قصة بيعة الفلتة
هل كان عمر بن الخطاب
من الروافض؟
قراءة في كتاب أعدها محمد المهدي الحسني
18 نونبر 2014
حقائق تاريخية تبين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان من الروافض في آخر عمره
فهل أهدر دمه أحد من الصحابة المقتدرين !
محتوى:
· مقدمة
· عرض صفحات من الكتاب
· ارتسامات وخاتمة
قصة بيعة الفلتة
هل كان عمر بن الخطاب
من الروافض؟
مقدمة
كانت بداية حرب صدام على إيران، شهر شتنبر 1980. ودامت تسع سنين، وخلفت ملايين القتلى والمعوقين وخسائر مادية ومعنوية لا تحصى. تمهيدا لتلك الحرب القذرة، طلب بعض أمراء وملوك العرب من فقهاء البلاط، أن يحبكوا لهم فتوى تكفر الروافض، وتبيح سفك دمائهم. وكان أول من بادر إلى تكفير الخميني هو مفتي العربية السعودية عبد العزيز بن باز، فتبعه علماء بعض الدول العربية. وعقدت رابطة علماء المغرب، التي كان يرأسها عبد الله كنون، اجتماعا بأمر من الملك الحسن الثاني للنظر في فقه الخميني، واتخاذ موقف شرعي منه. وفي رمضان 1400هجرية، غشت 1980 ـــ شهر قبل هجوم صدام على إيران ـــ أصدرت الرابطة تلك الفتوى التكفيرية المشؤومة التي لا يزال مفعولها المدمر ساريا إلى يومنا هذا...
وكان من الجماعات السنية ــ كالإخوان المسلمين في سوريا ــ من تبعهم في التكفير. بل كتبوا كتبا في ذلك ككتاب " وجاء دور المجوس". فكان ما كان من ويلات على العرب لا تزال قائمة إلى اليوم. وأفعال داعش وأخواتها وضراتها ليست بعيدة عن تلك الفتوى الباطلة. فهي المبرر لكل هذه الجرائم ضد الإنسانية التي أظهر فيها المكفرون همجية مقززة لا تضاهى...
فتبين أن من أهم ما ينبغي القيام به لمداواة كلوم العرب، نزل عليهم السيف فتبلدوا وحاروا كيف يمكن رفعه، من آكد الواجبات دحض تلك الفتوى، ثم تجريم من يستنسخها من أجل دفع شر فقه التكفير والفرقة والتناحر والتدابر...
هذه الرسالة ستكشف لنا حقائق تاريخية تبين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان من الروافض في آخر عمره فهل أهدر دمه أحد من الصحابة المقتدرين !
باختصار، يعرف الروافض بأنهم رفضوا بيعة أبي بكر بذريعة أن عليا كان أولى بها منه...
فهل كل من رفض بيعة أحد يجب أن يكفر ثم يقتل؟ قتل الشيعة برفضهم لبيعة أبي بكر وقتل أهل السنة برفضهم لبيعة علي؟
ألم يكن عمر بن الخطاب نفسه أول من رفض طريقة أخذ البيعة لأبي بكر؟ هل كفره أحد بذلك وحكم بقتله؟ كيف يعين أولو الأمر الذين ينبغي طاعتهم؟ ما هو غرض من يتمسك ببدعة إرغام الناس على البيعة؟ ما الفرق بين بيعة داعش وبيعة يزيد بن معاوية وبيعة أمراء وملوك هذا العصر؟ كيف انحرف المسلمون عن الأصول القرآنية في انتقال الحكم وتمسكوا بالبدع فيه؟ أليست الشورى هي الأصل الذي يؤثم كل منحرف عنه، والاستبداد في التعيين هي البدعة التي أمر عمر نفسه بقتل من يرتكبها؟
ذلك ما سوف نمر عليه باختصار علما أن عامة الناس لا يهتمون بتنازعات الأولين ويقولون عنها {{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}} " البقرة: 134".
لكن العرب لا يزالون يرزحون تحت قهر ثقافة الفقه الأموي والداعشي الذي يكفر الروافض ويهدر دمهم.
فلزم استبيان الرشد من الغي في هذه المسألة لكي يكف عنا أباطرة الفقه التكفيري نهيقهم المثير للنعرات المذهبية والعرقية، وهذا نموذج منه عندنا في المغرب:
http://www.youtube.com/watch?v=FquGiLwR1ao
***
*
نعرض حقائق حول مسألة الرفض التي يكفِّر بسببها دعاة على أبواب جهنم التدابر وسعير التناحر. حقائق مقتبسة من كتاب: مسائل خلافية حار فيها أهل السنة، للشيخ علي آل محسن. وهو بحث أكاديمي موثق بأحاديث، وسِيَر، وحوادث تاريخية، يرويها فقهاء أهل السنة أنفسهم. دراسة هادئة بعيدة عن التشنج، نأمل أن تساهم في مداواة كلوم العرب والمسلمين أجمعين. ونقتصر في استدلالنا برأي هذا العالم السعودي بما قال في بيعة الفلتة فقط. أما أقواله في المسائل الشيعية الأخرى كالإمامة الإثناعشرية وغيرها من المسائل الفرعية التي لا يكفر أحد بعدم اعتبارها، فلا تهمنا في هذا الدراسة. وكل كلام يؤخذ منه ويرد إلا كلام المعصوم عن الخطأ صلى الله عليه وآله وسلم.
وبداية، ينبغي أن يحذر المقبل على قراءة هذه السطور ذهنية النفور من الحق كنفور من ذمهم رب الخلق تبارك وتعالى في قوله: {{ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52 ) }} " سورة المدثر ". ومن طباع الحمر المستنفرة، النهيق ونفخ الأوداج كوسيلة للإقناع، والداعية المغربي المذكور آنفا نخشى أن يكون مثلا لدعاة الفتنة وثقافة التكفير والتفجير. إن لم يكف عنا تكفيره وغطرسته فلسوف يجر هذا البلد الأمين إلى ما لا تحمد عقباه.
قراءتنا في كتاب "مسائل خلافية حار فيها أهل السنة"، للشيخ علي آل محسن، ستقتصر على العناوين التالية: ما هو المصحح لخلافة أبي بكر؟ خلافة أبي بكر لم تكن بالاجماع. أسماء المتخلفين عن بيعة أبي بكر. بيعة أبي بكر كانت فلتة. رد أدلة أهل السنة على خلافة أبي بكر.
وسنختم بمناقشة ما يمكن الاستفادة منه من هذا الرافد المهم للفقه الإسلامي، من أجل بناء ثقافة التآزر والتعاون والتحالف بين الموحدين، ودعوة التكفيريين لأهل القبلة بمراجعة معتقدهم المخرب للأمة من الداخل، والمنفر من دين الرحمة واللطف والسعادة لعيال الله، والخلق كلهم عيال الله.
ونختم كذلك برأينا في المباهلة التي يلجأ إليها بعض العلماء من الجانبين لاستبيان الرشد من الغي في طريق الحق...
عرض صفحات من الكتاب
ما هو المُصَحِّح لخلافة أبي بكر ؟
إن بيعة أبي بكر لم تكن بالنص من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... كما أنها لم تكن بالشورى بين المسلمين، ولم تكن بإجماع المسلمين كما سيأتي بيانه، وإنما كانت فلتة كما عبَّر عنها عمر بن الخطاب في حديث السقيفة.
وحيث أن مذهب أهل السنة مبتنٍ في أساسه على خلافة أبي بكر، فلا بد أن نبحث هذه المسألة من جوانبها، لنعرف هل هي صحيحة أم غير صحيحة.
وهذا ما سيتّضح من خلال البحوث الآتية:
خلافة أبي بكر لم تكن بالنص من النبي صلى الله عليه وآله وسلم
روى أهل السنة أحاديث واضحة الدلالة على أن النبي لم يستخلف أبا بكر:
منها: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، والترمذي وأبو داود في سُننهم، وأحمد في المسند وغيرهم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قيل لعمر: ألا تستخلف ؟ فقال: إن أستخلف فقد استخلف مَن هو خير مني: أبو بكر، وإن أترك فقد ترك مَن هو خير مني: رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأثنوا عليه، فقال: راغب وراهب، وددتُ أني نجوت منها كفافاً، لا لي ولا عليَّ، لا أتحمّلها حيّاً وميّتاً.
فالنتيجة أن بيعة أبي بكر لم تكن بنص النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إذا اتضح أن خلافة أبي بكر لم تكن بالنص، فهل انعقد الإجماع عليها أم لا ؟
تحرير الكلام في هذه المسألة من جهتين:
الجهة الأولى:
أن الإجماع هل يصلح أن يكون دليلاً في مسألة الخلافة أم لا ؟
لا ريب في أن الإجماع لا يصلح أن يكون دليلاً في هذه المسألة، فلا بد لمن يتولى الخلافة من مستند شرعي يصحِّح خلافته، وأما اتفاق الناس عليه فليس بحُجّة، لأن كل واحد من الناس يجوز عليه الخطأ، واحتمال الخطأ لا ينتفي بضم غيره إليه، ولا سيما إذا كان اجتماعهم حاصلاً بأسباب مختلفة: كخوف بعضهم من حصول الفتنة، وكراهة بعض آخر من إبداء الخِلاف، وخوف آخرين من الامتناع عن البيعة، أو ما شاكل ذلك مما سيأتي بيانه، فحينئذ لا يكون هذا مشمولاً لما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، لأن الأمة هنا لم تجتمع على ضلالة، بل جُمِعَت وأُكرهتْ، وهذا لا مانع من حصوله، كما حصل في زمن الأمويين والعباسيين، إذ أكرَهوا الناس على بيعتهم، فحينئذ لا تكون تلك الخلافة شرعية.
الجهة الثانية:
أن أهل السنة حكموا بأن بيعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة وقعت صحيحة من أول يوم مع أنها لم تكن عامّة، ولم يتحقق إجماع عليها في أول يوم، وقالوا: إن البيعة العامة حصلت في اليوم التالي. ولو سلّمنا بحصول الإجماع بعد ذلك، فما هو المصحِّح لها قبل تحقق الإجماع ؟
ثم إن قوماً ـ سيأتي ذِكرهم ـ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يبايعوا أبا بكر، وامتنعوا عن البيعة، ولم يبايعوا إلا بعد ستة أشهر إن صحَّت عنهم الرواية.
قال ابن الأثير في اُسد الغابة: وكانت بيعتهم ـ يعني مَن تخلَّفوا عن بيعة أبي بكر ـ بعد ستة أشهر على القول الصحيح.
فإذا كانت بيعة أبي بكر صحيحة لأجل الإجماع فالإجماع لم يتحقق، وإن كانت صحيحة لأمر آخر، فلا بد من بيانه لننظر فيه هل هو صحيح أم لا.
والذي ذكره بعض علمائهم هو أنهم صحَّحوا خلافة أبي بكر ببيعة أهل الحل والعقد عندهم، لا بالإجماع. ولذلك صدحَت كلماتهم بذلك وبعدم اشتراط تحقق الإجماع في بيعة الخلفاء.
... قال الماوردي في الأحكام السلطانية: اختلف العلماء في عدد مَن تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتى، فقالت طائفة: لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد، ليكون الرضا به عامّاً، والتسليم لإمامته إجماعاً، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر رضي الله عنه على الخلافة باختيار مَن حضرها، ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.
أسماء المتخلفين عن بيعة أبي بكر
1 ـ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: ذكر تخلّفه عن بيعة أبي بكر: البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن عائشة في حديث قالت: وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر...
وذَكَر تخلّفه عليه السلام أيضاً ابن حجر في فتح الباري، ونقله عن المازري. وكذا ذكره ابن الأثير في اُسد الغابة، وفي الكامل في التاريخ، والحلبي في السيرة الحلبية، وابن قتيبة في الإمامة والسياسة، والطبري في الرياض النضرة، واليعقوبي في تاريخه، وأبو الفداء في المختصر في أخبار البشر.
2 ـ عامة بني هاشم: ذَكَر تخلّفهم ابن الأثير في اُسد الغابة، وفي الكامل في التاريخ.
وقال المسعودي في مروج الذهب: ولم يبايعه أحد من بني هاشم حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها. وكذا ذكره الحلبي في السيرة الحلبية.
وذَكَر اليعقوبي في تاريخه من بني هاشم: العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والفضل بن العباس. وذكر الطبري في الرياض النضرة العباس وبنيه.
3 ـ سعد بن عبادة الأنصاري زعيم الخزرج: ذَكَر تخلّفه ابن الأثير في أسد الغابة. وقال المسعودي: وخرج سعد بن عبادة ولم يبايع، فصار إلى الشام، فقُتل هناك في سنة خمس عشرة. وكذا ذكره ابن قتيبة في الإمامة والسياسة، والطبري في الرياض النضرة.
4 ـ الزبير بن العوام: ذَكَر تخلّفه ابن الأثير في أسد الغابة، وفي الكامل في التاريخ، والحلبي في السيرة الحلبية، والطبري في الرياض النضرة، واليعقوبي وأبو الفداء في تاريخيهما.
5 ـ خالد بن سعيد بن العاص الأموي: ذَكَر تخلّفه ابن الأثير في أسد الغابة، والمحب الطبري في الرياض النضرة، واليعقوبي وأبو الفداء في تاريخيهما.
6 ـ طلحة بن عبيد الله: ذَكَر تخلّفه ابن الأثير في الكامل في التاريخ، والحلبي في السيرة الحلبية، والطبري في الرياض النضرة.
7 ـ المقداد بن الأسود: ذَكَر تخلّفه: الحلبي في السيرة الحلبية، واليعقوبي في تاريخه، والطبري في الرياض النضرة، واليعقوبي وأبو الفداء في تاريخيهما.
8 ـ سلمان الفارسي: ذَكَر تخلّفه اليعقوبي في تاريخه، والطبري في الرياض النضرة، واليعقوبي وأبو الفداء في تاريخيهما.
9 ـ أبو ذر الغفاري: ذَكَر تخلّفه اليعقوبي في تاريخه، والطبري في الرياض النضرة، واليعقوبي وأبو الفداء في تاريخيهما.
10 ـ عمار بن ياسر: ذَكَر تخلّفه اليعقوبي في تاريخه، والطبري في الرياض النضرة، واليعقوبي وأبو الفداء في تاريخيهما.
11 ـ البراء بن عازب: ذَكَر تخلّفه اليعقوبي في تاريخه، واليعقوبي وأبو الفداء في تاريخيهما.
12 ـ أُبَي بن كعب: ذَكَر تخلّفه اليعقوبي في تاريخه، واليعقوبي وأبو الفداء في تاريخيهما.
13 ـ عتبة بن أبي لهب: ذَكَر تخلّفه أبو الفداء في تاريخه، وقال: إنه قال:
14 ـ أبو سفيان: ذكر تخلّفه اليعقوبي وأبو الفداء في تاريخيهما.
وفي ذِكر هؤلاء القوم كفاية في الدلالة على عدم تحقق إجماع الصحابة على بيعة أبي بكر.
أخرج البخاري في صحيحه، وأحمد في مسنده، والحميدي والموصلي في الجمع بين الصحيحين وابن أبي شيبة في المصنف وغيرهم عن ابن عباس في حديث طويل أسموه بحديث السقيفة، قال فيه عمر: إنما كانت بيعة أبي بكر فَلْتَة وتمَّت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرَّها... مَن بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايَع هو ولا الذي بايعَه تغرَّة أن يُقتَلا.
وفي رواية أخرى: ألا إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، وقى الله المؤمنين شرَّها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه.
وذكر هذا الحديث من علماء أهل السنة: السيوطي في تاريخ الخلفاء، وابن كثير في البداية والنهاية، وابن هشام في السيرة النبوية، وابن الأثير في الكامل، والطبري في الرياض النضرة، والدهلوي في مختصر التحفة الاثني عشرية، وغيرهم.
أدرج هذه الملاحظة لإظهار خلفيات الواقعة : في رواية : قال عمر رضي الله عنه: "بلغني أن قائلا منكم يقول والله لو مات عمر لبايعت فلانا فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا".
وقد بين ابن حجر شارح البخاري من القائل لو مات عمر... الحديث فقال: ثم وجدته في الأنساب للبلاذري بإسناد قوي من رواية هشام بن يوسف عن معمر عن الزهري بالإسناد المذكور في الأصل ولفظه: "قال عمر بلغني أن الزبير قال لو قد مات عمر بايعناعليا ... إلى آخر الحديث.
والمحققون يرجعون سبب ذم عمر لبيعة الفلتة، لا لكونها مفتقرة للشورى، ولكن مخافة أن تتكرر فتفضي إلى بيعة سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه... انتهت الملاحظة. ونعود إلى قراءتنا في بحث الشيخ علي آل محسن.
تأملات في الحديث:
قول عمر: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة.
قال ابن منظور في لسان العرب: يقال: كان ذلك الأمر فلتة، أي فجأة إذا لم يكن عن تدبّر ولا تروّ، والفلتة: الأمر يقع من غير إحكام.
وقال ابن الأثير في تفسير ذلك: أراد بالفلتة الفجأة... والفلتة كل شيء فُعل من غير روية.
وقال المحب الطبري: الفلتة: ما وقع عاجلاً من غير تروٍّ ولا تدبير في الأمر ولا احتيال فيه، وكذلك كانت بيعة أبي بكر رضي الله عنه، كأنهم استعجلوا خوف الفتنة، وإنما قال عمر ذلك لأن مثلها من الوقائع العظيمة التي ينبغي للعقلاء التروي في عقدها لعظم المتعلق بها، فلا تبرم فلتة من غير اجتماع أهل العقد والحل من كل قاصٍ ودانٍ، لتطيب الأنفس، ولا تَحمل من لم يُدْعَ إليها نفسُه على المخالفة والمنازعة وإرادة الفتنة، ولا سيما أشراف الناس وسادات العرب، فلما وقعت بيعة أبي بكر على خلاف ذلك قال عمر ما قال. ثم إن الله وقى شرَّها، فإن المعهود في وقوع مثلها في الوجود كثرة الفتن، ووقوع العداوة والإحن، فلذلك قال عمر: وقى الله شرَّها.
أقول للملاحظة: "وقى الله شرها لأن مَن يُفترَض أن يثور عليها هم آل البيت بزعامة علي كرم الله وجهه. لكنهم لم يفعلوا لعلو هممهم وحرصهم على وحدة المسلمين. وهو الشيء الذي انعدم عند غيرهم من الأمويين لما انتفضوا ضد ولاية علي. ينقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رجلاً خارجياً قال له : يا علي، كيف دان الناس لأبي بكر وعمر ولم يدينوا لك ؟ قال : لأن أبا بكر وعمر كان رجالهم أنا وأمثالي، وكان رجالي أنت وأمثالك . فأقام عليه الحجة". أه.
قال الشيخ علي آل المحسن:
إذا كانت بيعة أبي بكر فلتة، قد وقعت بلا تدبير ولا تروّ، ومن غير مشورة أهل الحل والعقد، فهذا يدل على أنها لم تكن بنص من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا نص صريح كما ادّعاه بعض علماء أهل السنة، ولا نص خفي وإشارة مُفهِمة كما ادّعاه بعض آخر، لأن بيعته لو كانت مأموراً بها تصريحاً أو تلميحاً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لَكانت بتدبير، ولَما كان للتروي ومشاورة الناس فيها مجال بعد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها.
ثم إن وصف هذه البيعة بالفلتة مشعر بأن أبا بكر لم يكن أفضل صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنَّ كل ما رووه بعد ذلك في أفضليته على سائر الصحابة إنما اختُلق لتصحيح خلافته وخلافة مَن جاء بعده، ولصرف النظر عن أحقيَّة غيره، وإلا لو كانت أفضليّته معلومة عند الناس بالأحاديث الكثيرة التي رووها في ذلك، لَما كان صحيحاً أن تُوصف بيعة أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها وقعت بلا تروّ وتدبير، لأن التروي والتدبير إنما يُطلَبان للوصول إلى بيعة الأفضل لا لأمر آخر، فإذا تحققت هذه البيعة فلا موضوعية للتروي أصلاً.
وقول عمر: «إلا أن الله وقى شرّها» يدل على أن تلك البيعة فيها شرّ، وأنه من غير البعيد أن تقع بسببها فتنة، إلا أن الله سبحانه وقى المسلمين شرَّها.
والشرّ الذي وقى الله هذه الأمة منه هو الاختلاف والنزاع، وإن كان قد وقع النزاع والشجار في سقيفة بني ساعدة، وخالف أمير المؤمنين عليه السلام وأصحاب فامتنعوا عن البيعة كما مرَّ البيان، لكن هذا الخلاف لم يُشهر فيه سيف، ولم يُسفك فيه دم.
إلا أن فتنة الخلاف في الخلافة باقية إلى اليوم، وما افتراق المسلمين إلى شيعة وسُنّة إلا بسبب ذلك.
ومَن يتتبَّع حوادث الصدر الأول يجد أن الظروف التاريخية ساعدت أبا بكر وعمر على تولّي الأمر واستتبابه لهما، مع عدم أولويتهما بالأمر واستحقاقهما له، وذلك يتَّضح بأمور:
1 ـ إن انشغال أمير المؤمنين عليه السلام وبني هاشم بتجهيز النبي صلى الله عليه وآله وسلم حال دون ذهابه إلى السقيفة، واحتجاجه على القوم بما هو حقّه. كما أن غفلة عامة المهاجرين وباقي الأنصار عما تمالأ عليه القوم في السقيفة، وحضور أبي بكر وعمر وأبي عبيدة دون غيرهم من المهاجرين، جَعَل الحجّة لهم على الأنصار، إذ احتجوا عليهم بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الأئمة من قريش.
ولأنه لم يكن من قريش في السقيفة غيرهم، فالخلافة لا بد حينئذ من أن تنحصر فيهم، لأن القوم كانوا عقدوا العزم على اختيار خليفة من بين مَن حضروا في السقيفة، لا يثنيهم عن ذلك شيء...
2 ـ إن ما أُصيب به الإسلام والمسلمون من المصيبة العظمى والداهية الكبرى بفقد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وما تبعه من حوادث، جعل كثيراً من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتجنَّبون الخِلاف والنزاع. فبعد أن علموا أن البيعة تمَّت لأبي بكر في السقيفة، رأوا أنهم إما أن يرضوا بما وقع، وفيه ما فيه، أو يُظهروا الخلاف فيكون الأمر أسوأ والحالة أشد، والمسلمون أحوج ما يكونون إلى نبذ الفرقة ولم الشمل، فبايعوا أبا بكر، وكانت بيعتهم من باب دفع الأفسد في نظرهم بالفاسد.
وكان كثير من الصحابة يتجنّبون الخلاف حتى مع علمهم بالخطأ، ويرون فعل الخطأ مع الوفاق، أولى من فعل الحق مع الخلاف.
فإذا كانوا قد كشفوا بيت فاطمة لأخذ البيعة من أمير المؤمنين عليه السلام ، ولم يراعوا لبيت فاطمة الزهراء عليه السلام حرمة، فعدم مراعاة غيرها من طريق أولى، وإن قهْرهم لعلي عليه السلام لأخذ البيعة منه، مع ما هو معلوم من شجاعته وقربه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يجعل غيره لا يمتنع عن البيعة.
ومن شدة عمر في هذا الأمر أنه كان من الذين نَزَوا على سعد بن عبادة يوم السقيفة وكادوا يقتلونه، وقد ذكر ذلك عمر في حديث السقيفة...
.... ذكر المسعودي في مروج الذهب أن أبا بكر لما احتضر قال: ما آسى على شيء إلا على ثلاث فعلتها، وددت أني تركتها، وثلاث تركتها وددت أني فعلتها، وثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فأما الثلاث التي فعلتها، ووددت أني تركتها، فوددت أني لم أكن فتشت بيت فاطمة.
وفي الإمامة والسياسة، ص 18: فأما اللاتي فعلتهن وليتني لم أفعلهن: فليتني تركت بيت علي وإن كان أعلن عليّ الحرب... وذكر هجوم القوم على بيت فاطمة أيضاً: اليعقوبي في تاريخه 2|11. وأبو الفداء في تاريخه 1|219. وأبن قتيبة في الإمامة والسياسة، ص 13 كما سيأتي.
... قال أبن قتيبة في الإمامة والسياسة، ص 13: ثم قام عمر، فمشى معه جماعة، حتى أتوا باب فاطمة، فدقوا الباب، فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها: يا أبت يا رسول الله، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وأبن أبي قحافة ؟ فلما سمع القوم صوتها وبكائها انصرفوا باكين... وبقي عمر ومعه قوم، فأخرجوا علياً، فمضوا به إلى أبي بكر فقالوا له: بايع...
وقال أبو الفداء في تاريخه 1|219: ثم إن أبا بكر بعث عمر بن الخطاب إلى علي ومن معه ليخرجهم من بيت فاطمة رضي الله عنها، وقال: إن أبوا عليك فقاتلهم. فأقبل عمر بشيء من نار على أن يضرم الدار، فلقيته فاطمة رضي الله عنها وقالت: إلى أين يا ابن الخطاب؟ أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخل فيه الأمة... ونظم هذا المعنى حافظ إبراهيم، فقال:
وقولــــة لعلـي قالها عمر أكرم بسامعها أعظم بملقيهـــا
حرقت دارك لا أبقي عليك بها إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير أبي حفص بقائلها أمام فارس عدنان وحاميهـــا
...
وزبدة القول: أن أكثر الصحابة ـــ المهاجرين منهم والأنصارــ أعرضوا عن النصوص المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسألة الخلافة، وصدرت منهم اجتهادات خالفوا بها النصوص الثابتة، ثم التمسوا لهم الأعذار فيها، والتمس مَن جاء بعدهم لهم ما يصحِّح اجتهاداتهم تلك.
ويدلّ على ذلك أن الأنصار اجتمعوا في السقيفة وهم كثرة، ليختاروا منهم خليفة للمسلمين، مع أنهم يعلمون ـ كما في حديث السقيفة ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الأئمة من قريش»، فتجاوزوا هذا النص الصريح الواضح في هذه المسألة حرصاً منهم على الإمارة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فَنِعْمَ المرضعة، وبئس الفاطمة...
وبالجملة فإن قلنا: إنه يشترط في الخليفة أن يكون قرشياً فلا يجوز للأنصار أن يبايعوا رجلاً منهم، وإن قلنا: إن اختيار الخليفة لا بد أن يكون بالشورى، فحينئذ لا يحق لِمَن حضر في السقيفة أن يختاروا خليفة منهم دون مشورة باقي المسلمين، ولا سيما أنه لم يحضر من المهاجرين إلا ثلاثة نفر: أبو بكر وعمر وأبو عبيدة.
ثم إن احتجاج أبي بكر وعمر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم وهم عشيرته، ولا يصلح لخلافته رجل من غيرهم، يستلزم أن يكون الخليفة من بني هاشم، ومن آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخصوص.
ولذلك احتج أمير المؤمنين عليهم بما احتجوا به على غيرهم، فقال فيما نُسب إليه:
فكيـف بهـذا والمشـيرون غُيَّــبُ
فإن كنتَ بالشورى ملكتَ أمورَهم
فغـيـرُك أولى بالنبـي وأقــرب
وإن كنتَ بالقربى حجَجْتَ خصيمَهم
وأما إذا قلنا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نصَّ على الخليفة من بعده كما هو الصحيح، فالمخالفة حينئذ تكون أوضح.
ومن ذلك كله يتضح أن أهل السقيفة ـــــ المهاجرين منهم والأنصارـــ خالفوا النصوص الصحيحة الواردة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسألة الخلافة.
وهذا يستلزم ألا يكون شيء مما قرَّروه في السقيفة مُلزِماً لغيرهم، أو حجَّة عليهم، بل لا يمكن أن يُصَحَّح بحال.
وأما اجتهاد باقي الصحابة ورغبتهم في ترك الخلاف ببيعة أبي بكر من أجل رأب الصدع وعدم إحداث الفرقة، فهذا اجتهاد منهم لا يُلزِم غيرهم أيضاً، ولا يصحِّح بيعة أبي بكر مع ثبوت النصوص الصحيحة الدالة على خلافة علي عليه السلام التي سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
رد أدلة أهل السنة على خلافة أبي بكر
....
ومنها ( أي من الأدلة ) : ما رووه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء.
استدل به على خلافة أبي بكر: الإيجي في المواقف، وابن حجر في صواعقه، وشارح العقيدة الطحاوية وغيرهم . بتقريب أن خلافة أبي بكر خلافة نبوة فهي صحيحة وشرعية ، وإلا لما صح وصفها بذلك .
وقد تحدثنا فيما تقدم حول هذا الحديث مفصلا، وأوضحنا بما لا مزيد عليه أن المراد بخلافة النبوة هي خلافة من استخلفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنصوص الثابتة، وهي خلافة أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد استمرت ثلاثين سنة ، من وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاته عليه السلام ، فراجعه . وعليه، فهذا الحديث لا يصلح أن يتمسكوا به لتصحيح خلافة من تقدم على أمير المؤمنين عليه السلام كلا أو بعضا.
ومنها : ما رووه من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، وهذا دليل على أنه كان أفضل صحابته صلى الله عليه وآله وسلم، فيتعين أن يكون هو الخليفة من بعده .
واستدل به على خلافة أبي بكر: الإيجي في المواقف، وابن حجر في صواعقه، وشارح العقيدة الطحاوية، والصابوني في عقيدة السلف، وأبو نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة وغيرهم .
وصلاة أبي بكر بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو سلمنا بوقوعها فهي لا تدل على الأفضلية ، فضلا عن دلالتها على الأولوية بالخلافة ، وذلك لأنهم رووا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة ، فإن كانت قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة ، فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سنا. وفي بعضها : فإن كانوا في الهجرة سواء فأعلمهم بالسنة . . . وعند مسلم : أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : { فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ، ثم ليؤمكم أكبركم}.
فلعل أبا بكر أم الناس لأنه أقدمهم هجرة ، أو لما تساووا في تلك الأمور وكان أبو بكر أكبرهم سنا أمره النبي بالصلاة بالناس. ثم إنهم لم يجعلوا مسألة الإمامة في الصلاة مرتبطة بالخلافة الكبرى في غير هذا المورد، ولهذا لما ضُرب عمر أمر صهيبا الرومي أن يصلي بالناس، ولما ضُرب أمير المؤمنين عليه السلام أمر جعدة بن هبيرة أن يصلي بالناس، ولم ير الناس ذلك نصا منهما على خلافة أو إمرة ، فكيف صارت صلاة أبي بكر نصا فيها ؟ ؟
ومنها : ما ذكره بعضهم من أن من لم ير صحة خلافة أبي بكر فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، إذ نسبهم إلى أنهم تمالأوا على الباطل، وهم أنصار دين الله وحملة شريعته، ونسبة ذلك إليهم لا تجوز.
قال النووي وحكاه عنه ابن حجر في الصواعق : من قال : إن عليا كان أحق بالولاية فقد خطأ أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار، وما أراه يرتفع له مع هذا عمل إلى السماء. والجواب عن ذلك : أن تخطئة أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار لا غضاضة فيها مع موافقة الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنه لا دليل على وجوب التعبد بأقوال أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار في شئ من أمور الدين والدنيا أصلا. وعليه ، فهل يجوز لمؤمن أن يترك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحيح الثابت عنه إلى قول أبي بكر وعمر؟ ولهذا بادر أبو بكر إلى تخطئة كل الأنصار المجتمعين في السقيفة، الذين عقدوا العزم على بيعة رجل منهم، بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الأئمة من قريش. وبذلك أيضا يجوز تخطئة غيرهم.
ثم إن أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار إذا لم يكن لديهم نص في مسألة الخلافة كما تقدم النقل عنهم من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستخلف، فاستخلافهم لأبي بكر إنما كان عن اجتهاد منهم، فلا يجب على غيرهم أن يقلدهم في اجتهاداتهم في الوقائع غير المنصوصة، فضلا عما إذا ثبت النص .
وأما مسألة الإزراء بالمهاجرين والأنصار فهذا من الخطابيات التي لا قيمة لها، وذلك لأن تخطئتهم في بيعة أبي بكر لا يستلزم الإزراء بهم بالضرورة، إذ لا يجب على المسلمين أن يصححوا اجتهادات الصدر الأول في الوقائع، وإلا لكان علينا أن نقول بعصمتهم، وهو باطل بالاتفاق.
ثم إنا لا نزري بالمهاجرين والأنصار كلهم بهذه البيعة، بل نقول: إن من بايع أبا بكر من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان مكرها، أو أراد أن يبايع أمير المؤمنين عليه السلام فلم يتمكن فهو معذور، وأما من كان يريد أن يحوزها لنفسه بغير حق، أو أراد أن يزحزحها عن أمير المؤمنين عليه السلام حسدا، أو ضغنا، أو خشية من أن يستأثر بها بنو هاشم، أو كيدا للدين، فهو آثم لا شك في ذلك ولا ريب، ولا حرمة له عندنا ولا كرامة. ثم إن قولهم هذا معارض بمثله، فنقول : إن من حكم بخطأ أمير المؤمنين عليه السلام وصحبه في ترك بيعة أبي بكر، فقد أزرى بأمير المؤمنين عليه السلام وبطائفة من الصحابة الأجلاء كأبي ذر وعمار وسلمان والمقداد والعباس وغيرهم، وهذا لا يجوز. فكيف جاز الإزراء بهؤلاء ولم يجز الإزراء بأولئك ؟
النتيجة المتحصلة :
والنتيجة المتحصلة من كل ما تقدم أن تلك الأحاديث التي استدل بها بعضهم على خلافة أبي بكر وإن كانت مروية من طرق أهل السنة، ولا يصح الاحتجاج بها على غيرهم ، فهي مع ذلك لا دلالة فيها على ما أرادوه كما أوضحناه مفصلا.
ولذلك ذهب مشهور أهل السنة إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينص على أبي بكر، ولو كانت خلافته منصوصا عليها لاحتج أبو بكر أو عمر على أهل السقيفة بالنص عليه، واستغنى به عن الاحتجاج بحديث: الأئمة من قريش، ولما قال عمر: إنها فلتة. ولما قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستخلف. مع أنه كان أحوج ما يكون لإثبات النص على خلافة أبي بكر لتصحيح خلافته هو.
***
*
ارتسامات وخاتمة
بعد هذه القراءة المنتقاة من كتاب: الشيخ السعودي علي آل المحسن، أقول: ما أحوج مدارس أهل السنة لتعميق فهمها لفقه المدارس الشيعية والعكس صحيح، بعيدا عن إكراه حكام العض والجبر ومنحهم ومحنهم لاستصدار الفتاوى التكفيرية المدمرة للأمة من الداخل.
وما أحوج المدرستين لاستكشاف فقه المحققين المستبصرين المتسامين عن الاختلاف والتنازع والفشل... كنت قد أدرجت ما قالوه في هذا الموضوع في كتاب نظرية التحيز. سعيا للانعتاق من إرث تراشقات وتقاذفات القرون الماضية، ورفع التحديات الآنية والآتية، من أجل بناء مجتمع الخلافة الراشدة... أظهره الله مدة ثلاثين سنة ثم طواه وجعله مثالا يحتذى، تتطلع إليه جميع الأمم. وستعود الخلافة الراشدة في آخر الزمان. دليلنا أحاديث يعتبرها الناس من دلائل نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنها تنبأت بحقائق مستقبلية فمنها ما تحقق، ومنها ما يُنتظر تحققه.
منها الحديث الصحيح الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: { الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً عضوضاً }. وإعجاز الحديث مضاعف لأنه من دلائل النبوة عند فئتين عظيمتين من المسلمين ( "فئتين عظيمتين" تعبير النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله في حديث الصلح بين السنة والشيعة ):
· المنتسبون إلى السنة يحصون السنين والأشهر كما أورده بن أبي العز في شرح الطحاوية: "كانت خلافة أبي بكر سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر عشر سنين ونصفاً، وخلافة عثمان اثنتي عشر سنة، وخلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر، وخلافة الحسن ستة أشهر"... وهذا عام الجماعة الذي تنازل الحسن بن على رضى الله عنه لمعاوية. فصدقت أيضا نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله في هذا الحدث لما قال : { إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين} فسمي ذلك العام بعام الجماعة.
· المنتسبون إلى الشيعة قالوا عن الحديث: هذا من دلائل صدق نبوة النبي صلى الله عليه وآله فإن أبابكر تولى عام11هـ. وتنازل عنها الحسن بن علي عام41 هـ. وهي ثلاثون عاماً كاملة. وسكتوا عن ذكر الخلفاء الأربعة، وعندهم من النصوص ما يعضد مذهبهم كحديث الغدير وغيره.
· والمحققون من الفريقين الذين اتسع علمهم فقل اعتراضهم على ما جرت به المقادير، قبل نزولها وعند نزولها وبعد نزولها، رأوا كشفا في الموضوع: يطلعهم على مراد الله في الإمامة والولاية والخلافة فيرونها في إمامين: إمام الباطن وإمام الظاهر. ويلحون على ضرورة التآزر بينهما، للحفاظ على بيضة الإسلام. التي هي أهم من الأشخاص. فالخلافة كالأمانة تكون عرضا من الله لا إكراه فيه. فمن الخلفاء من قبلها فأعانه الله عليها، ومنهم من أشفق منها، فكان خليفة للباطن، يمد خلافة الظاهر الذي صار مُلٌكا يمتحن الله به طلاب الرياسة... وهي حسرة وندامة يوم القيامة، لأن العدل فيها انتقضت عراه من الأصل: لانتقاض الشورى، وشيوع أخذ الحكم غلبة. وقد صدق أهل السنة في اجتهادهم، وقد صدق شيعة علي في اجتهادهم، لأن سيدنا علي كرم الله وجهه، قبل أن تجتمع عليه الشورى لخلافة الظاهر، كان خليفة الباطن الذي والاه الله ورسوله، كما ورد في حديث الغدير المتواتر عند الفريقين: فعن زيد بن أرقم " أقبل نبي الله من مكة في حجة الوداع حتى نزل ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بغدير الجحفة بين مكة والمدينة، فأمر بالدوحات فقم ما تحتهن من شوك ثم نادى : الصلاة جامعة ، فخرجنا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )، ... إلى قوله : ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فرفعها ثم قال : { من كنت مولاه فهذا مولاه، ومن كنت وليه فهذا وليه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه}، قالها ثلاثا ".
وكخليفة للباطن، كان سيدنا علي كرم الله وجهه، يمد خلفاء الظاهر بعون لا يستقيم أمر الأمة بدونه. دليل ذلك:
o إمداده لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: شاوره في حرب الردة : " ما تقول يا أبا الحسن فأجابه علي: " إنك إن تركت شيئًا مما كان أخذه منهم رسول الله، فأنت على خلاف سنة الرسول، فقال: أما لئن قلت ذاك، لأقاتلنهم وإن منعوني عقالاً". وعن ابن عمر، رضي الله عنه: لما أراد الصديق مباشرة الحرب ضد أهل الردة بنفسه، قال له علي: «أقول لك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: لم سيفك ولا تفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدًا»، فرجع الصديق وأوفد الجيوش تحت قيادة أخرى .
o إمداده لعمر رضي الله عنه: عن أبى سعيد الخدرى أنه سمع عمر يقول لعلي وقد سأله عن شئ فأجابه: أعوذ بالله أن أعيش في يوم لست فيه يا أبا الحسن. فكان الخليفة عمر لا يمضي صغيرة أو كبيرة حتى يستشيره ويعمل برأيه... مثال ذلك : أراد عمر رضي الله عنه في بداية الأمر تقسيم الأرض بعد الفاتحين، لكن عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه رأى عدم التقسيم. فعمل برأيه بعد ترجيحه بأحكام سورة الحشر.
o إمداد علي كرم الله وجهه لعثمان بن عفان رضي الله عنه: لجأ إليه عثمان ليكفيه هم ثوار مصر فصالحهم علي على عهود : "يؤمن الخائف، ويردّ المنفيّ، ولا تجمّر في البعوث، ويوفّر الفيء، وعليّ بن أبي طالب ضمين للمؤمنين والمسلمين على عثمان بالوفاء بما في هذا الكتاب".
وهذا غيظ من فيض اقتصرنا فيه على ذكر إمداده لخلفاء الظاهر في مسائل تدبير ثروات المسلمين، وأمنهم، ووحدتهم... وهو المهم في بيضة المسلمين التي حولها ندندن.
أما مسألة عودة الخلافة على منهاج النبوة في آخر الزمان، فالفريقان متفقان عليها. ولهم اجتهادات في تفاصيلها، ينفخ الشيطان في المختلف فيه منها، لكي يغدو اختلاف نقمة لا اختلاف رحمة. وبالتأكيد سينكص إبليس على عقبيه كما فعل يوم بدر، عندما كانت بيضة الإسلام في خطر، وهو حال المسلمين لما ضاع القدس في الحروب الصليبية الأولى. فقيد الله للأمة قطبا باطنا نظن أنه ابن عربي والله أعلم. وكان ممدا لخلفاء الظاهر في المغرب لما انتصر الموحدون على أوروبا في وقعة الأرك. وكان ممدا لخلفاء المشرق الذين حرروا القدس بعد موقعة حطين، ثم من بعدهم برز إمداده للعيان في الرسالة التي بعثها للفاتح لبلاد اليونان... وكان من مريديه... كما كان الآخران، والله أعلم، و{{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }} " البقرة : 134"... ما ينبغي أن يشغلنا اليوم هو انتهاك حرمات القدس من جديد، بعد الحربين العالميتين الماسونيتين المدبرتين بهدف:
· القضاء على بيضة المسلمين، التي كانت تمثلها الخلافة العثمانية؛
· وتوزيع إرثها وتمزيق شمل الأمة، بمساعدة بعض الأعراب الذين باعوا فلسطين.
فتعين على المسلمين أن يعملوا بأمر ربهم ليرتفع عنهم مقته وغضبه: {{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}}. فتلك هي الأعماق الاستراتيجية التي لزم أن تحرك علماء الإسلام لكي ينتجوا العلم النافع الممد لحماة بيضة المسلمين الظاهرين بالسلطان والقرآن في هذا الزمان.
وهو المشروع الذي نسدد به ونقارب لبلوغ الغاية الإحسانية الفردية، ولبلوغ الغاية الاستخلافية الموحدة لأمة الإسلام... أما الانتظارية القاعدة الحالمة بالخلافة الثانية على منهاج النبوة، فنسألها ونقول : من أين أتيتم بهذه التسمية "الخلافة الثانية"، هل ذكرت في حديث أو أثر؟ لم لا تسعون إليها الآن؟ لم لا تكون الخلافة رقم مليون؟... والتي بينها وبين الأولى إنما هي محاولات وتسديدات بشرية يظهرها الله على يد الممهدين لها، غايتهم مقارعة باطل دولة الدجال التي تصول وتجول في ديارنا؟
أما الخلافة الكاملة فتوقيتها من غيب الله المطلق كما ذكرنا من قبل... والسؤال عنه مذموم، من جنس طلب الخوارق المنهى عنه شرعا. أجاب عنه نبي الهداية في الحديث الصحيح : {عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ : وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟ قَالَ : لا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاةٍ وَلا صِيَامٍ ، إِلا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، قَالَ : فَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ " ... }.
هكذا عالج النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأساطير والخرافات التي نسجت وتنسج حول الساعة وعلامتها الكبرى: البشرى التي بشر بها جميع الرسل: بشرى ظهور المهدي ونزول عيسى وتحالفهما ضد المسيح الدجال في آخر الزمان. وبذلك الجواب البليغ، ارتقى الوعي بتلك العقيدة /البشرى من خرافة الانتظارية والقعود وطلب الخوارق وتعطيل العقل، إلى واجب الاستعداد والعمل الصالح والتكتل القلبي والعملي مع أتباع دين الرسل الذي هو الإسلام، من أجل مقاربة النموذج المجتمعي المبشر به...
انتهى اقتباسنا من كتاب نظرية التحيز.
وقبل الختم، أريد أن أثير انتباه علماء المذاهب الفرعية من أهل القبلة، في أمر يسبق التكفير وسفك الدماء : أمر المباهلة التي يلجأ إليها بعض العلماء من الجانبين لاستبيان الرشد من الغي في طريق الحق... أظن والله أعلم أن المباهلة بين فرق أهل القبلة لا تصح مبدئيا، لأن المقبلين عليها، يضمران سوء الظن أو تكفير أحدهما للآخر... ليتهم تدبروا تحذير نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما). " حديث متفق عليه". والمباهلة التي حدثت بين الشيخ علي آل محسن والشيخ محمد البراك كانت ستؤول إلى خير، فتلغى، لو لم يتدخل شباب التنطع والتكفير ونفخ الأوداج ...
وبه نختم هذا التأليف، نسأل الله أن يؤلف به قلوب وعقول الصادقين في طلب الغاية الاستخلافية لأمة التوحيد، من أجل بلوغ الغاية الإحسانية الفردية، وهي النظر إلى وجه الله في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. اللهم صل على سيدنا محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته كما صليت على آل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد... وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
قراءة في كتاب أعدها محمد المهدي الحسني
يوم الثلاثاء 25/محرم/1436 هـ - الموافق 18/نونبر/2014 م