البدائل التنموية في العالم القروي
الرؤية والحوافز والضوابط
محمد المهدي الحسني
الفهرس
الاستراتيجيات والسياسات الراهنة ما لها وما عليها: 5
هاجس الأمن الغذائي الذي لم يتحقق: 6
استيراد وسائل التجهيز و تكريس العجز التجاري: 9
اقتصاد فلاحي يسير على وثيرتين: 10
ترقيعات الاستراتيجية الأخيرة: استراتيجية 2000-2020. 10
التنمية والإنتاج : الدعائم والمطالب والوسائل: 12
إعادة تأهيل ضوابط الشريعة في الإنتاج: 14
مسائل و فضاءات الاجتهاد للعصر. 18
اجتهادات لإحياء مؤسسات أصيلة. 19
ماذا تعنى خصخصة المياه في المغرب؟. 20
سياسة خاصة بالمناطق الجبلية: 21
مسألة تمويل القطاع الفلاحي والبحري.. 22
العدل في تطبيق قوانين الطبيعة ( اكتساب المهارة في تسخير وسائل التقانة) 23
الكفاءة في التنظيم والتسيير( البحث العلمي – تحديث الفلاحة - استعمال الطاقات البشرية) 25
ونحن مع الحكمة الوضعية التي تدعو لوسائل تقنية وتنظيمية لا محيد عنها: 25
التصنيع الفلاحي واستغلال التكنولوجيا المتطورة: 26
تجاوزات وأخطار الاستهلاك الشره 27
ضوابط التربية الغذائية الفردية. 27
ضروريات إعداد القوة الإنتاجية القاصدة 28
بسم الله الرحمن الرحيم
البدائل التنموية في العالم القروي:
الرؤية والحوافز والضوابط:
من التوصيات المشبوهة التي تمليها المؤسسات المصرفية الدولية على البلدان الفقيرة، حث المسؤولين على الاستعانة بخبرائه لوضع استراتيجية لمحاربة الفقر في بلدانهم. وهي مكيدة تمكن الغرب المهيمن على الحفاظ على مصالحه الحيوية والتخطيط لتكريس فلكية اقتصادياتنا واندماجها في النموذج الغربي.
حظيت الزراعة المغربية بالأولوية منذ فجر الاستقلال السياسي من خلال برامج بناء السدود، و التهيئة العقارية، و التمويل، و الهيكلة لتشجيع الرأسمالية الزراعية الموجهة نحو الصادرات و المندمجة في النظام العالمي.
إلا أن الاستثمارات الضخمة الموظفة في القطاع الفلاحي خلال العقود الثلاثة الماضية، لم ينتج عنها ذلك التطور المنشود في الإنتاج الذي يهدف لتحقيق الأمن الغذائي و الاكتفاء الذاتي من المواد الاستراتيجية و الأساسية، و الحد من نزيف العملة الصعبة الذي تحدثه الواردات من هذه المواد الغذائية و واردات التجهيز المتمثلة في الجرارات و آلات الحصاد و مضخات إلى غير ذلك من المواد المصنعة في الخارج.
ميزانية الدولة الموجهة إلى الزراعة و الري تراوحت بين 20 بالمئة و 37 بالمئة من مجموع النفقات في مختلف مخططات التنمية ابتداءا من 1961 إلى 1976، و بين 10 إاى 15 منذ 1976. مبلغها السنوي تضاعف 8 مرات بين 1965 و 1985. و قد هبطت كما أوردنا هذه النسبة لما لوحظت هزالة النتائج التي سجلها القطاع، ونهجت الحكومات الأخيرة توجهات سياسية أخرى.
الاستثمارات كانت موجهة خاصة للمناطق المروية، مستهدفة فئة من الفلاحين القادرين على تسديد مستحقات التهيئة، التي غالبا ما تكون مكلفة بسبب التبذير الذي يميزها، و ضعف التقنيات المستعملة فيها.
و تتدخل الدولة في توفير القروض الخارجية اللازمة لإنجاز الأشغال الكبرى المرتبطة ببناء السدود و القيام باستصلاح بعض المناطق، كما أنها تساهم في نصيب كبير من الإنتاج الزراعي عن طريق الشركات التابعة لها.
رغم ضخامة الاستثمارات في القطاع الفلاحي، خاصة في الدوائر المروية، يبقى الإنتاج الزراعي في المغرب خاضعا للتقلبات المناخية و حساسا تجاه الظروف والعوامل الطبيعية المختلفة. فالإنتاج الزراعي ،حسب المالكي، "لم يتطور بين 1981 و 1985 إلا بنسبة واحدة بالمئة سنويا، وهذا المعدل منخفظ جدا بالمقارنة مع النمو الديمغرافي. و نسجل أيضا أن إنتاج الحبوب في نهاية هذه الفترة قد انخفض إلى 29 مليون قنطار سنة 1992، بعد أن كان 85 مليون قنطار في 1991. وقد أصيب المغرب سنة 1995 بموجة من الجفاف مما حتم على الدولة رفع الواردات الغذائية. وقد وجه الملك نداءا رسميا إلى الشعب بهذه المناسبة كي يساعد القرويين المتضررين في وثبة تضامنية. "
و هنا نطرح السؤال البديهي المشروع: ما جدوى سياسة السدود إذا كانت لا تحقق السقية أو السقيتين الحساستين المكملتين لري الأمطار الموسمية، قصد ضمان الكفاية من المواد الاستراتيجية و الأساسية؟
نعم، حسب بعض الدراسات ، " لقد تطور الإنتاج على العموم بين 1963 و 1991-1992 على شكل أسنان المنشار المتصاعدة. وهكذا فقد انتقل الإنتاج السنوي المتوسط للحبوب من 34 مليون قنطار خلال الستينات إلى أكثر من 85 مليون قنطار في عامي 1991 و 1992. أما إنتاج الحوامض فقد تضاعف أكثر من مرتين في ثلاثين سنة. و التطورات الأكثر أهمية سجلت في إنتاج الشمندر السكري الذي تضاعف 12 مرة و في إنتاج القصب السكري المتضاعف ب 126 مرة خلال العقود الثلاثة الأخيرة ". لكن هذا التطور لا يرقى إلى التطلعات المرسومة في خطط التنمية التي كانت أصلا متواضعة بالنسبة للإمكانات الطبيعية التي يحظى بها المغرب. والقطاع السكري الذي شهد هذا النجاح هو الآن بصدد إعادة هيكلته بسبب تراجع المساحات المخصصة له، نظرا لعدة عوامل، منها عامل سوء أداء معامل السكر.
نقط الضعف تتجلى كذلك في ميدان تربية البقر و الغنم الذي اتسم بالركود خلال العقدين الأخيرين بمتوسط سنوي يقدر ب 17 مليون رأس. و عرفت منتوجات الحليب ارتفاعا طفيفا خلال الفترة المدروسة لكنها لم تستطع مواجهة الحاجيات المتزايدة للمستهلكين. المنتوج الذي تطور بسرعة مهمة هو التربية الصناعية للدجاج، التي بلغت نسبة نموها 6 في المئة، حيث قفز الإنتاج من 29000 طن عام 1970 إلى 160000 طن عام 1997 ، ومن 400 مليون بيضة إلى مليار ونصف في نفس المدة. وليس للدولة استثمار يذكر في هذا المجال الذي قامت به فئة من الخواص بدءا من الإنتاج وانتهاء بالذبح والترييش. الأخطار المحدقة بهذا النشاط الحيوي هو محاولة تقنينه لصالح الذين يحاولون احتكار حق الذبح والترييش تحت ذريعة الأمن الصحي للمواطنين.
المراعي والغابات تتعايش هي كذلك مع شبح التصحر وتدهور البيئة حيث تقدر المساحات التي تفقد غطاءها النباتي بما يقرب من ثلاثين ألف هكتار في السنة.
أما قطاع الصيد البحري، فمؤشرات النكسة واضحة بالنسبة للمنتوج الذي تدحرج من إلى ، وبالنسبة للتصنيع الذي ، وكذلك بالنسبة لمجال التشغيل. السبب الرئيسي يرجع للنهب المقنن الذي يسمح به للأساطيل الأجنبية.
مؤشرات الأزمة في قطاع الفلاحة تتجلى كذلك في:
- تراجع طاقة التشغيل في القطاع الفلاحي الذي يشغل حاليا 45 بالمئة من السكان النشيطين بدل 56 بالمئة في 1960؛
- انخفاظ القيمة المضافة للزراعة من 30 بالمئة من الناتج الداخلي الخام في السبعينات ، إلى 15 بالمئة في موسم 1992-1993.
- معدل النمو السنوي المتوسط للقيمة المضافة الزراعية (التي تغطي المنتوجات الموجهة إلى السوق الداخلية أو للتصدير) كان يبلغ 3,9 بين 1961 و 1970 و 1,1 بالمئة بين 1970 و 1980، و 2,6 بالمئة بين 1980 و 1992.
و من مؤشرات التخلف كذلك انعدام التضامن بين الزراعة التقليدية المفتتة العاجزة المكبلة بقيود الديون الربوية ، وبين الزراعة العصرية الغنية المرتبطة هيكليا بالخارج. هذه الزراعة العصرية التي تتعامل بموارد مالية داخلية و خارجية كبيرة، و تنعم بالعفو الجبائي، ولا تؤدي الحق المعلوم للسائل والمحروم، تجدها تسارع في التوسل بالأجانب لحل مشاكل تسويق منتوجاتها، عوض أن تلتفت تجاه الشعب لتلبية حاجاته. التوسل بالأجانب يتخذ أشكالا مفجعة تذكرنا بزمن العار و قابلية الاستعمار في بداية هذا القرن. من هذه الفواجع كراء بعض الأراضي التي تسر الناظرين خصوبتها لبعض الصهاينة وبعض الصليبيين الذين لا يجدون أي حرج في غرسها بالكروم المنتجة للخمور، ربما تأسيا بشركات الدولة: أكبر منتج لها في هذا البلد المسلم. وقد تجد من يشعر بالحنين لزمن الاستعمار و يطعن في ظهير استرجاع الأراضي المغتصبة ( قانون 2 مارس 1973 ). فتحت عنون "المطالبة بعودة الحماية" كتب أحد المحامين[1]: " إن صدور قانون 2 مارس 1973 قد ترتبت عنه عدة قضايا: أولا إن استرجاع الدولة لهذه الممتلكات هو بمثابة طرد لهؤلاء الأجانب المقيمين بالمغرب، وهذا خطأ سياسي في علاقات المغرب مع الحكومات التي ينتمي لها هؤلاء الأجانب في الوقت الذي يعيش آلاف المواطنين المغاربة في البلاد الأجنبية والتي كان من الممكن أن تنهج نفس الأسلوب انتقاما . ثانيا: إن هذا الاسترجاع هو مساس بحق الملكية ولو تعلق الأمر بأجنبي." ... مرافعة لو وردت في زمانها لتبدلت هوية هذا البلد المسلم بتناسل شريحة واسعة من الغاصبين الصليبيين ، و لكنا قاب قوسين أو أدنى من الطرد من وطننا كما طرد المسلمون من الأندلس يوم أمس. فما أجرأ هذا المحامي الفاضل على كلمة باطل يرجى بها باطل.
السياسة الزراعية المتبعة أثمرت إذن عجزا في إنتاج الزراعات المعيشية الاستراتيجية (الحبوب والبقول)، والمنتوجات الغذائية الأساسية ( اللحوم الحمراء، مشتقات الحليب، الزيوت). و كرست التبعية للوسطاء الأجانب لعلاج مشاكل صادرات الفلاحة العصرية ( الحمضيات، الطماطم، البطاطس...)، في زمن إجراءات الحماية التي وضعتها السوق الأوروبية المشتركة. وغد يأتيك بأخبار كيد العولمة من لم تزود.
الزراعة الموجهة إلى التصدير تعتمد على مجموعة من المنتجات الساعية للربح الآني على حساب الأجيال، كلفتها باهظة بالنظر لما تخلف من عوامل الإفساد للبيئة و التبذير لمواردها الطبيعية . فهي مستهلكة لكميات كبيرة من مياه السقي، (سقي الهكتار الواحد منها يعادل سقي 5 هكتارات بواسطة السقي المركز أو السقي المكمل) ، وتحتاج لتربة خصبة، و تستهلك أسمدة ومبيدات كيماوية لا ننتجها بل تستنزف عملتنا الصعبة، و تجعل منا بلدا يستهلك أحيانا سموما محرمة في أغلب الأقطار.
الزراعة الموجهة إلى التصدير تستهلك كذلك تمويلات ومعونات الدولة، و تكبل البلد بقيود الديون والقروض الخارجية، سواء من أجل التجهيز (السدود، أشغال تهيئة الدوائر المسقية ...إلخ) أو الاستثمار (الأدوات الزراعية و البيوت البلاستيكية و التجهيزات المستوردة المتنوعة ... إلخ). هذا زيادة على إعفائها من أداء حتى الدرهم الرمزي في سبيل التكافل الاجتماعي عن طريق الزكاة أو الضرائب.
خيار الزراعة الموجهة إلى التصدير كان من أهم مبرراته جلب العملة الصعبة للبلد، وقد صعب فعلا جلبها، لأن جل السلع المصدرة تفتح أبواب تهريب الثروة الوطنية، التي ساهمت في تكوينها الأجيال الحاضرة والمقبلة، المطلوبة بتسديد الديون مضاعفة بتبعات الربا المتفاحش.
ولقد كره المزارع الأوروبي هذه السلع الرخيصة بسبب ما حشي فيها من إعانات الدولة المرئية وغير المرئية، حتى قيل أن المواطن المغربي يتبرع بنصف ثمن ما يبيع لنظيره الأوروبي.وهذا ما أدى إلى إجراءات الحماية التي وضعتها السوق الأوروبية المشتركة، و بالتالي، تداعي حجم الصادرات التي تداعت من 59 في المئة من الصادرات العامة لسنة 1970، إلى 26 في المئة سنة 1992، و 20؟ في المئة سنة 1994.
اتجاه هذه الصادرات نحو الانخفاض، و التي بقيت تمثل رغم ذلك 30 بالمئة من الصادرات الإجمالية خلال الثمانينات و 26 بالمئة منها في بداية التسعينات، هذا الإتجاه يعود سببه أصلا إلىانضمام بعض الأقطار المتوسطية الأوروبية إلى السوق الأوروبية خلال الثمانينات.
وقد زاد هذا التراجع وتكرس في مفاوضات الشراكة بين المغرب و الاتحاد الأوروبي. هذه الشراكة اتسمت بالطابع الغير المتكافئ للعلاقات الاقتصادية للطرفين، فمن جهة يقف 18 بلد "ذات اقتصاد معقد و متقدم ومميز بالتعاضد بين القطاعات و المناطق الاقتصادية، و هو اقتصاد رفيع الأداء" كما يصفه فتح الله ولعلو ، ومن جهة أخرى يقف المغرب فردا تنتابه مشاعر الغربة، و هو البلد النامي"الذي يملك اقتصادا مفككا ترتبط فيه جل القطاعات العصرية بالخارج إيرادا وتصديرا للمواد الأولية أو المصنعة". ولا يسمح لبلدان المغرب العربي بأي تنسيق، بل يأتون فرادى متنافسين أيهم يكسب فتاتا زائدا على حساب الآخر,,,
و كل المؤشرات تعلن أن الأمر سيستفحل والتبعية ستتكرس أكثر فأكثر في زمن العولمة الذي سيفاجئ من يهمهم الأمر ويداهمهم على حين غفلة منهم في غياب شبه كامل للدراسات المستقبلية لهذا الأمر.
و قد أصبحت خيبة أمل الصادرات الفلاحية هيكلية بفعل ميزان القوى التي هي في صالح الاتحاد الأوروبي بصورة دائمة، وهو ما ساهم في تحطيم الاقتصاد المغربي و إضعافه رغم الخيار الأيديولوجي الرأسمالي و الليبرالي، ورغم اندماج الفلاحة و الاقتصاد المغربي مع الاقتصاد الرأسمالي العالمي، ورغم تداخل المصالح الاقتصادية للطبقة الحاكمة مع مصالح الدول الأوروبية.
و نظرا لإعراض هذا النموذج الاستعماري عن الحاجيات الاستهلاكية الداخلية، ظهرت معضلة ارتفاع الواردات الغذائية، وتظافرت مع معضلة انخفاض الصادرات الزراعية بفعل العراقيل الخارجية، مما أدى للعجز الهيكلي للميزان التجاري و تفاقم الديون الخارجية.
إعادة النظر في توجهات السياسة الفلاحية أفصح عنها منذ الخطتين الخمسيتين (1973-1977) و (1981-1985) لإعطاء الأولوية لبعض المنتجات الأساسية كالسكر و الحليب و الزيوت. فبالنسبة للسكر، الاكتفاء الذاتي تمت برمجة تحقيقه لسنة 1984. لكن شتان ما بين التخطيط والأموال المرصودة للوفاء به وبين الإنجاز. إن الاكتفاء الذاتي لم يتحقق حسب الحبيب المالكي ، " إلا بنسبة 74 بالمئة، و بعد مرور 7 سنين على الموعد. وقد اضطر المغرب في نهاية هذه الفترة إلى استيراد مادة السكر لتغطية حاجياته" . و شهدت نهاية التسعينات عزوف المزارعين عن زراعة الشمندر، بعد رفع قانون إلزامهم بها، تبعا لمتطلبات تحرير التجارة الدولية.
بالنسبة لمادة الحليب، توقع المخططون الاكتفاء الذاتي في 1975سنة لكن رغم الاستثمارات المرصودة في هذا المجال فإن الاستهلاك الداخلي لم تتم تغطيته إلا بنسبة 60 بالمئة فقط خلال هذه المرحلة، حسب نفس المصدر. وقد تم الإعلان أخيرا عن بلوغ هدف الاكتفاء بنسبة مئة في المئة، لكن المسكوت عنه يبين حقيقة الأمر: ارتفاع الأسعار يجعل المواطن يهجر هذه المادة، وهذا ما يفسر وفرتها. المؤشر الذي ينبغي مراعاته هنا هو معدل استهلاك المغربي ( 37 كلغ سنويا للفرد )، ومقارنته مع المعدل الذي أوصت به منظمة الأغذية و الزراعة ( 87 كلغ ).
كما تم الإعلان عن مخطط آخر يتعلق بالمواد الزيتية، لكن نتائجه بدت ضعيفة و متواضعة ما دامت الحاجيات الرئيسية بعيدة عن التلبية إلا بنسبة 33 بالمئة خلال نهاية الثمانينات في وقت سيرتفع فيه استهلاك الزيت بنسبة 77 بالمئة، أي أنه سيصل إلى 460,000 طن في عام 2000 بدل ال 237,000 طن المسجلة حاليا.
البرنامج الاختياري للاكتفاء الذاتي الغذائي في مادة السكر و الحليب و المواد الزيتية لم ينجح كثيرا، باستثناء ما سجل بالنسبة إلى السكر الذي غطى إنتاجه سنة 1991 نحو ثلاثة أرباع الاستهلاك الداخلي.
وقد استمر الارتفاع المذهل لاستيراد هذه المنتوجات، بالإضافة إلى استيراد الحبوب و باقي المنتوجات الزراعية ذات الاستهلاك الواسع الموجه إلى تلبية الحاجيات، استمر في التأثير على الميزان التجاري، ما دامت الفاتورة الغذائية قد وصلت إلى 844 مليون دولار في 1991 و هو ما يعادل 14 بالمئة من مجموع الواردات.
و قد انتقل معامل التبعية الغذائية الممثل بعلاقة الاستيراد بالاستهلاك من حدود 18 بالمئة بين 1961 و 1971 إلى حدود 28 بالمئة خلال الفترة 1986 - 1988 ، حسب ما أورده عبد الحميد براهيمي، الوزير الأول الجزائري السابق في كتابه القيم " المغرب العربي على مفترق الطرق".
وفي الحقيقة، فإن تفاقم تبعية المغرب لم يقتصر على نمو الواردات الغذائية فقط، بل قام على نماذج أخرى من الواردات الناتج عن برنامج الاكتفاء الذاتي الغذائي، فمخططات السكر والحليب، قد تطلبت استيراد تجهيزات صناعية لإنشاء 17 مصنعا للسكر و 13 مصنعا للحليب، وكذلك استيراد آلاف البقر المنتج للحليب، و البذور الموجهة إلى نباتات السكر و زراعات الأعلاف (بذور الفصة و البرسيم و الذرة البيضاء...الخ). هذه التجهيزات الصناعية يبالغ في تقدير حجمها مما يجعلها تشتغل أحيانا تحت طاقتها الانتاجية. المستفيد الأول من التصنيع الفلاحي هي الجهة المصدرة لهذه المعامل (clef en main) زيادة على أن صيانتها كل خمس أو سبع سنوات يمثل في الحقيقة إعادة بناءها تقريبا. وهذا ما يجعلها تستهلك كل أرباحها في هذه التبعية التقنية للخارج.
خلاصة القول: لم يحالف التوفيق جل الإجراءات التصحيحية التي خططت لبلوغ أهداف الكفاية بالنسبة للمواد الإستراتيجية والأساسية ، ولم يتم أي دمج للزراعة المغربية التي لا زالت تسير على وثيرتين هما:
- زراعة متطورة متمركزة في المناطق الغنية تشجعها الدولة على المستوى المالي و الجبائي و على مستوى الأسعار و الاستثمارات و التجهيزات و هياكل التأطير الخاصة بالفروع المحظوظة، وتقوم هذه الزراعة على نشاطات إيرادية موجهة أساسا إلى التصدير.
- زراعة تقليدية مجزأة، (مستثمرات من هكتار إلى 5 هكتارات تمثل 70 بالمئة من المستثمرات ولا تغطي سوى 23 بالمئة من المساحة الزراعية الصالحة)، محرومة من الوسائل المالية و التقنية المناسبة و مميزة بالنقص الهيكلي و ضعف التأطير و ضعف دعم الدولة لها وعدم الاهتمام بالزراعات المعيشية.
وقد أدت هذه الوضعية إلى نمو الواردات الغذائية بفعل نمو الطلب السريع بالمقارنة مع نمو إنتاج الزراعة المعيشية الاستراتيجية.
لقد وكل للزراعة التقليدية النصيب الأفر من مهمة بلوغ الكفاية للمواد الإستراتيجية والأساسية، دون أي مؤازرة من القطاع العصري الذي ربما زاد من المساحات المنتجة للورود والخمور على حساب ما يستهلكه المواطنون. ولا يمكن للقطاع التقليدي حل الأزمة وحده لأنه غارق في مشاكل مستعصية نخص منها بالذكر: إشكالية الهياكل والقوانين العقارية و معضلة التمويل و المديونية و ضعف البحث الزراعي، و هذا ما ترتب عنه انخفاض انتاجية الهكتار مقارنة مع انتاجية نظيره في أوربا: الإنتاجية المحلية تتراوح بين 10 و 15 قنطار في الهكتار بينما تبلغ في أوربا 80 إلى 100 قنطار في الهكتار.
تهدف استراتيجية التنمية القروية الحالية لتحقيق سياسات معينة منها: 1. سياسة ماكرو– اقتصادية مواتية للتنمية الفلاحية و لإنعاش المناطق القروية؛ 2. سياسة من أجل نمو فلاحي فعال و تكثيف اليد العاملة؛ 3. سياسة لتدبير الموارد الطبيعية تنبني على "تسئيل" مستعمليها؛ 4. سياسة لدعم التشغيل القروي و محاربة الفقر؛ 5. سياسة لتنويع الأنشطة القروية في إطار إعداد التراب الوطني؛ 6. سياسة تستهدف تيسير استفادة الساكنة القروية من الخدمات الصحية و التعليمية و الاجتماعية.
مفاهيم مثل إنعاش، تكثيف اليد العاملة، تسئيل المستعملين، دعم، تنويع الأنشطة، تيسير الخدمات... تبقى فضفاضة لا تعني سوى إبقاء رأس العالم القروي التقليدي قليلا فوق الماء لئلا يختنق تماما...
الإطار المؤسساتي تم مقاربته من خلال عدة محاور: 1. ضرورة تقنين مهنة الفلاحة و كذلك مختلف المهن المرتبطة بها كما هو الشأن في ميادين أخرى؛ 2. دعم المؤسسات ذات الطابع المحلي بما فيها المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال التنمية الفلاحية و القروية؛ 3. خلق لجن جهوية للتنمية الفلاحية و القروية تأخذ بعين الاعتبار الخصائص المجالية و المحلية للعملية التنموية؛ 4. إعادة النظر في سياسة تمويل الفلاحة باتجاه سن مقاربة جديدة ترتكز على التمييزات حسب المنتوج و المجال و الوضعية الخاصة للاستغلاليات الفلاحية؛ 5. توفير موارد مالية كافية و خطط عمل تتلاءم و الإرادة السياسية الهادفة إلى تحقيق التنمية الفلاحية و القروية؛ 6. وضع ميثاق للتنمية الفلاحية و القروية يتجاوز مقتضيات قانون الاستثمار الفلاحي الحالي؛ 7. إبرام عقد اجتماعي بين الدولة و شراكئها كمشروع مشترك لتنمية الفلاحة و العالم القروي.
هذا الإطار المؤسساتي يهدف في الحقيقة للسيطرة على ما تبقى من الاقتصاد القروي الموازي من خلال جمعيات مشبوهة تنشر السلفات الربوية الصغرى، وتنشر ثقافة تحديد النسل في العالم القروي...
وبالنسبة للقطاع البحري، وإلى حدود بداية الألفية الثالثة لم تكن هناك أيضا رؤية أصيلة يعتمد عليها للنهوض بهذا القطاع الاستراتيجي. كانت فقط بعض الاتفاقيات الدولية التي تحاول اقتسام الثروات مع الغير مقابل أجر زهيد تافه، مما شجع الأساطيل الخارجية على النهب والاستغلال الفاحش. (اتفاقيات مع المجموعة الأوروبية: أهم الاتفاقيات على الإطلاق. لا متكافئة ولا متوازنة، تهدف إلى تشغيل 1000 بحار مغربي في السفن الأوروبية مع تحقيق عائد مالي يبلغ 500 مليون وحدة أوروبية - اتفاقيات مع روسيا: تهدف إلى تشغيل 639 بحار مغربي مع الاستفادة من 17.5% من الكميات المصطادة التي يجب أن تعود إلى المغرب - اتفاقيات مع اليابان: تخص الأسماك المهاجرة وهي تفيد المعرب من إنشاء قرى للصيد ومركز للبحث العلمي والتكوين ومنع الخبرة اليابانية.)
وعندما دفعت الأوساط المسؤولة لوضع سياسة وتخطيط استراتيجي للقطاع، انصاعت طوعا أو كرها لإملاءات المؤسسات البنكية الدولية.
الاستراتيجية التي سطرها أخيرا خبراء التخطيط الموظفون لدى الغرب بأبخس الأجور، يمكن تحسسها عبر النتائج الميدانية للمخططات الماضية والحاضرة. نتجت عنها قلاقل اجتماعية خطيرة، وذلك لوضوح رغبة الدولة في هدم مستقبلنا البحري وبسط سيطرة الغرب عليه، وتصميمها لزرع الفشل وتأسيس آلياته عبر:
1. تقزيم أسطول المسلمين والحد من ولوجهم البحر والتمرن عليه؛
2. إفشال كل مشروع جاد لبناء صناعة بحرية متحررة ولفتح أوراش كبرى مرتبطة بالبحر؛
3. تكريس الاعتماد الكلي على الغرب لشراء المعدات والتجهيزات البحرية؛
4. تجريد الأسطول من السلاح الدفاعي ومنع بناء أي قوة عسكرية بحرية؛
5. حرمان أبناء الشعب من جني خيرات البحر واعتماد سياسة منع ترخيص المراكب؛
6. تسمين الثروة السمكية والحفاظ عليها لتكون نهبا سهلا لأساطيل الغرب ولمن يقومون بحراستها لهم من شركائهم المحليين؛
7. زرع الخبراء الأجانب في مراكز البحث العلمي والدراسات الاستراتيجية والسيطرة عليها لتوجيهها نحو الفشل عبر تمويلات مشبوهة ورشاوي لمن لاعلم لهم بثوابت الهيمنة المسطرة في الاتفاقيات المجحفة.
من خلال الاستراتيجيات الإدارية تظهر بشكل بارز لا تستر عليه ثوابت المرجعية الفلكية، الخاضعة لإملاءات المؤسسات المصرفية الدولية. فلا تكاد تجد ذكرا لمسألة وسائل الإنتاج واحتكارها أو تعطيلها، ولا لمسألة الاعتماد على الذات ولا لمسألة التصنيع القروي والبحري، ولا لمسألة التمويل الحلال للاستثمار في العالم القروي ولا لمسألة توزيع الإنتاج على من ساهموا فيه ولا للمسألة الحقوقية التكافلية ولا للضمان الاجتماعي للقرويين وللقرويات... ولن تجد بالتأكيد أي ذكر للبواعث الإيمانية والضوابط الشرعية لمقاربة مشكل عوز الفئات العريضة من سكان البادية مقابل تخمة فئة قليلة من المحتكرين لوسائل الإنتاج.
إنها إذن ليست سوى استراتيجيات تمكن الدول الغنية التحكم في مرجعية وأهداف ووسائل تنميتنا. أهدافها الحقيقية ليس سوى: 1. ترسيخ البداوة في عيشنا، رغم مخاطر تصحر مجالنا القروي، لكي نبقى دوما سوقا مستهلكة لمنتوج صناعاتهم وزراعتهم؛ 2. تكريس الجفوة في أخلاقنا والتنافر في نسيجنا الاجتماعي، والقضاء على ما تبقى من أسس تضامننا ومرجعية تكافلنا؛ 3. صرفنا عن البناء الحقيقي الذي يعتمد على الطاقات و الإمكانات والقرارات الذاتية.
وهكذا زادت السياسات السابقة في حدة الفقر وفي تأزم الوضع الاقتصادي. ولم تكن سياسات التقويم سوى مسكنات للحصول على ضخات الأكسجين من الأبناك الخارجية، لأنه ليس من صالحهم خنق المسلوب. وهكذا رضخ القرار السياسي وبشكل كبير لإملاءات التجارة الحرة والتنافس اللامتكافئ بين اقتصاد غربي متمكن، مشكلته الإنتاجية المفرطة، واقتصاد محلي متعثر لا يوفر حتى الاكتفاء الذاتي رغم توفر الإمكانات الطبيعية.
الإستراتيجية المنشودة:
يبقى إذن موضوع التنمية القروية من المواضيع المبتذلة إن لم يكن الهاجس مقاربته مقاربة أصيلة توخي ما يلي :
· أولا تناول المسألة تناولا منهاجيا، تكون فيه أدوات التحليل و المعالجة، والتصور والرؤية للإنتاج والتوزيع والاستهلاك منطلقة وملتصقة بالمرجعية الإسلامية، التي تمكن من التعرف على ضلالات المقاربة اللاييكية المعتمدة حاليا من طرف الإدارة الفرنكويسارية المنصبة على رأس مؤسساتنا.
· ثانيا البحث عن وسائل التدافع الحضاري على وسائل الإنتاج وعوامله على الأرض والمياه والطاقة وما فوق وما تحت الأرض من ثروات.
نعالج دعائم التنمية الثلاث: "الإنسان-المال- وسائل الإنتاج"، من خلال موازين العدل بمعناه الشمولي: احترام قوانين الشريعة وقوانين الطبيعة في التدبير المستديم للتنمية. وعبر أسئلة مختلفة: التنمية لماذا ولمن ؟ ما هي دواعي التنمية؟ كيف تحرر الإرادات؟ كيف نحيي التكافل والتطوع وطاقاته الهائلة؟ كيف نتعامل مع التخريب وآلياته التي زرعها النظام الرأسمالي ؟ … ونناقش كذلك البديل المنشود في الركن الثاني في المثلث: المال والوسائل التمويلية التي هي عصب التنمية، ما هي التناقضات الذاتية للتمويل الربوي الرأسمالي؟ ما هو البديل المرغوب؟ ما المطلوب لتأسيسه؟ كيف نجمع طاقات الأمة المالية و العملية؟... أما مسألة وسائل الإنتاج وخاصة الأرض وهي الركن الثالث في مثلث التنمية، فلا بد لنا من إحياء الوسائل القانونية والشرعية التي تمكننا من التنافس والتدافع عليها تدافعا حضاريا يكفل لكل ذي حق حقه، كي لا تكون دولة بين الأغنياء منا قبيل وبعد بناء دولة الخلافة الثانية على منهاج النبوة.
شرط العدل، أم المصالح وصلب الدين، وبه بعث الله النبيئين والمرسلين. العدل الذي لا يمكن للتنمية أن تقوم بدونه، يقتضي الحكم بقوانين الله المنزلة وبسنة الرسول المجتبى صلى الله عليه وسلم، علما بأن قوانين الله مدبر أمر السماوات والأرض تشمل قوانينه الكونية وقوانينه الشرعية. التنمية الصحيحة لا يعقل أن تبنى إلا على مبادئه الأساسية، نذكر منها: مبدأ اعتماد الأصول الشرعية للقوانين المتعلقة بوسائل الإنتاج و المنظمة لكل المعاملات والمزارعات و استغلالات الثروات الطبيعية، مبدأ تأدية الحقوق الشرعية ورد المظالم لأهلها كحق الزكاة والخراج وغيرها من الحقوق، مبدأ تحرير القطاع من القروض الخارجية و التمويل الربوي الذي لا يعبأ بالحرب المعلنة عليه من الله ورسوله، مبدأ محاربة أعراف وعوائد التبذير والإسراف والإفساد في البر والبحر، المنافية للتدبير البيئي المستديم المراعي لقوانين الله الكونية ، مبدأ اعتماد شرطي القوة والأمانة لرعاية القطاع، ويدخل في هذا المجال كل ما يهم "للموارد البشرية" المكلفة بالتأطير والبحث و الخبرة والتكوين، والتي من المفروض أن تدفع عنا خطر الذيلية والتبعية، وتيسر لنا الاندماج الإيجابي في السوق العالمية، ثم المساهمة المتميزة في تطور البشرية .
فصل فقهاؤنا الأصوليون العباقرة كيف تُفسر التكاليف الشرعية، على مراتبها، بِعِلَّةِ ضمان مصلحة العباد لكي تضمَن الضروريَّ من حفظ الدين والنفس والنسل والعرض والمال، ولكي توسِّعَ بالمقاصد الحاجية على العباد وترفع عنهم الحرج، ولكي تكمل بالأهداف التحسينية وتجمل.
وفصل سلفُنا الصالحون رحمهم الله كيف تمنع الشريعة بمقاصدها هذه السامية التهارُجَ والفساد وفوت المصالح في الدنيا، وكيف تعطي للمسلم والمسلمة الاستقرار والأمن والكفاية المعاشية لينصرف العبد إلى تهيئ آخرته، يرى مستقبله بعد الموت هو القبلة وهو الغاية وما في الطريق إلى الآخرة تسهيلات ووسائل.
الربط المتعسف
غالبا ما تنسب معضلة تفتت الأراضي الفلاحية وتقسيمها عبر أجيال الورثة لنظام الميراث الإسلامي المتبع حاليا إلى جانب القوانين الوضعية التي تنظم المعاملات في العالم القروي. هذه المعضلة هي فعلا من أهم أسباب تدني الإنتاج الفلاحي وهروب الناس من الأرياف، سواء من الأراضي البورية أو الأراضي المروية، إلى الدرجة التي تهدد الأمن الغذائي للقطر عوض أن يلعب دور كاليفورنيا بالنسبة للعالم العربي.
تفسيرها يرجع إلى وجود شركاء متشاكسين متناحرين في ملكية ضيعة لا ترقى مساحتها إلى الحد الأدنى الذي يلبي الحاجيات المادية للأسرة الواحدة، ناهيك أن توفر الفائض الضروري لتمويل الاستثمارات اللازمة. ومع الزمن يتضاعف عدد هؤلاء الشركاء إلى الحد الذي يتعطل فيه الإنتاج نهائيا، وتقطع فيه الأرحام بسبب النزاعات العائلية، وتتعطل فيه مصالح الناس في كل مجالات الحياة.
كما أن نظام إقطاع الأراضي العامرة طبيعيا قصد التمليك، الذي يمثل الطرف الآخر للمعضلة العقارية، كثيرا ما ينسبه الناس عن قصد أو عن جهالة، للشرع الإسلامي.
وإذا ما علمنا من خلال مقاصد الشرع، وأصوله، وقواعده أن حيث ما وجدت مصالح الناس فثم شرع الله، الذي من آكد غاياته جلب المنافع ودرء المفاسد، صار لزاما إعادة النظر في نسبة هذه المعضلات إلى شرع الله. الأمانة العلمية تقتضي إذن التروي و التبين قبل هذا الربط بالشريعة لكثير من المسلمات التي فشت ممارساتها في المجتمع، حتى صارت عرفا متبعا وهوى مطاعا، رغم براءة الشريعة منها.
الإصلاح الزراعي والمسألة العقارية:
آفاق إصلاح عقاري شامل يمكن تصور خطوطه العريضة عبر نموذجين اثنين: نهج الفوضى العقارية المشجعة، أو نهج القومة الزراعية المنظمة.
النهج الأول، يترك عناصر الفوضى العقارية الحالية تتصارع وتتدافع فيما بينها إلى الحدود التي يتعطل فيها الإنتاج، فيضطر الناس للهجرة إلى المدن. فإن كان هناك نهوض بالقطاعات الاقتصادية الأخرى لامتصاص التزييف البشري، تمت الطفرة والمخاض بسلام، والتحقنا بالنموذج التنموي الغربي الذي خفف الضغط على المجال القروي إلى الحدود المتلائمة مع شروط التنمية المستديمة كما في أوربا وأمريكا ، حيث نسبة السكان في البادية لا تتجاوز 5 % ، بعدما تم توفير مناصب شغل منتج فعال للنازحين من البادية. لكن إن لم يتوفر شرط النهوض بالقطاعات الاقتصادية الأخرى، فإن التدافع سينتقل كذلك إلى المدن، ليتم الاستقرار على وضع اجتماعي متوازن آخر، تبعا لقوله تعالى:(( ولولى دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)). هذا الاحتمال الأخير هو المرتقب لأن النهوض بالقطاعات الأخرى لم يتم إلى يومنا، حتى التخطيط المحكم له، تحت حكم التقنوقراطية المراعية لمصالح الغرب، التي تقوم على مبدأ منع كل تكامل اقتصادي عربي و إسلامي.
النهج الثاني، نهج القومة الزراعية المنظمة، التي تدعو للرجوع إلى الأوضاع الأصلية الشرعية ،ودراسة العقود المثلى التي تحدد نوع علاقة الفلاح بالأرض و شروط استغلالها، في المجال الذي ترك لنا الشرع فيه خيار الاجتهادات المناسبة للعصر .فبعد تحديد نقطة بداية تعتمد على الحكمة الوضعية ومبدأ الحد الأدنى المعاشي لمساحة الضيعات الذي يوفر الكفاية للأسر، مع احترام شروط التنمية المستديمة المراعية لمصالح الأجيال المقبلة، يشرع في إصلاح شامل للهياكل العقارية ، وإعادة تنظيم المستغلات وضم الأراضي، بعد مراجعة نظام علاقة الفلاح بالأرض، في إطار الحكم الشرعي للأرض.
تصنيف الأراضي عند الفقهاء
حكم الأرض في الفقه الإسلامي يختلف حسب الصنف الذي تنتمي إليه. وتصنف الأراضي عند الفقهاء:
· حسب عمارتها
1. عمارة طبيعية لم يبذل أحد أي جهد في تنشئتها (غابات – مياه – مراعي)
2. عمارة بمجهود بشري ( زراعة)
3. أراضي ميتة لا عمارة فيها.
· وحسب كيفية دخولها في دار الإسلام:
1. بعد عقد صلح عند مسالمة الرسالة ( أرض صلح)
2. بعد عقد حرب عند معاداة الرسالة ( أرض الفتح أو أرض العنوة )
أصول حكم كل صنف
1. الأراضي العامرة عمارة طبيعية ( غابات – مياه – مراعي):
هي ملكية جماعية للناس جميعا أيا كان دينهم ما داموا رعايا الدولة الإسلامية، تبعا لتقرير الحديث الصحيح "الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار".
· تنظيم استغلالها: الحمى
كان الحمى قبل الإسلام يقوم على أساس القوة و الغلبة، فقال رسول الله (ص): " لا حمى إلا لله و رسوله"
حمى رسول الله (ص) النقيع لخيل المسلمين، وحمى عمر(ر) الربذة للفقراء دون الأغنياء.
· وضعيتها الحالية:
- الملك الغابوي الذي يشهد تجاوزات خطيرة: كالترامي على أطرافه وتحويلها إلى ملك خاص، ثم إلى أراضي عقيمة بوثيرة تفوق 30.000 هكتار في السنة.
- أراضي الجموع التابعة لوزارة الداخلية، هذا الرصيد يشهد بدوره فوضى عارمة ( التفويت لصنائع الاستعمار وخلفائه، التخصيص، التوارث الذي يستثني المرأة، استعمال الأرض لبناء المدن الفوضوية...) وتيرة اندثارها تفوق 70.000 هكتار في السنة.
2. الأراضي العامرة بمجهود بشري (الأراضي الزراعية)
· أراضي الصلح العامرة بمجهود بشري:
عقد الصلح يحدد ملكية الأرض والحقوق التي عليها: خراج أو زكاة. و الخراج حق يفرض على المساحة المستغلة سواء أنتجت أم لا، حسب وسع المستعملين عليها، " إن احتملوا أكثر من ذلك فلا يزاد عليهم وإن عجزوا عن ذلك خفف عنهم" ( عمر رضي الله عنه). أما الزكاة فتفرض على ما تنتج الأرض التي أسلم أهلها، العشر بالنسبة لأراضي البور أو نصف العشر بالنسبة للأراضي المسقية
· أراضي الفتح العامرة بمجهود بشري: (وهي حالة معظم الأراضي الزراعية بالمغرب):
- حكمها: أراضي خراجية، ملكية الرقبة بيد الدولة الإسلامية؛ المستغل الفعلي: أهلها الأصليون ثم من تراه الدولة أصلح، شريطة أن يؤدي الخراج.
- التجاوزات التي شهدتها: انتقاض أحكامها مباشرة بعد انتقاض عروة الحكم الراشد. وضعيتها الحالية: الملكية المفتتة اللامعاشية أو الإقطاعات الجبرية الجائرة.
- الدليل الشرعي لحكمها:
§ مزارعة النبي صلى الله عليه وسلم اليهود في أرض خيبر، عندما افتتحها، استمرار هذا الوضع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله، و حياة أبى بكر و عامة ولاية عمر، ثم كان عمر هو الذي ردها إلى بيت المال بعد جلائهم عن المدينة.
§ الأحكام العمرية في أرض السواد والشام ومصر( استدلاله بسورة الحشر).
§ مذهب الإمام مالك الذي قال: " لا تقسم الأرض، وتكون وقفا يصرف خراجها في مصالح المسلمين ".
§ في المذهب الجعفري الذي يقترب من المذهب المالكي في هذه المسائل، ترجم الإمام باقر الصدر هذه القواعد الثابتة بلسان العصر في قوله: " إن كل أرض تضم إلى دار الإسلام بالجهاد، وهي عامرة بجهود بشرية سابقة على الفتح، تطبق عليها الأحكام الشرعية الآتية : أولا: تكون ملكا عاما للأمة، ولا يباح لأي فرد تملكها و الاختصاص بها؛ ثانيا: يعتبر لكل مسلم حق في الأرض بوصفه جزءا من الأمة، ولا يتلقى نصيب أقربائه بالوراثة ؛ ثالثا: لا يجوز للأفراد إجراء عقد على نفس الأرض من بيع و هبة و معاوضة و تمليك و نحوها ؛ رابعا: يعتبر ولي الأمر وهو المسؤول عن رعاية الأرض و استثمارها و فرض الخراج عليها عند تسليمها للمزارعين ؛ خامسا: الخراج الذي يدفعه المزارع إلى ولي الأمر، يتبع الأرض في نوع الملكية، فهو ملك للأمة كالأرض نفسها ؛ سادسا: تنقطع صلة المستأجر بالأرض عند انتهاء مدة الإجارة، ولا يجوز له احتكار الأرض بعد ذلك ؛ سابعا : إن الأرض الخراجية إذا زال العمران عنها و أصبحت مواتا لا تخرج عن وصفها ملكا عاما، ولا يجوز للفرد تملكها عن طريق إحيائها و إعادة عمرانها من جديد ؛ ثامنا: يعتبر عمران الأرض حال الفتح الإسلامي بجهود أصحابها السابقين شرطا أساسيا للملكية العامة، و الأحكام الآنفة الذكر، فإذا لم تكن معمورة بجهد بشري معين لا يحكم عليها بهذه الأحكام".
- مزايا هذا الحكم:
§ في عهد الخلافة الراشدة الأولى أتاح تحرير الوقت وضمان الرزق للحاملين للرسالة فأدوا مهمتهم بالحزم الذي ساعد الرسالة على الانتشار والثبات الذين لم يشهد التاريخ مثلهما.
§ يتم إحياء هذا الحكم في بداية الدول المجاهدة التي تبايع على أن يكون الدين كله لله كدولة الموحدين ودولة السعديين وغيرهما.[2]
§ إحياؤه مجددا سيعالج تفتت الأرض التي وصلت إلى الحدود اللامعاشية التي لا يمكن أن تسد رمق أهلها أو تدر فائضا يمول مصاريف الإنتاج. وهي الحال التي يتخبط فيها عالمنا القروي التقليدي الذي يشكل أكثر من 80 في المائة من المستغلات. ولربما حررت الآلة سكان البادية من ربق العبودية للضيعة، لربطهم بمهمات تبليغ الرسالة للعالمين كما فعل المسلمون في عهد الخلافة الأولى.
3. الأرض الموات في الفقه الإسلامي:
· الحكم: ملك خاص للدولة.
· ملكية الرقبة: الدولة الإسلامية ثم لمن تقتطع له.
· الحقوق: أرض عشر: الزكاة.
· الدليل الشرعي: الرسول صلى الله عليه وسلم شجع الناس على استصلاح الأراضي الميتة و زراعتها، ووضع القاعدة العامة في أن"من أحيى أرضا ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين ". وأن عمر رضي الله عنه قد سار في نفس الطريق الإصلاحي الذي سنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وتشدد في تنفيذ الشرط الذي يقضي بأنه "ليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين".
وقد سار الفقهاء المسلمون القدامى و المحدثون جميعا، على اختلاف مذاهبهم و آراءهم في الطريق القويم الذي خطه الرسول صلى الله عليه وسلم وتابعه فيه عمر رضي الله عنه.
· في المذهب المالكي: مالك يجتهد في تعريف الأرض الميتة:
لا يعتبر الإمام مالك الأرض الموات إلا "في الصحاري و البراري، وهو ما يصنفه اليوم علماء البيئة في المناخ القاحل الصحراوي ( bioclimat aride et saharien ) وأما ما قرب من العمران و ما يتشاح الناس فيه، فإن ذلك لا يكون له أن يحيه إلا بقطيعة من الإمام". وذلك لأن الإمام مالك لا يتطلب في الإحياء إذن الإمام، مادام ذلك بعيدا عن العمران. أما ماقرب من العمران فلا يجوز إحياؤه إلا بإذن الإمام. و الإحياء عند مالك يكون "بشق العيون، وحفر الآبار و غرس الشجر وبناء البنيان و الحرث فإذا فعل شيئا من ذلك فقد أحياها".
· إحياء الأرض الموات في المذهب الظاهري:
… إحياء الأرض الموات عند ابن حزم " هو قلع ما فيها من عشب أو شجر أو نبات الخ …" يكاد ابن حزم بهذا التعداد المفصل أن يكون قد استقصى في بعض ما أحصى، كل ما يمكن عمله لتعرية الأرض لا لإحيائها، لذا نعترف أن النظريات الحديثة في علوم البيئة ترجح رأي مالك على رأي ابن حزم. وحينما ذكر قلع ما فيها من عشب أو شجر، يبدو أنه صنف الأرض العامرة طبيعيا تحت حكم الأراضي الموات، عوض إخضاعها لحكم الغابات والمراعي. و قد يعذر ابن حزم في ذلك لأن الأراضي الميتة بصفة شبه مطلقة، أي ما يوصف اليوم بالأراضي القاحلة الصحراوية تكاد تنعدم في إسبانيا مقر إقامة فقيهنا. وهو الغلط نفسه الذي سقط فيه فقهاء المناطق الشمالية المغربية في جبال الريف، عندما وزعوا رسومات " الملكية " لكل من أضرم النار في غابة من غابات الأرز أو البلوط لزرعها. والحاصل من الإفساد الذي خلفه المحراث في هذه المناطق المنحنية، يؤكد دقة أحكام الشرع الذي من أهم مقاصده الحفاظ على الثروات الطبيعية بعد الحفاظ على الدين والنفس والنوع والعقل.
4. الأراضي المحبسة أو الوقف الإسلامي
الوقف هو إخراج العين الموقوفة من ملك صاحبها إلى ملك الله، وهي على ما حبست عليه. منافعها ترجع للموقوف عليهم وهم غالبا ما ينتمون لطبقات المجتمع الهشة كالأرامل والمعوقين والمرضى وطلبة العلم والذين تقطعت بهم أسباب العيش.
أصله الشرعي: شجع الرسول صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه على وقف أرض له، فجعلها عمر صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث.
تتظافر الجهود بين الفقيه والخبير الزراعي المختص في فقه واقع الشؤون القروية لتحديد المسائل المطروحة للاجتهاد، وهذا نموذج منها.
· مسائل للاجتهاد تخص صنف الأراضي العامرة طبيعيا:
- كيف يتم تحديد المساحات المقتطعة منها خطأ؟ كيف يتم استرجاعها للملك العمومي لانتزاعها من خطر التصحر؟ هل عن طريق شرائها كما حدث في فرنسا؟ أم بعد الترحيل القسري للمترامين عليها بعد أم بدون معاوضة؟ أم يكفي أن نلزم المتمسكين بها بخراج مدروس يقنعهم بالرحيل؟
- كيف يتم إدماج السكان المحاذين لها في إطار استغلال "معقلن" مستديم مقاوم للتصحر الحالي وأنشطة عصرية لا تشكل أي خطر على الموارد الطبيعية؟
- كيف يتم تحديد الحمى فيها للاستخلاف الإحيائي، وللحفاظ على التنوع البيولوجي ولإعادة الإعمار بالحيوانات التي انقرضت منها؟…
· فضاءات ومسائل الاجتهاد تخص صنف الأراضي الخراجية:
- مسائل تتعلق بتعيين المستغل وبشروط الاستغلال:
هل هو المستفيد الحالي؟ أم مستفيد آخر للتداول على الأرض، يحدد عن طريق سمسرة للكراء، أو في إطار تعاونيات أو شركات تعمل بشروط يحددها كناش التحملات؟…
- مسائل تتعلق بتحديد الخراج (الضريبة):
أنكتفي بالدرهم الرمزي للتعبير عن المواطنة ووفاء بالحق الشرعي الأدنى؟ أم تحدد مبالغ تصاعدية لتشجيع الإصلاحات العقارية المقررة من لدن السلطة السياسية ؟ مثلا لتشجيع تجميع الضيعات المفتتة وضمها لتستغل في إطار تعاونيات أو شركات تحترم المساحة المعاشية أو الحدود الدنيا والعليا لمساحة المستغلات، كي لا تكون الأرض دولة بين الأغنياء وكي لا تضيع الإنتاجية من جراء التفتت؟
أم تحدد مبالغ مدروسة للخراج لتشجيع سياسة ما للتنمية القروية، كخيار التمويل الذاتي للصناعات المحلية، لتخفيف الضغط على الأرض وعلى المجال الطبيعي قصد الحد من عومل التصحر والإفساد البيئي؟
· فضاءات ومسائل الاجتهاد تخص صنف الأراضي الميتة:
- كيف يتم تحديدها في مجالها الطبيعي القاحل الصحراوي؟ كيف يتم حث الناس على إحيائها؟ كيف تتم معالجة التفتت فيها حيث إنها الصنف الوحيد القابل للتوارث؟
· فضاءات الاجتهاد تخص مسألة توحيد وتبسيط القوانين العقارية:
- أصناف الأرض الأصلية عددها خمسة بينما يتجاوز عددها تسعة في القانون الوضعي المعتمد من طرف الإدارة الحالية، يتعدد فيه المتدخلون، وتضيع بينهم حقوق المواطنين. ألا يمكن توحيد الأحكام الوضعية التي تخضع لنفس المقتضيات، مثلا الملك الغابوي وأراضي الجموع الرعوية والملك العمومي وكلها أراضي لا تباع ولا تتقادم مبدئيا، إلا أنها أخيرا شهدت فوضى عارمة لم تراع فيها المبادئ والقوانين، تسببت في بعض القلاقل الاجتماعية الخطيرة ( أحداث سيدي الطيبي الأخيرة ).
- ألا يمكن توحيد الأصناف الوضعية التالية: أراضي الجيش الأراضي العرشية أراضي الإصلاح الزراعي، أراضي الشركات الفلاحية، أراضي ملك الدولة الخاص، أراضي الجموع الفلاحية، ,تجميعها ضمن التسمية الأصلية: الأراضي الخراجية؟
- مؤسسة الخراج والمسح العقاري: للتذكير كان المسح معتمدا في المغرب بعيد فتحه ثم في عهد دولة الموحدين، وهو حاليا معطل لتعطيل جباية الخراج، ولاستئثار قلة من الملاكين المتغيبين بأراضي شاسعة.
- مؤسسة جباية الزكاة التي تأخذ الحق المعلوم من أغنياء القرية لتوزعها على فقراء نفس القرية، وهي كذلك معطلة من طرف الإدارة اللاييكية الحالية. إلى جانب وظيفة الزكاة الضمانية التوزيعية حيث يصيب منها الفقير والمسكين وسائر الأصناف الثمانية المذكورة المفصلة في القرآن، ينبغي أن تقوم الزكاة بوظيفة التوفير والتجميع والاستثمار والتنمية. في أصل فرضيتها على المال النامي حافز على استثمار المال مخافة أن تأكله الزكاة. وفي فقه إغناء الممنُوح مَدْرجةٌ للتوفير والتنمية. وقد قال فقهاؤنا رضي الله عنهم بأن صاحب الحِرفة يُعْطَى من الزكاة ما يجهز به حرفته كائناً ما كان.
في عصرنا اجتهد فقهاء آخرون شكر الله سعيهم فأفتَوْا بتوسيع وِعاء الزكاة حتى لا يظَلَّ حيث تركَها السلف الصالح الذي لم يكن يعرف إلا الاقتصاد الزراعي البِدائي المنحصر في الإبل والغنم والقمح والشعير. قعَّد هذا الفقهَ الأستاذ يوسف القرضاوي في كتابه القيم "فقه الزكاة" بانياً على اجتهاد الفقيه أبي زهرة رحمه الله والفقيه عبد الوهاب خلاف رحمـه الله وغيرهما. وقد تقدم بالعلة القياسية الفاتحة لتوسيع وِعاء الزكاة لتشمل الثروات المعدنية والبحرية والفلاحية والتجارية والصناعية. وأتى بالدليل والسوابق الموجبة للزكاة على الدُّخُول القارةِ مهما كانت. وقاس على النقد المستندات المالية وأسهُمَ الشركات. ولو كان المستحقون يُعْطَوْن أسهما لأحرزنا من الزكاة مشاركة في رأس المال تكون فتحا لنا. والله الغني وأنتم الفقراء.
- مؤسسة الوقف الاجتماعي الذي حرفته الإدارة الحالية عن دوره الأصلي، فأصبح دولة بين بعض من ابتلوا بأكل الحرام المحض. وعن سبيل هذه المؤسسة العظيمة يمكن مثلا دمج المرأة القروية في "مسلسل التنمية".
- مؤسسة إعادة إعمار ورعاية الأراضي المستردة في إطار عملية رد المظالم الطوعي أو القسري… إلى غير ذلك من الاجتهادات النابعة من الأصول. وحيث أن الأمد طال بيننا وبين أحكام الخلافة الراشدة، عكس ما حصل بالنسبة لأحكام الأحوال الشخصية، فقد ندر في الإدارة اللاييكية المنصبة على بلدنا المسلم من يعالج هذا الجانب من إقامة الدين / المعاملات. وعلى للعكس، تجد أكثر المسؤولين الحاليين لا يتحرجون من التوسل لفقهاء الشرائع الأخرى لابتداع الحلول المستوردة للمسألة العقارية الملتهبة ( تفويت الأراضي لأجانب لزرعها بالكروم المنتجة للخمور والمخدرات، أو لزرعها بمحاصيل مدمرة للتربة والمياه...). وهكذا تدهور واقع استقلالنا الذي ناضل الشرفاء من أجله، وأصبحنا دولة ذات سيادة منقوصة، فوتت للشركات العالمية الكبرى الأرض والهواء وكذلك الماء.
باعتبار الماء العامل الرئيسي والمحدد داخل كل تنمية قروية فإنه يستوجب منه كل الاهتمام على مستوى البحث والتخزين والصيانة وكذا لاستعمال. إلا أن السياسة المائية التي اتبعت إلى حد الآن جعلت من هذا الأخير موردا قليلا حيث لا يتعدى مخزون الماء لكل مواطن 1151 م3 في سنة 1990 مقابل 2826 م3 في أسبانيا و 3619 م3 في تركيا و 5763 م3 في اليونان.
ويرجع هذا أساسا إلى طبيعة السياسة السقوية والمائية عموما التي ولدت في إطارها الحالي أرقاما غير عادية بحيث يضيع ما يناهز 60% من الكميات الموجهة للسقي وتضيع نسبة أخرى هامة مع تدخل السدود ناهيك عن ضياع نسبة 25% من الكميات الموجهة للاستعمال داخل المدن.
بعد فشل عملية الحرث الجماعي اتجهن حكومة اليسار عبر المخطط الخماسي [1960-1964] إلى تغيير رؤيتها إلى مسألة الإصلاح الزراعي بالتركيز على الفلاحة السقوية بخلق المكتب الوطني للري الذي تحول بعد إلى تسع مكاتب جهوية تهم مساحة سقوية إجمالية تقدر بـ 550.000 هكتار منها 430000 في السقي الكبير. وأصبح هذا الاختيار استراتيجيا في السياسة الفلاحية مند 1967 بعد احتضانه من طرف الملك. وقد كلف إنجازه إلى حد الآن استثمارات باهظة وبحيث أن هذا البرنامج الخاص بالمناطق السقوية [ التي لا تمثل إلا 10%من مجموع الأراضي الصالحة للزراعة ] رصد له 42% من مجموع ما تم رصده للعالم القروي كله.
الناس شركاء في الماء كما نص عليع الشرع. والدولة مسؤولة على تخزينه في السدود وإمداد قنواته لتلبية حاجيالت الشرب والسقي. وهي مسؤولة كذلك على مسألة العدل في توفيره وفي تقنين استعماله استعمالا يحارب التبذير والإفساد والتلويث. وأمام عجزها عن تأدية هذه الفروض، قامت بتفويت هذا القطاع الحيوي لشركات أجنبية، تعبث فيه كما تشاء وتخطط للسيطرة على سيادات الدول بواسطته. وما هكذا عالج السلف الصالح مسائل استقدام التقانة عند العجز على ابتكارها. فعوض أن تستقدم الإدارة خبراء تؤدي لهم أجورهم مقابل خبرتهم كما كان يفعل الموحدون في أوراشهم البحرية الكبرى وبناياتهم، فعل الكسل / العجز / المؤامرة / الخيانة فعله، فأصبح صبيب الوديان ومخزون السدود والأبيار تعبث به الأيادي المحتكرة التي لا ترقب فينا إلا ولا ذمة. وهي استراتيجية ماكرة وتخطيط مدروس للسيطرة على موارد المستقبل الحيوية في بلدان العالم الثالث.
تبعا لتعليمات صندوق النقد الدولى, البلدان المثقلة بديون كبيرة لن تكون قادرة على الحصول على قروض جديدة من معظم المصادر الدولية للتمويل, إلا إذا وافقت على التخلى عن ملكية وإدارة مشروعات مياه الشرب والسقي أوالصرف الصحى، للشركات الدولية الكبرى: فيفاندي وسويس و ليونيز دي زو وغيرها...
وعندما تلجأ البلدان إلى استدانة المزيد من الأموال لتمويل قطاع المياه، فهذا يعني وجوب تمويل صفقات تربح فيها الشركات الأجنبية الملايير. وعندما تخسر هذه الشركات المتعددة الجنسيات في فرع من فروعها، فإنها تلجأ لرفع أسعار المياه، مما يحول دون حصول الفقراء عليها. وهكذا تحدث القلاقل الاجتماعية التي تخمد بواسطة الأسلحة المقتنية أيضا من تلك الشركات.
أما الحل الأمثل لهذه الخروقات التي تفتك بسيادة المسلمين على بلدانهم وثرواتهم ومعتقداتهم، فلا سبيل له إلا بالرجوع لأحكام شرعنا في تدبير الشؤون المائية باعتباره شركة عامة للناس لا يؤدى عنه إلا في حدود ما يلزم لتمويل مشاريع خزنه وإمداده، وكذلك ما يستعمل كزاجر للإسراف والتبذير. وكل ما يتعلق بالتجهيزات الداخلية للضيعات فهي على حساب المستثمر لا على حساب الدولة.
ضرورة إعداد سياسة تنموية خاصة بالمناطق الجبلية:
نظرا لكونها تشكل خزانا ومنبعا لكل الأنهار الملبية لحاجيات الفلاحة والشرب والصناعة لكافة المناطق بالقطر. ينبغى نهج سياسة خاصة تقوم على:
تخفيف الكثافة السكانية والرعوية بهذه المناطق وضبطها في الشكل والمستوى الذي لا يشكل أي خطر على ضياع الغطاء النباتي وتدهور الثروات الطبيعية المنتجة (الماء التربة المنتوجات الغابوية)
تقليص الأنشطة الفلاحية التقليدية المعاشية غير المنتجة (الحبوب الرعي) وتعويضها بأنشطة محافظة على البيئة ( السياحة البيئية، استغلال النباتات الطفرية والطبية والعطرية إنتاج العسل...)
تحسين ظروف استقبال الشباب المهاجر من هذه المناطق بتشجيع مشاريع صناعية فلاحية مختلفة بحواضر هذه المناطق.
إخضاع هذه المناطق لسياسة المحميات البيولوجية، ثم تكثيف عمليات غرس هذه المناطق عندما تنخفظ فيها كثافة السكان والماشية.
سن قوانين استثمارية تحفيزية للأنشطة التي لا تشكل أي خطر على البيئة الجبلية.
إحياء وتشجيع الاقتصاد التعاوني لتدبير الصناعات التقليدية المحلية
يعتبر قطاع البحر من القطاعات الهامة والمحددة في الاقتصاد الوطني. فالمغرب يتوفر على 1.1 مليون كلم2 كمساحة بحرية و 3500 كلم من الشواطئ. كما يشتغل البحر حوالي 400 ألف عامل. وقد بلغ الإنتاج البحري سنة 1997 2% من الإنتاج الداخلي الخام.
ويشكل السردين 78% من الأسماك المقيدة بينما يلعب قطاع الصناعات التحويلية لمنتجات البحر دورا مهما حيث ساهم بنسبة 55% من صادرات المنتوحات الغذائية المغربية و 15% من مجموع الصادرات سنة 1997. ويعتبر المغرب أول منتج ومصدر لبعض أنواع السمك وبعض الرخويات وصغار النون المستعملة في التربية في الأحواض المائية.
هذا، ويتوفر المغرب على ثروات حياتية مائية مهمة ومتنوعة تصل إلى 721 نوعا كلها ذات أهمية اقتصادية، كما يتوفر على 26 ميناء و 25 سوقا للحملة و 8 وكالات للمصادقة على السمك الصناعي. أما من حيث الأسطول فلديه 12000 وحدة للصيد التقليدي و 2664 سفينة للصيد الساحلي و 446 سفينة للصيد بأعالي البحار. إلا أن هذه السفن لا تشتغل بكامل طاقتها الإنتاجية.
ويتوزع الصيد بين الصيد في أعالي البحار، والصيد الساحلي، وبين الصيد التقليدي. وإذا كان الإنتاج المصدر في أغلبية من نوعي الصيد الأولين فإن الصيد التقليدي والذي يساهم بـ 30% من الإنتاج الوطني الإجمالي، يتوجه في معظمه إلى السوق الداخلي. وسيبقى السردين كأول منتوج بحري مصدر إلى الخارج من إنتاج الصيد الساحلي في أغلبية. وهو يساهم بـ 65% من الإنتاج الوطني العام لهذا المنتوج.
من جهة أخرى يلعب قطاع الصناعات التحويلية لمنتجات البحر دورا مهما في التنمية الاقتصادية حيث يشتغل 40 ألف عامل ويعتمد في الإنتاج على 250 مصنعا و 300 باخرة تجميد سمك في أعالي البحار.
هذا، ورغم الإمكانيات الهائلة لقطاع البحر، فإنه يعاني من تناقضات داخلية على صعيد الإنتاج والبنيات التحتية والتنظيم. كما يعاني من ضعف وعدم القدرة على التحكم في علاقاته الخارجية المتعلقة بالمنتوج البحري.
نحو بناء ثقافة بحرية أصيلة:
منذ خلافة سيدنا عثمان اتخذ المسلمون الأسباب الصحيحة لبناء حضارتهم البحرية التي بلغت الآفاق. واتجهوا شرقا عبر الخليج حاملين الرسالة الخاتمة التي اقتنع بها سكان الشرق الأقصى وآسيا الجنوبية الشرقية. وهم لعهدنا هذا يمثلون السواد الأعظم لأمة الإسلام. واتجهوا غربا حتى صارالبحر الأبيض المتوسط بحيرة يسمع الآذان في جل شطآنها وجزرها.
ينبغي لنا أن نسعى لبعث وعي بحري أصيل على أسس منهاجية جهادية. ولا بد في البداية من مقارنة الخطط التي اتخذتها الدولة الإسلامية لبناء قوتها البحرية، مع الاستراتيجيات الحالية التي رسمت معالمها الدولة اللاييكية اليسارية التي أسندت لها أمورنا في زمن الزور الذي ابتلينا به.
يقول ابن خلدون في مقدمته :" فلما استقر الملك للعرب وشمخ سلطانهم وصارت أمم العجم خولا لهم وتحت أيديهم وتقرب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمما تكررت ممارستهم للبحر وثقافته واستحدثوا بصراء بها فشرهوا إلى الجهاد فيه وأنشأوا السفن فيه والشواني وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر".
كلمات جمعت فيها من الفوائد ما لانجد في الأسفار التي يكتبها خبراء الاستراتيجيات اللاييكية.
فنجد أن هدف بناء القوة البحرية كانت غايته الجهاد للتقرب من الله مسخر الكون لمن أطاعه واجتهد في تبليغ رسالته. لذا بعد إخلاص النية لله سبحانه وبعد اتخاذ الأسباب الشرعية، أتت الوسائل طائعة لخدمة من يخدم دعوة الخبير القدير.
في غد الإسلام أن شاء الله، لا بد لجند الله ، بناة الاستخلاف البحري الثاني، من إخلاص النية للقوي الخبير الذي سيهدينا لما أشارت إليه الحكمة الخلدونية وزيادة، لاستحداث بصراء بمماراسة البحر وثقافته، وسيتقرب كل ذي صنعة بصناعته إلينا، وسننشأ السفن والشواني وسنشحن الأساطيل بالرجال والسلاح لحماية الثغور، وللتحكم في التجارة والصيد والنقل، وسنفتح الآفاق للتعامل المباشر مع الأمم، بالمعاملات القرآنية والأخلاق النبوية التي ستعرفهم بديننا تمهيدا للدخول فيه أفواجا أفواجا كما دخلته أمم آسيا طوعا، لا بحد السيف كما يزعم أعداء الدين.
تمويل التنمية القروية بشكله الحالي ضعيف. حيث أن السياسة التمويلية المتبعة من طرف الصندوق الوطني للقرض الفلاحي في العالم القروي أفرزت واقعا مزريا للفلاح الذي أثقل كاهله بديون ربوية شلت حركيته وديناميته وجعلته في كثير من الأحيان رهينة في يد هذه المؤسسة. ذلك أن النظام التمويلي لهذه المؤسسة تطبعه ثلاث أنواع من التدخلات.
تمويل موجه لفئة من دوي النفوذ [ وزراء - ضباط - برلمانيون وغيرهم من هذا الصنف] ونشير هنا أن 87 ملفا فقط لهذه الفئة يجمع حوالي 1.6 مليار درهم من المستحقات أي بنسبة ثلث المستحقات على مستوى القطر والثلثين الباقين موزعة على حوالي مليون زبون.
تمويل موجه لفئة من زبناء الصناديق الجهوية وهي لا تقل زبونية عن الفئة الأخرى.
تمويل موجه للفئة العريضة ولا يتجاوز معدله 5000 درهم في الموسم للزبون عبر ما يسمى بالصناديق الجهوية.
إن بنية وطبيعة المستحقات من ديون هذه المؤسسة البالغ 5 مليار من الدرهم أي ما يعادل 50% من جاري القروض والموجود معظمها بين أيدي فئة من الوصوليين جعل إرجاع هذه المستحقات أمر ا صعبا خصوصا في غياب قرارات سياسية شجاعة حيث أصبحت هذه الديون تستعمل كأوراق سياسية من طرف النظام مع حاشيته لتحقيق استقرار لحكمه.
ومقابل ذلك نلاحظ أن خزينة الدولة تتدخل كل مرة لانقاد أو تأجيل إفلاس هذه المؤسسة عبر دفعات معينة تمتص من ميزانيات معينة وكذلك عبر ما يسمى بعملية أو عمليات الجدولة التي أراد منها في واقع الأمر تحويل للمستحقات الحالية إلى جاري قروض أو قروض مستقبلية وبالتالي الزيادة في الأرباح المحصل عليها عبر هذه السلفات الجديدة الشيء الذي يجعل الفلاح يصبح رهينة لسنوات طويلة أخرى في قبضة هذه المؤسسة.
بعيدا عن المعاملات الربوية القاتلة لكل روح الفاعلية عند الفلاحين، ينبغي اعتماد الاقتصاد التشاركي والتعاوني لتحريك وتعبئة الادخار الداخلي والعمل على توفير بيئة تعيد للإنسان ثقته، بيئة تربط النزاهة الأخلاقية فيها بمبدأ الإنتاجية والجدوى، بيئة تحررنا من التبعية المالية وتأسس لنظام مصرفي إسلامي يكون مفتاحا للتنمية، نظام نابع من واقعنا ناظر إلى مستقبلنا مبناه التعاون على البر والتقوى كما أمر ربنا الغني الحميد."
في هذا الإطار نظن أن التجربة التعاونية أو النظام التمويلي التعاوني الذي أعطى نتائج مهمة في بعض الدول كاليابان وألمانيا وكندا وإسبانيا يعتبر نموذجا يمكن تطويره تطويرا لا يتعارض مع أحكام شريعتنا، واعتماده كبديل مرحلي نهيئ ظروف إنزاله وتتدرج في هذا الإنزال. ذلك أن نجاح هذه التجربة في الدول المذكورة، كان أساسه اعتماد مبدأ حرية الاشتراك والتضامن واستقلالية تدبير التعاونية، واستقلاليتها المالية وكذا اعتماد مبدأ الديموقراطية داخليا.
وما هذه المبادئ كلها إلا جزء من مبادئنا الإسلامية التي أمرنا بها الله عز وجل حين قال سبحانه وتعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان..."
فالنظام التعاوني في هذا الباب لن يكون وسيلة لتمويل المشروع فقط، ولكن دوره سيكون اجتماعيا وتربويا في أفق تنمية شاملة.
يصنف اقتصاد المغرب في مراتب الاقتصاد البدوي البدائي Economie Rurale Primaire فهو إذن لا ينتج دخانا كثيرا يلوث بيئة الكرة الأرضية. لذا فمشكل الاحتباس الحراري لا يعنيه بقدر ما تعنيه أسباب التصحر الأخرى الناجمة عن تكريس بدائية اقتصاده و ترسيخ بداوة سكانه، الذين يشكلون ضغطا على الثروات الطبيعية وسببا من أسباب التصحر في بلدنا (حوالي 100.000 هكتار يدركها التصحر سنويا: ثلثها في الملك الغابوي و الباقي في المراعي الجماعية).
ونخشى أن تشكل الاتفاقيات حول الاحتباس الحراري عائقا لتنمية بلدنا الذي سيستدرج لبيع حصته من الملوثات لبلد صناعي، بثمن بخس مقابل إبعاده عن التنمية الصناعية وتكريس الاستئثار بسوقه المستهلكة، غير المنتجة.
وعلى عكس النظرة المفرطة في التشاؤم حول ظاهرة الاحتباس الحراري في أجوائنا، يمكن مقاربة الموضوع من زاوية أخرى، تمكننا من تدارك نمونا الصناعي، دون ان نكبل تنميتنا بقيود لا مسوغ لها. فقضية البيئة تشكل خطرا على الدول المصنعة أكثر مما تشكله فوق أجوائنا المعرضة دوما لرياح "الأليزي" ( les alizés ) الآتية من البحر. أما فوق أجواء البلدان المصنعة، فإن الأمطار الحمضية الناجمة عن دخان السيارات والمعامل، تعتبر بالتأكيد أشد ردعا من رجاء الدول الفقيرة لمقايضة حصتها الملوثة المسموح بها، يبتغون بها ثمنا قليلا لا يسمن ولا يغني من جوع. فلنساعد إذن الفضلاء البيئيين من أبناء الغرب على إرغام حكوماتهم على التعامل الإيجابي من الاتفاقية، بدل اللجوء إلى حلول المقايضة السخيفة تلك. ولربما يكون من الأفيد لنا، تبني بعض النظريات المتفائلة، التي ترى في ظاهرة الاحتباس الحراري، على المدى البعيد، ممهدا من الممهدات التي سوف تؤثر إيجابيا على معدل التساقطات المطرية في بلدنا، حتى تعود الحياة من جديد إلى الصحراء، كما بشرت به بعض الأحاديث النبوية[3].
في انتظار تحقق البشرى، لابد من الأخذ بالأسباب الآنية والدفاع الذكي عن مصالح أمتنا في هذه المنتديات بالتفاوض حول مشاكلنا التنموية الحقيقية حسب سلم الأولويات الذي لا يتطابق بالضرورة مع سلم أولويات الغرب المتخم المبذر. الأولويات كما تحددها مقاصد الشريعة[4]، يمكن ترجمتها في ميادين التفاوض حول الاتفاقيات الدولية عموما وبروتوكول كيوطو خاصة، كما يلي:
§ ضرورة إخضاع التشريعات الدولية التي يطلب منا المصادقة عليها لافتحاص يبين مدى انسجامها مع مرجعيتنا الإسلامية (مقصد الحفاظ على الدين).
§ الدعوة للانتقال باقتصادنا من مرحلة الاقتصاد البدوي الضاغط على مجالنا القروي والمصحر له، إلى مرحلة الاقتصاد الحضري المعلوماتي، مرورا بالاقتصاد الصناعي الفاتح لأوراش التنمية الذاتية المستديمة. مع التأكيد على مضامين مفهوم الاستدامة وخاصة المضمون البيئي المهتم بالحفاظ على الثروات الطبيعية للأجيال الحاضرة والمقبلة، والمضمون العدلي المقر بالكرامة الإنسانية (مقصد الحفاظ على المال والثروات المشتركة، ونبذ ثقافة الاستهلاك المسرف).
§ أوراش التنمية الذاتية المستديمة ينبغي أن لا تسقط ببلادة وتحت تأثير رشوة الإعانات الدولية البخسة في فخ الاندماج في الاقتصاد الاستهلاكي الغربي، الذي قضى جورا أن لا يكون بلدنا إلا مستهلكا غير منتج لحاجياته، غير متحكم في استراتيجيات تطوره ( مقصد الحفاظ على الذات ومقصد الحفاظ على العقل).
§ الأوراش الكبرى للتنمية الذاتية المستديمة ينبغي مدارستها، في إطار تعاون جديد، مع البلدان الغير الأمبريالية، أو التائبة منها، ومع الفضلاء من أبناء الغرب الذين يناضلون ، كما يجب أن نناضل نحن كذلك ، ضد هيمنة المصرفيين المرابين على العالم ( العولمة المالية الاستهلاكية)، ويحاولون رسم خط التطور المتزن المحترم للتنوع الثقافي والروحي للشعوب. والتعاون يقتضي تبادل المنافع التي ترتبط بخصوصيات الأمم. دورنا فيه هو ترشيد المسيرة البشرية في مجال غايات التنمية ومرجعيات قيم العدل والتكافل. وفي المقابل، نقبل من الطرف المتعاون معنا والمعترف بخصوصيتنا، كل ما يتعلق بوسائل التنمية في إطار سوق حرة شفافة تنبذ الاحتكار والاستئثاربخيرات الكون. ( مقصد الحفاظ على النوع).
عوامل معوقة لتنافسية الفلاحة المغربية:
إضافة إلى المعوقات المرتبطة بالبنيات العقارية والنقص الحاصل في التأطير التقني والبحث العلمي التطبيقي هناك عوامل إضافية أخرى تعوق تطور تنافسية فلاحتنا نلخصها فيما يلي:
1. نقص في الإنتاجية: مقارنة مع الدول المنافسة في هذا المجال فإن إنتاجية فلاحتنا ضعيفة في كل المنتوجات [ حوامض - حبوب أو مواد حيوانية ] وتطورها يستوجب مراجعة شاملة على مستوى البنيات العقارية، التمويل/ التسويق.
فلاحة مرتبطة بعوامل إنتاج مستوردة: تتسم المنتوجات الفلاحية الأكثر تنافسية بارتباطها بوسائل إنتاج مستوردة الشيء الذي يجعلها تتأثر بسرعة كلما كانت هناك ارتفاع لأسعار هذه الوسائل كما أنها لا تساهم في إدخال العملة إلا بشكل محدود. ذلك أن إنتاج الحوامض مثلا يكلف في هذا الشأن حوالي مليار درهم أي ما يعادل 50% من قيمة منتوجاته (C.A) المصدرة. قطاع الدجاج وقطاعات أخرى تخصص مبالغ جد عالية ومهمة لاستيراد المواد الأولية.
v الإسراع في إخراج خرائط المؤهلات الفلاحية لتحقيق جهوية الإنتاج ؛
v دعم البحث الزراعي لإنشاء مركز وطني لتطوير وتخزين الأصول الوراثية ؛
v التعجيل بتنفيذ الخطة الوطنية لإنتاج البذور بما فيها الشمندر السكري ؛
v تنفيذ البرنامج الوطني للري التكميلي، وإعادة النظر في أنظمة الري المتبعة ؛
v تعميم الـتأمين الفلاحي ؛
v حل إشكالية مديونية الفلاح وذلك بحذف الفوائد وجدولة أصل الديون بدون فوائد، ومنح قروض جديدة بدون فوائد لتمويل المواسم المقبلة؛
v حماية الإنتاج الوطني من الحبوب، بما فيها الذرة والقطاني والنباتات السكرية وتوسيع طاقات المعامل الإستيعابية، مع وضع أنظمة ملائمة لتسويق هذه المواد على المستوى الداخلي؛
v ضرورة تطوير البحث البحري والآهتمام بالمزارع المائية لتربية الأنواع المائية المختلفة؛
v تخفيض أسعار الطاقة ( كهربائية وبترولية) في مجال الإنتاج الفلاحي ؛
v ان نجعل مجتمعاتنا جميلة وان نعتنى بها وان نزرع الاشجار والزهور والاعشاب الطبية والخضروات.
v ان نضع حدا للاستخدام غير المسئول للأرض لاغراض اخرى مثل استخدامها لبناء المنتجعات الريفية او كملاعب للجولف الخ.
v علينا ايجاد أشكال جديدة من التنظيم ومن جمعيات ومن تعاونيات الفلاحين والذين يعيشون فى الريف, حول عمليات ادارة الاقتصاد والإنتاج والنظم المالية والتنمية الريفية. وان يتم ذلك بالتوافق مع التقاليد الثقافية والتنظيمية لمجتمعنا, تبنى على مبادئ الدعم المتبادل والتعاون الزراعى. ذلك التعاون الزراعى فى العمل, والتراكم الاجتماعى لرأس المال, هو عملية طبيعية لتنمية قوى الإنتاج...
v الحق فى التعليم من الاهمية بمكان مثله فى ذلك مثل الحق فى الأرض, وذلك لضمان مستقبل افضل لاطفالنا ولشبابنا ولنسائنا فى البوادي وحواضرها.
v الحق في الضمان الاجتماعى كعنصر لايمكن اغفاله فى حالات المرض او الشيخوخة.
فى عالم اليوم, امام سيطرة قلة من الاحتكاريين للصناعة الزراعية وسرعة العمليات التكنولوجية الحديثة, ينبغي أن يضمن الفلاحون وعمال المؤسسات التحكم فى تحالف الصناعة الزراعية الذي يقوم بتحويل المنتج الزراعى الى طعام.
من الضرورى تطوير نماذج تكنولوجية لديها فرصة زيادة الإنتاج وزيادة إنتاجية العمل, دون تأثير ضار على صحة الفلاح والسكان عموما، ولها القدرة على الحفاظ على مصادر الثروة الطبيعية. يجب ان تكون هذه التكنولوجيا ملك للجميع. وان يتاح الحصول عليها مجانا, من قبل الجميع. كما يجب ان تخضع التطورات التكنولوجية للسيطرة الكاملة عليها من قبل مجمل الفلاحين.
لابد من عناصر أصيلة لبناء ثقافة استهلاكية حديثة. فالاستهلاك الشره والاحتكار البشع لخيرات الكون إلى حدود جنونية، تستدعي تدخلنا الشرعي لتقويم الانحرافات الخطيرة والممارسات اللامسؤولة.
يطلقون عليها اسم البقرة المجنونة ولا ذنب لها سوى أنها أكلت من لحمها لما قدموه لها تغذية غريبة عن الطبع، يستزيدون بها الإنتاج الجنوني للحليب واللحم، ثم لا يترددون في إتلاف المنتوج الفائض حفاظا على الأثمان في السوق، غير عابئين بمجاعات أفريقيا... فأي نوع من الجنون أخطر يا ترى ،جنون البشر أم جنون البقر؟
دواجن مغذاة بالهرمونات والعلف الملوث بالمواد الكيماوية كالديوكسين والعضوية الضارة، كحبوب منع الحمل. لماذا ؟ لكي تسمن وتنمو في زمن قياسي ويصبح الكتكوت دجاجة كاملة وزنها نحو كيلو غرام في مدة لا تزيد عن شهر. وماذا يقوله الأطباء المختصون عن أضرار هذه الأنواع من اللحوم على صحة الإنسان؟ آثار خطيرة على عملية الإخصاب بالنسبة للرجل والمرأة على حد سواء إضافة إلى أضرار أخرى على صحة الإنسان، واختلال هرموني لدى الأطفال الذين يكثرون من تناول هذا النوع من الدواجن وظهور أثداء لهؤلاء الأطفال، وآثار ضارة أخرى على الكلى والكبد وغيرها من أجهزة الجسم الداخلية.
للحفاظ على مصالحهم الاقتصادية، كانوا قاب قوسين أو أدنى من إيهام بعضهم البعض على قلة خطورة الوضع . فباغتهم الله بجند الحمى القلاعية ليقلعوا عن مغالطات البشرية.
لكن لا بأس من تصدير المنتوجات الملوثة للبلدان المتخلفة التي لم يكن للإنسان عندها اعتبارا مذكورا. فتفقدوا لوائح التخلف فوجدوا المغرب مصنفا مع الأواخر ، فتم تزويده بحليب نيدو الملوث وبالأبقار المريضة وبدجاج الديوكسين ، ولا بأس من تسممات البارحة التي مرت كسحابة صيف سنة من السنوات العجاف.
ينبغي إبراز دورنا التربوي الشمولي الذي يهدف لوضع دستور منهاجي لتغذية الإنسان، ولتحديد ملامح اقتصاد الكفاية والقصد في هذا القطاع، لعلنا يوما نكون من المساهمين في ترشيد المسيرة البشرية المبنية على الاستهلاكية المتصاعدة وما يرتبط بها من إسراف وتبذير وتغيير لخلق الله وانتشار للسمنة وأمراض الكوليستيرول والسرطان ...
ففي عالم يزيد فيه حجم تجارة الأغذية على 400 مليار دولار سنويا في الوقت الحاضر، تتصدر الأمة العربية قائمة المستوردين للحوم الحمراء والبيضاء. من يضع معايير الأغذية التي يروجها الغرب في بلداننا؟
ما هي الخلفيات والمرجعيات التي تعتمدها منظمة الفاو لوضع دستورها الغذائي العالمي؟
قال صلى الله عليه وسلم "المؤمن يأكل في معى واحد والمنافق يأكل في سبعة أمعاء" متفق عليه من حديث عمر وحديث أبي هريرة أي يأكل سبعة أضعاف ما يأكل المؤمن أو تكون شهوته سبعة أضعاف شهوته. ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل سمين البطن فأومأ إلى بطنه بإصبعه وقال لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك أخرجه أحمد والحاكم في المستدرك والبيهقي في الشعب من حديث جعدة الجشمي وإسناده جيد . وجاء في الأثر: البطنة أصل الداء والحمية أصل الدواء.
وقد ذكر الغزالي في كتاب الإحياء عدة فوائد في منهاج التغذية السليمة:
أن لا يأكل إلا حلالا فإن العبادة مع أكل الحرام كالبناء على أمواج البحار وقد ذكرنا ما تجب مراعاته من درجات الورع في كتاب الحلال والحرام ...؛
أن يقتصر في اليوم والليلة على أكلة واحدة وهذا هو الأقل وما جاوز ذلك إسراف ومداومة للشبع حتى لا يكون له حالة جوع وذلك فعل المترفين وهو بعيد من السنة فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تغدى لم يتعش وإذا تعشى لم يتغد ... وكان السلف يأكلون في كل يوم أكلة وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة إياك والسرف فإن أكلتين في يوم من السرف وأكلة واحدة في كل يومين إقتار وأكلة في كل يوم قوام بين ذلك. أخرجه البيهقي في الشعب من حديث عائشة.تقدير قدر الطعام في القلة والكثرة؛
تقدير وقته في الإبطاء والسرعة؛
وتعيين الجنس المأكول في تناول المشتهيات وتركها...فنجد الإمام رحمه الله قد سبق علماء التغذية المعاصرين في تصنيف المواد المكونة للطعام، قال: وأعلى الطعام مخ البر فإن نخل فهو غاية الترفه وأوسطه شعير منخول وأدناه شعير لم ينخل وأعلى الأدم اللحم والحلاوة وأدناه الملح والخل وأوسطه المزورات بالأدهان من غير لحم وعادة سالكي طريق الآخرة الامتناع من الإدام على الدوام بل الامتناع عن الشهوات فإن كل لذيذ يشتهيه الإنسان...
كيف سيكون عليه حالنا لو استطعنا بعث الهدي المحمدي في نمط عيشنا؟ كم ستكون حاجياتنا من الأزواد؟ كيف سينعكس ذلك على موازنات اقتصادنا؟
ماهي القواسم المشتركة بيننا وبين دعاة الاقتصاد التضامني الإيكولوجي الذي شعر البعض في الغرب بضرورة تنصيبه مكان الاقتصاد الاستهلاكي المهيمن في زماننا؟
كيف يمكننا حماية أنفسنا كمستهلكين من جشع المنتجين الذين لا يتورعون من ترويج البضائع المضرة؟
مع من نتكتل لبناء اقتصاد يسلك بنا سبل الاعتدال بين طرفي الإسراف والإقتار ؟
كيف نبني أسس هذه المعارضة الاقتصادية انطلاقا من أرض الواقع؟
تلك هي المسائل المتقدمة التي سنكون لا محالة من أهل السابقة لترشيد المسيرة البشرية فيها.
والله المسدد الموفق لفعل الخيرات وترك المنكرات، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حرر بالرباط بتاريخ 14 ابريل 2004
[1] الأسبوع الصحافي - عدد 17 / 455 - 19 يونيو 1998.
[2] جاء في كتاب الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى تحت عنوان وضع الوظيف المسمى في لسان العامة بالنائبة ( الدولة السعدية) :"قد تقدم لنا في صدر هذا الكتاب اختلاف العلماء في أرض المغرب هل فتحت عنوة أو صلحا أو غير ذلك وعلى القول بأنها فتحت عنوة فهي خراجية، كما هو مقرر في كتب الفقه. وتقدم لنا أيضا أن أول من وظف الخراج على أرض المغرب عبد المؤمن بن علي (الموحدي) وتبعه بنوه على ذلك، وقفا نهجهم بنو مرين. وفي الظهير الذي كتبه السلطان أبو زيان المريني لابن الخطيب أيام مقامه بسلا شاهد بذلك. ولما جاء السعديون من بعدهم سلكوا هذا السبيل أيضا."
[3] عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثم لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض حتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحدا يقبلها منه وحتى فاذا أرض العرب مروجا وأنهارا " صحيح مسلم ج: 2 ص: 701
مقاصد الشريعة هي: الحفاظ على الدين - الحفاظ على المال والثروات المشتركة - الحفاظ على الذات - الحفاظ على العقل - الحفاظ على النوع.[4]