أحاديث منتدى الغرابة
حكايات من نسج الخيال
محمد المهدي الحسني
27 مايو 2014
بسم الله الرحمن الرحيم
خلوة الأمير "مطواع"
مع الشيخ "مناع"
أحاديث منتدى الغرابة
حكايات من نسج الخيال
تنبيه
مقدمة
اعتراف
مظالم
ينبوع
وعد وعهد وميثاق
فرسان الصحراء
فرسان سملالة ... وكنوز الأعماق المخفية
استراحة فرسان
اعتراف
أعذار
ألطاف أقدار
وإذا الأعذار رفعت!!!
الفرسان الجدد
خاتمة
بسم الله الرحمن الرحيم
خلوة الأمير "مطواع"
مع الشيخ "مناع"
تنبيه:
من بلاد أولاد حام ، سنة 2056 !
بعد ثورة الشعوب التي عمت العالم انطلاقا من تونس…
حكايات من عوالم الشهادة، والخيال، والمثال، والغيب، والبرازخ التي بينها، لا يقيدها عقال…
فمن ربط أحداثها أو أشخاصها بما هو موجود في الوجود، فليتحمل تبعات الجحود بتنزيه الخيال عن القيود والحدود…
ولقد رُفِعَ الْقَلَمُ عَنِ الحالم حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ المتخيل حَتَّى يعقل، وعن الطفل حتى يرشد.
طلب الأمير “مطواع” راعي “مؤسسة الحزين” من شباب “منتدى الغرابة” أن يعقدوا له مجلسا خاصا. يريد أن يبلغ عهدا يراه في غاية الأهمية في موضوع التحيز الرباعي الذي تكلمت عنه نظريتهم. كان ذلك سنة 2056 بعد نهضة الأمة وتحالف أقطارها تحت القيادة الراشدة التي أظهرها الله بالسلطان والقرآن لحماية بيضة دين الرسل الذي هو الإسلام.
فلما كان موعد المجلس، صعد الشيخ “مداوي كلوم العرب” إلى منصة المنتدى، يريد رفع رغبة الأمير إلى كافة المتتبعين عبر العالم الافتراضي. قال: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار: ياشباب المنتدى، السيد الأمير”مطواع” يريد أن يخاطبكم… وأستغفر الله لي وله ولكم ولجميع المسلمين، أن تكون مجالسنا مضيعة للوقت وثرثرة من جنس ما يقال عنه ” أسمع جعجعة ولا أرى طحنا “. ولا يليق أن أقدم بين يدي كلام “السيد”، إلا بما يناسبه في السيادة: دعاء “سيد الاستغفار”، يعلمه لنا النبي المختار، صلى الله عليه وسلم في قوله: { سيد الاستغفار أن تقول: ” اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ” } . رواه البخاري. قال شارح الحديث: ” قوله ( سيد الاستغفار ) : لما كان هذا الدعاء جامعا لمعاني التوبة كلها، استعير له اسم “السيد”، وهو في الأصل الرئيس الذي يقصد في الحوائج، ويرجع إليه في الأمور”.
سأل الشيخ مداوي كلوم العرب الشباب، قال: ونحن كنا على العهد. لكن بأي عهد يا شباب العزة والمجد وفيتم، حتى نِلتم هذه الخيرات التي أنتم بها تنعمون؟ فلقد حرركم الله من سجن الحدود الوهمية التي ضربت بينكم وبين أقطار البر والبحر. وجعلكم تمشون في مناكبها، وتأكلون من رزقه… ثروات وطاقات… أتت مؤيدة لممثل المهدي الذي أنتم له ناصرون. تركبون مراكب لم يعرفها آباؤكم، مما صنعت أيديكم. تتحرك بطاقة الهباء المشاع: الناس كلهم فيها يشتركون… مراكب المِسراء السابحات، الغاطسات، الحائمات، السائرات في سهلها، وجبلها، وغاباتها، وبحارها. ويسر لكم سلطان العروج من أقطار السماء بوسائل: {{ لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ }}… وتتواصلون فيما بينكم على شاشات الأينوسفير، أنتم به من كل البقاع متصلون. بمجالس الذكر والفكر عمرتم جهات الأرض، فكنتم طليعة خلفاء الأرض، الذي خلقه الرحمن من أجل الإنسان. فرغ أوقاتكم لعبادته بعدما سخر لخدمتكم جنود الروبوطات المصنوعة من سيليكون الرمل وكرافين الفحم… يحلون لكم ماء البحر الأجاج بالطاقة المشاعة المتحررة من احتكار المحتكرين. يسقون لكم به ويزرعون أراضي الصحاري الشاسعة، وبراري الفيافي القاحلة… وسرعان ما عادت قطعان الغزلان وحمر الوحش إلى مسارحها، وتوسعت وحوش الأدغال في مراتعها… وعاشر الذئب النعجة بوئام وأمان في مراعيها… وليس ذلك سوى النزر القليل مما وعد به الرحمن مهدي آخر الزمان… فتلكم معشر شباب المجد مقدمات ممهدات مؤيدات القطب الظاهر بالسلطان والقرآن…
و{ لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا }. ” حديث صحيح رواه مسلم.
{{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}}. ” سورة الأعراف ـ 96 “.
ولقد علمتم أن الوفاء بالعهد، والسيادة، والفروسية، والشجاعة، واقتحام العقبات، مفردات تطلبها فطرة كل إنسان سوي، في سعيه نحو الكمال الروحي الإحساني، ونحو الاستخلاف الجماعي بقيادة الحكم الراشد المتحرر من أغلال الدجال. قلنا عن تلك المعاني سابقا: كما أن كل المخلوقات يوجد فيها استعداد بالفطرة للترقي عبر أطوار الخلق وطفراته إلى خلقة ” الإنسان الكامل”، كل الأمم توجد فيها إرهاصات واستعدادات للرقي عبر ثورات وقومات إلى مستوى “المجتمع المثالي”. تعددت أسماء “المجتمع المثالي” عند المفكرين والفلاسفة والمصلحين، كالمدينة الفاضلة عند الفلاسفة، والمجتمع اللاطبقي عند الماركسيين، والألفية السعيدة عند الصهيوإنجيليين، والخلافة الراشدة على منهاج النبوة عند المسلمين… ولا تتشعب بنا الأهواء في تحديد طبيعة وأوصاف الإنسان الكامل، وخصائص المجتمع المثالي، ولنا الميزان الذي قامت به الأكوان…
كمال الخليقة ظهر في نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد اندرجت فيه النبوات والرسالات الماضية، وتفرعت منه وراثة، المعارج القدسية المخلصة في الدنيا والآخرة، وراثة اتّباع، لا وراثة تشريع، إذ لا تشريع بعد شرعه…
وكمال المجتمع الذي يسعد فيه البشر وتتحقق فيه شروط العدل الذي قامت به السماوات والأرض، هو مجتمع الخلافة الراشدة على منهاج النبوة. أو قل إن شئت “المجتمع المدني” نسبة إلى المدينة المنورة زمن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، لا نسبة إلى جمعيات المخنتين أوالسحاقيات! … أظهره الله مدة ثلاثين سنة ثم طواه وجعله مثالا يحتذى، تتطلع إليه جميع الأمم.
سذاجة في الفكر، وانحراف في الفطرة، وخواء في الروح، وخسة في الطموح، إن تعلقت الآمال والأقوال والأفعال والأحوال بشيء ينسينا تلك الحقائق، ويحول بيننا وبين ذلك المشروع المشترك العظيم، وبين شرف النضال من أجله.
فلما انطلقتم يا شباب النضال القاصد من هذه الأعماق الاستراتيجية، كانت الفتوحات باهرة في كل المجالات…
فمن كان منكم يصدق أنكم ستصبحون من “أهل الخطوة” في طي مسافات الفرق التكنلوجي الذي كان بينكم وبين بني إسرائيل في بضع سنين؟ ومن كان منكم يتوقع أنكم ستغدون من “أهل النظرة” في التنظير وفي استيعاب علوم الأولين والآخرين ولو كانت معلقة في الثريا؟ ولم يكن ذلك سوى النزر القليل من المؤيدات التي خص بها ربنا قطبه الظاهر بالسلطان والقرآن. شملكم الله بنقطة من بحرها لما كنتم في طليعة المتحيزين إليه، كرارين غير فرارين من ميادين المبارزة الحضارية الحقة، رهبان الليل فرسان النهار، في مقاومة دولة التلمود التي كنتم من عبيدها قبل سنين، مذلولين محرومين كالأيتام في مأدبة اللئام.
وختم الشيخ مقدمته بين يدي الأمير”مطواع” فقال: ” لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل”. والكلمة لأهل الفضل، فقوموا لسيدكم وكافئوه بما يستحق من معروف يا شباب مؤسسة الحزين. وكونوا من المتبعين لسنة نبيكم في شكر الله وشكر الناس. قال صلى الله عليه وسلم وعلى آله: { ومن أسدى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له }.
فلما أقبلت طلعة “الأمير” البهية إلى منصة البروز، قام له الشباب قومة رجل واحد في كل المنتديات التابعة لمؤسسة الحزين. فظهرت صفوفهم مرتبة منتظمة كصفوف المصلين في محاربها، أشبه ما يكون بصفوف حزب الله الذي ظهر من قبل في الشام. قومة محبة صادقة، وشكر وتقدير على أعمال الرجال، وخصال الفرسان، وهمة الأبطال…
ثم رجع الناس إلى مجالسهم منصتين، وبقي الأمير وحده قائما في منبره ليبلغ رسالته… فحمد الله وشكره وصلى على نبي الهداية وعلى آله، وقال: ما كان لمشروعنا المشترك أن ينجز ما أنجز لولا توفيق ربنا الخبير، أسأل الله القدير أن يجازي خير الجزاء كل المساهمين والمتتبعين والساهرين على تحرير الأمة من ثقافة الانهزام والخنوع، المنتجة لعلماء الفتنة والانتحار، ولأمراء الخضوع والاستقواء بالصهاينة الأشرار…
دخل الأمير في صلب الموضوع بعد أن طوى صفحة أعدها من قبل، يريد أن يقرأ منها، فعدل عن ذلك وقال: ستكون مداخلتي منسوجة في غير منوال… دردشة بدون تكلف… وتلقائية بدون تنطع… وصراحة بدون تصنع… نيتي المساهمة في العلم النافع الساعي إلى وحدة المسلمين، وأعوذ بالله من علم لا ينفع… أعوذ بالله من ثقافة جعجعة الرحا الخاوية التي تطحن نفسها. طحنا يعدمها، فهو عين الانتحار… جذورها تتصل بهزلية: ” Much Ado About Nothing ” الشكسبيرية. تبثها التحريفات والتزويرات المردوخية، من أعلى بروج الأعراب المتطاولين في البنيان. كادت أن ترديني يوما في تفاهة زخرف الدنيا وزينتها لولا لطف الله…
وأحمد ربي الذي أنقذني من ذل التبعية للثقافة اللاييكية العرنسية، وثقافة قنوات “أكشنها” الروتارية، يبثها إعلام المخلفين من الأعراب. هدر ممسوخ يبعث الغثيان في الأحشاء، والآذان لسماعه تكاد تنفطر.
ثم توسع الأمير في كلام عن ظروف توبته فقال : كدت يوما أن اتخذ أصلا لمفردات العزة والسيادة والفروسية من أدب التنوير اللاييكي الذي مهد لِعُلُوِّ دولة “العلمانية التلمودية” على نقيضها “دولة السلطان والقرآن”. ولا أدري لم حافظت ذاكرتي على أوزان دون غيرها من أدب الفرنجة…أبيات من شعر ” السيد ” لصاحبها “كورناي” تقول :
!Ô rage ! ô désespoir ! ô vieillesse ennemie
?N’ai-je donc tant vécu que pour cette infamie
Et ne suis-je blanchi dans les travaux guerriers
?Que pour voir en un jour flétrir tant de lauriers
Mon bras qu’avec respect toute l’Espagne admire
Mon bras, qui tant de fois a sauvé cet empire
Tant de fois affermi le trône de son roi
?Trahit donc ma querelle, et ne fait rien pour moi
!ô cruel souvenir de ma gloire passée
!Oeuvre de tant de jours en un jour effacée
إلى أن اكتشفت أن ” السيد ” الفرنسي اقتبس فروسيته من ” أسياد ” المغرب والأندلس المسلمين، في نفس زمن دون كيشوط وكورناي وشكسبير…
علمت ذلك في بدايات صحوتي. لم يتجاوز عمري يومئذ عقده الثاني.
قبلها كانت لي فطرة سليمة تمج التصابي، الذي سرى واستفحل في أقراني وأترابي، ” بفعل فاعل، دُبِّر بليل “… آخر عهد لي بالتفاهة كانت تلك المصيدة التي قرأت قصتها في صحيفة وقعت في يدي. ” قصة خنزير الغابة “. وقد كنت أحد “فرسانها الصناديد”… فمقتت نفسي مقتا شديدا…
ثم ساقت إلي الأقدار ” دعاء الحزين” من بيوتات الشام. معبرا على أسفي على انقلاب الدهر على أمتي. ثم كانت رحلة الهروب من الزلات… والحذر من المنكرات… وحب المساكين…
والتمست عملا يكفر عني المبيقات… فكانت قربات نرجو الله أن يتقبلها. من جملتها “مؤسسة الحزين”. وكان بعدها الوفاء بشرط التوبة الصادقة: رد المظالم إلى أصحابها. مراعي وغابات شاسعة، ومحميات صيد يانعة، من الأملاك العامة التي يحرم الشرع امتلاكها… تخلصت منها ورددتها إلى بيت مال المسلمين. وغيرها من براهين التوبة الصادقة…
وقبل تلك البراهين، انبعثت في جنباتي أشواق إلى مضاجع الأسلاف… أردت الارتواء من المنابع الصافية الطاهرة، عوض التضلع من المياه المردوخية الضحلة. فكانت لي معالم واضحة المعاني في طريق التوبة… أعظمها أثرا في حياتي ساعة قضيتها في حضرة روح “الشريف” أتاني من عالم الأبعاد المطوية. واجتمعت به في عالم المشاهدة المنامية، تهجم على المتأرجح بين الحقيقة والخيال، في تقلبات الأحوال، عبر برازخ الرؤى والأحلام.
كانت لي خلوة أيام، وانسحاب تام، من صخب الدنيا، في أطلال سجلماسة. دخلتها متنكرا ذات يوم شديد القيظ… وقصدت ضريح ” الشريف”… وبعد تأدية آداب الزيارة، هجمت علي إغفاءة شفافة، في ركنة من الضريح، سميك ظلها، يحفها نسيم النخيل العليل، وتغشاها سكينة غريبة، لا تسمع فيها لاغية، ما خلا خرير ماء نافورة أندلسية، وزقزقة الحميرة، عصفورة الأطلال، زائرة الديار، تأتي بخير الأخبار… ثم تعود إلى أعشاشها في ثقب الأسوار، حيوطها الشامخة العكرية، تحمي تاريخ الظهور بالحق والجدية: حق القرآن وجدية السلطان.
قال الأمير متسائلا: فيا ترى، ما عسى المرء يرى، في قيلولة ناعمة، في مثل تلك الظروف الآمنة، إن لم يكن جثة فوق التراب باردة هامدة، غليظ الحس، فاقد الشعور، منحرف الطبع؟
فأجاب نفسه بقص ما سيق له في خلوته من لوامع الأبعاد المطوية، وبوارق البرازخ البينية. فقال: ما زاغ بصر قلبي عما رآه متربعا فوق الضريح… طيف روح “الشريف”، خاطبني بكلام لطيف… صوتا ينشد من أوزان النغم الملحون… بلكنة فيلالية، حروفها تخرج عبر مقاطيع حلق كهف الزمان الغابر، أنشد فقال:
تـغـيـرت الأحـوال وانـقـلب الدهـرُ *** وصار خيارُ الناس لـيس لهـم قدرُ
وصار شرار الناس يعلوا خيارهم *** فما أوحش الدنـيـا وما أأنس القبـرُ
وفـي هـذه الـدنـيـا أمـور عـجـائـبٌ *** يعـز بـهـا نـذل ويـشـقـي بهـا حـرُ
فـكـم من خسيس الأصل زينهُ الغنى *** وكم من كريم الأصل دنسهُ الفقـرُ
وما كنتُ راضٍ من زماني بما تري *** ولـكـنني راضٍ بـمـا حـكـم الدهـرُ
فإن كـانـت الأيام خـانـت عـهـودنـا *** فـإنـي بـهـا راض ولـكـنـهـا قـهـرُ
تابع الأمير قص مشاهداته الشفافة، في أطلال سجلماسة، وقال : سكت هنيهة “الشريف ” الفصيح، بعدما سكب زفرات الأسى على جنبات الضريح. ثم سمعته يقول قولا لست أنكره، فكأني سمعته من قبل: ” خلصوا الصبيتين خلصكم الله !!! خلصوا الصبيتين خلصكم الله !!!” لست منكم ولستم مني إن لم تفعلوا. ثم سكت واختفى في التراب كأنه لم يكن…
قال الأمير: فبينما أنا في حيرة من مشاهدتي، ومما طرق سمعي ومخيلتي، ظهر لي طيف روح رجل آخر انبعث من الثرى قرب مضجع “الشريف”. قدم نفسه باسم ” الشيخ مناع “، ثم أنشد على ميزان وقع سماع، تهتز له أرواح الهائمين في حب الله:
أهل المحبة بالمحبوب قد شغلوا = وفى محبته أرواحهم بذلوا
وخربوا كل ما يفنى وقد عمروا = ما كان يبقى فيا حسن الذى عملوا
لم تلههم زينة الدنيا وزخرفها = ولا جناها ولا حلى ولا حلل
هاموا على الكون من وجد ومن طرب = وما استقل بهم ربع ولا طلل
قال الأمير : سألته عن ذلك الروح المتوجع الذي برز طيفه فوق الضريح. ولماذا لم يكلمني فكأنه غضبان عني؟ فدعاني الشيخ إلى ركن ذي ظل كثيف، على مسافة من ” الشريف “، كأنه يروم الحفاظ على سكينة الأحزان التي تحف مضجعه…
ثم قال “الشيخ مناع” بصوت خافت:
هـذا الــذي تـعـرف الصحراء وطـأتـه == والـبـيـت يـعـرِفُــه والــحــلُ والــحــرمُ”…
ثم قال : كان للمشرق ساداته… منهم من قال فيهم الفرزدق ما قال، بذكر البطحاء… وهو الإمام السجاد رضي الله عنه صاحب دعاء الحزين. وهذا سيد سادات الصحراء الكبرى التي كانت لا تعرف سجن الحدود الوهمية. أهم خصلة عرف بها، الإمارة تطلبه وهو يهرب منها. فكان من أولياء الله الذين قيل فيهم: لم تلههم زينة الدنيا وزخرفها = ولا جناها ولا حلى ولا حلل. وبقدر ما يزهدون في الإمارة، بقدر ما يصر الناس على التعلق بهم كما ذكره تاريخ النسب، لا لحاجة في نفس يعقوب، إنما لحماية الديار وبيضة الإسلام من خطر دولة الدجال.
واستدرك الشيخ ليبين الفرق بين الحرص عليها والزهد فيها فقال : لكن الحريص على الإمارة تحت راية دولة الدجال المهيمنة في زمانكم، مذموم عند الله وعند الناس. القرآن فضح نيته، فأصبح غدره للعهد والميثاق مكشوفا للعيان. فكأن القوم لا يقرأون القرآن..
وفي تذكير بالعهد الذي بين عامة المسلمين وأمرائهم، قال “الشيخ مناع”: المغاربة عربهم وعجمهم كانوا يتنافسون ويتداولون في البحث عمن تتوفر فيهم شروط السيادة بالمفهوم الذي حددوه، عهدا متجددا بين عامة المسلمين وخاصتهم وبين الله ورسوله… وكانوا يلفظون كل ذي دعوى لا يقيم الدين كله، يشتري به ثمنا قليلا من رضا اليهود والنصارى، غير مكترث بتحذير ربه في قوله عز وجل : {{ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }}. ” آل عمران ـ 77 “.
وبقدر ما كان المغاربة يحرصون على مصالحهم التي تلخصها مقاصد الشريعة الخمسة، وعلى رأسها مصلحة الحفاظ على دينهم، وليس على دين العلمانية التلمودية التي سيطرت على معظم حكام العرب في زمانكم، بقدر ما كانوا يلتمسون السيادة والإمارة في الذين أوصى بهم الشرع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما }. ( صحح الحديث الألباني في السلسلة الصحيحة 356 / 4. ونظير الحديث متفق عليه عند جميع مذاهب المسلمين سنة وشيعة…).
ثم أشار “الشيخ مناع ” إلى مضجع “الشريف” وقال : وهذا واحد من أولئك الموصى بهم. جئنا به من “الينبوع” الصافي، وعقدنا معه العهد المقدس. وهو نفس العهد الذي كان أساس دولة الخلافة النبوية. قال النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله للأنصار في بيعة العقبة الثانية: { أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم . قال كعب : فأخذ البراء بن معرور بيده وقال : نعم ، فوالذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع أزرنا ، فبايعنا يا رسول الله ، فنحن – والله – أبناء الحروب ، ورثناها كابرا عن كابر، فاعترض هذا القول – والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم – أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال – يعني اليهود – حبالا وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال : فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : بل الدم الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم }.
وهنا ذكر الشيخ أصل لقبه الذي سرى في ذريته من بعده. قال : فلما كنت من الركب الذين استقدموا أجداد “الشريف”، ونصروهم ومنعوهم من أي مكروه، صرت معروفا باسم “مناع”. وسرى الاسم في ذريتي التي بارك الله فيها فصارت قبيلة خمسة أخماس “ذوي منيع”. والقبيلة انتشرت في الصحراء الكبرى غير معترفة بسجن الحدود الاستعمارية. وكانت هي عماد الملك وعضده، الذي سرى في ذرية هذا الشريف بعد وفاته بثلاثة قرون. فهي في الأصل دولة جزائرية مغربية إفريقية، تابعة لخلافة آل عثمان الجامعة للسلطان والقرآن في تلك الأزمان.
فلما سمع الأمير تلك الأخبار العجيبة لام نفسه على جهله بعلم “صناعة التاريخ” وعلاقتها بقوانين الطبيعة والشريعة والقدر. واعتبر ذلك الجهل من إفرازات الثقافة التي تبعدنا عن تكنولوجيا الاستخلاف والتمكين لدولة القرآن والسلطان… وعن واجبات الحذر من دولة الدجال التلمودية… ومقابلة خطر عدوانها بالرد الصارم… الدم الدم!! والهدم الهدم!!
ثم لخص “الشيخ مناع” مطلب المغاربة في الأسياد عبر القرون فقال : الثابت في العهد الذي بيننا هو توفير شرط الظهور بالقرآن والسلطان. الظهور بكتاب الله يعني إقامة عدل شرع الله. والظهور بالسلطان، يعني التحلي بالشجاعة وبناء القوة المادية، التي تمكن الشعوب، بزعامة أميرهم المجتبى، من التحرر من دولة الدجال، وتحرير بلدانهم وحماية ثغورهم.
ويوشك تاريخ المسلمين أن يختزل في محاولات تحقيق ذلك المشروع المشترك. من بين تلك التسديدات، ما يذكره التاريخ عن أصول دولة تافيلالت العربية وعلاقتها بهذا ” الشريف” العلوي الحسني الذي عرف عتاة الحرب الصليبية صولته. حرر بعض ثغور الأندلس والمغرب من الزحف الصليبي الاسباني والبرتغالي في القرن الخامس عشر للميلاد. وأمر هذا السيد والله عجيب! فلما حرر طنجة من الغزو البرتغالي سنة 1437م. وجاهد الغزو الصليبي في الأندلس، فكانت له 28 معركة جلها مع الصليبيين القادمين من كل أوروبا بأمر البابا، وكانت له فتوحات في أدغال إفريقيا الوثنية، ربما لم يكن في زمانه أحق منه في الإمارة. لكنه أعرض عنها وزهد فيها لما علم كما يعلم أولياء الله، أن المسؤولية عرض من الله، لا إكراه في تحملها أو رفضها. وتركها أولى لأنها حسرة وندامة يوم القيامة. لكن من قبلها بعد عقد العهد المقدس، بإقامة الدين كله، كتب الله له مَلَكا يسدده في أمورها، وبطانة خير يستعين بها. ومن زهد فيها وهي تطلبه، صار وليا في الباطن ممدا لأمير الظاهر.
فرسان سملالة وكنوز الأعماق المخفية
كان كلام الشيخ ملهما لأميرنا الداخل في خلوته حين جهر بما جال في خاطره فسمعه الشيخ يقول: فليهنأ ذلك الزعيم المغرور، الذي يقول للناس إن لم أكن أنا قائدكم فأنتم هلكى لا محالة. فلو كان صادقا مع الله، فأولى له أن يتحيز إلى إمام زمانه الذي أظهره الله بالسلطان والقرآن وفاء للعهد المقدس وسعيا في رد عدوان دولة الدجال…
فوافقه الشيخ فقال: تلك من اليقينيات الثابة التي لا يدرك خطرها إلا أصحاب الأعراف في الآخرة، وأهل البرازخ الوجودية من الملامتية المخفيين في الدنيا… وفعلا كان السيد “علي الشريف” رحمة الله عليه من الزاهدين الأخفياء الأتقياء الأنقياء الملامتية الممدين للدولة السعدية. تلك الدولة المجيدة التي نافس بها في الخير أمازيغ سملالة من السوس الأقصى، إخوانهم فيلالة عرب سجلماسة. فكان لدولة الأشراف السملاليين السعديين الظاهرين في قرنهم، ذلك النصر المبين في معركة وادي المخازن المشهورة سنة 1578م.
ثم قال طيف روح الشيخ “مناع” قولا غريبا لا يمكن لأحد هضمه، إلا إن كان يستمد وعيه من ثقافة منتدى الغرابة. ربما كنت قد سمعته في قصة كنوز الأعماق المخفية: قال: ومن مقامي البرزخي هذا أنقل {{ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}} صرخات أرواح شهداء وقعة وادي المخازن، وغيرها من أرواح شهداء الغزوات الصليبية، التي ردها المغاربة وحدهم بدون معين سوى الله. يطالبون أحفادهم بإقامة ما لهم وما عليهم من حقوق وواجبات شرعية في البرازيل… بالانضمام إلى “حلف بريكس”.
قال الأمير : فحيرني ما أخبر به الشيخ، وتعجبت من فقهه لواقعنا الحاضر وهو من أرواح القرون الغابرة…
ثم خلص الشيخ إلى عبرة توضح لمن اعتبر أن الملك بيد الله يوتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء… فلا تنفع حيلة العبد في إقباله أو إدباره… فقال : بعد قرنين من تاريخ نكبة الأندلس، قدر الله الظهور إلى عرب كير وفيلالة بزعامة أحفاد السيد الزاهد علي الشريف السجلماسي. وكان لهم ما كان من مقاربات وتسديدات للرشد في بناء الدولة الظاهرة على مدى ثلاثة قرون بداية من سنة 1640م. وكانت قبيلتي العربية ” ذوي منيع” دائما بجانبهم، بل هي عضد سلطانهم ونعرة بأسهم… فتم ذلك التداول التوافقي القدري السلس، مع أمازيغ سملالة الأمجاد. وقدر التداول ينبئكم بخبر أرفعه لكم من مقام البرازخ المطوية: لقد جاء دور أولاد حام في تداول الأيام، لما فقدت دولتنا مشروعية الظهور بالسلطان والقرآن، يوم خضوعها لشروط مفاوضات ” إيكس ليبان” المخزية سنة 1955م. فانتقض شرط الممانعة من خطر يهود الذي نصت عليه بيعة العقبة الثانية… ولقد استرق كهان العلمانية التلمودية سماع تلك الأخبار، فأرادوا أن يستعملوها استعمالا ماكرا لإشعال الحرب بين العرب والأمازيغ. فكان ذلك “الظهير البربري” الذي دفعته الألطاف الربانية استجابة لدعاء اللطيف المشهور: “اللهم يا لطيف نسالك اللطف فيما جرت به المقادير. لا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر”…
إلى أن ذكر “الشيخ مناع” كلاما من قبيل الرموز المبهمة التي استعصى علي فكها. قال: “ دلائل الخيرات” تدعوا أهلها أسياد سملالة لترويض جنوب بحر الظلمات من ثغر “عقبة بن نافع”… إلى جزيرة الأسرار… وما وراءها… وفاء لشهداء وادي المخازن…
و” البردة ” تدعوا أسياد فيلالة لترويض شمال بحر الظلمات انطلاقا من ثغر ” طارق ” إلى “جزيرة الشجعان” وما بعدها. وفاء لشهداء طنجة… فافهم…
قال الأمير متعجبا : وهنا ظهر لي أن فقه “الشيخ مناع” يدور مع الحق حيث دار، لما أعلن أن دولة قومه من عرب الصحراء الكبرى لم تبق على العهد والميثاق… فأردت مناقشة هذا الحكم مع “مناع” لأن نفسي لم تنفطم بعد عن ضرع العصبية النتنة … فقلت له مغاضبا غضبة فيلالية الأصل: الأمر يا سيدي هكذا، قطعي بهذا الوضوح: إما مشروعية التلمود وإما مشروعية القرآن؟ فأجاب بقول أظهر لأميرنا أن الشيخ مناع كان مؤيدا كذلك بعلم السيمياء الذي وهبه الله لسيدنا آدم فأقنع به الملائكة فاعترفوا له بالخلافة.
قال الشيخ مفسرا لفهمه المتميز: أخبرنا ربنا عن بداية “الخلافة” فقال عز وجل: {{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ. وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }} ” البقرة : 30 ـ 31 “. والخليفة مجلى ومظهر لأسماء الله الحسنى كلها ما عدا العظمة والكبرياء. قال سبحانه في حديثه القدسي: { “الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني فيهما قصمته ولا أبالي”} وأسماء الله هي كلماته التي لا تحصى، فهي الوجود كله المدرج في الإنسان… أي عالم الخلق وعالم الأمر : {{ ألا له الخلق والأمر}}. عالم الخلق: الطبيعة وقوانينها التي تيسر وسائل التصرف في المملكة… وهو السلطان. عالم الأمر : الشريعة التي تبين للخليفة قوانين غايات التصرف في المملكة. فيقيم الخليفة العدل الكلي الذي يحترم كلمات الله الكونية والشرعية.. فإن تخلى عن العهد بالإخلال بأحد الشرطين فهو معزول شرعا وطبعا واصطلاحا…
وفي وصف تقشعر منه الجلود، بين “شيخ ذوي منيع” ما ينتظر الأمة من أهوال عندما ينضم أمراؤها إلى حلف الدجال… عوض التحالف مع مجدد القرن الظاهر بالسلطان والقرآن. قال الشيخ :
ربما كان لأمراء الطوائف أعذار في نقض الميثاق في القرن الماضي قبل ظهور قطب القرن الحالي المؤيد بالسلطان والقرآن… فكان خضوع الحكام لشرط الولاء لدين اللاييكية وهي العلمانية التلمودية التي تفرق بين السلطان والقرآن، يعني شرعا واصطلاحا وواقعا سقوط الخلافة العثمانية سنة 1922. وهو نفس الشرط التي خضع له من قبل أعراب الجزيرة فباعوا القدس وفلسطين لدولة الدجال بعدما تحالفوا مع اليهود والإنجليز ضد الخلافة العثمانية الشرعية. وهي نفس أحوال الدولة العربية المغربية، لما خضعت إلى شروط معاهدة ” إيكس ليبان”…
وفصل الشيخ فقال:لقد كان القرن الماضي قرن دولة العلمانية التلمودية بشقيها : الصهيوأعرابي، والفرنكوأعرابي… وكان أمراؤها من خدام الأعتاب التلمودية، فلم يتحقق لهم الظهور بالسلطان والقرآن:
جُرّدوا من القرآن فحكموا الناس قهرا بقوانين العلمانية التلمودية المزورة لشرعة الرسل…
وحُرموا من السلطان أي من القوة الذاتية، فليس لهم تنمية صناعية ولا قوة من صنع أيديهم ومن ابتكارهم، يدافعون به عن أنفسهم وأوطانهم وثرواتهم المستباحة. فصاروا مجرد دمى تتحكم فيهم خيوط سدنة الهيكل.
قال الأمير يريد تحصيل الحاصل ليستقر ويثبت في ذاكرة “توبة التاريخ“: يا شيخي الكريم، فكأن ميثاق بيعة العقبة الثانية البانية للخلافة، انتقض لما لم يف الحكام بحماية شعوبهم من يهود التلمود، طبقا للبند الذي ينص على ” الدم الدم، الهدم الهدم “. وتُرجم ذلك على مسرح أحداث القرن الماضي في تحالف الحكام العرب مع المحتلين لهدم بيوت المستضعفين، وسفك دماء المسلمين. فكل زعامة ظهرت آنذاك، إنما هي خادمة للأعتاب العلمانية في وظيفة قمع الشعوب من أجل إخضاعها لدولة الدجال التي نصبتهم، بعدما عجزوا ثم أسقطوا فريضة جهاد المحتلين لثغور المسلمين، وعلى رأسها القدس الشريف.
فأجاب الشيخ متأسفا، وهو المطل من مقام الأعراف البرزخية في لوح “ليس في الإمكان أبدع مما كان”، وقال: كانت تلك هي أحوال المسلمين في القرن العشرين الميلادي. تمزقت الأمة شذر مذر وظهر الفساد في البر والبحر وتخلفت الأمة في كل الميادين… ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال الأمير: اسودت الدنيا أمامي لما سمعته من الشيخ، ولما توقعته في انتظاري عند جلوتي بعد خلوتي، فما وسعني سوى الامتثال لأمر ربي : {{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ …}} إلى أن سمعت البشرى…
استدرك الشيخ وقال مبشرا: لكن اقتضت الألطاف الربانية أن يكون أمر الأمة تتحكم فيه كذلك القوانين القدرية، وليس فقط قوانين الشريعة الأمرية وقوانين الطبيعة الخلقية المادية {{ … أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }} ” الأعراف ـ 54 “. من ضمن تلك القوانين القدرية : قانون التداول على الأيام بين الناس، وقانون المن على المستضعفين وتدمير المستكبرين المترفين، وقانون تجديد الدين على رأس كل مائة من السنين… وغيرها.
لقد تحقق في القرن الماضي قدر تجديد الدين للمسلمين على يد أولياء اختاروا الخفاء على الظهور، لما رأوا تقاعس العرب عن حمل مسؤولية إقامة الدين كله. وبحكم قانون قدري آخر يفهمه اللبيب من حكمه عز وجل: {{ وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}}. ” الأنعام ـ 129 “، والذي يفسره التأويل القائل: { كيفما تكونوا يولى عليكم }، بحكم ذلك التفاعل الثقافي الغريب بين الأمراء والعلماء والشعوب، يكون قدر البطون أوالظهور لمجدد القرن الممهد للمهدي.
قال الشيخ مناع: وبسبب ثقافة التخاذل والانبطاح وخفوت معاني الفروسية والشرف والسيادة، كان مجدد القرن الرابع عشر الهجري المنصرم من خلفاء الباطن. ولربما كان هو الإمام حسن البنا والله أعلم. على أي حال، رغم أنه رحمة الله عليه كان بين “حسد أعدائه وخذلان أحفاده” كان من أخفى آثاره وأخطرها في نفس الوقت: إمداده بفكره التجديدي لأولياء الظاهر للقرن الخامس عشر للهجرة ـ الواحد والعشرين للميلاد. وعلى رأسهم الإمام الخميني رحمة الله عليه. فتلك هي السلسلة الذهبية الرابطة بين المجتبين من أقطاب الدنيا والدين، وبين المتداولين على نصرتهم من العرب والعجم الممهدين لمهدي آخر الزمان.
قال الأمير “مطواع”: لم تكن في ذلك الحين ظهرت ” نظرية التحيز” التي فتح الله بها على “مؤسسة الحزين”. فلم تتوفر لي المفاتيح العلمية لفهم الماضي والحاضر والمستقبل…ولم استطع استيعاب أفكار الشيخ، التي لا أكاد أسمعها إلا من المصادر المردوخية التي تحرف الكلم عن مواقعه وتخطط لإشعال الحرب بين الشيعة والسنة. فجددت تركيزي لفهم ما يصلني من السابحين في البرازخ المطوية، وشهادات الأعراف المخفية. فسمعت الشيخ يقول: وهكذا توجهت الألطاف الربانية بحكم قوانين القدر فجعلت السلطان والقرآن في إخوان سلمان الفارسي رضي الله عنه، بزعامة العترة العلوية الحسينية المتداولة مع العترة العلوية الحسنية، تنفيذا لوصية نبي الهداية صلى الله عليه وسلم وعلى آله ولقدر التداول. تواترت أخبار الوصية عند فرق المسلمين أجمعين بصيغ متقاربة. منها : ما أخرجه الطبراني بإسناده عن زيد بن أرقم قال : نزل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم الجحفة، ثم أقبل على الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : { إني لا أجد لنبي إلاّ نصف عمر الذي قبله، وإني أوشك أن أدعى فأجيب ، فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نصحت. قال : أليس تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق والنار حق، وأن البعث بعد الموت حق؟ قالوا : نشهد، قال: فرفع يديه فوضعهما على صدره، ثم قال : وأنا أشهد معكم. ثم قال: ألا تسمعون! قالوا : نعم. قال : فإني فرطكم على الحوض وأنتم واردون عليَّ الحوض، وإنّ عرضه أبعد ما بين صنعاء وبصرى، فيه أقداح عدد النجوم من فضة، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين. فنادى منادٍ : وما الثقلان يا رسول الله ؟ قال: كتاب الله، طرف بيده عزّ وجل، وطرف بأيديكم، فاستمسكوا به ولا تضلّوا. والآخر: عترتي. وإنّ اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض إن الله مولاي وأنا ولي كل مؤمن من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. }.
ولمن يريد زيادة في التوضيح، فليتدبر قانون القدر الذي جاء في كتاب الله. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية {{ وَإنْ تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ ثُمّ لا يكُونُوا أمْثالَكُمْ}} ” سورة محمد ـ 38 “، قالُوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولّينا استبدلوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب على فخذ سلمان قال: «هَذَا وَقَوْمُهُ، وَلَوْ كانَ الدّينُ عِنْدَ الثّرَيّا لَتَناوَلَهُ رِجالٌ مِنَ الفُرْسِ».
وقبل أن يرجع إلى التراب الذي ظهر منه، كان آخر كلام طيف “الشيخ مناع” رحمة الله عليه قوله: العلم إمام العمل… تزود يا سيدي بالعلم المانع النافع لقومك عند علماء الثريا. فلربما كنت على سابق معرفة بما أنجزه أسلافهم في مجال علوم الطبيعة وعلى رأسها الرياضيات. إحياؤها من جديد يسر لهم التحكم بخواريزميات “الصفر والواحد” على صواريخ ورادارات وروبوطات السماء والأرض. ذلك هو شرط السلطان الذي منعه الله الحكيم الدولة الصهيو أعرابية بشقيها…
واطلب تجديد علوم الشريعة لقرنك مع علماء الثريا كذلك، فهم لا يطالبونك بترك مذهب مالك لأن مالك نفسه من فقه جعفر الصادق يغترف، وكلهم من شريعة القرآن ومذهب محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله مقتبس… في غير طائفية يؤجج نيرانها يهود. أو عصبية جاهلية، أمرنا بتركها لأنها منتنة لا تسود.
وذلك هو شرط القرآن الذي حرم منه زعماء الأعراب، فأصبحوا كفارا ينحرون أهل القبلة … فحقت عليهم شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله : { لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض}… عوض الوفاء بعهد رسول الله ” الدم الدم الهدم الهدم ” لمن اعتدى على حرمات المسجد الأقصى وما حوله.
ثم ختم طيف روح ” الشيخ مناع” نصيحته وقال: فما بقي لقومك من عذر، كما كان لهم في القرن الماضي… قبل زمان الظهور والمنعة… ومَنَعَة الفرسان الجدد، ربما أعانتك لتلبية نداء ” الشريف” الغضبان. {{ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ.}}، وإن أقدمت، كانت لك منعة {{ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}} وموعدنا الحوض إن شاء الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين…
قال الأمير الثائر ضد الفساد في المجلس الذي خصص له ليبلغ رسالته: تسارعت الأحداث علي لما خرجت من خلوتي في أطلال سيجلماسة…
فكان “دعاء الحزين” دواء لحزني على أمتي…
وكانت مبشرات واضحة وجهتني في حيرتي…
وكان ما تعلمون من فتوحات للأمة، ساهمتم فيها لما داويتم كلوم العرب ببلسم الفروسية الجديدة..
جددت للعرب أخلاق التواضع لله ولرسوله وللمؤمنين، وشيم العزة على الكافرين، والذلة على المؤمنين، والتسليم لقدر التداول بين الوارثين، الظاهرين بالقرآن المبين، وكذلك بالسلطان المكين، ولأمر التحالف والتآزر والتعاون بين أقطار المسلمين، وشرف التنافس في الخير بين العرب والعجم من أهل القبلة الصالحين المصلحين، يجمعهم مشروع المقاومة من أجل تحرير فلسطين، وسائر أقطار المستضعفين، من دين التلمود المتمرد على شرعة الرسل، في آخر نسخة لها لم يطلها تزوير أحبار السوء المتضلعين بدماء السحر الأسود.
وكان في المجال الفني ذلك الإنتاج السينيمائي الذي هجمت علي فكرته وأنا في خلوتي في ضريح الشريف، استطابة لروحه المتوجعة. يحكي ملاحم ذلك الفارس الزاهد التي قل نظيرها في التاريخ. ولم يتيسر إنجاز مسلسلاتها، إلا بعدما أنقذنا الله من فتنة سجن الحدود الوهمية التي كانت تقطع بين الأرحام. فالقبيلة التي كانت تشكل عصب جيش الشريف في الأندلس والمغرب والجزائر ومالي والنيجر وغيرها، هي قبيلة “ذوي منيع”، المنتشرة في الصحراء الكبرى بين تافيلالت المغربية وكير الجزائرية وتنبوكتو “المالية ” و”أكدج” النيجرية. فكان أول إنتاج متحرر من ثقافة دين العلمانية التلمودية. شراكة بين “أفلام الثريا” في إيران ومخرجين من الشام، والأندلس. ولقد مد الله في عمر ممثلين وممثلات ومخرجين ومخرجات برعوا في إنتاجات تراثية أمازيغية قبيل الحرب العالمية الثالثة، فكانوا من المشاركين في الإنتاج المتحرر… إخراجات متقنة، استطاعت أن تؤلف بين راكبي الجمال من ذوي منيع، وفرسان كير وتافيلالت وحلف “آيت ياف المان”، ومقاتلي الأدغال في مالي والنيجر. ولم نتمكن من ذلك أيضا حتى حرر أولاد حام في العالم الجديد ستوديوهات هوليود ووارززات من هيمنة عصاة بني إسرائيل. والحمد لله رب العالمين، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين…
فلما ختم الأمير بلاغه المبين، وقف شباب منتدى الغرابة وصفقوا طويلا تعبيرا صادقا لمشاعرهم تجاه الفرسان الجدد.
صعد مداوي كلوم العرب إلى المنصة لختم المجلس المبارك فقال: رجوعا بنا إلى الحاضر: ونحن نستعد لذكرى المعراج النبوي لسنة 2056، يكون قد مر علينا قرن من تاريخ مفاوضات “إكس ليبان” المشؤومة التي دشنت قرن العلمانية التلمودية، وهو استعمارفكري أخطر من الاستعمار العسكري الذي كان قبله… لم يتحرر منها البلد إلا بعد الحرب العالمية الثالثة بعد سريان ثقافة المقاومة التي كنتم من فرسانها الجدد. ذكرنا “السيد” عبر جولته في مذكراته، بظروف البدايات الصحيحة. ومن صحت بدايته أشرقت نهايته… والعكس يقول عنه المثل المغربي: قالوا سقط الفارس قالوا خرج من الخيمة مائلا!!!
فتأمل يا أخ العرب ما وقع لك ولأمتك على ضوء هذه الحقائق التي لا يتجاوزهن بر ولا فاجر. بعد ربيع العرب الذي وجهوه لكي يخدم المشروع الصهيوني بضرب السنة بالشيعة والعرب بالعجم، كان الأمر قد اختلط عليك، وتضببت أمامك الرؤية، وفقدت الوجهة. فلما سئمت من التسكع في دروب الثقافة المردوخية التلمودية المنتجة لفقهاء “الناتو” المتناحرين بينهم، ولزعماء الانحطاط وضياع المسجد الأقصى، والمغذية لغثائية الشعوب المستخف بهم، تحيزت إلى الموقع الصواب الذي بينته لك نظرية التحيز، حذر موتة الجاهلية… لأن ربك عز وجل حذرك في كتابه فقال: { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ … الآية }[الإسراء71] . ونبيك صلى الله عليه وسلم وعلى آله زادك في التفهيم بصيغ شتى متواترة عند كل طوائف المسلمين سنة وشيعة. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: { من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية}: ( كتاب ينابيع المودة ج:3 ص:372. وكتاب طبقات الحنفية ص:457.). ورد الحديث بصيغة أخرى: { من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية } (مسند أحمد ج:4 ص:96).
ثم تيقنت يا أخ العرب أن من الفساد أن يكون في الأمة إمامان، قياسا على قوله تعالى : {{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا … الآية }} “من سورة الأنبياء ـ 22 “. والتفهيم لذلك القياس وضحه لك نبيك صلى الله عليه وسلم وعلى آله لما قال: { إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما.} “صحيح مسلم”. فلما سلم رأسك من نحر “داعش” وأخواتها، و”النصرة” وإفرازاتها، و”صقور بني أمية” ونصابها، وشقاق العراق ونفاقها، تيقنت أن فقهاء التلمود لا يشكون في حقائق القرآن أبدا كما كنت تشك. لكن ذكاءهم يستمد من ذكاء الدجال. يستعملونه في المكان الخطأ. وفي الوقت الخطأ. فيكون ذلك سببا لنزول قانون قدر {{ وإن عدتم عدنا }}. بمعنى ” إن عدتم إلى الإفساد والظلم عُدْنا إلى عقابكم ومذلَّتكم”. ولقد مكروا مكرهم ليكون للأمة رأسان متناطحان أو أكثر، يحقق لهم أهداف تدمير الأمة من الداخل، دون أن يسيل لهم دم، أو أن يلحق ديارهم هدم.
وكنا قد ساعدناك في التصالح مع إخوانك من أهل القبلة بفقه الإئتلاف المستفيد من رأي أولياء الله المكاشفين في مسألة الخلافة والإمارة والولاية. ولقد قربت آراؤنا بين أمتين عظيمتين من المسلمين لما قلنا للشيعة وللسنة إن مجدد القرن الظاهر بالسلطان والقرآن عند أهل السنة، يسمى كذلك مجدد القرن الممهد للمهدي المنتظر الذي سيظهر في آخر الزمان، وهو عين ما تعتقد الشيعة في خلافة “الفقيه المنتخب”، لا “الفقيه المنصب” وراثة فاقدة للشورى. كان ذلك أهم تجديد قام به الإمام الخميني رضي الله عنه. ظهور ذلك القطب الذي سماه إمامنا علي كرم الله وجهه: “حجة الله في أرضه”، يخضع لكلمات الله التي لا يتجاوزهن بر ولا فاجر، وهي قوانين القدر والطبيعة والشريعة. وهي مقاييس علمية تجنبنا الانتظارية الحالمة،التي قد تطول ملايين السنين… أو الخرافية المبتدعة، أو الطائفية المتعصبة، أو التوارث المفضي إلى التشاجر الطبيعي. وكنا قد بينا أن من علامات الظهور الباهرة استرجاع مفاتيح أرض المعراج. وكان ذلك هو المشروع الجامع والتحدي الكبير خاصة بعد إقامة الهيكل فوق المسجد الأقصى قبيل الحرب العالمية الثالثة.
ومن غريب تدبير الخبير سبحانه، أن ييسر كتابة هذه الصفحات ليلة ذكرى الإسراء والمعراج. نحتفل بها بالدعوة إلى تدبر سورة الإسراء التي جادت علينا بالدر المنثور في هذه الرسالة. و{{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}} سورة الإسراء ـ 1 “.
والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار… والحمد لله رب العالمين…
بتاريخ 27 رجب 1435 ـ 27 مايو 2014