قصة بلطجي تائب
محمد المهدي الحسني
16 غشت 2011
كان الطالب المهدي يصلي التراويح بالناس، في مسجد قرية أمازيغية من قرى جبال الأطلس الشامخة. كانت البرودة المفرطة، والثلوج التي تحيط بالبلدة من كل جانب، تمنع جيوش الفرنسيين من الاقتراب من القرية التي استعصت على الغزو.
لقد صممت حروب التهدئة على بسط حكم الحماية على آخر منطقة حرة توافد عليها المجاهدون من كل المناطق الأطلسية. ولربما كان منهم من أتى من سهول "أزغار"، استجابة لواجب مقاومة المحتل، غير عابئين بما حبكه السياسيون من معاهدات مجحفة، مع المستعمر في المناطق الحضرية المحتلة.
كان الرجال متبتلين في تراويح ليلة السابع والعشرين من رمضان، لسنة 1934. وبينما كان الطالب المهدي في صلاته مركزا كل اهتمامه على الذكر الحكيم، سقطت عليهم من كوة السقف قنبلة يدوية، فانفجرت ودمرت جانبا من المسجد. وانزعج المصلون ولكن أكثرهم بقوا في صلاتهم ثابتين. ثم رميت عليهم أخرى، فما انزعج الإمام، بل كان همه ختم القرآن قبل طلوع فجر ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر! إلا أنه تناول مسدسه الذي كان يضعه أمامه قرب مكان السجود، وأطلق صوب السقف ثلاث طلقات، وأتموا صلاتهم ولم يصب أحد بأذى. ولما أشرقت الشمس تفقد سلهامه الصوفي الغليظ، فوجده مثقوبا من فعل شظايا القنبلتين. وكذلك كان حال سلاهيم وجلابيب جل المصلين. فأضحت كرامة حفظ، كلهم منها يتعجبون!
وبعد انتهاء الحرب ولجوء الفقيه المهدي إلى بلدة "إغرم نواسيف" على ضفاف نهر أم الربيع، زاره شخص من قبيلة "آيت حديدو"، فسلم عليه بحرارة، وقبل رأسه، وطلب منه أن يسامحه. فاستغرب من طلب هذا الرجل وهو لا يعرفه، فقال له : " أسامحك على ماذا؟ " فقال له: " أتذكر تلك الليلة التي نزلت عليكم القنبلتان وأنتم في الصلاة في مسجد "آيت هاني"؟ فأجابه: "نعم أتذكر ذلك، وقد مضى على الحدث أكثر من أربعين سنة". فقال له الرجل: أنا الذي رميتكم بالقنبلتين، وكنت أستعد لتسديد الثالثة، لكنني هربت لما سمعت صوت الرصاص قادما من المسجد. فسامحني لأن ظروف الجهل والفقر أرغمتني على طلب الانخراط في فرقة " الكوم البرتيزة " الذين كانوا يقاتلون في صفوف الفرنسيين، فأجابني الضابط الفرنسي: " إن كنت فعلا تريد قتال الثوار، فقدم لنا الدليل على صدقك" وناولني ثلاث قنابل وقال: "برهن عن شجاعتك واذهب إلى ضرب الثوار في المسجد". فكان ما كان ودخلت في الخدمة معهم.
فضحك الفقيه المهدي، وعانق ذلك الرجل النادم على فعله القديم، وقد أجهش بالبكاء الصادق. فقال له " عفا الله عما سلف " لقد كانت فتنة أشعلها المحتل الغاشم، وهو الذي تحمل اللعنة التي تتنزل على كل من يوقظ الفتن ويشعل الحروب" !! " انتهى المقتطف بتصرف من مذكرات نضال ضد الفساد".
القرن الماضي كانت له إذن بلطجيته : مستضعفون اتبعوا النظام في تحالفه مع قوات الغزو الفرنسي في "حروب التهدئة" حسب مصطلحهم. ويسميها الأمازيغ الأحرار: جهاد الغزو العسكري الفرنسي والإسباني.
وهذا القرن له بلطجيته أيضا، قوم اتبعوا علية القوم في قمعهم لثورة الشعب ضد دين الفساد والاستبداد. مقابل سكوت قائد المنطقة الأمنية على ملفات فسادهم الصغير: كترويج المخدرات أو السرقة الموصوفة أو إدارة وكر للدعارة... وغير ذلك من ملفات "الكنترول" التي تحبك لاستعباد المستضعفين وتسخيرهم في المهمات القذرة، وقد دربتهم على أساليبها "الموصاد" الصهيونية. وتلك هي المياه العكرة التي ترتع فيها جراثيم الفساد من كل نوع.
بلطجية القرن الماضي كانت زمن القلاقل التي تعرف ب"السيبة". كانت السلطة المركزية للدولة لا تصل إلى هذه المناطق التي يطلق عليها لذلك بلاد "السيبة" أي البلد السائب. أما المناطق التي تخضع للسلطة المركزية فتسمى "بلاد المخزن"، ولا يعني الخضوع للمخزن آنذاك سوى أداء الضرائب، ومصادرة السلاح، ولو كان أحيانا سلاح حماية الثغور من هجمات الصليبيين المتربصين بالبلد منذ قرون. ولربما كان أيضا من بين مبررات التسيب والانفلات من السلطة المركزية، عادة مقيتة يمجها الطبع ولا يرضى عنها الشرع: إنها موضة رفع أعلام الحماية القنصلية الغربية أمام البيوت. دشنها اليهود المغاربة، وتبعهم بعض الأعيان المترفين... ثم استفحل الأمر عندما تبعهم القصر في تلك الموضة النكراء التي تطورت إلى عقد الحماية، وأسست لثقافة الهزيمة، وتغيير الولاء والاستقواء بأعداء الدين. وكان رفع تلك الأعلام يعني الخضوع للقوانين الأجنبية، وبالتالي التنكب عن قوانين الشريعة. وذلك سبب من أسباب تحنيط أحكام القرآن في المعاملات عندنا، الذي لا يزال ساريا إلى يومنا هذا، ومنه نبت الفساد والاستبداد.
فلما استيقظ وعي البلطجي السالف ذكره، وندم ضميره على سُخرته لحماية الباطل، جاء يطلب الصفح في الدنيا قبل الآخرة، من الجهة التي أراد التنكيل بها: عمار بيت الله في ليلة القدر. ومن حسن حظه أنه لم يصب منهم أحد، ولربما لم تلطخ يديه بدم أحد من المسلمين، أثناء الفتال، لأن "الكوم" أي القوات المساعدة، كانوا يعوضون رصاص بنادقهم بالكاغيد.
وبلطجية القرن الحالي ظهروا في زمن تحرك الشعب لاستكمال تحرره من مخلفات الاستعمار الاقتصادي والغزو التشريعي الأجنبي... يُـسَـخـرون للتنكيل والتشهير بشباب طاهر، يقيم الصلاة أمام برلمان الشعب، ثم يشارك الناس لقمة إفطار جماعي، يذكر المغاربة بالتكافل الاجتماعي وبكل القيم السامية التي أتت بها تعاليم دينهم...
وعما قريب سوف يستيقظ وعي "البلاطجة" الجدد، وسوف يصحو ضمير"البرامكة" الذين يُـسَـخرونهم. وستُـصقل معادنهم، وتبرز نخوتهم. فتنبعث حركية ثورة المغاربة أجمعين، حكاما ومحكومين، كما كان زمن مقاومة المحتل في القرن الماضي. فيتم استكمال تحرير البلد من دين الفساد والاستبداد. فينعم الجميع بالكرامة الآدمية التي كتب الله لخلقه أجمعين... تنفيذا لإرادة رب العالمين عز وعلا: {{ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (}}. "الإسراء؛70 ".
وقلة قليلة ممن يحملون في دمائهم معدن الخسة ، وفي ذهنياتهم استعلاء حداثة النعمة ( المشتاق إذا فاق)، وفي طبائعهم غرائز العدوانية... قلة قليلة سوف ينظر إليهم الشعب في أقفاص المحاكمة العادلة، كما نرى هذه الأيام في محاكمة الفراعنة الجدد في مصر الشقيقة. وهم كذلك سوف ينظرون إلى الناس من خلف قضبان، فيكتشف الشعب عبر نظراتهم المتغطرسة، أنهم غير نادمين على ما قصروا في جنب الله، وفي جنب الشعب... فلا يصدر منهم أي طلب للصفح، كما صدر عن بلطجي القرن الماضي رحمة الله عليه، والمستغفر من الذنب كمن لا ذنب له، شريطة طلب العفو ممن ظلمهم من البشر ورد مظالمهم. فيحق القول على المتغطرسين، فيقبلون على الملحمة غير تائبين ولا نادمين... فتطهر الأرض من فسادهم واستبدادهم. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
حرر بإنديانا ـ الولايات المتحدة
بتاريخ 11 غشت 2011
محمد المهدي الحسني