط حلقة حديدية. نقوم بقياس المسافة الفاصلة بين رأس الوتد الساكن و نقطة من الحلقة التي تتحرك مع انهيار التربة تحتها عند انجرافها، وذلك بواسطة مسطرة مرقمة، وبعد ذلك نستنتج بسهولة كمية التربة المنجرفة بالطن/هكتار/سنة
* إجابيات هذ الطريقة: غير مكلفة، سهلة الوضع لعدة مرات، يمكن أخذ قياسات في مجالات متعددة الظروف وحسب تصميم إحصائي دقيق.
* احتياطات الوضع : صبغ الوتد بالأحمر المفتوح، أو وضعه حسب تربيعات معروفة، والترقيم يكون منقوشا على صفيحة من الألومنيوم .
2 - قياس التعرية في الجداول و الأودية:
* قياسات التطور بمجموعات صور في أوقات مختلفة
* قياسات بمعطيات متكررة في مقاطع معلمة بعلامات على طول مقطع السيل.
3 - نموذج تجريبي لضياع التربة ( لفيشماير) .
حسب هذا النموذج، التعرية يمكن التعبير عنها بمعادلة حدسية مرتبطة بتظافر كل عوامل الانجراف: = R x K x L x S x C x P A
* R = عامل يرجع للأمطار.R= E x I30 مع :
E = القوة الحركية للأمطار، و I30 = الشدة العليا للأمطار خلال 30 دقيقة، ويعبر عنها ب : سم/الساعة.
* K = عامل يرجع للتربة (أو قابلية الانحتات) يختلف حسب نوعية التربة و نفوذيها و تماسكها. و يتراوح بين 70/100 بالنسبة لأهش تربة، و 1/100 بالنسبة لتربة أكثر استقرارا. ويعير على بقع تجريبية قبل التعميم في منطقة معينة.
* SL = العامل الطبغرافي، يتوقف من جهة على طول المنحدر، ومن جهة أخرى على نسبة ميل المنحدر، و يتراوح بين 0.5 و 5 في الظروف العادية للسهل، ويمكنه أن يصل إلى 20 في الجبل .
* C ، عامل غطاء النبات، وهو نسبة عادية بين التعرية في أرض جرداء و التعرية الملحوظة تحت نظام إنتاجي ما. هذا العامل يتراوح بين 1 في تربة جرداء و 1/1000 في الغابة، و 1/100 في المراعي، و 1 إلى 9/10 في الزراعات الخطية.
* و أخيرا: P و هو عامل يرتكز على التقنيات الصرفة المضادة للتعرية، مثلا الحرث حسب خطوط الميل ، أو تكويم التراب. و يتراوح من 1 في تراب أجرد و بدون أي تجهيز مضاد للتعرية، إلى1/10 تقريبا ، في منحدر ضعيف عليه أخاديد مدعمة بحواجزحجرية.
شروط استعمال معادلة فيشماير
الشرط الأول : هذا النموذج لا يطبق إلا على التعرية السطحية.
الشرط الثاني: نوعية الموقع: هذا النموذج جرب و عير في مواقع شبه سهلية و في التلال على منحدرات من 1 إلى 20 % فهو إذن غير صالح للاستعمال في الجبال ، على الخصوص على منحدرات أكثر من 40 % ، حيث يكون السيل مصدر قوة أكبر من قوة قطرات الأمطار.
- تغيرات الانجراف مع الزمن:
يمكن التمييز بين عدة أنواع من الانجراف:
* الانجراف الطبيعي أو الجيولوجي:
وهو الانجراف الذي يشكل التضاريس، و ينجر المرتفعات و يطمر القيعان. و تقدر الكمية المنحتة ما بين 0,1 إلى 1 طن في الهكتار و في السنة، مع إمكانية تعويض هذه الكمية المنجرفة بالتربة المتكونة من تحلل الصخور الأم لهذه التربة. و يقال أن المنطقة منطقة متوازنة عندما تتعادل كمية التربة المنجرفة مع الكمية المتكونة من تحلل الصخور التحتية الأم. الإنجراف الجيولوجي يمكن أن يهم فجأة منطقة ما، بمناسبة إعصار أو زلزال أو انفجار بركان، تنتج عنه سيول من الأوحال والحجارة، كما وقع في كلومبيا سنة 1988 حيث أن مدينة يقدر عدد سكانها ب 25.000 نسمة اقبرت عن آخرها في ليلة واحدة. هذه الكوارث الطبيعية لا يمكن أن يتنبأ بها الإنسان و لا أن يعالجها إلا عن طريق إعلان المنطقة منطقة منكوبة على إثر الكارثة فتخصص لها إعانات محلية أو دولية .
* الإنجراف المرتبط بنشاط الإنسان وظروف حصوله:
الإستغلال الغير معقلن للتربة، يمكن أن يضاعف 10 إلى 1000 مرة مقدار كمية التربة المنجرفة بالنسبة للانجراف الطبيعي. ضياع 15 طن في الهكتار و في السنة أي ضياع قشرة من التراب تقدر بمم في السنة أو بمتر في الألف سنة هذا الانجراف يكفي لتجاوز سرعة تحلل و تفسخ الصخور الأم للتربة ( 20 إلى 100.000 سنة لتحلل متر واحد من صخور الكرانيت).
تنامي العمران البشري دفع الإنسان إلى توسيع رقعة الأرض المزروعة حتى في الأراضي الغير المأهلة للفلاحة.
في سنة 1944 وضح الجغرافي Harroy أسباب الموت البطيء للقارة الإفريقية، وربط ذلك بأنماط الإنتاج الاستعمارية التي تعمل على تعقيم التربة عبر السنين بسبب ما تلتهمه المحاصيل الزراعية المصدرة من عناصر مخصبة للأرض، وعدم استردادها، وهو ما يدفع السكان إلى هجرة هذه الأراضي و استعمال أراضي جديدة بعد تجريدها من ثرواتها الطبيعية كالغابات و المراعي. في إفريقيا الشمالية، نفس الإشكالية التي لاحظها هذا الجغرافي في افريقيا الاستوائية انطلقت عندما توسع المعمرون الأجانب على حساب مراعي الأراضي الجماعية، فاضطر السكان لتوسيع الأراضي المزروعة في الغابات و مروج الحلفا و الشيح، سواء في السهول أو الهضاب أو الجبال، وسرعان ما ظهرت عوامل الانجراف و التدهور و التعرية التي يعبر عنها اليوم بظاهرة التصحر.
بعض الباحثين ربطوا ظاهرة التصحر هذه بكثافة سكان البادية (Pieri,1989 ) و هذا أمر بديهي، لكن هل يمكن حصر كثافة معينة للسكان تكون نقطة انطلاق تدهور الأرض إذا تجووزت ؟ يضع هذا الباحث لمنطقة الساحل الإفريقي مقاييس تتراوح بين 20 إلى 40 فردا في الكيلومتر مربع، إذا بلغت هذا المستوى تتدنى فيه مدة استراحة الأرض (Jachère ) إلى المستوى الذي لا تكون له أي جدوى. و إذا بلغت هذه الكثافة 100 فرد في الكلم 2 ، فإن مستوى تدهور الأرض يبلغ الخط الأحمر الذي يضطر الناس عنده للهجرة. يدرج الكاتب مثالا آخر يرتفع فيه هذا الحد الأعلى إلى 750 فرد في الكم 2 و لكن في منطقة بركانية غنية جدا بمواردها المائية و خصوبة تربتها حيث يمكن زراعة محصولين في السنة: جزيرة جاوة في اندونيسيا؛ و مقارنة لما بلغت له هذه الأبحاث نستطيع القول أن معظم المناطق في المغرب قد بلغت كثافة السكان القرويين فيها إلى الحدود التي انطلقت معها عوامل التدهور و التصحر و اتخذت أشكالا مثيرة للقلق، حيث أن ما يناهز 30.000 هكتار من الأراضي الفلاحية و الرعوية و الغابوية تضيع ضياعا لا رجعة فيه، خاصة في المناطق الجبلية و البورية التي لا يصلها ماء السقي.
عامل آخر يزيد الظاهرة خطورة مضافة هو عامل تفتت مساحة الأرض و تقسيمها بين الورثة عندنا. ولقد وصل هذا التفتت إلى الحدود التي تدهورت انتاجية الأرض فيها بشكل أرغم السكان إلى الهجرة. الحد الأدنى من المساحة الأرضية الذي يكفي عائلة قروية حصرته بعض الدراسات الاقتصادية في خمس هكتارات في الدوائر السقوية، وما بين 7 إلى 20 هكتار في المناطق البورية. هذه الأرقام لم يعد لها معنى في جل الأقاليم، حيث أن تقسيم الأراضي بين أجيال الورثة بلغ حدودا مذهلة، كاشتراك العشرات في ملكية هكتار واحد أو شجرة واحدة. التوازن بين كثافة السكان في البادية و المساحات المزروعة اختل منذ بضع سنين، مما دفع الناس للبحث عن وسائل للعيش في المدن أو خارج البلاد، ومما أدى إلى ضعف إنتاجية الأرض.
هذه المشاكل لا تعرفها أوربا أو أمريكا حيث أن أقل من 5 % من السكان فقط يقطنون البوادي ويوفرون لبلدهم ما يحتاجونه من غذاء و زيادة. في أوروبا الأراضي الفلاحية تحولت إلى غابات أو مراعي بسبب هجرة السكان إلى المدن، قرى بأكملها تنمحي من الخريطة بسبب وفرة الشغل في المدن وقدرة قلة من الناس على القيام بأعمال البادية بمساعدة الآلات المتطورة. الثروات الطبيعية تنبثق من الأرض دون تدخل الإنسان أحيانا، فيتم استغلالها باتباع طرق معقلنة في تدبير محافظ لثروات الصيد أو ثروات الغابات أو ثروات الماء. رعي الماشية و فلاحة الأرض يعم كل شبر من رقعة بلدنا سواء كانت قابلة أو غير قابلة لذلك، و إلى الحدود التي تبلغ مشارف الجذب و التصحر.
الاشكالية التي يعيشها العالم القروي يمكن اختزالها في السؤال التالي: ما هي الأصلاحات العقارية التي تلبي شروط الاستغلال المحافظ على الأراضي و متطلبات التنمية المستدامة ؟ كيف يمكن تغيير الممارسات و السلوكات التي تهدد الثروات الطبيعية بالانقراض؟
هناك عدة استراتيجيات جربها الإنسان عبر التاريخ في المجال التقني و التشريعي، نتطرق لبعضها في نظرة مجملة غايتها اختيار ما يناسب مجالنا الجغرافي وخصوصيتنا الحضارية و الثقافية.
الاستراتيجيات التقليدية لمحاربة تدهور الأراضي:
1 - الزراعة المتنقلة (culture itinérante )
ظهرت في كل القارات، كل ما كانت كثافة السكان لا تتجاوز 20 إلى 40 فرد في الكم 2 (حسب خصوبة الأرض و ملائمة المناخ) و هي تقتضي إحراق الأدغال و زراعتها بمحاصيل معينة لبضع سنين، إلى حين تدني مستوى إنتاجها، ثم تهجر و تحرق أراضي أخرى جديدة و هكذا، وربما رجع الناس إلى البقع التي استغلت منذ أمد بعيد ثم تركت لغزو الأدغال إلى أن رممت عوامل البيئة ما أفسده الإنسان. هذا الرجوع يقتضي انتظار 20 سنة، وهو ما يعني أن الجماعة المستغلة ينبغي لها السيطرة على 20 مرة من المساحة المحروثة . و إذا ازداد عدد السكان فإن فترة استراحة الأرض تنزل شيئا فشيئا من 20 سنة إلى ما دونها، وإلى المستوى الذي تظهر فيه عوامل تدهور الأرض.
هذه الاستراتيجية يمكن اعتمادها في المناطق الخالية من السكان حسب بعض الخبراء. وسوف نقف على مدى صلاحيتها باعتماد نظرة تشريعية ذات أرضية مخالفة للمنطلقات التقنوقراطية لهؤلاء الخبراء.
2 - استراتيجية المسطحات المزروعة في الأراضي المائلة :
هذه المسطحات تظهر في المرتفعات الجبلية كلما بلغت كثافة السكان مستوى يضمن انطلاق أشغال بنائها، و دوام بذل الجهد في ترميمها و صيانتها، حيث أن الهكتار الواحد من هذه المسطحات يتطلب 600 إلى 1200 يوم عمل للبناء و الصيانة، مع مراعاة خطوط الميل و الشروط الطبغرافية لضمان نجاح هذا العمل الشاق.
الظروف التاريخية غالبا ما تكون هي الدافع لجماعة من الناس أن ينعزلوا و يستمروا على عمارة هذه المناطق الوعرة و ينجزوا هذه المسطحات المكلفة .
استراتجية الحقول المسيجة ( Bocage ) :
كلما بلغت الكثافة السكانية إلى الحدود التي ترغم الناس على عدم مراعاة فترة استراحة الأرض، اضطروا إلى تسميدها بالسماد العضوي لتعويض ما تذهب به الحصائد سنويا. ولما كان مصدر السماد يأتي عن طريق تربية الماشية من غنم وبقر، أحاط الفلاحون حقولهم "بسياجات خضراء" معضددة بهياكل من الأحجار أو الحواجز الشوكية لئلا ترعى فيها الماشية في فترة احتوائها على الزرع.
خدمة الأرض الدؤوبة، تسميدها بكل ما هو عضوي، غراسة الأشجار المثمرة على طول السياجات، تحويط المساحات المستغلة حسب استعمالها للرعي أو الزرع... تلك هي خصائص هذا التدبير التقليدي المتوازن المحكم الذي لم يصمد أمام عصرنة الزراعة و أمام تفتيت الأرض عن طريق الإرث و كذلك أمام نظريات و تخطيطات مناوئة لبعض المختصين في علم محاربة انجراف و تصحر التربة، الذين همشوا هذه الأساليب التقليدية في بحوثهم و حلولهم المعتمدة في تدخلات حماية الأراضي و المحافظة عليها.
لا بد من إعادة النظر في هذه المواقف السلبية إزاء الأساليب التقليدية، بالنظر في قضية المكننة الملائمة لها و صيغ إعادة تأهيلها و إخضاعها لمتطلبات العصر.
النظريات العصرية في محاربة تدهور الثروات الطبيعية:
1 - استصلاح الأراضي الجبلية (RTM )
ظهرت مبادئه في فرنسا منذ سنة 1850 حيث بدأ المهندسون الغابويون بشراء الأراضي الجبلية و ضمها إلى الملك الغابوي ثم غرسها و استصلاحها لحمايتها و حماية المنشآت العمرانية المحادية. اعتمد هذا الاستصلاح تقنيات الهندسة المدنية و الهندسة البيولوجية. فكانت هناك أساليب لتصحيح مجاري الوديان و أساليب لغرس المنحدرات الوعرة و غيرها. و الملاحظ هنا أن هذه العمليات لم يشرع فيها إلا بعد تهييئ ظروف النجاح التمهيدية المتعلقة بالإصلاح العقاري الأولي الذي اعتمد حل شراء الأراضي الجبلية الغير القابلة للفلاحة، وغرسها بالأنواع الحراجية. وهو ما لم يراعى في المغرب عند بدأ اشغال استصلاح الأراضي، حيث أن التقنيين لم يلتفتوا لهذا الجانب لأن الأشغال بدأت في الملك الغابوي. لكن عوائد و تقاليد حق استغلال هذا الملك لم يطرح لها أي حل أو أي بديل، فكانت نتائج تلك المشاريع هزيلة بالنظر للجهد المبذول.
2 - استراتيجيات المحافظة على التربة و الماء (CES )
ظهرت في أميريكا الشمالية خصيصا لحماية الأراضي المحروثة بعد الكارثة المعروفة ب"النهار المظلم" ( Dust bowl )، التي جائت نتيجة الحرث المكثف للأراضي الهشة و لتوسيع الزراعات الصناعية التي لا تضمن الغطاء الدائم و الشامل للأرض كالتبغ و القطن و الذرة. تحرك الرأي العام إثر هذه الكارثة التي شملت % 20 من الأراضي الزراعية، فأحدثت مصلحة المحافظة على المياه والتربة ( Bennet, 1939 ). اعتمدت في بداية التخطيط للتدخلات الميدانية أفكار مدرستين :
- مدرسة بينت (Bennet) التي ركزت أبحاثها و تدخلاتها على مبدأ كسر القوة الإنسابية للماء ( Er = ½ MV2 ) بوضع حواجز ميكانيكية: الدكات الإنسابية، السدود الصخرية على الأخاديد المنجرفة، المخارج المعشوشبة...
- مدرسة " Ellison(1944) و Wischmeier(1960) التي ركزت على مبدأ محاربة تضعضع بنية التراب تحت وقع قوة قطرات المطر، باعتماد كل ما من شأنه أن يحسن هذه البنية، كالغطاء النباتي و كبعض التقنيات الزراعية التي سنتعرف على بعضها فيما بعد.
3 - استراتيجيةحماية و استصلاح الأراضي (DRS)
ظهرت في الجزائر ما بين 1940 و 1960 لحماية المنشآت المائية كالسدود و الوديان و الطرق ، و اعتمد فيها على منع الرعي في الأراضي المتدهورة بسبب الإفراط في استغلالها الرعوي و الغابوي، ثم غرسها بالأشجار المثمرة و الحراجية لتحسين تسرب الماء في عمق الأرض .
بصفة عامة لم تكلل أي من هذه الاستراتيجيات العصرية الثلاث بالنجاح المرتقب رغم كلفتها و اتساع رقعة الأراضي المعالجة.
التدبير المحافظ على الماء و التربة (ت م م ت GCES )
بعد تقييم التجارب الماضية التقليدية و العصرية ، وبعد انتشار الوعي بضروريات التنمية المستدامة التي تهدف لرعاية مصلحة الأجيال الحاضرة والمقبلة، والتي صودق عليها في المؤتمرات الدولية المهتمة بشؤون البيئة، وبعد الوعي كذلك بضرورة إشراك السكان في مشاريع " ت م م ت " ، عكف الخبراء على مراجعة نظرتهم للتقنيات التقليدية فأحصوا مثلا أن التسميد العضوي للهكتار المزروع يحتاج إلى 20 هكتار من المراعي و هو ما يصعب توفيره مع النمو الديمغرافي الذي تعرفه البادية. لذا اتجهت الأبحاث إلى استعمال التبن و الحشائش مباشرة لحفظ و تسميد الحقل دون الحاجة لمروره عبر حلقة البهائم. و النتائج كانت مشجعة:
- نشر 2 إلى 6 أطنان من التبن مباشرة بعد حرث و زرع الأرض، يكسر من القوة الانسابية للمياه و من قوة قطرات ماء المطر.
- و لو لم تشمل هذه التغطية إلا % 50 من مساحة الحقل، فإن خطر الانجراف يتدنى بنسبة % 80.
كما أن الخبراء توسعوا في دراسة الطريقة التقليدية التي تحيط الحقول بالسياجات الخضراء، ودرسوا أنواع الأشجار و النباتات المستعملة و كيفية استغلالها لمحاربة انجراف التربة و علاج تدني خصوبتها.
ودرسوا كذلك تحسين الأراضي عن طريق توفير السماد الكيماوي، وكذلك طرق خدمة الأرض الآلية و اليدوية. و أظهرت الأبحاث سرعة استعادة التربة لحيويتها و خصوبتها بعد أن شملها الخراب من جراء الاستغلال المفرط، بمجرد حمايتها و استراحتها لمدة معينة...
و أرسيت قواعد تصنيف الأراضي حسب مؤهلاتها الطبيعية، فكانت هناك:
- الأراضي الميتة ( Squelettique ) التي يتم معالجتها تحت المناخ الشبه جاف بما يسمى بتقنية " إناء الورد" ( Pôt de fleur )، عبارة عن استغلال ميل الأرض و قلة نفاذ الماء إلى عمقها لتوجيه المطر إلى حفر يتم غرسها بكثافة مدروسة حسب كمية الأمطار و توزيعها السنوي.
- الأراضي الرعوية ذات التربة الهشة ( Sol fragile ) التي لا تقوى على خدش المحراث، فلا ينبغي المخاطرة بتوازنها بأي نوع من التدخلات سوى ما تعلق بتسميدها أو غرسها بالأغراس الملائمة، خاصة الأنواع التي تغزو جذورها الباكتيريا المركبة للآزوط (فصيلة القرنيات ).
- الأراضي الغابوية التي تضم ثروة طبيعية متجددة يمكن للإنسان استغلالها شريطة احترام قواعد رعاية الأشجار و التربة ( Règles sylvicoles ).
- الأراضي الصالحة للزراعة أو الغراسة و لها مواصفاتها الخاصة من تنوع تربتها داخل الحدود التي تقبل خدمة الأرض دون خشية الانجراف أو الانحتات.
هذا التصنيف يقترب من التقسيم الذي وضعه علماء الفقه الإسلامي إعتبارا للوضع العقاري:
- أراضي عامرة عمارة طبيعية : شركة عامة بين الناس، يمنع تملك رقبتها فهي بذلك محفوظة من التدهور الذي يلحقها من جراء تفتتها عبر أجيال الورثة، ومن جراء التعرية و خدش المحراث.
- أراضي عامرة بمجهود أصحابها: أي الأراضي المزروعة أو المغروسة سواء ما كان منها مسقيا أو أرض بور، أحكامها سنفصلها بعد التعرف على واقعها في زمننا هذا.
- الأراضي الميتة التي يمكن لولي الأمر أن يقتطعها لمن يتعهد بإحيائها مع الامتثال لشروط هذا الإحياء الذي سنفصله في فصل خاص، بعد الفراغ من تتبع ما وصلت إليه الحكمة البشرية في موضوع التدبير المحافظ على الثروات الطبيعية.
تقنيات التدبير المحافظ على الأراضي المنحدرة.
الأهداف المتوخاة من هذه التقنيات متنوعة نذكر منها:
- خفض كمية التربة الضائعة ؛
- الاحتفاظ بكمية مهمة من مياه الأمطار: يجب أن تلعب تضاريس الأرض دورا أيجابيا، عوض أن تكون سببا في ضياع الماء.
- إستصلاح الأراضي و المحافظة على خصوبتها.
- حماية المنشآت المتعلقة بالري و البنية التحتية الموجودة في السافلة التي تهددها السيول.
الوسائل التي تستعمل لبلوغ هذه الأهداف يمكن تصنيفها اعتمادا على قياس ميل الأرض.
- في الأراضي الخفيفة الانحدار( ميل أقل من 8 % ) : نكتفي بما يصطلح عليه بالتقنيات الزراعية المحافظة على التربة.
- في الأرا ضي قوية الانحدار ( ميل أكثر من 8 % ) : نضيف على هذه التقنيات الزراعية المحافظة " تقنيات المحافظة على الماء و التربة " (تقنيات: C.E.S. )
التقنيات الزراعية المحافظة :
تحاول معالجة سلبيات المحاريث و الآلات المستعملة في حرث الأراضي.
طريقة الحرث الملائم تحدد حسب عوامل مختلفة:
فالحرث التقليدي الذي يستعمل الصحون التي تقلب الأرض يمكن مزاولته بدون حرج في السهول المطرية ذات التربة المتماسكة، أو في السهول المسقية. من بين إيجابيته أنه يساعد على إبادة الأعشاب الطفيلية و تحليل المواد العضوية.
إلا أن هذه الطريقة ينبغي اجتنابها في المناطق الزراعية الحساسة ذات التربة الهشة المعرضة للتعرية و الانحتات، و ذلك لتفادي كل تجريد للتربة المفتتة بالآلات ذات الصحون.
طريقة الحرث بدون قلب التربة: ينصح باستعمالها تحت مناخ شبه جاف، حين تقل معدلات الأمطار عن 400 مم في السنة. و هي طريقة فعالة ضد التعرية المائية و الانحتات بسبب الرياح، إنها طريقة اقتصادية لما تتطلبه ألياتها من جر خفيف على الرغم من عرضها العملي الكبير الذي يتراوح بين 3,5 و 6,5 م. سلبياتها : تساعد على تكاثر الطفيليات النباتية ( استعمال مبيدات النبات). و المحاريث المستعملة هي من النوع المسنن.
تقنيات أخرى تستهدف تكثيف الغطاء النباتي للتربة واجتناب قلب طبقات التربة. الاحتفاظ بجذور التبن بعد الحصاد يساعد جديا على مقاومة التعرية ( انظر معادلة Weishmeier) و على الاحتفاظ بالماء و إبقاء المردودية الزراعية في مستوى لائق. ( مثال الحقول المعشوشبة في أمريكا، بعد كارثة: Dust Bowl ).
ندرج ضمن هذه التقنيات الزراعية: تغطية الأرض بالتبن، التدخل الأقل في زعزعة التربة، أو الزراعة بدون حرث.
* تغطية الأرض مفادها أن يودع غطاء نباتي و قائي للتربة ( بقايا المزروعات والتبن.
من مزاياها : تحسين مقاومة التربة للإنجراف؛ تحسين بنية و نوعية التربة؛ تحسين نفوذية التربة.
لها سلبيات: تكاثر أمراض النباتات؛ تكاثر الأعشاب الطفيلية و الفطريات.
* التدخل الأقل في زعزعة التربة، أو الزراعة بدون حرث: تعالج عيوب استعمال المحراث الذي يساعد على تكون الكتل المضغوطة التي تحد من توغل الجذور.
هذه الطرق تبقى مشروطة بزيادة قوة الجرارات وباستعمال مبيدات الطفيليات، وبتعميم آليات الحرث المسننة ( ... Chisel ) .
تجهيز الأراضي المائلة اعتمادا على تقنيات المحافظة على التربةو المياه.
في الأراضي شديدة الانحدار، حيث تكون مختلف التقنيات المذكورة غير كافية لوقاية هذه الأراضي، نلجأ إلى تعزيزها بتقنيات أخرى (C.E.S) كالحواجزالمتصلة و الحواجز المتقطعة، وكالأحزمة الواقية المبنية بالحجارةالجافة و التشجير...إلخ.
2 - 1 - الحواجز:
الحواجز هي عبارة عن قناة محفورة يجمع ردمها بموازاة خطوط ميل الأرض عموديا بالنسبة للمنحدر و على مسافات تحدد حسب ميل الأرض. و المراد بها خفض طول المنحدر ، و اعتراض السيلان حتى لا يصل إلى السرعة الموجبة للتعرية.
هذه الحواجز تستعمل لكسر سرعة المياه في المنحدر و توجيهها إلى منافذ آمنة ، و تسمىحواجز السيلان أو تستعمل لتوجيه المياه إلى حفر الغرس و محاولة منع تسربها خارج الحقل، وتسمى حواجز الجمع .
1 ) حواجز السيلان.
أول مرحلة في تصور إ نجازحواجز السيلان هو البحث عن لمنافذ أو مصارف لفائض المياه، ويكون المنفذ إما منخفَض طبيعي أو اصطناعي. و يجب أن يكون مغطى بالنبات و يكون عريضا بشكل يضمن صرف مياه الانسياب بسرعة لا تسبب تعرية.
لا بد من دراسة التربة لتحديد إمكانية إقامة الحواجز عليها. فالخاصيات الفيزيائية ( النوعية و البنية )تحدد نوعية الحواجز.
في التربة الطمية الرملية ينقص التماسك؛ والتربة الغنية بالطين، معرضة للانزلاق؛ وتكثر إمكانيات الانهيار عندما تكون التربة قليلة العمق.
لا بد من معرفة دقيقة للمعطيات البيئية حول شدة الأمطار التي لها تأثير مباشر على عرض حواجز السيلان و التباعد بينها.
للمسح الطبوغرافي أهميته في تحديد إمكانية إنشاء شبكة الحواجز في المنطقة المراد تجهيزها. و أخيرا، يجب أن تكون شبكة الحواجز مدمجة في الخطة المديرية لكل منطقة من المناطق. و يجب في هذا الخطة، الأخذ بعين الاعتبار، تصنيف الأرض حسب مؤ هلاتها و استعمالها المستقبلي؛ كما ينبغي تخطيط المسالك و سبل الولوج إلى الضيعات.
1-1 ) تحديد المسافة بين الحواجز.
حساب هذه المسافة يرتبط بعدة عوامل منها:
- الانحدار ، شدة الأمطار، درجة قابلية التربة للتعرية، نوع خدمة الأرض.
في مناطق المغرب العربي تستعمل قاعدة صاكاردي(formule de Saccardy ) لتحديد هذه المسافة اعتمادا على مقياس ميل الأرض : اختلاف المستوى ( H ) بين حاجزين، نستخلصه من المعادلة:
260 P = H3
H بالمتر (م)، و P بالنسبة المئوية : (% ).
الفرق بين الحواجز ( E ) ، نستخلصه من المعادلة :
H/P = E . إذن : 4/3(1/P) 6,33 E = ( للتذكير أعدت محسبيات للتعرف على هذه المسافة بسهولة)
1 - 2 ) الانحدر الطولي لحواجز السيلان، والذي يمكن من صرف المياه، ينبغي أن يكون ملائما حتى لا تتعرض القناة للإنجراف بدورها، و لتجنب تلف النباتات نتيجة تجمع الماء و انخناق الجذور لمدة طويلة. بصفة عامة نختار منحدرا طوليا بقدر: % 0,4 .
1 - 3 ) طول حواجز السيلان.
أقصى طول لحاجز السيلان يعتمد أساسا على طبيعة التربة، وذلك بالشكل التالي:
- لا يتعدى: 350 م في التربة ذات النفوذية الضعيفة (الطين).
- يمكن أن يصل: 450 م في التربة ذات النفوذية المتوسطة.
- يصل إلى: 500 م في التربة ذات النفوذية الكبيرة.
1-5 ) وضع حاجز القمة :
إن وضع حاجز القمة مهم جدا، حيث أن انهياره يجر لا محالة انهيار التجهيزات المنجزة تحته. عند الشروع في إنشاء شبكة الحواجز ، يجب البدء بالحاجز الأعلى في جميع الحالات.
عادة ما تكون المسافة بين القمة و أول حاجز، متساوية مع المسافة بين الحواجز . و أحيانا إذا كانت القمة مستوية، يمكن مضاعفة هذه المسافة.
أ) نقطة الإنطلاق الطبغرافية
أول ما يخطط طبغرافيا هو الحاجز الأعلى. و بالنسبة لكل من الحواجز ، نبتدئ المسح الطبغرافي غالبا من نقطة مصرف الماء.
ب) التوتيد (وضع الأوتاد ):
إن المسافة المعمول بها بين الأوتادهي 15 م ،و لكن يمكن أن تكون :
-أقصر من ذلك إذا كانت المنحدرات غير منتظمة
- أطول من ذلك إذا كانت المنحدرات منتظمة.
و بالإمكان استعمال وسائل بسيطة و سهلة التعميم بالنسبة لعملية المسح الطبغرافي، تعتمد استعمال أنابيب شفافة تملأ بالماء لتحديد خطوط الميل
1-6 ) بناء الحواجز:
يتم باستعمال الجرافات، أو الوسائل اليدوية و الإنجاز اليدوي غالبا ما تكون كلفته أغلى من الطريقة التي تستعمل الآلات، لكن لا مفر من العمل اليدوي عندما يستحيل استعمال الآلات في المنحدرات الخطيرة.
إن مراجعة مستويات القناة و مساند الحواجز بعد الإنجاز مهم و ضروري في جميع الحالات لأن انكسار حاجز واحد يتسبب عادة في كسر جميع الحواجز السفلى. فيجب أن تتم مراجعة المستويات بصفة منتظمة و بالخصوص في النقط الحساسة.
2-) حواجز التجميع:
تقام هذه الحواجز حسب خطوط الميل تماما، إذ الهدف منها تجميع كل المياه المنسابة وحفظها خلف الحواجز حتى تتمكن من التسرب داخل التربة بكمية كافية، الشيئ الذي يساعد على ارتفاع مخزون الماء في التربة. ويمكن أن يكون جمع مياه الأمطار كاملا أو جزئيا.
2 -2- تجهيز مصارف المياه الفائضة :
وظيفة المصارف هي توجيه سيلان الماء بصفة مؤمنة خارج الحقول. لذا ينبغي أن تكون محفوظة من التعرية بغطاء نباتي دائم (معشوشبة اصطناعيا). و بالفعل فإن نجاح كل عملية لعلاج التعرية، ترتكز على صرف المياه الفائضة بأمان.
ويتطلب إنشاء المصرف ما يلي:
- تصميم جيد.
- حفر حسب المعايير المناسبة.
- تهيئ الظروف اللازمة لتوطين النبات (حماية من الرعي).
2 -3 - الأحزمة الواقية بالحجر الجاف:
الحيوط المقاومة للإنجراف هي حواجز مبنية من حجارة جافة موضوعة حسب خطوط الميل أو على حدود الممتلكات أو فيهما معا. وظيفة هذه الحيوط هي كسر سرعة مياه الأمطار، و حجز التراب المنجرف. فهي في نفس الوقت تنقص من حدة سيلان الماء و تحتجز الأشياء المنجرفة معه. و بالتدرج تطمى هذه الأحزمة إلى حدود قمتها، وهكذا تكوًّن مدرجات تتيح الفرصة لنمو الغطاء النباتي. من المعايير المهمة للاختيار التقني لإقامة هذه الأعمال ما يلي:
- وجود الحجارة في المتناول.
- وجود أساس قليل العمق على شكل قشرة حجرية.
- انحدار متوسط و متجانس ( 6 إلى 20 % ).
الإنجاز : غالبا ما يكون مسبوقا بحرث عميق أو بإزالة الحجارة التي تغطي الحقل، و بإمكاننا استعمال الحجارة المستخرجة من الأرض لإنجاز هذه الحيوط.
و تعزز هذه المنشآت بأغراس مختلفة منها: الطلح أو الصبار أو الأشجار المثمرة.
3 ) صيانة هذه المنشآت تقتضي وضع برنامج للصيانة و للتفقد، لا سيما قرب أماكن مرور الحيوانات التي بإمكانها إتلاف هذه الإنجازات.
تثبيت مجاري الأنهار و ضفافها :
للحد من انهيار ضفاف المساييل، بالإمكان اللجوء إلى الطرق التالية:
* التحريف المستمر للسيول بواسطة حواجز ترابية خاصة ،
* التثبيت البيولوجي، بواسطة أغراس مختلفة كالقصب و الصفصاف و غيرهما،
* بناء سدود صغيرة على طول الأخاديد، و هي حواجز راشحة، من حجارة مرصوصة داخل شبابيك حديدية، لـتـثـبـيت مجاري و جوانب الأخاديد. و بما أن هذه السدود نفيذة، فهي تتيح سيلان الماء عبرها، الشئ الذي يخفظ من القوة الحركية المائية، التي يتعرض لها هذا الإنجاز.
الفصل الثاني: الأرض تحت حكم القوانين الوضعية
عوائق في طريق الحفاظ على الأراضي
إن تنزيل هذه التقنيات المتقدمة على أرض الواقع في بلدنا، يجد من العقبات والعوائق ما يكون سببا في تعطل ظهور ثمارها. ويشكل الوضع الحالي للمنظومة العقارية، أهم عقبة أمام التدابير العلمية العقلانية التي تعالج الفساد البيئي. هذا الفصل يفصل في هذه المسألة التي تهتم بعلاقة الإنسان بالأرض، بمناقشة علاقة الفساد والتصحر بالقوانين العقارية الوضعية، بشقيها المتلازمين: الأنظمة العقارية، والهياكل العقارية. مفهوم الأنظمة العقارية يتعلق بأحكام ملكية الأرض، ملكية فردية خاصة، أو ملكية عامة، أو أنواع أخرى من الملكيات. أما الهياكل العقارية فيقصد بها حالة المستغلات البنيوية : مساحتها، حالة تجمعها أو تشتتها في بقع متناثرة، حالة تفتتها بين الورثة، عدد المستغلين، نوعية الاستغلال المباشر أو غير المباشر، نوعية المزارعات والمعاملات.
لقد تركت المنعطفات التاريخية الكبرى بصماتها في العالم القروي في شكل تراكمات لقوانين مختلفة بدءا بأعراف الملكية المشاعة التي اعتمدتها المجتمعات البدائية عندما كانت كثافة السكان قليلة و حاجياتها من الأراضي المستغلة أقل من المساحات المتوفرة. وهو الوضع السائد قبل الإسلام، و انتهاءا بطغيان قانون التملك الخاص الوضعي الذي يحاول اكتساح كل الأراضي و القضاء على كل أنواع الملكيات، ومرورا بالأحكام الشرعية التي أتى بها الإسلام، و التي كانت سدا منيعا و درعا واقيا من خطر الإفساد و التصحر الذي سرى بعد انهيار حرمة تلك الأحكام، تحت حكم الأهواء.
الأرقام التي كشف عنها الإحصاء الفلاحي لسنة 1974 كانت في وقتها ناطقة ومنذرة بخطر تدهور الأراضي و تدهور إنتاجيتها بسبب الفوضى و الغموض اللذين يميزان المسألة العقارية.
الأراضي الفلاحية المتبعة لقانون الملكية الخاصة الوضعية تبلغ مساحتها حوالي 5،5 مليون هكتار تمثل 75 % من المساحة الإجمالية للأراضي الفلاحية بالقطر. معدل المساحة الوسطى للضيعات المملوكة لا تتجاوز أربعة هكتارات. كان هذا بالنسبة لإحصاء 1974، أي منذ فترة جيل كامل. هذا يعني أن هذه المساحة الوسطى بعد فعل حكم التوراث في العالم القروي المعروف بمعدل الزيادات في السكان تفوق 3 % ، هذه المساحة يتوقع أن تنزل إلى مستوى دون الهكتار الواحد للعائلة . يتضح أننا بعيدون عن الحد الأدنى الذي وضعه الإقتصاديون في تعريف المساحة الدنيا المنتجة التي توفر الاكتفاء لأسرة عادية . و سيكشف الإحصاء الفلاحي المنجز في هذا الموسم ( 96 - 97 ) عن أرقام بلا شك أخطر مما ترقبنا تنذر عن قرب استفحال الكارثة العقارية والبيئة في العالم القروي، بانهيار التوازن بين أنواع الملكيات و أنواع المؤهلات الطبيعية للأراضي.
الأراضي العامرة طبيعيا و التي كانت مراعي لا يجوز تملك رقبتها كانت ولا زالت المرشحة الأولى للإنهيار و التصحر بعدما انقلب حكم وضعها و تأرجح في حكم الملكية الخاصة الوضعية. الأراضي الجماعية أو أراضي الجموع أو أراضي الجماعات السلالية ، هي التسميات العرفية لهذا القسم من الأراضي العامرة طبيعيا، الذي تبلغ مساحته 12 مليون هكتار تقريبا، لقد سقط منها مليونا هكتار في حكم قريب من حكم الملكية الخاصة: ما يطلق عليه اسم الملكية على الشياع propriété dans l' indivision و هو وضع متذبذب بين الحكم الأصلي الجماعي،و الملكية الخاصة الوضعية ، يتقاسم فيه أفراد السلالة الأرض الجماعية و يستغلونها كأنها ملكية خاصة، و يتوارثونها عرفيا، النساء ليس لهن أي نصيب من الإرث، دون أن يكون أي توثيق لهذه الملكية. وضع غامض، ترتع فيه جراثيم الرشوة والتحايل على القانون، وتتعطل الإنتاجية، حيث أن أول قرار يتخذه القاضي عند النزاعات، هو تعطيل الاستغلال لأجل إصدار الأحكام. وقد يستغرق النطق بالحكم و تنفيذه مدة جيل كامل وزيادة. غموض و فوضى و بعث جديد لحكم الجاهلية و نزاعات تشكل أغلب القضايا المعروضة على المحاكم في القرى و المدن ، و القاضي يحكم فيها بما شاء من أعراف و اجتهادات سقيمة.
بعض التقنوقراطيين يرجحون رفع كل حرج عن الملكية الخاصة الوضعية لهذه الأراضي الموزعة عرفيا شريطة أن لا تنزل مساحتها عن الحد الأدنى القابل للاستغلال المجدي اقتصاديا. إلا أنهم لم يلبثوا قليلا في موقف الدفاع عن حلهم هذا حتى داهمهم واقع التوراث الذي قسم الأرض تقسيما صار معه الكلام عن المساحة الدنيا الكافية عبثا أو ترياقا من شأنه تأجيل المشكل لا حله حلا جذريا. تقنوقراطيون آخرون لاحظوا أن الشمل المجموع لبعض الأراضي الجماعية التي بقيت على أصلها، يمكن من تسييرها تسييرا ناجعا و سقيها بالأذرع المحورية، وهو ما لا يتأتى مع الأراضي المملوكة المفتتة، لذا فهم يصرون على المحافظة على النظام التقليدي. و قد أدت سهولة استعمال التقنيات الجديدة للسقي في الأراضي الجماعية إلى تنافس بين وزارة الفلاحة ووزارة الداخلية الوصية على أراضي الجموع، في رهان سقي المليون هكتار، وزارة الفلاحة بواسطة قنوات الإسمنت عموما، ووزارة الداخلية بواسطة الأذرع المحورية.
نوع آخر من الأراضي الفلاحية في القطر، تعرف بأراضي الجيش، و تبلغ مساحتها 280.000 هكتار، وهي تعتبر من أراضي الدولة التي أقطعها السلاطين لأخلاط القبائل، مقابل خدمات عسكرية أسدوها للدولة، إقطاع انتفاع لا إقطاع تمليك. فهي إذن أرض لا يجوز تملك رقبتها أيضا. ذوو الحقوق من هذه القبائل دأبوا على تقسيمها عرفيا تحت أعين الإدارة التي تتولى تدبيرها، كما تقسم أراضي الجموع، فهي كذلك في وضع غامض، مولد لمشاكل تزخر بها المحاكم في كل مكان و تستفحل مع الزمان. أصلها الشرعي يمنع تملك الرقبة، إذ ليس لولي الأمر أن يقطع إقطاع تمليك إلا بالنسبة للأراضي الميتة كما سنتعرف عليه في الفصول التالية، أما الأراضي الفلاحية فهي خاضعة لحكم الأراضي الخراجية ، ملكيتها لعامة المسلمين و استغلالها يتولاه أصحابها الأصليون حسب شروط و عقود مع و لي الأمر. أما إذا انجلى عنها أصحابها الأصليون و هجروها، ففي هذه الحال يستطيع الأمير أن يقطعها لمن يحسن عمارتها إقطاع استغلال بشروط معلومة لا إقطاع تمليك. فإذا مات من يستغلها فإن رقبتها ترجع للأمير لينظر من يتولاها بنفس الشروط أو بشروط أخرى مستجدة تبعا للمصلحة العامة.
أراضي الأحباس هي كذلك من الأراضي المعروفة أصولها الشرعية تتجلى من خلالها أسمى ما يميز الإنسان من قيم التكافل و الإيثار و نكران الذات، حيث أن هذه الأراضي المحبسة أو الموقوفة على باب من أبواب الخير أو ثغرة من ثغور الإحسان كانت تلعب دورا أساسيا في تلاحم أفراد المجتمع الإسلامي، وكذلك في تربيته وتعليمه.
حاليا تدير هذه الأراضي التي تتسع على مساحة 80.000 هكتار وزارة الأحباس و الشؤون الإسلامية . هذه الأراضي غالبا ما تكون في مواقع مسقية ذات خصب و عطاء وافر. طرق استغلالها في غاية التعقيد و الغموض و هو موضوع يستحق دراسة شاملة، خاصة فيما يتعلق بتطور غايتها الإحسانية التي أسست من أجلها ، في زمن فقدان الذاكرة الذي نعيش أحلك أيامه تحت حكم اللادينية .
القسم الأخير من الأقسام العقارية هو ما يعرف بأراضي الدولة الذي تبلغ مساحته 445.000 هكتار.
الرصيد العقاري من الأراضي الفلاحية التي تملكها الدولة كان مصدره ما يسمى بضيعات الاستعمار الرسمية و ضيعات الاستعمار الخاص. ضيعات الاستعمار الرسمية أصلها في الغالب أراضي الجموع التي تعرفنا علي حكمها الشرعي ، أقطعها حكم الاستعمار جورا لصنائعه الأجانب و غيرهم، جاؤوا لعمارة الأرض كما يفعل اليهود حاليا في أراضي فلسطين.
عندما نقضت حرمة الأحكام الأصلية، وتم تفويتها للمعمرين، أرغم الناس على الإكتفاء بما بقي من هذه الأراضي بعد أن صار الجزء الأكبر منها لصنائع الاستعمار.
حالة واحدة من حالات عدم اعتبار الحكم الأصلي، كانت كافية لتداعي الحرمات . نضرب مثلا بقضية حماية المستعمر لبعض قواده الذين ساهموا في إخضاع المسلمين لحكم النصارى. هذا القائد أو ذاك استولى على بقعة أرضية مساحتها شاسعة، تضم غابات و مراعي و أراضي فلاحية، حكم الشرع القاضي بشراكة الناس في "الغابات و المراعي و المياه"لم تبق له أي حرمة عندما أقره المستعمر على تسلطه. وكما أن صنيع الاستعمار استولى على آلاف الهكتارات من الغابات و المروج، فأن آلاف الناس سوف يرون في ذلك أكثر من مسوغ وحجة للترامي على هكتار أو هكتارين لكل واحد منهم. فهي إذن آلاف الهكتارات ذهبت أدراج الرياح و أدركها التصحر بعد أن تعرت من غطائها الطبيعي. فانظر كيف تسبب حكم المستعمر في تأسيس آليات التصحر التي لا زالت عجلتها تدور تحت حكم اللادينية ملتهمة أربعين ألف هكتار في السنة من الأراضي العامرة طبيعيا.
الأراضي المسترجعة، شملها المجموع مكنها في الغالب من اتباع أنماط الانتاج المعقلنة المستعملة للتقنيات المتطورة في التسيير و التدبير و الخدمة . تمثل اليوم واحة وسط صحراء من الفوضى العقارية المفتتة للأراضي المعطلة للإنتاج. نظرة من الطائرة توضح الصورة: ضيعات تذكر بمنظر ريفي في البلدان المتطورة اقتصاديا، وسط فلاة شاسعة تذكر بواقع التخلف و الفوضى .
أدرجنا المثال العقلاني للاستغلال المنظم للأرض و ربطناه بشركات التسيير الفلاحية الشبه عمومية، فهل هذا يعني أننا نزكي هذا النوع من أنواع علاقة الإنسان بالأرض في جميع جوانبه و مميزاته؟
نجيب على هذا السؤال بعد التعرف على أنواع المعاملات و المزارعات المتبعة حاليا في العالم القروي، وعلاقاتها بالأصول الشرعية التي كانت معتمدة قبل جولة اللادينية و نترك موضوع كيفية إنزال الأحكام الشرعية القطعية على أرض الواقع و أنواع مرجحات الأحكام الإجتهادية في إطار فقه المرسلات بالنسبة لما خيرنا فيه الشرع أو سكت عنه إلى الفصل الموالي إن شاء الله.
أثر الهياكل العقارية في الحفاظ على الأراضي
بعد هذه النظرة المجملة، للمسألة العقارية، لا بد من تفصيل في موضوع أثر الهياكل العقارية في التنمية الزراعية، لكي يتم التشخيص لمكامن الداء.
الحالة العقارية الراهنة للرقعة الجغرافية القطرية التي تبلغ مساحتها الإجمالية 71 مليون هكتار هي كالتالي:
- ما يقارب نصف هذه المساحة (31,8 مليون هكتار ) يمكن تصنيفه تحت نوع الأراضي الميتة لأنها تتميز بمناخها الصحراوي القاحل.
- المراعي الخاضعة حاليا لقانون أراضي الجموع أو مراعي الجماعات السلالية تقدر مساحتها بعشرين مليون هكتار، لا تزال في معظمها شركة عامة لكن بين أفراد الجماعة السلالية فقط، وتحت وصاية وزارة الداخلية و تحوم حولها الأطماع لتمليكها لما يسمى بذوي الحقوق مع غموض المصطلح بالنسبة لهذه الحقوق وبالنسبة لمصدرها.
- الملك الغابوي ( بما فيه مروج الحلفا ) الذي يغطي مساحة تسعة ملايين هكتار. ملك للدولة، تحت تسيير إدارة المياه والغابات. مشاكله لا يتسع لها موضوعنا المخصص للآراضي الزراعية، يمكن الإشارة فقط لعناوين منها، تتعلق بنتائج تدبيرها وتسييرها من طرف العقول الأجنبية والصنائع المحلية؛ وكيف تم رهنها لأحقاب من الزمن لتسديد القروض التي مولت مشاريع يوجه ريعها لصالح شركات لا تساهم إلا بقسط هزيل في تنمية البلد؛ وكيف كان رد فعل السكان المجاورين للغابة الذين أرادوا نصيبهم من الخيرات الحراجية من حطب وخشب و ثمار وكلأ وصيد (حقوق الصيد منع الناس منها في تفويتات لشركات سياحية لا ياتي منها خير للبادية )، فدخلوا في فترة ممهدة للتسيب الخطير؛ و كيف ساهم المنتخبون في تآكل الغابات حينما رجحوا مصالح الفترة الانتخابية على مصالح الأجيال المقبلة، ثروة طبيعية تكونت عبر مئات وأحيانا آلاف السنين، تذهب أدراج الرياح عندما تبدل خطط الاستغلال البعيدة المدى الراعية لشروط التنمية المستدامة، ببرامج ظرفية سياسية... وقس على ذلك من مشاكل تابعة أخرى لا يتسع لها المقال.
- الأراضي القابلة للزراعة: 9,2 مليون هكتار وهي حسب حكمها العقاري أنواع مختلفة سنذكرها بعد حين. هذا الصنف يمثل نسبة %13 من مساحة القطر الإجمالية، وهو في توسع مستمر على حساب المساحات العامرة طبيعيا: كالغابات و المراعي. عشر هذه الأراضي المحروثة يسقى بصفة دائمة بعد اعتماد سياسة محمودة : بناء السدود. إلا أن مجهود إيصال هذه المياه إلى الأراضي القابلة للسقي كان دون المستوى نظرا لعوامل شتى.
البنية العقارية لهذه الأراضي الزراعية، تتميز بمعضلات شتى أهمها تفتت الملكيات وضآلة حجم الضيعات، كما يتبين من خلال هذا الجدول:
مستوى تفتت الأراضي الزراعية ( المرجع: إحصاء 1974)
- المساحة الإجمالية للأراضي القابلة للزراعة، موزعة على 8,8 مليون قطعة .
- عدد الضيعات المملوكة هو 1467000 وحدة .
- معدل عدد القطع في كل ضيعة هو 6 .
- معدل مساحة القطع هو 0,8 هكتار
المساحة الأدنى الموفرة لمتطلبات العيش تختلف حسب المعطيات الزراعية والبيئية لكل منطقة. وعموما، يمكن القول أن استغلال أقل من 5 هكتارات في المناطق المروية و 20 هكتارا في المناطق البورية، لايسد غالبا إلا رمق العائلة، ولا يمكن أن ينتج فائضا لمزاولة أي استثمار لمواكبة عوامل الإنتاج العصرية.
يعتبر انتشار الممتلكات الصغرى وكذا تفتتها وتوزيعها من أهم العوائق أمام استصلاح الأراضي و تكثيف الإنتاج، ولا يخول للقطاع الزراعي لا التكيف مع متطلبات الزراعة العصرية، ولامواجهة المشاكل التي يفرضها تزايد السكان، الشيء الذي يكرس اختلال التوازن بين الإنتاج ومتطلبات تغذية السكان.
وبالفعل،فقد أبانت التجربة على أن توزيع الممتلكات و تفتتها يتسبب في سلبيات خطيرة منها استحالة تطبيق مناوبة ملائمة على بقع محوطة وضيقة، و ضياع الوقت، و ارتفاع كلفة الإنتاج و صعوبة استعمال المعدات الزراعية في الضيعات الصغيرة.
وفي حالة الحفاظ على الاستغلال تحت نظام الملكية المشاعة، فإن عدة مشاكل تطرح، منها: صعوبة العمل بخيارات تقنية واقتصادية في مجال الاستغلال، و صعوبة تفاهم المشتركين في اختيار ممثل واحد للقيام بالمهام الإدارية.
جهل الوضعية الحقيقية للضيعة، يشكل كذلك حاجزا كبيرا لأي تدبير معقلن، علىصعيد توزيع مياه السقي،و المناوبة الزراعية، وأشغال الأرض، والحسابات المالية...
كما أن ارتفاع عدد المشاركين في الملكية الواحدة يؤدي إلى توزيع المداخيل إلى الحدود التي لا تفي بحاجيات الفرد، مما يضيع فرص توفبر الجزء من الفائض الذي لا بد من توظيفه في الضيعة، كاستثمار لتحسين الإنتاج.
لا بد من تتبع معضلة الملكية المشاعة و مناقشة كيفية تطورها وتعقدها بتزايد السكان في البادية. لقد تواطأ الناس على حرث أراضي الجموع بعد تقسيمها فيما بينهم تقسيما عرفيا يعيين "لذوي الحقوق" البقع التي يمكنهم حرثها. هذا التعيين يتم كل سنة يتناوب عبره الناس على كل البقع لئلا يتم إقرارهم على بقعة واحدة بعينها خشية النزوع إلى الاختصاص بها ثم تملكها. هذه الطريقة لم تصمد كثيرا أمام مطالب تكثيف الإنتاج التي تقتضي استثمارات على المدى البعيد في بقعة واحدة كحفر الآبار و جر القنوات و غراسة الأشجار.
في مرحلة تالية بعد إرغام الناس على الاستقرار في بقع معينة داهمهم واقع الإرث ففرض وضع الملكية على الشياع نفسه أي اشتراك عدة أشخاص في استغلال بقعة واحدة لا يجوز تقسيمها رسميا.
واقع الملكية على الشياع وصل حاليا إلى الطريق المسدود حيث أن نصيب الفرد في بعض الأحيان نزل إلى مستوى 0,14 هكتار في سنة 1991 بعدما كان سنة 1952 1,29 هكتار. ثم إن نسبة الضيعات التابعة لعرف الملكية على الشياع قفز من 48 % سنة 1952 إلى 78% سنة 1991 ( مثال مأخوذ من دراسة أنجزت في الدائرة السقوية لأولاد فرج بدكالة).
رغم مظهر الجمع الذي تأتي شكلا عملية ضم الأراضي، فأن حالة تقسيم الأرض بين الورثة وصل إلى الحدود التي تحول دون عمارة الأرض عمارة عقلانية كالعمارة التي يتيحها نظام التسيير عن طريق الشركات الشبه عمومية أو غيرها من الأنظمة التي يبقى فيها شمل الأرض مجموعا و إمكانية الإستثمار فيها على المدى البعيد ممكنا لصالح كل المجتمع.
ومن ناحية أخرى، فإن الاستثمار الزراعي غير المباشر، عن طريق الاكتراءات القصيرة المدى، وبالمشاركات بنصيب من المحصول الزراعي، يمنع بذل أي جهد لتكثيف الإنتاج و مراعاة شروط التنمية المستدامة.
هذا الوضع العقاري المزري الذي يمكن اعتباره السبب الأول في تدهور الأراضي، له علاقة وطيدة مع المرجعية القانونية المنظمة لتدبير أمور الموارد الطبيعية عامة، وأمور الأراضي الفلاحية خاصة.
تذكير بالمرجعية القانونية لتسيير الموارد الطبيعية:
الأساس التشريعي للقوانين العقار ية للأراضي:
النصوص المهمة التي صدرت في شأن المسألة العقارية، تتناول القضايا التالية:
التسجيل العقاري ؛ التشريع المطبق على العقارات المسجلة ؛التشريع المطبق على الاكتراءات القروية ؛ تدبير أراضي الجموع والأحباس ؛ ضم الأراضي القروية ؛ استرجاع الأراضي المستعمرة ؛ الإصلاح الزراعي ؛ مراقبة الصفقات العقارية ؛ الحد من تجزيء الممتلكات الزراعية ؛ دوائر الاستثمار الفلاحي في الأراضي البورية.
النظام القانوني للملكية العقارية:
تخضع الملكيات المحفظة للتشريعات المتعلقة بالتسجيل العقاري، على ضوء ضهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتسجيل العقاري، وضهير 2 يونيو 1915 ، الذي يحدد التشريعات المطبقة على العقارات المحفظة.
تنسب الملكيات غير المحفظة إلى الأحكام المستوحاة من الإسلام أو العرف. الربط بالأصول الإسلامية له ملابسات سوف نتعرف عليها بعد حين.
النظام العقاري للتسجيل:
عرف المغرب هذا النظام بعد صدور ضهير 12 غشت 1913،المستوحىمن عقد طرانس الأسترالي، الذي يرتكز على المبادئ التالية:
- إرساء نظام لإثبات نقطة انطلاق دقيقة للملكية، لتخليصها من كل التبعات المادية ومن كل التحملات العقارية السابقة للتسجيل، إن لم يصرح بها قبل الوقت المحدد.
- الإشهار الواسع لحق التملك وللحقوق الأخرى المادية العقارية.
- القوة المقنعة للتسجيلات المصرح بها في السجلات العقارية.
ارتكازا على هذه المبادئ، فإن نظام التسجيل العقاري، يُمكِّن من تعريف وتحديد كل عقار بصفة دقيقة، و من إحصائه في السجل العقاري، تحت اسم ورقم خاصين، مع إشارات طبغرافية وقانونية، تجعل مالك هذا العقار يتمتع بكامل حقوقه بشكل صحيح ومأكد.
الحقوق الواقعية والتحملات العقارية، التحويلات و التغييرات، وكل ما يهم العقار، يصرح به ثم تسجل في السجلات العقارية، التي تعتبر الحالة المدنية الكاملة والمدققة لكل عقار مسجل.
اللجوء إلى نظام التسجيل العقاري يعتبر اختياريا، لكنه يصير إجباريا كلما دعت المصلحة العامة لذلك.
إن المسطرة المتبعة في التحفيظ طويلة ومعقدة، وهذا يثبط المالكين ، وبالخصوص الصغار منهم، على القيام بالإجراءات اللازمة لتسجيل ممتلكاتهم.
منذ 1915 ، وهو تاريخ تطبيق هذا النظام، عرف التسجيل العقاري تطورا مهما، وشمل مساحة كبيرة تقارب: 2.403.618 هكتارا، من بينها: 2.370.813 هكتارا من الوسط القروي، يعني تقريبا: 26 بالمائة من المساحة المزروعة. والمساحة التي في طريق التسجيل (مرحلة تقديم طلب قانوني)، مهمة وتصل إلى: 4.842.377 هكتارا.
النظام العقاري للملكيات غير المسجلة:
تخضع الملكيات غيرالمسجلة، إلى الأحكام المنسوبة للإسلام و العرف. وفي هذه الحالة يعبر عن عقد الملكية "برسم المُلكية" الذي يضمن كامل حق الملكية المستمرة والمؤمنة. ويعتبر نقطة انطلاق لهذا الحق.
هذه الازدواجية في النظام العقاري، يرى بعض التقنوقراطيين أنها تضر بالملكية العقارية بالمغرب و الإتجاه الذي يرسمونه يسير نحو توحيد النظام العقاري، وذلك بتعميم السجلات العقارية التي تمكن من الاستفادة من قروض الاستثمار. وهذا التعميم يقترن بإنجاز مشاريع تهتم بإعادة تنظيم البنيات العقارية في المناطق ذات المؤهلات الزراعية.
النظام القانوني لأراضي الجموع:
أراضي الجموع تخضع لنصوص تشريعية متنوعة من بينها:
- ضهير 27 أبريل 1919 الذي ينظم الوصاية الإدارية على الجماعات السلالية ، ويقنن التسيير والتصرف في الممتلكات الجماعية. هذا الضهير الذي يعتبر القانون الأساسي للأراضي الجماعية الموجودة في مناطق البور، يقضي بتمليك هذه الأراضي لصالح الجماعات العرقية، التي تتولى تسييرها تحت وصاية وزارة الداخلية، وهو وضع غريب للملكية في القطر، عبارة عن تردي وضع الملكية الجماعية نحو الملكية الفردية، دون بلوغها.
- ضهير 18 فبراير 1924 الذي يقنن المسطرة الخاصة لتحديد أراضي الجموع. فبعد إعلان مرسوم التحديد، وبعد الإشهار وجمع التعرضات، يحدد بصفة نهائية المحتوى والطابع الجماعي للعقار المعني.
- الضهير رقم:1.69.30 المتعلق بأراضي الجموع الموجودة في مناطق الري، الذي وضع الصيغة الإجرائية لتمليك أراضي الجموع الموجودة في المناطق المسقية لصالح مستغليها، و حددت الطرق المتبعة للوصول لهذا الهدف.
و قد أحدث هذا الضهير تغييرا جذريا في النظام القانوني لأراضي الجموع المسقية، بهدف تمكين مستغليها من التملك، كي يسهل تكثيف الإنتاج لضمان مردودية استثمارات الدولة في هذه المناطق.
التشريعات المطبقة على ضم الأراضي:
الضهير رقم: 1.62.105 في: 30 يونيو 1962 المتعلق بضم الأراضي القروية الذي نسخ كل الضواهير السابقة له، يقضي بتعميم عملية الضم، المتوقع في بداية الأمر في المناطق السقوية، إلى مناطق البور.
ومن أجل تسهيل عمليات ضم الأراضي، أصدر سنة 1969 نصان لمدونة الاستثمارات الزراعية، ويتعلق الأمر بالضهير رقم: 1.69.32 وبالمرسوم رقم: 2.69.38، الذي يقنن مجانية عملية تجديد العقود العقارية وتسجيل العقارات، و يمنع كل المعاملات العقارية التي تهم الملكيات الموجودة بمناطق ضم الأراضي المحددة بمرسوم، وهذا اعتبارا من تاريخ التصريح بالحالة والتصميم التجزيئي بمقر السلطات المحلية إلى حين المصادقة على مشروع ضم الأراضي(الفصل 4 مكرر من الضهير رقم: 2.69.32 ).
وبالتالي، فهذا النص لم يطبق إلا على الأراضي السقوية في البداية، وبعدذلك، شمل حتى الملكيات الخارجة عن المنطقة السقوية.
أهمية المساحة المضمومة:
إن تطبيق التدابير المنظمة لضم الأراضي شمل خصوصا المناطق السقوية، حيث ارتبط الضم بعمليات التجهيز العقاري، البارز في التجهيز الهيدروزِراعي. وبلغت إنجازات الضم إلى مساحات تقارب:571.000 هكتار، منها: 500.000 هـ سقوية، و71.000 هـ في مناطق بورية.
استرجاع أراضي المستعمرين ومراقبة العمليات العقارية:
إن الضهير رقم: 1.63.289 ل: 26 شتنبر 1963 الذي يحدد شروط استعادة أراضي المستعمرين من طرف الدولة، يصرح بالتحويل للدولة، لتمليك الأراضي الحكومية المسلمة للاستعمار الرسمي، وينظم كيفيات تمليك هذه الأراضي للدولة. فالاسترجاعات المنفذة في هذا المجال تقدر ب: 320.000 هـ تقريبا.
تحويل الممتلكات الزراعية أو شبه الزراعية التي يملكها أشخاص فعليين أجانب أو أشخاص معنويين، للدولة:
إن الضهير رقم:1.73.213 بتاريخ:2 مارس 1973 والمتعلق بالتحويل للدولة للممتلكات العقارية الزراعية أو شبه الزراعية التي يملكها أشخاص فعليين أجانب أو أشخاص معنويين، جاء ليتمم عملية تحويل الأراضي التي في حيازة الأجانب. وتطبيق هذا الضهير خول للدولة استرجاع مساحة تقارب: 450.000 هـ.
الاصلاح الزراعي:
إن المرسوم الملكي رقم: 267.66 بتاريخ: 4 يوليوز 1966 والمتعلق بتعيين الأراضي الزراعية للأملاك الخاصة للدولة، المنسوخ و المستبدل بالضهير رقم: 1.72.277 بتاريخ: 29 دجنبر 1972 والمتعلق بنفس الأهداف، يسمح بتحويل هذه الأراضي لصغار الفلاحين والعمال الذين لايملكون أرضا، ويحدد تدابير هذا التحويل وكذا الواجبات التي يتحملها كل من الدولة والمستفيدين.
توزيع الأراضي في نطاق الاسصلاح الزراعي شملت مساحة تقارب: 325.000 هـ لصالح: 23.000 مستفيد، منطوين تحت:750 تعاونية.
المعاملات والمزارعات القروية:
الضهير المؤرخ بتاريخ: 12 غشت 1913 الذي يحدد الالتزامات و العقود، يعالج في عنوانه الثالث الاكتراء وبالخصوص إيجار المزرعات. ويصرح بالقوانين التي تتعلق بوضع عقود الاكتراء، و ضبط مدة الاكتراء، وحقوق وواجبات كل من المالك و المستـفيد، و قيمة الكراء وطرق أدائه وكذا كل ما يتعلق بتجديد الكراء وتسليم العقارات.
حصيلة التطبيق الفعلي على أرض الواقع لهذه التشريعات:
التطبيق الفعلي على أرض الواقع لهذه التشريعات اصطدم بعدة عراقيل، ترجع أساسا لعدم مراعاتها للأصول الثابتة، أوانطلاقها من قاعدة تشريعية مغلوطة سقط فيها المشرع في تخبط و خلط بين أعراف جاهلية، وأحكام إسلامية أنزلت في غير محلها، واقتباسات من القوانين الغربية لا تتناسب مع الواقع المحلي.
توضيحا لفشل هذه التشريعات، بالنسبة لوضع أراضي الملك الخاص، فبالرغم من صرامة القانون ومنعه لتقسيم الأراضي التي تقل مساحتها عن المساحة الدنيا المعاشية المحددة بالنسبة للأراضي المسقية وبالنسبة لأراضي البور، فإن القسمة العرفية لا تزال سارية المفعول بين الورثة، بدون تصريحات رسمية، حتى في الدوائر المضمومة التى يفرض فيها المنع قبل عملية الضم بواسطة إجراءات ممولة من قروض الدولة كالتخارج القانوني بين الورثة، حيث أنه من الواضح أن المشكل سيتكرر عند وفاة كل مالك، و حيث أن آليات التخارج تفرض أوضاعا شاذة تعقد المشكل أكثر مما كان عليه، كحالة كتابة الملك على الأم، لئلا يتهارش الأولاد على الأرض عند وفاة الأب.
وزيادة على هذا، فحين يشكل هذا التقسيم خطرا ملموسا، فإن الورثة يلجؤون إلى وضع موقت: الشيوع مع قسمة النتائج بتوافق داخل العائلة. وتتسبب هذه القسمات السرية في تكاثر الاستغلالات غير المعاشية، وتشكل حاجزا أمام تكثيف الانتاج و تمويل التجهيزات والاستصلاحات اللازمة.
إن الوضعية الداخلية للشيوع تتأزم باستمرار وبسرعة، إذ أن عدد المشاركين في العقار الواحد يزداد مع النمو الديمغرافي، والانسحاب من الشيوع لايكون إلانادرا نظرا لشظف العيش الذي عم البادية، إلا بالنسبة لأبناء صنائع الاستعمار، الذين لا تزال تحت أيديهم العقارات الشاسعة.
وسواء أن الشيوع استمر أو أن المشاركين قرروا القسمة، فكلا الحلين مر و يعتبر حاجزا بالنسبة لضروريات تكثيف الانتاج.
ففي حالة القسمة، نتوصل في الحال إلى تجزيء، وبالتالي وفي كثير من الحالات ،نصل إلى استغلالات غير معاشية.
وفي حالة استمرار الشيوع، فإن عدد المشاركين في العقار الواحد يرتفع. وحتى لو أننا تجنبنا قسمة الأرض، فإن المدخول يوزع، مع مايجره ذلك من مخلفات على انخفاض الفائض الممكن إعادة استثماره في الضيعة.
بالنسبة لأراضي الجموع: فإن توزيعها على أعضاء الجماعة يختلف حسب المناطق. وقد كانت تقام ، وإلى تاريخ قريب، بتقسيم دوري منتظم، حسب دورية تحول دون ثبات الفرد في قطعة معينة. لكن مع تعدد النسمات في مساحة ثابتة، فإن وتيرة هذا التوزيعات دخلت في تناقص مستمر، ونلاحظ حاليا في أكثر التجمعات ثبات المشاركين كل في نصيبه.
ويترجم هذا الثبات بالتمليك بفعل منح الإقطاعات الجماعية، وبالتواطؤعلى التفويتات الوراثية، الشيء الذي يسوق، كما هو الحال في الملكية إما إلى التقسيمات، وإما إلى حالات الاستغلال المشاع.
إن ثبات التقسيمات يكون شائعا في المناطق السقوية وفي مناطق البور الخصب.
فمن بين: مليوني هكتار من الأراضي الجماعية، لايشمل التقسيم الدوري إلا أقل من:300.000 هكتار، والباقي يتبع وضعا يقوم مقام التمليك.
رغم ثبات هذه التقسيمات، فإن هذا الوضع الشاذ، يشكل هو أيضا عائقا مهما لسبل تكثيف الإنتاج الزراعي وللاستثمارات متوسطة وبعيدة المدى.
الاكتراءات والمزارعات القروية:
رغم تقنين هذه المعاملات وخاصة الاكتراءات القروية، فإن المزارعين يلجأون في بداية كل موسم زراعي، إلى إبرام اتفاقيات الاكتراءات القروية، خلال مدة لاتتعدى دورة زراعية واحدة (في الغالب سنة واحدة أو سنتان). إن هذا النوع من العرف الذي يستجيب للمصلحة الظرفية القريبة للمالكين، لايلبي رغبات المكتري إلا نادرا. وعليه فإن هذا الأخير يستغل موارد العقار بإجحاف، فلا يبالي بالحفاظ عليها ولا بتحسينها. وبالفعل، فإن المستغل للأرض خلال دورة زراعية أو اثنتين لاينفق أي استثمار في تحسين التجهيز العقاري ما دامت مدة الاكتراء لاتسمح له باستغلال مربح لما أنفق فيها.
أنماط الانتاج المتبعة:
أخذا بعين الاعتبار لأحوال الطقس المزرية في المناطق الجافة وشبه الجافة، المتميزة بقلة الأمطار وسوء توزيعها في الزمان والمكان، فإن نمط الانتاج الأكثر استعمالا هو المناوبة الزراعية السنـتـيـنـية (كل سنتين): زرع ـ استراحة، مع غلبة الشعير على الأنواع الأخرى. وكثرة استعمال الشعير هاته، مفروضة تحت الظروف التالية:
+ طبيعة المناخ: نظرا لضيق مدة تساقط الأمطار، فإن الشعير هو الأكثر ملاأمة، وذلك لقصر دورته النباتية مقارنة مع أنواع الزروع الأخرى وبالخصوص مع القمح والذرة.
+ متطلبات تغذية الماشية، التي تعتبر ضرورية للعيش في المناطق البورية وخصوصا الجافة منها. ولذلك يفضل الفلاحون زرع الشعير. وبهذه الممارسة يتم انسجام نسبي بين زرع الشعير وتربية الماشية. في هذه المناطق، تبقى مساحة مهمة من الأراضي الزراعية في استراحة قصد الرعي، الشيء الذي يستجيب إلى المتطلبات الغذائية للماشية ويخفف من تحملات الأراضي ذات الطابع الرعوي.
فالنظام التشريعي للأراضي، والقوانين الجاري بها العمل والظروف المجتمعية والاقتصادية لسكان هذه المناطق، تعقد تدخلات الإدارة. وبالفعل، فإن سكان هذه المناطق، بدخلهم المتواضع، لا يهمهم سوى تلبية متطلباتهم الظرفية الآنية. ولهذا تراهم يحجمون كلما تعلق الأمر باستثمارات متوسطة أوبعيدة المدى للحفاظ على الموارد، كإعادة التشجير،وأشغال المحافظة على التربة والتجهيزات الواقية من التعرية.
وبهذه الطريقة، تستهلك الموارد الطبيعية باستمرار في الغابات و المراعي، وذلك بالحتطاب العشوائي للغابة، و الإفراط في الرعي، وكذا الممارسات الزراعية المنافية لشروط الحفاظ على التربة.
ينظم الانتفاع بالمراعي عرفيا، وبهذا تبقى طريقة تدبير المراعي منبثقة من قرارات الجماعة.و يتم ذلك فيما يخص معايير تعيين المستفيدين، وتحديد عدد رؤو س الماشية لكل عضو مستفيد من المراعي الجماعية والغابوية.
يكون مبدئيا حق الرعي محصورا في أعضاء الجماعة. لكن، غالبا ما يبرم أعضاء الجماعة اتفاقيات مع أجانب عن الجماعة. وتؤدي هذه المعاملات في الغالب إلى الإفراط في الرعي، وهذا يشكل السبب الرئيسي في إتلاف وتصحر المراعي.
حصيلة التدابير المتخذة لحل مشاكل إتلاف الموارد الطبيعية:
للتخفيف من العوامل التي تتسبب في إتلاف الموارد الطبيعية، ولضمان تنمية مستديمة، تم وضع نصوص تشريعية لحماية هذه الموارد.
الوضعيات التشريعية والقانونية الجديدة:
دوائر الاستثمار في أراضي البور:
إن قانون الاستثمارات الفلاحية، الصادر في ضهير: 1.69.25 (25/7/1969)، وضع إطار تشريع الاستصلاح الزراعي بخصوص المناطق السقوية فقط، أما المناطق البورية فلم تكن داخلة في مجال اهتماماته.
ومن الواضح أن التنمية الزراعية والاقتصادية في البلاد لن تتأت إلا بالاهتمام بالمناطق البورية كذلك.
ولهذا،فإن ضهير: 1.95.10 (22 فبراير 1995) ، المتضمن للقانون رقم: 94/33 ، المتعلق بدوائر استثمار أراضي البور، جاء ليتمم البناء التشريعي الوضعي التقنوقراطي.
ومن إضافات هذا القانون مايلي:
- تدخل الدولة في مناطق البور المحددة بمرسوم، وذلك بالسعي إلى إنجاز الإصلاحات العقارية والتجهيزات الضرورية ، وكذا البنية التحتية الاجتما عية والاقتصادية، حسب خطة تنموية مندمجة.
- مساهمة المستفيدين في تمويل هذه التجهيزات بقدر : 40 بالمائة. ويعفى من ذلك مالكو المساحات الصغيرة التي لاتتجاوز الحد المعاشي الأدنى.
- تحديد الشروط التي تخضع لها مراقبة تعهدات المزارعين، وكذا العقوبات الناجمة على خرقها.
- يأخذ بعين الاعتبار مناطق لاستصلاح الأراضي والمحافظة عليها.
- يضع خطة ومنهاجا لإشراك السكان المعنيين في جميع مراحل المشروع.
الحد من تقسيم الأراضي وتفتتها:
هو بيت القصيد وحوله يحوم المهتمون. فلقد برهنا في الفقرات السابقة أن الحد من التجزيء يشكل أمرا من الصعب أن تحيط به أي سياسة وضعية، إلا ما يدخل في صنف الاصلاحات الترقيعية للبنيات والهياكل العقارية.
انطلاقا من هذه الإطار الواضح، أُعلن على قانون رقم: 94/34 المتعلق بالحد من تجزيء وتفتت الملكيات الزراعية في الدوائر السقوية وكذا في دوائر استثمار أراضي البور.
القانون يمنع كل تجزيء يتولدعنه استغلال أراض تقل مساحتها من 5 هـكتارات في المناطق السقوية، وعلى حد أدنى في دوائر استثمار أراضي البور، يحدد بقرار وزاري، حسب معطياتها الزراعية والبيئية.
ويندرج حكم هذا القانون كذلك على الملكية المشاعة بنفس الحدود المتعلقة بالمساحة الدنيا المعاشية.
ومن الواضح أنه لايمكن احترام هذه التدابير إلا إذا أقصي عدد من المشاركين، ثم يعوضون على انسحابهم. ولإنجاح هذا التخارج القانوني، صدرت مقتضيات لإشراك الأبناك فيه، لتمويل تعويض المشاركين المنسحبين. ويحدد القانون الفوائد المطبقة لهذا القرض في 6 % ، وتتحمل الدولة الفرق بالنسبة لفوائد السوق.
ثم إن هذا القانون يمنع كلا من العدول، والكتاب، والمستقبلين في التسجيل، والمحافظين، من أن يقبلوا، أو يقيموا، أويسجلوا، أو يقيدوا أي عقد يخرج عن التدابير المذكورة.
يظهر أن القانون المذكور وضع آليات مؤسساتية وعقارية ومقتضيات قانونية واحتاط غاية ما يمكن لضمان تطبيق هذه التدابير، تجنبا إلى النقائص التي أدت إلي عدم تطبيق الضهير: 1.69.29 بتاريخ: 25 يوليوز 1969 المتعلق بنفس الموضوع.
هذا أقصى ما وصلت له الحكمة الوضعية التقنوقراطية داخل المجال المحدد لها مسبقا. وقد ترك الباب مفتوحا على مصراعيه كالعادة في مثل هذه النوازل لإشراك القطاعات الأخرى في المسؤولية، وذلك لإيواء جيوش المبعدين عن المجال القروي، هذا إذا افترضنا أن القانون الجديد سوف لن يلق نفس مصير سابقه.
الفصل الثالث: الأرض عبر أحكام الشريعة
الحذر من الأفكار المسبقة
غالبا ما تنسب معضلة تفتت الأراضي الفلاحية وتقسيمها عبر أجيال الورثة لنظام الميراث الإسلامي المتبع حاليا إلى جانب القوانين الوضعية التي تنظم المعاملات في العالم القروي. هذه المعضلة هي فعلا من أهم أسباب تدني الانتاج الفلاحي سواء في الأراضي البورية أو الأراضي المروية، إلى الدرجة التي تهدد الأمن الغذائي للقطر عوض أن يلعب دور كالفورنيا بالنسبة للعالم العربي.
تفسيرها يرجع إلى وجود شركاء متشاكسين متناحرين في ملكية ضيعة لا ترقى مساحتها إلى الحد الأدنى الذي يلبي الحاجيات المادية للأسرة الواحدة، ناهيك أن توفر الفائض الضروري لتمويل الاستثمارات اللازمة. ومع الزمن يتضاعف عدد هؤلاء الشركاء إلى الحد الذي يتعطل فيه الانتاج نهائيا، وتقطع فيه الأرحام بسبب النزاعات العائلية، وتتعطل فيه مصالح الناس في كل مجالات الحياة.
كما أن نظام إقطاع الأراضي العامرة طبيعيا قصد التمليك، الذي يمثل الطرف الآخر للمعضلة العقارية، كثيرا ما ينسبه الناس عن قصد أو عن جهالة، للشرع الإسلامي.
وإذا ما علمنا من خلال مقاصد الشرع، وأصوله، وقواعده أن حيث ما وجدت مصالح الناس فثم شرع الله، الذي من آكد غاياته جلب المنافع ودرء المفاسد، صار لزاما إعادة النظر في نسبة هذه المعضلات إلى شرع الله. الأمانة العلمية تقتضي إذن التروي و التبين قبل هذا الربط بالشريعة لكثير من المسلمات التي فشت ممارساتها في المجتمع، حتى صارت عرفا متبعا وهوى مطاعا، رغم براءة الشريعة منها.
حكم الأرض يرتبط شرعا بكيفية دخولها إلى حوزة دار الإسلام و الحالة التي كانت عليها حين أصبحت أرضا إسلامية. الأراضي التي دخلت دار الإسلام نتيجة الجهاد في سبيل الدعوة، كأراضي العراق و سوريا ومصر و أفريقية الشمالية و أجزاء شاسعة من العالم الإسلامي، كان فيها العامر بسبب مجهود و عمل بشري، وكان فيها العامر عمارة طبيعية دون تدخل مجهود بشري، كالغابات و المراعي، وكان فيها الميت الخالي من أي إعمار بشري أو طبيعي. فهذه أقسام ثلاثة للأرض كل له حكمه في الإسلام.
إطلالة سريعة عبر تاريخ الفتوحات الإسلامية و عبر قواعد الفقه الإسلامي المتعلق بالأرض، تبين لنا أن الأراضي الفلاحية في المغرب العربي دخلت إلى حوزة الإسلام عنوة، فهي أراضي خراجية، موقوفة على كل المسلمين لا تملك رقبتها ملكية خاصة، بل هي للدولة الإسلامية، ثم هي لمن يحسن عمارتها بعقد معلوم يمنع فيه انتقال الأراضي عن طريق الأرث. فإذا توفي المتعاقد معه انتقلت مسؤولية التسيير والاستغلال لمن تراه الدولة أصلح لذلك.
هذا الوضع يجد أصله الشرعي فيما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر، عندما افتتحها انتقلت ملكية هذه الأرض له ثم ترك مهمة تسييرها لليهود مزارعة على شطر من غلاتها. نفس الحكم سار عليه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم عندما فتحت أراضي الشام و العراق ومصر و إفريقية و غيرها، و قضى به مذهبنا الرسمي في المغرب مذهب الإمام مالك الذي قال: " لا تقسم الأرض، وتكون وقفا يصرف خراجها في مصالح المسلمين من أرزاق المقاتلة، وبناء القناطر و المساجد، و غير ذلك من سبل الخير".
إنه النظام الذي استقرت عليه الحكمة البشرية بعد التجربة الشيوعية الفاشلة. الأراضي في المعسكر الشيوعي البائد لم ترجع لسلبيات الملكية الخاصة المقدسة ، بل هي أولا ملكية للدولة التي تقتطعها لمن يحسن تدبير أمرها إقطاع استغلال لا إقطاع تمليك.
تفاصيل ملكية الأراضي في الإسلام
وننتقل بعد هذه النظرة المقتضبة إلى تفاصيل ملكية الأراضي في الإسلام، و مناقشة مدى ملائمة القواعد الإسلامية للتطبيق العملي في الوقت الحاضر، ومدى استعدادها لحل مشاكل العالم القروي، الذي يعاني من أزمات متنوعة تزداد خطورتها مع السنين.
ملكية الأراضي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله
الأراضي الزراعية في الجزيرة العربية قليلة، و فتح البلاد ذات الأراضي الزراعية الواسعة كبلاد فارس و الشام و مصر وإفريقية قد حدث في عهد عمر رضي الله عنه. فليس هناك من مسائل الأرض في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، سوى غنيمته لأراضي اليهود حول المدينة.
لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود خيبر، وطلبوا منه أن يسمح لهم بالجلاء، اعتبرت جميع أموالهم فيئا أي غنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، و كان ضمن أموالهم الأرض و النخيل.
و قد روي عن أنس بن مالك " أن رسول الله(ص) دفع خيبر إلى اليهود مساقاة بالنصف، وكان يبعث إليهم عبد الله بن رواحة فيخرص عليهم ثم يخيرهم أي النصفين شاءوا، أو يقول لهم : أخرصوا أنتم و خيروني يقولون: بهذا قامت السموات و الأرض".
و قد استمرهذا الوضع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله، و حياة ابي بكر و عامة ولاية عمر، ثم كان عمر هو الذي ردها إلى بيت المال بعد جلائهم عن المدينة.
كما أنه صلى الله عليه وسلم سمح لعمر بن الخطاب (ر) بوقف أرض أصابها بخيبر
الحمى في عهد الرسول (ص):
جاء الإسلام، وكان العرب قبله يحمون بعض الأراضي كمراعي، و كان هذا الحمى يقوم على أساس القوة و الغلبة، فقال رسول الله (ص): " لا حمى إلا لله و رسوله". وذلك يعني أن "الحمى" يجب أن يقوم على الملكية الجماعية للناس جميعا، لا للأقوياء دون الضعفاء. وقد روى نافع عن ابن عمر أن رسول الله (ص) حمى (النقيع) لخيل المسلمين، أي جعل أرض النقيع الواقعة بقرب المدينة "حمى" ترعى فيه خيول المسلمين.
الرسول (ص) يشجع على إحياء الأرض الموات:
وقد خصص يحيى بن آدم القرشي بابا في كتابه الخراج بعنوان " باب من أحيا أرضا بعد ميتة "، و روى فيه كثيرا من الأحاديث النبوية التي تحث على إصلاح الأرض، و المحافظة على حقوق من يقوم بإحياء أرض ميتة. و من أهم هذه الأحاديث قوله (ص) " من أحيا مواتا من الأرض فهي له، و ليس لعرق ظالم حق".
وقد رأينا أن الرسول (ص) قد حدد مدة ثلاث سنوات للتحجير، يسقط بعدها حق المحتجر، و ذلك للحث على إحياء الأرض الموات، و عدم تركها معطلة.
ثالثا) الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله يقطع الأرض لإصلاحها و زراعتها :
يروي يحيى بن ىدم القرشي حديثا يقول: " اعطى رسول الله صلى الله عليه و سلم عليا بئر قيس و الشجرة".
كما يروى أيضا أن بلال بن الحارث المزني جاء إلى رسول الله (ص) " فاستقطعه أرضا، فأقطعها له طويلة عريضة". وقد كانت هذه الأرض الطويلة العريضة من السعة بحيث لم يستطع بلال إصلاحها أو زراعتها كلها، فلما ولى عمر بن الخطاب (ر) الخلافة أرغمه على ترك ما لم يستطع زراعته وقسمه بين المسلمين.
ويدخل هذا الإقطاع في باب إحياء الأرض الميتة التي لا مالك لها
ملكية الأراضي في عهد عمر بن الخطاب(ر)
التوسع في الفتح و نتائجه:
كانت أرض السواد بالعراق أول أرض زراعية يختلف المسلمون في أمر توزيعها و كيف يتم. و سنرى أن القاعدة التي وضعها سيدنا عمر بن الخطاب طبقت بعد ذلك في البلاد الأخرى التي فتحت من بعد.
على أن اهتمام سيدنا عمر بالأرض لم يقف عند رسمه طريقة الانتفاع بأراضي البلاد المفتوحة، بل إن له إصلاحات هامة فيما يتعلق بالأراضي الزراعية، وأراضي المراعي، وإصلاح الأاراضي الميتة بواسطة إقطاعها أو تحجيرها، و التشدد في التمسك بالمدة التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله للإحياء.
فنقول كلمة في موقف عمر (ر) من أرض السواد، و أنواع الأراضي في عهده، واهتمامه بإحياء الأرض الموات، و القواعد التي وضعها في ملكية لأرض والماء.
لما فتح المسلمون بلاد فارس أطلقوا على الأراضي الزراعية الخصبة فيما بين دجلة و الفرات " أرض السواد". وقد اختلف الصحابة الأجلاء في أمر هذه الأرض، فكان من رأي بعضهم أن تقسم الأراضي كما يقسم الفئ، تطبيقا لقوله تعالى: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله و للرسول و لدي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم".( سورة الحشر، آية 7 ). وكان على رأس الصحابة المنادين بتوزيع الأرض كما توزع غنائم الحرب سيدنا بلال بن رباح(ر)، و عبد الرحمان بن عوف، بينما كان رأي سيدنا عمر (ر) أن الأرض لا تقسم بل تبقى ملكا لبيت المسلمين، ينفق منها على شئونهم من كان حاضرا منهم و من يأتي من بعد، تطبيقا لقوله تعالى: " و الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان"
وقد احتدم الجدال بين الفريقين، و قال فريق بلال لعمر (ر): " أتقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا و لم يشهدوا، و لأبناء القوم، و لأبناء أبناءهم، ولم يحضروا؟ فكان عمر (ر) لا يزيد على أن يقول: هذا رأي. قالوا: فاستشر، فاستشار المهاجرين الأولين فاختلفوا" ويستطرد أبو يوسف: " فأما عبد الرحمان بن عوف (ر) فكان رأيه أن تقسم لهم حقوقهم، و رأى عثمان و علي وطلحة وابن عمر رضي الله عنهم رأي عمر. فأرسل إلى عشرة من الأنصار، خمسة من الأوس و خمسة من الخزرج من كبائرهم و أشرافهم. فلما اجتمعوا حمد الله و أثنى عليه بما هو أهله، ثم قال : إني لم أزعجكم إلا لأن تشتركوا في أمانتي فيما حملت من أموركم، فإني واحد كأحدكم و أنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هواي. معكم من الله كتاب ينطق بالحق، فوالله لئن كنت نطقت بأمر أريده ما أريد به إلا الحق. قالوا: قل نسمع يا أمير المؤمنين. قال : قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم. وإني أعوذ بالله ان أركب ظلما. لئن كنت ظلمتهم شيئا هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت، ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى؛ و قد غنمنا الله أموالهم و أرضهم و علوجهم(رجالهم) فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله، وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه، وأنا في توجيهه. و قد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها، و أضع عليهم فيها الخراج، وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئا للمسلمين، المقاتلة و الذرية و لمن يأتي بعدهم. أرأيتم هذه الثغور لابد لها من رجال يلزمونها. أرأيتم هذه المدن العظام، كالشام و الجزيرة و الكوفة و البصرة و مصر، لا بد لها من أن تشحن بالجيش و إدرار العطاء عليهم فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضين و العلوج؟ فقالوا جميعا: الرأي رأيك: فنعم ما قلت و ما رأيت، إن لم تشحن هذه الثغور و هذه المدن بالرجال و تجري عليهم ما يتقوون به، رجع أهل الكفر إلى مدنهم. فقال : قد بان لي الأمر، فمن رجل له جزالة و عقل يضع الأرض مواضعها، و يضع على العلوج ما يحتملون؟ فاجتمعوا على عثمان بن حنيف.."(المرجع المذكور سابقا، ص35 و 36 ). و إذا كنا قد توسعنا في نقل النصوص، فإنما أردنا أن نعطي صورة للعدالة و حرية الرأي، و ما يسمى الآن "بالديمقراطية"، التي أرسى الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله قواعدها في الإسلام عملا بقوله تعالى : " و شاورهم في الأمر "(سورة آل عمران،آية 159 ). وقوله تعالى: "وأمرهم شورى بينهم " (سورة الشورى آية 38 )، وجاء أبو بكر و عمر رضي الله عهما، فسار في نفس الطريق الذي رسمه القرآن الكريم قولا، وطبقه الرسول (ص) عملا. وقد بلغ إلحاح هذا الفريق على عمر (ر) حدا جعله يلجأ إلى الله و يقول : اللهم اكفني بلالا و أصحابه".
و يقول أبو يوسف: " فمكتوا بذلك أياما حتى قال عمر(ر) : قد وجدت حجة في تركه وأن لا أقسمه قول الله تعالى :" للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله و رضوانا" فتلا عليهم حتى بلغ إلى قوله تعالى : "و الذين جاءوا من بعدهم " (سورة الحشر الآيات 10-8 )، قال : فكيف أقسمه لكم، وأدع من يأتي بغير قسم؟ فأجمع على تركه، وجمع خراجه، و إقراره في أيدي أهله، ووضع الخراج على أراضيهم و الجزية على رؤوسهم".
و هكذا ترك عمر (ر) ارض السواد لملاكها على أن يدفعوا عنها الخراج لبيت مال المسلمين، الذي يكفل للمسلمين جميعا، في أي مكان كانوا على ظهر الأرض، حياة حرة كريمة. و في ذلك قال عمر (ر) قولته الشهورة التي تعتبر أساسا لنظام الضمان الاجتماعي في الإسلام، وهي: " قد أشرك الله الذين يأتون بعدكم في هذا الفيء فلو قسمته لم يبق لمن بعدكم شيء و لئن بقيت ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء".
عمر (ر) أول من مسح الأرض في الإسلام.
مسح أرض السواد في العراق، وتقرير الخراج على الأرض:
ما إن تم فتح العراق حتى عمد عمر (ر) إلى وضع نظام لحكم هذه الأقاليم, فبعث الحذيفة بن اليمان على ما وراء دجلة، وبعث عثمان بن حنيف على ما دونه. وطلب إليهما مسح الأرض الزراعية الموجودة في هذه الأقاليم، و تقدير الخراج عليها. وقد بلغت دقة عمر (ر) و حنكته الإدارية و عدالته أن أطلب إلى كل من الواليين أن يرسل إليه بدهقان (رئيس الإقليم أو المقاطعة) من كل إقليم. فبعث كل واحد منهما بدهقان و معه ترجمان من أهل الحيرة. وقد ناقش عمر (ر) بنفسه هذين الدهقانين و سألهما: " كيف كنتم تؤدون إلى الأعاجم في أرضكم؟ قالوا سبعة و عشرين درهما. فقال عمر (ر) : لا أرضى بهذا منكم. ووضع على كل جريب عامر أو غامر يناله المال قفيزا من حنطة أو قفيزا من شعير و درهما، فمسحا على ذلك" . و يستطرد أبو يوسف قائلا: " فكانت مساحتها مختلفة. كان عثمان عالما بالخراج فمسحها مساحة الديباج، و أما حذيفة فكان أهل جوخي (إقليم) قوما مناكير فلعبوا به في مساحته" (نفس المرجع، ص )، و سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزى، المرجع المذكور سابقا، ص81 .
ويبدو من مناقشة عمر (ر) للدهقانيين أنه استقل مبلغ الخراج الذي كان مفروضا على الأرض من قبل الاعاجم، أي الحكام الفرس، و انه زاد في هذا المبلغ . ولكن مناقشة عمر (ر) لحذيفة بن اليمان و عثمان بل حنيف، حين عادا إليه بعد مسحهما للأرض، و تقديرهما للخراج عليها، تدل على ما اشتهر به عمر (ر) من العذل و الرحمة بالرعية، سواء للمسلمين و غير المسلمين. فقد سالهما : " كيف وضعتما على الأرض، لعلكما كلفتما أهل عملكما ما لا يطيقون؟ فقال حذيفة: لقد تركت فضلا، وقال عثمان: لقد تركت الضعف، و لو شئت لأخذته. فقال عمر عند ذلك : أما والله لئن بقيت لأرامل أهل العراق لأدعنهم لا يفتقرون إلى أمير بعدي".
عمر (ر) يفرض الخراج على أرض الشام و مصر كما فعل بأرض السواد:
لما فتح أبو عبيدة بن الجراح الشام، طلب إليه الصحابة أن يوزع عليهم الأراضي الزراعية كما فعل الرسول (ص) بأرض خيبر. فأبى عليهم ذلك، و كتب إلى أمير المؤمنين عمر (ر) يستشيره. وقد رد عليه عمر (ر) متمسكا برأيه الذي نفذه في أرض السواد . وزاد في تفسير قوله تعالى: " و الدين جاءوا من بعدهم"، أنهم "ولد آدم الأحمر و الأسود"منهم. ثم قال :"فأقر ما أفاء الله عليك في أيدي أهله، واجعل الجزية عليهم بقدر طاقتهم تقسمها بين المسلمين، و يكونون عمار الأرض فهم أعلم بها و أقوى عليها". و يذكر أبو يوسف رواية أخرى أكثر تفصيلافيقول: " و حدثني حسين بن عبد الرحمان عن عمرو بن ميمون الأودي قال: شهدت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بثلاث أو أربع، واقفا على حذيفة بن اليمان و عثمان بن حنيف، و هو يقول لهما، لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق. كان عثمان عاملا على شط الفرات، وحذيفة على ما وراء دجلة جوخي و ما سقت. فقال عثمان ، حملت الأرض أمرا هي له مطيقة، و لو شئت لأضعفت أرضي. و قال حذيفة: وضعت عليها أمرا هي له محتملة، وما فيها كثير فضل . فقال عمر رضي الله عنه : انظرا ألا تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق، أما لئن بقيت لأرامل أهل العراق لأدعنهن لا يحتجن إلى أحد بعدي". و كان حذيفة على ختم جوخى، وعثمان بن حنيف على ختم أسفل الفرات-ختم الأعناق"(نفس المرجع،ص37 ).
كتب عمرو بن العاص إلى عمر (ر)، فرد عليه بنفس ما رد به على أبي عبيدة فيما يتعلق بأرض الشام. و كان مما قاله :" أقرها حتى يغزو منها حبل الحبلة"، أي دع الأرض في يد أهلها من و افرض عليها الخراج، يكون دخلا لبيت مال المسلمين، ينفق منه عليهم حميعا، لا على الحاضرين منهم فقط، بل و ما يخلفون من ذرية، يغزو منها في سبيل الله أولاد الأولاد وهكذا.
عدالة عمر (ر) في تقرير الخراج على الأرض و رعايته لأهلها من غير المسلمين:
رأينا كيف ناقش سيدنا عمر (ر) عامليه حذيفة بن اليمان و عثمان بن حنيف في كيفية تفدير الخراج على الأراضي الوراعية، و حرصه على عدم إرهاق غير المسلمين بالخراج. و الواقع أن تاريخ عمر (ر) كله و أعماله في الحكم و الإدارة تدل على توخيه للعدالة التامة لا بالنسبة لرعاياه المسلمين فقط، بل و بالنسبة لرعاياه من غير المسلمين. و إن طريقة تقديره لخراج الأراضي الزراعية لتدل على حكمة الخبير الزراعي و المالي. و ينقل أبو يوسف رواية تقول: " إن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فرض على الكرم عشرة دراهم، و على الرطبة خمسة، وعلى كل أرض يبلغها الماء عملت أو لم تعمل درهما ومختوما (وهو الصاع)، وعلى ما سقت السماء من النخل العشر، وعلى ما سقي بالدلو نصف العشر، وما كان من نخل عملت أرضه فليس عليه شيء".
وذلك يدل على أن عمر (ر) جعل الأرض من حيث فرض الخراج عليها أنواعا، تختلف باختلاف ما تحتاجه من مجهود لسقيها و إصلاحها و ما تنتجه من محصول. فقد فرض على جريب الأرض الزروعة كرما عشرة دراهم. وذلك لات زراعة الكرم تحتاج لأرض خصبة و مجهود و رعاية. بينما فرض على جريب الأرض المزروعة بالرطبة خمسة دراهم، أي نصف المفروض على أرض الكرم.
أما فرضه درهما و صاعا على جريب الأرض التي يبلغها الماء و التسوية بين زراعتها و عدم زراعتها فيدل زيادة على العدالة في تقدير قيمة الخراج، علىحث الناس على زراعة الأرض التي يمكن ريها. و من لم يقم بواجب الزراعة ألزم بدفع الخراج كمن زرع تماما.
و أما فرضه على جريب الأرض المزروعة نخلا عشر محصولها إذا سقيت بالدلو، فيدل على العدالة من حيث التفرقة بين ما يحتاج لمجهود في سقيه بعمل الانسان، و ما لا يحتاج إلى ذلك؛ لأن المطر يسقيه فلا يحتاج لبذل مجهود في السقي.
كما ذكر يحيى بن آدم القرشي أن عمر (ر) قرر بعد فرضه الخراج، أن من عجز عن دفع الخراج خفف عنه، و لو زاد المحصول لا يزاد الخراج. " فإن احتملوا أكثر من ذلك فلا يزاد عليهم، و إن عجزوا عن ذلك خفف عنهم"(كتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي ، المرجع السابق ذكره،ص23 ، رقم 29 و كتاب الأحكام السلطانية للماوردي، المرجع السابق ذكره ص173 و ما بعدها).
أنواع الأراضي في عهد عمر (ر)
ملكية الاراضي في البلاد المفتوحة لبيت مال المسلمين، ولكن عمر (ر) تركها لأهلها الأصليين:
قبل انتشار الإسلام في البلاد المجاورة للجزيرة العربية في عهد عمر (ر) و الخلفاء من بعده، لم تكن ملكية الأراضي في الجزيرة العربية تثير أية مشكلة. فمساحة الأراضي الزراعية محدودة، وقد عرفنا كيف قسم رسول الله (ص) الأراضي الزراعية التي كانت مملوكة لليهود قبل إجلائهم. أما بعد الفتوح الإسلامية للبلاد ذات الأراضي الخصبة الواسعة و المروج و الكلأ و الغابات و الأنهار الجارية و الينابيع الغزيرة المياه، كأرض دجلة و الفرات شرقا و أرض الشام و مصر غربا؛ فقد رأينا أن كبار الصحابة الأجلاء قد طالبوا و ألحوا في الطلب و جادلوا و أطالوا المجادلة لتقسيم هذه الأراضي عليهم. ولكن عمر (ر) الحازم النافذ البصيرة، المشرع الملهم، رأى بثاقب فكره أن المصلحة العامة للمسلمين و الإسلام تقتضي عدم توزيع هذه الأراضي على المجاهدين الفاتحين من المسلمين، و إبقائها في أيدي أهلها في البلاد المفتوحة و يكفي المسلمين ما يدفع من الخراج عليها لبيت المال.
وقد كانت الأراضي تختلف فيما بينها من حيث طرق الانتفاع بها و ما يؤدى عنها لبيت المال. فهناك الأرض الخراجية و الأرض العشرية و الأرض العامة وهي أرض الكلأو المروج، ثم الأرض الموات.و نقول كلمة في كل نوع منها.
أولا) الأرض الخراجية:
وقد رأينا أن سيدنا عمر (ر) قرر ترك الأراضي في البلاد المفتوحة في أيدي أهلها، و فرض عليهم الخراج. و الخراج قدر معلوم من النقود، يدفع عن كل وحدة قياسية من الأرض كالجريب. و قد يقدر الخراج بقدر معلوم من النقود و كمية من محصول الأرض. و قد عرفنا أن سيدنا عمر (ر) قد جعل الخراج على أرض السواد " قفيزا من حنطة أو قفيزا من شعير و درهما". فالخراج هنا يتكون من الدرهم و قفيز الحنطة أو الشعير. وفي رواية أخرى أن الخراج كان يقدر بمبلغ من النقود فقط هو عشرة دراهم لجريب الكرم، وخمسة دراهم لجريب السمسم و جريب القطن و ثلاثة دراهم لجريب الخضر من غلة الصيف.
ويمكن إدراج أرض الوقف في نوع الأراضي الخراجية، وقد عرفنا أن عمر (ر) وقف أرضا بخيبر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثانيا) الأرض المحمية:
وهي الأرض التي خصصها عمر (ر) لعامة المسلمين، بل لفقرائهم دون أغنيائهم. فقد أثر عنه أنه خصص "أرض الحمى" لرعي الماشية ، و أنه استعمل عليها مولى له يسمى هنيأ، و أوصاه بالرحمة بالناس، و أن يؤثر الفقراء على الأغنياء. فقد أمره أن لا يسمح لماشية عثمان بن عفان و عبد الرحمان بن عوف بالرعي في هذه الأرض؛ لغناهما و قدرتهما على كسب المال الكثير.
بل لقد أثر عنه (ر) أنه كان يتعاهد أرض الحمى بنفسه. فقد كان يذهب إليهما في نصف النهار واضعا ثوبه على رأسه، ليتقي حرارة الشمس المحرقة ليتأكد من أن أحدا لا يسيء استعمال حقه في الانتفاع بهذه الأرض المخصصة للرعي.
هذا ويجب عدم خلط بين هذا النوع من الأرض الذي تحميه الدولة و بين أرض المراعي و الكلأ. فإن الدولة تبيح الانتفاع بالأول للجميع، مع المحافظة على شجره و كلئه ليبقى صالحا للانتفاع بصفة دائمة. وهذا يشبه في وقتنا الحاضر الأموال العامة للدولة كالحدائق و الميادين و غيرها. أما أرض المراعي و الكلأ فإنها من المباحات للناس جميعا يستعملونها كيف شاءوا كما كان متعارف عليه في أراضي الجموع حاليا.
رابعا):الأرض الموات:
وهي الأرض التي ليست فيها عمارة طبيعية أو بجهد بشري، وفيها يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: " من أحيا أرضا مواتا ليست في يد مسلم و لا معاهد فهي له".
وقد عرفنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله قد وضع القاعدة في تمليك الأرض الموات لمن يحييها و لكن سيدنا عمر قد وضع شرطا هاما تقتضيه المصلحة العامة . وهذا الشرط يقضي بأن من يحجر أرضا، أي يحددها بحدود من الحجر، فلا يملكها إلا بإحياءها. وقد نفذ عمر ما قرره الرسول و قال في ذلك : " من عطل أرضا ثلاث سنين لم يعمرها فجاء غيره فعمرها فهي له". كما روى يحيى ابن آدم القرشي:" كان الناس يتحجرون على عهد عمر رضي الله عنه، فقال، من أحيا أرضا فهي له. قال يحيى: كأنه لم يجعلها له بالتحجير حتى يحييها".
وقد تشدد عمر في هذا الشرط كثيرا، كعادته في التمسك بالحق و لو كان ذلك ضد صحابي جليل من صحابة رسول الله (ص). فقد أقطع الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله أحدهم "أرضا طويلة عريضة"، لم يقدر على إحياءها أو زرعها كلها، فلما ولي عمر الخلافة أرغمه على ترك ما لم يستطع زراعته ووزعه على المسلمين.
كما اشترط عمر أيضا لجواز إقطاع الأرض ألا ينشأ عنه ضرر لأحد المسلمين، و ألا تكون الأرض مما فرض عليه الخراج، لأنها تكون في هذه الحالة في يد شخص من أهل البلاد المفتوحة و هو ملزم بدفع خراجها،زرعها أم لم يزرعها. فقد طلب رجل من البصرة يقال له نافع أبو عبد الله من عمر (ر) أن يقطعه قطعة أرض بالبصرة و حدد موقعها. فكتب عمر (ر) إلى أبي موسى واليه على البصرة قائلا له:"إن كانت ليست تضر بأحد من المسلمين، وليست من أرض الخراج فأقطعه إياها".
القواعد التي وضعها عمر (ر) في الأرض و الماء
المظاهر التي ذكرناها لاهتمام عمر بإصلاح الأراضي و الشروط التي وضعها لها تعتبر قواعد عامة في إصلاح الأراضي ونضيف إليها:
أولا) الأرض الخراجية نوعان: أرض صلح و أرض عنوة:
و الأرض الخراجية التي أخذت عنوة أي لم يسلم أهلها إلا بعد قتال تظل دائما أرضا خراجية، سواء أسلم أهلها أو انتقل استغلالها لآخرين فقد "جاء رجل إلى عمر بن الخطاب(ر) فقال: إني قد أسلمت فضع عن أرضي الخراج، قال: لا، إن أرضك أخذت عنوة".
و بذلك فأرض الخراج التي أخذت عنوة لا تتغير حالتها بإسلام صاحبها او باستبداله بمستغل آخر ولو كان مسلما. وقد روي عن رسول الله (ص) أنه قال:" من أقر بالخراج بعد أن أنقذه الله عز و جل منه، فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين". وهذا يدل على أن المسلم إذا استغل أرض الخراج فإنه يلتزم بدفع الخراج، مع أن المسلم لا يلتزم إلا بالعشر . وسنرى أثر ذلك في الفقه الإسلامي.
و الرواة على أن "السواد كان بعضه عنوة وكان بعضه صلح"، أما أرض الحيرة فكانت صلحا و لذا جاز شراؤها. وكان عمر (ر) لا يرى بأسا بشراء أرض الصلح.
ملكية الاراضي في البلاد المفتوحة في عهد عمر (ر) و تطورها بعده
ملكية الأراضي المفتوحة عنوة في عهد عمر (ر) كانت لبيت المال
- رواية قاطعة المعنى، وروايات عامة المعنى:
الروايات و العبارات المأثورة عن سيدنا عمر (ر) في ملكية الاراضي المفتوحة عنوة في عهده، تنقسم إلى قسمين، أولهما روايات وعبارات واضحة ذات أحكام قاطعة في أن ملكية هذه الأراضي للمسلمين عامة. أي لبيت المال، بينما القسم الثاني ورد عام المعنى، يمكن أن يدل على هذا المعنى الأول، كما يمكن أن يدل أن ملكية هذه الأرض لم تكن لبيت المال، بل كانت لأصحاب هذه الأراضي الأصليين، من أهل البلاد المفتوحة. فلنتتبع هذه الروايات.
- أولا "وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها، وأضع عليهم فيها الخراج":
وقد وردت هذه العبارة، ذات الحكم القاطع على لسان سيدنا عمر(ر) في خطبته التي ألقاها أمام لجنة التحكيم التي كونها "من عشرة من الأنصار، خمسة من الأوس، وخمسة من الخزرج من كبرائهم و أشرافهم". وقد علل عمر(ر) رأيه في حبس الأرض و تقرير الخراج عليها . و الجزية على الرءوس أن تكون الأرض و الخراج و الجزية " فيئا للمسلمين المقاتلة و الذرية، ولمن يأتي بعدهم".
ولذلك رأى بعض الفقهاء أن الأراضي المفتوحة عنوة، تحبس أو توقف على مصالح المسلمين.
ثانيا - "دعها حتى تغزو منها حبل الحبلة":
وقد وردت هذه العبارة في كتاب سيدنا عمر (ر) إلى عمرو بن العاص، الذي سأله عما يفعل بأرض مصر بعد فتحها. وقد شرحها أبو عبيد قائلا: "أراه أراد أن تكون فيئا موقوفا للمسلمين ما تناسلوا يرثه قرن عن قرن فتكون قوة لهم على عدوهم".
ثالثا - "المسلمون أهل الأرض":
والرواية تقول: " اشترى عتبة بن فرقد أرضا من ارض الخراج، ثم أتى عمر رضي الله عنه فأخبره. فقال: ممن اشتريتها؟ قال: من أهلها. قال: فهؤلاء أهلها-للمسلمين- أبعتموه شيئا: قالوا: لا، قال: فاذهب فاطلب مالك حيث وضعته".
ومن الواضح أن عتبة كان يعتقد أن المنتفعين بالأرض من أهل العراق الأصليين هم ملاك الأراضي الخراجية، فاشترى منهم. ولكن سيدنا عمر قد اعتبر بكل صراحة ووضوح، كبقا لهذه الرواية الصحيحة، أن ملكية هذه الأراضي الخراجية للمسلمين. وليست لأهلها قبل الفتح. وذلك يعني أنه ليس لهؤلاء إلا حق الانتفاع بالأرض في مقابل دفع الخراج. أما ملكية الأرض فللمسلمين، أي لبيت المال.
يناقش الإمام باقر الصدر في كتابه "اقتصادنا " قضية بعض الاجتهادات التي سوغت تملك الأرض الخراجية فيقول:"لقد فهم بعض الفقهاء الحنابلة و بعض الحنفية من إجراءات الخليفة الثاني بأن " أرض السواد ملك لأهله" كما جاء في كتاب الأموال لأبي عبيد، لأنه حين رده عليهم عمر، صارت لهم رقاب الأرض، وتعين حق المسلمين في الخراج، فالملكية العامة تعلقت بالخراج، لا برقبة الأرض. والحقيقة غير ذلك ، مبدأ الملكية العامة طبقه عمر على رقبة الأرض، ولم يكن ترك الأرض لأهلها اعترافا منه بحق الملكية الخاصة، وإنما دفعها إليهم مزارعة أو إجارة ليعملوا في أراضي المسلمين و يتنفعوا بها نظير خراج يقدمونه إليهم.
و الدليل عما جاء في كتاب الأموال لابي عبيد، من أن عتبة بن فرقد اشترى أرضا على شاطئ الفرات، فذكر ذلك لعمر فقال: ممن اشتريتها؟ فقال: من أربابها، فلما اجتمع المهاجرون والأنصار عند عمر قال: هؤلاء أهلها، فهل اشتريت منهم شيئا؟ فقال:لا، قال عمر: فارددها على من اشتريتها منه وخذ مالك.
وعن أبي عون الثقفي في كتاب الأموال كذلك، أنه قال: أسلم دهقان على عهد علي كرم الله وجهه فقال له: " أما أنت فلا جزية عليك، و أما أرضك فلنا".
وفي صحيح البخاري عن عبد الله قال:" أعطى النبي صلى الله عليه وسلم خيبرا لليهود أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها" وهذا الحديث يدل على حكم الملكية العامة الصادر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر، بوصفها أرض العنوة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان قد قسم الأرض بين المحاربين خاصة، على أساس مبدأ الملكية الخاصة كما جاء في بعض الروايات بدلا عن تطبيق الملكية العامة، لما دخل مع اليهود في عقد مزارعة بوصفه حاكما.
ملكية الأراضي في الفقه الإسلامي
- القواعد العامة في ملكية الأرض استقرت منذ عهد عمر (رضي الله عنه):
بعد دراستنا لنظام ملكية الأراضي في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم و عمر بن الخطاب رضي الله عنه، نستطيع أن نؤكد ان القواعد العامة في ملكية الأراضي في الإسلام قد حددت و استقرت قبل وفاة عمر رضي الله عنه.
نتعرف في إيجاز على نظام ملكية الأراضي في الفقه الإسلامي، بإثبات القواعد العامة، ونقتصر حتى لا تتشعب بنا المسائل، على المذهب المالكي المعتمد في بلاد المغرب العربي و المذهب الجعفري الذي يقترب منه.
أولها في: ملكية الأراضي في الفقه الأسلامي.
وثانيها في : إحياء الأرض الموات في الفقه الإسلامي.
ملكية الأراضي في البلاد المفتوحة
- أولا) في المذهب المالكي:
أرض العنوة فيء للمسلمين يوقف عليهم و أرض الصلح لأهلها:
يقول الإمام مالك: " و أما أهل العنوة الذين أخذوا عنوة فمن أسلم منهم فإن أرضه و ماله للمسلمين، لأن أهل العنوة قد غلبوا على بلادهم و صارت فيئا للمسلمين. و أما أهل الصلح فإنهم قد منعوا أموالهم و أنفسهم حين صالحوا عليها فليس عليهم إلا ما صالحوا عليه".
فالإمام مالك يرى أن الأراضي الزراعية في البلاد التي فتحت عنوة " كمصر و الشام و العراق" تصير " وقفا بمجرد الاستيلاء عليها"، ولذلك فهو لا يجيز للإمام إقطاع المعمور من الأرض ملكا، ولكنه يجيز له إقطاعها "إمتاعا" فقط، أي ما نسميه الآن حق الانتفاع، مع الاحتفاظ بحق ملكية الرقبة لبيت مال المسلمين.
و أما أراضي البلاد التي فتحت صلحا فهي لأهلها، "فليس للإمام أن يقطع معمورها و لا مواتها ملكا و لا إمتاعا".
و لذلك يقول ابن رشد في حكم " ما افتتح المسلمون من الأرض عنوة"، قال مالك: " لا تقسم الأرض، وتكون وقفا يصرف خراجها في مصالح المسلمين من أرزاق المقاتلة، وبناء القناطر و المساجد، و غير ذلك من سبل الخير".
- ثانيا) في الفقه الشيعي "الجعفري":
الأرض المفتوحة عنوة توقف على المسلمين، و أرض الصلح لأهلها:
يقول الفقيه جعفر بن الحسن الحلي في حديثه( في أحكام الأرضين) : " كل أرض فتحت عنوة و كانت محياة فهي للمسلمين قاطبة، و الغانمون في الجملة، و النظر فيها إلى الإمام، و لا يملكها للتصرف على الخصوص، ولا يصح بيعها و لا هبتها و لا وقفها، ويصرف الإمام حاصلها في المصالح، مثل سد الثغور و معونة الغزاة و بناء القناطر".
وعلى ذلك فهذا الفقيه يأخذ برأي عمر رضي الله عنه من أن الأرض في البلاد المفتوحة عنوة ملكا عاما للمسلمين قاطبة، و لا توزع على المجاهدين الذين فتحوا هذا البلد. وهو يعطي للإمام سلطة محدودة بحيث لا يستطيع التصرف في هذه الأرض بأي نوع من التصرفات، وهو لا يملك إلا صرف الحاصل من هذه الأرض وهو خراجها في مصالح المسلمين.
ثم يقول هذا الفقيه أيضا: " وكل أرض فتحت صلحا فهي لأربابها، وعليهم ما صالحهم الإمام، وهذه تملك على الخصوص، وصح بثعها و التصرف فيها بجميع أنواع التصرف.. هذا إذا صولحوا على أن الأرض لهم، أما إضا صولحوا على أن الأرض للمسلمين و لهم السكنى، وعلى أعناقهم الجزية كان حكما حكم الأرض المفتوحة عنوة، عامرها للمسلمين و مواتها للإمام.
وجاء في رواية عن الحلبي قال: سئل الإمام جعفر الصادق عن السواد ما منزلته فقال: "هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم، ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم، ولمن لم يخلق بعد. فقلنا: الشراء من الدهاقين؟ فقال: لا يصلح إلا أن يشترى منهم على أن يصيرها للمسلمين. فإدا شاء ولي الأمر أن يأخذها أخذها. فقلنا فإن أخذها منه، قال: يرد إليه رأس ماله، وله ما أكل من غلتها بما عمل". وأرض السواد هي الجزء العامر من أراضي العراق التي فتحها المسلمون في حرب جهادية، وإنما أطلق عليهم المسلمون هذا الإسم، لأنهم حين خرجوا من صحرائهم القاحلة في جزيرة العرب جهادا في سبيل الله، ظهرت لهم خضرة الزرع و الاشجار في أراضي العراق المسقية بدجلة و الفرات، فسموا خضرة العراق سوادا، لأنهم كانوا يجمعون بين الخضرة و السواد في الإسم. وأرض الخراج مصطلح فقهي يطلق على هذه الأراضي الخاضعة لحكم الملكية العامة التي يدعها ولي الأمر في يد القادرين على استثمارها، ويتقاضى منهم أجرة على الأرض، على قدر طاقتهمن النصف، أو الثلث أو أقل أو أكثر من ذلك مقابل انتفاعهم بها.
الإمام باقر الصدر ترجم هذه القواعد الثابتة بلسان العصر في قوله: " إن كل أرض تضم إلى دار الإسلام بالجهاد، وهي عامرة بجهود بشرية سابقة على الفتح، تطبق عليها الأحكام الشرعية الآتية :
- أولا: تكون ملكا عاما للأمة، ولا يباح لأي فرد تملكها و الاختصاص بها ؛
- ثانيا: يعتبر لكل مسلم حق في الأرض بوصفه جزءا من الأمة، ولا يتلقى نصيب اقربائه بالوراثة ؛
- ثالثا: لا يجوز للأفراد إجراء عقد على نفس الأرض من بيع و هبة و معاوضة و تمليك و نحوها ؛
- رابعا: يعتبر ولي الأمر وهو المسؤول عن رعاية الأرض و استثمارها و فرض الخراج عليها عند تسليمها للمزارعين ؛
- خامسا: الخراج الذي يدفعه المزارع إلى ولي الأمر، يتبع الأرض في نوع الملكية، فهو ملك للأمة كالأرض نفسها ؛
- سادسا: تنقطع صلة المستأجر بالأرض عند انتهاء مدة الإجارة، ولا يجوز له احتكار الأرض بعد ذلك ؛
- سابعا : إن الأرض الخراجية إذا زال العمران عنها و اصبحت مواتا لا تخرج عن وصفها ملكا عاما، ولا يجوز للفرد تملكها عن طريق إحيائها و إعادة عمرانها من جديد ؛
- ثامنا: يعتبر عمران الأرض حال الفتح الإسلامي بجهود أصحابها السابقين شرطا أساسيا للملكية العامة، و الأحكام الآنفة الذكر، فإذا لم تكن معمورة بجهد بشري معين لا يحكم عليها بهذه الأحكام".
وأهم استنتاج لهذا الحكم، أن الأراضي الخراجية لا تورث، إنما تنقل إلى من يحسن عمارتها و من يراه ولي الأمر أحق بها بمقابل.
وهذا الحكم يمنع تفتت الأرض عبر الأحقاب بين أجيال الورثة إلى مستوى استحالة استثمارها إن هي نزلت إلى الحدود التي لا يمكن أن تسد رمق أهلها فأحرى أن يجلب منها خراجا. وهي الحال التي يتخبط فيها عالمنع القروي في زماننا هذا بعد قرون من انتقاض عروة حكم الأرض الشرعي، مباشرة بعد انتقاض عروة الخلافة على منهاج النبوة وسريان حكم الاستيلاء و الغلبة و الجبر.
إحياء الأرض الموات في الفقه الإسلامي
رأينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد شجع الناس على إصلاح الاراضي و زراعتها، ووضع القاعدة العامة في أن"من أحيا أرضا ميتة فهي له". وأن عمر رضي الله عنه قد سار في نفس الطريق الإصلاحي الذي سنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وتشددفي تنفيذ الشرط الذي يقضي بأنه "ليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين".
وقد سار الفقهاء المسلمون القدامى و المحدثون جميعا، على اختلاف مذاهبهم و آراءهم في الطريق القويم الذي خطه الرسول صلى الله عليه وسلم وتابعه فيه عمر رضي الله عنه.
- أولا) في المذهب المالكي:
لا يعتبر الإمام مالك الأرض الموات إلا "في الصحاري و البراري،وهو ما يصنفه اليوم علماء البيئة في المناخ القاحل الصحراوي ( bioclimat aride et saharien ) وأما ما قرب من العمران و ما يتشاح الناس فيه، فإن ذلك لا يكون له أن يحيه إلا بقطيعة من الإمام". وذلك لأن الإمام مالك لا يتطلب في الإحياء إذن الإمام، مادام ذلك بعيدا عن العمران. أما ماقرب من العمران فلا يجوز إحياؤه إلا بإذن الإمام. و الإحياء عند مالك يكون "بشق العيون، وحفر الآبار و غرس الشجر وبناء البنيان و الحرث فإذا فعل شيئا من ذلك فقد أحياها".
وقد جاء في المدونة : " قلت: أرأيت مالكا هل كان يعرف هذا الذي يتحجر الأرض أنه يترك ثلاث سنين فإن أحياها وإلا فهي لمن أحياها(قال): ما سمعت من مالك في التحجير شيئا، وإنما الإحياء عند مالك ما وصفت لك"
ويبدو من ظاهر النص ان الإمام مالكا لم يأخذ بالحديث المروى في التحجير، ولكن الواقع أنه لا خلاف بين الرأيين. فقد اشترط الحديث أن يتم إحياء الأرض في خلال ثلاث سنين من تحجيرها. ومالك لا يعتبر الإحياء إلا بأحد الأمور التي ذكرها من شق العيون و ما أشبه، فلا تملك الأرض إلا إذا حدث فعلا أحد هذه الأمور، والنتيجة العملية لذلك هي نفس النتيجة التي أرادها الحديث.
وبما يؤيد ما فهمناه قول مالك: " ولو أن رجلا أحيا أرضا مواتا، ثم أسلمها بعد حتى تهدمت آبارها، وهلكت أشجارها، وطال زمانها حتى عفت بحال ما وصفت لك، وصارت إلى حالها الأول، ثم أحياها آخر بعده كانت لمن أحياها بمنزلة الذي أحياها أول مرة".
وهذا الحكم يتفق مع ما فهمناه من رأي عمر رضي الله عنه من أن تعطيل الأرض بدون زرع ثلاث سنين يسقط ملكيتها عن المحتجر.
- ثانيا) إحياء الأرض الموات في المذهب الشيعي الجعفري:
يعرف المحقق الحلي الموات بأنه " الذي لا ينتفع به لعطلته، إما لانقطاع الماء أو لاستيلاء الماء عليه أو لاستجمامه، أو عير ذلك من موانع الانتفاع، فهو للإمام عليه السلام، لا يملكه أحد و إن أحياه ما لم يأذن له الإمام.
و يشترط هذا الفقيه للتملك بالإحياء خمسة شروط:
الأول: - ألا تكون الأرض مملوكة لمسلم.
الثاني: - ألا تكون " حريما للعامر، كالطريق و الشرب وحريم البئر" و ما أشبه.
الثالث: - ألا تكون " مشعرا للعباد، كعرفة ومنى والمشعر".
الرابع: - ألا تكون مما أقطعه الإمام و لو كانت " مواتا خاليا من التحجير".
الخامس: - ألا يكون قد سبقه "سابق بالتحجير، فأن التحجير يفيد الأولوية"، ولكنه لا يفيد الملك. فمن اقتصر على التحجير و أهمل العمارة يخيره الإمام بين أمرين: إما الإحياء و إما التخلية بينها و بين غيره و لو امتنع أخرجها السلطان من يده لئلا يعطلها. وهكذا يأخذ هذا الفقيه برأي عمر رضي الله عنه في إرغام المحتجر على الإحياء أو استرداد الأرض منه، ولكننه لم يحدد للإحياء وقتا كما جاء في الحديث وفعل عمر (ر) من تحديد ثلاث سنوات.
فقيه جليل معاصر من فقهاء آل البيت، باقر الصدر، يقول في الأرض الميتة حال الفتح :
" وإذا لم تكن الأرض عامرة حين دخولها في الإسلام لا بشريا ولا طبيعيا، فهي ملك للإمام، وهذا ما يصطلح عليه اليوم بملكية الدولة و الدليل الشرعي على ملكية الدولة للأراضي الميتة حين الفتح: أنها من الأنفال كما جاء في الحديث، والأنفال عبارة عن مجموعة من الثروات التي حكمت الشريعة بملكية الدولة لها في قوله تعالى: "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله وللرسول ...الآية "
وورد في الخبر عن علي كرم الله وجهه أنه قال: "إن للقائم بأمور المسلمين الأنفال " مصير هذه الأراضي الميتة حال الفتح تكون بيد ولي الأمر طبقا لما ورد في الحديث: " ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه" وقد استدل أبو حنيفة بهذا الحديث على أن الموات لا يجوز إحياؤها و الاختصاص بها دون إذن الإمام".
- ثالثا) في المذهب الحنفي:
يعرف أبو يوسف الأرض الموات بأنها الأرض التي لم يمكن فيها "أثر بناء و لا زرع، ولم تكن فيئا لاهل القرية، ولا مسرحا و لا موضع مقبرة و لا موضع محتطبهم و لا موضع مرعى دوابهم و اغنامهم، وليست بملك لأاحد، ولا في يد أحد".
- رابعا) في المذهب الشافعي:
يقسم الإمام الشافعي أرض الموات إلى نوعين، الأول: الموات الذي "قد كان عامرا لاهل معروفين في الإسلام، ثم ذهبت عمارته فصار مواتا لا عمارة فيه، فذلك لأهله كالعامر، لا يملكه أحدا أبدا إلا عن أهله، وكذلك مرافقه و طريقه و أفنيته و مسايل مائه و مشاربه". و أما النوع الثاني فهو "ما لم يملكه أحد في الإسلام يعرف، ولا عمارة ملك في الجاهلية، أو لم يملك، فذلك الموات الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحيا مواتا فهو له".
- خامسا) في المذهب الحنبلي:
يقول ابن قدامة : " الموات هو الأرض الخراب الدارسة"، ويضيف الشرح الكبير: " التي لا يعلم أنها ملكت". ويقسم الفقهاء الحنابلة الأرض الموات إلى قسمين رءيسيين:
القسم الأول : " ما لم يجر عليه ملك لأحد، ولم يوجد فيه أثر عمارة، فهذا يملك بالإحياء بغير خلاف".
أما القسم الثاني: فهو "ما جرى عليه ملك مالك"، وهو ينقسم إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ماله مالك معين و هو ضربان:
الأول: ما ملك بشراء أو عطية فهذا لا يملك بالإحياء بغير خلاف.
والضرب الثاني : ما ملك بالإحياء ثم ترك حتى دثر و عاد مواتا فهو كالذي قبله، أي لا يملك بالإحياء لأنه يعتبر مملوكا لمن أحياه أولا.
و النوع الثاني : الأرض التي " يوجد فيها آثار ملك قديم جاهلي كآثار الرومان ومساكن ثمود و نحوهم، فهذا يملك بالإحياء، لأن ذلك الملك لا حرمة له. وقد روى عن طاووس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عادى الأرض لله و لرسوله ثم هو بعد لكم".
و أما النوع الثالث فهو " ما جرى عليه الملك في الإسلام، لمسلم أو ذمي غير معين، فظاهر كلام الخرقي أنها لا تملك بالإحياء". وذلك استنادا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : "من أحيا أرضا مواتا في غير حق مسلم فهي له".
ويطبق فقهاء المذهب الحنبلي الأحكام السابقة على الأرض الموات " سواء في دار الحرب و دار السلام لعموم الأخبار".
كما لا يفرقون " بين المسلم و الذمي في الإحياء" لعموم قول النبي " من أحيا أرضا ميتة فهي له".
ولكنهم لا يجيزون إحياء " ما قرب من العامر و تعلق بمصالحه من طرق و مسيل مائه و مطرح قمامته و ملقى ترابه و آلاته بغير خلاف في المذهب و كذلك ما تعلق بمسالح القرية، كفنائها و مرعى ماشيتها و محتطبها و طرقها و سيل مائها" و كذلك حرم البئر و النهر و العين وكل مملوك لا يجوز إحياء ما تعلق بمصالحه.
ويعتمد فقهاء المذهب الحنبلي في تحديد القرب و البعد عن العامر على العرف.
وهم يأخذون برأي عمر رضي الله عنه في التحجير. فيقولون : "و إن تحجر مواتا وهو أن يشرع في إحياءه مثل إن أدار حول الأرض ترابا أو أحجارا أو حاطها بحائط صغير لم يملكها بذلك لأن الملك بالإحياء وليس هذا إحياء".
- خامسا) إحياء الأرض الموات في المذهب الظاهري:
يقول ابن ححزم : " كل أرض لا مالك لها ولا يعرف أنها عمرت في الإسلام فهي لمن سبق إليها و أحياها، سواء بإذن الإمام فعل ذلك أو بغيرإذنه،لا إذن في ذلك للإمام ولا للأمير ولو أنه بين الدور في الأمصار، ولا لأحد أن يحمي شيئا من الأرض عمن سبق إليها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ونعتقد أن ابن حزم قد بالغ كثيرا في إجازته الإحياء " بين الدور في الأمصار" بغير إذن الإمام و الأمير، ومع تقديرنا البالغ لآراء ابن حزم الجريئة و تحرره و عدم تمسكه بآراء من سبقه من كبار الفقهاء إلا أن إجازة الإحياء بين الجور في الأمصار و لو استندت إلى مطلق تقرير الرسول صلى الله عليه وسلم للتملك بالإحياء. قد تنشأ عنها مشاكل كثيرة. إلا أن بعض روايات الحديث تشترط لتملك الأرض بالإحياء أن تكون "في غير حق مسلم" ومن الجائز أن توجد "بين الدور في الأمصار" أرض ميتة، ولكن الغالب غير ذلك وحتى إذا وجدت مثل هذه الأرض فالغالب أيضا أن يكون قد سبق إحياؤها ثم تركت. وابن حزم تمشيا مع رأيه في التملك بمجرد الإحياء و محافظته على الحقوق الفردية. يقول : " وأما ما ملك يوما بإحياء أو بغيره، ثم دثر و اشفر حتى عاد كأول حاله فهو ملك لمن كان له لا يجوز لأحد تملكه بالإحياء أبدا فإن جهل أصحابه فالنظر فيه إلى الإمام و لا يملك إلا بإذنه.
وهذا الحكم المنطقي المعقول يجب العمل به لا في داخل الأمصار بل و فيما قرب من العامر بصفة عامة كما يرى الكثير من الفقهاء.
ولذلك يبدو أن ابن حزم كان قاسيا في نقده لرأي الإمام مالك الذي يرى أن " ما يتشاح الناس فيه مما يقرب من العمران فإنه لا يكون لأحد إلا بقطيعة الإمام" و ما كان يجوز له أن يقول: " و أما قول مالك فظاهر الفساد، لأنه قسم تقسيما لا نعلمه عن أحد قبله و لا جاء به قرآن و لا سنة و لا رواية سقيمة و لا قياس". وذلك لأن رأي الإمام مالك يقوم على أساس عملي وواقعي، ويهدف إلى منع حصول المشاحنات بين الناس.
هذا و ليس الإمام مالك هو الذي أوجد التفرقة بين ما يقرب من العامر و ما يبعد عنه، ولكن هذه التفرقة أوجدها الإمام أبو حنيفة كما سبق أن ذكرنا.
وإحياء الأرض الموات عند ابن حزم " هو قلع مافيها من عشب أو شجر أو نبات بنية الإحياء لا بنية أخذ العشب و الاحتطاب فقط أو جلب ماء إليها من نهر أو من عين، أو حفر بئر فيها لسقيها منه، أو حرثها أو غرسها، أو تزبيلها أو ما يقوم مقام التزبيل من نقل تراب إليها أو رماد، أو قلع حجارة، أو جرد تراب ملح عن وجهها حتى يمكن بذلك حرثها أو غرسها أو أن يحتفظ عليها بحظير للبناء" و يكاد ابن حزم بهذا التعداد المفصل أن يكون قد استقصى في بعض ما أحصى، كل ما يمكن عمله لتعرية الأرض لا لإحيائها، لذا نعترف أن النظريات الحديثة في علوم البيئة ترجح رأي مالك على رأي ابن حزم.
الفصل الرابع: في سبيل تدبير مستدام للأراضي
سبل الحد من تدهور الأراضي:
تدهور إنتاجية الأراضي في المغرب بسبب الوضع القائم للهياكل العقارية، عرف أخيرا تسارعا لامثيل له، رغم بعض النصوص التشريعية التي ولدت موؤودة التطبيق في عالم قروي يكتظ بقاطنيه الذين أصبح معظمهم في عداد العاطلين.
آفاق إصلاح عقاري شامل يمكن تصور خطوطه العريضة عبر نهجين لا ثالث لهما، إذا ما راعينا ما سبقت له الإشارة: النهج الأول، نهج الفوضى العقارية المشجعة، النهج الثاني، نهج القومة الزراعية المنظمة.
النهج الأول يترك عناصر الفوضى العقارية الحالية تتصارع وتتدافع فيما بينها إلى الحدود التي يتعطل فيها الإنتاج، فيضطر الناس للهجرة إلى المدن. فإن كان هناك نهوض بالقطاعات الاقتصادية الأخرى لامتصاص التزييف البشري، تمت الطفرة، والتحقنا بالنموذج التنموي الغربي الذي خفف الضغط على المجال القروي إلى الحدود المتلائمة مع شروط التنمية المستدامة كما في أوربا وأمريكا ، حيث نسبة السكان في البادية لا تتجاوز 5 % ، بعدما تم توفير مناصب شغل منتج فعال للنازحين من البادية. لكن إن لم يتوفر شرط النهوض بالقطاعات الاقتصادية الأخرى، فإن التدافع سينتقل كذلك إلى المدن، ليفضي إلى وضع اجتماعي متأزم، ينذر بالانفجار، تبعا لقوله تعالى:(( ولولى دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)). هذا الاحتمال الأخير هو المرتقب لأن النهوض بالقطاعات الأخرى لم يتم إلى يومنا، حتى التخطيط المحكم له، تحت حكم التقنوقراطية المراعية لمصالح الغرب، التي تقوم على مبدأ منع كل تكامل اقتصادي عربي و إسلامي.
النهج الثاني: نهج القومة الزراعية المنظمة، التي تدعو للرجوع إلى الأوضاع الأصلية الشرعية، ودراسة العقود المثلى التي تحدد نوع علاقة الفلاح بالأرض و شروط استغلالها، في المجال الذي ترك لنا الشرع فيه خيار الاجتهادات المناسبة للعصر. فبعد تحديد نقطة بداية تعتمد على الحكمة الوضعية ومبدأ الحد الأدنى المعاشي لمساحة الضيعات الذي يوفر الكفاية للأسر، مع احترام شروط التنمية المستدامة المراعية لمصالح الأجيال المقبلة، يشرع في إصلاح شامل للهياكل العقارية ، وإعادة توزيع الأراضي بعد مراجعة نظام علاقة الفلاح بالأرض، في إطار الحكم الشرعي للأراضي.
تأصيل أحكام الأرض:
في مجال تأصيل الأحكام العامة للأراضي الفلاحية و الرعوية و الغابوية و الميتة، نكون بحاجة إلى معلومات تاريخية واسعة عن الأراضي، ومدى عمرانها، لنستطيع أن نميز على ضوئها ما كان منها عامرا و قت الفتح عن غيرها من الأراضي الميتة أو الغابات و المراعي العامرة طبيعيا.
هذا لتحديد الشرعية الأصلية و أنواع الملكية السارية بعد أن استقرت الأوضاع وقت الفتوحات الأولى التي حضرها الصحابة و التابعين رضوان الله عليهم جميعا.
هذه الأحكام الأصلية و إن لم يبق لها أي وجود في زماننا بعد أن توالت عمليات التنازع والتداول على الأرض عبر الأجيال بين عرب و عجم، مستضعفين و مستكبرين، لا بد للمشرعين من معرفتها، لتكون لهم منبعا ومنارا لسن الأحكام العادلة و رد المظالم لأهلها و رفع تراكمات الجبر و القهر. وقد لا يحتاج المشرع المسلم للرجوع إلى أشكال التسلط الغابرة الناقضة لعرى الأحكام الشرعية الأولى التي طبقت على الأرض بعد أن دانت كل الأقاليم لحكم الإسلام . فلربما سنكتفي في مرحلة أولى بالتعرف على أشكالها الأخيرة.
أشكال التسلط الأخيرة ظهرت بوادرها في بداية القرن عندما لجأ الغزاة الفرنسيون و الإسبان بعد إبرام عقد الحماية لتغيير أحكام الشرع و استبدالها بقوانين تسوغ لهم الاستيلاء على الأراضي قهرا، وتبيح لهم تفويتها لصنائعهم من الأجانب والمقيمين الذين ساهموا في مهام إخضاع المسلمين لحكم النصارى.
و المسألة التي تفرض علينا الرجوع إلى الأحكام الشرعية الأصلية، تتعلق بأنواع الملكية التي ينبغي تطبيقها على الأراضي بعد نزع ملكيتها من يد المتسلطين الأواخر : صنائع الاستعمار و صنائع عصر اللائيكية المناوئين للدولة الإسلامية.
هذه الأحكام الشرعية الأصلية منها ما يجد سنده في ثوابت الكتاب و السنة، ومنها ما هو مستنبط من اجتهاد فقهاء الإسلام الأوائل، ومنها ما هو قابل للاجتهاد في إطار فقه المرسلات. و الأحكام الاجتهادية في تعددها تتيح لنا مجالا واسعا لانتقاء ما يناسب الزمان و المكان بعد ترجيح يسوغه العامل التقني الإيكولوجي أو العامل الاجتماعي الاقتصادي أو العامل السياسي.
عندما يثبت الشارع أن الأراضي الفلاحية في المغرب تخضع لحكم شرعي أصيل و هو حكم الوقف الذي قرره الإمام مالك بالنسبة للأراضي المفتوحة عنوة، الذي يمنع تملك رقبة الأرض والذي يقرر ترك الأرض في يد أصحابها بعد إبرام عقد يحدد شروط الإستغلال، سيطرح سؤال من هم أصحابها؟
أهم سكان المغرب الأوائل وهم الأمازيغ قبل مجيء عرب الفتح في القرن الأول الهجري، وعرب بني هلال و بني سليم الذين نزحوا عبر مصر من الجزيرة العربية أيام الفاطميين؟ ثم إذا رجعنا إلى التاريخ و حددنا بدقة الحالة التي كانت عليها الأرض أيام الفتح و الكيفية التي دخلت بها إلى دار الإسلام و تم تقرير حكمها الشرعي النظري، سيطرح السؤال المتعلق بكيفية إنزال هذا الحكم النظري على أرضية الواقع الذي تتشابك خيوطه في شتى الميادين :
- الحالة العقارية الراهنة للأراضي وعلاقتها بالتراكمات التشريعية عبر العصور؛
- واقع الاختلاط العميق الذي حدث بين السكان عربهم و عجمهم؛
- القوانين العقارية المختلفة التي أحدثت خلال فترة الاحتلال الأجنبي للبلاد؛
- الإقطاعات الشاسعة التي كافأ بها المحتلون صنائعهم في عهد الاحتلال؛
- الإقطاعات التي ظهرت في عهد الاستقلال وحكم اللائييكية.
قبل تقرير أي حكم في ما سكت عنه الشرع و تركه الاجتهاد، ينبغي التعرف على ما يمكن به ترجيح كفة هذا الرأي أو ذاك.
الوسائل الترجيحية يمكن اختيارها كذلك استنادا إلى ما جد في التجربة البشرية عبر العالم ، إذ الحكمة ضالة المسلم يأخذها أنا وجدها.
فمثلا المعسكر الشيوعي نبذ الملكية الجماعية للأراضي الفلاحية لعدم تجاوبها مع الفطرة لكنه لم يعثر حتى الآن على أي صيغة ملائمة تجعله في مأمن من استجداء أقواته من المعسكر اللبرالي.
تجربة الملكية الخاصة المتبعة في بلادنا نتج عنها تفتيت الأراضي عبر أجيال الورثة إلى الحدود التي كاد أن يتعطل فيها أي نمط من أنماط الإنتاج. تجربة ضم الأراضي و إخضاعها لشروط استغلال معينة، وهي عملية شاقة و مكلفة، لا تكاد تجدي شيئا تحت حكم قانون الإرث و تحت واقع ازدياد السكان في البادية، وعدم قدرة المجال الطبيعي القروي استيعاب كل حاجيات السكان من المساحات الفلاحية القابلة للاستغلال المجدي اقتصاديا. تجربة الإصلاح الزراعي التي اعتمدت على توزيع بعض الأراضي المسترجعة من المحتلين الأجانب والتي كان باعثها الإيديولوجي المرجعية اليسارية، توقفت مع انهيار المعسكر الاشتراكي. واستبدل اسم "وزارة الفلاحة و الأصلاح الزراعي" بإسم " وزارة الفلاحة و الإستثمار الفلاحي" إبرازا و تأكيدا للإرادة السياسية الجديدة في توقيف كل سياسة عقارية تتعلق بتوزيع الأراضي المسترجعة على صغار الفلاحين في إطار ما كان يعرف بتعاونيات الاصلاح الزراعي. بينما شرع في سياسة تفويت أراضي الدولة و تمليكها أو كرائها، اعتمادا على العامل السياسي، الساعي لتوسيع قاعدة صنائع عصر اللائيكية و سدنته [1] . وتتجه بعض الأطماع حاليا إلى العقارات الشاسعة التي تقع تحت ملك الجماعات السلالية و أراضي الأوقاف و أراضي الجيش و غيرها من الأراضي التي لا تمتلك رقبتها حسب أصلها العقاري الشرعي، تنادي بتمليكها ملكية خاصة حسب قوانين الملكية الخاصة التي صاغتها المحافظة العقارية و نسبتها افتراءا أو جهلا إلى الشريعة وهو ادعاء فيه كثير من المغالطات وعدم فهم أحكام الأرض الأصيلة، لا غير. فمعلوم أن الملكية الخاصة لرقبة الأرض لا تكون إلا في الأراضي الميتة بعد عملية الأحياء كما ناقشنا في موضوع الأراضي الميتة. لقد أطلقوا حكم الملكية الخاصة كما هو الحال في القوانين الوضعية الأجنبية و أدعوا أنها مستقاة من الشرع بمجرد إخضاعها لأحكام الإرث. و الشريعة بريئة من توريث ما لا يجوز امتلاك رقبته، و هو حكم معظم الأراضي الفلاحية و المراعي و الغابات في المغرب كما أسلفنا. هذا الحكم هو أصل الوضعية العقارية قبيل احتلال البلاد من طرف النصارى الذين تحيروا عندما وقفوا على شساعة أراضي الجموع و أملاك الدولة و الملك الغابوي، و هي في الأصل منتجعات و مراعي لماشية القبائل ، شركة عامة بين الناس أجمعين. وتحيروا أيضا عند معاينة الأملاك المحبسة على المساجد و الجامعات و المدارس العلمية. ومع مرور الأحقاب تقلصت مساحات هذه الأملاك العامة أو الموقوفة، بعد اقتطاع المحتلين منها ما يعرف ب"ضيعات الاحتلال الرسمي" و "ضيعات الاحتلال الخاص ". و بعد استرجاع هذه الأراضي، لم ترجع إلى أصولها الشرعية الأولى لأن هذه الأصول عفا رسمها باندثار باعثها الإسلامي بعد استباب الأمر لحكم اللادينية. فكان منها ما ذهب اقطاعات لذوي النفوذ و كان منها ما دخل تحت حوزة الشركات الفلاحية الشبه عمومية و منها ما وزع في إطار تعاونيات الإصلاح الزراعي.
و إذا كان تفتت الأراضي تحت أحكام الإرث من المساوئ القاتلة لنظام الملكية الخاصة غير المقيدة المتبع حاليا، فإن المشكلة يمكن معالجتها و تقليص حجمها الطاغي حاليا بالنظر لعدة عوامل :
- الملكية الخاصة لا تكتسب شرعا إلا بعد عملية إحياء الأراضي الميتة التي تخضع بدورها لمواصفات فات أن تعرفنا عليها.
- الأراضي التي يمكن اعتبارها ميتة لا توجد إلا تحت المناخ الجاف والصحراوي bioclimat aride et saharien لأن ما يوجد منها تحت الأنواع المناخية الأخرى ينتج ثروة طبيعية غابوية أو رعوية تنزع عنها طابع الموات (climats semi-aride, sub-humide et humide) .
- الأراضي الفلاحية المستغلة حاليا في المناطق المطرية تحت نظام الملكية الخاصة ينبغي اعتبارها حسب المذهب المالكي وقفا ، لايجوز تملك رقبتها لأنها أرض العنوة.
حينئذ يمكن اختيار وضعية جديدة لعلاقة الفلاح بأرضه بعيدا عن مساوئ التفتيت القاتل للانتاجية الذي يتولد عن نظام الملكية الخاصة بحكم الإرث، وبعيدا أيضا عن نظام الملكية الشيوعية التي تناقض الفطرة و التي نبذتها التجربة البشرية.
تنزيل الأحكام الأصلية والصيغة التعاقدية للعلاقة بالأرض
فهو إذن الرجوع إلى الصيغة التعاقدية بين مالك الأرض الحقيقي، وهم عامة المسلمين، وبين من تركت في يده، القابل لشروط العقد، استنادا لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود خبير، واستنادا لاجتهاد عمر رضي الله عنه في أرض سواد العراق، واستنادا لمقتضيات فقه الإمام مالك.
تنزيل هذه الأحكام الشرعية سيكون معتمدا كذلك على معرفة الحالة العقارية الراهنة للرقعة الجغرافية القطرية التي تبلغ مساحتها الإجمالية 71 مليون هكتار:
- نصف هذه المساحة (31,8 مليون هكتار ) يمكن تصنيفه تحت نوع الأراضي الميتة لأنها تتميز بمناخها الصحراوي. إحياء هذه الأراضي بالشروط المتقدمة يكسب المحيي حقوقا خاصة مفصلة في موضوع الأراضي الميتة.
- المراعي الخاضعة حاليا لقانون أراضي الجموع أو مراعي الجماعات السلالية تقدر مساحتها بعشرين مليون هكتار، لا تزال في معظمها شركة عامة لكن بين أفراد الجماعة السلالية فقط، وتحت وصاية وزارة الداخلية، وتحوم حولها الأطماع لتمليكها لما يسمى بذوي الحقوق، مع غموض المصطلح بالنسبة لهذه الحقوق وبالنسبة لمصدرها. وحكم الملكية العامة لها هو من آكد الواجبات للحد من تعريتها بالمحراث. واستغلالها يكون في الإطار التعقدي، وأهم شروط العقد هو الخضوع لقواعد الاستغلال المستدام التي تطرق لها البحث في شقه التقني.
- الملك الغابوي ( بما فيه مروج الحلفا ) بمساحة تسعة ملايين هكتار. ملكه العام ينبغي تحصينه من الأطماع، وتدبيره يجب أن يخضع للقواعد المحترمة للتدبير العلمي المتعارف عليه في علوم تدبير الثروات الغابوية.
- الأراضي القابلة للزراعة: 9,2 مليون هكتار وهي حسب حكمها العقاري أنواع مختلفة ذكرها في الفصول المتقدمة.
سن الأحكام التطبيقية للشرع بالنسبة للأصناف الثلاثة الأولى، سوف لن يشكل أية عقبة إذا ساد الوعي بضرورة التعلق بالحكم الشرعي لكل صنف منها، خاصة ما يتعلق بعدم جواز تملك رقبة ما الناس فيه شركاء.
و دروس الماضي كفيلة بالدفع في هذا الإتجاه والتعلق بهذا الحكم: فلقد ظن الناس جهلا غداة استقلال القطر، أن زوال حكم النصارى يبيح لهم الاستيلاء على ما كان يتصرف فيه " البركادي بوغابة" فعمدوا إلى اقتلاع أشجار الغابة و مروج الحلفا و طوعوا المراعي المنحدرة. و ما هي إلا سنوات معدودة بعد اغتصاب هذه الأراضي، وولوج سكة المحراث فيها حتى انجرفت تربتها مع المياه أو ذرتها الرياح فتركتها صلدا، قاعا صفصفا، خاوية على عروشها، وهو ما تحير فيه التقنوقراطيون الحاليون و أطلقوا عليه ظاهرة التصحر. و استمرت هذه الاغتصابات، ووقفت شخصيا على بعضها في ناحية " بني مطهر" ولاحظت سهولة علاجها بالاعتماد على الحلول الشرعية التي سرعان ما يجتمع الناس عليها و يلتزمون بها و يرتاحون لعدلها. فلقد كان الناس يعمدون لنزع الحلفا في الهضاب الشرقية العليا، ويحجرون الأرض، ويزرعونها بالشعير خاصة بعيد الاستقلال. و بلغت احصائيات المساحات التي تتعرض للتلف ما يقدر بثمانية ألف هكتار في السنة في مجموع إقليم وجدة (دراسة اعتمدت صور الاستشعار عن بعد بالطائرة) بعد عملية حرث هذه الأراضي، وبعد هبوب عواصف الخريف ينقلب النهار ليلا في المنطقة، ثم تهدأ العاصفة ليكتشف الناس فداحة الخسارة: تربة غنية تكونت عبر ملايين السنين من ذبال جذور الحلفا، وقوة إمساكها لها، ذهبت أدراج الرياح في أول أو ثاني سنة من حرثها. و بشهادة السكان بعد اقتناعهم أن المراعي لا يجوز تحجيرها و حرثها لأن الناس شركاء كلهم فيها، اعترفوا أنهم يتحسرون على زمن مضى كانت فيه قطعان الغزلان، وحمر الوحش وكذلك قطعان البقر، تكاد يخفيها نبات الحلفا الممتد في الآفاق.
نفس الكوارث تلاحقت بعد الاستقلال في المناطق الجبلية، خاصة منطقة جبال الريف التي قام فيها السكان بإحراق غابات الأرز و البلوط لتوسيع رقع حرث و غرس القنب الهندي المخدر.
نرجع إلى الصنف الأخير من أنواع الأراضي حسب مؤهلاتها، و هو صنف الأراضي الزراعية الذي تبلغ مساحته كما رأينا 9,2 مليون هكتار. هذا الصنف يمثل نسبة %13 من مساحة القطر الإجمالية، وهو في توسع مستمر على حساب المساحات العامرة طبيعيا: كالغابات و المراعي. ينبغي التدرج في الرجوع إلى حكمها الخراجي بعد تحديد الأحكام الفرعية المتروكة لاجتهاد خبراء الفقه المالكي وخبراء التدبير المستدام للثروات الطبيعية. خاصة في المسائل التالية:
- مسائل تتعلق بتعيين المستغل وبشروط الاستغلال:
هل هو المستفيد الحالي؟ أم مستفيد آخر للتداول على الأرض، يحدد عن طريق سمسرة للكراء، أو في إطار تعاونيات أو شركات تعمل بشروط يحددها كناش التحملات لمنع تفتت الأرض..؟
- مسائل تتعلق بتحديد الخراج (الضريبة):
أنكتفي بالدرهم الرمزي للتعبير عن المواطنة ووفاء بالحق الشرعي الأدنى؟ أم تحدد مبالغ تصاعدية لتشجيع الإصلاحات العقارية المقررة من لدن السلطة السياسية الراشدة ؟ مثلا لتشجيع تجميع الضيعات المفتتة وضمها لتستغل في إطار تعاونيات أو شركات تحترم الحدود الدنيا والعليا لمساحة المستغلات، كي لا تكون الأرض محتكرة بين الأغنياء في جانب، وكي لا تضيع الإنتاجية من جراء التفتت في جانب آخر؟ أم تحدد مبالغ مدروسة للخراج لتشجيع سياسة ما للتنمية القروية، كخيار التمويل الذاتي للصناعات المحلية، لتخفيف الضغط على الأرض وعلى المجال الطبيعي قصد الحد من عومل التصحر والإفساد البيئي؟
وسائل أخرى للتدبير المستدام
عشر هذه الأراضي المحروثة يسقى بصفة دائمة بعد اعتماد سياسة محمودة : سياسة بناء السدود. إلا أن مجهود إيصال هذه المياه إلى الأراضي القابلة للسقي كان دون المستوى نظرا لعوامل شتى ، منها غياب باعث العدل في توزيع المياه بين المناطق، من تخمة بعض الدوائر السقوية لدرجة ظهور مشاكل حقيقية لصرف المياه الفائضة عن حاجات الأرض، إلى عوز بعض المناطق البورية التي لا تتوفر لها حتى الكمية الربيعية الضامنة لمحصول السنة. ومنها كذلك مشكل اتباع بعض التقنيات المكلفة لم يتم استبدالها بتقنيات حديثة مكنت مثلا لتقنيي الجزيرة العربية من سقي مساحة مماثلة للمساحة المسقية في المغرب في مدة خمس سنوات فقط، بدل أربعين سنة و أكثر، المدة المستغرقة في بلادنا. و منها كذلك تفشي ظواهر التبذير التي تطغى في تدبير مشاريع الدوائر السقوية، وما تستهلكه مكاتب الدراسات المحلية و الأجنبية من أموال لانتاج دراسات يمكن الاستغناء عنها بالنظر لما جد في عالم تقنيات السقي الحديثة. هذه الأموال التي يحصل عليها بسهولة بعض الأطر كقروض من الأبناك الخارجية تضمنها الدولة بعد امتثال هذا الإطار أو ذاك لشروط تمس بسيادة البلاد، زيادة على إثقال كاهلها بما يمكن الاستغناء عنه. و منها كذلك فكرة إمكانية الاستغناء عن المكاتب الجهوية للاستثمار الفلاحي، و تعويضها بمكاتب شبيهة بمكاتب الماء الصالح للشرب، تنتهي مهمتها بإيصال الماء إلى الضيعات و كفى، وما تبقى من أشغال يتحمله المستغل باعتماد ما بدأ ينتشر دون أن يكون للمصالح التقنية أي تدخل فيه أو تشجيع له، من تجهيزات بسيطة كأنابيب البلاستيك و أدوات الري المركز و الري المكمل لحاجيات المحاصيل عند قبض االمطر ( Irrigation d'appoint ) إلى غير ذلك من مواضيع التدبير المستدام الحديث.
والله ولي التوفيق، وهو يهدي الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، و سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
المراجع:
القرآن الكريم.
الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم، صحيح مسلم، دار المعرفة، بيروت لبنان.
القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، كتاب الخراج، المطبعة السلفية، مصر.
أبو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، مطبعة الحلبي، مصر.
محمد عبد الجواد محمد، 1982. ملكية الأراضي في الإسلام، منشأة المعارف بالأسكندرية، مصر.
الإمام محمد أبو زهرة، أصول الفقه، دار الفكر العربي، مصر.
محمد باقر الصدر، 1980 اقتصادنا، دار الكتاب اللبناني، بيروت لبنان.
وزارة الفلاحة والإصلاح الزراعي- الإحصاء الفلاحى العام لسنة 1974
التشريع الغابوي 1917 (وزارة المياه والغابات)
قانون الاستثمار الفلاحي 1969 (وزارة الفلاحة)
نقل من دروس ألقاها الكاتب في معاهد تكوين المهندسين(المعهد الزراعي بالرباط، المدرسة الفلاحية
مكناس، مدرسة المهندسين الغابويين بسلا) .
[1] ومما يروى في هذا الصدد أن ضيعة من الضيعات عرضت على بعض دعاة العدل في بعض الأحزاب الوطنية فرفضها حفاظا على نظافة يده، وسمعة حزبه، لكن الضيعة صارت لا ندري كيف إلى حوزة زوجه.