نضال ضد الفساد
البيئي
قصص من مذكرات شاهد
الجزء الثاني:
سبح ضد التيار
محمد المهدي الحسني
ماي 2008
فهرس الجزء الثاني
تلوث فكري وهوية في مهب الريح: 8
تداعى إيوان كسرى... وصَلُحَ الدِّين 15
الأوامر السلطانية للإصلاحات الإدارية... 19
هل من عمل جاد لمقاومة الفساد؟ 25
رحلة التوبة والفوائد التي لا تحصى... 43
المحطة الأولى: روما وأصول اللاييكية... 44
المحطة الثانية: استنبول وقصة شيخ محمد الفاتح 47
المحطة الثالثة: زيارة المدينة المنورة ودروس وقعة الخندق 52
المحطة الرابعة: مرحلة مكة المشرفة: آيات الجمال والجلال 61
لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى : 70
الخطوات الأولى مع الشباب المصلح... 72
تنطع وتكفير وفرص ضائعة للوحدة: 77
الفراق... حذرا من تبعات الفكر التكفيري: 79
بسم الله الرحمن الرحيم
آفاق أخرى ستكشفها المذكرات ، يتوسع فيها فضاء النضال، بتوسيع زاوية النظر إلى الحياة، ليس فقط بالعين " التقنية " المستفيدة من الطبيعة ووحيها وقوانينها ومشاغلها، وإنما كذلك بعين الشريعة التي تضبط موازين القسط في المعاملات ومعايير الأخلاق والقيم والمثل العليا. وذلك هو الجانب الذي كان مغيبا تماما في البيئة "المفرنسة" التي بدأ فيها الكاتب حياته التعليمية والعملية.
وانطلاقا من نموذج من التلوث الفكري الرهيب والغزو الثقافي الكاسح الذي عانى الكاتب من تلبيساته في تعليمه وفي عمله، تروي المذكرات ظروف محاولات لدفع أخطاره، في إطار مبادرات إصلاحية فردية لم يكتب لها الاستمرار والتوسع المأمول... ذلك أن التيار المفسد منظم، ومسيطر على مراكز القرار والتوجيه والتسيير والتخطيط في البلد... وأنه يناضل كذلك نضالا شرسا لكي لا يكون أي إصلاح للشأن العام في المغرب إطلاقا. وإن كان ولابد، فلا ينبغي أن يكون الإصلاح ينطلق من الطاقات الذاتية والمرجعية الإسلامية.
لولا تحزب أنصار الإفساد في إطار ذلك التيار "ما بعد - استعماري" الذي أحكم السيطرة على البلد، لتم الاكتفاء بالعمل الفردي الإصلاحي. لكن طبقا لقوانين الفيزياء: التيار لا يقاومه إلا تيار مضاد يعادله في القوة ويخالفه في الاتجاه.
لكن قبل الانخراط في العمل الجماعي مع التيار المصلح، كان من الضروري القيام برحلة استكشافية عبر الزمان وعبر المكان، للمقارنة بين الملل والنحل والمذاهب والتجارب الإنسانية الكبرى، والتي تدعى كل منها أنها وحدها على الصواب، وغيرها على الباطل.
· رحلة عبر التاريخ تبحث في الهوية وفي الأصول والفروع نسبا وصهرا ، يكتشف فيها نماذج متميزة من جهاد الآباء للحفاظ على الدين ولحماية الوطن من الغزاة المحتلين.
· ثم رحلة الحجة الأولى، التي كانت محطتها الأولى روما، عاصمة الرهبان الذين ضلوا الطريق بشهادة من أهلها البروتيستان واللاييكيين. والمحطة الثانية كانت استانبول التي تذكر الزائر ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم في فتحها، وتعرض نموذجا لأمير وجيش وشحهما النبي صلى الله عليه وسلم بأعظم وسام للمجد الدنيوي والأخروي: قوله صلى الله عليه وسلم عنهم: "نعم الأمير أميرها، ونعم الجيش جيشه"... الذين فتحوا القسطنطينية فحققوا البشارة الأولى، في انتظار تحقق الثانية: فتح روما، الذي بشر به كذلك النبي صلى الله عليه وسلم. ثم كانت مرحلة المدينة المنورة وذكر أشواق زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وذكر دروس غزوة الخندق ومقارنة أحداثها وعبرها بواقع الصحوة الإسلامية في زمننا... ثم مرحلة مكة المشرفة، ومشاعر الجمال والجلال التي طبعتها. وهناك يعثر الحاج على الفوائد الأخرى، التي تعمق الإيمان وتجدرالانتماء لهذا الدين، وتوضح أصول الهوية، وتبين فضاءها الجغرافي الرحب، وتنوع أجناس المتعلقين بها في كل بقاع الأرض... ويكتشف الحاج كذلك ويتعرف على نماذج من الرجال والجماعات الذين يدافعون عنها، منهم من يمثل جناح الصحوة السني، ومنهم من يمثل جناحها الشيعي، و"لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى".
وتعرض الذكريات ما حدث مباشرة بعد الرجوع من رحلة الحج: تلك الخطوات الأولى مع الشباب الإسلامي، وما يطبع البدايات من حماسة واندفاع... وما كان من محاولات لتجنب الفتن، والمنعرجات الخطيرة... وتبعات التنطع والتكفير...وتذكر كيف ظهرت واتسعت بوادر الفرقة في جسد التيار الإسلامي، عبر أمثلة للفرص الضائعة لترشيد العمل وتوحيده، وحمايته من الاحتواء والمسخ اللاييكي.
ثم كان ذكر تلك الظروف التي وقع فيها اعتزال النضال في صف الجماعة الأولى، حذرا من تبعات الفكر التكفيري، واجتنابا للاندفاع في "فم الأسد"، الذي كان يمثله العمل السياسي المنضبط في حظيرة العقيدة اللاييكية، يقف عند "خطوطها الحمراء" لا يتجاوزها، ولو كان ذلك على حساب العقيدة الإسلامية...
ثم كان ذكر الظروف التي دعت إلى طلب الاستقالة من المسؤولية في العمل الإداري مع الدولة، حذرا من تبعات المخالفات الشرعية المرتبطة بالعمل اليومي في الإدارة الغابوية...
وهكذا تم التفرغ للتحيز إلى الفئة الأخرى من رجال الحركة الإسلامية، بعد سعي حثيث في البحث عن "بوصلة السبح" في عوالم المقاربة اللانهائية لطلب الحق... والحق عزيز لا يدرك إلا بالاعتراف بالعجز عن إدراكه، والملأ الأعلى يطلبونه كما يطلبه البشر... أخبار هذه المرحلة سوف تعرض إن شاء الله في الجزء الثالث من المذكرات...
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم...
وصل اللهم على سيدنا وحبيبنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، والحمد لله رب العالمين...
كتب بالرباط، يوم الإثنين 13 ربع الثاني 1528، موافق 19 ماي 2008
محمد المهدي الحسني
لقد وجه الفرنسيون التعليم العصري في المغرب لكي يكون "لاييكيا" كما هو الحال في فرنسا. كان في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر صراع شرس في فرنسا بين فئة من المثقفين اللاييكيين الذين تؤطرهم "الماسونية"، وفئة من المتدينين الذين تؤطرهم الكنيسة. انتصر دعاة اللاييكية، فغيروا مناهج وبرامج التعليم لتحرير السلطة الدنيوية والعقلية من سيطرة الكنيسة. ولربما صادفت الحركة اللاييكية الفرنسية الصواب في معارضتها للكنيسة البابوية التي كانت تحارب العقل وكل ما يناسب الفطرة الإنسانية. وكانت من قبل قد حرفت رسالة التوراة والإنجيل التي جاء بها سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام. لكن اللاييكية أخطأت لما عممت نفس الفعل على الإسلام، ففرضت على المسلمين مبادئ الفصل بين الدين والعقل والمعاملات. ومعلوم أن الإسلام يرفض الحكم بغير ما أنزل الله الذي تفرضه تلك المبادئ اللاييكية العلمانية.
لذا كان التعليم الذي تلقاه مهندسنا السيد “طالب” في المدرسة الإبتدائية والثانوية، لا يلفت انتباهه إلا لجانب العبادات في الدين. أما الجانب من الدين الذي يخص التربية والمعاملات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها، فلا تكاد تجد له ذكرا، رغم أن "الدين المعاملات" كما تنص على ذلك تعاليم الإسلام.
أما التعليم العالي، في المعهد الزراعي لتكوين المهندسين، وفي فرنسا، فزاد في الطين بلة. انقطعت صلة صاحبنا حتى بشق العبادات والعادات. أما اللغة العربية وعلومها وفنونها، فلا وجود لها يذكر ضمن المواد المدروسة، المكتبات خالية الوفاض منها، ولا ذكر لها كذلك في الإدارة والتسيير.
والأدهى والأمر في الفاجعة، أن مادة التشريع الإسلامي القروي لما رأوا ضرورة تدريسها لِما لها من قدم راسخة عند الناس في البادية، تكلف بتدريسها في تلك الفترة أستاذ في الحقوق، يهودي الديانة، شيوعي المذهب ! وجد الجو مناسبا لبث تحريفه وتزويره للشرع الإسلامي، فتمت معالجة علوم المعاملات من وجهة نظر ماركسية، أو وجهة نظر ربوية. لم يفطن لذلك الشاب “طالب” إلا بعد سنين عندما اطلع بمجهوده الشخصي على علوم المعاملات الإسلامية، من منابعها الصافية ومراجعها المحفوظة من التحريف الإسرائيلي. واطلع كذلك على تزويرات المستشرقين كأمثال "ماكسيم رودانسون" الذي كان مرجعا لأستاذ التشريع الإسلامي "اليهودي"! .
فكان المعهد لا يميز بين الغث والسمين، وكان يخلط السم بالدسم. السم هو ذلك الاعتداء على شريعة الإسلام ومنهاجه ولغة قرآنه. والدسم هو تلك العلوم المضبوطة المحايدة للعقيدة، التي تدرسها نخبة من الدكاترة المرموقين، يتوافدون بانتظام على المعهد من أشهر الجامعات العلمية في فرنسا وبلجيكا وكندا وأمريكا.
ولقد شكل المعهد الزراعي في أوائل السبعينيات بؤرة نشاط رهيب للتكتل اليساري. وكان صاحبنا “طالب” في تلك المرحلة، ممن استمالته أفكار العدالة الاجتماعية والتحرر من الاستبداد وغيرها من القيم التي لا تنكرها الفطرة السليمة. هذا التيار الذي كان يتزعمه أساتذة يهود ونصارى وملحدون، كان يعمل بحرية كاملة في المعهد، يستقطب الشباب وخاصة الطلبة ذوي الأصول البربرية، ويؤطر التدريبات الميدانية، وكذا المظاهرات التي كانت تنظم في شوارع المدن وفي حرم الجامعات والمؤسسات. كانت تلك الاضطرابات إرهاصات للانقلابات على النظام، وقد قيل إنهم كانوا على علم مسبق بها والله أعلم.
يتذكر الشاب “طالب” تلك الليلة التي سهر فيها قرب مدفأة ذات نار حميمية مع طلبة صفه في مأوى الشباب بمدينة "أزرو" البربرية. كانت الثلوج تغطي المنطقة، وكان الطلبة يقومون بتدريب في الضيعات الفلاحية نهارا. وبالليل، تكون جلسات تعليمية مع مسؤول شعبة العلوم الاجتماعية الفرنسي الأصل، ومع أساتذة يهود من نفس الشعبة. كان الطلبة معجبين بأفكارهم التقدمية التحررية، ولكن ما كان يدهش الرفيق “طالب” في تلك الجلسات، هو ذلك اليقين الذي كانوا به يتحدثون: أن الثورة الحمراء آتية بعد حين، فماذا أعد لها الطلبة !؟. تعجب “طالب” كثيرا من ذلك اليقين، ولكنه ظن أن ذلك كان ربما بفعل الشراب الذي كان يروج من تحت الموائد.
الشراب الوافر الرخيص، والليالي الراقصة المختلطة، والمظاهرات والإضرابات الطويلة، ذلك ما كان رائجا في المعهد الزراعي في بداية السبعينيات. وبالكاد يتم إنقاد السنة الدراسية من الإضرابات التي تدوم شهورا وشهورا، بعدما تتنازل السلطات عن مواقفها، فتلبي معظم الملفات المطلبية النقابية. تنازلات تلو أخرى، وصلت إلى درجة ترك تسيير المؤسسات للطلبة اليساريين. وبطبيعة الحال كانت هناك تجاوزات مفضوحة رآها الطلبة في صورة سحابة من الباعوض والذباب والروائح الكريهة، تخرج من بيت أحد المسييرين اليساريين لمطعم الحي الجامعي. فلما فتحت المنظفة البيت ، وقد كان المعني غائبا، اكتشفوا أكواما مكدسة من الألبان واللحوم والخضر، كان يختلسها من مخزن المؤن ويستأثر بها هو وأصحابه المقربون. وحدث مرة أخرى، أن أفرغ أحدهم قنينة "الكريزيل" المعقم على نصف عجل مذبوح، أتوا به من المجزرة لتهيئ الوجبات في مطعم الحي الجامعي، حكم عليه أنه لحم فاسد. فلما أراد مدير الحي التدخل، غرس فيه "الرفيق" سكينا أوشك أن يصرعه، لولا التدخل السريع لمعالجته في المستعجلات. وهكذا...
ولقد ظن أحد الطلبة أن الباب أصبح مشرعا لتمرير كل الرغبات الطلابية، فقام يدعو لإدراج مطلب من نوع خاص: تخصيص قاعة فارغة كمسجد للمؤسسة، فتعالت ضحكات اليساريين، وانهمكوا في السخرية والتشهير به، فما لبث أن سحب طلبه، فاحتفلوا جميعا بأول قنينة خمر يشاركونها معه... وعوض تلبية طلب المسجد، تم تخفيظ ثمن المحرمات، إلى درجة جعلت من المعهد أكبر مروج لها، وللإباحية، والجهر بالطعن في المقدسات الإسلامية. فصارت عقيدة معظم الطلبة أن "الدين عفيون الشعوب"، وأن لا حرج في تسليم زعامة الثورة الحمراء للنشطاء اليهود المغاربة، كما حدث في انتفاضة ماي 1968 في فرنسا، تزعمها طالب يهودي يسمى "بينيديت كوهن" من جامعة "نانتير".
ولم يكن المعهد الزراعي وحده المصاب بمرض مسخ الهوية والتلويث العقدي والتلييك والإلحاد... نفس المرض أو أعتى كان ينخر كليات الحقوق والاقتصاد والآداب والعلوم وكل المعاهد الأخرى بدون استثناء، حتى كلية الشريعة لم تسلم من التلييك... ومن هذه المؤسسات تخرجت النخبة التي تسير البلد حاليا... منها ظهر رجال الاقتصاد والمال والأعمال الذين تعاملوا بالعقود المشبوهة وكل المعاملات التي حرم الله. ومنها انتشر القضاة والمشرعون الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، ويشرعون قوانين مستنسخة من التشريعات الأجنبية رغم مخالفة معظمها لشريعة الإسلام. ومنها تسرب التفسيق والتمييع إلى الفنون والآداب والمسرح والسينما والإعلام. ومنها تخرج مهندسون ومسيرون ومخططون أسسوا للتبعية الصناعية والتجارية والتنموية... وتفننوا في التخطيط للفقر والتصحر والمديونية والفشل الصناعي... وقس على ذلك من ملوثات للهوية ومنجسات للانتماء، نتجت عنها أمراض وفتن ومحن خطيرة، كانت السبب في تصنيف البلد ضمن البلدان الأكثر تخلفا واستبدادا وفسادا ...
في تلك الفترة المضطربة، كان صاحبنا السيد “طالب” يصرف الوقت الوافر الذي تتركه الإضرابات في مطالعة كتب الماركسية والكتب الكلاسيكية الفرنسية والروسية، فلقد كان يتعجب لنفسه كيف قرأ كتاب "تولستوي " الروسي " حرب وسلم" في أربعة أيام.
وكان أحد أصدقائه في شعبة الفنون الجميلة، يعلمه النقر على العود والقيثارة. يطول السمر بالطلبة وهم يستمتعون بأغاني عبد الوهاب وأم كلثوم، وبعضهم يفضل الأغاني البربرية، وبعضهم، من الذين قدموا من ثانويات البعثات الغربية، كان يستهويهم الاستماع إلى رموز موسيقى ماي 68 الفرنسية " بوب ديلان، جان بايز، ليو فيري، وما أحداث ماي 68 الفرنسية عنا ببعيدة، بلغت آثارها إلى الجامعة العصرية الوحيدة التي كانت في المغرب آنذاك.
لكن ما كان يوحد الطلبة جميعا باختلاف طبائعهم وأيديولوجياتهم وأهوائهم، هو التغني بالموسيقى الاحتجاجية التي أبدعتها آنذاك مجموعة "ناس الغيوان" المغربية. كانت مجموعة ناس الغيوان الصوت المعبر عن المستضعفين الذين عانوا من الفقر، وانعدام الحريات، وما تبع ذلك من انتفاضات وانقلابات وسنوات الجمر والرصاص. بل كانوا أعمق من ذلك الظرف الطارئ. جذورهم متصلة بمذهب الجذب الصوفي الذي يحذر من الدنيا وينصح الحكام ولا يتردد في التشهير بأعمال الجور والظلم التي تصدر عنهم.
لقد أعجب الشاب “طالب” بهذا الجو الطلابي المفعم بالمثالية والتحررية والعنفوانية. وتمثل له أنه يعيش في كنف "عوالم "التنوير" والوجودية" و"التقدمية" الذي كان يدمن على قراءة كتبها في تلك الفترة. يطغى عليه ذلك الشعور خاصة عندما تبلغ حميمية الجلوس في مقهى "شاتوبريان" الذروة. وكان ذلك المقهى القريب من الحي الجامعي القديم في أكدال، مكان تجمع الطلبة مع المناضلين والمناضلات والمثقفين والمثقفات، يتذاكرون حول مواضيع فكرية، مثل التي كانت تدور في مجالس متنوري فرنسا- يخيل لهم- فيظنون أنهم قاب قوسين أو أدنى من تغيير واقع متخلف بئيس يغلي ويضطرب...
نقل المعجب “طالب” هذا الجو الثقافي الثوري الجذاب، إلى إخوته الستة الذين كانوا يجتمعون أيام العطل في كنف الأسرة. فعلمهم مناقشة الكتب العلمية، وعلمهم كيف يتمتعون بالطبيعة الخلابة التي وهبها الله لوديان المنطقة الأطلسية التي يسكنون. علمهم القنص وصيد السمك. وعلمهم كذلك الموسيقى، فأقبلو عليها جادين حتى صار منهم هواة ينشطون في مجموعات. وبرز منهم من أصبح محترفا مبدعا في ميدان النقر على القيثارة والتغني بالمشاكل الاجتماعية التي يعاني منها الشباب. ولقد اعترف بهذا الإبداع في التعاطي مع القيثارة بعض رجال الغيوان وجيل جيلالة...
بعد عقدين من الزمن، سيحاول صاحبنا ترشيد صوت أخيه الذي ذاعت شهرته في الداخل والخارج، ليكون منشدا ملتزما بهويته الإسلامية. بعثه إلى إمام معروف في مدينة أطلسية ليرشد فنه، وليكسبه كصوت للدعوة. وكان قد اقتنع بالفكرة وبدأ فعلا يتكلم في أغانيه عن التوبة وعن المشاكل الحقيقية التي يعاني منها الشباب، وعن الرشوة والظلم... وعالج صوته في برامج الحاسوب المعقدة "لتأنيثه"، لأن الناس يُقبلون على الأغاني التي يتحاور فيها الرجل والمرأة، وغير ذلك من المعالجات المعقدة، لكي يبتعد عن محاذير الفن المبتذل السفيه.
فلما سأله أخوه عن حصيلة اللقاء مع ذلك "الإمام " أجابه": لقد كان لقائي مع عالمكم أول وآخر لقاء". قال أخوه مستنكرا: "لماذا؟" فأجابه: "ركب معي في السيارة، لقضاء غرض من أغراضه، وبينما أنا أسوق صاح في وجهي: " يمين يمين! بسرعة بسرعة!.." فلما قلبت الوجهة بسرعة كادت تؤدي إلى حادثة، قلت له: " ما المشكل؟ أهناك بأس"؟ فأجابني: " هناك إخوان أمامنا أستحيي أن يروني معك!". وما كان من الفنان المسكين، الذي ينوي أن يكون صوتا للدعوة، إلا أن كظم غيظه وأخفي غضبه من هذه الإهانة الصريحة. فقال له أخوه "طالب": " فهلا كنت تقف فتقول له: " انزل، يا أخ العرب، فزيادة على هذا السلوك الذي فيه شيئ من النفاق، أنت لا تفهم في ترشيد الفن ولا في الأدب شيئا..." فضحك الأخ المكلوم وقال: "مع الأسف لن يكون معه لقاء آخر لأفصح له عن هذه المشاعر الغليظة" ! فضحكا كثيرا وانتقلا إلى حديث آخر. كانت فرصة من الفرص التي يضيعها الدعاة الذين ربما ينقصهم شيء من فقه التيسير والتدرج وإبداع البديل الفني المباح المقبول.
وأصر صاحبنا في محاولاته الترشيدية، فتكلم هذه المرة مع فنان إسلامي، لا مع "فقيه" يميل إلى تضييق ما وسع الله على العباد. فخاب ظنه مرة أخرى عندما أجابه ذلك الفنان "الراشد": " إن فن أخيك يعجب المساجين كثيرا" ! ففهم "طالب" مراده، فقال له: "ألسنا كلنا في سجن كبير في غربة الإسلام هذه؟" أليست "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر""؟ فضحك وانصرف ولم يعر الأمر أي اهتمام. فالتمس له العذر وظن أنه مشغول بنفسه بما يكفي، لا وقت له لمساعدة "فنان المساجين"!! ولقد كانت تلك الإهانات الإخوانية من بين مبررات ترشح الفنان الشاب للبرلمان في صفوف أحد الأحزاب اليسارية التافهة.
لا يفوت مهندسنا الطالب “مياز” أن يذكر ويدعو بالدعاء الصالح لمؤسس ومدير المعهد الزراعي الذي كان السبب في تشييد ورعاية تلك المؤسسة الضخمة التي تشعبت وبلغ إشعاعها الآفاق. ويدعو كذلك بالهداية لأساتذته في العلوم الكونية في المعهد وفي مدرسة الهندسة القروية والمياه والغابات بفرعيها في باريس ونانسي. لأنهم علموه العلم النافع من العلوم الكونية المحايدة كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والفيزيولوجيا والجيوليوجيا وعلوم التصنيف والتشريح والوراثة والميكانيكا وعلوم الأرض والزراعة والمياه والغابات... وغيرها كثير لا مجال لذكره. وساهموا كذلك على تلقينه فن المهنة عبر رحلات تكوينية في غابات فرنسا وألمانيا وإسبانيا. وهي مناسبة لتعميم الدعاء الصالح وإدراج كل من علمنا وكل من كان له فضل علينا في تلقيننا العلم النافع... ويدعو كذلك حتى للذين ظنوا أنهم أحسنوا صنعا في تلقينه ذلك الفكر الذي يقول "الدين أفيون الشعوب" أن يغفر الله لهم ويهديهم إلى دين الحق...
وكبرهان لشكر تلك المؤسسة الرائدة، حاول الشاب “مياز” في بداية الثمانينيات بعد توبته من جاهليته، أن يقوم الانحرافات الخطيرة التي عانى منها في المعهد الزراعي، فكتب رسالة نصح صادقة إلى ذلك الأستاذ الفرنسي الذي كان مسؤولا عن شعبة العلوم الإنسانية في المعهد، والذي كان يدعو الطلبة إلى الانخراط في الحركات التي تتبنى مرجعيات الفكر الماركسي والاشتراكية العلمية، والفكر العلماني اللاييكي، لافتا نظره إلى موقف الدين من إلحاده، ومنبها إلى الضرر الذي أصابه وأصاب الطلبة من إباحيته. فلقد كرر السنة الدراسية وهو الذي كان من الأوائل في دراسته منذ بدايتها. وذكره بالعقاب الذي يتربص بالذين ينشرون الكفر والفساد والانحلال بين المسلمين، ويحاولون طمس هويتهم. ذكره خاصة بوعيد آية محكمة من كلام رب العالمين: ( ... وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ...الآية) (الرعد:31)
ولم يلبث السيد “مياز” طويلا بعد النصيحة حتى أتاه نبأ مؤلم: أخبار تقول إن رمال الصحراء المغربية ابتلعت ذلك "البروفيسور العبقري" هو وابنه في ظروف غريبة، لا يعلمها إلا المنتقم الجبار الذي لا يخلف الميعاد... ولا يحزن صاحبنا “مياز” من الأمر شيء سوى أن إدارة المعهد الزراعي أطلقت اسمه المشبوه على مدرج من مدرجاتها التعليمية.
أما عن المعارضين الآخرين الذين كانوا يغوون الشباب بالعدالة الاجتماعية شريطة "الحداثة اللاييكية"، أوالطعن "التقدمي" الصريح في الرسالة المحمدية، أو العرقية البربرية" فلم تنجح محاولاتهم للاستيلاء على الحكم والقضاء على النظام القائم. نتج عن تلك المحاولات تنكيل رهيب مضاد دبره النظام القائم في إطار ما يعرف بسنوات الرصاص... نسأل الله أن يحفظنا من مكر اليهود والنصارى والملحدين والمرتدين والظلمة والمستبدين.
وكتب السيد “مياز” بعد ذلك ، موضوعا في مجلة إسلامية عنوانه " ماذا يحاك ضد طلبة المعهد الزراعي" كشف فيه عن التجاوزات الخطيرة التي اقترفت ضد علوم المعاملات الشرعية واللغة العربية وضد البحث الزراعي وغير ذلك من السلبيات. فلربما كان ما كتبه “مياز” سببا في تغيير مدير المعهد، ولكن لم يتغير شيء في مناهجه وبرامجهه وخضوعه للفكر اللاييكي وتوجهاته في خدمة مصالح الغرب. وكان ذلك ما جعل المراجع “مياز” يحبذ ما فعلته الحكومة الإسلامية في إيران من إغلاق للجامعات إلى حين أنقطاع جذور تبعيتها وولائها وتجسسها لصالح أعداء الأمة.
ويقال إن حركية الهدم الممنهج في المعهد الزراعي تولاها ، بعد اليساريين، أتباع جمعية سرية معروفة بعدائها للدين الحنيف، وللغة العربية التي هي مفتاح فهم الكتاب المنزل من رب العالمين، رسالة خاتمة ومتممة للرسائل السماوية السابقة.
بعد سنين، سيتيقن السيد “مياز” من ذلك لما تعاقد مع شعبة الإيكولوجيا في المعهد لتكوين مهندسين يمنيين في مادة التدبير المستدام للثروات الطبيعية. فلما علمت الإدارة بمحتوى المادة، عاتبت الأستاذ المسؤول عن المشروع، مصرحة له معارضتها لتدريس المسألة العقارية للأراضي من وجهة نظر الشريعة الإسلامية... والأمر لله المدبر الخبير.
ورجوعا إلى الكلام عن ظروف وأسباب توبة صاحبنا- وسوف نرجع إلى التوبة مرارا وتكرارا لأنها فعل متوالي، يتكرر مع كل نَفَس من أنفاس حياتنا-، فعندما عقد المهندس الشاب "أبو صلاح" العزم على الابتعاد عن حياة الترف والتصابي وضياع الهوية والخواء الروحي، طرح له مشكل البديل الذي لامناص منه لملء الفراغ، إذ الطبيعة تكره الفراغ . البديل وجده "أبو صلاح" في إعادة تكوين نفسه بقراءة كتب التراث. ولا غرابة في ذلك : أول أمر نزل وحيا من رب العالمين على خاتم النبيئين صلى الله عليه وسلم": " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" (العلق:1)
نعم قراءة كتب التراث ومجلاته وصحفه التي كان من قبل لا يعيرها أي اهتمام بحكم ثقافته "الفرنكفونية" وتكوينه العلومي الدنيوي المتنوع.
ومن غريب الصدف أن يكون أول باعث لذلك، مجلات فرنسية واكبت أحداث الثورة الإيرانية مواكبة دقيقة، استرعت انتباه "أبي صلاح" في ظرف من الظروف التي لا تنسى.
كانت تلك المجلات الفرنسية متناثرة على طاولة في مصحة من مصحات مدينة القنيطرة. كان ينتظر فيها عشية اليوم الثامن عشر من شهر يناير 1979، فك سراح زوجته الحامل بالمولود الأول.
رغم ما يطبع المناسبة من تشتت ذهني واضطراب واختلاط لمشاعير البهجة والرغبة والرهبة من مسؤولية الأبوة، استرعى انتباه صاحبنا المضطرب من جراء سماع صياح مخاض الزوجة، عنوان موضوع من مواضيع المجلة: "إيران: مخاض ثورة". فقال في نفسه: " هناك مخاض وهنا مخاض" اللهم سلم... وكان في الفهرس عنوان آخر: "تداعي عرش الشاه". عنوان فجر ذاكرته لتستحضر أبياتا من شعر الامام البوصيري رحمه الله، صاحب الهمزية في مدح خير البرية الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى آله، كان والده يجمع أسرته بمناسبة عيد المولد، فيحيون اللية بالأمداح النبوية، ذكر منها هذين البيتين للمناسبة:
وُلـِدَ المصطفى و حُـقَ الهناءُ
آيةٌ منك ما تداعى البناءُ
وتوالَت بشرى الهواتف أنْ قد
وتداعى إيوانُ كسرى ولولا
ما قرأه "أبو صلاح" في الموضوعين كاد أن ينسيه حرج الظرف الذي يعيشه، وما كان يخرجه من حالة التركيز في قراءتهما من حين لآخر، سوى آهات المخاض التي يتوجع لسماعها ولكن لا حول ولا قوة له في دفعها.
ثم جاءت البشرى، جاء الطبيب يحمل المولود الذكر الذي وهبه الله لصاحبنا. فاستقبل عطية الله عز وجل بفرح وسرور وشكر وحمد لله على الموهوب وعلى سلامة الأم. ثم أذن وكبر في أذنيه. وسر التأذين، سمعه من أبيه، أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلمات الرب المتضمنة لكبريائه وعظمته، والشهادة التي هي أول ما يدخل بها في الإسلام. ثم خلد الحدث ليلا بكلمات توجه بها في مذكراته للوافد الجديد، بارك الله فيه وأنبته نباتا حسنا.
" يوم الخميس 19 صفر 1399 الموافق 18 يناير 1979، أبرزك الله إلى الوجود ليتحفنا بك ولنكون من الحامدين الشاكرين. أحداث مثيرة تزامنت مع ولادتك:
أولا: تداعي عرش شاه إيران الذي كان طاغية وكسرى هذا العصر: نكل بالعلماء ووالي الصهاينة وأعداء الدين، وأغدق عليهم من ثروات النفط، وأطلق العنان لأسرته ولحاشيته للانغماس في حياة البغي والترف والفسق... وتستعد إيران لاستقبال آية الله الخميني غدا بعد نجاح ثورته التي تجتهد في اتخاذ الإسلام مرجعا ومنهاجا.
ثانيا: وكأن العالم يحتفل بمولدك، فالأمم المتحدة قررت أن يكون عام 1979 "عام الطفل".
ذلك مما دونه للوافد المبارك. ولقد كانت العقيقة عبارة عن حفل وداع لحياة المسرفين. ذبح فيها المهندس التيهان عشرات الأكباش والطيور... ونشطتها فرق فلكلورية أطلسية وأخرى عصرية... وحضرها علية القوم من المعارف، وكذلك جل الأقارب.
أما التسمية، فلقد نوى من اختيار إسم "صلاح الدين" أن يكون تيمنا وفاتحة خير وفالا حسنا وشعارا لمرحلة التخلي عن أفعال الغافلين، والتحلي بأخلاق الصالحين المصلحين. وتمنى أن يكون صلاح الدين الأيوبي قدوة ومثالا في العمل من أجل تحرير النفس من سيطرة الأهواء، والمساهمة في تحرير الأمة من كيد الأعداء.
و" إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرىء ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" .
وبعد الولد الأول لم يكترث مهندسنا الشاب بموضة تحديد النسل التي كانت رائجة عند أقرانه، حسن ظنه بالله الخلاق الرزاق، ساعده للامتثال لربه الذي أمر أن لا نكون من الذين يصادرون حق النسمات في الحياة ويحكمون عليها بالإعدام. والأمر جاء مكررا في آيتين: قوله عز وجل ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الأنعام:151)؛ وقوله تعالى: ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً) (الاسراء:31). وجاء الأمر صريحا صحيحا في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: " تناكحوا تناسلوا تكاثروا فاني مباه بكم الأمم يوم القيامة".
ثم أن نضاله ضد الإفساد في الأرض يستمد فقهه الجامع من قول الخبير الحكيم تبارك وتعالى: ( وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة:205)، يوضح لنا عناصر الإفساد وآلياته:
· سيطرة المفسدين على الحكم
· والسعي في الأرض ( في الإطار الحركي المنظم للتيار المفسد)
· لوضع آليات الإفساد (التلوث الإيكولوجي الذي يجلب التصحر وإفساد البيئة الطبيعية : إهلاك الحرث)
· ولتوسيع تلك الآليات لتشمل الإنسان عبر سياسات التفقير والتمييع والتشريع الهادف لتفشي العقم وخفظ نسبة الخصوبة ( إهلاك النسل)
· وذلك مخالفة للحكم بقوانين العدل الشمولي الذي أنزل الله عبر كلماته الشرعية ( قوانين الشريعة)، وما أظهر الله عبر كلماته الكونية التسخيرية ( قوانين الطبيعة).
ذلك ما سيهيئ صاحبنا “أبا صلاح” وييسر له استقبال ثمانية أبناء بارك الله فيهم وفي جميع أبناء المسلمين، ستة ذكور وبنتين، توفى الله واحدة في حادث مؤلم في عامها الثاني، ولله ما أعطى وله ما أخذ. ونجى الله الثانية من إجهاض مبرر، قرره الأطباء بعد إصابة الأم بداء ( rubéole )، وهو نوع من "بوحمرون" ينتقل إلى الجنين، فيسبب له إعاقة خطيرة حسب تقرير الأطباء.
استفتت الزوجة عالما مفتيا في النازلة، فأباح لها الإجهاض. فلما جاء وقت إمضاء القرار رفض “أبو صلاح” الإجهاض لأنهم قالوا إن هناك احتمال في النجاة من الإعاقة ولكنه احتمال ضعيف. أجابهم “أبو صلاح”: " وجود احتمال واحد في الألف بالنجاة، واستعدادي لتحمل إعاقة محتملة لولد وسط ستة وهبهم الله لي سالمين، ذلك يجعلني رافضا لعملية الإجهاض، ونسأل الله العفو والعافية والمعافاة"... فلما أقبلت الزهراء على الدنيا، ولدت كاملة سالمة لا أثر لمكروه فيها، ولله الحمد وله الشكر. وهي الآن في عامها الثامن عشر تتبوؤ مراتب الصدارة في دراستها في أمريكا مع إخوانها الآخرين، وتبارك الله أحسن الخالقين.
"لقد أصبحت من علية القوم " هذا ما قاله أحد أطر الحركة الإسلامية للمهندس “أبي صلاح” لما تيسر له إرسال ولده الأول للدراسة في أمريكا. وظن أن هذا القول لا يصدر إلا عمن تعظم الدنيا في عينيه، وهي لا تساوي عند الله جناح بعوضة. كثير من التوكل على الله، وحرص على العدل بين الأولاد، وشيء من التدبير والتخطيط والتضحية والاقتصاد في المعيشة: ذلك ما يسر لزوجة “أبو صلاح” تكرار تجربة ولدها الأول. ولها في ذلك حافز كبير. لقد كانت في عملها كمفتشة للرياضيات في أكاديمية التعليم، تتألم لرؤية القمع الهمجي المتكرر لاحتجاجات حملة دبلومات الدراسات العليا، ووقفاتهم ضد تعطيلهم ومنعهم من حق الشغل. ويتحول ألمها إلى رعب هستيري عندما تتحول الوقفات السلمية إلى مجازر تكسر فيها أجهزة قمع المظاهرات عظام الدكاترة المعطلين. والرعب يأتيها خاصة عند تصور مصير أبنائها ضمن الشباب المهمش المنكل به.
ولقد تعجب “أبو صلاح” من تفشي موضة تحديد النسل حتى عند بعض زعماء الحركة الإسلامية. نعمة الخصوبة التي وهبها الله للمسلمين يريدون تصويرها لنا نقمة. لقد سقطوا في كمين "الماسونية" التي تعمل جاهدة وتمول وزارة الصحة من أجل تحديد نسلنا. لقد سلط الله على أمم الغرب تقلص النسل وتفشي العقم، وذعروا لذلك ذعرا شديدا. وعوض معالجة المشكل عندهم، عمدوا لتعميمه عملا بشعار إذا عمت المصيبة هانت. تماما كما سيفعلونه بعد سنين بداء الأيدز المشؤوم.
بعد عقود سيرى “أبو صلاح” صحة توقعاته، لقد نجحوا في تحقيق تقلص النسل عندنا، ونجحوا كذلك في نشر داء الأيدز ويسمونه في المغرب داء السيدا. عن طريق تمويل الماسونية لأنشطة منع النسل في المدن والبوادي... وعن طريق تمويل أنشطة التفسيق، وعن طريق آخر لا يكلفهم سوى قليل من الدهاء والمكر للتسرب إلى جهازنا التشريعي. فعمدوا بتحريك وكلائهم لتمرير مدونة المرأة، وكان فيها السم في الدسم، تفشي العنوسة والعزوف عن الزواج، وما يتبع ذلك من ممارسة للجنس خارج الإطار الشرعي وتفشي العقم والأمراض الجنسية الخطيرة. ذاك هو السم القاتل. والدسم الذي به يغوون البلداء من المشرعين، دعوى تحرير المرأة وتكريمها. وياله من تحرير يدفعها إلى سوق الدعارة والنخاسة... تبع ذلك طبعا انتشار عدوى ذلك المرض المشؤوم، وأمراض أخرى يسلطها الله على القوم الذين تظهر فيهم الفواحش، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
هبت إذن رياح الصحوة الإسلامية بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران في نهاية عقد السبعينيات، ولربما وصل نسيمها إلى المغرب. ربما استنشق عبيرها بعض النافذين في الأوساط الحكومية، واستيقنتها أنفسهم، لكنهم نكسوا على رؤوسهم فانقلبوا ضدها من المستأصلين... تلك الأوساط التي ما فتئت تكرر أن الإسلام دين الدولة الرسمي، ما ظن مهندسنا السيد “مخدوع” أنها ستتنكر يوما لهويتها وعقيدتها ومبادئها، أحرى أن تساند ملل الكفر التي سلكت خيار تجفيف المنابع الإسلامية، وتلويث الهوية الثقافية. وسيستيقن من ذلك لما انتقل عمله الإصلاحي من الهم الفردي إلى الهم الجماعي، فقاموا ضده منكرين مسفهين... ثم مؤدبين شرسين...
لما شرع مسؤولنا السيد “مخدوع” في إصلاح نفسه وإصلاح أسرته، ظن أن من واجبه فعل الشيء نفسه لإصلاح الإدارة التي هو مسؤول عنها. ولقد ظن أنه فرض عليه الشروع في الأمر، لما وردت عليه رسائل من الوزارة، في موضوع الإصلاح الإداري. وتأكد الأمر لما وردت تعليمات تطلب منه ومن جميع المسؤولين العمل الصارم من أجل محاربة الفساد الذي ينخر دواليب الدولة. جاءت واضحة صريحة في إرسالية من وزارة الداخلية من ضمن ما جاء فيها: " ودون انتظار للتعرف على أسباب هذا المرض المزمن( يعني الفساد الإداري) فإن حكومة صاحب الجلالة قررت شن حملة بمثابة حرب لا هوادة فيها ضد الرشوة والتماطل واللامبالات" ... إلى قولها " ... ولست في حاجة إلى بيان الأهمية القصوى لهذه الحملة التي ستقومون بها داخل دائرة نفوذكم لمحاربة كل أنواع ومظاهر الرشوة واستغلال النفوذ والمحسوبية. وأهمية الحملة تستوجب حثكم على استعمال كافة الوسائل الضرورية والفعالة لجعل حد لهذا الداء..."
ظنها السيد “مخدوع” دعوة صادقة من رأس النظام، سوف تدشن "توبة الدولة وأجهزتها المختلفة" فكتب بتلقائية لم يشعر بسذاجتها إلا بعد سنين، كتب جوابا ليدلي فيه بدلوه حول "الوسائل الضرورية والفعالة" التي طلبت منه لمحاربة الفساد، وهو الذي ندب نفسه للنضال ضد كل أنواع الفساد والتلوث.
رغم حداثة عهده بتثقيف نفسه ثقافة عربية إسلامية، كتب في اقتراحه الموجه إلى الوزارة ما يلي:
"الإصلاح الإداري لن يكون إلا في إطار قانون. والقانون لا يعقل إلا في إطار عقيدة. ولابد من رقابة لتطبيق القانون.
ما من شك أن عقيدتنا هي الإسلام بمقتضى الواقع والدستور. والإسلام هو دين ودنيا. لكن القوانين المسيرة للمعاملات في البلد، يعترف الجميع أنها خليط بين قوانين وضعية ( شرقية كانت أم غربية) وشئ قليل من الشريعة الإسلامية، في مسائل الأحوال الشخصية. فنتج عن ذلك أزدواجية في الشخصية تترتب عنها إحدى الحالتين:
o إما أن يطبق القانون الحالي بصفة كلية فيكون ذلك على حساب العقيدة ( مثلا في المعاملات الاقتصادية والعدالة والحدود الشرعية وغيرها)
o وإما أن يطبق في ما يساير العقيدة وينكر في ما دون ذلك، فيكون بذلك تطبيقا مبتورا.
· لذا يترتب علينا قبل الانطلاق في أي إصلاح إداري أو غيره، أن نبدأ بإصلاح القوانين وردها إلى الأصل، والأصل هو الشريعة الإسلامية، وهذا مما لا يرتاب منه مسلم. وموازاة لهذا العمل، ينبغي أن تتم التمهيدات التالية:
· أولا التعريب الشامل لكل أجهزة الدولة الإدارية والتقنية والعلمية والتعليمية؛
· ثانيا تنظيم دروس في إطار التكوين المستمر لإحياء التربية الإسلامية والتشريع الإسلامي، وتسخير كل الوسائل لنشر الوعي بهما والعمل بقتضياتهما؛
· ثالثا العمل بالتوقيت المستمر لإتاحة الفرصة والوقت للراغبين في تحقيق الهدفين أعلاه، وصرف بعضهم حسب مؤهلاتهم للنهوض بمشاريع إنمائية تعود بالنفع عليهم وعلى المجتمع في إطار الكسب الحلال؛
· رابعا اتخاذ التدابير الصارمة لمنع الانحلال والفساد المتفشي حاليا في الشارع والحانات والملاهي والإعلام، وذلك لتفادي الهدم الأخلاقي والصحي والأمني للمواطنين؛
· خامسا الكف عن المعاملات الربوية مع الأبناك العالمية شرقية كانت أو غربية في تمويل مشاريع الإدارة، خصوصا تلك المعاملات التي تشترط بنودا تمس بسيادة البلد وبعقيدتها، أو تتضمن مقتضيات تغري بموظفي الدولة لتحويلهم لخدمة مصالحهم عوض خدمة وطنهم.
· سادسا: التعامل مع البلدان الإسلامية بربط علاقات مبنية على العقيدة المشتركة، والتحاكم إليها في حل المشاكل التي تطرح لنا مع إخواننا المسلمين في الأقطار الأخرى ( مثلا في حل مشكل الصحراء الذي فرض علينا وأثر على حياتنا الاقتصادية والاجتماعية) وتذكيرهم بأن الشرق والغرب المعاديين للإسلام مهتم بإشعال نار الفتنة بيننا لبيع أسلحته وإرساء هيمنة النظام الاقتصادي الجائر القائم حاليا؛
· سابعا الرقابة في تطبيق القانون المساير لأحكام الشريعة، وهي في المجتمع الإسلامي رقابة الله ثم الضمير لمن صلحت عقيدته، مدعمة برقابة أولي الأمر لمن لم تصلح عقيدته، وهذا ما سيسهل مأموريتهم، لأن الأغلبية إن انتشر الوعي الإسلامي ستراقب أهواءها، والأقلية الفاسقة ستكتشف بسهولة في إطار الحسبة المفروضة على كل أفراد الأمة، فيطهر المجتمع منهم طبقا لأحكام الإسلام.
ومجمل القول: لإصلاح الإدارة ولتبسيطها، يجب إصلاح العقيدة أولا، ثم الحكم بما أنزل الله في كل الأمور لأنه هو أدرى بما يصلح للبشر. ولقد تمنى قوم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يترك بعض ماأنزل الله ليحكم بما يتفق مع أهوائهم أوما يسمى بضرورياتهم، فنزل الوحي يأمره بالتمسك بما أنزل الله، ويحذره من اتباع أهوائهم، ويعلمه أن تحكيم الأهواء هو بالضبط حكم الجاهلية، وأن أفضل قانون هو ما اختاره الله لعباده، قال تعالى: ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 49- 50)
إمضاء : مهندس الدولة رئيس مصلحة المياه والغابات لعمالات القتيطرة والرباط سلا وسيددي قاسم.
بتاريخ .... 1981 "
انتهت الرسالة.
هكذا. تخيل لصاحبنا “مخدوع” أن مهمة إصلاح المجتمع ميسرة سهلة في متناول الجميع، مثلما كانت عملية إصلاح نفسه وإصلاح أسرته ... فانطلق بنشاط في العملية، وأتى البيوت من أبوابها. ولم يكن بحسبانه أنه سيجد أمامه عقبات وأهوال ومحبطات يشيب لها الولدان... أيسر ما كان فيها : مضايقات إدارية متكررة، وأقسى ما ارتبط بها هو استفادة التيار المخرب من تلك الاقتراحات ليطبق عكسها تماما، ما عدا الاقتراح الثالث، وتلك قصص سيأتي ذكرها بعد حين.
لم يكن الأمر سهلا إلا لمن يسره الله عليه، أن تقتحم عقبات الكبرياء والتجبر والأعراف السائدة في بداية الثمانينيات من القرن العشرين، في فترة طغيان السلطة، فتحول الموظفين وتتحول معهم من أشخاص يصطفون كراكز أمام الإدارة لأداء التحية العسكرية لقبطان الغابة الشاب، السكران بكبريائه، المنتفخ بجاهه وسلطته. ترقيهم إلى رجال مكرمين تقف معهم صفا مرصوصا للسجود لرب العباد. ذلك هو سر الإسلام : تكريم العباد وتحريرهم من عبادة العباد إلى إخلاص العبودية لرب العباد. ولقد فهمتها فطرة العربي الذي نطق بها خالدة مدوية أمام قائد الفرس. ذلك ربعي بن عامر حين سأله رستم عن دوافع مجيء العرب إلى بلاد الفرس؟ فأجابه ربعي: "جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".
اختار المهندس “مصلح” قاعة في واجهة مقر المصلحة ليتخذها مسجدا. وما أن علم بعض رجال الأعمال الذين يترددون على المصلحة بذلك، حتى جاؤوا، تطوعا، بكل ما يحتاجه المسجد من زرابي وثريات ومصاحف ومستلزمات النظافة والوضوء. وقد كانوا يعون ما يفعلون: إذا صلح الموظف الذي يخدمهم فسيكونون أول من يجني ثمار صلاحه.
وبالفعل لم يمض وقت طويل حتى كادت أن تعم التوبة، نبذ الناس أعراف الرشوة وفساد الذمم والتماطل والاستعلاء على الناس. وكان من الموظفين من تعافى من عوائد الجاهلية التي غرسها فيه الفرنسيون. ثمار جهد صغير أقدم عليه المهندس “مصلح”، تمثل في إمامة موظفيه في الصلوات، وتخصيص ليلة الخميس من كل أسبوع لإلقاء درس في التربية الإسلامية. تدور استضافة ذلك المجلس على جميع الموظفين دون أي اعتبار للمراتب والدرجات. يقرأون ما تيسر من القرآن، ويستمعون إلى الدروس المستلهمة من السيرة النبوية العطرة، ومن تفسير القرآن الكريم. بعدها، يتشاركون في مأدبة العشاء، وقد شرط عليهم الرئيس “مصلح” أن تكون قصعة كسكس لا بذخ فيها ولا تبذير. ثم تخصص فترة للكلام الحر التلقائي الذي يصحبه شراب الشاي، ربما دار الحديث حول مشاكل العمل، يهتدون عبره إلى أصدق الحلول وأنجعها، وتبلغ فيه الحميمية أوجها، دون أن تكسر أدبيات الاحترام والتكريم المتبادل.
كان الإصلاح يتخذ مجراه بهدوء ويسر وأمان. أتت ثماره في وقت قصير بشهادة معظم المتعاملين مع المصلحة. واصل “مصلح” جهده التربوي بحماس كبير، خاصة لما شاهد الثمار تأتي مسرعة يانعة، جعلت من المصلحة مثالا للإنجازات الراقية وللسلوك المهني الجاد: آلاف الهكتارات من الأغراس الناجحة، وآلاف أخرى من الاستغلالات للخشب والفلين، بروز العشرات من المقاولات الغابوية للغرس والاستغلال والتجهيز، موارد غابوية عن طريق السمسرات العمومية تقدر بالملايير، تغذي خزينة الدولة وصناديق وزارة الداخلية الوصية عن أرض الجموع، وصناديق الجماعات القروية المحلية التي أصبحت من أغنى الجماعات في القطر... وغير ذلك من الخيرات التي لا يتسع المقام لذكرها.
ولايزال رجال الأعمال الغابوية، والسكان المجاورون للغابة، وكل من كانت له مصلحة ومنافع مع الإدارة المحلية، يذكرون بحسرة وحنين تلك الفترة التي كانت آخرعهدهم بالوفرة والبركة والعلاقة الطيبة مع الإدارة.
فلما جففت منابع الرشوة وفساد الذمم، هل نقص من أرزاق الموظفين شيئا؟ لقد ظهر للموظفين الدليل القاطع على أن رزق الإنسان الذي كتب له، يأتيه لا محالة، لكن ترجع له حرية اختيار مورده : أيأخذه عن طريق الحلال؟ أم عن طريق الحرام كما هو حال من رسبوا في امتحان الدنيا؟
لقد نزلت على الأعوان خيرات الترسيم الذي شمل المئات من الموظفين، وكانوا ينتظرون الفرصة منذ أمد بعيد. الموظفون العاملون في الميدان داخل الغابة، جنوا أرزاقا وافرة من تربية النحل، سمح لهم “مصلح” بتوسيع نشاطهم فيها عوض أنشطة تربية المواشي التي تتلف الغابة، وقد مر ذكر ذلك في الجزء الأول.
وهكذا تيقن صاحبنا أن عملية الإصلاح سهلة هينة وفي متناول الجميع، شريطة أن تكون هناك إرادة سياسية صارمة في الإصلاح، تظهر مصداقية دعواها في إصلاح النفس أولا، حتى إذا ثبت واستقر، فاض خيره وشمل نوره الوسط الذي يعيش فيه الإنسان، الأقرب فالأقرب.
مرحلة إصلاحية أخرى يقدم عليها: إنه يريد نقل التجربة إلى ضباطه الذين يسيرون دوائر ومقاطعات المياه والغابات.
لقد أتته أخبار سيئة عن مقاطعة الرباط وبالضبط عن "العون الغابوي" المكلف بحديقة "باب البويبة" وبغابة "هلتون"، - وهما من أهم حدائق العاصمة، تسيرهما المياه والغابات- العون المسؤول كان ربما يسهل تخفي بعض الفساق في مخابئ الحديقة بمقابل. فنقله المهندس “مصلح” ونصب مكانه رجل يعطي المسؤولية حقها.
اقترح “مصلح” على العون الجديد أن يربط علاقة طيبة مع المركز الثقافي السعودي المجاور للحديقة قرب "سينيما الملكي"، بإهدائه بعض الزهور والنباتات التي تنتجها الحديقة، وأن يأتيه بخمس نسخ من موسوعة فتاوى ابن تيمية كانوا يوزعونها مجانا، ربما منافسة للثورة الإسلامية في إيران. نوى “مصلح” أن يضعها في مكتبة المصلحة ومكتبات المقاطعات التي يشرف عليها: مقاطعات الرباط، القنيطرة، وازان، سيدي يحيى - الغرب. ثم اقترح عليه أن يتذاكر مع المسؤول السعودي للمركز في إمكانية تطوعهم لإحياء وترميم مسجد خرب، يرجع إلى عهد المرينيين، يوجد داخل الحديقة. فلربما كان ذلك سببا في تأهيل ذلك المسجد ليصبح بيتا لله في الجهة الأوروبية من العاصمة. وكم كانت ولا تزال تلك الجهة في حاجة إلى هدي بيت الله ، لمقاومة الفساد الصادر من الحانات والملاهي الكثيرة المجاورة.
حضر المهندس “مصلح” مجلسا في عمالة إقليم القنيطرة لإعداد موسم الاصطياف في مهدية. وكان من بين اقترحاته في ذلك المجلس : بناء مسجد في مدينة مهدية التي يبلغ عدد سكانها عشرات الآلاف في الصيف، ولا مسجد فيها. لقد تهكم على الاقتراح ثلة من أبناء الدنيا هداهم الله. لكن أحد رجال الخير أقبل على “مصلح” فيما بعد، يزف له بشرى تطوعه لبناء مسجد في مهدية. وطلب منه أن يسمح له بتوسيعة ضرورية في الملك الغابوي الذي يجاوره. فهو المسجد الوحيد الذي يذكر الناس في المصطاف بأن الصلاة كانت حتى على المصطافين كتابا موقوتا.
ولكن إبليس وأعوانه الساخرين المثبطين، ما كان ليهنأ لهم بال، أو يغمض لهم جفن عن تلك الطفرة التي بدأت تبرز توجهاتها ومعالمها وثمارها. فلقد كان من جنود إبليس من بدأ يتآمر خفية أو علانية على “مصلح”. وبدأ يبث الإشاعة، ويستهزئ بالمصلين في مسجد الإدارة قائلا: " إنهم لا يحضرون الصلاة إلا ليزداد نصيبهم من حصة أجرة السفريات والإكراميات التي يوزعها رئيس المصلحة". وكان من علية القوم – يظنون – من اشتكى من روائح العمال و"الشواش" الذين يحضرون الصلاة. وكان منهم من رأى في ذلك كسرا لهيبة الضباط والمهندسين. وكان منهم من قال في المجلس التربوي الذي يعقده “مصلح”: إن السلطات منعته من جواز سفره، معللة له ذلك الحجز بتهمة "حضور مجالس الدعوة والإرشاد.".. وهكذا.
ولكن أشدهم إذاية ومكرا، وكان مكره لتزول منه الجبال، من كان أذاه أذى منظما ممنهجا، موجها من الجهات المعادية للمسلمين، تلك العداوة المتوارثة الثابتة على مر الأزمان والعصور، وقد مر ذكر بعضها في الجزء الأول من المذكرات.
سيكتشف المهندس “منقب” أن هناك تيارات مؤثرة ومتجذرة ومنظمة ومتصلة بالخارج، تناضل لكي لا يكون هناك أي إصلاح للشأن العام في البلد. وإن كان ولابد، فلا ينبغي أن تكون للإصلاح أية مرجعية إسلامية. وتناضل كذلك لكي لا يكتسب البلد أية قوة اقتصادية، يمكن أن تجسد خطرا استراتيجيا على أوروبا.
هكذا... لو لم تسيس قضية التنمية، وقضية محاربة الفساد، ولو لم يتحكم فيها اللاييكيون العلمانيون، لتيسر الأمر كما كاد أن يتيسر في مكاتب إدارة مهندسنا.
كان من الهوايات التي يقبل عليها صاحبنا “منقب” كلما فسح له في الوقت، زيارة صاحب متجر كبير مختص في بيع التحف والبضائع القديمة. بينما كان منهمكا في البحث في جناح الكتب القديمة، استرعى انتباهه ملف غريب: أخبار جمعية سرية ذات مظهر خارجي خيري... اكتشف فيه الجذور العقدية لهذه الجمعية وتشعباتها التنظيمية في الخارج والداخل. ومما استرعى انتباهه هو أسماء بعض المغاربة المنتمين إليها. كان من ضمنهم مهندس من معارفه. فقال في نفسه إن كان ذلك المهندس هو المذكور في وثائق الجمعية السرية، فهذا منذر شر سيلحق مهد الإسلام في الجزيرة العربية وغيرها... وكان ذلك المهندس هو الذي يشرف على بناء قصور بعض أمراء العرب... واكتشف كذلك أن التسرب "اللطيف" وصل إلى دواليب المسؤولية في المنظمات والمؤسسات العربية، حيث تم تنصيب نخبة ذات نزعة طائفية لتتحكم فيها، وهي في الحقيقة أسندت لها مهمة تجميدها وإفشال مشاريعها.
ضاعت الهوية الإسلامية الحقة، وعوضها الانتماء المدنى اللاييكي العلماني الذي يعتقد أن الإسلام يمكن أن يجرد من شريعته التي هي ميزان العدل والقيم السامية. وأن القرآن الكريم ينبغي أن تحذف منه كل تلك الآيات والسور التي تتكلم عن الحكم بما أنزل الله وعن المعاملات الاقتصادية والسياسية وغيرها.
وسيعلم “منقب” فيما بعد أن العقيدة اللادينية تسربت كذلك إلى مراكز القضاء والتشريع لتثبيت قوانين استعمارية، كانت اللادينية اللاييكية الفرنسية تحمي بها نفسها في فرنسا. ثم تم تأهيل تلك القوانين لكي تطبق حتى على الدين الإسلامي. فكلما ظهرت حركة إصلاحية أو حزب أو جمعية تريد ترشيد المجتمع والحكم بما أنزل الله كما أمر به القرآن، أَشهَرَ في وجههم أنصار تلك الجمعيات السرية الذين نصبوا في مراكز النفوذ، تلك القوانين الاستعمارية التي كانت أصلا تنص على "منع تكوين أحزاب على أساس كنسي"، فعمموها وأصبح النص يعني " منع تكوين أحزاب على أساس إسلامي"، وهكذا أفلحت الجمعيات السرية على نشر عقيدة اللاييكية في بلاد الإسلام.
ولقد اتضحت للصاحي “منقب” المكيدة الكبرى التي سقط فيها المسلمون.
ولقد كانت له محاولات للنضال ضد الفساد من داخل مؤسسات ذلك التيار المتمكن. منها ما كان في زمن الدراسة ومنها ما كان في بداية العمل في الإدارة.
ولأن فترة الشباب تتسم برفض الذل والمهانة، وتتطلع إلى تحقيق الذات والسعي لتغيير العالم ليسعد جميع خلق الله، ينظر الشاب حواليه هل هناك من يعينه ويأخذ بيده لتحقيق تلك الأحلام؟ فيتعلق بكل من يراه قريبا من تلك المثل الإنسانية الفطرية.
لقد كان النضال الطلابي منتظما تحت راية "الاتحاد الوطني لطلبة المغرب". وكانت قوى اليسار تسيطرعليه سيطرة تامة. وقد مضى الكلام عن الأجواء النضالية التي كان مهندسنا الطالب يشارك فيها أيام دراسته الجامعية. وانتهت تلك النضالات بما يعرف بسنوات الجمر، بعد فشل انقلابين عسكريين، ربما كان أوفقير منفذا فيها لأوامر الموصاد والسييا والمخابرات الفرنسية.
تبع ذلك النضال الطلابي عمل جماعي في إطار "جمعية خريجي المعهد الزراعي" وفي إطار "جمعية مهندسي المياه والغابات" وكذلك في إطار " جمعية المهندسين المغاربة". ولم يكن مناضلنا “منقب” مقتنعا بجدوى ذلك العمل النخبوي الذي كان يقتصر على الدفاع عن المصالح المادية للمهندسين. وكانت الأحزاب اليسارية المخترقة بشتى قوى الشر الخارجية والمحلية تسيطر عليه. حاول الارتقاء بذلك العمل فأرسل دراسات واقتراحات إلى الجمعيات المذكورة. لكنه لم يفلح سوى في إفادة الجهات التي تحرك تلك الجمعيات من وراء ستار.
فلم يكن أي صدى يذكر لدراسة تقدم بها لجمعية خريجي المعهد الزراعي، لتغيير البرامج والمناهج وأعراف التبعية للغرب في المعهد الزراعي.
وكذلك بالنسبة لجمعية مهندسي المياه والغابات، لم تلق دعوته لتغيير التشريع الغابوي الموروث عن الاستعمار والمتسبب في تصحر البلد أي رد فعل، ربما بحكم الأمية الدينية التي طبعت تلك النخب التقنوقراطية.
ولقد حاول مخاطبة الجمعية الوطنية للمهندسين، - وقد استولى عليها أحد اليساريين الذي خصته الدولة بأهم مكتب يحتكر الأبحاث والدراسات التقنية في القطر- لكن بدون جدوى. من ضمن ما كتب يوما للارتقاء بالنضال النقابي من ذهنية المطالبة المادية المحضة إلى مسؤولية المحاسبة والنقد الذاتي، قال:
"... لا يخفى عليكم أن من يضع استراتيجيات تنميتنا ويتحكم في توجيه اقتصادنا منذ عقود يهيمن عليهم خبراء المؤسسات الدولية والأبناك الخارجية. وهي بالطبع استراتيجيات غايتها أن لا تلحق أي ضرر بمصالح الغرب، بل تسعى دائما إلى نهب خيراتنا وتعميق تبعية اقتصادنا وتجريدنا من وسائل التنمية الحقيقية.
التحكم في مصيرنا بواسطة هذه الاستراتيجيات التخريبية نتج عنه تجريدنا من التكنلوجيا المتطورة وتهميش الإبداعات المحلية وإحباط القدرات الذاتية وتفاقم البطالة في صفوف الموهوبين من إخواننا وأخواتنا وأبنائنا وبناتنا. هذه المعضلة الكفيلة بتبرئة ذممنا، إذا تم تحذير الحكام وتوعيتهم بالمشكل، تعطي الجواب الشافي لمن يتساءل، ومن حقه الطبيعي أن يتساءل تلك الأسئلة البريئة التي تقض مضاجع البعض ويستخف بها البعض الآخر: لماذا لم يفلح المهندس المغربي في تصنيع سيارة وطنية؟ لماذا لم يوسع شبكة الخطوط الحديدية التي خلفها المستعمر؟ لماذا لم يشيد ميترو الأنفاق في المدن؟ لماذا لم يصنع أسطولا بحريا للصيد و النقل؟ لماذا لم ينتج طاقة نووية، لماذا لا يصنع ما يحتاجه من السلاح ؟ لماذا لم يوفر للبلد كفاية في المأكل والملبس والمركب؟ لماذا لم يرق البلد ويطوره من مستوى المجتمعات الفلاحية البدوية إلى المجتمعات المعلوماتية المبتكرة والمنتجة للتكنولوجيا المتطورة؟.
نتبنى هذه القضية لأنها في بؤرة مسؤولية المهندس الذي من آكد واجباته أن يرفض أن يكون مجرد أداة لتنفيذ المخططات التخريبية للأبناك والمؤسسات الدولية. ويرفض أن يكون مستسيغا للاقتصاد الريعي الذي لا يحقق أي قيمة إنتاجية حقيقية، بل يعمد ككل مفلس لبيع الممتلكات العامة ووسائل الانتاج المشتركة. ويرفض أن يكون هو والشعب المغلوب على أمره ضحية إفلاس الإقتصاد الفلكي الذيلي المنهار، الذي رفع المديوينية إلى المستوى الحرج الذي تعرفون.
وككل ناقد مسؤول، عليه أن ينصح إلى البديل المرغوب، عليه أن يرسم المعالم الكبرى للبديل التنموي الشمولي الذاتي ، وإبراز ثمراته المادية و المعنوية..."
إلى آخر المقترح الذي قوبل بالاستهجان والاستغراب لتغريده خارج السرب...
ولربما نجحت تلك التغريدات في الإسراع بتلميع بعض المهندسين النشطاء في التيار المفسد، لاقتراف المزيد من الخروقات التي يجرمها الشرع والقانون لأنها تصنف ضمن كبائر الخيانة العظمى والردة والإفساد الكبير في الأرض. ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة:33) . ذلك أنهم استخدموا كما استخدم "وكلاء الاستعمار" من قبل، في مناصب حساسة للقضاء على القدرات الذاتية في إنتاج الطاقة والتصنيع والإبداع. ورهنوا اقتصادنا رهنا رهيبا مخيفا لصالح اقتصاد المحتلين القدامى للبلد. واختلسوا الملايير من الدولارات، وعوض محاسبتهم وتجريمهم، يعمد إلى ترقيتهم لتعميم إفسادهم إلى أعلى مناصب ممكنة في الجهاز التنفيذي والتشريعي المسير للبلد. وليس من غريب الصدف أن ينتسب بعض هؤلاء المهندسين إلى نفس العائلات الحاكمة التي كانت تعد من صنائع الاستعمار. نسأل الله أن يعجل بتوبتهم ليكفروا عن ذنوبهم وذنوب آبائهم، ويعجلوا باستعمال ذكائهم في خدمة المسلمين. ولكن أنى لبعضهم ذلك ومنهم من يقال أنه لا يصحو من السكر حتى الصباح وحتى في أيام رمضان، ثم يذهب مباشرة إلى العمل بإخلاص!... في قضاء مصالح من؟!!
بعدما تأكد لصاحبنا "منقب" ضلوع تيار نافذ في تفقير البلد وترسيخ آليات الفساد والتخلف فيه، وبعدما تيقن أن جذوره متصلة بالتيار "مابعد استعماري"، الذي يحاول مسخ هويته الدينية واللغوية، سأل نفسه: هل من عمل جاد لمقاومة الفساد؟
لقد تيقن أن النضال الفردي والعمل العشوائي، من أجل دفع خطر الإفساد الذي حل بالبلد، لن يكون مجديا في مقاومة ذلك التيار المخرب الهدام. ولم يجد بغيته في النقابات المهنية ولا في الأحزاب اللاييكية، التي أظهرت له تحرياته أنها أفرغت من معظم الخير الذي تحويه، وتبخرت الآمال التي كانت ترجا منها منذ مفاوضات " أيكس ليبان" المشؤومة التي أسفرت عن الاستقلال الصوري للبلد، مقابل تبني تلك الأحزاب العقيدة اللاييكية.
راجع “منقب” المنطلقات النظرية للفكر الماركسي الذي يتذكره، وأعاد النظر في جدلية الصراع بين المستضعفين وبين المستكبرين المترفين، فرأى أن النظرية تبقى صالحة وثابتة، لأنها تتفق مع ما جاء في قرآننا الكريم في قوله تعالى: " ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص:5). ولكن المتغير هو أن المستكبرين في تلك الفترة من حياة المهندس الشاب “منقب” هم الروس الذين احتلوا أفغانستان، وأن المستضعفين هم الأفغان الذين يجاهدون انطلاقا من تعاليم الإسلام، لتحرير بلادهم من الاحتلال الروسي. وتبين لصاحبنا “منقب” أن الثورة الإيرانية جاءت لتصلح ما اختل في الفكر الماركسي. فلقد انطلقت من حتمية "المن على المستضعفين"، لكنها غيرت موازين القيم وأرجعتها إلى المعايير التي تضبطها شريعة الإسلام. وكلمات العنف والصراع والحقد والغضب، عوضتها مصطلحات قرآنية ذات معنى مضبوط وميزان ثابت لا يتغر بتغير الأهواء البشرية.
كان “منقب” يتحدث مع أخ له يدرس في الجامعة حول هذا الموضوع عندما قال له: ياليت البلد يفرز حركة طلابية تناضل من إجل القيم التي تناضل عليها الثورة الإيرانية ويناضل عليها الأفغان. فأجابه الأخ : أعذرك يا أخي فأنت غارق في عالمك التقنوقراطي، لا تعلم خارج مشاغلك ما يدور. لقد ظهرت في ساحة النضال تيارات إسلامية تريد مقاومة الفساد من منطلق إسلامي مجدد يلائم متطلبات العصر. هذا التيار يتفق مع جل القيم التي تتبناها الثورة الإيرانية، ولكنه يربط نفسه بالحركية السنية التي تمثلها دعوة الإخوان المسلمين في مصر.
ودون تردد أو تأخير قال له “منقب” : أيمكنك إرشادي على دعاتها؟ فوعده بالنظر في الأمر. وهنا تذكر "منقب" نضال الآباء والأسلاف الصالحين المصلحين...
لولا تحزب أهل الباطل في إطار ذلك التيار اللاييكي المفسد الجارف الذي أحكم السيطرة على البلد، لاكتفى “منقب” بعمله الفردي الإصلاحي الذي بدأه انطلاقا من مسجد الإدارة. لكن قانوننا المعلوم هو المسيطر: التيار لا يقاومه إلا تيار مضاد يعادله في القوة ويخالفه في الوجهة: سنة من سنن الله الكونية التي لن تجد لها تبديلا. تترجم بلغة الشريعة قوانين لتصحيح الانتماء، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة:119) . وتوضح لنا كذلك إشكالية الولاء والبراء: قوله عز وجل: ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة:22)
كان صاحبنا المهندس “مذكِّر” يمضي إجازته الصيفية مع أسرته في مسقط رأسه، بلدة فاتنة من القرى البربرية المصفوفة كعقد لؤلؤ علي السفح الغربي للأطلس المتوسط. لقد استقر والده الفقيه "المهدي" بزاوية الشيخ، بعد هجرته من بلدة في إقليم الراشدية. كانت هجرة حقيقية بعدما احتل الفرنسيون مسقط رأسه، تاديغوست.
لقد حل المستعمر في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي بكلميمة التي تبعد عن تاديغوست ببضع كيلومترات، فقام أحد أعمام صاحبنا “مذكِّر” يدعو أخواله سكان المدشر من برابرة آيت مرغاد، وأبناء عمومته من الشرفاء للدفاع عن البلدة. لم يستجب لدعوته سوى صديقه المرغادي، لأن الناس يعلمون أن الجيش الفرنسي الذي احتل مدنا وأقاليم كثيرة في القطر، سوف لن يعبأ بمدشر صغير لا عدة ولا عديد فيه. تحصن الأخ وصديقه المرغادي في تلة عند مدخل تاديغوست مستعدين للشهادة من أجل أداء واجب مقاومة المحتل الذي يأمرهم به دينهم. توافقا على اختيار هدف الرماية: ضباط الجيش الفرنسي الذي أتى وله اليقين أن لاوجود للمقاومة في المدشر. مرت الطلائع المكونة من المرتزقة المحليين و"الكوم"، فلما برز فوج الضباط، واجهاهم المجاهدان بوابل من الرصاص ببنادق "التساعيات"، قتل وجرح على إثره بعضهم. فانبرى الجيش بكامله يشبع التلة قنابل وفذائف من كل صنف. حصل المجاهدان على مرادهما، رحمة الله عليهما، ودفنا معا قريبا من التلة التي تحصنا فيها. فقبرهما هناك بمدخل القرية، وكان قربه نصب تذكاري بناه الفرنسيون لموتاهم، ولم يندرس ذلك النصب إلا في السبعينيات. ويحكى أن أحد السكان اقتلع الشاهد الذي كتب عليه اسماء الموتى، فنقله إلى داره واتخذه زينة لصندوق يخبئ فيه السكر والشاي، فوشى به أحد ضيوفه، فحكم عليه بالسجن النافذ ثلاثة أشهر!!! ويتذكر الراوي اسمين من الموتى الفرنسيين المنقوشين في الشاهد المسروق: فيرال وفيرجيل ( lieutenant Feral et sous lieutenant Virgile )
انتقاما على ما حدث جاءت طائرة من "بشار" وألقت حمولة من القنابل على المدشر الذي يسكنه الشرفاء، فدمرت النخيل والحقول المحاذية له في الضفة اليسرى لوادي "غريس". بعد ذلك، هاجر والد “مذكِّر” هو ومعظم رجال المدشر، والتحقوا بالمقاومة في جبال الأطلس الكبير الشامخة. يناوشون المحتل، ويتسللون ليلا للتزود بالمؤن وما تغنمه النساء من سلاح ودخيرة أويتسرب من " الكوم" : رجال المخزن المتحرك، الذين أرغموا على قتال المسلمين. انكشف أمر عمة من عمات “مذكِّر”، كانت تزود المجاهدين خفية، فسجنت وعذبت حتى لفظت أنفاسها وهي حامل، رحمة الله عليها وعلى جميع المقاومين للمحتل.
يحكي والد “مذكِّر” رحمة الله عليه عن هذه الفترة من حياته بتفصيل وتأثر بليغ. كان في عقده الثاني لما نزح من قريته تجنبا لانتقام الفرنسيين من فعل أخيه.
وقبل ذلك خرج من قريته، ولم يتجاوز السنة العاشرة من عمره لحفظ القرآن الكريم. نصحه أحد معلميه لما رأى معاناته في الحفظ وهو لا يتكلم إلا اللغة البربرية كمعظم الناس في تاديغوست المرغادية، فقال له: " إن كنت تريد حقا حفظ القرآن، فسافر إلى أبناء عمومتك في مضغرة، أو انزل إلى تافيلالت فهم يتكلمون العربية ومدارس القرآن متوفرة هناك."
لقد نزح جده "العربي" من "مضغرة - الخنق" الذي يشرف على مدينة الرشيدية، وترك هناك زوجات وأولاد كثر. وجاء إلى تاديغوست لمؤازرة "آيت مرغاد" في صد هجوم قبيلة "آيت عطا"، التي تريد أن تستولي على واحات "كلميمة" ووادي غريس. شارك في حروب دامية دارت بين القبيلتين، تمكن فيها "آيت مرغاد" ببسالة من صد عدوان المهاجمين. كان ذلك في بداية القرن الثامن عشر، زمن القلاقل التي تعرف ب"السيبة". كانت السلطة المركزية التي تمثلها الدولة العلوية لا تصل إلى هذه المناطق التي يطلق عليها لذلك بلاد "السيبة" أي البلد السائب. أما المناطق التي تخضع للسلطة المركزية فتسمى "بلاد المخزن"، ولا يعني الخضوع آنذاك سوى أداء الضرائب والجبايات إلى المخزن، والتجريد من السلاح، ولو كان أحيانا سلاح حماية الثغور من هجمات الصليبيين المتربصين بالبلد منذ قرون. ولربما كان من بين مبررات التسيب والانفلات من السلطة العلوية موضة مقيتة يمجها الطبع ولا يرضى عنها الشرع. إنها موضة رفع أعلام الدول الغربية أمام البيوت. دشنها اليهود المغاربة، وتبعهم بعض الأعيان المترفين... ثم استفحل الأمر عندما تبعهم القصر في تلك الموضة النكراء التي أفرزت عقد الحماية وأسست لثقافة الهزيمة وتغيير الولاء والاستقواء بأعداء الدين.
لقد استعانت القبيلة بالشريف مولاي العربي القادم من مضغرة. ومكافأة على استماتته في الدفاع عن تاديغوست، أعطته القبيلة أملاك رجل من "أزغار" مات ولم يعقب، وليس له ورثة . فسمي المكان الذي استوطنه من تلك الأملاك " قصر الشريف " نسبة له وبقي معروفا بذلك الإسم إلى اليوم في تاديغوست، ولازال أبناء عمومته يسكنونه إلى يومنا هذا. وهناك ولد الشريف المهدي وقبله والده المختاررحمة الله على الجميع.
لقد عمل الطالب المهدي بنصيحة معلمه فكانت بداية السفر إلى أبناء عمه في مضغرة من أجل حفظ القرآن وتحصيل العلم الشرعي. واستمر في سفره هذا تسع سنين، هبوطا وطلوعا مع وادي زيز وواحاته الفاتنة الوافرة الخيرات، والوارثة لإرث سجلماسة في الحفاظ على المدارس العلمية وعلى التراث الأصيل وهوية العزة والشموخ. ولما نال مراده من حفظ القرآن الكريم وتحصيل ما تيسر من العلم الشرعي، التحق بأسرته هروبا من الفرنسيين الذين غزوا "تافيلالت"، ولم يصلوا بعد إلى "تاديغوست". فلما حدث ما حدث لأخيه في "تاديغوست"، التحق بالمجاهدين الذين تحصنوا بجبل حمدون وجبل بادو وجبل كردوس.
يحكي عن تلك الأيام بفخر واعتزاز، محتسبا هجرته وجهاده لله، ورافضا أن يقايض ذلك بتلك الأتوات التي يتسابق عليها قدماء المقاومين، ولم لا؟ وهم في الحقيقة أولى بثروات البلد من بعض الذين استأثروا بها وقد كانوا للدين وللوطن وللهوية من الخائنين.
يحكي أنه كان يصلي بالناس في مسجد حصين في جبال "آيت حديدو" المنيعة التي استعصت على غزو الفرنسيين. وكان البرد القارس، والثلوج التي تحيط بهم من كل جانب تمنع جيوش الفرنسيين من الاقتراب منهم. وفي ليلة السابع والعشرين من رمضان، بينما كان يؤم المجاهدين في إحياء ليلة القدر، سقطت عليهم من كوة السقف قنبلة يدوية، فانفجرت ودمرت جانبا من المسجد، وانزعج المصلون ولكن أكثرهم بقوا في صلاتهم ثابتين. ثم رميت عليهم أخرى، فما انزعج الإمام، بل كان همه ختم القرآن قبل طلوع فجر ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر! إلا أنه تناول مسدسه الذي كان يضعه أمامه قرب مكان السجود، وأطلق صوب السقف ثلاث طلقات، وأتموا صلاتهم ولم يصب أحد بأذى. ولما أشرقت الشمس تفقد سلهامه فوجده مثقوبا كالغربال من شظايا القنبلتين، وكذلك الناس الآخرون، فأضحت كرامة حفظ، كلهم منها يتعجبون!
ويروي المقاوم المهدي رحمه الله أنه بعد انتهاء الحرب ولجوئه إلى زاوية الشيخ، جاءه شخص بربري من "آيت حديدو"، فقبل رأسه بعد السلام، وطلب منه أن يسامحه. فاستغرب من طلب هذا الرجل وهو لا يعرفه، فقال له : " أسامحك على ماذا؟ " فقال له: " أتذكر تلك الليلة التي نزلت عليكم القنبلتان وانتم في الصلاة في مسجد آيت حديدو؟ فأجابه: "نعم أتذكر ذلك، وقد مضى على الحدث أكثر من أربعين سنة". فقال له الرجل: أنا الذي رميتكم بالقنبلتين، وكنت أستعد لتسديد الثالثة، لكنني هربت لما سمعت صوت الرصاص قادما من المسجد. فسامحني لأن ظروف الجهل والفقر أرغمتني على طلب الانخراط في فرقة " برتيزة الكوم" الذين كانوا يقاتلون في صفوف الفرنسيين، فأجابني الضابط الفرنسي: " إن كنت فعلا تريد قتال الثوار، فقدم لنا الدليل على صدقك" وناولني ثلاث قنابل وقال: "برهن عن شجاعتك واذهب إلى ضرب الثوار في مسجد "آيت حديدو". فكان ما كان ودخلت في الخدمة معهم".
فضحك والد “مذكِّر”، ووعانق ذلك الرجل النادم على فعله القديم، وقد أجهش بالبكاء الحار. فقال له " عفى الله عما سلف " لقد كانت فتنة أشعلها المحتل، وهو الذي تحمل اللعنة التي تتنزل على كل من يوقظ الفتن ويشعل الحروب" !!
سوف يكتشف المهندس “مذكِّر” مصدرا موثوقا يحكي عن تلك المعارك. وثيقة بالفرنسية حصل عليها من أحد شرفاء مضغرة، كان بصدد تأليف كتاب، فاحتاج إلى مساعدة “مذكِّر” لترجمة تلك الوثيقة من الفرنسية. ولابد من إنقاذ تلك الأحداث من طي النسيان، لأن الرجل توفاه الله قبل استكمال مشروع التأليف. رحمة الله عليه.
ربما تعمد كاتبو التاريخ الرسميون طمس تلك الحروب، لأنها كانت تدخل في إطار "حرب التهدئة". تلك الحرب التي ربما أرغم النظام القائم في تلك الأيام على الاتفاق مع النصارى لخوضها، في إطارعقد الحماية الذي أبرم مع فرنسا في بداية القرن الماضي.
ويتعمد “مذكِّر” الإسهاب في ذكر أحداث تلك المقاومة الباسلة في مذكراته، مساهمة منه لانتزاعها من الطمس والنسيان، ولكي يترحم مع من قرأها، على أرواح رجالها البواسل الذين لقنوا جينيرالات فرنسا دروسا لا تنسى.
النص الأصلي بالفرنسية، أمضاه شخص باسم " حدو ا. بني تدجيت"، عنوانه: "مقاومة الاحتلال الفرنسي في جبال الأطلس الكبير: معارك مرتفعات "كردوس" و"بادو" و"حمدون".(غشت 1932)." جاء فيه:
" في بداية شهر غشت 1932، جمع الفرنسيون عدة فرق من القواعد العسكرية في مكناس ومراكش وجيوش "التخوم" يسمونهم "كوفا " ( les confins algéro-marocains)، بحضور جينرالاتهم: "جيرو" و"كاترو" و"دولابوم" ( Giraud , Catroux, De La Baume. ) وعدة كولونيلات وضباط سامين آخرين.
يعزز هذا الجيش الفرنسي جيش العملاء أو المرتزقة بزعامة تسعة قادة من الزعماء الذين نصبهم المستعمر: كالقائد "عدي أو بيهي" والقائد " أوعلا نايت مرغاد" والقائد "شرو"، قائد "عياش- ميدلت"، والقائد العربي داسرير-تنجداد، وسعيد نايت دريس – بني مكيلد" وغيرهم. ما يفوق ثمانين ألف جندي كامل التسليح والمؤونة، بمصفحاتهم وطائراتهم التي ترابط في قاعدة "بشار" الجزائرية. ولم يتعد صف المجاهدين بضعة آلاف رجل، لا سلاح لهم يذكر ما خلا ما يحصلون عليه غنائم حرب من العدو.
في يوم ثامن غشت 1932 ، أقام الجينيرال "هوري" ( Huré ) القائد الأعلى للعمليات مقر قيادته في "تنغير". وكانت الأخبار التي تأتيه من صف المقاومة مقلقة، جعلته يتوقع مقاومة شرسة في جبل كردوس التي تولت فرقة "الأقاصي" مهاجمته. أمر الجينيرال "هوري" فرقة مكناس التي يقودها الجينبرال "جيرو" بالسير لتعزيز " فرقةالتخوم المغربية الجزائرية". كان المجاهدون يتخندقون ليل نهار في خنادق تحت أشجار الغابة، وكان هناك حراس في المرتفعات يتتبعون تحركات الجيوش الفرنسية. وكانت النساء والأطفال والشيوخ يختبؤون في كهوف وحفر تجعلهم في مأمن من قنابل الطائرات، التي لم تكن تصب في ضرباتها المتتالية إلا قطعان الماشية. كانت الاشتباكات خاطفة وعنيفة. ويزيدها شراسة قتال قادة المجاهدين في الصفوف الأمامية. لقد وُزعت قيادة المواقع بين المرابطين والشرفاء ومقدمي الزوايا. وكان من ضمنهم "زايد أوسكنتي" من قبيلة آيت عيسى إيزم، و"علي أوترمون" من قبيلة آيت مرغاد، و"سيدي محمد لمسغر"، و"سيدي الطيبي الهواري"، و"باسو عدي أمهاوش""
كان عدد قتلى المحتل يفوق عدد قتلى المجاهدين بكثير مما أدى إلى انهيار نفسية المرتزقة. وقد زاد من زعزعة صفوف الفرنسيين ما رأوا من قلة تفاني مجنديهم من آيت مرغاد وآيت حديدو وآيت زدغ وآيت سغروشن وآيت عيسى إزم. فلقد بلغهم أن البعض منهم كان يعوض رصاص الدخيرة الحية بالورق عندما تعرفوا على إخوان لهم في صفوف المجاهدين. ولم يكن هذا ليسعد الفرنسيين ولكنهم أقروا بالأمر الواقع فلم يستطيعوا محاسبة أفراد شعروا بوخز الضمير في قتل إخوانهم وأبنائهم وأعمامهم وأصدقائهم.
لقد فشلت كل المحاولات الداعية للتقارب أو التفاوض مع المجاهدين. فلم يكن هناك مجرد تجمع بربري يحاول، من خلال "بارود الشرف"، أن ينقد ماء الوجه قبل الخضوع والاستسلام. بل كان هناك حافز قوي يدعو إلى المقاومة حتى النصر أو الشهادة. لذا قرر الفرنسيون اللجوء إلى أساليب أخرى في عملياتهم، فكانت هناك مناورة شارك فيها ليلة الثالث والرابع من شهر غشت كل من المجموعات المساعدة من مكناس ومراكش ، تلتهما بعد يومين فرقة التخوم المغربية الجزائرية. وهكذا استولت مجموعة مكناس النظامية قبيل الفجر على جبل "تاعدادت"، بينما استولت القوة المساعدة على فج "تيزي نوغازن"
وفي خامس غشت احتلت مجموعة مراكش الوجه الشرقي من جبل حمدون، ونزلت مجموعة في الجهة الجنوبية الشرقية من "تعدرين" لحماية تحركات مجموعة مراكش المساعدة، ثم استولت قوة مكناس على "إطو فزو"، وتسللت منها إلى فج حمدون. وكانت جوانب الفج شديدة الحراسة من طرف المجاهدين، حيث سقط الكولونيل "بيسي" على إثر رصاصة أصابته في عمق قلبه.
استعد الجينيرال "هوري " لقطع الطريق خلف المجاهدين المحاصرين لجبل حمدون ومنعهم من التراجع والإفلات من جهة وادي غريس. وتكونت لهذه المهمة مجموعة أسندت إمرتها للكولونيل "أرنو". فشلت هذه المجموعة عن بلوغ أهدافها بسبب مطر غزير قطع كل الاتصالات. ولما وصلت في الساعة الرابعة إلى موقع " ثلاث نيغرشي، تعرضت إلى غارة قوية لم تتمكن من النجاة منها إلا بعد هجمات مضادة استعمل فيها السلاح الأبيض. قتل في هذه الغارة أكثر من ثلاثين فردا وجرح أكثر من أربعين من جيش الفرنسيين. وفي ثامن غشت تحركت مجموعة مراكش المساعدة من موقع ثلاث نغرشي صوب الشرق لمنع تسلل المجاهدين إلى جبل بادو من جهة الشمال. وفي الجنوب استولت فرقة التخوم المساعدة على الوادي الذي يمتد من مقع إكدمان إلى جهة كردوس، حيث ينعرج الوادي هناك.
بعد تراشق بالنار تم احتلال القرى التي توجد في الجانب الشرقي من جبل كردوس. وهنا ظهر مقاتلو آيت عيسى إزم في الجهة اليمنى لفرقة الأقاصي المساعدة.
وهناك سقط عدة قتلى وجرحى من الفرنسيين بينهم اليتنان "بينفنتينو" المنتمي إلى القوات المساعدة. تحصن المجاهدون في أعالي كردوس حيث يوجد الماء بوفرة، وكذا مغارات وكهوف وخنادق في سفح الجبل أعدت للدفاع.
وكانت هناك فرقتان للمقاومة فرقة في مرتفعات كردوس حول منبع أغبالو، وفرقة في شعاب "أقانتازاغت". تتكون الفرقة الأولى من آيت حديدو ناسيف ملول، وآيت مرغاد جبل كردوس. والثانية تتكون من آيت عيسى إزم، وهم بربر رحل يجوبون الصحراء والمرتفعات، وكانوا بقيادة "زايد أوسكنتي" . قرر الجينيرال "هوري " أن يبدأ الهجوم لما وصلت إليه دبابات وسيارات مدرعة. قرر التحرك عشية ثامن غشت والهجوم فجر اليوم التالي. وكانت خطته تقتضي الاستيلاء على المرتفعات التي تشرف على الجهة الغربية من من كردوس، وقطع الطريق على أي تراجع للمقاومة من الجنوب والشرق إلى الجهة الشمالية والشرقية. وشرعت فرقة "ترانكي" في الهجوم بعد نزولها من مرتفعات "أكرجيون"، تساعدها من الجهة اليمنى فرقة "دونيس"، تتبعها فرقة" شميدت" وفرقة "دوفيلات" القادمة من شعبة وادي إفغ. اتجهت الفرقة المدرعة كذلك مع الوادي مباشرة نحو المنبع لسحق المقاومة. وفي نفس الوقت عززت فرقة "دوفاليت " موقعها الدفاعي أمام الجهة الشمالية.
أمر الجنرال "جيرو" فرقة "ترانكي " بالنزول الى المنبسط. أما "العملاء" فتسللوا إلى الموقع المسمى "تعسننت نيشو"، وهجموا على "تاغنبوت" و"آيت بوكرير". كانت فرقة "هوري" تحمي هذا الهجوم من الجهة الأخرى للوادي. كانت المعارك حامية الوطيس على طول الجبهة. استعمل فيها المجاهدون بنادق "التساعية" والقنابل اليدوية التي غنموها من العدو. وكانت المعارك على أشدها في قلعة "أيت ابسند الجديد" حيث عزز المجاهدون مواقعهم ، ولبثوا هناك إلى أن خيم الظلام.
فقد الفرنسيون في هذه المعارك أربعة وعشرين قتيلا ، من بينهم ضابط ، وبلغ عدد الجرحى حوالي تسعون جريحا من ضمنهم خمسة ضباط.
وفي عاشر غشت، تبين من خلال التقارير الميدانية أن المجاهدين كانوا منظمين بشكل جيد ، وكانوا يصدون الهجوم ببسالة واستماتة. بينت تلك الأخبار كذلك أن المقاومين كانوا من آيت مرغاد أسيف ملول، وكانوا يلتفون حول شريف "تلمي" الذي كان يحرض المجاهدين على الصمود.
الهجوم على منبع كردوس.
من مقر قيادة الجنرال "جيرو" على المرتفع الذي يشرف على "تاغنبوت"، يظهر حوض "آيت يحيى نكردوس" تحت جبل يحده من الجهة الشرقية. على هذا الجبل يوجد حصن أغبالو. أما المنبع فيتخذ مجراه في منحدر وراء الحصن في الواجهة الشرقية من عقبات جبل حمدون. شعبة الوادي هذه يعلوها من الجهة الجنوبية مرتفع أغبالو الذي يشرف على السهل من جهة الغرب.
تشكل تلك المرتفعات المتكئة على جبل حمدون دائرة طبيهية يتحصن فيها المجاهدون وأسرهم ومواشيهم في كهوف وأكنان كثيرة تظهر للطيارين الفرنسيين. في تلك المواقع الحصينة، قبع المجاهدون بعيدا عن أنظار الفرنسيين الذين ارتأوا أن يصبوا نيرانهم على المنبع ليسهل التسلل إلى تلة تقع على بعد نصف كيلومتر من المنبع أغبالو.
لجأ المجاهدون إلى آخر الوادي الذي ليس له أي مخرج آمن، وقاوموا ببسالة إلى الليل، وأسر آخرون في مواقعهم التي لم يغادروها امتثالا لأمر الفقهاء لئلا ينزل عليهم حكم الفار من الزحف. وهناك استشهد تحت وابل القنابل اليدوية ثلة من مريدي ومريدات زاوية أسول رحمهم الله جميعا.
لقد نفدت دخيرة المقاومة و بلغ منها الجهد أقصاه. ولم يكن بدا من الاستسلام. وهكذا استسلم ما بقي من آيت مرغاد بزعيمهم" أترمون"، أما الشريف سيدي الطيب فقد أسر. بعد ذلك، خرج ألوف الرجال والنساء والأطفال من مخابئهم في مكان واسع بالسهل، سيج بالأسلاك الشائكة لسجنهم وإحصائهم.
فكان هناك ما بقي من مجاهدي أسيف ملول المنتظمين حول الشريف سيدي الطيبي، الذي اقتفت آثاره فرقة الأقاصي منذ مدة طويلة. وكان هناك أيضا مجاهدون من الأطلس المتوسط وسهول تادلة. كان في المجموع حوالي ستة آلاف من الأسرى، من بينهم نساء وأطفال وشيوخ.
أسفرت هذه المعركة الأخيرة عن خسائر مهمة في الجانب الفرنسي: 25 قتيلا منهم ضباط سامون، و85 جريحا. وفي نفس اليوم ، أسقطت طائرتان تشاركان في المعارك انطلاقا من "كلومبشار" قرب الجزائر، ومات كل من فيهما من عسكر التخوم.
سقوط جبل "بادو"
التفت مجموعة من المقاومين حول " زايد أسكنتي" من قبيلة "آيت عيسى إزم"، واعتصمت بجبل بادو. هوجم المجاهدون المتحصنون من جهات متعددة بأعداد جرارة من كتائب مكناس ومراكش وبشار وفرق المرتزقة... وكانت الخطة تقتضي إحكام الخناق من جميع الجهات... وفي ليلة 18 غشت 1932 استسلمت 280 أسرة من آيت حديدو "مدروس وأسيف ملول"، بعد نفاذ الماء والدخيرة، وبعد ترويج دعاية عن سقوط جبل "بادو" كله تحت سيطرة الاحتلال. وكذلك كان حال آخر مجموعة من المقاومة: 150 أسرة ملتفة حول "زايد أسكنتي" في آخر معقل من جبل "بادو".
وبأسر المجاهد "زايد أسكنتي" تم القضاء على آخر معقل لمقاومة المحتلين الفرنسيين في جبال "بادو وحمدون" الشامخة وذلك يوم 26 غشت 1932.
لقد صمد المقاومون قرابة ثلاثة أشهر، ولم يكن مأكلهم سوى من الحشائش والماشية التي تتناثر أشلاؤها تحت قنابل الطائرات. ولم يكن مشربهم سهل المنال: تناحر على موارده الشحيحة مع المحتلين، فتسيطر عليها ليلا لتفقده بالنهار... ولم تُجدِ معهم محاولات المفاوضات والإغراءات، بل كانت مبايعة على الموت في سبيل الله، لاسيما وأن قادة الجهاد يقاتلون في الصفوف الأمامية...
والقادة الأبرار هم أبناء التربية الصوفية الذين يعلنون النفير كلما حل بالمغاربة خطر الاحتلال. ومنهم فقهاء في الدين ومنهم شرفاء من أهل البيت أدارسة وعلويين وقادريين. استشهد معظمهم بعد رفضهم كل مفاوضة، ولابأس من ذكر أسمائهم لإنقاذها من طي النسيان، وليترحم القارئ على أرواحهم الزكية: سيدي محمد أولحاج اوتفروت: فقيه وقاضي؛ سيدي محمد بن الحاج الزموري مقدم الزاوية الدرقاوية؛ مولاي إدريس نايت سيدي محمد أيوسف؛ سيدي بن حماد نايت سيدي العربي؛ سيدي محمد أولحاج أولعالم؛ سيدي عمر مكوني الحديدوي: قاضي وفقيه؛ سيدي محمد بن الطيبي الهواري: فقيه؛ سيدي أولعياط: فقيه؛ رحمة الله عليهم جميعا.
واستأثرت زاوية أسول الصوفية بالنصيب الأكبر من وسام المجد لما قدمت لائحة طويلة من الشهداء والشهيدات: من أمثال الفقيه سيدي محمد بن الحاج التافراوتي، وأصحابه أمثال سيدي أحمد نايت عيسى، وعسو أوداود أوتاجين، ومحمد أوتاجين نايت يوسف، ولالة يطو ولالة عائشة. اللهم ارحمهم جميعا. وارحم كذلك أسراهم من أمثال الشريف سيدي الطيب الذين نجوا من موت محقق لما نفذت دخيرتهم وبلغ منهم الجهد أقصاه. ولم يكن بدا من الاستسلام. وكان من بين الأسرى كذلك ثلة من آيت مرغاد بزعيمهم" أترمون".
ولم يبق للمحتل سوى مرتفعات جبل "صاغرو" الذي كان زعيم قبيلة آيت عطا "عسو أوبسلام" يدافع عنها ببسالة منقطعة النظير. ولم يستسلم سنة 1934 إلا بعد مفاوضات حفظت له زعامته للقبيلة. فكانت آخر وقعة من حروب الاحتلال، التي يسمونها "حرب التهدئة"."
انتهى الاقتباس بتصرف من الملخص المذكور.
وما يتذكره صاحبنا من حكايات أبيه الذي شهد تلك المعارك الضارية، هو ما بقي راسخا في ذهنه حول قصة "التباريد"، وقصة "النغمة القاتلة"، وقصة "الساعة والأسيرين الفرنسيين"...
روى له رحمه الله: " لقد دهش رجال " البرتيزة " ( العملاء) الذين كنا نتكلم معهم لما كانوا يطلبون منا الاستسلام. وكانو يعتقدون أننا محصنون من الرصاص بتعويذة يسمونها بالعامية "التباريد"، لما رأوا آيات حفظ الله تخيم علينا وتحمينا من وابل القنابل الذي تدكنا بها طائرات ومدافع جيوش الفرنسيين الجرارة. وقد تذكر المحاصر "المهدي" ما راج بينه وبين أبيه المختار الذي ظن أن شيئا من هذه "التباريد" كانت يستحفظ بها. فلقد كان شجاعا لا يعبأ بالبارود الذي يرميهم به محاربو آيت عطا في غاراتهم المتكررة على آيت مرغاد زمن "السيبة". فأجابه والده: " لم يكن لي شيء مما يظنون سوى طلب حفظ الله، ثم تكرار هذا الدعاء الذي تعلمته من أبي. يقول فيه:
"اللهم صلى على النبي كنز الكنوز بها تنجمو **** بها الرجال تفوز يوم النيران بها تغنمو."
ويتذكر والد صاحبنا كذلك الفزع الشديد الذي كانت يحدثه لهم أزيز الطائرات و"النغمة القاتلة" التي كانت تسبق سقوط القنبلة لتدك الأرض دكا. ويتذكر كذلك أنه نجا من موت محقق لما نزلت قنبلة على الغار الذي كان يتحصن فيه، ماتت مجموعة بكاملها كانت قربه، ولم يكن لينجو لولا لطف الله، ثم حفرة حفرها في جانب المغارة التي كانوا بداخلها، قبع فيها بسرعة لما سمع "النغمة القاتلة": صوت القنبلة وهي نازلة عليهم من الطائرة.
وحكى السيد "المهدي" ذات يوم لأولاده قصة الأسيرين: " ذات يوم أتى المجاهدون بأسيرين فرنسيين ودخلوا المسجد الذي أصلي بالناس فيه، لاستشارتي ماذا سيفعلون بهما. فلاحظت أن أحدهما يملك ساعة، فقلت للمجاهدين " أريد هذه الساعة لتتبع أوقات الصلاة" فقبلوا، وتسلمتها منهم. ثم اقترحت عليهم أن يقايضوهما مع النصارى بكذا وكذا من السلاح والدخيرة والمؤن التي يحتاجونها، عوض قتلهما انتقاما لقتلى المسلمين كما كانوا يهمون بفعله.
ويتذكر كذلك ما وقع له مع عسكري "مخزني" كان يحرس معتقل الأسلاك الشائكة الذي حشر فيه أسرى المعارك بعد انتهائها، وكان من بينهم. رأى ذلك العسكري ساعة عنده، ولم يكن يملك الساعات في ذلك الزمن سوى النادر من الناس، فأخذها منه قهرا ولم يفلح في ثنيه لما أخبره أنه إمام يتتبع أوقات الصلاة بواسطتها.
يتأسف على تلك الساعة قائلا في نهاية القصة لأولاده: "ولقد حزنت كثيرا على تلك الساعة التي اغتصبها مني ذلك المخزني" غفر الله لنا وله، لأن شعاري كان ولايزال "الصلاة في وقتها خير من الدنيا وما فيها"، وها أنا ذا أوصيكم بها يا أولادي، لكي تعملوا بها وتوصون بها أبناءكم من بعدي،" وذكر ما جاء في ذلك في القرآن الكريم :( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً، وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً) (مريم54 - 55) . اللهم اجعلنا وأسلافنا وذرياتنا من المرضيين...
لقد تعمد “مذكِّر” الإسهاب في ذكر أحداث تلك المقاومة الباسلة مساهمة منه لانتزاعها من الطمس والنسيان، ولكي يترحم مع من قرأها على أرواح رجالها البواسل الذين تعلم منهم جينيرالات فرنسا شيئا من الشجاعة مكنتهم من دخول التاريخ الأوروبي من أبواب الفخار، لما تغلبوا على ألمانيا النازية. وتلك قصة أخرى ولولا مخافة التطويل والخروج عن الموضوع لفصل “مذكِّر” تاريخ أولئك الجنرالات الذين أذاقهم رجال الأطلس الأفذاذ من بأسهم، رغم البون الشاسع بين عدة وعدد الجانبين. وأهم ما ينبغي معرفته عن هؤلاء الجينيرالات المحتلين، أنهم جاءوا متشبعين بأفكار أبيهم الروحي " الأب فوكو" الذين يفخرون بلقائه، مستعدين لإخراج المغاربة من دينهم، ولزرع بذور استثناء البرابرة من حكم الشريعة، وتخصيصهم بحكم "إزرف العرفي". ولقد كان منهم من ساهم في تركيا في القضاء على الخلافة الإسلامية، وفي إرساء نظام اللاييكية. ولقد انتقم منهم العزيز الجبار لما سلط عليهم جنود "هتلر" في الحرب العالمية الثانية، فسلط الله الظلمين على الكافرين وجعل في قدره اللطف للمسلمين، تبعا لحكمه الذي بين في قرآنه المجيد: ( لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (آل عمران:111)
انتهت مقاومة آيت مرغاد الباسلة ورجع الناس إلى مداشرهم وواحاتهم. ونصب الفرنسيون على القرية قائدا لهم من القبيلة، ليضمنوا ولاءها. من بين الأعوان الذين نصبهم لاحقا الفرنسيون في تاديغوست ، قريب للمهدي من أمه المرغادية "لالة هدة" رحمة الله على الجميع. ولم يلبث السيد المهدي في مسقط رأسه طويلا، وقد "تبدلت الأيام وانقلب الدهر\\ وصار خيار الناس ليس لهم قدر". كما كان يردد رحمه الله... دخلت الواحة في فترة جذب شديد مع دخول الفرنسيين: سبع سنين من المجاعة والقحط الذي أرغم الناس على أكل الحشائش وجذور النباتات.
وهكذا أكره الطالب المهدي على هجرة ثالثة سنة 1936. كانت وجهته مكناس لو لم يلتق في الطريق مع أحد معارفه، أرشده للذهاب إلى زاوية الشيخ، حيث أن الناس هناك يبحثون عن فقيه يعلم أولادهم القراءة ويؤمهم في الصلاة.
استوطن المهاجر المهدي زاوية الشيخ، بلدة فاتنة يانعة الثمار، تسقى من عيون كثيرة تنبعث من جبال الأطلس المتوسط الكلسية. وهناك تزوج "فاطمة" بنت قائد القرية، وهي لا تزال على قيد الحياة حتى كتابة هذه السطور، أطال الله عمرها في طاعته، وزادها من بركات الدنيا والآخرة. كان ذلك القائد "سيدي حسن" من سلالة الذين أسسوا الزاوية الناصرية، وكان رحمه الله يعظم الفقهاء ويكرمهم ويقربهم. لذا قبِل مصاهرة الشريف المهدي ولم يكن يملك في غرفته بالمسجد سوى بعض الأثاث الرث الذي تبرع به الأهالي.
وكانت "فاطمة" تساعد أمها " آمنة " المشهورة بالكرم رحمها الله ، لتهيئ القصعات من الكسكس، تكرم الفقراء زمن المجاعات المشهورة المتكررة أيام الاستعمار. حتى السجناء كانت تصلهم قصعات الكسكس التي كانت تتفقدهم بها كل جمعة. ولم يكن ذلك ليسعد الفرنسيين، فعزلوا "سيدي حسن" بعد فترة قصيرة جدا من تنصيبه.
تطوعت "فاطمة" في بداية حياتها الزوجية لكفالة يتيم صغير: هو ابن أخت السيد المهدي الشهيدة التي ماتت في سجن الاستعمار بتهمة تزويد المجاهدين بما يحتاجونه من مؤن وغيرها... فلربما كانت تلك الكفالة سببا في البركة التي رزقها الله في عمرها وفي أولادها، ونرجو الكريم الجواد أن يرفع درجاتها في الجنة بجوار النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
استقر الفقيه المهدي إذن بالقرية، وكان يقوم بعدة أدوار كمثل فقهاء ذلك العصر، فهو إمام الصلاة وهو الشاهد العدل في العقود الشرعية في الطلاق والزواج والبيوعات العرفية، وهو المعلم الذي يعلم الأطفال العربية والقرآن الكريم، وهو الطبيب الذي يرقي الناس بالقرآن ويصرع الجن وغير ذلك من المهام التي تجعله يعيش هموم الناس عن قرب ويكسبه ثقتهم واحترامهم.
يحكي أنه استدعأه يوما القائم بأمر الفرنسيين في البلد ليخطب الجمعة بابن عرفة الذي نصبه الفرنسيون عوض الملك محمد الخامس الذي عزل ونفي إلى مدغشقر، فلما رفض الفقيه المهدي نصرة ابن عرفة، صفعه القائد صفعة قوية ودفعه حتى تدحرج في دروج مقفر القيادة، ثم أمر بسجنه. محنة أخرى تأتيه من المستعمر، لكن بعد شهر من السجن أطلق سراحه. وجاءه القائد "أُهُتَّه" يوما خفية وطلب منه الصفح والمسامحة، وأن يقرأ عليه شيئا من القرآن، رقية لكوابيس مرعبة تسلطت عليه منذ صفعه وسجنه.
ذات يوم كان يستعد السيد المهدي لزيارة مسقط رأسه تاديغوست. فحرص مهندسنا “مذكِّر” على مرافقة أبيه. إنه يريد أن يرسخ الأحداث التاريخية التي شهدها أبوه، بربطها بالمكان الذي وقعت فيه. كانت زيارة شيقة لجبال الأطلس الكبير الشامخ بشموخ المقاومة المرغادية... جبال حمدون وكردوس وبادو وآيت سخمان وآيت حديدو... نزلوا بعدها في تاديغوست عند من بقي من أخواته وأقربائه من أمه المرغادية. زاروا فيها قبور الوالدين والشهيد إدريس وضجيعه الشهيد المرغادي رحمهم الله، ووصلوا كل الأقارب الذين بقوا على قيد الحياة. ومن بينهم أبناء أخته التي استشهدت وهي حامل في سجون الفرنسيين. أحد أبنائها يتصرف في الأملاك التي ورثها النازح المهدي من أسلافه. وأثناء الزيارة رد الوالد المهدي إلى أقربائه بعض الممتلكات التي حرموا منها تحت القانون العرفي إزرف، الذي يشجعه النصارى، مع أنه يحرم المرأة من حقوقها الشرعية في الإرث.
وأقدم الشريف المهدي كذلك على السفر مع أولاده ليطلعهم على مضاجع أجدادهم رحمة الله عليهم. فكانت زيارة جدهم مولاي محمد الذي كانت قبته في موقع "الخنق" قرب مضغرة على ضفاف وادي زيز، قبل أن ينقل إلى ضريح آخر في التجزئة الفلاحية بالرشيدية، التي عوضوا بها الأراضي الفلاحية التي غمرتها مياه السد.
ويتذكر صاحبنا استضافة أبيه يوما لوفد من أبناء عمومته جاءوا لدعوته لحضور مراسيم ترحيل رفاة جدهم، وقد أوشك بناء السد على النهاية، لكنه اعتذر، ولربما كان السبب في ذلك أنه لم تتوفر له تكاليف السفر والمساعدة التي جاءوا يطلبونها منه مساهمة في العملية.
ثم كانت زيارة ضريح مولاي علي الشريف في الريصاني سجلماسة، وضريح الحسن القادم من الجزيرة العربية في القرن الرابع عشر، رحمة الله على الجميع.
وتلك أصول سوف يوثقها “مذكِّر” لأولاده في رسالة وصية، يبعثها لهم مع شجرة نسبهم، لما ألح عليه أحدهم يدرس في أمريكا في طلبها. كان إلحاحه نتيجة ما رأى من اهتمام لدى الأمريكان بعلم الأنساب. اهتمامهم البالغ ذلك، جعلهم يخصصون في مدينة "صالت ليك سيتي" أنفاقا في جبل منيع لخزن المعلومات الجينيالوجية للأسر الأمريكية. وأقنعه الولد بقوله: "ونحن أولى بحفظ أنسابنا نظرا لاتصالها بخاتم النبيين "سيد ابن آدم ولا فخر" عليه الصلاة والسلام وعلى آله".
في زاوية الشيخ رزق الفقيه المهدي تسعة أولاد، توفى الله منهم اثنين رحمهما الله. ومن مظاهر وعيه ومقاومته للكفر الذي يزرعه الفرنسيون، أنه امتنع من تسجيل أبنائه في المدارس العصرية التي أحدثها المستعمر. وعوض ذلك أرسل بعضهم إلى مدينة مراكش لتلقي العلم التقليدي الشرعي في جامعة ابن يوسف ، ثم إلى جامعة القرويين بفاس، رغم فقره وشظف عيشه وكثرة عياله.
وجل الناس وخاصة الأعيان منهم، سجلوا أولادهم في المدارس العصرية، وحصلوا على منح للدراسة في الثانوية البربرية في مدينة أزرو، وبعضم انضم إلى المدارس العسكرية. وكان منهم من وظف في مراكز حساسة، خلفا للفرنسيين الذين ضمنوا ولاء بعضهم للمضي في ترسيخ عقائدهم والحفاظ على مصالحهم. عانى ولايزال المغاربة يعانون من بعضهم محنا كثيرة ولا حول ولا قوة إلا بالله. لا بأس من ذكر واحد منهم ابن أحد أقرباء السيد المهدي، أدخل الفرنسيون بعض أبناءه المدارس العسكرية، فكان من بينهم من انتهى به الأمر ليكون من المسؤولين في جهاز قمعي يسيئ إلى المغاربة ولسمعة البلد. نسأل الله أن يلهمه الصواب في تجنب المسؤولية القذرة، اقتداء بتوبة أبيه وتصالحه مع "الوطنيين" الذين كادوا لولا لطف الله أن يقتلوه بعد استقلال البلد. ومن الصواب أن نلتمس لهم الأعذار، أنهم لم تتح لهم الفرص للاطلاع على هدي الإسلام من خلال المراجع العربية الصافية، بحكم ثقافتهم اللاييكية ولغتهم البربرية. لكن مما لا يعذرون فيه، قطعم صلة الرحم منذ زمان مع أقربائهم لما علموا أنهم يناصرون الصحوة الإسلامية التي تحاول إصلاح ما أفسده المستعمر ووكلاؤه. نسأل الله أن ييسر لنا صلة الرحم. ولقد كان أبناء السيد المهدي يحاولون القيام بواجب صلة الرحم هذه أثناء زيارتهم لتاديغوست ، لكن الطرف الآخر كانوا يتجنبون لقاءهم رغم مجيئهم من بعيد.
حتى إذا حصل المغرب على الاستقلال، فلم ير السيد المهدي بأسا من إلحاق أبنائه بالمدارس العصرية. وكان ذلك بعد تصميمه على أن يتكفل بنفسه بتعليمهم القرآن الكريم والتربية الإسلامية. وهكذا تلقى ابنه الطالب “مذكِّر” دراسته الابتدائية في مدرسة زاوية الشيخ، ثم حصل على منحة لمتابعة دراسته الثانوية في القصيبة ثم في الرباط، وكان دائما من الأوائل في صفه والحمد لله. حصل على الباكلوريا بميزة في ثانوية مولاي يوسف بالرباط، ومنها التحق بمنحة دراسية أخرى إلى المعهد الزراعي ، ثم المدرسة الوطنية للهندسة القروية والمياه والغابات بفرنسا.
رجوعا إلى الحديث عن التوبة، فلقد كان صاحبنا المهندس “تائب” يريد إتيان البيوت من أبوابها، والباب الذي دلنا عليه ربنا معلوم معروف يطرقه كل الذين عقدوا العزم على التصالح مع ربهم. وهو رب رؤوف رحيم، يفرح بتوبة عبده فرحا مثله لنا في الحديث الشريف، تمثيلا لطيفا حنونا: قال رسول صلى الله عليه وسلم: " لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاةٍ، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فآيس منها فأتى شجره فاضطجع فى ظلها (ينتظر الموت). فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال - من شدة الفرح - اللهم أنت عبدى وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح". متفق عليه عن أبن مسعود - صحيح الجامع (5033).
وقال الله جل وعلا في حديث قدسي: " يا أبن آدم إنك مادعوتنى ورجوتنى غفرت لك ولا أبالى، يا أبن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم أستغفرتنى غفرت لك ولا أبالى . يا أبن آدم لو أنك أتيتنى بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتنى لاتشرك بى شيئاً لأتيتك بقرابها مغفره". رواه الترمذى عن أنس، وحسنه الألبانى فى صحيح الجامع ( 4338).
ولقد رأى “تائب” هنا مناسبة لكي يذكر رفاق الطريق في الدراسة، أوفي العمل، والذين ربما لا يزال التلوث الفكري يسيطر عليهم، أن يفكروا في المصير المحتوم، وأن يسارعوا في طَرٌقِ باب خير الخلق كلهم، عوض طرق باب الغارقين في الدنيا والجاه والسلطان... وأن يبادروا لأن مابقي من العمر قصير جدا، ولربما لم يبق لهم متسع من الوقت لكي يعيدوا تكوينهم للحصول على الضروري من العلم الشرعي... لأن الله لا يعبد بجهالة... والأعمار بيد الله... والخاتمة بيد الله... ولاغرض هنا بالتعالي والأستاذية على أحد، لأن الله أعلم بخاتمة كل فرد، وما على الإنسان إلا أن يؤدي الواجب الذي يأمرنا به ربنا: ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125). نعم "هو أعلم بالمهتدين" فلا مجال لتزكية النفس وللأستاذية المتعالية.
والباب الذي يقصده التائب هو باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء:64).
راودت فكرة الحج المهندس “تائب” في رحلة الرجوع من القارة الأمريكية، صيف 1979. كما فاتت الإشارة إلى ذلك، قارن بين نمط الحياة الإمريكي وبين نمط الحياة في المغرب فوجد بونا شاسعا في كل الميادين. رأى عندهم العمل الجاد والتفاني فيه لإقامة دعائم القوة الاقتصادية الموزعة لثمار التقدم والازدهار. رأى العمارة المتقنة التي تنسجم مع الطبيعة النقية. رأى البنى التحتية الضخمة التي تيسر الحركة والتجول والتفسح. لاحظ أهم من ذلك: أخلاقيات وسلوكيات المواطنين العاديين ورجال السلطة ورجال السياسة ورجال العلم ورجال الفن. واندهش للأدبيات التي تطبع العلاقات بينهم. لا فرق هناك بين الناس في مستوى المعيشة، العامل كالإطار والرئيس كالمرؤوس والناس كأسنان المشط أمام القانون، وقس على ذلك مما يطول ذكره ومما لا تجده في بلدنا إلا في كتب تاريخ الصحابة والتابعين. وهناك فهم “تائب” المقولة التي يرددها كل الحكماء والنقاد الذين يلاحظون الفرق الشاسع بيننا وبينهم، يقول القائل منهم: " رأيت هناك في الغرب إسلاما بلا مسلمين وهنا رأيت مسلمين بلا إسلام"
مباشرة بعد الرجوع قرر الاستعداد لحج بيت الله وزيارة مضجع الرسول صلى الله عليه وسلم، ملتمسا العثور هناك على سبيل الخلاص الفردي.
وزيادة على الهم الفردي لإصلاح النفس والخلاص من حياة التفاهة والتصابي، يريد “تائب” معالجة الهم الجماعي، واستكشاف فضاءات ربما يجد فيها " إسلاما ومسلمين " وتجمع ما تفرق في بلده وفي بلاد الغرب.
وللمقارنة بين بقاع نموذجية من أرض الله الواسعة، ارتأى أن تكون رحلته إلى بيت الله تمر عبر "روما" ثم "استطنبول" ثم المدينة المنورة ثم مكة المكرمة، وذلك بتاريخ شتنبر 1980.
المحطة الأولى: روما وأصول اللاييكية...
بلد أغدق عليه الرب من خيرات كل شيء. ولربما كان ذاك استمرارا للمائدة التي طلبوها امتحانا لنبي الله عيسى عليه وعلى نبينا السلام. ذكر في قوله تعالى : ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (المائدة:112)
( قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (المائدة:114)
( قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ) (المائدة:115)
ولقد كفروا بالمائدة وبالنعم التي بسطها الله عليهم، فهم في قمة التفسخ الأخلاقي البشرى. وكل ما واخذهم به ربهم في الرسالة الخاتمة للرسائل السماوية لايزالون عليه إلى الآن إن لم يزدادوا غيا:
( .... وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (التوبة:30)
( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31)
ولقد لمس صاحبنا السيد “مستبصر” أثناء تجواله السياحي في روما مكامن الضعف الذي ينخر الكنيسة منذ أمد بعيد. وربط ما رآه من مآثر ومعالم وكنائس وقصور بالتاريخ الذي بين كيف تسربت عادات الوثنية والشرك وعبادة الأصنام من عهد القياصرة الأولين إلى روما الكاثوليكية. وقف على أهم القلاقل والاضطرابات وسهل عليه فهمها انطلاقا من المفاتيح القرآنية المضبوطة، التي كشفت عن زيغ رهبان وأحبار السوء، وعن فساد عقائدهم وذممهم، فهم :
· يجعلون أنفسهم واسطة بين الناس وبين الله، ويحبكون لهم صكوك الغفران مقابل المال؛
· يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله؛
· يبتدعون الرهبانية التي تمنع الزواج الطبيعي فيعوضها الرهبان باللواطية والسحاق واغتصاب الأطفال؛
· لا يتناهون عن المناكر، ويتكتمون فيما بينهم على فسادهم؛
· كانوا يحاربون العقل الذي وهبه الله للإنسان لفهم آياته وسننه وحقائقه الكونية؛
وقرأ “مستبصر” شيئا عن تلك الحركات الإصلاحية التي فشلت في زعزعة الرهبانية البابوية، فترتبت عن ذلك حروب دينية أدت إلى ظهور كنيسة البروتستان. وكانت بعدها حروب الثورة الفرنسية التي انتزعت السلطة الدنيوية والعقلية من سيطرة الكنيسة، وبرز إلى الوجود دين اللاييكية.
· الحركة الإصلاحية الأولى، "البروتستانتية" ربما صادفت شيئا من الصواب في دعوتها، فكان ذلك سببا في نجاحها واستخلافها. لكنها أخطأت فيما بعد لما آمنت بالخرافات التلموذية، وتحالفت مع الصهيونية لمعاداة الإسلام.
زعيم الإصلاحيين "مارتن لوثر" زار روما عام 1510 للتبرك بالمقر البابوي، وكان يتمنى رؤية القديسين والرهبان الزهاد ليتمسح بطهارتهم. غير أنه ما إن حل بروما حتى فوجئ بمدى الفساد المنتشر داخل الكنيسة الكاثوليكية. بعد الزيارة كتب رسالته الشهيرة إلى البابا ليو العاشر، وقال: "عندك فى بيتك وكر للعقارب لم يؤذك منذ سنوات لكنه يتفرخ ويتكاثر... البابا يقول لي لا تهاجمه مادام لم يؤذك لأن هناك احتمالا كبيرا أن لا تستطيع القضاء عليه فيتحول إلى مصدر للإيذاء الدائم... أما أنا فأقول إن لم تهاجم الشر في عقر داره لاجتثاثه من جذوره فانك لن تحقق رسالة الرب... رسالة الخلاص". وما إن أتى العام 1520م حتى كانت الكنيسة الكاثوليكية تمارس باسم المسيحية ما لا يرقى إليه خيال الوحوش في التعذيب والفتك والإيذاء، من شد الأطراف حتى خلعها ... إلى الشنق فوق الأشجار إلى حرق الناس أحياء. لقد فرخ وكر العقارب محاكم التفتيش للقيام بتلك الأفعال البشعة، وظهرت أصلا في إسبانيا لمحاربة الدين الإسلامي. فلما استفحلت "صاديتها" انتقل شرها ليعم كل المعارضين لسطوة الكنيسة.
· أما الحركة الإصلاحية الثانية، الحركة اللاييكية التي فجرت الثورة الفرنسية، فلربما صادفت بعض الصواب في تصديها للكنيسة البابوية التي تحارب العقل وكل ما يناسب الفطرة الإنسانية. لكنها أخطأت لما عممت حربها على كل الأديان ومنها الإسلام، دون أن تدرسه دراسة علمية موضوعية لا تعصب فيها.
لقد كانت الكنيسة الكاثوليكية تصدر نشرة سنوية عن الكتب الممنوعة(ليبرورام بروهيبتوريوم) بدأ من عام 1542 م. فقد كانت الكنيسة المسيحية في أوروبا ترى أن مفاهيم العدالة والحق والحرية مهددة للديانة المسيحية وللكنيسة نفسها، إذا ستقلت الرعية من سيطرتها فقررت " تخليص المؤمنين من كل ما هو ضار بالعقل والإيمان والحياة! ! " وكانت الكنيسة المسيحية في أوروبا تقيم احتفالات سنوية لحرق الكتب، كانوا يسمونها " فعل إيمان" !!! وتذكر الروايات التاريخية أن مؤلفي الكتب أيضا كانوا يحرقون في الساحات العامة وكانت أشهر ساحات الحرق ساحة(كمبو دى فيورى) أو حقل الزهور والتي شهدت إحراق الفيلسوف(جيوردانو برونو)عام 1600م. ويذكر الباحثون الأوروبيون أن الكنيسة المسيحية وعلى مدار 1700عام كانت هي المؤسسة الأكثر مسؤولية عن حظر الكتب وإحراق مؤلفيها.وهكذا قامت الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا بأسوأ الأدوار في تاريخ الإنسانية.
ولقد تعرف “مستبصر” عن أسباب نفور الناس هناك من الكنيسة، حتى أضحت معابدهم خاوية على عروشها، بينما أماكن اللهو والمجون عامرة مكتظة لا يرقد لها جفن. ولم يعد بإمكانها السيطرة على الإنسان الغربي الذي وعى عقله سخافة ثقافة الصكوك والاعتراف والواسطة بين الرب وعباده، ففضل الرجوع إلى الوثنية الأولى التي تقدس الجمال الجسدي وتطلق العنان لحياة المجون من كل لون.
ولربما الكنيسة تستعد الآن لصب نار خيبتها على الإسلام والمسلمين، لكي تستعيد شيئا من مكانتها عند أهلها، متوسلة في ذلك نار التعصب والنعرات الصليبية. فلكي تنسي الناس إرهابها الأسطوري، صارت تتهم حركات المقاومة والتحرر من الاستعمار الغربي بالإرهاب الإسلامي. ولكي تنسي أهلها أسباب هروبهم من الكنيسة صارت تتهم المسلمين بخنق الحريات لعدم السماح لمواطنيهم بتغيير دينهم والدخول في المسيحية.
هكذا ظهر لها حل مشاكلها، عملا بمكيدة اختلاق عدو خارجي قصير الحائط ليسهل اجتيازه.. ولم يخطر على بالها أنها قامت بالاختيار الخطأ، فالدين الذي اختارت معاداته مستقوية بالصهيونية، كان قد أخبر الناس عن مكائدهم وحذرهم من تبعاتها. وأخبرهم حتى عما سيؤول له مكرهم من فشل وخيبة لعلهم يرجعون. ولكنها الحتمية التي تنتظر كل من سولت له نفسه التمادي في الاختيار الخطأ: حتمية الهزيمة والاندثار، وفسح الطريق لرسالة الإسلام لكي يصل سلطانها إلى روما وإلى كل العالم. وتلك بشرى للمؤمنين، جاء بها سيد المرسلين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وعلى آله الطاهرين ، ( ... لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (الفتح:4). وليحق القول على الكافرين، "( وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) (يوسف:105).
إنها بشارة استخلاف الإسلام على عاصمة الروم الثانية بعد استخلافه على عاصمتهم الأولى.
موضوع فرغ منه الصحابة منذ زمان، ووعوه بفهم واضح لم تلوثه ثقافة الهزيمة. فعن أبي قبيل قال : كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص، و سـئل أي المدينـتين تفتح أولا القسطنطينية أو رومية ؟ فدعا عبد الله بصندوق له حلق، قال : فأخرج منه كتابا قال : فقال عبد الله : بينما نحن حول رسول الله نكتب، إذ سئل رسول الله : :أى المدينتين تفتح أولا القسطنطينية أو رومية ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مدينة هرقل تفتح أولا : يعني قسطنطينية ) رواه أحمد ( 2/ 176 ) والدارمي في السنن ( 503 – ط دار المغني ، و ابن أبي شيبة في المصنف ( 19088 – فضل الجهاد ، والحاكم في المستدرك – الفتن والملاحم ، وأبو عمر الداني في السنن الواردة في الفتن ( 609 ) والطبراني في الأوائل ( 61 ) وابن أبي عاصم في الأوائل ( 108 ) ، وعبد الغني المقدسي في كتاب العلم ( 2/30 / 1 ) وقال : حديث حسن الإسناد ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. قال الشيخ الألباني رحمه الله : :" ( رومية ) هي روما ، كما في معجم البلدان ، وهي عاصمة إيطاليا اليوم ، وقد تحقق الفتح الأول على يد محمد الفاتح العثماني، كما هو معروف، وذلك بعد أكثر من ثمانمائة سنة من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح، وسيتحقق الفتح الثاني بإذن الله تعالى ولا بد ،( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (صّ:88)
المحطة الثانية: استنبول وقصة شيخ محمد الفاتح
هاهي القسطنطينية التي يسمونها اليوم إستنبول تظهر لسائحنا “مستبصر” ورفيقته من الطائرة وهما قادمان إليها من روما.
مدينة شاسعة الأطراف وسط الحدائق والمنتزهات المخضرة والشواطئ المتوهجة رونقا وجمالا. تداعبها مياه البوسفور والدردنيل الهادئة التي تمخر في عبابها السفن البيضاء من كل نوع، ناصبة على ناصيتها العلم التركي الأحمر. هذا العلم الذي كان يرعب أوربا، أينما تول وجهك تجده رفرافا عاليا خاصة على تلك القلاع والأبراج الشامخة والأسوار الضخمة التي تحيط بالمدينة القديمة من كل جانب.
فتركيا مرت بواحدة من أعرق الحضارات التي عرفها العالم وهي الحضارة الإسلامية العثمانية والتي كان لها الأثر المباشر في نشر الثقافة الإسلامية في الكثير من الدول الأوربية مثلما كان للمغرب قبلها.
مدينة ربما شابهتها مدينة طنجة المغربية لكن اسطنبول حالفها الحظ الذي لم يحالف طنجة بالحفاظ على الضفة الأوروبية من المضيق.
ما استرعى انتباه “مستبصر” في المطار، وفي الطريق، وفي المدينة، هو ذلك الوجود المكثف للعسكر وأجهزة البوليس في كل مكان. ولا يكاد المرء يتجول في أي من أنحائها إلا ويجد نفسه وجها لوجه مع العسكر الذين يحرسون اللاييكية ورموزها، خاصة أصنام أبيها الروحي "أتاتورك". محاولات حثيثة لمحو آثار الخلافة الإسلامية، لكن ذاكرة المكان تجعل الزائر محاطا بالمآثر التي تجسد في مجملها عهود المجد والخلود للحضارة الإسلامية. ولربما يكاد الزائر ينخدع بمظاهر التغريب الأتاتوركي وضياع الهوية الإسلامية، لكنه يرجع للواقع عندما ينطلق الأذان من تلك المآذن الرشيقة التي تزين المساجد الرائعة الجمال المتناثرة على ضفتي البوسفور، وداخل المدينة، فيستيقن المسلم أن لهذا الدين ربا يحميه.
وعندما يصل الزائر إلى تلك المتاحف التي تضم بقية من آثار النبي صلى الله عليه وسلم، من شعره من أثر قدمه من سلاحه ومن سلاح الصحابة المقربين، وعندما يمر بضريح الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري، يطمئن كامل الاطمئنان على تعلق اخواننا الأتراك بإسلامهم وبعراقتهم وبحبهم لنبيهم ولصحابته الأبرار، رغم تآمر اللاييكية لطمس الهوية الإسلامية.
لقد استغرب “مستبصر” من موقع ضريح الصحابي أبي أيوب الأنصاري هناك في استنبول وهو يعلم أن فتح المدينة لم يتم إلا بعد مرور ثمانية قرون على جيل الصحابة. لذلك قرر قراءة ما تضمه صفحات الدليل السياحي وكتب التاريخ التي درسها ليسهل عليه التعرف العميق على المدينة. وتعظيما للنبي المصطفى المختار صلى الله عليه وسلم، قرر “مستبصر” تدوين ما قرأه في ظروف تحقق البشارة بفتح القسطنطينية التي صار اسمها استنبول، وهو موضوع يستحق أن يأخذ مكانه في مذكرات كل من زار هذه المدينة العظيمة. قرأ “مستبصر” في الدليل وفي كتب تاريخ المدينة ما يلي:
"أخبار فتح القسطنطينية:
شاءت الأقدار أن يكون السلطان العثماني محمد الفاتح هو صاحب البشارة التي بشّر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثه: "لتَفْتَحُنّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش" (مسند أحمد : 4/335. )
وانتظر المسلمون ثمانية قرون ونصف قرن حتى تحققت البشارة، وفُتحت القسطنطينية بعد محاولات جادة بدأت منذ عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه (32هـ=652م)، وازدادت إصرارًا في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في مرتين: الأولى سنة (49هـ = 666م) والثانية بين سنتي (54-60=673-679م)، واشتعلت رغبة وأملاً طموحًا في عهد سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي سنة (99هـ=719م).. لكن هذه المحاولات لم يُكتب لها النجاح والتوفيق.
ولد السلطان محمد الفاتح في (27 من رجب 835 هـ = 30 من مارس 1432م)، ونشأ في كنف أبيه السلطان "مراد الثاني" سابع سلاطين الدولة العثمانية، الذيتعهّده بالرعاية والتعليم؛ ليكون جديرًا بالسلطنة والنهوض بمسئولياتها؛ فأتم حفظ القرآن، وقرأ الحديث، وتعلم الفقه، ودرس الرياضيات والفلك وأمور الحرب، وإلى جانب ذلك تعلم العربية والفارسية واللاتينية واليونانية، واشترك مع أبيه السلطان مراد في حروبه وغزواته. ثم عهد إليه أبوه بإمارة "مغنيسيا"، وهو صغير السن، ليتدرب على إدارة شئون الدولة وتدبير أمورها، تحت إشراف مجموعة من كبار علماء عصره، مثل: الشيخ "آق شمس الدين"، و"المُلا الكوراني"؛ وهو ما أثر في تكوين شخصية الأمير الصغير، وبناء اتجاهاته الفكرية والثقافية بناءً إسلاميًا صحيحًا.
وقد نجح الشيخ "آق شمس الدين" في أن يبث في روح الأمير حب الجهاد والتطلع إلى معالي الأمور، وأن يُلمّح له بأنه المقصود ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم، فشبَّ طامح النفس، عالي الهمة، موفور الثقافة، رهيف الحس والشعور، أديبًا شاعرًا، فضلاً عن إلمامه بشئون الحرب والسياسة.
تولى محمد الفاتح السلطنة بعد وفاة أبيه في (5 من المحرم 855 هـ=7من فبراير 1451م)، وبدأ في التجهيز لفتح القسطنطينية، ليحقق الحلم الذي يراوده، وليكون هو محل البشارة النبوية، وفي الوقت نفسه يسهل لدولته الفتية الفتوحات في منطقة البلقان، ويجعل بلاده متصلة لا يفصلها عدو يتربص بها.
ومن أبرز ما استعد له لهذا الفتح المبارك أن صبَّ مدافع عملاقة لم تشهدها أوروبا من قبل، وقام ببناء سفن جديدة في بحر مرمرة لكي تسد طريق "الدردنيل"، وشيّد على الجانب الأوروبي من "البوسفور" قلعة كبيرة عُرفت باسم قلعة "روملي حصار" لتتحكم في مضيق البوسفور.
كان السلطان محمد الثاني يفكر في فتح القسطنطينية ويخطط لما يمكن عمله من أجل تحقيق الهدف والطموح، وسيطرت فكرة الفتح على عقل السلطان وكل جوارحه، فلا يتحدث إلا في أمر الفتح ولا يأذن لأحد من جلسائه بالحديث في غير الفتح الذي ملك قلبه وعقله وأرقه وحرمه من النوم الهادئ.
وساقت له الأقدار مهندس "مجري" يدعى "أوربان"، عرض على السلطان أن يصنع له مدفعا ضخما يقذف قذائف هائلة تكفي لثلم أسوار القسطنطينية؛ فرحب بهالسلطان وأمر بتزويده بكل ما يحتاجه من معدات، ولم تمض ثلاثة أشهر حتى تمكن أوربان من صنع مدفع عظيم لم يُر مثله قط، فقد كان يزن 700 طن، ويرميبقذائف زنة الواحدة منها 12 ألف رطل، ويحتاج جره إلى 100 ثور يساعدها مائة من الرجال، وعند تجربته سقطت قذيفته على بعد ميل، وسمع دويه على بعد 13ميلا، وقد قطع هذا المدفع الذي سُمي بالمدفع السلطاني الطريق من أدرنة إلى موضعه أمام أسوار القسطنطينية في شهرين.
بعد ما أحسن السلطان ترتيب وضع قواته أمام أسوار القسطنطينية بدأت المدافع العثمانية تطلق قذائفها الهائلة على السور ليل نهار لا تكاد تنقطع، وكان دوي اصطدام القذائف بالأسوار يملأ قلوب أهل المدينة فزعا ورعبا، وكان كلما انهدم جزء من الأسوار بادر المدافعون عن المدينة إلى إصلاحه على الفور، واستمر الحال على هذا الوضع.. هجوم جامح من قبل العثمانيين، ودفاع مستميت يبديه المدافعون، وعلى رأسهم جون جستنيان، والإمبراطور البيزنطي.
أراد السلطان أن يكون شيخه "آق شمس الدين" بجانبه أثناء الهجوم فأرسل إليه يستدعيه، لكن الشيخ كان قد طلب ألا يدخل عليه أحد الخيمة ومنع حراس الخيمة رسول السلطان من الدخول، وغضب محمد الفاتح وذهب بنفسه إلى خيمة الشيخ ليستدعيه، فمنع الحراس السلطان من دخول الخيمة بناءً على أمر الشيخ، فأخذ الفاتح خنجره وشق جدار الخيمة في جانب من جوانبها ونظر إلى الداخل فإذا شيخه ساجداً لله في سجدة طويلة وعمامته متدحرجة من على رأسه وشعر رأسه الأبيض يتدلى على الأرض ، ولحيته البيضاء تنعكس مع شعره كالنور، ثم رأى السلطان شيخه يقوم من سجدته والدموع تنحدر على خديه، فقد كان يناجي ربه ويدعوه بإنزال النصر ويسأله النصر ويسأله الفتح القريب.
وعاد السلطان محمد (الفاتح) عقب ذلك إلى مقر قيادته ونظر إلى الأسوار المحاصرة فإذا بالجنود العثمانيين وقد أحدثوا ثغرات بالسور تدفق منها الجنود إلى القسطنطينية ، ففرح السلطان بذلك وقال: ليس فرحي لفتح المدينة إنما فرحي بوجود مثل هذا الرجل في زمني.
وذكر الإمام الشوكاني صاحب البدر الطالع: "... بعد يوم – من الفتح - جاء السلطان إلى خيمة آق شمس الدين وهو مضطجع فلم يقم له ، فقبل السلطان يده وقال له: جئتك لحاجة، قال : وما هي ؟ قال: أن أدخل الخلوة عندك، فأبى، فأبرم عليه السلطان مراراً وهو يقول: لا. فغضب السلطان وقال: إنه يأتي إليك واحد من الأتراك فتدخله الخلوة بكلمة واحدة وأنا تأبى علي ، فقال الشيخ : إنك إذا دخلت الخلوة تجد لذة تسقط عندها السلطنة من عينيك فتختل أمورها فيمقت الله علينا ذلك، والغرض من الخلوة تحصيل العدالة، فعليك أن تفعل كذا وكذا - وذكر له شيئاً من النصائح - ثم أرسل إليه ألف دينار فلم يقبل، ولما خرج السلطان محمد الفاتح قال لبعض من معه: ما قام الشيخ لي. فقال له: لعله شاهد فيك من الزهو بسبب هذا الفتح الذي لم يتيسر مثله للسلاطين العظام، فأراد بذلك أن يدفع عنك بعض الزهو. ( روائع من التاريخ العثماني ، لأورخان محمد علي ، ص 47، والدولة العثمانية لعلي الصلابي ، ص185).
ولما دخل محمد الفاتح المدينة ظافرا ترجل عن فرسه، وسجد لله شكرا على هذا الظفر والنجاح، ثم توجه إلى كنيسة "أيا صوفيا"؛ حيث احتشد فيها الشعب البيزنطي ورهبانه، فمنحهم الأمان، وأمر بتحويل كنيسة "أيا صوفيا" إلى مسجد، وأمر بإقامة مسجد في موضع قبر الصحابي الجليل "أبي أيوب الأنصاري"، وكان ضمن صفوف الحملة الأولى لفتح القسطنطينية، وقد عثر الجنود العثمانيون على قبره فاستبشروا خيرًا بذلك.
وقرر الفاتح الذي لُقِّب بهذا اللقب بعد الفتح اتخاذ القسطنطينية عاصمة لدولته، وأطلق عليها اسم "إسلام بول" أي "دار الإسلام"، ثم حُرفت واشتهرت بـ "إستانبول"، وانتهج سياسة سمحة مع سكان المدينة، وكفل لهم حرية ممارسة عبادتهم، وسمح بعودة الذين غادروا المدينة في أثناء الحصار والرجوع إلى منازلهم، ومنذ ذلك الحين صارت إستانبول عاصمة للبلاد حتى سقطت الخلافة العثمانية في (23 من رجب 1342 هـ= 1 مارس 1924م)، وقامت دولة تركيا التي اتخذت من أنقرة عاصمة لها."
انتهى الاقتباس، ولربما لزم استنتاج بعض الفوائد من ذلك الحدث العظيم:
· لا يستحق أن يكون من المبشرين إلا الرجال الأشداء الذين نشأوا وتربوا تربية قرآنية تجديدية على يد أولياء الله الصالحين، كما ذكره التاريخ عن محمد الفاتح، رحمة الله عليه وعلى من ربوه وعلى من ضحوا معه لتحقيق بشارة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وعلى آله.
· ليس من شروط الإمارة الانتساب إلى قريش كما يروج له بعض العروبيين، فلقد تخطت البشارة أمراء من قريش ولم تتحقق إلا على يد مسلم تركي الأصل.
· "نعم الأمير أميرها" تمجيد النبي صلى الله عليه وسلم لأحد السلاطين دلالة على إمكانية انبعاث حكم راشد على يد السلاطين الذين ينجزون للأمة إنجازات عظيمة.
· دور الشيخ المربي يتكرر في مثل هذا الانبعاث كما حدث في عهد عمر بن عبد العزيز وفي عهد كل سلطان عظيم، وربما سيأتي تفصيل لذلك في الجزء الثالث من الكتاب إن شاء الله.
· إذا توفرت الإرادة الصادقة والمشروع الهادف الجامع الذي يبعث ويؤجج عاطفة المسلمين، فالوسائل يسوقها الله كما ساق ذلك المهندس الهنغاري لمحمد الفاتح، يصنع له السلاح الخارق.
· تأجيل تحقق البشارة الثانية في فتح "روما" له حكمة بالغة: هي رفع همم الأجيال الحاضرة والمقبلة حتى تبقى بشارة رسول الله صلى الله عليه سلم تبعثالأمل في نفوسهم، وحتى يبقى سقف التحدي مرتفعا لشحذ الهمم والعزائم والتطلع إلى الإنجازات الكبرى، وإلا فأين دورهم؟! أليس لهم من دور غير التصفيق لأجدادنا الفاتحين؟!..
· وإن كانت تركيا الحالية تئن تحت وطء اللاييكية وتوشك أن تتلاعب بها المؤامرات، فإن للإسلام رجال أشداء آخرون يقُضُّون مضاجع دول الشرق والغرب المعادية للإسلام: ( ... فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) (الأنعام:89) (... اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ) (الأنعام:124)
وصاحبنا “مستبصر” الآن وهو يستعد لزيارة "المدينة المنورة" و"مكة المكرمة" قادما إليهما من استنبول، يأمل أن يشاهد نماذج من أولئك الرجال الذين شرفهم الله ووكلهم برسالته، خلفا لمعظم حكام العرب الذين خذلوا رسالة خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم.
( ... كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران:37) ... تلك هي الآية القرآنية التي قرأها “مستبصر”، زخرفة باللون الأزرق والخط العربي البديع، على المرمر الناصع البياض، تزين المنبر الرائع الذي عوض به الفاتح صنم العذراء مريم عليها السلام، في مسجد أيا صوفيا. وظن المعتبر “مستبصر” أن ذلك مما يفسر اقتناع النصارى بالتسليم لهذا الدين أن تكون له الهيمنة والاستخلاف على تلك المدينة العظيمة... فكانت زيارة أيا صوفيا هي الزيارة الأخيرة لمآثر القسطنطينية...
المحطة الثالثة: زيارة المدينة المنورة ودروس وقعة الخندق
غادر صاحبنا الحاج “محب” استنبول هو وحرمه في اتجاه المدينة المنورة، وحنين الأشواق تسبقه إليها. في الطريق راجع آداب الزيارة وقرأ بعض حكايات المحبين الذين فاضت أعينهم وشاعريتهم عندما أشرفوا على صاحب القبة الخضراء صلى الله عليه وسلم:
لطَيبة عرّج إنّ بين قبــَـابها *** حبيبـًا لأدواء القلوب طبيب
إذا لم تَطِبْ في طَيبةٍ عند طيّب *** به طابتِ الدنيا فأينَ تَطيـبُ
وقرأ ما وقع لبلال مؤذّن رسول الله صلى الله وعليه وسلم، الذي سكن بلاد الشام بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. رأى في المنام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقول له: يا بلال ما هذه الجفوة مضى زمان لم نرك، فلما استيقظ من منامه غلبه الشوق، فشدّ رحاله وقصد قبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولمـّا وصل صار يمرّغ نفسه بتراب القبر. وجاء إليه الحسن والحسين عليهما السلام فقالا له نشتهي أن نسمع أذانك يا بلال فصعِد إلى المكان الذي كان يؤذّن فيه في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وبدأ بالأذان الله أكبر الله أكبر فارتجّت المدينة، فلما قال أشهد أنْ لا الله إلا الله، زادت رجّتها، ولمـّا قال أشهد أنَّ محمّدًا رسول الله خرج الناس من بيوتهم يبكون، حتّى النسوة خرجن من بيوتهن، ولم ير أشدّ باكيًا وباكية من ذلك اليوم، إلا اليوم الذي مات فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
واشوقاه إليك يا رسول الله، واشوقاه إليك يا حبيب الله، واشوقاه للوقوف أمام الحجرة المحمّدية الشريفة واشوقاه لشمّ الروائح العطرة الزكيّة الطيّبة التي تفوح من قبره الشريف.
مما رواه كثير من العلماء عن العتبيّ مستحسنين له قال:" كنت جالساً عند قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاء أعرابيّ فقال السّلام عليك يا رسول الله سمعت أنّ الله يقول: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً﴾ سورة النساء/ الآية 64 ، وقد جئتك مستغفرًا من ذنبي مستشفعًا بك إلى ربّك ثم أنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه *** فطاب من طيبهنّ القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه *** فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته *** عند الصراط إذ ما زلّت القدم
وصاحباك فلا أنساهما أبدًا *** منّي السلام عليكم ما جرى القلم
قال : ثم انصرف فغلبتني عيناي فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في النوم، فقال : يا عتبيّ الحق الأعرابيّ وبشّره أنّ الله تعالى قد غفر له."
انطلاقا من هذه المعاني السامية والعواطف الجياشة، يستعد الآن الحاج “محب” لأداء واجبات الزيارة وآدابها. لما لاح له حرم المدينة المنوَّرة وبدت له أشجارها، أكثرَ من الصلاة والسلام على رسول الله. ولما نزل منزله اغتسل وتنظَّف ولبس أحسن الثياب وتطيَّب ظاهراً، حتى إذا بلغ المسجد النبوي فعل ما يفعله المرء حين يريد الدخول على العظماء فوقف قليلاً كالمستأذن، وعند دخوله المسجد النبوي أن يُ أن اتسيبتمسالشريف قصد الروضة المطهَّرة وهي ما بين قبره صلى الله عليه وسلم ومنبره. صلى ركعتين تحية رب المسجد بجانب المنبر في المحل الذي كان يُصلِّي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ دعا بما حضر من الأدعية، وأعد نفسه للمثُول بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إعداداً باطناً ثم نهض للزيارة...هاهو على بعد خطوات من النبي... إنه في روضة من رياض الجنة... ما أطيب عبيرها... العيون هنا لا سلطان لها على حرارة الدموع... واللسان يعجز عن كتمان مظاهر الخشوع، لأنها المخاطبة المباشرة لسيد خلق الله: فلقد أقدر الله نبيه على رد السلام على كل من يصلى ويسلم عليه... السلام عليك يا سيدي يا رسول الله... السلام عليك يا سيدي يا حبيب الله...السلام عليك يا سيدي يا أشرف رسل الله... السلام عليك يا سيد المرسلين... السلام عليك يا خاتم النبيين... السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين الطاهرين... صلى الله عليك وعلى آلك وأصحابك وأزواجك وذرّيتك وسلِّم تسليماً... جزاك الله عنا وعن أمتك خيراً... فلقد بلَّغت الرسالة وأدَّيت الأمانة وأوضحت الحجة، وكشفت الغمة، ونصحت العباد، وجاهدت في سبيل الله حقّ الجهاد.
السلام على ضجيعيك وصاحبيك أبي بكر الصديق وعمر الفاروق. السلام على جميع آلك وأصحابك وأزواجك وذرّيتك وسلِّم تسليماً...
مرت اللحظات سريعة، فالجموع الغفيرة من الناس ينتظرون دورهم للسلام على الشفيع المختار وصاحبيه... حان وقت المغادرة لإتاحة الفرصة لمن يودعون الروضة ووجوههم تجاهها، متورعين غير قادرين على جعل ظهورهم نحوها... إنها لوعة الفراق... اللهم اكتب لنا تكرار هذه الزيارة مرات ومرات ومرات... واكتب لنا أجرها إن لم نقو عليها...
بعد الخروج من المسجد النبوي الشريف، يستعد السيد “محب” نفسيا لزيارة البقيع، ليصل رحمه مع آل البيت رضوان الله عليهم أجمعين، وليترحم عليهم وعلى من يسكنها من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان. فهناك خاصة مضجع جدته فاطمة بنت رسول الله وجده الحسن بن علي عليهم السلام. وهناك كذلك رفاة كثير من أمهات المسلمين والصحابة والأئمة والشهداء والصالحين. وقد وردت في فضائل البقيع وزيارته عدة أحاديث نبوية شريفة سجلتها كتب الحديث، وكتب التاريخ والآثار التي تتحدث كذلك عن أدب زيارته، وعن الأدعية المأثورة لقاطنيه. وكلما وقف تجاه صحابي أو صحابية يكرر “محب” ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد".
ولم يفت “محب” أن يلاحظ التعظيم الكبير الذي يكنه الإخوة الشيعة لآل البيت وللأئمة الموجودين في البقيع، ولقد أغبطهم في بكائهم ودعواتهم عليهم، خاصة أمام مضجع فاطمة رضي الله عنها والحسن بن على رضي الله عنهما، حيث لم يستطع “محب” كتم بكائه تذكرا لحياتهم وشوقا في لقياهم داعيا ومتضرعا وسائلا المولى الجواد العظيم أن يجمعه معهم على سرر متقابلين، ناظرين إلى وجهه الكريم في جنات النعيم...آمين، آمين ...يا رب العالمين.
وكانت الأيام التالية تتوزع بين القيام بالصلوات الخمس في المسجد النبوي لما فيها من فضل كبير تنص عليه الأحاديث ويحرص على إتمام أربعين صلاة فيه ليخرج من سجل المنافقين كما ورد في الحديث. وبين زيارة مرقد الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وزيارة مشاهد ومآثر المدينة المثقلة بالتاريخ المجيد.
جبل أحد:
من أهم المعالم الطبيعية في المدينة وأظهرها، ويرتبط اسم هذا الجبل بالموقعة التاريخية التي وقعت في السنة الثالثة للهجرة وسميت باسمه: (غزوة أحد)، وكان ميدانها الساحة الممتدة ما بين قاعدته الجنوبية الغربية وجبل عينين الذي يبعد عنه كيلومتراً واحداً تقريباً ويسمى أيضاً (جبل الرماة). ولجبل أحد مكانة كبيرة في نفوس المسلمين فقد وردت في فضله أحاديث عدة منها قوله صلى الله عليه وسلم " إن أحداً جبل يحبنا ونحبه".
زيارة جبل أحد تضم مرحلة مؤثرة: مقابرالشهداء رحمة الله عليهم ومن بينهم سيد الشهداء حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
الخندق:
زيارة ميدان موقعة الخندق تجعل الزائر يربط ذاكرة المكان والجغرافيا بحدث تاريخي مليئ بالعبر وبدلائل نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. إنها قصة تستحق أن تدون من ضمن قراءات “محب”. تلك القراءات التي يتعمق فيها كلما عزم على زيارة موقع من المواقع التاريخية التي تؤرخ لأيام الله الحاسمة في تاريخ البشرية، مثل ما حدث في موقعة الخندق.
سيستفيد “محب” في حياته الدعوية كثيرا من دروس موقعة الخندق. تحكي كتب السيرة العطرة عن أحداث قدرها الله تقديرا لتكون عبرة لنا وللبشرية جمعاء، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله كلها عبر وسنن، كتب الله أن تكون ميزان القسط والحق والصواب في النوايا والأقوال والأفعال والأحوال. يقول رواة السيرة :
"لما أجلى الرسول صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير بعد غدرهم، خرج بعض زعمائهم وذهبوا إلى مكة، فدعوا قريشًا إلى حرب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا: سنكون معكم حتى نستأصله ونقضي عليه، وقالوا لهم إن ما أنتم عليه خير من دين محمد، وفيهم نزل قول الله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) (النساء: 50 - 51) .
ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا قبيلة غطفان فدعوهم إلى مثل ما دعوا قريشًا إليه، ولم يزالوا بهم حتى وافقوهم على ذلك ثم التقوا ببني فزارة، وبني مرَّة، واستطاعت قريش واليهود أن يجمعوا جيشًا ضخمًا يبلغ عشرة آلاف مقاتل، واتجهوا إلى المدينة ليقضوا على المسلمين.
ووصلت الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين ليتشاوروا في الأمر، فأشار الصحابي الجليل سلمان الفارسي علىرسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر خندق حول المدينة ليمنع دخول الكفار إليها، فقد كانوا يفعلون ذلك في بلاد فارس، وسيكون ذلك مفاجأة أمام كفار مكة وحلفائهم؛ لأنهم لا يعرفون هذه الحيل الحربية.
وأثناء ذلك العمل الصعب نظر الصحابي الجليل جابر بن عبدالله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآه يربط على بطنه حجرين ليخفف عنه ألم الجوع ويعمل،ويحمل التراب، فأسرع جابر إلى امرأته يسألها: إن كان عندها طعام فذبحت شاة صغيرة عندها، وطحنت كل ما عندها من الشعير، فكان مقدارًا صغيرًا يكفي رسولالله صلى الله عليه وسلم، وبعض أصحابه، وجاء جابر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يدعوه سرًّا إلى بيته، وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو معه المسلمين، فيذهب ألف رجل إلى بيت جابر!! والطعام لا يكفي سوى عدد قليل، فمن أين سيأكل كل هذا العدد؟!
لقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده الشريفة في الطعام، فبارك الله فيه فأكل جميع المسلمين، وبقي طعام كثير لأهل البيت. وهكذا كان المسلمون يتعبون ويصبرون، وعناية الله تعالى تؤيدهم وتحرسهم.
وبينما هم يحفرون وجدوا صخرة شديدة لم يستطع أحد أن يحطمها، فلجئوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فتناول المعول وضرب الصخرة ضربة فكسر ثلثها، وقال: (الله أكبر أعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني أبصر قصورها الحمر الساعة) ثم ضرب الثانية، فكسر الثلث الآخر، فقال: (الله أكبر أعطيتُ مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض) ثم ضرب الثالثة وقال: (باسم الله) فقطع بقية الحجر فقال: (الله أكبر أعطيتُ مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة).
واستمر العمل دون تراخٍ أو كسل حتى تحقق الأمل، وانتهى المسلمون من عملهم قبل أن يصل المشركون، واقترب جيش المشركين من المدينة، ووقفوا أمام الخندق متعجبين، وصدموا به، فهذه أول مرة يستعمل فيها العرب مثل هذه الحيل الحربية، وشعروا بالخيبة، فقد انقلبت حساباتهم، وأصبحت أعدادهم الكبيرة لا قيمة لها، وهي تقف أمام الخندق عاجزة حائرة يكاد الغيظ يفتك بها، وهم يقولون: إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها.
ومن مكان ضيق في الخندق حاول المشركون أن يقتحموه، ولكن سهام المسلمين انهالت عليهم كالسيل، فارتدوا خائبين، وخرج عمرو بن عبد ود من صفوفالمشركين وقال: من يبارز؟ وكان عمرو بن عبد ود فارسًا قويا شجاعًا، لا يستطيع أحد أن يقف أمامه أو يبارزه؛ فلم يقف أحد لمبارزته سوى علي بن أبي طالب الذي قام وقال: أنا أبارزه يا رسول الله، فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم سيفه، وعمَّمَه، ودعا له، ولما شاهده عمرو استصغر سنه، وقال له: لِمَ يابن أخي؟ فوالله ما أحب أن أقتلك.
فرد علي عليه: لكني والله أحب أن أقتلك، فغضب عمرو ونزل عن فرسه، وقتل الفرس، وبارز عليًّا، وظلا يتبارزان، وثار الغبار فلم ير أحد منهما، وضربه على فقتله، وكبَّر، فعلم المسلمون أن عليا قتله، وظل المسلمون والمشركون يتراشقون بالسهام والنبال، فقتل عدد قليل من المشركين، واستشهد بعض المسلمين. وحدث أمر خطير للمسلمين لم يضعوه في حسبانهم، ففي جنوب المدينة اتفق يهود بني قريظة مع الكفار أن يفتحوا لهم المدينة من ناحيتهم، كي يضربوا ظهور المسلمين ويأسروا نساءهم وأبناءهم. وقد شعر المسلمون بهذه الخيانة، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم بعض المسلمين ليتأكدوا من الخبر. ولما تأكدوا من صحته أسرعوا في مجموعات لحماية المدينة من الداخل وحماية الأطفال من غدر اليهود وعدوانهم، وحاولت قريش أن تقتحم الخندق؛ لتنفذ منه إلى قلب المدينة، فوقف المسلمون لهم بالمرصاد.
لقد غضب المسلمون من خيانة بني قريظة التي قد تمكن الكفار منهم، وأخذوا ينظرون إلى أنفسهم وقلوبهم متعلقة بالله تعالى. وقد صور القرآن ذلك الموقف فقال تعالى: ( إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) (الأحزاب:10). وقد أحاط المشركون بالمسلمين، فحاصروهم قريبًا من عشرين ليلة، وأخذوا بكل ناحية، ووجهوا نحو منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة غليظة، فقاتلها المسلمون يومًا إلى الليل، فلما حانت صلاة العصر، لم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة أن يصلوا العصر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارًا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس) ( صحيح مسلم). ونظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، فوجدهم كثيرين، فأراد أن يخفف الحصار عن المسلمين، فعرض على المسلمين أن يتفق مع قبيلة غطفان على أن يأخذوا ثلث ثمار المدينة؛ وينسحبوا من المعركة، وبعد ذلك يتفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم لقتال قريش، واستشار في ذلك الأمر سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وأخبرهما أن ذلك ليس أمرًا من الله تعالى يجب تنفيذه، بل رأي ومكيدة. فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله، وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرًي (ضيافة) أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟! والله ما لنا بهذا من حاجة، ولا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، بعدما وجد من أصحابه الرغبة في الصمود أمام أعدائه مهما كانت قوتهم.
ألقى الله الإيمان في قلب نعيم بن مسعود الغطفاني وكان مع المشركين، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لنعيم: (إنما أنت فينا رجل واحد فَخَذِّل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة) ( سيرة ابن إسحاق). طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من نعيم أن يظل في قومه ويستخدم ذكاءه في صرفهم عن المسلمين.
فذهب نعيم إلى يهود بني قريظة، وكان صديقًا لهم في الجاهلية، فقال لهم: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم. قالوا: صدقت، لست عندنا بمتهم. فقال لهم: إن قريشًا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره، وإن قريشًا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم (ناصرتموهم) عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة (فرصة ) أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنًا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدًا حتى تناجزوه ( تقاتلوه). فقالوا له: لقد أشرت بالرأي.
ثم توجه إلى قريش، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدًا، وإنه قد بلغني أمر رأيت على حقًّا أن أبلغكموه نصحًا لكم، فاكتموا عني، فقالوا: نفعل. قال: تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: أن نعم.
فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنًا من رجالكم، فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدًا، ثم توجه إلى قبيلة غطفان، فقال: يا معشر غطفان، إنكم أصلي وعشيرتي، وأحبُّ الناس إلي، ولا أراكم تتهمونني. قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم. قال: فاكتموا عني. قالوا: نفعل، فما أمرك؟ فقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم مما حذرهم. وذهب المشركون يطلبون من اليهود أن يقاتلوا معهم المسلمين، فطلب اليهود عددًا من الرهائن، وهنا تأكد لكل منهم صدق نعيم بن مسعود في نصحه لهم، فرفض الكفار إعطاء الرهائن، وامتنع اليهود عن الحرب معهم، وهكذا استطاع مسلم واحد بإرادة الله تعالى وتوفيقه أن يشتت شمل الكفار واليهود بعدما كانوا مجتمعين ضد المسلمين.
هزيمة الأحزاب: ونعود إلى داخل المدينة، فالمسلمون مجتمعون حول نبيهم، يتضرعون إلى الله تعالى أن يذْهِبَ عنهم هؤلاء الأحزاب الذين تجمعوا لهدم دينه،ويقولون: (اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم) (البخاري).
فاستجاب الله تعالى لهم، وإذا بريح شديدة في ليلة شاتية باردة تقتلع خيام المشركين، وتقلب قدور وأواني الطعام والشراب، وكأن الكون كله يحاربهم فامتلأت قلوبهم بالرعب، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلع على أحوال المشركين وأخبارهم، فالتفت إلى المسلمين وقال: (من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة؟) فلم يقم أحد من المسلمين من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد. فلما لم يقم أحد دعا النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي حذيفة بن اليمان لهذه المهمة، فقام حذيفة طاعة لأمر الله ورسوله حتى دخل معسكر المشركين، وسمع أبا سفيان يدعوهم إلى الرحيل، ويقول لهم: يا معشر قريش، لينظر كل امرئ مَنْ جليسه؟ فأخذ حذيفة بيد الرجل الذي كان إلى جانبه، فقال له: من أنت؟ قال: فلان بن فلان، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكُرَاعُ (الخيل)، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر (آنية طعام) ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل، وكان ذلك في شوال من السنة الخامسة للهجرة. ورجع حذيفة بن اليمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقص عليه ما رأى، وطلع النهار، وارتحلت الأحزاب، وانفك الحصار، وعاد الأمن ونجح المسلمون في الخروج بسلام من هذه المحنة، قال تعالى: ( وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً) (الأحزاب:25)، وهتف رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا إله إلا الله وحده، أعزَّ جنده، ونصر عبده، غلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده) (البخاري). وقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصراف الأحزاب: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا) (البخاري)"
انتهى الاقتباس.
ومن المفيد جدا لكل مستبصر أن يستعمل مفاتيح وهدي هذه الوقعة لفهم ما يجري في زمننا لأمة الإسلام. فيتيقن أن التاريخ يعيد نفسه، وأن تدافع الخطأ والصواب جدلية وامتحان قدره الله إلى يوم القيامة.
فالصحوة الإسلامية اليوم قد رماها الأعداء عن قوس واحدة وجاؤوها من كل جانب، يمكن مقارنة واقعها بحال المسلمين في زمن وقعة الخندق. ولربما استفاد المسلمون من هذه المقارنة للتعلق بأسباب النصر والممانعة، وللتخلي عن دواعي الهزيمة والخذلان.
المحطة الرابعة: مرحلة مكة المشرفة: آيات الجمال والجلال
بعد صلاة الفجر فى الحرم النبوى، كانت زيارة الحبيب المصطفى من أجل الوداع والتضرع إلى الله أن لا تكون آخر زيارة له صلى الله عليه وسلم وعلى آله. و بعدها كان رحلة شاقة في انتظار صاحبينا، مسافة 500 كلم في حافلات بدون مكيف والجو في أوج حرارته، وبرفقة جمع من الإخوة النيجيريين غفر الله لهم، لم يتركوا لصاحبنا الحاج “عبد الجليل” مكانا في الحافلة سوى الصندوق الملتهب الذي يغطي المحرك. أشرفت زوجته على الإجهاض لولا لطف الله، لما طال وقت معاناتها من الحرارة والارتجاج والتيه مرارا في الطريق لأن السائق المصري ربما كان لا يعرف الطريق.
وعندما وصلت الحافلات إلى الميقات ، استحم الناس ولبسوا ثياب الإحرام. وانطلقت تلبيتهم لنداء ربهم بألسن خاشعة مجهشة مرتعشة، تلبية دعوة اطلقها سيدنا ابراهيم منذ الآف السنين... لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك . لبيك ... يالها من لحظة مؤثرة في حياة الإنسان. لقد ترك أهله وأولاده وأمواله و تجرد حتى عن لباسه ليصبح مع الناس وكأنهم في يوم المحشر، سواسية في انتظار حكم ربهم في يوم الفصل ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ) (المرسلات:14)
والملبي لابد وأن يراجع هنا نفسه ويسائلها قبل يوم الحساب : هل يلبي بقبله وعقله أم فقط بلسانه مع من يردد دون أن يعي ما يقول !! هل هي التلبية الصادقة ؟ هل له اليقين بأنه في وفادة العزيز الرحيم وفي أمنه وأمانه ؟ هل يعي أنه يلبي لإله عظيم له ملك الكون الشاسع بمجراته وعوالمه وسماواته وأراضيه؟ هل هو العبد المعترف بفضله ونعمه عليه فجاءه شاكراً حامداً ؟ هل له النية الصادقة في التوبة والاستغفار من ذنوب غفلته عنه ؟ وقبل وبعد تلك التساؤلات، هو أصلا أهل لتلبيته؟
يتطلع الناس بعدما أشرفوا على مكة المكرمة لرؤية الكعبة. يستعدون للدعاء عند النظرة الأولى. لا يستطيع المرء أن يتمالك عن البكاء عند رؤيتها... الكعبة فيها مهابة تلقى داخل القلوب... آيات الجمال والجلال تجتمع بذكريات ما شاهدته من أحداث مرتبطة بأصول البشرية... لقد مر حواليها أبو البشرية آدم عليه السلام ... ويقال أن هناك أربعين نبيا مدفونون حولها... ذلك هو حجر إبراهيم... يطوف الناس من خارجه لأن داخله يعتبر من أجزاء الكعبة، ولذلك من يصلى فيه فكأنما صلى داخل الكعبة، و هو عباره عن بقايا من الأحجار التى بنيت بها الكعبة... ذلك مقام ابراهيم على مسافة بضع أمتار من الكعبة... و يحتوى على حجر عليه آثار أقدام أبينا إبراهيم و ابنه إسماعيل... أمرنا بالصلاة عنده إن استطعنا، و طبعا يصعب ذلك فى موسم الحج.... ذلك هو الحجر الأسود... يمين الله في أرضه ... سر من أسرار الخلق العظيمة... أمرنا ربنا بالتمسح عليه وتقبيله... ففعلنا مستيقنين أنه لا يملك لنا شيء... كما استجابت الملائكة لأمر ربهم بالسجود لآدم، وهو لا يملك كذلك من الأمر شيئا بل الأمر كله لله العزيز القهار الجليل.
يروي الدكتور زغلول النجار أحد علماء الجيولوجيا المصريين، عن الحجر الأسود قصة غريبة، يقول:
" قال عنه رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه حجر من السماء، ومن أحجار الجنة. ويروى أن نبى الله إبراهيم طلب من إسماعيل عليها السلام أن يبحث له عن حجر مختلف ليكون بداية الطواف عندما شرعا فى رفع القواعد من البيت لبناء الكعبة من جديد. وأخذ اسماعيل يبحث ولم يجد. فلما تعب اسماعيل رجع لأبيه وقال لم أجد حجرا مختلفا نجعله بداية الطواف فقال له ابراهيم " لقد أتانى به من هو خير منك، أتانى به جبريل عليه السلام"
حينما علم المستشرقون بهذا الأمر أرادوا البحث عن ثغرة يهاجمون بها الاسلام فقالوا ان المسلمين لا يعلمون شيئا، وقالوا ان الحجر الأسود ماهو إلى حجر "بازلت" أسود موجود فى الطريق مابين المدينة، ومكة وجرفه السيل وقطعه إلى خارج مكة، وعثر عليه ابراهيم عليه السلام، ووضعه بداية للطواف، وأرادوا أن يثبتوا صدق كلامهم فأرسلوا أحد علماء الجمعية البريطانية التابعة لجامعة كمبردج ودرس اللغة العربية، وذهب إلى المغرب، ومنها إلى مصر للحج مع حجاجها. وركب الباخرة، وكان الحجاج المصريون يتخاطفونه ليكرموه، ويطعموه فتأثر بذلك كثيرأ ثم تأثر ثانية عندما رأى قبرالرسول، والمدينة المنورة، وتأثر أكثر، وأكثر حينما رأى الكعبة من على مشارف مكة. كان ذلك فى القرن التاسع عشر وقال: " لقد هزنى ذلك المنظر كثيرأ من الأعماق". ولكنه كان مصمما على إنجازمهمته التى جاء من أجلها. ودخل الكعبة وفى غفلة الحراسة ولم تكن شديدة مثل هذه الايام، وكسر قطعة من الحجر الأسود، وذهب بها إلى جدة واحتفل به سفير بريطانيا فى السعودية احتفال الأبطال فهو من وجهة نظرهم بطل أتى بالدليل على بطلان كلام محمد صلى الله عليه وسلم بان الحجر الأسود من السماء، ووصل إلى بريطانيا، وأودع قطعة الحجر اللأسود فى متحف التاريخ الطبيعى بلندن ليقوم بتحليله لكن التحاليل أثبتت أنه نيزك نزل من السماء، وهو من نوع فريد. فوقع الرجل مغشيا عليه، وكتب كتابا قيم سماه: (رحلة إلى مكة) من جزءين، وصف في الجزء الأول عداءه للإسلام وإصراره على هزيمة المسلمين، وفى الجزء الثانى وصف خضوعه لله سبحانه وتعالى بسبب أن الحجر الأسود من أحجار السماء..."
انتهى الاقتباس عن الدكتور زغلول النجار. وللموضوع بقية ربما تكون إن شاء الله في ذكر الحجة الثانية.
آيات الجلال يشعر بها الحاج الذي يعزم على الدخول في الطواف بالكعبة. ولكأنه يصدق عليه قول من قال "الداخل فيه مفقود والخارج منه مولود". وصاحبنا “عبد الجليل” يحسب لذلك حسابه وهو يرتب الأمور مع مجموعة من مرافقيه ليمر الطواف بسلام لزوجه الحامل في شهرها الرابع.
بدأ الطواف من أمام الحجر الأسود انطلاقا من علامة البداية، وهو خط بنى على الأرض. يشرع فيه بالتكبير والإشارة إلى الحجر الأسود. ويتبضع الرجال فى أشواط الطواف الثلاثه الأول، ثم يسترون كتفهم فى باقى الأشواط. يعمل الناس بالنصائح الرسمية عند الأزدحام : عدم الأنحناء لأى سبب كالتقاط شيءوقع على الأرض و كذلك وضع الأيدي أمام الصدر بمسافه مثل وضع الصلاة مع ترك مسافه للتنفس أمام الصدر...
يسر الله ما كان صعبا خلال السبعة أشواط رغم الزحام الشديد. ثم توجت المجموعة لصلاة ركعتين قرب مقام إبراهيم.
بعد الطواف والارتواء من ماء زمزم المبارك، يستعدون للسعى بين الصفا والمروة. الصفا والمروة تلين صغيرين يبعدان عن بعضهما مسافة 410 متر. و إذا جعلت ظهرك للكعبة المشرفة، تكون الصفا على يمينك، ومنها تبدأ السعى بالأشاره نحو الكعبة، والتكبير و قراءة آيه من القرآن تقول: ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة:158).
بعد انتهاء السعى سبعة أشواط تنتهي عند المروة، ينتهي الحاج المتمتع أي الحاج الذي نوى الحج والعمرة معا، من مناسك العمرة فيحمد الله و يشكره و يدعوه بما تيسر من الدعاء.
توجهت المجموعة إلى الفندق لأخذ قسط من الراحة بعد عناء السفر وتأدية المناسك. وهناك اغتسلوا وغيروا ملابسهم، متحللين من لباس الإحرام.
مرت بضعة أيام كانت كلها صلوات في المسجد الحرام وطواف حول الكعبة وإعادات لمناسك العمرة، وتهيب في جلسات النظر إلى الكعبة... حقا كانت مشاهد وذكريات لا تنسى ، تسمو فيها الروح وتتشبه بالملإ الأعلى الذين يطوفون حول عرش ربهم... والكون كله يطوف ويسبح بحمد ربه... الأرض تطوف والشمس تطوف والمجرات تطوف... "كل في فلك يسبحون"... والكل يسبح بحمد ربه ولكن لا نفقه تسبيحهه، لضيق مجال العقل، ولضعف إدراك القلب... لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير...
حتى إذا جاء اليوم السابق لعرفات ويطلق عليه يوم التروية، استعد الجمع لإتمام مناسك الحج في عرفات ومنى. وصلوا عرفات و هى منبسط من الأرض يوجد فى أحد جوانبه جبل هو جبل الرحمة. و كل عرفات موقف صالح لوقفة عرفاة التي قال الشارع عنها الحج عرفاة، فالكل يحرص أن لا تفوتنه تلك الوقفة الى آذان المغرب في عرفات كلها ما عدا منطقه صغيره تسمى وادى بطن عرنة. و توجد علامات لتحذير الحجاج من الخروج من حدود عرفات. كما يوجد بها مسجد نمرة، تكون فيه خطبة الوقفة. و نصف هذا المسحد فى عرفة و نصفه خارج عرفة. و هناك القى الرسول صلى الله عليه وسلم خطبة حجة الوداع.
للحج فرائض وسنن، اذا خالفت السنة مرغما أو مضطرا أو آخذا بالأمن فليس عليك شىء لأن الرسول أجاب عن كل السائلين يوم عرفه فى حجة الوداع ب " افعل ولا حرج " لكن الألتزام بالسنه أفضل طبعا لمن استطاع . اما الفرائض فلو تركت احدها فعليك دم وهو ذبح شاه . و توجد كوبونات للهدى يقوم بموجبها البنك الأسلامى بالذبح و التوزيع على فقراء المسلمين فى انحاء العالم و وهو اجتهاد محمود أنقذ لحوم الهدي من الدفن فى الجبال لعدم امكانية توزيعها.
مر يوم عرفة في الدعاء و الصلاة و قراءة القران. خاصة من بعد صلاة العصر، حيث يخرج الناس من الخيام ويحاولون الاقتراب من جبل الرحمة. هناك يطلق العنان للتحسر والندم على ما مر في العمر من زلات. تشكر الله على ستره، وتسأله العون على التوبة...أن يتوب عليك لتتوب... إذ الأمر منه يبدأ وإليه يعود... وبعد حال الرعشة والخوف من العزيز الجبارالمتكبر، يستشعر العبد حال البسط والرجاء والرحمة التي وسعت كل شيء. والحالتين يصحبهما ذلك البكاء الصادق الذي يهجم على العبد ولا طاقة له في رده... إنه موقف مهيب جليل مثل لنا به ربنا وقفة المحشر، عناية لأمة الإسلام كي لا نكون من جملة الأمم الغافلة عن سر غاية الخلق، تلك الغاية التي وضحها لنا ربنا المحسان العظيم في قوله: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذريات:56 - 58 )
قبيل آذان المغرب يتجمع الناس فى الحافلات في انتظار نفرة الحجيج من عرفات. كان الخروج بطيئا بسبب تسابق السائقين لتفادي الزحان الشديد.
بعد ساعات من السير المتعثر البطيء، وصل الجمع مزدلفة حيث يصلي الناس المغرب والعشاء جمعا وقصرا. ثم يجمعون حصيات صغيرة تسمى الجمار لرجم الشيطان في منى. و الأصل فى السنة هو المبيت بمزدلفه عند مسجد المشعر الحرام حيث بات الرسول عليه الصلاة و السلام.
وصل الجمع منى بعد الشروق، وتوجهوا الى موقع رجم الشيطان. هناك ظهر ابليس لسيدنا ابراهيم و السيدة هاجر و سيدنا اسماعيل عندما كانوا متوجهين من مكة إلى منى لذبح سيدنا إسماعيل. فظهر مرة لكل واحد لكى يحاول صرفه عن طاعة الله و فى كل مرة كان واحد من الرهط الكريم يقوم برجمه بالجمار.
وبعد رمي الجمار الذي كان ميسرا رغم الزحام الشديد، توجهوا الى مكة للهدي وللقيام بطواف الإفاضة بالمسجد الحرام ، بعد الإعداد له حسب الترتيبات السابقة لكي يمر الطواف والسعي بسلام وقد كان الزحام في ذروته، ولكن الله سلم.
ثم قاموا بالحلق أو التقصير من الشعرحسب اختيار الشخص، لكن الخيار الأمثل بالنسبة للرجال الحلق لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله "دعا للمحلقين ثلاثا و للمقصرين مرة واحدة".
بعد ذلك التحقوا بغرفهم حيث استحموا ولبسوا الملابس العادية، وبذلك يتم التحلل من الأحرام ...
بعد صلاة العصر في المسجد الحرام، ركبوا الحافلات إلى منى. منطقة منى هى منطقه منبسطة من الأرض بين جبلين و تعتبر امتدادا طبيعيا لمنطقة المزدلفة. لكن هنا الوادي يضيق بسبب الجبال المحيطه به ويتعجب الناس كيف يمكن إيواء ملايين البشر في هذه الرقعة الضيقة. فيقال عنها إنها كالرحم الذي يمكن أن يتسع للبشرية كلها لو أتته لتأدية مناسك الحج. وتلك من معجزات هذا الدين الحنيف.
وفى الحديث أن أيام منى هى أيام أكل و شرب و دعاء . ومعنى ذلك أنها أيام تختلط فيها العبادة بالتعارف بين الشعوب و التمتع بنعم الله. ولذلك يحرص الحجاج على التعارف والتواصل مع أناس من شعوب أخرى.
وفي هذه الفترة يقوم الناس بالرجمة الثانية. ولقد صدق على مراسيمها قول القائل الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود... تيارات جارفة وقطارات بشرية تقتحم الحشود، يصير الفرد فيها قشة وسط الأمواج المتلاطمة، لا يسعه إلا الاستسلام لمدها وزجرها، ويحاول أن لا يكون مصدر إذاية خاصة لأولئك الحجاج والحاجات الأسيويين المسالمين. هؤلاء رغم تنظيمهم، كثيرا ما يكونون عرضة لجرف قاطرات الحجاج الآخرين، فيتفرقون ويتناثرون وسط الزحام الشديد.
واعتبارا للمخاطر التي مرت فيها ظروف الرجمة الثانية طلب “عبد الجليل” من زوجته الحامل أن توكله للرمي عوضا عنها، فكان ذلك تيسيرا ورخصة نجى الله بها الزوجة من زحام وارتطام كاد أن يودي بحياة أناس تعثروا فمرت عليهم أفواج حجاج مذعورين مستسلمين لغريزة الحفاظ على النفس.
ذلك ما كان يطبع ظروف تأدية المناسك في سنة 1980. خلل واضح في التنظيم والتجهيز، كثيرا ما تسبب في ضحايا من الحجاج والحاجات رحمة الله عليهم.
كان ختام الشعائر طواف الوداع، الذي يسره الله له ولزوجته الحامل رغم الأخطار المحدقة به. وتيسر في هذا الطواف أو في غيره – لا يتذكر “عبد الجليل” – تيسر التمسح بأحجار الكعبة وبالحجر الأسود وتقبيله. وهنا تمكن “عبد الجليل” من مسح ثوب الإحرام الذي ذكره في الجزء الأول من مذكراته، وأوصى أن يدفن فيه...
طواف الوداع ينتهي طبعا بدموع المحب الولهان الذي تعلق بجمال الكعبة... وانحنى صوبها مخلصا عبوديته لخالق الأكوان... وطاف حولها ذلك الطواف الذي يوحده مع كل المخلوقات من أصغر ذرة إلى أكبر ما في تخوم الكون من مجرات... وعرش ربنا العظيم لا نهاية لاتساعه، ومن الملائكة المهيمين في الطواف به من يدخلون الطواف لا يخرجون منه أبدا ... سبوح قدوس رب الملائكة والروح... جللت السماوات والأرض بالعزة والجبروت... وتعززت بالقدرة وانفردت بالوحدانية وقهرت العباد بالموت... اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك...
تلك هي المشاعر التي تستولي على الحاج عند الوداع... تضمحل معها الهموم الدنوية، فلا تقدر فوق قدرها ولاتعطى فوق حقها، ويصحح فيها ما اختل من موازين ومن أولويات ومن أهداف... فيستعد لأداء دوره المقدر له في الحياة... منسجما مع الكون المسبح الخاضع لقضاء الله وقدره... وممتثلا لأمره ومنتهيا بنهيه... ولا تثنيه الابتلاءات والمحن والفتن عن الدوران مع الحق حيث دار...
رجوعا إلى الهموم التي أتى بها من بلده صاحبنا المهندس “ملتمس”، راجيا أن يجد لها حلا في هذه البقاع المقدسة. فقد جاء يلتمس التوبة والاستغفار لنفسه، على ما مر في زمن الغفلة عن الله. ولقد قام بالمناسك العبادية ويرجو من ربه القبول، لكي تصدق في حقه تباشير المغفرة التامة لمن أدى المناسك ووقف وقفة عرفة.
وجاء كذلك يستكشف سبل إنقاذ بلده من هيمنة تيار اللادينية التي سيطرت على السلطة وحكمت بغير ماأنزل الله، وكادت أن تمسخ الهوية وتقزمها، وفتحت الأبواب لأعداء الأمة يعيثون في الأرض فسادا. فهل وجد في الحج ما سيوضح له الرؤية ويكشف عنه الغمة؟
ما أعجب به صاحبنا “ملتمس” واعتبره بداية صحيحة لكل إصلاح لما ينخر الأمة من فساد وتدهور، هو جو حرية التعبير والتجمهر التي كان يميز موسم الحج آنذاك... حتى تخيل للسيد “ملتمس” أنه يعيش في "هيدن بارك" الذي زاره في "لندن" أيام دراسته في فرنسا سنة 1974: ساحة كبيرة في الحديقة، تترك للناس الحرية الكاملة في مخاطبة المارة والمتنزهين بشتى وسائل التعبير ورسالاته...
اعتبر ذلك “ملتمس” بعثا للدور المقوي للأمة، وهو الدور السياسي للحج، وهو دور الولاء والبراء، الولاء للإسلام والبراء من الشرك، تلك الوظيفة كانت خاضعة لتوجيه دعوة العلماء المجددين الوارثين لميراث النبوة في حماية الملة والدين.
جناح الصحوة السني:
لربما سيجد صاحبنا “ملتمس” في تلك الخيمة التي تجمهر مئات الشباب حولها ما سيفيده في مجال حمل هم الأمة، عملا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم: الحديث الذي رواه ابن مسعود: " من أصبح وهمه غير الله فليس من الله، ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين فليس منهم."
- " من هو هذا الرجل الذي نصبت له خيمة كبيرة في منى، ويحدث الناس عن كرامات الأفغان؟" سؤال طرحه “ملتمس” على رجل كان من بين الحضور في الخيمة.
- "ألا تعرف عبد رب الرسول سياف، إنه من قادة المقاتلين الأفغان للروس الذين غزوا بلادهم السنة الماضية." جلس “ملتمس” ينصت بتركيز شديد إلى الرجل، وقد لفت انتباهه هندامه المتميز ولحيته الطويلة. وكان يخاطب االناس بلغة عربية فصيحة، يغبطه عليها بحكم تلوثه كجل المثقفين المغاربة بلوثة اللغة الفرنسية.
يقول: " لقد بدأنا جهادنا ضد الغزاة الملحدين ولا عدة لنا إلا حبنا للشهادة في سبيل الله وبعض بندقيات الصيد القديمة. أما سلاحنا ضد طوابير دباباته ومصفحاته: فشيء من الطين ومن البنزين ومن الصابون... نعم يحفر المجاهدون الحفر قرب الطريق، ينتظرون توسط الطابور الذي ربما ضم ستين أو سبعين دبابة وشاحنة. فجأة يباغتون العدو ويطلعون على ظهر الدبابات ويضعون الوحل على نوافذها لحجب الرؤية، ثم يفرغون البنزين والصابون من برج الدبابة ويشعلون النار فيها وينتظرون خروج الطاقم ليذبحوه، ويتركون الدبابات تنفجر في الأودية السحيقة التي تسقط فيها. هذه بداية مقاومة الغزاة قبل أن يتطور ويحصل على السلاح المتطور الذي يسقط طائرات العدو.
فإن قلتم من أين يأتيكم السلاح الآن ؟ فأجيب ببساطة: نخرج إلى القتال أحيانا ولا زاد لنا ولا سلاح إلا ثقتنا المطلقة في مدد الله، ثم نرجع وقد غنم المجاهدون من الدخيرة والسلاح ما يكفينا لشهور. سلاحنا ودخيرتنا وزادنا: معظم ذلك يأتي من مخازن ومصانع الكفار. وإن قلت أي الدول العربية تدعمنا فأجيب إلى يومنا هذا لا نتلقى دعما من أي دولة عربية ما خلا ما يتبرع به المحسنون الذين يعرفون أننا نمثل جبهة الدفاع الأمامية لحماية المسلمين من هيمنة الشيوعيين الملحدين."
تكلم بعده أحد مرافقيه الأفغان، موضحا ما ينتظرونه من العالم لمساعدتهم في مواجهة أقوى جيش على وجه الأرض. كان قاصدا في كلامه، ويعرف بالضبط ما يحتاجه المجاهدون، قال : "إننا نريد صواريخ محمولة على الكتف مضادة للدبابات وللطائرات".
هذه العزيمة الشامخة وهذا القصد في الكلام، كل ذلك جعل “ملتمس” يستيقن من نصر الله لهؤلاء الرجال. لا شك أنهم يشبهون الصحابة في تعلقهم بمقومات النصر المبين و ( ... اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ...) (الأنعام:124).
سوف تأتي الأخبار بعد ذلك تترى عن الانتصارات والكرامات التي حققها الله للمجاهدين الأفغان في مقاومتهم للغزو الشيوعي.
جناح الصحوة الشيعي:
ذات يوم من الأيام السابقة لوقفة عرفة، بعدما أدى صاحبنا الحاج “ملتمس” صلاة المغرب في المسجد الحرام، سلم على من بيمينه وعلى من بيساره كعادة المغاربة بعد الانتهاء من الصلاة، فكان ذلك بداية للتعارف مع شاب إيراني في سنه. عرف عنه أنه مهندس في مجال صناعة الحديد، من شباب الدعوة الإسلامية الذين رحلوا من أمريكا للمساهمة في نجاح الثورة الإسلامية. تكلم بعربية لا بأس بها عن الخميني وعن الثورة الإيرلنية وظروف انتصارها رغم مكائد الصهيونية والأمبريالية الأمريكية. اقترح على “ملتمس” زيارته في مقر البعثة الإيرانية فقبل “ملتمس” الدعوة في اليوم التالي. وبدأ يستعد لها بقراءة شيء عما يتميز به الإخوة الشيعة. وفي تلك الفترة من حياته لم يكن يهمه من الدين سوى العمل الحركي المقاوم لتيار التغريب والعلمنة الذي يسيطر على بلده ويكرس تخلفه وتبعيته. كانت ضيافة الإخوة ممتازة وكان الحديث أخويا يطرح للمناقشة نفس المواضيع التي تشغل بال “ملتمس”. واكتشف أن الإخوة قطعوا أشواطا كبيرة في مقاومة الهيمنة الغربية. ربما يسبقون المغاربة في ذلك بقرن كامل. فلما سألوا الزائر “ملتمس” عن الحركات الإسلامية في بلده، قال لهم: ربما هناك تنظيمات ولكنه لا يعلم عنها شيئا. وهو بالضبط في مرحلة استكشافها مع أخ له طالب في الجامعة.
ولقد شعر “ملتمس” بالحرج الشديد ولكنه وجد مخرجا في وضع سؤال على الإخوة: " هل يسمح لكم المذهب الشيعي بالتدخين؟ سؤال طرحه لما رأى بعض الشيوخ بعمائمهم المحترمة يدخنون. ولم ينتظر جوابا لما شعر بحرجهم، وأستمروا في الحديث عن مواضيع حركية أخرى، ولأن زاده الفقهي كان محصورا. وكان أهم استنتاج عن هذه الزيارة: ضرورة الانخراط في صفوف جماعة مغربية معارضة للعلمنة والتغريب، ذلك التيار الجارف المسؤول عن التفريط في الهوية الإسلامية وفي سيادة الشريعة الإسلامية.
تبادلوا العناوين ولكن لم يتبع ذلك أي تواصل من الجانبين، ولقد أتى في الأفق من الأحداث ما برر ذلك. لكن بقي خيط التعاطف الروحي ساريا، ربما تمثل في صورة رؤيا رآها “ملتمس” بعد ذلك بسنين: رأى فيما يراه النائم، "أن الإمام الخميني رضي الله عنه، كان ممسكا بإثنتي عشرة سنبلة من الشعير، كانت جذورها تقطر ماءا رقراقا نقيا، وكان الإمام يسقي “ملتمس” من ذلك الماء، يشرب مباشرة من جذور السنابل." ولم يكن يعلم من أحكام الرؤا شيئا. وسيحكيها بعد سنين لشيخ ليعبرها له، فقال له: " دعك من التعلق بالشيعة فأنت لنا أهل السنة" فقال “ملتمس” في نفسه ولم يبدها للشيخ احتراما له، " هل كان لي من أمر التحكم فيما أرى في المنام شيئا؟" وبعد سنين أخرى سيحكيها “ملتمس” لأحد المصلين الإيرانيين لقيه في أحد مساجد "سان جوزي" في كاليفورنيا، وسيعتبر ذلك المصلي الرؤيا من الكرامات الكبرى التي تتطلع لمثلها أماني الإيرانيين، ووعانق صاحبنا “ملتمس” واعتبر له شأنا بسبب تلك الرؤيا... اللهم جازيه خيرا عن حسن ظنه ، ونفعنا جميعا بحب النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وحب آل بيته الطيبين الطاهرين، وحب من أحبهم ... آمين.
لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى :
بعد الاستماع في الحج إلى علماء المقاومة في أفغانستان، وإلى علماء الثورة في إيران، وبعد الاستماع إلى علماء السنة في المدينة ومكة، وخاصة علماء حركة الإخوان المسلمين المصرية، ظن الحاج “ملتمس” أن المسلمين بدأوا يرجعون إلى نبع الإسلام الأصيل الذي لا فضل فيه لعربي على عجمي إلا بالتقوى. ولم ير في مواقف وبواعث وضوابط الصحوة الإسلامية أي فرق بين السنة والشيعة. بل تصور أن الصحوة ستنطلق إلى عنان السماء بجناحين اثنين: أحدهما تمثله الحركة السنية والآخر الحركة الشيعية. وسيلتقيان بداية في التوحد ضد العدو المشترك الذي يريد السيطرة عليهم، ونهاية لبناء صرح الأمة والرجوع إلى عهد الخلافة الإسلامية التي قضت عليها العلمانية في تركيا سنة 1925.
تلك أمانيه حينئذ، وذلك كان تصوره لمصير التيار المضاد للادينية العلمانية التي تنخر مجتمعه المغربي. ما ظن أن مكائد أعداء الأمة سوف تحاول قص الجناحين معا، وسوف تجد من العملاء من ينفذ مخططاتها لتمزيق الأمة ولتكريس تخلفها وتبعيتها إلى العقل الصهيوني، تماما كما كانت تخطط له زمن غزوة الخندق... التي تمت الإشارة إليها وإلى دروسها...
بعد بضع سنين ستفجع الأمة بخبر تسخير صدام لقص جناح الصحوة الإسلامية الشيعي، فكان غزوه المشؤوم لإيران... الذي دشن سلسلة أحداث جرَّت ولا تزال تجر الويلات على المسلمين وعلى العالمين أجمعين. بعد إيران غزا هذا العروبي الدموى العلماني الكويت... وضربت صواريخه خبط عشواء السعودية وإسرائيل... فاستنجد أعراب الجزيرة بالأمريكان... وأمرتهم إسرائيل "بتأديب هذا الوحش الكاسر الذي خرج عن السيطرة، فانقلب على أسياده الذين سخروه لضرب إيران، فصار يعضهم يمنة ويسارا"... وهكذا استباح الأمريكان بلاد وثروات العرب، وحلت جيوشهم الجرارة بالجزيرة... فانبرى من بين العرب ذلك التيار الذي كان قد هزم الشيوعيين في أفغانستان: لقد تدمروا من وجود الأمريكان فوق أرض النبوة وفي أطرافها... فأعلنوا الحرب المفتوحة على الغزاة الأمريكان... فدمروا برجي نيويورك، ومقر قيادة القوات الأمريكية في العاصمة الأمريكية... فكان ردة فعل الفيل المجروح المذعور، الذي يحطم كل ما جاء في طريقه: كان غزو أفغانستان والعراق... وكان ما كان إلى يومنا هذا من مآسي وأشجان... ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم...
فيبدو أن مخاض الصحوة الإسلامية في مشرقنا المكلوم ليس بالهين. سقطت عليها التحديات من كل جانب وارتفع سقفها، وتشابكت الأحداث، واختلط الحابل بالنابل وتضببت الرؤية وتعسر فهم ما حدث ... إلا على من توسل مفاتيح القرآن والسيرة النبوية أدواتا لتحليل الواقع المنكوب، ولاستشراف ما ستصير إليه الأمور... ولربما هناك من الأمريكان من بدأ يشعر أن العقل اليهودي الموجه لهم ورطهم في اللعنات التي تتنزل على من قال في حقهم رب العباد الذي لا يظلم أحدا: ( ... كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة:64) وقال فيهم أيضا: ( ... وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (لأنفال:30) والتحليل الصحيح لما حدث، أتى كذلك حكمة عقلية تفتق عنها عقل أحد المسؤولين الكبار في وزارة الحرب الأمريكية: قال: " يبدو وكأننا فقدنا عقلنا وأصبحنا خداما للدولة الإسلامية في إيران، نحقق لها جميع أهدافها الاستراتيجية."
وأعظم مفتاح لفهم ما جرى، هو الحديث المعروف الذي سوف يعود الكلام عنه لاحقا، حديث " من عادى لي وليا فقد أذنته بالحرب... الحديث" والولي في نظر صاحبنا “ملتمس” هم الأئمة القائمون من آل البيت في إيران. ومن عاداه هم اليهود والإدارة الأمريكية "الصهيوإنجيلية"، وخدامهم العروبيون أمثال صدام ومن تبعه من قتلة أهل القبلة، ووكلاؤهم حكام العرب الذين أنفقوا الأموال الطائلة لمساندتهم في حرب إبادة الشيعة والأكراد . فضرب الله الظالمين بالكافرين، ثم انتقم ولا زال ينتقم من الجميع. وذلك نموذج من نماذج الكيد الرباني الذي لا يضاهى. ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين. (ويسلب الله لأهل العقول عقولهم حتى إذا أمضى أمره أرجع إليهم عقولهم ليعتبروا ويتعظوا من سوء ما مكروا) أو كما جاء في الحديث المعروف .
أما ما ستكشف عنه الأيام من تحديات وفتن ومحن لجناح الصحوة الإسلامية السنية في المغرب، فلربما سوف يظهر نموذج منه فيما عايشه “ملتمس” في بلده، الذي مافتئ يعاني من سيطرة العقيدة اللاييكية المارقة.
كان الرجوع من الحج في شهر أكتوبر1981. مرت أيام حافلة بزيارات التهنئة، من الأهل، من الموظفين، من الزملاء، من رجال الأعمال ومن الناس المجاورين للغابة، عامتهم وخاصتهم... وعاد مهندسنا السيد “مقتحم” إلى عمله في الإدارة... وعاد كذلك إلى الموضوع الذي تركه مفتوحا مع أخيه في الجامعة: موضوع البحث عن التيار المضاد للفساد، والحركة المقاومة للاييكية العلمانية.
لم يكن ظاهرا في الساحة الجامعية آنذاك سوى تيار الشبيبة الإسلامية. ربط أخ المهندس “مقتحم” مع أحد قادتها موعدا لزيارته في مقر سكناه في الرباط. وتم أول لقاء في شهر نونبر 1981، وتم فيه الانخراط الفوري في الحركة. فلقد اطمأن “مقتحم” بمجرد الحديث الأول عن الأهداف والوسائل والبرامج، أن التنظيم يستمد تصوراته للعمل الإسلامي من ذلك الجناح السني للصحوة الإسلامية التي شاهدها في الحج، خاصة حركة الإخوان المسلمين. ويتذكر “مقتحم” أن أول ما سمع عن تلك الحركة، كان عن طريق التلفزة المغربية بلسان أحد الرجال المرموقين في المغرب: الطبيب الدكتور المهدي بنعبود. ولربما كانت إطلالته في التلفزة العلمانية فلتة من فلتات غفلة التيار العلماني، ودليل ذلك أنها كانت ربما الحلقة الأولى والأخيرة لدروس الدكتور المهدي بنعبود رحمة الله عليه.
مباشرة بعد الجلسة الأولى، نزل “مقتحم” وأخوه والأخ المسؤول بنكيران إلى مكتبة قريبة في ملك هذا الأخير، للتزود بالكتب الحركية والتراثية التي لا بد من مدارستها لإعادة صياغة العقول التي نحتتها المدارس اللاييكية.
رجع “مقتحم” إلى عادته الأولى التي ملكته زمن النضال الجامعي: نهم القراءة، والإدمان على "هضم الكتب". لكن عوض كتب تولستوى ودستويفسكي وسارتر وكامو و نيتش وغيرها من كتب "التنوير"، وما" بعد التنوير"... تتابعت عناوين لكتب من نوع آخر. كتب تفسير القرآن الكريم: تفسير ابن كثير... تفسير الظلال لسيد قطب. كتب السيرة النبوية العطرة... كتب الحديث وتفاسيره... كتب في الحركة والتنظيم: كتب المرشد الأول للإخوان المسلمين: حسن البنا، وكتب سعيد حواء ومحمد قطب وسيد قطب رحمة الله على الجميع، واللائحة تطول...
وفي الحقيقة لم يندم “مقتحم” على قراءة الكتب من النوع الأول، بل رأى أنها ضرورية لتعميق فهم كتب التراث الإسلامي. ومن لم يطلع عليها ربما افتقد بعض مفاتيح الحكمة والمنهجية العلمية التي تمكن الفهم الصحيح للحقائق الكونية والحقائق الشرعية. وستتبلور هذه الفكرة فيما بعد لما سيدخل “مقتحم” مرحلة التأليف من خلال ما وعى من الثقافتين: الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية.
زيادة على القراءات الفردية، صار “مقتحم” يواضب على حضور اللقاءات التي تنظم مرتين في الأسبوع في دار ذلك الأخ المسؤول جزاه الله عنا كل خير. كانت الألفة الأخوية والتحاب المتبادل والحميمية الصادقة هو ما تتميز به تلك الجلسات. وبعد كل جلسة يتزود “مقتحم” من مكتبة الأخ، ولم ير أي عيب في هذا الجانب "التجاري"، وربط ذلك بالثقافة الفاسية التي تعلم "أولادها التجارة ولا تعلمهم الإجارة"... ولم ير “مقتحم” أي حرج للتتلمذ و"الجلوس على الحصير" أمام شباب الصحوة، بل اعتبر ذلك تجديدا لحيوية الشباب التي افتقد شيئا منها بعد مجالسة المترفين الغافلين من أبناء الدنيا...
لكن حيوية شباب الصحوة، كحيوية أي شباب، تتميز أحيانا بالإفراط في الحماسة وفي التقلبات السريعة، ربما بحكم المحن والفتن والمنح التي يريد الله أن يمحصهم به.
بعد بضعة أشهر من بداية الانتماء، حضر “مقتحم” مجلسا عرض فيه الأخ المسؤول "بنكيران" جريدة طبعت في الخارج وقال: " هذا السيد - ويسمي مسؤولا كبيرا في تنظيم الشبيبة الإسلامية- هداه الله يريد أن يقحمنا في مالا تحمد العقبى، يتخذ قرارات استبدادية لا أثر للشورى فيها، بل إنه يحرض الإخوان بعضهم على بعض... ولا حول ولا قوة إلا بالله... لذا فإننا أعلنا براءتنا منه، وقررنا العمل بعيدا عنه.
سيطلع صاحبنا المبتدئ “مقتحم” بعدها على مسائل تنظيمية كانت سرية لا يعلمها وقتئذ إلا الإخوان القدامى. وسيكتشف أن انتماءه تزامن مع الانفصال عن زعيم الشبيبة الإسلامية " مطيع" الذي لجأ إلى الخارج بعدما اتهمته المخابرات المغربية في عمل إرهابي لمواجهة المد الشيوعي في البلد. ربما كانت الحرب الباردة بين العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي تلك الأيام قد تبلورت في تجنيد الشباب الإسلامي للتصدي للهيمنة الشيوعية. تحالف يفسره تطابق ظرفي في المصالح بين الفرقاء. ربما أوحى ذلك إلى المخابرات المغربية كيدا تفعله لتكسر شوكة المد اليساري الذي عايش “مقتحم” ذروة قوته في الجامعة. وزاد النظام القائم شيئا من "الإبداع المحلي": ضرب هذا بذاك، لكي يتخلص من الجميع، بقليل من القوة العمومية، وكثير من الدهاء والكيد... والحرب خدعة... ولا دخل هنا للمبادئ والقيم والمثل العليا... مكيافالية سيستفحل أمرها، والمستفيد الأكبر منها هو التيار اللاديني العلماني المستحوذ على مراكز النفوذ السياسي والاقتصادي، والخاسر الأبدي هو الشعب الذي ضاع في هويته وعزته وكرامته، تتخاطفه الأيديولوجيات المارقة، وتخيم عليه هموم التخلف والاستعباد...
حمد “مقتحم” ربه وأثنى عليه أن قد نجاه من فتنة، تورط فيها فريقان: من دبر المكيدة، ومن سقط فيها. ولا يصدق من القول هنا سوى ما قاله الخبير الحكيم: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(البقرة: 134). و"تلك دماء طهر الله فيها أيدينا، فلا نلطخ بها ألسنتا" كما قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز حينما سئل عن تلك الفتن التي جرت بين المسلمين زمن الصحابة...
وبعد أشهر أخرى، ستتفتح أعين “مقتحم” ليكون عضوا يقظا مساهما منتجا، وليس فقط ذلك العضو المراقب المستهلك، الذي ربما تورط في أخطاء غيره، فانسحبت عليه عواقبها ... يعزم بعدما حصل على شيء من العلم الشرعي، أن يستدعي عقله ليضعه في خدمة مشروع الصحوة الإسلامية. وكذلك الحال بالنسبة لتجربته الإصلاحية التي مر ذكرها. إنه يعزم على صهرها لتنخرط في سلك تيار الصحوة... ولكن قبل ذلك ينبغي التمهل وعدم الاستعجال في الأمر...
انتهى زمن العاطفة الجياشة التي تغض الطرف عن الأخطاء والتجاوزات، خاصة إن كانت محاذير شرعية واضحة المبنى والمعنى... فالمحبة الأخوية شيء، والنصيحة والنقد البناء شيء آخر... هذا لا ينبغي أن يلغي ذاك. انتهى عهد الاعتماد الكسول على اجتهادات الآخرين. لا يشك في إخلاصهم أبدا، لكن ذلك لا يعني أنهم ملائكة لا يخطئون أبدا في اجتهادهم لتدبير أمر الجماعة. وفعلا كان “مقتحم” يكن لأخوته في الله محبة عظيمة وتقديرا كبيرا. ولربما تم تجسيد ذلك في تسمية أحد أبنائه الذي حج في بطن أمه، ثم ولد في تلك الأيام باسم ذلك الأخ المسؤول. وكان الإخوة يزورونه في داره في القنيطرة وكم كان يسعده ذلك، ولا يتحرج أبدا من نظرات موظفي المياه والغابات لهم. وقد كان من هؤلاء الموظفين من يطلق عليهم "إخوان المسيح"، لما رأوهم بتلك اللحى... حقا كان الإخوان في تلك الفترة غرباء في المجتمع المغربي... لكن ذلك لم يكن ليحجب عن “مقتحم” ما يمثلونه من امتداد لعناصر القوة والخير لأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
سيتبلور الانتماء البناء المستبصر الناصح للحركة في مجالات مختلفة. أثناء اجتماع عقده الأخ بنكيران في داره الجديدة في حي الليمون، أخبر الإخوان بازدياد بنت له، وهو يستعد لإقامة عقيقة لها. فدعا الإخوان الدعاء الصالح لها ولوالديها، وسرهم الخبر. حتى قال: " ما رأيكم في استدعاء رئيس المجلس العلمي لإقليم الرباط ليكون من جملة الحضور في العقيقة؟" فنظر بعضهم إلى بعض، واستغربوا من ذلك الاقتراح الذي طرح بصيغة تشاورية تستدعي الرأي والرأي الآخر. فكان الرأي القائل ما لنا وللفقهاء الرسميين، ولو كانوا من عيار المكي الناصري؟ ... وكان من اعتبر أن الإخوة سيرون في ذلك طلبا لفتات موائد الحكام، وإعطاء الدنية من الدين... وكان من رأى أنه اقتراح يصب في صالح مخطط احتواء الصحوة الإسلامية... فلما تبين للأخ المسؤول أن الإخوة أجمعوا على معارضة الفكرة، أنهى الحديث حولها، وانتقل إلى حديث آخر.
لكن، كم كانت مفاجأة الإخوان الذين حضروا العقيقة كبيرة، لما قدم لهم ضيف الشرف الذي سيلقي الكلمة: ممثل عن المجلس العلمي. ولم يكن حتى ذلك العالم الذي اقترحه...
ثم توالت من جهة الأخ إشارات ومواقف واضحة كأنها تلتمس شيئا ما من السلطات. ولقد استاء صاحبنا “منتبه” من الطريقة التي سلكها في ذلك صاحبه، ولربما كان، غفر الله لنا وله، مستعدا لتنفيذ كل ما يأمره به أحد رجال الأمن المكلفين بتتبع الحركة الإسلامية والتجسس عليها. فلما ظهر لصاحبنا “منتبه” بجلاء أن الأخ ربما يتأهب للانتقال بالحركة من العمل المتستر إلى العمل في إطار المؤسسات الرسمية، لم ير في ذلك بأسا، شريطة أن تجمع على الفكرة مكونات الصحوة الإسلامية بالقطر.
واقترح أن يتم التشاور في الموضوع مع عالم أكبر سنا وأحنك تجربة من الشباب، له سابقة في النصح لولاة الأمر في البلد، ومجاهد أعطى الدليل على جهاده وصدقه في طريق العلماء الذين لا يخشون في الله لومة لائم... وذلك اتباعا لما جاء في الحديث الشريف: " أفضل الجهاد: كلمة حق عند سلطان جائر"، والسلطان الجائر في تصور “منتبه” هو ذلك التيار العلماني ووكلائه المحليين الذين ينفذون مخططاته...
وقبل ذلك كان “منتبه” قد وجد صدفة في مكتبة من المكتبات مجلة لفتت انتباهه. ظن أنه عثر فيها على ذلك الشخص الذي ترجا مشاورته. كانت المجلة واسمها "مجلة الجماعة" تضم مواضيع راقية تحكي عن هموم الصحوة الإسلامية في البلد، وأخبارها ومناهجها و بواعثها وضوابطها، وخاصة موضوع ضرورة توحيد العمل الإسلامي...
فلما سأل “منتبه” إخوانه عن ذلك الرجل مدير تلك المجلة، واقترح قائلا: " لِمَ لا يكون هو مستشارنا في خطة العمل في المؤسسات الرسمية؟ تعالت أصوات منكرة من بعض الإخوان القدامى الذين ربما كانوا يعلمون عن الموضوع ما لا يعرفه، فمنهم من قال: "عبد السلان ياسين رجل صوفي يستشهد في كتاباته بغلاة الصوفية المبتدعين..." وقال آخر: "إنني رأيت أحد أصدقائه المقربين يصلي وهو شاخص ببصره إلى السماء، وهذا حرام..." وهنا خجل صاحبنا “منتبه” من نقص معرفته بالأمور، وتمنى أن لو كان هناك شيء "يَتَوَارَى به مِنَ الْقَوْم"ِ... ولكن كان هناك من أنقذه من حرجه، وبالضبط، كان ذلك الشخص هو الأخ المسؤول بنكيران. قال ردا على الساخرين: "وأنا أرى وجاهة الاقتراح، لِمَ لا نعين لجنة للتحقق من الأمر، وليطمئن قلب أخينا؟" واستحسن الإخوة الفكرة، وعينوا أفراد تلك اللجنة وكان المقترح “منتبه” من ضمنهم، وكان منهم كذلك الرجل الثاني عند الشباب: الأخ "باها"، مهندس حديث التخرج من المعهد الزراعي الذي تخرج منه قبله صاحبنا المهندس “منتبه”.
تفاصيل ذلك اللقاء ستأتي أخبارها بعد حين، لكن توحيد العمل الذي كان يحلم به صاحبنا الحالم السيد “مستعد” لم يتم، ولم يقتنع الإخوة بما قاله ذلك الشيخ في الأمور العقدية التي دار النقاش حولها. وما ترتب عن الزيارة، أن المهندس “مستعد” قرر تعميق تكوينه الديني، لأنه أثناء السجال الذي دار بين إخوة الشبيبة وبين الأستاذ عبد السلام ياسين، ظن أن القوم يتكلمون لغة أخرى، وهو كالأعجمي بينهم. لكن، ربما شعر بشيء خاطب وجدانه، ولم يكن في حاجة للغة الكلام، ولا يمكن للسان أن يفصح عنه...
خرج الشباب وهم متأسفون على فشل التفاهم مع الرجل. والارتسام الذي تبلور عند الأخ “مستعد” : أن النقاش جرى خارج الموضوع الحركي الذي طرحه الأخ المسؤول للمشورة. ففي نظره أتوا ليناقشوا أمر توحيد صفوف الحركة الإسلامية، والعمل العلني في إطار المؤسسات، بداية بالجمعيات، فإذا بهم يخوضون في أمور عقدية لم تكن في جدول الأعمال. ولو كانت لاستعد لها ولقرأ شيئا في موضوع التصوف الذي طغى على الجلسة. ولربما شعر الشيخ بقلة زاد الشباب فيه، فاقترح اقتراحا غريبا: "أن يعقد لقاء آخر لمناقشة الموضوع، وأن يهيء الزائر “مستعد” درسا حول ما قاله ابن تيمية عن ابن عربي في كتاب السلوك من الفتاوى". وأعطاهم رقم الجزء وربما حتى رقم الصفحة...
لقد خفف ذلك قليلا من أسف صاحبنا “مستعد” على فشل اللقاء، بل إنه خرج بشيء من الحماسة والسرور، للشوق الذي بُعث فيه لاستكشاف المجهول... لقد شعر من خلال كلام الشيخ، بوجود عوالم لم يتم استكشافها بعد في رحلة البحث عن الحقيقة الكونية والحقيقة الشرعية. وهو الذي يعشق السبح في بحار المعارف العميقة، متسلحا بأدوات البحث والمنهجية العلمية التي اكتسبها في تعليمه العالي... كم يسعده الاستعداد لخوض غمارها وسبر أغوارها...
بعد ذلك بأشهر قليلة، كانت الإشارة الثانية التي أظهرت للأخ “مستعد” أن الأخ المسؤول يريد كسب ود النظام بأي ثمن... ولو على حساب أمور عقدية... وهنا استرجع ما كان قرأه عن أسس التفكير العلماني الذي يرى أن الغاية تبرر الوسيلة... لقد اصطف الأخ المسؤول في خندق العلماء الرسميين الذين أصدروا فتوى في تلك الأيام، يكفرون فيها الإمام الخميني والإخوة الشيعة في إيران!!
استنكر “مستعد” ذلك الموقف الذي لم يجد له أي مبرر يقبله العقل والنقل... في غياب شروط التكفير، ومن ضمنها إقامة حكومة شرعية بقضاتها وشهودها وعدولها وإجراءات الاستتابة وما إلى ذلك من التحريات الضرورية للتحقق من الأمر... وأراد مناقشة الفتوى التكفيرية الخطيرة، التي ستفتح الباب للاقتتال بين المسلمين عوض توحيدهم لمواجهة من يحتل ويهيمن على بلدانهم... فلما رأى الأخ المسؤول معارضته الشديدة للموقف التكفيري، قال له: " ليطمئن قلبك سأزودك بكتاب صدر في المسألة، كتبه أحد الإخوة من سوريا من الإخوان المسلمين. "
لم تستغرق قراءة كتاب " وجاء دور المجوس " طويلا ... سويعات معدودة ولكن تبعتها أيام من الشعور بالغثيان الذي يحرك الأحشاء، وبالأسى الذي يكدر القلوب... أن تضم الحركة الإسلامية أفرادا يسوغ لهم عقلهم التفكير بهذه الذهنية التكفيرية التي يمجها العقل ويرفضها الشرع...
واأسفاه على تلك الأماني التي بناها في رحلة الحج ! .. تصورها صحوة إسلامية تسمو وترتقي بجناحي إرث الحسن والحسين... جناحي الجمال والجلال... جناحي البسط والقبض... الرجاء والخوف... وها هو الأخ يصطف مع المكفرين الذين يريدون بعث أسوأ ما في تاريخ الأمة من فتن... لاحول ولا قوة إلا بالله!...
فلما زار الأخ المسؤول بنكيران صاحبنا المهندس “مكتئب” يوما، هو وثلة من الإخوان في داره بالقنيطرة، راجعهم في أمرالتكفير. فسألوه عن رأيه في كتاب "وجاء دور المجوس"، فقال لهم: " ألا ترون علي علامات السقم والمرض؟ لقد مرضت وتحركت أحشائي وأصابني الغثيان من سوء ما قرأت... ورد لهم الكتاب وحاول مراجعتهم في الفتوى وأن يجدوا للمشكل مخرجا... فلما ظهر له إصرارهم على المضي في الافتراء قدما، قال لهم: " هذا فراق بيني وبينكم، إني لا أستطيع تحمل عواقب التكفير الذي لم أجد له سندا... وقد صاحبتكم في ظرف حسبتكم ترون صوابا، لما تبرأتم من تبعاته التي لاترى في سفك الدماء حرجا... فقررتم الانفصال عن الشخص الذي كان في الخارج منفيا... فلِمَ نكستم على أعقابكم فصار أهل القبلة لحكمكم هدفا؟ بالأمس كان دور ذلك الشيخ الذي قام يدعو الحكام لربهم رشدا، واليوم جاء دور من لا حاجة لكم في اتخاذه عدوا... إلا رغبة في ود من تظنون أنهم سيكونون للدعوة عضدا... أنى لهم ذلك وهم في قبضة من كان لعقيدة اللادينية وليا مرشدا..."
وهكذا اختلطت على الأخ “مكتئب” هموم الأسى التي حلت به من سوء ما قرأ في كتاب الأخ السوري غفر الله لنا وله، ومن الأسف على فراق إخوة في الله أحبهم وتعلق بهم كثيرا، وكذلك حزنه تلك الأيام على فراق ابنته "مريم" في عامها الثاني، أخذها الله لجواره بعد حادثة حروق مؤلمة لم ينفع معها طبيب وإنا لله وإنا إليه راجعون.
علاقات الود لم تنقطع بعد ذلك بين صاحبنا السيد "آسف" مع إخوان الجماعة الأولى. وكلما لقيهم كم كان يسعده ذلك القول الذي يذكره به صاحبه بنكيران، يقول: " هل تتذكر ما قلت لنا ؟ تعلمت في جماعتنا الإسلام، ورحلت عنا لترتقي في مراتب الإيمان والإحسان..." فلا ينكر فضلهم عليه أبدا، بل يشكرهم ويدعو الله لهم ليجازيهم خير الجزاء.
سيلبث ذلك الأخ المسؤول بضع سنين في سعيه الحثيث ليخرج الدعوة من التقوقع الحركي إلى التدافع الحزبي... مكابدات ومكايدات ومقايضات... ربما ليس فيها من الإثم مثل ما كان في قضية التكفير، بل اجتهادات ومعاهدات وتوافقات رأى فيها المهندس “آسف” امتدادا "لشعرة معاوية التي كانت بينه وبين سيدنا الحسن".
وذلك ما يميز الجناح السني للصحوة الإسلامية، الذي يحاول إصلاح ما أفسده حكام المسلمين، بوسائل التربية والنصيحة والسياسة والمداراة والصبر على الأذى. وكلما أذن الله وكان عملها مثمرا، ظهر أمير عادل من شاكلة عمر بن عبد العزيز، وصلاح الدين الأيوبي، ومحمد الفاتح، ويوسف بن تاشفين، ويعقوب المنصور وغيرهم...
بينما الجناح الشيعي للصحوة الإسلامية، غالبا ما يلجأ إلى التغيير عن طريق قومة الأئمة الأبرار الوارثين لميراث سيدنا الحسين رضي الله عنه. وكلا الجناحين له ما يبرره في إطار الشرع... وهذا لا يلغي ولا يكفر ذاك، بل اجتهادات محمودة ووسائل مشروعة لتحقيق غاية عظمى: غاية الحكم بما أنزل الله، والعدل الشمولي الذي يتبعه، يسعد به ساكن الأرض وساكن السماء.
وهكذا رفع الأخ المسؤول عبد الإله رسالة إلى الديوان الملكي في نوفمبر 1985، وأيضا رسالة أخرى إلى وزارة الداخلية في مارس 1986 حول وضعية الجماعة ورسالة ثالثة إلى الديوان الملكي في أكتوبر 1987. وقد ظل الأخ المسؤول ومن معه يوجهون الإشارات تلو الأخرى إلى النظام للبرهنة على التوجه الذي سلكته الجماعة الإسلامية، لكن الدولة كانت تتردد في قرارها وتحسب له ألف حساب. ولربما لم تكن تملك من الأمر شيئا، لاستحواذ المخابرات الخارجية على الملف، كما كان الحال في المشرق العربي مع الإخوان المسلمين، الذين كان الصهاينة يريدون القضاء عليهم...
وقبل الترخيص له بالعمل الحزبي، لقي “آسف” صاحبه في مسجد من مساجد حي التقدم، وهو يلقي درسا بعد صلاة المغرب. فلما اختلى به بعد انتهاء الدرس قال له: "أهذا كل طموحك للحركة: درس وموعظة لبضعة رجال من المسنين الذي لا يرجا منهم إلا الدعاء الصالح للصحوة الإسلامية؟... اتق الله واسع إلى جمع الشمل مع ذلك الشيخ الذي لا تتهمه إلا بالتصوف وأنت ربما لا تعلم عنه شيئا، ولم تمارس التجربة لتعدل في الحكم عليها حكما علميا لا ظن فيه، وحكم الظن حذرنا ربنا منه في قوله تعالى: ( وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (لنجم:28)... ألم تر الآن ما جمعت دعوته المباركة من تكتل لمقاومة ذلك المد اللاديني العلماني الجارف... فأجابه: إن تصورنا للعمل السياسي ربما يرفضه جملة وتفصيلا. وهو تصور بديهي تعلمته من حكمة تقولها أمي: "إذا رأيت السبع فاغرا فاه مكشرا عن أنيابه، أتراك تدخل رأسك في فكيه؟". فقال له “آسف”: " اذهب إلى الرجل، واطرح عليه تصورك، واطلب منه أن يقبل أن تكون للصحوة الإسلامية في العمل السياسي جناحها. فإن تم الاتفاق فسيكون عملا مباركا، تجتمع فيه مكونات الصحوة لمقاومة التيار المفسد... ذلك التيار الجارف المتجذر الذي يجني من فرقة المسلمين ترسخا وامتدادا."
ما يعجب صاحبنا “آسف” في الأخ المسؤول عبد الإله هو مرونته وسماعه للنصح ... لقد اقتنع وقبل الفكرة، سيزور الشيخ ويناقشه في الموضوع... اللهم اجمع شمل المسلمين ووحد صفوف الصادقين... هذا ما دعا به “آسف” لما كان راجعا إلى بيته والأمل يملأ وجدانه...
في طريقه إلى داره، استرجع ذكريات اللقاء الأول... وحديث الشباب الصاخب وهم يسائلون الأستاذ عبد السلام ياسين: وما رأيك في ابن عربي؟ وما قولك في عبد العزيز الدباغ؟ وفي قول فلان... وفي قول علان؟ ... فرجع له ذلك الشعور القديم بحرج الحياء والخجل الشديد... ما هذا التنطع؟ ما هذا الجعوظية؟... والشيخ بحلمه وعلمه وكلامه الهادئ وجلوسه على الأرض، بينما الزوار على الأرائك، يحاول معالجة الموقف، ولا من يستحيي ولا من يندى له جبين... كانت إذن مسؤولية فشل ذلك اللقاء يتحملها الشباب... الذين يخوضون في الكلام التبديعي بغير علم ولا فهم ولا تمييز ولا منطق سليم...
لكن هذه المرة هل سينجح اللقاء المقبل؟ هل ستتوحد الجهود؟ هل ستكون المكايدة السياسية خاضعة للدعوة الموحَّدة، تأتمر بأمرها وتنتهي بنهيها؟ أم سيتحكم فيها عقل التيار اللاديني؟..
بعد مدة قصيرة، سيعلم “آسف” أن اللقاء نجح... في إنهاء ترددات الدولة في قضية الترخيص للشاب بنكيران للعمل الحزبي. لكن اللقاء مع الشيخ فشل... في توحيد الجماعتين...
قدر صاحبنا “آسف” أن مخابرات النظام التي لا يغيب عنها شيء، ربما سارعت إلى ضم جماعة الشباب إلى صف التيار اللاديني مخافة أن تنضم إلى الطرف الآخر: تنظيم الشيخ الذي قوي عوده في ظرف وجيز، وأضحى النظام يتوجس منه خيفة... وتلك لعبة قديمة تتجدد كلما دعت لها الضرورة، ولا يلومن نفسه إلا من نسي الدروس وابتعد عن الهدي المحمدي في ضم الناس إلى صفه ولو كانوا من المنافقين... وحاشا أن يكون الإخوان منهم... إنما لم يجدوا من يأخذ بأيديهم لما مدوها طواعية... فكانت فرصة ضائعة أخرى لجمع الشمل، ولقد سمع “آسف” عن فرص ضائعة أخرى، لا يمكنه الحديث عنها لأنه لم يشهدها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لما سأل “آسف” صاحبه عن نتيجة اللقاء، علم أن الشيخ لم يقبل العرض، واسترسل الأخ في مواخذات وانتقادات كانت تمر بأذني “آسف” دون أن يسمعها: فقد خيم عليه الأسى والأسف من تكرار ضياع الفرص الثمينة. لكن هذه المرة، لم يستطع أن يحدد من المسؤول عن فشل اللقاء. هل هي مسؤولية المخابرات؟ هل هي مسؤولية صاحبه؟ هل هي مسؤولية الشيخ؟.. ولا تقل ل"جرى كيف جرى، بل قل شاء الله وقدر... كلمات الله القدرية يتقبلها المؤمن بالرضى والتسليم، لكن بعد استنفاذ الجهد في اتباع أثر المعصوم عليه الصلاة والسلام في التعامل مع كلماته الشرعية، وبعد تقصي الحكمة البشرية في احترام كلماته الكونية...
ولم يكن يملك من الأمر إلا الدعاء الصالح لصاحبه بنكيران، أن يحفظه الله من ذلك "السبع" الذي كانت أمه تخوفه منه... وأن يقويه لاجتياز اختبار الفتن التي يقبل عليها، ولا يصمد فيه إلا قليل.
ولقد عمد الأخ إلى نفس الجهد التوحيدي مع جمعيات إسلامية أخرى، نخبوية هذه المرة، وليس لها امتداد جماهيري كبير. ونجح في مهمته مع أغلبها، ثم سار بالجميع لاقتحام مجاهل العمل السياسي. وهو الآن في المرحلة الشاقة: تلك المرحلة التي قال عنها ربنا الخبير الحكيم: ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة:120). ملَّتُهُم في زمننا هذا هي اللادينية العلمانية، وقد دخل الإخوة في كنفها لما وصلت تنازلاتهم إلى التخلى عن رفيق لهم، كانوا يرون فيه مرشدهم الروحي، ولا ذنب له سوى تأكيده على معارضته الشديدة للعقيدة العلمانية المارقة التي هي أصل كل بلاء. ورأى “آسف” في ذلك الأمر تكرارا لما حدث في مفاوضات الاستقلال في "إيكس ليبان". لما وصل تنازل النخبة المفاوِضة إلى تبني تلك العقيدة... فتناقلت ذلك التبني الوكالة اليهودية ووسائل الإعلام التابعة لها، واعتبرت ذلك الحدث فتحا مبينا، يعادل ما حدث في تركيا لما تعهد "اتاتورك" باتباع دين العلمانية...فتم القضاء على الخلافة الإسلامية العثمانية التي كانت تحمي بيضة المسلمين.
ومرت سنوات على العمل الحزبي للإخوان الذين دخلوا في حضن اللاييكية. كان هدفهم إصلاح المؤسسات من الداخل، وتوشك الآن تلك المؤسسات أن تنجح في قولبتهم في إطار لعبة ماكرة، ليندمجوا في مخططاتها لتحطيم ما بقي للعقيدة وللهوية وللكرامة من بقايا، تحتضر على مرأى ومسمع منهم...
وأثناء كتابة هذه السطور يوم الأحد 18 ماي 2008، يهتز الحي الذي يسكنه “آسف” من صخب موسيقى مهرجان "موازين"، ولربما صوت "نانسي عجرم" و"أصالة" يصل إلى الأحياء المجاورة، خاصة ذلك الحي الذي يقطنه أحد الإخوان القدامى الذي انتخبه السكان ممثلا لهم في البرلمان... ولربما وصله صخب مغنية يهودية جاءوا بها إلى المهرجان مزامنة مع حدث نكبة فلسطين، للاحتفال بالذكرى الستين لتأسيس إسرائيل. وأكيد أن ذلك الصخب الساقط الذي يدفعون له الملايير من جيوب المغاربة ، يصل حتى إلى شيوخ الدعوة ومرشديها، لأنهم نصبوا لها مسارح في الجهات الأربعة ، ليحيط شيطانهم بالناس، من بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم. ونعوذ بالله من أن يغتالوا من حواليهم، من جراء عمل دموي كم يشتاق شيطان العلمانية لشهوده والارتواء من دمائه. وهو الذي لا يهنأ له بال، ولا يرقد له جفن، حتى يرى الفتنة قائمة في ديار المسلمين... والفتنة نائمة لعن الله من أيقظها، وتوشك أن تعم أولئك الذين حملهم الناس مسؤولية التغيير... فلم يفعلوا شيئا للمجتمع الذي انتخبهم وأحسن الظن بهم، ولم يهددوا بتقديم استقالتهم... ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وأثناء مراجعة هذه المذكرات سنة بعد كتابتها، يشهد الأخ " آسف " شيء قريب مما توقعه، ويرى في ذلك آية ما كان له أن يكون غافلا عنها. في الساعة الواحدة صباحا من يوم الأحد 24 ماي، يموت أكثر من عشرة أشخاص من الذين حضروا مهرجان موازين 2009، ويجرح العشرات، لما حدث انهيار للحواجز من شدة الزحام، فاندفعت الجموع للخروج لا تلوي على شيء، وزهقت تلك الأرواح تحت أقدام الهاربين من الموت المحدق... كان معظم الحاضرين من الشباب الضائع الحالم بالهجرة من جحيم بلده. جاءوا لسماع أغنية " الفيزا والباسبور" لفنان شعبي يسمونه الستاتي، يبرع في العزف على الكمان... حتى بأصبعه السادس!!
وبعد صلاة الظهر لنفس اليوم، يجتمع السيد "آسف" صدفة بالأخ الذي انتخبه سكان الحي وهو من حزب العدالة والتنمية الذي ينشط في إطاره أتباع بنكيران ، يلومه على ما حدث، فيروي له ذلك الأخ تفاصيل عن مهرجان الرباط الذي ابتدعه التيار اليساري، وما كان معهم من مشادات لمنع تمويله من أموال الشعب. لكن لما تحولت رعاية المهرجان إلى أعوان الملك المقربين، وصار يسمى "مهرجان موازين"، ولما دشن في انطلاقته بتوشيح فنانة بالوسام الملكي، هنا أدرك الإخوان الصباح وسكتوا عن الكلام المباح، ورحم الله شهداء "الفيزا والباسبور"... ورحمة بالقراء الذين يجهلون اللغة العامية المغربية التي باتت تسمى العرنسية، عنوان أغنية الفنان الشعبي المسؤولة عن موت الشباب هو "التأشيرة وجواز السفر" ... وكان سفرهم إلى الدار الآخرة... ولم يكن أحد مسؤولا عن موتهم... الأغنية وحدها هي المسؤولة عن رحيلهم!!! ولو وجدوا من بين الموتى أحد الملتحين فلربما حشر الإسلام في قفص الاتهام... والكل يعلم أن المسؤول هو التيار المعلوم الذي يسعى في الأرض فسادا، تارة يستعمل اليسار لتنفيذ مخططاته، وتارة يستعمل اليمين، وتارة يستعمل أصدقاء الملك. ولربما يستعد الآن لإعطاء الحكم لأحزاب بربرية، تضمن له المضي في الإفساد مقابل تنصيبها في الحكم. فالكل يتنافس في الهرولة للتحالف مع الشيطان لبلوغ سدة الحكم... والأمر لله الواحد القهار.
رجوعا إلى العمل الإصلاحي الذي كان مهندسنا “متحيز” قد بدأه في إدارته، فلقد شعر سدنة التيار اللاديني بخطورته لما علموا أن المهندس بدأ عمله الإصلاحي في إطار التيار المعارض لها: تيار الصحوة الإسلامية. فسخرت وكلاءها لزرع العراقيل تلو أخرى في طريق صاحبنا. فكان منها تلك الأحداث التي مر ذكرها في الجزء الأول من الكتاب... وكان منها مضايقات خارقة للقانون تقوم بها السلطات والوزارة وتكررها بصفة مستفزة مثيرة. مرة جاء أمر كبير وزارة الداخلية في الإقليم لتفويت ضيعة لأحد أركان الجيش المحليين، ضيعة شاسعة الأطراف تشرف عليها المصلحة الغابوية، مغروسة بأشجار وارفة الظلال، قريبة من المدار الحضري للمدينة، وفي منطقة تعد من أخصب المناطق في القطر... ومرة استولت السلطات، دائما بغير سند قانوني، على غابة في قلب المدينة بحجة تحويلها إلى ثانوية، على مساحة تتجاوز بكثير ما تحتاجه الثانوية، وتضم أشجارا من شجر البلوط التاريخية التي يشكل قطعها كارثة بيئية... فلما أراد “متحيز” أن يوثق الحدث بصور توثيقية لتقريره، هجم عليه باشا المدينة وزبانيته فانتزعوا منه الآلة المصورة التي لم تعد له أبدا... ومرة أرادوا الاستيلاء دائما بغير قانون ولا إجراءات رسمية على مساحة غابوية شاسعة لبناء الجامعة... ومرة أمره كبير وزارة الداخلية المحلي بإرسال جيش من عمال الغابة ليقيموا سياجا لمزرعته المترامية الأطراف في إقليم آخر... ومرة منعت وزارته تمويل عملية جني الفلين عبر مكائد لا مجال لذكرها، فلما مرت السنة دون جني، اتهمه الوزير بالتآمر على معامل الفلين يريد القضاء عليها، وليربط القارئ هذا الحدث بما وقع في قصة "لمذا يصلح فلين الغابة"... وغيرها كثير، سيذكر في مواقعه لاحقا إن شاء الله، مما جعل صاحبنا “متحيز” يتأكد أن التيار اللاديني المخرب للبلد منظم ومدعم بمسؤولين في مراكز القرار على الصعيد الإقليمي وعلى الصعيد المركزي... والغريب في الأمر أن أولئك المسؤولين كانوا يوادونه ويساندونه قبل توبته وابتعاده عن حياة التصابي. فكان ذلك مما برر انخراطه للنضال في إطار جماعي، لأن التيار لا يقاومه إلا تيار يعدله في القوة ويعاكسه في الاتجاه... قانون من قوانين الله الكونية التي لا يتجاوزها بر ولا فاجر... و المؤمنون يرجون من الله ما لا يرجو الظالمون... نصره للمستضعفين، ودحره للظلمة المترفين المستكبرين. ولم تمض بضع سنين حتى شتت الله شملهم، وسلط عليهم نكبات الدهر وتنكيل القدر...
ولم يكن “متحيز” يقص معاناته إلا على أبيه رحمة الله عليه، فيكثر من الأدعية المأثورة، ومن دعاء "الدمياطي" الذي كان يردده فترة مقاومة الاستعمار، خاصة منها هذه الأبيات:
فيا حق خذ بالثأر منهم معجلا
وحسبي إذاكان القوي موكلا
شهيد على قوم بما كان منهم
وأنت وكيلي يا وكيل عليهم
وكلما اشتد الحال وحلت أيام القبض، يجمع والده رحمة الله عليه الأسرة صغارا وكبارا، فيرددون بعد الصلاة :
وشتت شمل أقوام بنا اختلطوا
وكلما قد علوا في ظلمهم هبطوا
يا سطوة الله حلي عقد ما ربطوا
الله أكبر سيف الله قاطعهم
ويعجب الأطفال الصغار تكرار كلمة هبطوا... هبطوا...هبطوا... متندرين بذلك مبسوطين!
فلما تبين للمهندس “متحيز” أنه يجلس على فوهة بركان، رأى أن الظروف تقتضى شيئا من التراجع، ليس فقط تجنبا لكيد الكائدين، لكن لسببين آخرين أولهما: أن عمله اليومي تتخلله مخالفات شرعية واضحة، وثانيهما: أنه يستعد للتحيز إلى الجماعة الثانية جماعة الأستاذ ياسين التي كانت تسمى "أسرة الجماعة" للنضال ضد التيار اللاديني. استخار الله، ثم استشار من حسبه أهلا للفتوى.
لم يخبر السيد “متحيز” ذاك الولي المرشد الذي استفتاه في الأمر بما يعانيه من جانب التيار الظالم، لأن ذلك اعتبره تافها أمام معضلات تمس آخرته. قال له: " إنني في عملي الإداري مرغم على إمضاء العقود الربوية، وشهادات الزور والكذب. يجبرونني على السرقة لصالحهم: هذا امتياز مقلع للرمل لصالح قريب من الوزير، وهذه أرض يريدون اقتطاعها لفلان، وذلك امتياز للصيد يريدون تخصيصه لعلان... وهذا أمر لتزويدهم بعشرات الأطنان من ثمار البلوط لتغذية خنزير المصيدات... وذاك تدخل لإخلاء سبيل شاحنة محملة بالخشب المسروق لأن السارق منهم... وقس على ذلك من المخالفات الشرعية التي أخدم بها دنيا غيري على حساب آخرتي..." فلما فهم الشيخ المستفتى ذلك، تبسم وقال: " وهل في هذا البلد المنكوب إدارة تستثنيها تلك الممارسات الشنيعة؟ وماذكرته لا يساوي شيئا أمام الاختلاسات والرشاوى بالملايير في جهات أخرى... فأجابه “متحيز”: " كل شاة معلقة برجليها"، وبعض الإدارات أنظف من بعض". فقال له الشيخ : هل هناك إدارة من هذا النوع الذي تقول يمكنك الانتقال إليها"؟ أجابه "نعم التعليم في مدرسة المهندسين أو إدارة البحث الغابوي". فأشار عليه: " إذن إن كان هناك بديل يحافظ لك على راتبك، فبادر بطلب الانتقال إليه". قام “متحيز” وودع الشيخ قائلا: " جزاك الله عنا كل خير، غدا سأطلب انتقالي إن شاء الله".
وكذلك كان، كتب الرسائل اللازمة للوزارة من أجل إعفائه من المسؤولية، وإلحاقه كباحث بمحطة التجارب والأبحاث الغابوية، أو كأستاذ في سلك التعليم بمدرسة المهندسين...
ولم ينتظر “متحيز” جوابا لاستفالته من المسؤولية الإدارية لكي يلتحق مجددا بصفوف العمل الاسلامي، مع أسرة الجماعة هذه المرة. وكان ذلك الانخراط ضروريا لمناضلنا الذي يخشى أن يقع في ذنب الفار من الزحف في ساحة النضال، ذلك الذنب الذي كان يعتبره من الكبائر عند الله: لقوله تعالى: ( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (لأنفال:16).
لكن قبل التحيز إلى الفئة التي تحارب الفساد اللاييكي، ينبغي للأخ “متحيز” أن يتحقق من تلك الفئة الثانية، هل هو الخيار الأمثل؟ أم ستصيبه خيبة أمل أخرى، وستتبخر أمانيه كما تبخرت مع الجماعة الأولى؟...
فهي إذن هجرة ورحلة في طلب الحق... لكنها رحلة من نوع آخر: سوف لن تنتهي إلا عندما يلفظ المرء أنفاسه، لأن الحق المطلق عزيز، لا يدرك إلا عبر المقاربة اللانهائية والتسديد المتواصل. والعجز عن إدراك الإدراك إدراك، كما قال سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، والملأ الأعلى والملائكة المقربون يطلبونه كما نطلبه، ولكن "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار"، و"ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"، سبحانه وتعالى عما يصفون .
رجوعا إلى حصيلة اللقاء الأول الذي مر ذكره مع الأستاذ المرشد. للتذكير، شعر الشيخ بقلة زاد الشباب في طريقة التصوف لإدراك الحق، عن طريق الذكر، لا عن طريق الفكر، فاقترح اقتراحا غريبا: "أن يعقد لقاء آخر لمناقشة الموضوع، وأن يعد المهندس “سابر” درسا حول ما قاله ابن تيمية عن ابن عربي في كتاب السلوك من الفتاوى".
وهاهو صاحبنا "سابر" الآن لما تفرغ من العمل التنظيمي مع إخوانه في الجماعة الإسلامية الأولى بعد ما حدث، يستعد لاستكشاف المجهول. لقد ذهب مباشرة إلى الصفحة التي حددها الشيخ من كتاب السلوك والتصوف، من مجموعة فتاوى ابن تيمية رحمة الله عليه. وللتذكير، كانت تلك المجموعة تزين مكتبته بعد تكليف مساعده لإحضارنسخ منها من المركز الثقافي السعودي المجاور لحديقة باب البويبة التابعة للمصلحة الغابوية.
مجرد زينة كانت في خزانة الصالون، ومن يجرؤ على خوض غمار قراءة موسوعة تضم أكثر من ثلاثين مجلدا؟ خاصة والتكوين مفرنس مغيب للغة العربية... مشكل حقيقي يعاني منه جل المهندسين الذين تخرجوا مثله في تلك الفترة...
بسم الله... والله المعين... على سبر أعماق تلك البحار... وياعجبا لقوم يعجزون حتى عن القراءة، أحرى أن تكون لهم القدرة على كتابة سطور مما كتبه الأجداد... ياله من ترد في غيابات الجهل بالعلم النافع الذي ينجينا من ضياع الدنيا والآخرة!!!
الموضوع الذي كانوا عنه يتحدثون، من الخطورة بمكان... ويمكن القول إن سوء فهمه هو الذي أدى إلى هلاك النصارى، وإلى ظهورالملل والنحل والفرق الضالة المفسدة في الأرض. والدرس الذي أعده الأخ “سابر” للمجلس الذي لم يعقد، ظل يحتفظ به منذ عقود، وقد آن الأوان لإنقاذه من طي النسيان، نفعنا الله به، ونفع من سيقرأه...
"كتب الإمام أحمد بن تيمية رسالة إلى الشيخ الصوفي العارف بالله أبي الفتح المنبجي أشار فيها إشارة لطيفة إلى حال بعض مريدي هذا الشيخ الصالح، الذين توغلوا في عوالم " الاتحاد" و"الفناء" و"الحلول" وعامة الأحوال التي يشهدها بعض السالكين، وهم لا يملكون من العلم الشرعي اللازم لفهم ما يحصل لهم من أحوال ومقامات في درجات تزكية نفوسهم والتقرب إلى الله. وغرض الرسالة كما بينه ابن تيمية " هو دفع ضرر بعض غلاة الصوفية عن أهل طريق الله تعالى السالكين، وذاك يراه من أعظمالواجبات - وهو شبيه بدفع التتار عن المؤمنين – وغلاة الصوفية موهوا على السالكين التوحيد الذي أنزل الله تعالى به الكتب، وبعث به الرسل، بالاتحاد الذي سموه توحيدا، وحقيقته تعطيل الصانع وجحود الخالق".
وبين بداية أن كافة المسلمين لا حاجة أن تكشف أسرار الطريق وتهتك أستارها ولكن لا بد من رفع التلبيس الذي دخلها، مع ضرورة حسن الظن بالسالكين.
ثم وضح الإمام أن التوحيد الجامع لتوحيد الألوهية والربوبية فيه ثلاث مقامات:
أحدها: مقاما الفرق والكثرة بإنعامه من كثرة المخلوقات والمأمورات؛
والثاني: مقام الجمع والفناء بحيث يغيب بمشهوده عن شهوده، وبمعبوده عن عبادته، وبموحده عن توحيده، وبمذكوره عن ذكره، وبمحبوبه عن حبه، فهذا فناء عن إدراك السوى وهو فناء القاصرين.
والثالث: الفناء الكامل المحمدي شهود التفرقة في الجمع، والكثرة في الوحدة، فيشهد قيام الكائنات مع تفرقها بإقامة الله تعالى وحده وربوبيته، ويرى أنه ما من دابة إلا ربي آخذ بناصيتها، وأنه على كل شيء وكيل، وأنه رب العالمين، وأن قلوب العباد ونواصيهم بيده، لا خالق غيره و نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع ولا حافظ ولا معز ولا مذل سواه، ويشهد أيضا فعل المأمورات مع كثرتها وترك الشبهات مع كثرتها لله وحده لا شريك له.
وهذا هو الدين الجامع العام الذي اشترك فيه جميع الأنبياء والإسلام العام والإيمان العام، وبه أنزلت السور المكية وإليه الإشارة بقوله تعالى:( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ). فجمع في الملل الأربع: " من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا " وذلك قبل النسخ والتبديل، وخص في أول الآية المؤمنين وهو الإيمان الخاص الشرعي الذي قال فيه: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " والشرعة هي الشريعة، والمنهاج هو الطريقة.
فأما الشرعة والمنهاج الإسلاميان فهو لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم " خير أمة أخرجت للناس " وبها أنزلت السور المدنية إذ في المدينة النبوية شرعت الشرائع وسنت السنن ونزلت الأحكام والفرائض والحدود فهذا التوحيد هو الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وإليه تشير مشايخ الطريقة وعلماء الدين.
لكن بعض ذوي الأحوال قد يحصل له في حال الفناء القاصر سكر وغيبة عن السوى، والسكر وجْد بلا تمييز فقد يقول في تلك الحال سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، أو نحو ذلك من الكلمات التي تؤثر عن أبي يزيد البسطامي أو غيره من الأصحاء، وكلمات السكر أن تطوى ولا تروى ولا تؤدى، إذا لم يكن سكره بسبب محظور من عبادة أو وجه منهي عنه. فأما إذا كان السبب محظورا لم يكن السكران معذورا، لا فرق في ذاك بين السكر الجسماني والروحاني فسكر الأجسام بالطعام والشراب، وسكر النفوس بالصور، وسكر الأرواح بالأصوات، وفي مثل هذا الحال غلط من غلط بدعوى الاتحاد والحلول العيني في مثل دعوى النصارى في المسيح، ودعوى الغالية في علي وأهلالبيت، ودعوى قوم من الجهال الغالية في مثل الحلاج أو الحاكم بمصر أو غيرهما، وربما اشتبه عليهم الاتحاد النوعي الحكمي بالاتحاد العيني الذاتي.
ثم بين الإمام أن أصحاب الحلول والاتحاد على أنواع مختلفة:
منهم من يرى الاتحاد والحلول في شخص معين كقول النصارى في المسيح، والغالية في الأئمة من الشيعة وفي المشايخ من جهال الفقراء والصوفية؛
ومنهم من يرى الأمر اتحادا في معين كاتحاد الماء واللبن وهو قول اليعقوبية وهم السودان ومن الحبشة والقبط؛
ومنهم من يقول بالحلول في معين وهو قول النسطورية؛
ومنهم من يقول بالاتحاد من وجه دون وجه وهو قول الملكانية؛
ومنهم من يقول بالحلول المطلق: وهو أن الله تعالى بذاته حل في كل شيء فهذا تحكيه أهل السنة والسلف عن قدماء الجهمية وكانوا يكفرونهم بذلك؛
ومنهم من يقول بالاتحاد العام، وهذا قول الذين لبسوا على مريدي الشيخ المنبجي، وبسببهم كتب ابن تيمية رسالته.
لذلك وضح بإسهاب أمر هذه الطائفة، وقال إن حقيقة أمرهم أنهم يرون أن عين وجود الحق هو عين وجود الخلق، وإن وجود ذات الله خالق السموات والأرض هي نفس وجود المخلوقات. وإن العارف منهم يعرف من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد، فإن الجاهل يقول هذا حجر وشجر، والعارف يقول هذا محل إلهي ينبغي تعظيمه فلا يقتصر، فإن النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا، وإن عباد الأصنام ما أخطأوا إلا من حيث اقتصارهم على عبادة بعض المظاهر، والعارف يعبد كل شيء، والله يعبد أيضا كل شيء لأن الأشياء غذاؤه بالأسماء والأحكام وهو غذاؤها بالوجود، وهو فقير إليها وهي فقيرة إليه... إلى ما ذلك مما يتداوله القوم وهو مفصل في كتاب "فصوص الحكم" الذي ينسب لابن عربي، هذا الكتاب الذي لا يدري ابن تيمية هل مات مؤلفه على الاعتقاد بما فيه فهو كافر، أم تاب عن الزيغ الذي ذكره فهو مغفور لهإن شاء ربه.
وقال ابن تيمية عن ابن عربي هذا:" وإنما كنت قديما ممن يحسن الظن بابن عربي ويعظمه لما رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثير من الفتوحات والكنة والمحكم المربوط والدرة الفاخرة ومطالع النجوم ونحو ذلك ولم نكن بعد اطلعنا على حقيقة مقصوده ولم نطالع الفصوص ونحوه"
أما كتاب "الفصوص" فيرى ابن تيمية: " أنه مبني على بدعة الاتحادية التي ترى أن وجود المحدثات المخلوقات هو عين وجود الخالق ليس غيره ولا سواه، وهذا هو الذي ابتدعه وانفرد به عن جميع من تقدمه من المشايخ والعلماء، وهو قول بقية الاتحادية، لكن ابن العربي أقربهم إلى الإسلام وأحسن كلاما في مواضع كثيرة، فإنه يفرق بينالظاهر والمظاهر فيقر الأمر والنهي والشرائع على ما هي عليه، ويأمر بالسلوك بكثير مما أمر به المشايخ من الأخلاق والعبادات، ولهذا كثير من العباد يأخذون من كلامه سلوكهم فينتفعون بذلك وإن كانوا لا يفقهون حقائقه، ومن فهمها منهم ووافقه فقد تبين قوله.
وأما غيره من فلاسفة التصوف الذين يقرون بعدم الالتزام بالشريعة فقد مهدوا لدخول التتر والصليبيين، وأنهم مقدمة الدجال الأعور الكذاب."
انتهى ملخص رسالة الإمام ابن تيمية إلى الشيخ الصوفي المنبجي رحمة الله على الجميع.
ولقد علق “سابر” في هذا الدرس الذي هيأه للحلقة التي لم تعقد، علق على ما وعى من كلام ابن تيمية بتعليق سوف يكون أساسا لتصوره لتلك المسائل الشائكة. بعد قرابة عشرين سنة، سوف يفصلها ويعضدها بأفكار أخرى في كتاب سماه" التفكر في الخلق وغاياته الاستخلافية" وهو بحث تركيبي يمزج بين إرث المنهاج العلمي للثقافة الكونية التي تلقاها في تعليمه العالي، وتقافته الدينية التي محصها في فترة العمل الجماعي في الحركة الإسلامية.
جاء في تعليق السيد "سابر" ما يلي:
"إن سوء فهم علاقة الحق بالخلق كان سبب هلاك الضالين من النصارى والمتغالين من المسلمين. ذلك أن سؤال " الكيف" في هذه العلاقة يؤدي إلى سؤال الكيف في الخالق وإلى سؤال الكيف في المخلوق.
فأما سؤال الكيف في الخالق أي كيف أن الله بائن عن خلقه وهو أقرب إليه من حبل الوريد؟ فهذا يؤدي إلى سؤال الكيف في ذات الله، وهو سؤال منعنا الشرع أن نخوض فيه، لأننا لا نملك ما يكفي من العلوم الكونية والشرعية للخوض في بحاره. ( ... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ... الآية ) (الشورى:11)
وأما سؤال الكيف في الخلق، فهو أمر مشروع بل واجب ينبغي التعمق فيه لقوله تعالى : ( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت:20).
وكلما كان سؤال الكيف في الخالق غالبا على سؤال الكيف في الخلق عند أمة من الأمم، يكون ذلك من أسباب هلاكها. فالسلف الصالح من القرون الأولى، كانوا في أوج عطائهم الفكري للإنسانية لما عملوا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق". وآنذاك كانت الطوائف النصرانية حائرة تعقد المجالس تلو أخرى للوصول إلى اتفاق حول سؤال الكيف حول الخالق، وكيفية الحلول في متعين ( عيسى عليه السلام ) أم في مطلق، وغير ذلك مما أشار له ابن تيمية. ثم انتقل ذلك الفضول إلى بعض المسلمين، فكان منهم من زاغ أكثر من الفرق النصرانية، فمهدوا لدخول التتر والصليبيين إلى المشرق العربي ثم إلى الأندلس والمغرب.
ولما تتلمذ الغرب أيام الحروب الصليبية على الثقافة الإسلامية الأصلية التي تشجع النظر في كيفية الخلق، دخل في عصر النهضة، ثم العصر الحديث، ليشهد فتوحات عظيمة في العلوم الكونية. لكن تلك العلوم مختصة في دراسة الوسائل في تسخير الكون للإنسان، ولا تهتم بالغايات التي من أجلها خلق الإنسان. وهذا الجانب لا يمكنهم إدراكه إلا من خلال العلوم الشرعية التي استقبلها الإنسان عن طريق الوحي للرسل... والمعضلة التي تسبب الآن شقاؤهم الدنيوي والأخروي، هي إنكار الوحي الذي يبين غاية وجودهم، وخاصة رسالته الخاتمة التي أنزلت على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. لذا تراهم يقدمون على الانتحار فرادى وجماعات كما وقع في حادث "كويانا" لما انتحر زهاء ألف أمريكي، جملة واحدة، كانت تقودهم "روحانية المخدرات المريضة"... انتهى التعليق.
كل العلوم تبقى نظرية تحلق في عالم الخيال والترف الفكري ما لم تنتقل إلى عالم التمحيص والتجربة والممارسة. لكن يبقى العلم إمام العمل، إذ لا يعقل أن يقدم المرء على تجربة دون أن يستعد لها بالتخطيط والتنظير وجمع المعلومات وتحليلها وتركيبها وافتحاصها.
سيقرأ مهندسنا "سالك" بعد تفرغه من العمل الحركي مع الجماعة الأولى أمهات الكتب التي تتخصص في علم السلوك. ذلك العلم الذي ينتقل بالفرد من النظريات في العلوم الشرعية إلى الممارسة الفعلية الصحيحة لكي يلتزم بما يأمر به الشرع في العبادات والعادات والمعاملات. ثم يرتقي في مراتب السمو الروحي من درجات الإسلام إلى درجات الإيمان ثم إلى درجات الإحسان.
قرأ “سالك” عن ذلك التخصص في كتب الصوفية ما شاء الله ولا زال يقرأ فيها، وهي بحار شاسعة، وكلما وصل السابح فيها إلى ساحل تراءت له منه بحار أخرى... والخائض فيها بدون بوصلة يوشك أن يتيه وترمي به الأمواج العاتية إلى مكان سحيق...
ولقد ساق الله السيد “سالك” يوما إلى مكتبة في القنيطرة فاكتشف تلك المجلة التي فاتت الإشارة إليها. ومن ضمن ما جاء في بعض أعدادها، دراسة تسمى " المنهاج النبوي لتغيير الإنسان ... تربية وتنظيما وزحفا"... فاعتبر أن الله ساقه للعثور على البوصلة التي يبحث عنها لتجنب مخاطر الطريق. ومن جملتها تلك المحاذير التي مر ذكرها في رسالة ابن تيمية... وغيرها كثير، سوف يذكر في الجزء الثالث من المذكرات إن شاء الله. لذا أقبل المهندس “سالك” على القراءة في "المنهاج " وفي الكتب الأخرى التي ألفها الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين. فكانت أول إطلالة على الأساس التربوي الروحي، يوضح مفهوم الإحسان الذي كان عليه الصحابة زمن النبي صلى الله عليه وسلم، قبل أن تدخله تفصيلات علوم التصوف والسلوك، كما وقع لسائر العلوم الأخرى. أما الجانب الحركي في "المنهاج" فيتوسل الوسائل التنظيمية التي وصلت لها الحكمة البشرية، معززة بلحمة الصحبة والتحاب في الله و التناصح والتآلف الأخوي الذي يسري بين الذاكرين الله ذكرا كثيرا، والمكثرين من الصلاة والسلام على النبي المختار صلى الله عليه وسلم وعلى آله... والغايات القصوى والأهداف المرحلية كانت واضحة لا لبس فيها: الغاية الإحسانية: النظر إلى وجه الله في الجنة بالنسبة إلى الفرد، والغاية الاستخلافية: تحقيق العدل في الأرض بالنسبة إلى الجماعة... والغايتين متداخلتين متشابكتين، لايمكن الفصل بينهما... هذا باختصار شديد مضمون "المنهاج".
فلما تبين هو وأخوه مما يدعو إليه "المنهاج" من صلاح الدنيا والفوز بالجنة، قررا زيارة الأستاذ بعدما رأوا مبشرات واضحة المعنى. رأى المهندس “سالك” "كأن رجلا بجبة صوف بيضاء وطربوش أحمر، أخذ بيده قرب نهر ليوصله إلى منبعه الذي كان صافيا رقراقا". وإن لم يكن ملما بعلم تعبير الرؤا، قال في نفسه ربما الصوف يرمز لمعنى الصوفية والإحسان، والطربوش الأحمر يرمز للسيف والعدل والسلطان... والله أعلم... والذي لاشك فيه، هو أن الله يأمر بالعدل والإحسان: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل:90)
وارتأى صاحبنا “سالك” أن تكون بين يدي الزيارة الخاصة الأولى أو الثانية للمرشد – لا يتذكر- صدقة... عبارة عن بضع صفحات كتبها عن تصوره للعمل الحركي المرحلي. كان ذاك في يوم من أيام الخريف لعام 1982. فاعتبر الأستاذ ذلك غير منصف في حقه، وهو الذي ألَّف تلك الكتب القيمة وذلك المنهاج الواضح المحيط المستبصر بعواقب الأمور... فكانت المناسبة الثانية للشعور بالخجل والحياء... فاقتنع صاحبنا بضرورة التخلي عن فهوماته، و"التربع على الحصير" للتحلي بالصفات الحميدة مما يتدرج عليه السالكون المبتدئون، لا تمييز فيه بين الصغير والكبير، ولا بين المثقف والأمي، ولا بين الغني والفقير... والأمر يستحيل على أبناء الدنيا والجاه والسلطة الممتلئين بأنانيتهم. ولو لم يكن للمهندس “سالك” سوابق في التجربة، لجمع وطوى أوراقه وودع القوم... فلقد يسر الله عليه ذلك بتوفيقه، ثم بما مر في تربيته على يد أبيه، وتجربته الإصلاحية لإدارته، ووقوفه في عرفات في حجته الأولى. ونفعه كذلك جلوسه مع شباب الجماعة الأولى، وقراءته في سير السلف والخلف من شيوخ التربية والمرابطة والجهاد، وسير الفاتحين العظام كما مر ذكره في قصة محمد الفاتح مع الشيخ آق شمس الدين.
تلك هي ممهدات وضوابط الصحبة والجماعة والذكر، التي لا تتيسر إلا بتوفيق من الله اللطيف الحليم، ثم بالزاد الكافي من الصدق والبذل والعلم والعمل وباقي الخصال العشر التي وضحها "المنهاج".
فبدأ الأمر بزيارات متقطعة، ثم بقيام الليل الأسبوعي، ثم بمشاركة تنظيمية إلى أن تم التآلف التام السريع بين الأخ “سالك” وإخوانه في الله. ولم تكن الجماعة حينئذ تضم أكثر من أربعين فردا يتوزعون في القطر... ولم ينته بعد الإخوان من إجراءات التأسيس للجماعة... ثم كان الانضمام الكلي بمناسبة عقيقة الحفيدة الأولى للأستاذ المرشد في شهر فبراير من سنة 1983.
بداية صادقة في مدارج السالكين، تقربا إلى الحق، وطلبا للخلاص الفردي. وتحيزا واعيا مسؤولا إلى الفئة التي سلكت أفضل وسيلة للتدافع الأرضي، طلبا للخلاص الجماعي... و" أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر". لكن السلطان الجائر في تصور المهندس “سالك” أكبر من أن يربط بفرد من الأفراد أو بحزب من الأحزاب، أو بمرحلة من المراحل. إنه سلطان اللاييكية الرافضة للحكم بما أنزل الله. وهو العقل المتحكم والموجه لتيار الإفساد في الأرض، ذلك التيار الذي عرفه لنا رب العزة في قوله: ( وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة:205)
كيف سيتطور نضال صاحبنا ضد ذلك التيار المفسد؟ وماهي التحديات التي ستواجهه في مسيرته مع الجماعة الثانية؟ ذلك ما ستتحدث عنه المذكرات إن شاء الله في الجزء الثالث.
والظرف يدعو للختم بشيء من" دعاء النصر" الذي دأب عليه الأجداد رضي الله عنهم وأرضاهم، كلما ضاق الحال بالمغاربة، يستمطرون به فرجه ودحره للأعداء... والله على كل شيء قدير...
( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الصافات:180- 182 ).
تم بعون الله وتوفيقه الجزأ الثاني من المذكرات يوم الإثنين 13 ربع الثاني 1528، موافق 19 ماي 2008. وقد شرع في تحريره يوم الثلاثاء فاتح ربيع الثاني 1429 موافق 8 إبريل 2008 .